Translate

الجمعة، 20 مايو 2022

ج8. الروض الأنف للسهيلي إقْرَارُ الرّسُولِ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ عَلَى السّدَانَةِ

 

ج8. الروض الأنف   

 إقْرَارُ الرّسُولِ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ عَلَى السّدَانَةِ

 ---------
ثُمّ جَلَسَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَامَ إلَيْهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمِفْتَاحُ الْكَعْبَةِ فِي يَدِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ اجْمَعْ لَنَا الْحِجَابَةَ مَعَ السّقَايَةِ صَلّى اللّهُ عَلَيْك ؛ فَقَالَ رَسُولُ [ ص 172 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أَيْنَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ ؟ " فَدُعِيَ لَهُ فَقَالَ هَاكَ مِفْتَاحَك يَا عُثْمَانُ ، الْيَوْمُ يَوْمُ بِرّ وَوَفَاءٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَذَكَرَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِعَلِيّ إنّمَا أُعْطِيكُمْ مَا تُرْزَءُونَ لَا مَا تَرْزَءُونَ .
طَمْسُ الصّوَرِ الّتِي بِالْبَيْتِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَخَلَ الْبَيْتَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَرَأَى فِيهِ صُوَرَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرَهُمْ فَرَأَى إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ مُصَوّرًا فِي يَدِهِ الْأَزْلَامُ يَسْتَقْسِمُ بِهَا ، فَقَالَ قَاتَلَهُمْ اللّهُ جَعَلُوا شَيْخَنَا يَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ مَا شَأْنُ إبْرَاهِيمَ وَالْأَزْلَامِ { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّا وَلَا نَصْرَانِيّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ آلِ عِمْرَانَ : 67 ] ثُمّ أَمَرَ بِتِلْكَ الصّوَرِ كُلّهَا فَطُمِسَتْ .
دُخُولُ الْكَعْبَةِ وَالصّلَاةُ فِيهَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ وَمَعَهُ بِلَالٌ ثُمّ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَخَلّفَ بِلَالٌ فَدَخَلَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ عَلَى بِلَالٍ فَسَأَلَهُ أَيْنَ صَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ؟ وَلَمْ يَسْأَلْهُ كَمْ صَلّى ، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا دَخَلَ الْبَيْتَ مَشَى قِبَلَ وَجْهِهِ وَجَعَلَ الْبَابَ قِبَلَ ظَهْرِهِ حَتّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ قَدْرُ ثَلَاثِ أَذْرُعٍ ، ثُمّ يُصَلّي يَتَوَخّى بِذَلِكَ الْمَوْضِعَ الّذِي قَالَ لَهُ بِلَالٌ .
Sالصّلَاةُ فِي الْكَعْبَةِ
[ ص 172 ] الْكَعْبَةَ وَصَلَاتُهُ فِيهَا ، فَحَدِيثُ بِلَالٍ أَنّهُ صَلّى فِيهَا ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ لَمْ يُصَلّ فِيهَا ، وَأَخَذَ النّاسُ بِحَدِيثِ بِلَالٍ لِأَنّهُ أَثْبَتَ الصّلَاةَ وَابْنُ عَبّاسٍ نَفَى ، وَإِنّمَا يُؤْخَذُ بِشَهَادَةِ الْمُثْبِتِ لَا بِشَهَادَةِ النّافِي ، وَمَنْ تَأَوّلَ قَوْلَ بِلَالٍ أَنّهُ صَلّى ، أَيْ دَعَا ، فَلَيْسَ بِشَيْءِ لِأَنّ فِي حَدِيثِ عُمَرَ أَنّهُ صَلّى فِيهَا رَكْعَتَيْنِ وَلَكِنّ رِوَايَةَ ابْنِ عَبّاسٍ وَرِوَايَةَ بِلَالٍ صَحِيحَتَانِ لِأَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ دَخَلَهَا يَوْمَ النّحْرِ فَلَمْ يُصَلّ وَدَخَلَهَا مِنْ الْغَدِ فَصَلّى ، وَذَلِكَ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ ، وَهُوَ حَدِيثٌ مَرْوِيّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ بِإِسْنَادِ حَسَنٍ خَرّجَهُ الدّارَقُطْنِيّ ، وَهُوَ مِنْ فَوَائِدِهِ .

إسْلَامُ عَتّابٍ وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ
[ ص 173 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ عَامَ الْفَتْحِ وَمَعَهُ بِلَالٌ فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذّنَ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْب ٍ وَعَتّابُ بْنُ أَسِيدٍ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ جُلُوسٌ بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ ، فَقَالَ عَتّابُ بْنُ أَسِيدٍ : لَقَدْ أَكْرَمَ اللّهُ أَسِيدًا أَلَا يَكُونُ سَمِعَ هَذَا ، فَيَسْمَعُ مِنْهُ مَا يَغِيظُهُ . فَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ : أَمَا وَاَللّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنّهُ مُحِقّ لَاتّبَعْته ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ لَا أَقُولُ شَيْئًا : لَوْ تَكَلّمْت لَأَخْبَرَتْ عَنّي هَذِهِ الْحَصَى ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ قَدْ عَلِمْت الّذِي قُلْتُمْ ثُمّ ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمْ فَقَالَ الْحَارِثُ وَعَتّابٌ نَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللّهِ وَاَللّهِ مَا اطّلَعَ عَلَى هَذَا أَحَدٌ كَانَ مَعَنَا ، فَنَقُولُ أَخْبَرَك .
Sعَنْ إسْلَامِ أَبِي سُفْيَانَ وَصَاحِبَيْهِ
فَصْلٌ
[ ص 173 ] وَذَكَرَ كَسْرَ الْأَصْنَامِ وَطَمْسَ التّمَاثِيلِ وَمَقَالَةَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ حِينَ اجْتَمَعَ هُوَ وَأَبُو سُفْيَانَ وَعَتّابُ بْنُ أَسِيدٍ ، فَتَكَلّمُوا فَأَخْبَرَهُمْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَمَا أَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ بِاَلّذِي قَالُوهُ فَصَحّ بِذَلِكَ يَقِينُهُمْ وَحَسُنَ إسْلَامُهُمْ وَفِي التّرْمِذِيّ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ لَعَنَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْحَارِثَ وَأَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَصَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } الْآيَةَ [ آلِ عِمْرَانَ : 128 ] قَالَ فَتَابُوا بَعْدُ وَحَسُنَ إسْلَامُهُمْ وَرُوِينَا بِإِسْنَادِ مُتّصِلٍ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ، قَالَ خَرَجَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَلَى أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمّا نَظَرَ إلَيْهِ أَبُو سُفْيَانَ قَالَ فِي نَفْسِهِ لَيْتَ شِعْرِي بِأَيّ شَيْءٍ غَلَبْتنِي ، فَأَقْبَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى ضَرَبَ بِيَدِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَقَالَ بِاَللّهِ غَلَبْتُك يَا أَبَا سُفْيَانَ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ أَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللّهِ مِنْ مُسْنَدِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ ، وَرَوَى الزّبَيْرُ [ ص 174 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُمَازِحُ أَبَا سُفْيَانَ فِي بَيْتِ أُمّ حَبِيبَةَ وَأَبُو سُفْيَانَ يَقُولُ لَهُ تَرَكْتُك ، فَتَرَكَتْك الْعَرَبُ ، وَلَمْ تَنْتَطِحْ بَعْدَهَا جَمّاءُ وَلَا قَرْنَاءُ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَضْحَكُ وَيَقُولُ أَنْتَ تَقُولُ هَذَا يَا أَبَا حَنْظَلَة وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ جَلّ وَعَزّ { عَسَى اللّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدّةً } [ الْمُمْتَحِنَةِ 7 ] قَالَ هِيَ مُعَاهَدَةُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأَبِي سُفْيَانَ . وَقَالَ أَهْلُ التّفْسِيرِ رَأَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمَنَامِ أَسِيدَ بْنَ أَبِي الْعِيصِ وَالِيًا عَلَى مَكّةَ مُسْلِمًا ، فَمَاتَ عَلَى الْكُفْرِ فَكَانَتْ الرّؤْيَا لِوَلَدِهِ عَتّابٍ حِينَ أَسْلَمَ ، فَوَلّاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ ، وَهُوَ ابْنُ إحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً وَرَزَقَهُ كُلّ يَوْمٍ دِرْهَمًا ، فَقَالَ أَيّهَا النّاسُ أَجَاعَ اللّهُ كَبِدَ مَنْ جَاعَ عَلَى دِرْهَمٍ الْحَدِيثَ وَقَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ وَاَللّهِ مَا اكْتَسَبْت فِي وِلَايَتِي كُلّهَا إلّا قَمِيصًا مُعَقّدًا كَسَوْته غُلَامِي كَيْسَانَ وَكَانَ قَدْ قَالَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ وَسَمِعَ بِلَالًا يُؤَذّنُ عَلَى الْكَعْبَةِ ، لَقَدْ أَكْرَمَ اللّهُ أَسِيدًا ، يَعْنِي : أَبَاهُ أَنْ لَا يَكُونَ سَمِعَ هَذَا فَيَسْمَعُ مَعَهُ مَا يَغِيظُهُ وَكَانَتْ تَحْتَ عَتّابٍ جُوَيْرِيّةُ بِنْتُ أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ وَهِيَ الّتِي خَطَبَهَا عَلِيّ عَلَى فَاطِمَةَ فَشَقّ ذَلِكَ عَلَى فَاطِمَةَ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا آذَنُ ثُمّ لَا آذَنُ إنّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنّي الْحَدِيثَ فَقَالَ عَتّابٌ أَنَا أُرِيحُكُمْ مِنْهَا فَتَزَوّجَهَا ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الرّحْمَنِ الْمَقْتُولَ يَوْمَ الْجَمَلِ يُرْوَى أَنّ عَتّابًا طَارَتْ بِكَفّهِ يَوْمَ قُتِلَ وَفِي الْكَفّ خَاتَمُهُ فَطَرَحَتْهَا بِالْيَمَامَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَعُرِفَتْ بِالْخَاتَمِ . [ ص 175 ]
الْحَنْفَاءُ بِنْتُ أَبِي جَهْلٍ
وَكَانَتْ لِأَبِي جَهْلٍ بِنْتٌ أُخْرَى ، يُقَالُ لَهَا : الْحَنْفَاءُ كَانَتْ تَحْتَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو ، يُقَالُ إنّهَا وَلَدَتْ لَهُ ابْنَهُ أَنَسًا الّذِي كَانَ يَضْعُفُ وَفِيهِ جَرَى الْمَثَلُ أَسَاءَ سَمْعًا فَأَسَاءَ إجَابَةً وَيُقَالُ إنّهُ نَظَرَ يَوْمًا إلَى رَجُلٍ عَلَى نَاقَةٍ يَتْبَعُهَا خَرُوفٌ فَقَالَ يَا أَبَتْ أَذَاكَ الْخَرُوفُ مِنْ تِلْكَ النّاقَةِ ؟ فَقَالَ أَبُوهُ صَدَقَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ ، وَكَانَتْ حِينَ خَطَبَهَا قَالَتْ إنْ جَاءَتْ مِنْهُ حَلِيلَتُهُ بِوَلَدِ أَحْمَقَتْ وَإِنْ أَنْجَبَتْ فَعَنْ خَطَأٍ مَا أَنْجَبَتْ وَقَدْ قِيلَ فِي بِنْتِ أَبِي جَهْلٍ الْحَنْفَاءِ إنّ اسْمَهَا صَفِيّةُ فَاَللّهُ أَعْلَمُ . [ ص 176 ]
إسْلَامُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ
وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ ، وَقَدْ قِيلَ لَهُ أَلَا تَرَى مَا يَصْنَعُ مُحَمّدٌ مِنْ كَسْرِ الْآلِهَةِ وَنِدَاءِ هَذَا الْعَبْدِ الْأَسْوَدِ عَلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ إنْ كَانَ اللّهُ يَكْرَهُ هَذَا ، فَسَيُغَيّرُهُ ثُمّ حَسُنَ إسْلَامُهُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ بَعْدُ وَهَاجَرَ إلَى الشّامِ ، فَلَمْ يَزَلْ جَاهِدًا مُجَاهِدًا ، حَتّى اُسْتُشْهِدَ هُنَالِكَ رَحِمَهُ اللّهُ .
إسْلَامُ بِنْتِ أَبِي جَهْلٍ
وَأَمّا بِنْتُ أَبِي جَهْلٍ فَقَالَتْ حِينَ سَمِعَتْ الْأَذَانَ عَلَى الْكَعْبَةِ ، فَلَمّا قَالَ الْمُؤَذّنُ أَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ قَالَتْ عَمْرِي لَقَدْ أَكْرَمَك اللّهُ وَرَفَعَ ذِكْرَك ، فَلَمّا سَمِعَتْ حَيّ عَلَى الصّلَاةِ قَالَتْ أَمّا الصّلَاةُ فَسَنُؤَدّيهَا ، وَلَكِنْ وَاَللّهِ مَا تُحِبّ قُلُوبُنَا مَنْ قَتَلَ الْأَحِبّةَ ثُمّ قَالَتْ إنّ هَذَا الْأَمْرَ لَحَقّ ، وَقَدْ كَانَ الْمَلَكُ جَاءَ بِهِ أَبِي ، وَلَكِنْ كَرِهَ مُخَالَفَةَ قَوْمِهِ وَدِينَ آبَائِهِ . وَأَمّا أَبُو مَحْذُورَةَ الْجُمَحِيّ ، وَاسْمُهُ سَلَمَةُ بْنُ مِعْيَرٍ وَقِيلَ سَمُرَةُ فَإِنّهُ لَمّا سَمِعَ الْأَذَانَ وَهُوَ مَعَ فِتْيَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ خَارِجَ مَكّةَ أَقْبَلُوا يَسْتَهْزَؤُونَ وَيَحْكُونَ صَوْتَ الْمُؤَذّنِ غَيْظًا ، فَكَانَ أَبُو مَحْذُورَةَ مِنْ أَحْسَنِهِمْ صَوْتًا ، فَرَفَعَ صَوْتَهُ مُسْتَهْزِئًا بِالْأَذَانِ فَسَمِعَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَمَرَ [ ص 177 ] فَمَثَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يَظُنّ أَنّهُ مَقْتُولٌ فَمَسَحَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَاصِيَتَهُ وَصَدْرَهُ بِيَدِهِ قَالَ فَامْتَلَأَ قَلْبِي وَاَللّهِ إيمَانًا وَيَقِينًا وَعَلِمْت أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ فَأَلْقَى عَلَيْهِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الْأَذَانَ وَعَلّمَهُ إيّاهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذّنَ لِأَهْلِ مَكّةَ ، وَهُوَ ابْنُ سِتّ عَشْرَةَ سَنَةً فَكَانَ مُؤَذّنَهُمْ حَتّى مَاتَ ثُمّ عَقِبَهُ بَعْدَهُ يَتَوَارَثُونَ الْأَذَانَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ وَفِي أَبِي مَحْذُورَةَ يَقُولُ الشّاعِرُ
أَمَا وَرَبّ الْكَعْبَةِ الْمَسْتُورَهْ ... وَمَا تَلَا مُحَمّدٌ مِنْ سُورَهْ
وَالنّغَمَاتِ مِنْ أَبِي مَحْذُورَهْ ... لَأَفْعَلَن فِعْلَةً مَذْكُورَهْ
هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ
وَأَمّا هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ ، فَإِنّ مِنْ حَدِيثِهَا يَوْمَ الْفَتْحِ أَنّهَا بَايَعَتْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ عَلَى الصّفَا ، وَعُمَرُ دُونَهُ بِأَعْلَى الْعَقَبَةِ ، فَجَاءَتْ فِي نِسْوَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ يُبَايِعْنَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَعُمَرُ يُكَلّمُهُنّ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا أَخَذَ عَلَيْهِنّ أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاَللّهِ شَيْئًا قَالَتْ هِنْدُ : قَدْ عَلِمْت أَنّهُ لَوْ كَانَ مَعَ اللّهِ غَيْرُهُ لَأَغْنَى عَنّا ، فَلَمّا قَالَ وَلَا يَسْرِقْنَ قَالَتْ وَهَلْ تَسْرِقُ الْحُرّةُ ، لَكِنْ يَا رَسُولَ اللّهِ أَبُو سُفْيَانَ رَجُلٌ مَسِيكٌ رُبّمَا أَخَذْت مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ مَا يُصْلِحُ وَلَدَهُ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ " ، ثُمّ قَالَ إنّك لَأَنْتِ هِنْدُ ؟ " قَالَتْ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللّهِ اُعْفُ عَنّي ، عَفَا اللّهُ عَنْك ، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ حَاضِرًا ، فَقَالَ " أَنْتِ فِي حِلّ مِمّا أَخَذْت فَلَمّا قَالَ " وَلَا يَزْنِينَ " ، قَالَتْ وَهَلْ تَزْنِي الْحُرّةُ
يَا رَسُولَ اللّهِ فَلَمّا قَالَ " وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوفٍ " ، قَالَتْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي مَا أَكْرَمَك ، وَأَحْسَنَ مَا دَعَوْت إلَيْهِ فَلَمّا سَمِعَتْ " وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنّ " ، قَالَتْ وَاَللّهِ قَدْ رَبّيْنَاهُمْ صِغَارًا ، حَتّى قَتَلْتهمْ أَنْتَ وَأَصْحَابُك بِبَدْرِ كِبَارًا ، قَالَ فَضَحِكَ عُمَرُ مِنْ قَوْلِهَا حَتّى مَالَ .

خِرَاشٌ وَابْنُ الْأَثْوَعِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَنْدَرَ الْأَسْلَمِيّ ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ . قَالَ . كَانَ مَعَنَا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَحْمَرُ بَأْسًا ، وَكَانَ رَجُلًا شُجَاعًا ، وَكَانَ إذَا نَامَ غَطّ غَطِيطًا مُنْكَرًا لَا يَخْفَى مَكَانَهُ فَكَانَ إذَا بَاتَ فِي حَيّهِ بَاتَ مُعْتَنِزًا ، فَإِذَا بُيّتَ الْحَيّ صَرَخُوا يَا أَحْمَرُ فَيَثُورُ مِثْلَ الْأَسَدِ لَا يَقُومُ لِسَبِيلِهِ شَيْءٌ . فَأَقْبَلَ غَزِيّ مِنْ هُذَيْلٍ يُرِيدُونَ حَاضِرَهُ حَتّى إذَا دَنَوْا مِنْ الْحَاضِرِ قَالَ ابْنُ الْأَثْوَعِ الْهُذَلِيّ : لَا تَعْجَلُوا عَلَيّ حَتّى أَنْظُرَ ، فَإِنْ كَانَ فِي الْحَاضِرِ أَحْمَرُ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِمْ فَإِنّ لَهُ غَطِيطًا لَا يَخْفَى ، قَالَ فَاسْتَمَعَ فَلَمّا سَمِعَ غَطِيطَهُ مَشَى إلَيْهِ [ ص 174 ] وَضَعَ السّيْفَ فِي صَدْرِهِ ثُمّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ حَتّى قَتَلَهُ ثُمّ أَغَارُوا عَلَى الْحَاضِرِ فَصَرَخُوا يَا أَحْمَرُ وَلَا أَحْمَرَ لَهُمْ فَلَمّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ وَكَانَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ أَتَى ابْنُ الْأَثْوَعِ الْهُذَلِيّ حَتّى دَخَلَ مَكّةَ يَنْظُرُ وَيَسْأَلُ عَنْ أَمْرِ النّاسِ وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ فَرَأَتْهُ خُزَاعَةُ ، فَعَرَفُوهُ فَأَحَاطُوا بِهِ وَهُوَ إلَى جَنْبِ جِدَارٍ مِنْ جُدُرِ مَكّةَ ، يَقُولُونَ أَأَنْتَ قَاتِلُ أَحْمَرَ ؟ قَالَ نَعَمْ أَنَا قَاتِلُ أَحْمَرَ فَمَه ؟ قَالَ إذْ أَقْبَلَ خِرَاشُ بْنُ أُمَيّةَ مُشْتَمِلًا عَلَى السّيْفِ فَقَالَ هَكَذَا عَنْ الرّجُلِ وَوَاللّهِ مَا نَظُنّ إلّا أَنّهُ يُرِيدُ أَنْ يُفْرِجَ النّاسُ عَنْهُ . فَلَمّا انْفَرَجْنَا عَنْهُ حَمَلَ عَلَيْهِ فَطَعَنَهُ بِالسّيْفِ فِي بَطْنِهِ . فَوَاَللّهِ لَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَيْهِ وَحِشْوَتُهُ تَسِيلُ مِنْ بَطْنِهِ وَإِنّ عَيْنَيْهِ لَتُرَنّقَانِ فِي رَأْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ أَقَدْ فَعَلْتُمُوهَا يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ ؟ حَتّى انْجَعَفَ فَوَقَعَ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ عَنْ الْقَتْلِ فَقَدْ كَثُرَ الْقَتْلُ إنْ نَفَعَ لَقَدْ قَتَلْتُمْ قَتِيلًا لَأَدِيَنه قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ حَرْمَلَةَ الْأَسْلَمِيّ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ ، قَالَ لَمّا بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا صَنَعَ خِرَاشُ بْنُ أُمَيّةَ ، قَالَ إنّ خِرَاشًا لَقَتّالٌ يَعِيبُهُ بِذَلِكَ . [ ص 175 ]
بَيْنَ أَبِي شُرَيْحٍ وَابْنِ سَعْدٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيّ ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيّ قَالَ لَمّا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ الزّبَيْرِ مَكّةَ لِقِتَالِ أَخِيهِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ ، جِئْته ، فَقُلْت لَهُ يَا هَذَا ، إنّا كُنّا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ افْتَتَحَ مَكّةَ ، فَلَمّا كَانَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ عَدَتْ خُزَاعَةُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ هُذَيْلٍ فَقَتَلُوهُ وَهُوَ مُشْرِكٌ فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِينَا خَطِيبًا ، فَقَالَ يَا أَيّهَا النّاسُ إنّ اللّهَ حَرّمَ مَكّةَ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَهِيَ حَرَامٌ مِنْ حَرَامٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا يَحِلّ لِامْرِئِ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ فِيهَا دَمًا وَلَا يَعْضِدَ فِيهَا شَجَرًا ، لَمْ تُحْلَلْ لِأَحَدِ كَانَ قَبْلِي ، وَلَا تَحِلّ لِأَحَدِ يَكُونُ بَعْدِي ، وَلَمْ تُحْلَلْ لِي إلّا هَذِهِ السّاعَةَ غَضَبًا عَلَى أَهْلِهَا أَلَا : ثُمّ قَدْ رَجَعَتْ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ فَلْيُبَلّغْ الشّاهِدُ مِنْكُمْ الْغَائِبَ فَمَنْ قَالَ لَكُمْ أَنّ رَسُولَ اللّهِ قَاتَلَ فِيهَا ، فَقُولُوا : إنّ اللّهَ قَدْ أَحَلّهَا لِرَسُولِهِ وَلَمْ يُحْلِلْهَا لَكُمْ يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ عَنْ الْقَتْلِ فَلَقَدْ كَثُرَ الْقَتْلُ إنْ نَفَعَ لَقَدْ قَتَلْتُمْ قَتِيلًا لَأَدِيَنه ، فَمَنْ قُتِلَ بَعْدَ مُقَامِي هَذَا فَأَهْلُهُ بِخَيْرِ النّظَرَيْنِ إنْ شَاءُوا فَدَمُ قَاتِلِهِ وَإِنْ شَاءُوا فَعَقْلُهُ ثُمّ وَدَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَلِكَ الرّجُلَ الّذِي قَتَلَتْهُ خُزَاعَةُ ، فَقَالَ عَمْرٌو لِأَبِي شُرَيْحٍ انْصَرِفْ أَيّهَا الشّيْخُ فَنَحْنُ أَعْلَمُ بِحُرْمَتِهَا مِنْك ، إنّهَا لَا تَمْنَعُ سَافِكَ دَمٍ وَلَا خَالِعَ طَاعَةٍ وَلَا مَانِعَ جِزْيَةٍ فَقَالَ أَبُو شُرَيْحٍ إنّي كُنْت شَاهِدًا وَكُنْت غَائِبًا ، وَلَقَدْ أَمَرَنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُبَلّغَ شَاهِدُنَا غَائِبَنَا ، وَقَدْ أَبْلَغْتُك ، فَأَنْتَ وَشَأْنُك .
أَوّلُ مَنْ وُدِيَ يَوْمَ الْفَتْحِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَبَلَغَنِي أَنّ أَوّلَ قَتِيلٍ وَدَاهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ جُنَيْدِبُ بْنُ الْأَكْوَعِ قَتَلَتْهُ بَنُو كَعْبٍ ، فَوَدَاهُ بِمِائَةِ نَاقَةٍ .
Sعَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ لَا عَمْرُو بْنُ الزّبَيْرِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيّ وَاسْمُهُ خُوَيْلِدُ بْنُ عَمْرٍو ، وَقِيلَ عَمْرُو بْنُ خُوَيْلِدٍ ، وَقِيلَ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو ، وَقِيلَ هَانِئُ بْنُ عَمْرٍو ، قَالَ لَمّا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ الزّبَيْرِ [ ص 178 ] لِقِتَالِ أَخِيهِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ بِمَكّةَ هَذَا وَهْمٌ مِنْ ابْنِ هِشَامٍ ، وَصَوَابُهُ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ ، وَهُوَ الْأَشْدَقُ وَيُكَنّى أَبَا أُمَيّةَ وَهُوَ الّذِي كَانَ يُسَمّى لَطِيمَ الشّيْطَانِ وَكَانَ جَبّارًا شَدِيدَ الْبَأْسِ حَتّى خَافَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ عَلَى مَكّةَ ، فَقَتَلَهُ بِحِيلَةِ فِي خَبَرٍ طَوِيلٍ وَرَأَى رَجُلٌ عِنْدَ مَوْتِهِ فِي الْمَنَامِ قَائِلًا يَقُولُ
أَلَا يَا لَقَوْمِي لِلسّفَاهَةِ وَالْوَهْنِ ... وَلِلْعَاجِزِ الْمَوْهُونِ وَالرّأْيِ فِي الْأَفْنِ
وَلِابْنِ سَعِيدٍ بَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ ... عَلَى قَدَمَيْهِ خَرّ لِلْوَجْهِ وَالْبَطْنِ
رَأَى الْحِصْنَ مَنْجَاةً مِنْ الْمَوْتِ فَالْتَجَا ... إلَيْهِ فَزَارَتْهُ الْمَنِيّةُ فِي الْحِصْنِ
فَقَصّ رُؤْيَاهُ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُمَهَا ، حَتّى كَانَ مِنْ قَتْلِهِ مَا كَانَ وَهُوَ الّذِي خَطَبَ بِالْمَدِينَةِ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرَعَفَ حَتّى سَالَ الدّمُ إلَى أَسْفَلِهِ فَعُرِفَ بِذَلِكَ مَعْنَى حَدِيثِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ الّذِي يُرْوَى عَنْهُ كَأَنّي بِجَبّارِ مِنْ بَنِي أُمَيّةَ يَرْعُفُ عَلَى مِنْبَرِي هَذَا حَتّى يَسِيلَ الدّمُ إلَى أَسْفَلِهِ أَوْ كَمَا قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَعُرِفَ الْحَدِيثُ فِيهِ فَالصّوَابُ إذًا عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ لَا عَمْرُو بْنُ الزّبَيْرِ ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَهَكَذَا وَقَعَ فِي الصّحِيحَيْنِ . ذَكَرَ هَذَا التّنْبِيهَ عَلَى ابْنِ هِشَامٍ أَبُو عُمَرَ - رَحِمَهُ اللّهُ - فِي كِتَابِ الْأَجْوِبَةِ عَنْ الْمَسَائِلِ الْمُسْتَغْرَبَةِ وَهِيَ مَسَائِلُ مِنْ كِتَابِ الْجَامِعِ لِلْبُخَارِيّ تَكَلّمَ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ وَإِنّمَا دَخَلَ الْوَهْمُ عَلَى ابْنِ هِشَامٍ أَوْ عَلَى الْبَكّائِيّ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ أَجْلِ أَنّ عَمْرَو بْنَ الزّبَيْرِ ، كَانَ مُعَادِيًا لِأَخِيهِ عَبْدِ اللّهِ وَمُعِينًا لِبَنِي أُمَيّةَ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْفِتْنَةِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

الْأَنْصَارُ يَتَخَوّفُونَ مِنْ بَقَاءِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي مَكّةَ
[ ص 176 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَبَلَغَنِي عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ افْتَتَحَ مَكّةَ وَدَخَلَهَا ، قَامَ عَلَى الصّفَا يَدْعُو اللّهَ وَقَدْ أَحْدَقَتْ بِهِ الْأَنْصَارُ ، فَقَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَتَرَوْنَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذْ فَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِ أَرْضَهُ وَبَلَدَهُ يُقِيمُ بِهَا ؟ فَلَمّا فَرَغَ مِنْ دُعَائِهِ قَالَ مَاذَا قُلْتُمْ ؟ " قَالُوا : لَا شَيْءَ يَا رَسُولَ اللّهِ فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتّى أَخْبَرُوهُ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَاذَ اللّهِ الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ

كَسْرُ الْأَصْنَامِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الرّوَايَةِ فِي إسْنَادٍ لَهُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَطَافَ عَلَيْهَا وَحَوْلَ الْبَيْتِ أَصْنَامٌ مَشْدُودَةٌ بِالرّصَاصِ فَجَعَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُشِيرُ بِقَضِيبِ فِي يَدِهِ إلَى الْأَصْنَامِ وَيَقُولُ { جَاءَ الْحَقّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } [ الْإِسْرَاءِ 81 ] فَمَا أَشَارَ إلَى صَنَمٍ مِنْهَا فِي وَجْهِهِ إلّا وَقَعَ لِقَفَاهُ وَلَا أَشَارَ إلَى قَفَاهُ إلّا وَقَعَ لِوَجْهِهِ حَتّى مَا بَقِيَ مِنْهَا صَنَمٌ إلّا وَقَعَ فَقَالَ تَمِيمُ بْنُ أَسَدٍ الْخُزَاعِيّ فِي ذَلِكَ
وَفِي الْأَصْنَامِ مُعْتَبَرٌ وَعِلْمٌ ... لِمَنْ يَرْجُو الثّوَابَ أَوْ الْعِقَابَا

قِصّةُ إسْلَامِ فَضَالَةَ
[ ص 177 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي أَنّ فَضَالَةَ بْنَ عُمَيْرِ بْنِ الْمُلَوّحِ اللّيْثِيّ أَرَادَ قَتْلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عَامَ الْفَتْحِ فَلَمّا دَنَا مِنْهُ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أَفَضَالَةَ ؟ " قَالَ نَعَمْ فَضَالَةَ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ " مَا كَانَتْ تُحَدّثُ بِهِ نَفْسَك ؟ " قَالَ لَا شَيْءَ كُنْت أَذْكُرُ اللّهَ قَالَ فَضَحِكَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ قَالَ " اسْتَغْفِرْ اللّهَ " ، ثُمّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ فَسَكَنَ قَلْبُهُ فَكَانَ فَضَالَةُ يَقُولُ وَاَللّهِ مَا رَفَعَ يَدَهُ عَنْ صَدْرِي حَتّى مَا مِنْ خَلْقِ اللّهِ شَيْءٌ أَحَبّ إلَيّ مِنْهُ [ ص 178 ] قَالَ فَضَالَةُ فَرَجَعْت إلَى أَهْلِي ، فَمَرَرْت بِامْرَأَةِ كُنْت أَتَحَدّثُ إلَيْهَا ، فَقَالَتْ هَلُمّ إلَى الْحَدِيثِ فَقُلْت : لَا . وَانْبَعَثَ فَضَالَةُ يَقُولُ
قَالَتْ هَلُمّ إلَى الْحَدِيثِ فَقُلْت لَا ... يَأْبَى عَلَيْك اللّهُ وَالْإِسْلَامُ
لَوْ مَا رَأَيْت مُحَمّدًا وَقَبِيلَهُ ... بِالْفَتْحِ يَوْمَ تُكْسَرُ الْأَصْنَامُ
لَرَأَيْت دِينَ أَضْحَى بَيّنًا ... وَالشّرْكُ يَغْشَى وَجْهَهُ الْإِظْلَامُ

أَمَانُ الرّسُولِ لِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ
[ ص 179 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، قَالَ خَرَجَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ يُرِيدُ جُدّةَ لِيَرْكَبَ مَعَهَا إلَى الْيَمَنِ ، فَقَالَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ يَا نَبِيّ اللّهِ إنّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ سَيّدُ قَوْمِهِ وَقَدْ خَرَجَ هَارِبًا مِنْك لِيَقْذِفَ نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ فَأَمّنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْك ؛ قَالَ " هُوَ آمِنٌ " ؟ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ فَأَعْطِنِي آيَةً يَعْرِفُ بِهَا أَمَانَك ؛ فَأَعْطَاهُ [ ص 180 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِمَامَتَهُ الّتِي دَخَلَ فِيهَا مَكّةَ ، فَخَرَجَ بِهَا عُمَيْرٌ حَتّى أَدْرَكَهُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَرْكَبَ فِي الْبَحْرِ فَقَالَ يَا صَفْوَانُ فِدَاك أَبِي وَأُمّي ، اللّهَ اللّهَ فِي نَفْسِك أَنْ تُهْلِكَهَا ، فَهَذَا أَمَانٌ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ جِئْتُك بِهِ قَالَ وَيْحَك اُغْرُبْ عَنّي فَلَا تُكَلّمْنِي ؛ قَالَ أَيْ صَفْوَانُ فِدَاك أَبِي وَأُمّي ، أَفْضَلُ النّاسِ وَأَبَرّ النّاسِ وَأَحْلَمُ النّاسِ وَخَيْرُ النّاسِ ابْنُ عَمّك ، عِزّهُ عِزّك ، وَشَرَفُهُ شَرَفُك ، وَمُلْكُهُ مُلْكُك ؛ قَالَ إنّي أَخَافُهُ عَلَى نَفْسِي ، قَالَ هُوَ أَحْلَمُ مِنْ ذَاكَ وَأَكْرَمُ فَرَجَعَ مَعَهُ حَتّى وَقَفَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ صَفْوَانُ إنّ هَذَا يَزْعُمُ أَنّك قَدْ أَمّنْتنِي ، قَالَ " صَدَقَ " ، قَالَ فَاجْعَلْنِي فِيهِ بِالْخِيَارِ شَهْرَيْنِ قَالَ أَنْتَ بِالْخِيَارِ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ صَفْوَانَ قَالَ لِعُمَيْرِ وَيْحَك اُغْرُبْ عَنّي ، فَلَا تُكَلّمْنِي ، فَإِنّك كَذّابٌ لِمَا كَانَ صَنَعَ بِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي آخِرِ حَدِيثِ يَوْمِ بَدْرٍ . [ ص 181 ]
إسْلَامُ عِكْرِمَةَ وَصَفْوَانَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي الزّهْرِيّ : أَنّ أُمّ حَكِيمٍ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَفَاخِتَةَ بِنْتَ الْوَلِيدِ - وَكَانَتْ فَاخِتَةُ عِنْدَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ ، وَأُمّ حَكِيمٍ عِنْدَ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ أَسْلَمَتَا ؛ فَأَمّا أُمّ حَكِيمٍ فَاسْتَأْمَنَتْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِعِكْرِمَةَ فَأَمّنَهُ فَلَحِقَتْ بِهِ بِالْيَمَنِ فَجَاءَتْ بِهِ فَلَمّا أَسْلَمَ عِكْرِمَةُ وَصَفْوَانُ أَقَرّهُمَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِنْدَهُمَا عَلَى النّكَاحِ الْأَوّلِ .
Sأُمّ حَكِيمٍ بِنْتُ الْحَارِثِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ أُمّ حَكِيمٍ بِنْتَ الْحَارِثِ وَكَانَتْ تَحْتَ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ ، وَأَنّهَا اتّبَعَتْهُ [ ص 179 ] فَرّ مِنْ الْإِسْلَامِ فَاسْتَأْمَنَتْ لَهُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاسْتُشْهِدَ عِكْرِمَةُ بِالشّامِ فَخَطَبَهَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ . وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ ، فَخُطِبَتْ إلَى خَالِدٍ فَتَزَوّجَهَا ، فَلَمّا أَرَادَ الْبِنَاءَ بِهَا ، وَجُمُوعُ الرّومِ قَدْ احْتَشَدَتْ قَالَتْ لَهُ لَوْ أَمْهَلْت حَتّى يَفُضّ اللّهُ جَمْعَهُمْ قَالَ إنّ نَفْسِي تُحَدّثُنِي أَنّي أُصَابُ فِي جُمُوعِهِمْ فَقَالَتْ دُونَك ، فَابْتَنَى بِهَا ، فَلَمّا أَصْبَحَ الْتَقَتْ الْجُمُوعُ وَأَخَذَتْ السّيُوفُ مِنْ كُلّ فَرِيقٍ مَأْخَذَهَا فَقُتِلَ خَالِدٌ وَقَاتَلَتْ يَوْمَئِذٍ أُمّ حَكِيمٍ وَإِنّ عَلَيْهَا لِلرّدْعِ الْخَلُوقَ وَقَتَلَتْ سَبْعَةً مِنْ الرّومِ بِعَمُودِ الْفُسْطَاطِ بِقَنْطَرَةِ تُسَمّى إلَى الْيَوْمِ بِقَنْطَرَةِ أُمّ حَكِيمٍ وَذَلِكَ فِي غَزْوَةِ أَجْنَادِينَ .

دَمُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ
وَذَكَرَ فِي خُطْبَةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلَا كُلّ مَأْثُرَةٍ أَوْ دَمٍ أَوْ مَالٍ يُدَعّى ، فَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيّ هَاتَيْنِ وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ وَأَوّلُ دَمٍ أَضَعُهُ دَمُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ . كَانَ لِرَبِيعَةَ ابْنٌ قُتِلَ فِي الْجَاهِلِيّةِ اسْمُهُ آدَمُ وَقِيلَ تَمّامٌ وَهُوَ رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، مَاتَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ .
حَوْلَ التّخْيِيرِ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَبَيْنَ الدّيَةِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ فِي حَدِيثِ ابْنِ شُرَيْحٍ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ فَمَنْ قُتِلَ بَعْدَ مُقَامِي هَذَا ، فَأَهْلُهُ بِخَيْرِ النّظَرَيْنِ . إنْ شَاءُوا فَدَمُ قَاتِلِهِ وَإِنْ شَاءُوا فَعَقْلُه وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ فِيهِ أَلْفَاظُ الرّوَاةِ وَظَاهِرُهُ عَلَى هَذِهِ الرّوَايَةِ أَنّ وَلِيّ الدّمِ هُوَ الْمُخَيّرُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الدّيَةَ وَهُوَ الْعَقْلُ وَإِنْ شَاءَ قَتَلَ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي فَصْلٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنْ يَخْتَارَ وَلِيّ الْمَقْتُولِ أَخْذَ الدّيَةِ وَيَأْبَى الْقَاتِلُ إلّا أَنْ يُقْتَصّ مِنْهُ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَلَا اخْتِيَارَ لِلْقَاتِلِ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ يُقْتَلُ الْقَاتِلُ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى إعْطَاءِ الْمَالِ وَتَأَوّلُوا الْحَدِيثَ وَهِيَ [ ص 180 ] ابْنِ الْقَاسِمِ ، وَقَالَ بِهَا طَائِفَةٌ مِنْ السّلَفِ وَقَالَ آخَرُونَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُ الشّافِعِيّ ، وَأَشْهَبَ وَمَنْشَأُ الِاخْتِلَافِ مِنْ الِاحْتِمَالِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } [ الْبَقَرَةِ 178 ] فَاحْتَمَلَتْ الْآيَةُ عِنْدَ قَوْمٍ أَنْ تَكُونَ مِنْ وَاقِعَةً عَلَى وَلِيّ الْمَقْتُولِ وَمِنْ أَخِيهِ أَيْ مِنْ وَلِيّهِ الْمَقْتُولِ أَيْ مِنْ دِيَتِهِ وَعُفِيَ لَهُ أَيْ يُسّرَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ وَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ مِنْ وَاقِعَةً عَلَى الْقَاتِلِ وَعُفِيَ مِنْ الْعَفْوِ عَنْ الدّمِ وَلَا خِلَافَ أَنّ الْمُتّبِعَ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ وَلِيّ الدّمِ وَأَنّ الْمَأْمُورَ بِأَدَاءِ بِإِحْسَانِ هُوَ الْقَاتِلُ وَإِذَا تَدَبّرْت الْآيَةَ عَرَفْت مَنْشَأَ الْخِلَافِ مَعَهَا ، وَلَاحَ مِنْ سِيَاقَةِ الْكَلَامِ أَيّ الْقَوْلَيْنِ أَوْلَى بِالصّوَابِ . وَأَمّا مَا ذَكَرْت مِنْ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ النّقَلَةِ فِي الْحَدِيثِ فَيَحْصُرُهَا سَبْعَةُ أَلْفَاظٍ أَحَدُهَا : إمّا أَنْ يَقْتُلَ وَإِمّا أَنْ يُفَادِيَ . وَالثّانِي : إمّا أَنْ يُعْقَلَ أَوْ يُقَادَ . الثّالِثُ إمّا أَنْ يَفْدِيَ وَإِمّا أَنْ يُقْتَلَ . الرّابِعُ إمّا أَنْ تُعْطَى الدّيَةُ أَوْ يُقَادَ أَهْلُ الْقَتِيلِ . الْخَامِسُ إمّا أَنْ يَعْفُوَ أَوْ يَقْتُلَ . السّادِسُ يُقْتَلُ أَوْ يُفَادَى . السّابِعُ مَنْ قَتَلَ مُتَعَمّدًا دُفِعَ إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ فَإِنْ شَاءُوا قَتَلُوا وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا الدّيَةَ . خَرّجَهُ التّرْمِذِيّ . وَرِوَايَةُ ابْنِ إسْحَاقَ فِي السّيرَةِ ثَامِنَةٌ وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الرّوَايَاتِ قُوّةٌ لِرِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ ، وَفِي بَعْضِهَا قُوّةٌ لِرِوَايَةِ أَشْهَبَ فَتَأَمّلْهَا . [ ص 181 ]
النّهْيُ عَنْ اشْتِمَالِ الصّمّاءِ وَالِاحْتِبَاءِ
وَخُطْبَتُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ أَطْوَلُ مِمّا ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ ، وَفِيهَا مِنْ رِوَايَةِ الشّيْبَانِيّ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ : نَهْيُهُ عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ وَصَلَاةِ سَاعَتَيْنِ يَعْنِي طُلُوعَ الشّمْسِ وَغُرُوبَهَا ، وَأَنْ لَا يَتَوَارَثَ أَهْلُ مِلّتَيْنِ وَعَنْ لُبْسَتَيْنِ وَطُعْمَتَيْنِ وَفُسّرَتَا فِي الْحَدِيثِ فَقَالَ اللّبْسَتَانِ اشْتِمَالُ الصّمّاءِ وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرّجُلُ وَلَيْسَ بَيْنَ عَوْرَتِهِ وَالسّمَاءِ حِجَابٌ وَالطّعْمَتَانِ الْأَكْلُ بِالشّمَالِ وَأَنْ يَأْكُلَ مُنْبَطِحًا عَلَى بَطْنِهِ .

إسْلَامُ ابْنِ الزّبَعْرَى وَشِعْرُهُ فِي ذَلِكَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ حَسّانِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ رَمَى حَسّانُ ابْنَ الزّبَعْرَى وَهُوَ بِنَجْرَانَ بِبَيْتِ وَاحِدٍ مَا زَادَهُ عَلَيْهِ
لَا تَعْدَمْنَ رَجُلًا أَحَلّك بُغْضُهُ ... نَجْرَانَ فِي عَيْشٍ أَحَذّ لَئِيمِ
فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ الزّبَعْرَى خَرَجَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَسْلَمَ فَقَالَ حِينَ أَسْلَمَ [ ص 182 ]
يَا رَسُولَ الْمَلِيكِ إنّ لِسَانِي ... رَاتِقٌ مَا فَتَقْت إذْ أَنَا بُورُ
إذْ أُبَارِي الشّيْطَانَ فِي سُنَنِ الْغَيّ ... وَمَنْ مَالَ مَيْلُهُ مَثْبُورُ
آمَنَ اللّحْمُ وَالْعِظَامُ لِرَبّي ... ثُمّ قَلْبِي الشّهِيدُ أَنْتَ النّذِيرُ
إنّنِي عَنْك زَاجِرٌ ثَمّ حَيّا ... مِنْ لُؤَيّ وَكُلّهُمْ مَغْرُورُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الزّبَعْرَى أَيْضًا حِينَ أَسْلَمَ [ ص 183 ]
مَنَعَ الرّقَادَ بَلَابِلٌ وَهُمُومُ ... وَاللّيْلُ مُعْتَلِجُ الرّوَاقِ بَهِيمُ
مِمّا أَتَانِي أَنّ أَحْمَدَ لَامَنِي ... فِيهِ فَبِتّ كَأَنّنِي مَحْمُومُ
يَا خَيْرَ مَنْ حَمَلَتْ عَلَى أَوْصَالِهَا ... عَيْرَانَةٌ سُرُحُ الْيَدَيْنِ غَشُومُ
إنّي لَمُعْتَذِرٌ إلَيْك مِنْ الّذِي ... أَسْدَيْت إذْ أَنَا فِي الضّلَالِ أَهِيمُ
أَيّامَ تَأْمُرُنِي بِأَغْوَى خُطّةٍ ... سَهْمٌ وَتَأْمُرُنِي بِهَا مَخْزُومُ
وَأَمُدّ أَسْبَابَ الرّدَى وَيَقُودُنِي ... أَمْرُ الْغُوَاةِ وَأَمْرُهُمْ مَشْئُومُ
فَالْيَوْمَ آمَنَ بِالنّبِيّ مُحَمّدٍ ... قَلْبِي وَمُخْطِئُ هَذِهِ مَحْرُومُ
مَضَتْ الْعَدَاوَةُ وَانْقَضَتْ أَسْبَابُهَا ... وَدَعَتْ أَوَاصِرُ بَيْنَنَا وَحُلُومُ
فَاغْفِرْ فِدًى لَك وَالِدِيّ كِلَاهُمَا ... زَلَلِي ، فَإِنّك رَاحِمٌ مَرْحُومُ
وَعَلَيْك مِنْ عِلْمِ الْمَلِيكِ عَلَامَةُ ... نُورٍ أَغَرّ وَخَاتَمٌ مَخْتُومُ
أَعْطَاك بَعْدَ مَحَبّةٍ بُرْهَانَهُ ... شَرَفًا وَبُرْهَانُ الْإِلَهِ عَظِيمُ
وَلَقَدْ شَهِدْت بِأَنّ دِينَك صَادِقٌ ... حَقّ وَأَنّك فِي الْعِبَادِ جَسِيمُ
وَاَللّهُ يَشْهَدُ أَنّ أَحْمَدَ مُصْطَفًى ... مُسْتَقْبَلٌ فِي الصّالِحِينَ كَرِيمُ
قَرْمٌ عَلَا بُنْيَانَهُ مِنْ هَاشِمٍ ... فَرْعٌ تَمَكّنَ فِي الذّرَا وَأُرُومُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ يُنْكِرُهَا لَهُ .
Sشِعْرُ ابْنِ الزّبَعْرَى
فَصْلٌ
وَذَكَرَ شِعْرَ ابْنِ الزّبَعْرَى : الزّبَعْرَى : الْبَعِيرُ الْأَزَبّ مَعَ قِصَرٍ وَفِيهِ رَاتِقٌ مَا فَتَقْت إذْ أَنَا بُورُ
[ ص 182 ] فَتَقْت يَعْنِي : فِي الدّينِ فَكُلّ إثْمٍ فَتْقٌ وَتَمْزِيقٌ وَكُلّ تَوْبَةٍ رَتْقٌ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قِيلَ لِلتّوْبَةِ نَصُوحٌ مِنْ نَصَحْت إذَا خِطْته ، وَالنّصَاحُ الْخَيْطُ وَيَشْهَدُ لِصِحّةِ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ
نُرَقّعُ دُنْيَانَا بِتَمْزِيقِ دِينِنَا ... فَلَا دِينُنَا يَبْقَى ، وَلَا مَا نُرَقّعُ
وَقَوْلُهُ إذْ أَنَا بُورُ أَيْ هَالِكٌ يُقَالُ رَجُلٌ بُورٌ وَبَائِرٌ وَقَوْمٌ بُورٌ وَهُوَ جَمْعُ بَائِرٍ كَانَ الْأَصْلُ فِيهِ فُعُلٌ بِتَحْرِيكِ الْوَاوِ وَأَمّا رَجُلٌ بُورٌ فَوَزْنُهُ فُعْلٌ بِالسّكُونِ لِأَنّهُ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ وَمِنْهُ قِيلَ أَرْضٌ بُورٌ مِنْ الْبَوَارِ وَهُوَ هَلَاكُ الْمَرْعَى وَيُبْسُهُ . وَقَوْلُ ابْنِ الزّبَعْرَى : وَاللّيْلُ مُعْتَلِجُ الرّوَاقِ بَهِيمُ
الِاعْتِلَاجُ شِدّةٌ وَقُوّةٌ وَقَدْ تَقَدّمَ شَرْحُهَا . وَالْبَهِيمُ الّذِي لَيْسَ فِيهِ لَوْنٌ يُخَالِطُ لَوْنَهُ . وَقَوْلُهُ سُرُحُ الْيَدَيْنِ غَشُومُ . الْغَشُومُ الّتِي لَا تُرَدّ عَنْ وَجْهِهَا ، وَيُرْوَى سَعُومُ وَهِيَ الْقَوِيّةُ عَلَى السّيْرِ . [ ص 183 ]

بَقَاءُ هُبَيْرَةَ عَلَى كُفْرِهِ وَشِعْرُهُ فِي إسْلَامِ زَوْجِهِ أُمّ هَانِئٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَمّا هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيّ فَأَقَامَ بِهَا حَتّى مَاتَ كَافِرًا ، وَكَانَتْ عِنْدَهُ أُمّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ ، وَاسْمُهَا هِنْدٌ ، وَقَدْ قَالَ حِينَ بَلَغَهُ إسْلَامُ أُمّ هَانِئٍ
أَشَاقَتْك هِنْدٌ أَمْ أَتَاك سُؤَالُهَا ... كَذَاك النّوَى أَسْبَابُهَا وَانْفِتَالُهَا
وَقَدْ أَرَقّتْ فِي رَأْسِ حِصْنٍ مُمَنّعٍ ... بِنَجْرَانَ يَسْرِي بَعْدَ لَيْلٍ خَيَالُهَا
وَعَاذِلَةٍ هَبّتْ بِلَيْلِ تَلُومُنِي ... وَتَعْذِلُنِي بِاللّيْلِ ضَلّ ضَلَالُهَا
وَتَزْعُمُ أَنّي إنْ أَطَعْت عَشِيرَتِي ... سَأَرْدَى . وَهَلْ يُرْدِينِ إلّا زِيَالُهَا
فَإِنّي لَمِنْ قَرْمٍ إذَا جَدّ جَدّهُمْ ... عَلَى أَيّ حَالٍ أَصْبَحَ الْيَوْمَ حَالُهَا
وَإِنّي لَحَامٍ مِنْ وَرَاءِ عَشِيرَتِي ... إذَا كَانَ مِنْ تَحْتِ الْعَوَالِي مَجَالُهَا
وَصَارَتْ بِأَيْدِيهَا السّيُوفُ كَأَنّهَا ... مَخَارِيقُ وِلْدَانٍ وَمِنْهَا ظِلَالُهَا
وَإِنّي لَأَقْلَى الْحَاسِدِينَ وَفِعْلَهُمْ ... عَلَى اللّهِ رِزْقِي نَفْسُهَا وَعِيَالُهَا
وَإِنّ كَلَامَ الْمَرْءِ فِي غَيْرِ كُنْهِهِ ... لَكَالنّبْلِ تَهْوِي لَيْسَ فِيهَا نِصَالُهَا
فَإِنْ كُنْت قَدْ تَابَعْت دِينَ مُحَمّدٍ ... وَعَطَفَتْ الْأَرْحَامَ مِنْك حِبَالُهَا
فَكُونِي عَلَى أَعْلَى سَحِيقٍ بِهَضْبَةِ ... مُلَمْلَمَةٍ غَبْرَاءَ يَبْسٍ بِلَالُهَا
[ ص 184 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَيُرْوَى : وَقَطَعَتْ الْأَرْحَامَ مِنْك حِبَالُهَا

عُدّةُ مَنْ شَهِدَ فَتْحَ مَكّةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ جَمِيعُ مَنْ شَهِدَ فَتْحَ مَكّةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَشْرَةَ آلَافٍ . وَمِنْ بَنِي سُلَيْمٍ سَبْعُ مِائَةٍ وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ أَلْفٌ وَمِنْ بَنِي غِفَارٍ أَرْبَعُ مِائَةٍ وَمِنْ أَسْلَمَ أَرْبَعُ مِائَةٍ وَمِنْ مُزَيْنَةَ أَلْفٌ وَثَلَاثَةُ نَفَرٍ وَسَائِرُهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ وَحُلَفَائِهِمْ وَطَوَائِفُ الْعَرَبِ مِنْ تَمِيمٍ وَقَيْسٍ وَأَسَدٍ .

شِعْرُ حَسّانٍ فِي فَتْحِ مَكّةَ
وَكَانَ مِمّا قِيلَ مِنْ الشّعْرِ فِي يَوْمِ الْفَتْحِ قَوْلُ حَسّانِ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيّ [ ص 185 ] [ ص 186 ] [ ص 187 ] [ ص 188 ]
عَفَتْ ذَاتُ الْأَصَابِعِ فَالْجِوَاءُ ... إلَى عَذْرَاءَ مَنْزِلُهَا خِلَاءُ
دِيَارٌ مِنْ بَنِي الْحَسْحَاسِ قَفْرٌ ... تُعْفِيهَا الرّوَامِسُ وَالسّمَاءُ
وَكَانَتْ لَا يَزَالُ بِهَا أَنِيسٌ ... خِلَالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ
فَدَعْ هَذَا وَلَكِنْ مِنْ لِطَيْفِ ... يُؤَرّقُنِي إذَا ذَهَبَ الْعِشَاءُ
لِشَعْثَاءَ الّتِي قَدْ تَيّمَتْهُ ... فَلَيْسَ لِقَلْبِهِ مِنْهَا شِفَاءُ
كَأَنّ خَبِيئَةً مِنْ بَيْتِ رَأْسٍ ... يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءُ
إذَا مَا الْأَشْرِبَاتُ ذُكِرْنَ يَوْمًا ... فَهُنّ لِطَيّبِ الرّاحِ الْفِدَاءُ
فَوَلِيّهَا الْمَلَامَةَ إنْ أَلَمْنَا ... إذَا مَا كَانَ مَغْثٌ أَوْ لَحَاءُ
وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا ... وَأُسْدًا مَا يُنَهْنِهُنَا اللّقَاءُ
عَدِمْنَا خَيْلَنَا إنْ لَمْ تَرْوِهَا ... تُثِيرُ النّقْعَ مَوْعِدُهَا كَدَاءُ
يُنَازِعْنَ الْأَعِنّةَ مُصْغِيَاتٍ ... عَلَى أَكْتَافِهَا الْأَسَلُ الظّمَاءُ
تَظَلّ جِيَادُنَا مُتَمَطّرَاتٍ ... يَلْطُمُهُنّ بِالْخُمُرِ النّسَاءُ
فَإِمّا تُعْرِضُوا عَنّا اعْتَمَرْنَا ... وَكَانَ الْفَتْحُ وَانْكَشَفَ الْغِطَاءُ
وَإِلّا فَاصْبِرُوا لِجِلَادِ يَوْمٍ ... يُعِينُ اللّهُ فِيهِ مَنْ يَشَاءُ
وَجِبْرِيلُ رَسُولُ اللّهِ فِينَا ... وَرُوحُ الْقُدْسِ لَيْسَ لَهُ كِفَاءُ
وَقَالَ اللّهُ قَدْ أَرْسَلْت عَبْدًا ... يَقُولُ الْحَقّ إنْ نَفَعَ الْبَلَاءُ
شَهِدْت بِهِ فَقُومُوا صَدّقُوهُ ... فَقُلْتُمْ لَا نَقُومُ وَلَا نَشَاءُ
وَقَالَ اللّهُ قَدْ سَيّرْت جُنْدًا ... هُمْ الْأَنْصَارُ عُرْضَتُهَا اللّقَاءُ
لَنَا فِي كُلّ يَوْمٍ مِنْ مَعَدّ ... سِبَابٌ أَوْ قِتَالٌ أَوْ هِجَاءُ
فَنُحْكِمُ بِالْقَوَافِي مَنْ هَجَانَا ... وَنَضْرِبُ حِينَ تَخْتَلِطُ الدّمَاءُ
أَلَا أَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنّي ... مُغَلْغَلَةً فَقَدْ بَرِحَ الْخَفَاءُ
[ ص 189 ] ... وَعَبْدُ الدّارِ سَادَتُهَا الْإِمَاءُ
هَجَوْت مُحَمّدًا وَأَجَبْت عَنْهُ ... وَعِنْدَ اللّهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ
أَتَهْجُوهُ وَلَسْت لَهُ بِكُفْءِ ... فَشَرّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ
هَجَوْت مُبَارَكًا بَرّا حَنِيفًا ... أَمِينَ اللّهِ شِيمَتُهُ الْوَفَاءُ
أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللّهِ مِنْكُمْ ... وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ ؟
فَإِنّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي ... لِعَرْضِ مُحَمّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ
لِسَانِي صَارِمٌ لَا عَيْبَ فِيهِ ... وَبَحْرِي لَا تُكَدّرُهُ الدّلَاءُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَالَهَا حَسّانُ يَوْمَ الْفَتْحِ وَيُرْوَى : لِسَانِي صَارِمٌ لَا عَتْبَ فِيهِ " وَبَلَغَنِي عَنْ الزّهْرِيّ أَنّهُ قَالَ لَمّا رَأَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّسَاءَ يَلْطِمْنَ الْخَيْلَ بِالْخُمُرِ تَبَسّمَ إلَى أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
Sحَوْلَ شِعْرِ حَسّانٍ
[ ص 184 ] وَذَكَرَ شِعْرَ حَسّانٍ يَوْمَ الْفَتْحِ وَأَوّلُهُ عَفَتْ ذَاتُ الْأَصَابِعِ فَالْجِوَاءُ
ذَاتُ الْأَصَابِعِ : مَوْضِعٌ بِالشّامِ وَالْجِوَاءُ كَذَلِكَ وَبِالْجِوَاءِ كَانَ مَنْزِلُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ ، وَكَانَ حَسّانُ كَثِيرًا مَا يَرِدُ عَلَى مُلُوكِ غَسّانَ بِالشّامِ يَمْدَحُهُمْ فَلِذَلِكَ يَذْكُرُ هَذِهِ الْمَنَازِلَ . وَقَوْلُهُ إلَى عَذْرَاءَ ، هِيَ قَرْيَةٌ عِنْدَ دِمَشْقَ ، فِيهَا قُتِلَ حُجْرُ بْنُ عَدِيّ وَأَصْحَابُهُ . وَقَوْلُهُ نَعَمٌ وَشَاءُ . النّعَمُ الْإِبِلُ فَإِذَا قِيلَ أَنْعَامٌ دَخَلَ فِيهَا الْغَنَمُ وَالْبَقَرُ وَالْإِبِلُ . وَالشّاءُ وَالشّوِيّ : اسْمٌ لِلْجَمِيعِ كَالضّأْنِ وَالضّئِينِ وَالْإِبِلِ وَالْإِبِيلِ وَالْمَعْزِ وَالْمَعِيزِ وَأَمّا الشّاةُ فَلَيْسَتْ مِنْ لَفْظِ الشّاءِ لِأَنّ لَامَ الْفِعْلِ مِنْهَا هَاءٌ . وَبَنُو الْحَسْحَاسِ : حَيّ مِنْ بَنِي أَسَدٍ . [ ص 185 ] وَنَحْوِهِ وَلَا مِنْ قَوْلِهِ
إذَا سَقَطَ السّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ ... رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا
لِأَنّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ مَطَرَ السّمَاءِ فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَلَكِنْ إنّمَا عَرَفْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِمْ فِي جَمْعِهِ سُمَيّ وَهُمْ يَقُولُونَ فِي جَمْعِ السّمَاءِ سَمَوَاتٌ وَأَسْمِيَةٌ فَعَلِمْنَا أَنّهُ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ . وَقَوْلُهُ وَلَكِنْ مَنْ لِطَيْفِ . الطّيْفُ مَصْدَرُ طَافَ الْخَيَالُ يَطِيفُ طَيْفًا ، وَلَكِنْ لَا يُقَالُ لِلْخَيَالِ هُوَ طَائِفٌ عَلَى وَزْنِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ طَافَ لِأَنّهُ لَا حَقِيقَةَ لِلْخَيَالِ فَيَرْجِعُ الْأَمْرُ إلَى أَنّهُ هُوَ الطّيْفُ وَهُوَ تَوَهّمٌ وَتَخَيّلٌ فَإِنْ كَانَ شَيْءٌ لَهُ حَقِيقَةٌ قُلْت فِيهِ طَائِفٌ وَفِي مَصْدَرِهِ طَيْفٌ كَمَا فِي التّنْزِيلِ { طَائِفٌ مِنَ الشّيْطَانِ } [ الْأَعْرَافِ 201 ] وَقَدْ قُرِئَ أَيْضًا " طَيْفٌ مِنْ الشّيْطَان " ، لِأَنّ غُرُورَ الشّيْطَانِ وَأَمَانِيّهُ تُشَبّهُ بِالْخَيَالِ وَمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ . وَأَمّا قَوْلُهُ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبّك [ الْقَلَمِ 19 ] فَلَيْسَ فِيهِ إلّا اسْمُ الْفَاعِلِ دُونَ الْمَصْدَرِ لِأَنّ الّذِي طَافَ عَلَيْهَا لَهُ حَقِيقَةٌ وَهُوَ فَاعِلٌ مَعْرُوفٌ بِالْفِعْلِ يُقَالُ إنّهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ ، فَتَحَصّلَ مِنْ هَذَا ثَلَاثُ مَرَاتِبَ الْخَيَالُ وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ فَلَا يُعَبّرُ عَنْهُ إلّا بِالطّيْفِ وَحَدِيثُ الشّيْطَانِ وَوَسْوَسَتُهُ يُقَالُ فِيهِ طَائِفٌ وَطَيْفٌ وَكُلّ طَائِفٍ سِوَى هَذَيْنِ فَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ لَا يُعَبّرُ عَنْهُ بِطَيْفِ وَلَا بِطَوَافِ فَقِفْ عَلَى هَذِهِ النّكْتَةِ فِيهِ . وَقَوْلُهُ يُؤَرّقُنِي إذَا ذَهَبَ الْعِشَاءُ
أَيْ يُسَهّرُنِي ، فَيُقَالُ كَيْفَ يُسَهّرُهُ الطّيْفُ وَالطّيْفُ حُلْمٌ فِي الْمَنَامِ ؟ . فَالْجَوَابُ أَنّ الّذِي يُؤَرّقُهُ لَوْعَةٌ يَجِدُهَا عِنْدَ زَوَالِهِ كَمَا قَالَ [ حَبِيبُ بْنُ أَوْسٍ أَبُو تَمّامٍ ] الطّائِيّ :
ظَبْيٌ تَقَنّصْتُهُ لَمّا نَصَبْت لَهُ ... مِنْ آخِرِ اللّيْلِ أَشْرَاكًا مِنْ الْحُلْمِ
ثُمّ انْثَنَى ، وَبِنَا مِنْ ذِكْرِهِ سَقَمٌ ... بَاقٍ وَإِنْ كَانَ مَعْسُولًا مِنْ السّقَمِ
وَقَدْ أَحْسَنَ فِي قَوْلِهِ مِنْ آخِرِ اللّيْلِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنّهُ سَهِرَ لَيْلَهُ كُلّهُ إلّا سَاعَةً جَاءَ الْخَيَالُ مِنْ آخِرِهِ فَكَأَنّهُ مُسْتَرَقٌ مِنْ قَوْلِ حَسّانٍ وَخَيَالٌ إذَا تَقُومُ النّجُومُ
[ ص 186 ] الْبُحْتُرِيّ
أَلَمّتْ بِنَا بَعْدَ الْهُدُوّ فَسَامَحَتْ ... بِوَصْلِ مَتَى تَطْلُبْهُ فِي الْجِدّ تَمْنَعْ
وَوَلّتْ كَأَنّ الْبَيْنَ يَخْلُجُ شَخْصَهَا ... أَوَانَ تَوَلّتْ مِنْ حِشَائِي وَأَضْلُعِي
وَقَوْلُهُ لِشَعْثَاءَ الّتِي قَدْ تَيّمَتْهُ
شَعْثَاءُ الّتِي يُشَبّبُ بِهَا حَسّانُ هِيَ بِنْتُ سَلّامِ بْنِ مِشْكَمٍ الْيَهُودِيّ وَرُوِيَ أَنّهُ قَالَ يَا مَعْشَرَ يَهُودَ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنّ مُحَمّدًا نَبِيّ ، وَلَوْلَا أَنْ تُعَيّرَ بِهَا شَعْثَاءُ ابْنَتِي لَتَبِعْته ، وَقَدْ كَانَتْ تَحْتَ حَسّانٍ أَيْضًا امْرَأَةٌ اسْمُهَا شَعْثَاءُ بِنْتُ كَاهِنٍ الْأَسْلَمِيّةُ وَلَدَتْ لَهُ أُمّ فِرَاسٍ . وَقَوْلُهُ كَأَنّ خَبِيئَةً مِنْ بَيْتِ رَأْسٍ
إلَى آخِرِهِ خَبَرُ كَأَنّ فِي هَذَا الْبَيْتِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ كَأَنّ فِي فِيهَا خَبِيئَةً وَمِثْلُ هَذَا الْمَحْذُوفِ فِي النّكِرَاتِ حَسَنٌ كَقَوْلِهِ إنّ مَحَلّا وَإِنّ مُرْتَحِلًا
أَيْ إنّ لَنَا مَحَلّا ، وَكَقَوْلِ الْآخَرِ وَلَكِنّ زِنْجِيّا طَوِيلًا مَشَافِرُهْ
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيّ فِي صِفَةِ الدّجّالِ أَعْوَرَ كَأَنّ عِنَبَةً طَافِيَةً أَيْ كَأَنّ فِي عَيْنِهِ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنّ بَعْدَ هَذَا الْبَيْتِ بَيْتًا فِيهِ الْخَبَرُ وَهُوَ
عَلَى أَنْيَابِهَا أَوْ طَعْمُ غَضّ ... مِنْ التّفّاحِ هَصَرَهُ اجْتِنَاءُ
وَهَذَا الْبَيْتُ مَوْضُوعٌ لَا يُشْبِهُ شِعْرَ حَسّانٍ وَلَا لَفْظَهُ . [ ص 187 ] نُوَلّيهَا الْمَلَامَةَ إنْ أَلَمْنَا
أَيْ إنْ أَتَيْنَا بِمَا نُلَامُ عَلَيْهِ صَرَفْنَا اللّوْمَ إلَى الْخَمْرِ وَاعْتَذَرْنَا بِالسّكْرِ . وَالْمَغْتُ الضّرْبُ بِالْيَدِ وَاللّحَاءُ الْمُلَاحَاةُ بِاللّسَانِ وَيُرْوَى أَنّ حَسّانًا مَرّ بِفِتْيَةِ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فِي الْإِسْلَامِ فَنَهَاهُمْ فَقَالُوا : وَاَللّهِ لَقَدْ أَرَدْنَا تَرْكَهَا فَيُزَيّنُهَا لَنَا قَوْلُك : وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا
فَقَالَ وَاَللّهِ لَقَدْ قُلْتهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ وَمَا شَرِبْتهَا مُنْذُ أَسْلَمْت ، وَكَذَلِكَ قِيلَ إنّ بَعْضَ هَذِهِ الْقَصِيدَةِ قَالَهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ وَقَالَ آخِرَهَا فِي الْإِسْلَامِ . مَعْنَى التّفْضِيلِ فِي شَرّكُمَا : وَفِيهَا يَقُولُ لِأَبِي سُفْيَانَ فَشَرّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ
وَفِي ظَاهِرُ اللّفْظِ بَشَاعَةٌ لِأَنّ الْمَعْرُوفَ أَنْ لَا يُقَالَ هُوَ شَرّهُمَا إلّا وَفِي كِلَيْهِمَا شَرّ ، وَكَذَلِكَ شَرّ مِنْك ، وَلَكِنّ سِيبَوَيْهِ قَالَ فِي كِتَابِهِ تَقُولُ مَرَرْت بِرَجُلِ شَرّ مِنْك ، إذَا نَقَصَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ وَهَذَا يَدْفَعُ الشّنَاعَةَ عَنْ الْكَلَامِ الْأَوّلِ وَنَحْوٌ مِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ شَرّ صُفُوفِ الرّجَالِ آخِرُهَا يُرِيدُ نُقْصَانَ حَظّهِمْ عَنْ حَظّ الْأَوّلِ كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ التّفْضِيلَ فِي الشّرّ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
يَلْطِمُ أَوْ يُطَلّمُ
[ ص 188 ] يَلْطِمُهُنّ بِالْخُمُرِ النّسَاءُ
قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ فِي الْجَمْهَرَةِ كَانَ الْخَلِيلُ رَحِمَهُ اللّهُ يَرْوِي بَيْتَ حَسّانٍ يُطَلّمُهُنّ بِالْخُمُرِ وَيُنْكِرُ يُلَطّمُهُنّ وَيَجْعَلُهُ بِمَعْنَى : يَنْفُضُ النّسَاءُ بِخُمُرِهِنّ مَا عَلَيْهِنّ مِنْ غُبَارٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَأَتْبَعَ بِذَلِكَ ابْنُ دُرَيْدٍ قَوْلُهُ الطّلْمُ ضَرْبُك خُبْزَةَ الْمَلّةِ بِيَدِك لِتَنْفُضَ مَا عَلَيْهَا مِنْ الرّمَادِ وَالطّلْمَةُ الْخُبْزَةُ وَمَعَهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرَرْنَا بِقَوْمِ يُعَالِجُونَ طَلْمَةً لَهُمْ فَنَفَرْنَاهُمْ عَنْهَا ، فَاقْتَسَمْنَاهَا ، فَأَصَابَتْنِي مَعَهَا كِسْرَةٌ وَكُنْت أَسْمَعُ فِي بَلَدِي أَنّهُ مَنْ أَكَلَ الْخُبْزَ سَمِنَ فَجَعَلْت أَنْظُرُ فِي عِطْفِي : هَلْ ظَهَرَ فِيّ السّمَنُ بَعْدُ . وَمِمّا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رُئِيَ يَمْسَحُ وَجْهَ فَرَسِهِ بِرِدَائِهِ فَقَالَ عُوتِبْت اللّيْلَةَ فِي الْخَيْلِ وَفِيهَا : وَنُحْكِمُ بِالْقَوَافِي مَنْ هَجَانَا
[ ص 189 ] حَكَمَةِ الدّابّةِ وَهُوَ لِجَامُهَا ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى أَيْضًا : نُفْحِمُهُمْ وَنُخْرِسُهُمْ فَتَكُونُ قَوَافِينَا لَهُمْ كَالْحَكَمَاتِ لِلدّوَابّ قَالَ زُهَيْرٌ قَدْ أُحْكِمَتْ حَكَمَاتِ الْقَدّ وَالْأَبْقَا
وَفِي هَذِهِ الْقَصِيدَةِ مَوْعِدُهَا كَدَاءُ ، وَفِي رِوَايَةِ الشّيْبَانِيّ يَسِيلُ بِهَا كُدَيّ أَوْ كَدَاءُ . وَقَدْ ذَكَرْنَا كُدَيّا وَكَدَاءَ ، وَذَكَرْنَا مَعَهُمَا كُدًى ، وَزَادَ الشّيْبَانِيّ فِي رِوَايَتِهِ أَبْيَاتًا فِي هَذِهِ الْقَصِيدَةِ وَهِيَ
وَهَاجَتْ دُونَ قَتْلِ بَنِي لُؤَيّ ... جَذِيمَةُ إنّ قَتْلَهُمْ شِفَاءُ
وَحِلْفُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ ... وَحِلْفُ قُرَيْظَةَ فِينَا سَوَاءُ
أُولَئِكَ مَعْشَرٌ أَلّبُوا عَلَيْنَا ... فَفِي أَظْفَارِنَا مِنْهُمْ دِمَاءُ
سَتُبْصِرُ كَيْفَ نَفْعَلُ بِابْنِ حَرْبٍ ... بِمَوْلَاك الّذِينَ هُمْ الرّدَاءُ

شِعْرُ أَنَسِ بْنِ زُنَيْمٍ فِي الِاعْتِذَارِ إلَى الرّسُولِ
مِمّا قَالَ ابْنُ سَالِمٍ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ أَنَسُ بْنُ زُنَيْمٍ الدّيلِيّ يَعْتَذِرُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِمّنْ كَانَ قَالَ فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيّ :
أَأَنْتَ الّذِي تُهْدِي مَعَدّ بِأَمْرِهِ ... بَلْ اللّهُ يَهْدِيهِمْ وَقَالَ لَك اشْهَدْ
وَمَا حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ رَحْلِهَا ... أَبَرّ وَأَوْفَى ذِمّةً مِنْ مُحَمّدِ
أَحَثّ عَلَى خَيْرٍ وَأَسْبَغَ نَائِلًا ... إذَا رَاحَ كَالسّيْفِ الصّقِيلِ الْمُهَنّدِ
وَأَكْسَى لِبُرْدِ الْخَالِ قَبْلَ ابْتِذَالِهِ ... وَأَعْطَى لِرَأْسِ السّابِقِ الْمُتَجَرّدِ
تَعَلّمْ رَسُولَ اللّهِ أَنّك مُدْرِكِي ... وَأَنّ وَعِيدًا مِنْك كَالْأَخْذِ بِالْيَدِ
تَعَلّمْ رَسُولَ اللّهِ أَنّك قَادِرٌ ... عَلَى كُلّ صِرْمٍ مُتْهِمِينَ وَمُنْجِدِ
تَعَلّمْ بِأَنّ الرّكْبَ رَكْبُ عُوَيْمِرٍ ... هُمْ الْكَاذِبُونَ الْمُخْلِفُو كُلّ مَوْعِدِ
ونَبّوْا رَسُولَ اللّهِ أَنّي هَجَوْته ... فَلَا حَمَلَتْ سَوْطِي إلَيّ إذَنْ يَدِي
سِوَى أَنّنِي قَدْ قُلْت وَيْلَ أُمّ فِتْيَةٍ ... أُصِيبُوا بِنَحْسِ لَا يُطْلَقُ وَأَسْعُدِ
أَصَابَهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ لِدِمَائِهِمْ ... كِفَاءُ فَعَزّتْ عِبْرَتِي وَتَبَلّدِي
فَإِنّك قَدْ أَخْفَرْت إنْ كُنْت سَاعِيًا ... بِعَبْدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ وَابْنَةِ مَهْوَدِ
ذُؤَيْبٌ وَكُلْثُومٌ وَسَلْمَى تَتَابَعُوا ... جَمِيعًا فَإِلّا تَدْمَعْ الْعَيْنُ أَكْمَدْ
وَسَلْمَى وَسَلْمَى لَيْسَ حَيّ كَمِثْلِهِ ... وَإِخْوَتِهِ وَهَلْ مُلُوكٌ كَأَعْبُدِ ؟
فَإِنّي لَا دِينًا فَتَقْت وَلَا دَمًا ... هَرَقْت تَبِين عَالِمَ الْحَقّ وَاقْصِدْ
شِعْرُ بُدَيْلٍ فِي الرّدّ عَلَى ابْنِ زُنَيْمٍ
[ ص 191 ] بُدَيْلُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ ابْنُ أُمّ أَصْرَمَ ، فَقَالَ
بَكَى أَنَسٌ رَزْنًا فَأَعْوَلَهُ اُلْبُكَا ... فَأَلّا عَدِيّا إذْ تُطَلّ وَتُبْعَدُ
بَكَيْت أَبَا عَبْسٍ لِقُرْبِ دِمَائِهَا ... فَتُعْذِرَ إذْ لَا يُوقِدُ الْحَرْبَ مُوقَدُ
أَصَابَهُمْ يَوْمَ الْخَنَادِمِ فِتْيَةٌ ... كِرَامٌ فَسَلْ مِنْهُمْ نُفَيْلُ وَمَعْبَدُ
هُنَالِكَ إنْ تَسْفَحْ دُمُوعُك لَا تُلَمْ ... عَلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ تَدْمَعْ الْعَيْنُ فَاكْمَدُوا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ .
Sحَوْلَ شِعْرِ أَنَسِ بْنِ سُلَيْمٍ
فَصْلٌ
[ ص 190 ] وَذَكَرَ شِعْرَ أَنَسِ بْنِ سُلَيْمٍ الدّيلِيّ وَفِيهِ وَأَكْسَى لِبُرْدِ الْخَالِ قَبْلَ ابْتِذَالِهِ
الْخَالُ مِنْ بُرُودِ الْيَمَنِ وَهُوَ مِنْ رَفِيعِ الثّيَابِ وَأَحْسَبُهُ سُمّيَ بِالْخَالِ الّذِي بِمَعْنَى الْخُيَلَاءِ كَمَا قَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ : الْبَرّ أَبْغِي لَا الْخَالَ وَفِيهِ
تَعَلّمْ رَسُولَ اللّهِ أَنّك مُدْرِكِي ... وَأَنّ وَعِيدًا مِنْك كَالْأَخْذِ بِالْيَدِ
وَهَذَا الْبَيْتُ سَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الْوَرْدِ كَذَا أَلْفَيْته فِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ رَحِمَهُ اللّهُ وَمَعْنَاهُ مِنْ أَحْسَنِ الْمَعَانِي يُنْظَرُ إلَى قَوْلِ النّابِغَةِ
فَإِنّك كَاللّيْلِ الّذِي هُوَ مُدْرِكِي ... وَإِنْ خِلْت أَنّ الْمُنْتَأَى عَنْك وَاسِعُ
خَطَاطِيفُ حُجْنٍ فِي حِبَالٍ مَتِينَةٍ ... تُمَدّ بِهَا أَيْدٍ إلَيْك نَوَازِعُ
[ ص 191 ] النّابِعَةِ وَالْقَسِيمُ الثّانِي كَالْبَيْتِ الثّانِي ، لَكِنّهُ أَطْبَعُ مِنْهُ وَأَوْجَزُ . وَقَوْلُ النّابِغَةِ كَاللّيْلِ فِيهِ مِنْ حُسْنِ التّشْبِيهِ مَا لَيْسَ فِي قَوْلِ الدّيلِيّ إلّا أَنّهُ يَسْمُجُ مِثْلُ هَذَا التّشْبِيهِ فِي النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأَنّهُ نُورٌ وَهُدًى ، فَلَا يُشَبّهُ بِاللّيْلِ وَإِنّمَا حَسُنَ فِي قَوْلِ النّابِغَةِ أَنْ يَقُولَ كَاللّيْلِ وَلَمْ يَقُلْ كَالصّبْحِ لِأَنّ اللّيْلَ تُرْهَبُ غَوَائِلُهُ وَيُحْذَرُ مِنْ إدْرَاكِهِ مَا لَا يَحْذَرُ مِنْ النّهَارِ وَقَدْ أَخَذَ بَعْضُ الأندلسيين هَذَا الْمَعْنَى ، فَقَالَ فِي هَرَبِهِ مِنْ ابْنِ عَبّادٍ
كَأَنّ بِلَادَ اللّهِ وَهِيَ عَرِيضَةٌ ... تَشُدّ بِأَقْصَاهَا عَلَيّ الْأَنَامِلَا
فَأَيْنَ مَفَرّ الْمَرْءِ عَنْك بِنَفْسِهِ ... إذَا كَانَ يَطْوِي فِي يَدَيْك الْمَرَاحِلَا
وَهَذَا كُلّهُ مَعْنًى مُنْتَزَعٌ مِنْ الْقُدَمَاءِ . رَوَى الطّبَرِيّ أَنّ " منوشهر بْنَ إيرج بْنِ أفريدون بْنِ أَثَفَيَانِ " وَهُوَ الّذِي بُعِثَ مُوسَى عَلَيْهِ السّلَامُ فِي زَمَانِهِ أَعْنِي زَمَانَ منوشهر قَالَ حِينَ عَقَدَ التّاجَ عَلَى رَأْسِهِ فِي خُطْبَةٍ لَهُ طَوِيلَةٍ " أَيّهَا النّاسُ إنّ الْخَلْقَ لِلْخَالِقِ وَإِنّ الشّكْرَ لِلْمُنْعِمِ وَإِنّ التّسْلِيمَ لِلْقَادِرِ وَإِنّهُ لَا أَضْعَفَ مِنْ مَخْلُوقٍ طَالِبًا أَوْ مَطْلُوبًا ، وَلَا أَقْوَى مِنْ طَالِبٍ طِلْبَتُهُ فِي يَدِهِ وَلَا أَعْجَزَ مِنْ مَطْلُوبٍ هُوَ فِي يَدِ طَالِبِهِ " .

شِعْرُ بُجَيْرٍ فِي يَوْمِ الْفَتْحِ
[ ص 192 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى فِي يَوْمِ الْفَتْحِ [ ص 193 ]
نَفَى أَهْلَ الْحَبَلّقِ كُلّ فَجّ ... مُزَيْنَةُ غُدْوَةً وَبَنُو خِفَافِ
ضَرَبْنَاهُمْ بِمَكّةَ يَوْمَ فَتْحِ النّ ... صَبَحْنَاهُمْ بِسَبْعِ مِنْ سُلَيْمٍ ... وَأَلْفٍ مِنْ بَنِي عُثْمَانَ وَافِ
نَطَا أَكْتَافَهُمْ ضَرْبًا وَطَعْنًا ... وَرَشْقًا بِالْمَرِيشَةِ اللّطَافِ
نَرَى بَيْنَ الصّفُوفِ لَهَا حَفِيفًا ... كَمَا انْصَاعَ الْفُوَاقُ مِنْ الرّصَافِ
فَرُحْنَا وَالْجِيَادُ تَجُولُ فِيهِمْ ... بِأَرْمَاحِ مُقَوّمَةِ الثّقَافِ
فَأُبْنَا غَانِمِينَ بِمَا اشْتَهَيْنَا ... وَآبُوا نَادِمِينَ عَلَى الْخِلَافِ
وَأَعْطَيْنَا رَسُولَ اللّهِ مِنّا ... مَوَاثِقَنَا عَلَى حُسْنِ التّصَافِي
وَقَدْ سَمِعُوا مَقَالَتَنَا فَهَمّوا ... غَدَاةَ الرّوْعِ مِنّا بِانْصِرَافِ
Sحَوْلَ شِعْرِ بُجَيْرِ بْنِ زُهَيْرٍ
192 وَأَنْشَدَ لِبُجَيْرِ بْنِ زُهَيْرٍ
نَفَى أَهْلَ الْحَبَلّقِ كُلّ فَجّ ... مُزَيْنَةُ غُدْوَةً وَبَنُو خِفَافِ
ا لْحَبَلّقُ أَرْضٌ يَسْكُنُهَا قَبَائِلُ مِنْ مُزَيْنَةَ ، وَقَيْسٍ : وَالْحَبَلّقُ الْغَنَمُ الصّغَارُ وَلَعَلّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ أَهْلَ الْحَبَلّقِ أَصْحَابَ الْغَنَمِ وَبَنُو عُثْمَانَ هُمْ مُزَيْنَةُ وَهُمْ بَنُو عُثْمَانَ بْنِ لَاطِمِ بْنِ أَدّ بْنِ طَابِخَةَ وَمُزَيْنَةُ أُمّهُمْ بِنْتُ كَلْبِ بْنِ وَبَرَةَ بْنِ تَغْلِبَ بْنِ حُلْوَانَ بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ ، وَأُخْتُهَا : الْحَوْأَبُ الّتِي عُرِفَ بِهَا مَاءُ الْحَوْأَبِ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَأَصْلُ الْحَوْأَبِ فِي اللّغَةِ الْقَدَحُ الضّخْمُ الْوَاسِعُ وَبَنُو خِفَافٍ بَطْنٌ مِنْ سُلَيْمٍ وَقَوْلُهُ
ضَرَبْنَاهُمْ بِمَكّةَ يَوْمَ فَتْحِ النّ ... فِي الْبَيْتِ مُدَاخَلَةٌ وَهُوَ انْتِهَاءُ الْقَسِيمِ الْأَوّلِ فِي بَعْضِ كَلِمَةٍ مِنْ الْقَسِيمِ الثّانِي ، وَهُوَ عَيْبٌ عِنْدَهُمْ إلّا فِي الْخَفِيفِ وَالْهَزَجِ وَمَعْنَى الْخَيْرِ أَيْ ذُو الْخَيْرِ وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ الْخَيّرَ فَخَفّفَ كَمَا يُقَالُ هَيْنٌ وَهَيّنٌ . وَفِي التّنْزِيلِ { خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } [ الرّحْمَنِ 70 ] . وَقَوْلُهُ كَمَا انْصَاعَ الْفُوَاقُ مِنْ الرّصَافِ
أَيْ ذَهَبَ وَالرّصَافُ عَصَبَةٌ تُلْوَى عَلَى فَوْقِ السّهْمِ وَأَرَادَ بِالْفُوَاقِ الْفَوْقَ وَهُوَ غَرِيبٌ . [ ص 193 ] وَذَكَرَ صَاحِبُ الْعَيْنِ فِي الْفُوَاقِ صَوْتَ الصّدْرِ وَهُوَ بِالْهَمْزِ فِي قَوْلِ ابْنِ الْأَعْرَابِيّ ، لِأَنّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ .

شِعْرُ ابْنِ مِرْدَاسٍ فِي فَتْحِ مَكّةَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَ ابْنُ مِرْدَاسٍ السّلَمِيّ فِي فَتْحِ مَكّةَ :
مِنّا بِمَكّةَ يَوْمَ فَتْحِ مُحَمّدٍ ... أَلْفٌ تَسْهِيلُ بِهِ الْبِطَاحُ مُسَوّمُ
نَصَرُوا الرّسُولَ وأشاهدا أَيّامِهِ ... وَشِعَارُهُمْ يَوْمَ اللّقَاءِ مُقَدّمُ
فِي مَنْزِلٍ ثَبَتَتْ بِهِ أَقْدَامُهُمْ ... ضَنْكٍ كَأَنّ الْهَامَ فِيهِ الْحَنْتَمُ
اللّهُ مُسَكّنُهُ لَهُ وَأَذَلّهُ ... حُكْمُ السّيُوفِ لَنَا وَجْدٌ مُزْحِم
عُودُ الرّيَاسَةِ شَامِخٌ عُرَنِيّتُهُ ... مُتَطَلّعٌ ثَغْرَ الْمَكَارِمِ خَضْرَمُ
إسْلَامُ عَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَكَانَ إسْلَامُ عَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ فِيمَا حَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ وَحَدِيثُهُ أَنّهُ كَانَ لِأَبِيهِ مِرْدَاسٍ وَثَنٌ يَعْبُدُهُ وَهُوَ حَجَرٌ كَانَ يُقَالُ لَهُ ضِمَارٌ ، فَلَمّا [ ص 194 ] حَضَرَ مِرْدَاسٌ قَالَ لِعَبّاسِ أَيْ بُنَيّ اُعْبُدْ ضَمَارِ فَإِنّهُ يَنْفَعُك وَيَضُرّك ، فَبَيْنَا عَبّاسٌ يَوْمًا عِنْدَ ضَمَارِ ، إذْ سَمِعَ مِنْ جَوْفِ ضَمَارِ مُنَادِيًا يَقُولُ
قُلْ لِلْقَبَائِلِ مِنْ سُلَيْمٍ كُلّهَا ... أَوْدَى ضِمَارٌ وَعَاشَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ
إنّ الّذِي وَرِثَ النّبُوّةَ وَالْهُدَى ... بَعْدَ ابْنِ مَرْيَمَ مِنْ قُرَيْشٍ مُهْتَدِي
أَوْدَى ضِمَارٌ وَكَانَ يُعْبَدُ مُدّةً ... قَبْلَ الْكِتَابِ إلَى النّبِيّ مُحَمّدِ
فَحَرَقَ عَبّاسٌ ضَمَارِ ، وَلَحِقَ بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَسْلَمَ .
Sعَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ وَاَلّذِينَ حَرّمُوا الْخَمْرَ
وَذَكَرَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ وَيُكَنّى أَبَا الْفَضْلِ وَقِيلَ أَبَا الْهَيْثَمِ وَمِنْ ذُرّيّتِهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ فَقِيهُ الْأَنْدَلُسِ وَنَسَبُهُ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسِ بْنِ أَبِي عَامِرِ بْنِ جَارِيَةَ بْنِ عَبْدِ بْنِ عَبّاسِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ بُهْثَةَ بْنِ سُلَيْمٍ السّلَمِيّ كَانَ أَبُوهُ حَاجِبًا لِحَرْبِ بْنِ أُمَيّةَ وَقَتَلَتْهُمَا الْجِنّ فِي خَبَرٍ مَشْهُورٍ وَعَبّاسٌ مِمّنْ حَرّمَ عَلَى نَفْسِهِ الْخَمْرَ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَحَرّمَهَا أَيْضًا عَلَى نَفْسِهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ وَعُثْمَانُ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، وَقَيْسُ بْنُ [ ص 194 ] ، وَقَبْلَ هَؤُلَاءِ حَرّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ عَبْدُ الْمُطّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ وَوَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ جُدْعَانَ وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ، وَمِنْ قُدَمَاءِ الْجَاهِلِيّةِ عَامِرُ بْنُ الظّرِبِ الْعُدْوَانِيّ . وَذَكَرَ فِي سَبَبِ إسْلَامِ عَبّاسٍ مَا سَمِعَ مِنْ جَوْفِ الصّنَمِ الّذِي كَانَ يَعْبُدُهُ وَهُوَ ضَمَارِ بِكَسْرِ الرّاءِ وَهُوَ مِثْلُ حَذَامِ وَرَقَاشِ وَلَا يَكُونُ مِثْلُ هَذَا الْبِنَاءِ إلّا فِي أَسْمَاءِ الْمُؤَنّثِ وَكَانُوا يَجْعَلُونَ آلِهَتَهُمْ إنَاثًا كَاَللّاتِي وَالْعُزّى وَمَنَاةَ لِاعْتِقَادِهِمْ الْخَبِيثَ فِي الْمَلَائِكَةِ أَنّهَا بَنَاتٌ . وَفِي ضَمَارِ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ ، وَبَنِيّ تَمِيمٍ الْبِنَاءُ عَلَى الْكَسْرِ لَا غَيْرُ مِنْ أَجْلِ أَنّ آخِرَهُ رَاءٌ وَمَا لَمْ يَكُنْ فِي آخِرِهِ رَاءٌ كَحَذَامِ وَرَقَاشِ فَهُوَ مَبْنِيّ فِي لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَمُعْرَبٌ غَيْرُ مُجْرًى فِي لُغَةِ غَيْرِهِمْ كَذَلِكَ قَالَ سِيبَوَيْهِ . وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدّنْيَا فِي سَبَبِ إسْلَامِ عَبّاسٍ حَدِيثًا أَسْنَدَهُ عَنْ رِجَالِهِ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَنَسٍ السّلْمَانِيّ عَنْ عَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ أَنّهُ كَانَ فِي لِقَاحٍ لَهُ نِصْفَ النّهَارِ فَاطّلَعَتْ عَلَيْهِ نَعَامَةٌ بَيْضَاءُ عَلَيْهَا رَاكِبٌ عَلَيْهِ ثِيَابٌ بَيَاضٌ فَقَالَ لِي : يَا عَبّاسُ أَلَمْ تَرَ أَنّ السّمَاءَ كَفّتْ أَحْرَاسَهَا ، وَأَنّ الْحَرْبَ جَرَعَتْ أَنْفَاسَهَا ، وَأَنّ الْخَيْلَ وَضَعَتْ أَحْلَاسَهَا ، وَأَنّ الّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ الْبِرّ وَالتّقَى يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لَيْلَةَ الثّلَاثَاءِ صَاحِبَ النّاقَةِ الْقَصْوَاءِ . قَالَ فَخَرَجْت مَرْعُوبًا قَدْ رَاعِنِي مَا رَأَيْت ، وَسَعَيْت ، حَتّى جِئْت وَثَنًا لِي ، يُقَالُ لَهُ الضّمَارِ كُنّا نَعْبُدُهُ وَنُكَلّمُ مِنْ جَوْفِهِ فَكَنَسْت مَا حَوْلَهُ ثُمّ تَمَسّحْت بِهِ فَإِذَا صَائِحٌ يَصِيحُ مِنْ جَوْفِهِ
قُلْ لِلْقَبَائِلِ مِنْ قُرَيْشٍ كُلّهَا ... هَلَكَ الضّمَارُ وَفَازَ أَهْلُ الْمَسْجِد
هَلَكَ الضّمَارُ وَكَانَ يُعْبَدُ مُدّةً ... قَبْلَ الصّلَاةِ عَلَى النّبِيّ مُحَمّدِ
إنّ الّذِي وَرِثَ النّبُوّةَ وَالْهُدَى ... بَعْدَ ابْنِ مَرْيَمَ مِنْ قُرَيْشٍ مُهْتَدِي
قَالَ فَخَرَجْت مَذْعُورًا حَتّى جِئْت قَوْمِي ، فَقَصَصْت عَلَيْهِمْ الْقِصّةَ وَأَخْبَرْتهمْ الْخَبَرَ فَخَرَجْت فِي ثَلَاثِمِائَةٍ مِنْ قَوْمِي مِنْ بَنِي جَارِيَةَ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْمَدِينَةِ فَدَخَلْنَا الْمَسْجِدَ فَلَمّا [ ص 195 ] رَآنِي النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَبَسّمَ وَقَالَ " إلَيّ يَا عَبّاسُ كَيْفَ إسْلَامُك ؟ " فَقَصَصْت عَلَيْهِ الْقِصّةَ فَقَالَ صَدَقْت ، فَأَسْلَمْت أَنَا وَقَوْمِي .

شِعْرُ جَعْدَةَ فِي يَوْمِ الْفَتْحِ
[ ص 195 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَ جَعْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْخُزَاعِيّ يَوْمَ فَتْحِ مَكّةَ :
أَكَعْبُ بْنُ عَمْرٍو دَعْوَةٌ غَيْرُ بَاطِلٍ ... لِحَيْنِ لَهُ يَوْمَ الْحَدِيدِ مُتَاحِ
أُتِيحَتْ لَهُ مِنْ أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ ... لِتَقْتُلَهُ لَيْلًا بِغَيْرِ سِلَاحِ
وَنَحْنُ الْأُلَى سَدّتْ غَزَالَ خُيُولُنَا ... وَلَفْتًا سَدَدْنَاهُ وَفَجّ طِلَاحِ
خَطَرْنَا وَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ بِجَحْفَلِ ... ذَوِي عَضُدٍ مِنْ خَيْلِنَا وَرِمَاحِ
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ .
شِعْرُ بُجَيْدٍ فِي يَوْمِ الْفَتْحَ
وَقَالَ بُجَيْدُ بْنُ عِمْرَانَ الْخُزَاعِيّ :
وَقَدْ أَنْشَأَ اللّهُ السّحَابَ بِنَصْرِنَا ... رُكَامَ صِحَابِ الْهَيْدَبِ الْمُتَرَاكِبِ
وَهِجْرَتُنَا فِي أَرْضِنَا عِنْدَنَا بِهَا ... كِتَابٌ أَتَى مِنْ خَيْرِ مُمْلٍ وَكَاتِبِ
وَمِنْ أَجْلِنَا حَلّتْ بِمَكّةَ حُرْمَةٌ ... لِنُدْرِكَ ثَأْرًا بِالسّيُوفِ الْقَوَاضِبِ
Sشِعْرُ جَعْدَةَ
فَصْلٌ وَذَكَرَ فِي شِعْرِ جَعْدَةَ الْخُزَاعِيّ غَزَالَ ، وَهُوَ اسْمُ طَرِيقٍ غَيْرُ مَصْرُوفٍ وَقَالَ كُثَيّرُ فِي قَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ يَذْكُرُ غَزَالَ :
أُنَادِيك مَا حَجّ الْحَجِيجُ وَكَبّرَتْ ... بِفَيْفَا غَزَالٍ رُفْقَةٌ وَأَهَلّتْ
وَكَذَلِكَ لَفْتٌ اسْمُ مَوْضِعٍ وَفِي لَفْتٍ يَقُولُ مَعْقِلُ بْنُ خُوَيْلِدٍ
لَعَمْرُك مَا خَشِيت وَقَدْ بَلَغْنَا ... جِبَالَ الْجَوْزِ مِنْ بَلَدٍ تَهَامِ
نَزِيعًا مُحْلِبًا مِنْ أَهْلِ لَفْتٍ ... لِحَيّ بَيْنَ أُثْلَةَ وَالنّجَامِ
وَقَدْ تَقَدّمَ هَذَا الْبَيْتُ الْأَخِيرُ فِي بَابِ الْهِجْرَةِ .

مَسِيرُ خَالِدِ بْنِ الْوَلَيدِ بَعْدَ الْفَتْحِ إلَى بَنِي جَذِيمَةَ
مِنْ كِنَانَةَ وَمَسِيرُ عَلِيّ لِتَلَافِي خَطَأَ خَالِدٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا حَوْلَ مَكّةَ السّرَايَا تَدْعُو إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِقِتَالِ وَكَانَ مِمّنْ بَعَثَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ بِأَسْفَلَ تِهَامَةَ دَاعِيًا ، وَلَمْ يَبْعَثْهُ مُقَاتِلًا ، فَوَطِئَ بَنِي جَذِيمَةَ فَأَصَابَ مِنْهُمْ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السّلَمِيّ فِي ذَلِكَ
فَإِنْ تَكُ قَدْ أَمّرْت فِي الْقَوْمِ خَالِدًا ... وَقَدّمْته فَإِنّهُ قَدْ تَقَدّمَا
بِجُنْدِ هَدَاهُ اللّهُ أَنْتَ أَمِيرُهُ ... نُصِيبُ بِهِ فِي الْحَقّ مَنْ كَانَ أَظْلَمَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ فِي حَدِيثِ يَوْمِ حُنَيْنٍ ، سَأَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللّهُ فِي مَوْضِعِهَا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي حَكِيمُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ عَبّادِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمّدِ بْنِ عَلِيّ ، قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ حِينَ افْتَتَحَ مَكّةَ دَاعِيًا ، وَلَمْ يَبْعَثْهُ مُقَاتِلًا ، وَمَعَهُ قَبَائِلُ مِنْ الْعَرَبِ : سُلَيْمُ بْنُ مَنْصُورٍ وَمُدْلِجُ بْنُ مُرّةَ فَوَطِئُوا بَنِي جَذِيمَةَ بْنَ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ فَلَمّا رَآهُ الْقَوْمُ أَخَذُوا السّلَاحَ فَقَالَ خَالِدٌ ضَعُوا السّلَاحَ فَإِنّ النّاسَ قَدْ أَسْلَمُوا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ قَالَ لَمّا أَمَرَنَا خَالِدٌ أَنْ نَضَعَ السّلَاحَ قَالَ رَجُلٌ مِنّا يُقَالُ لَهُ جَحْدَمٌ وَيْلَكُمْ يَا بَنِي جَذِيمَةَ إنّهُ خَالِدٌ وَاَللّهِ مَا بَعْدَ وَضْعِ السّلَاحِ إلّا الْإِسَارُ وَمَا بَعْدَ الْإِسَارِ إلّا ضَرْبُ الْأَعْنَاقِ وَاَللّهِ لَا أَضَعُ سِلَاحِي أَبَدًا . قَالَ فَأَخَذَهُ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالُوا : يَا جَحْدَمُ أَتُرِيدُ أَنْ تَسْفِكَ دِمَاءَنَا ؟ إنّ النّاسَ قَدْ أَسْلَمُوا وَوَضَعُوا السّلَاحَ وَوُضِعَتْ الْحَرْبُ وَأَمِنَ النّاسُ فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتّى نَزَعُوا سِلَاحَهُ وَوَضَعَ الْقَوْمُ السّلَاحَ لِقَوْلِ خَالِدٍ .
بَرَاءَةُ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ عَمَلِ خَالِدٍ
[ ص 197 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي حَكِيمُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمّدِ بْنِ عَلِيّ ، قَالَ فَلَمّا وَضَعُوا السّلَاحَ أَمَرَ بِهِمْ خَالِدٌ عِنْدَ ذَلِكَ فَكُتّفُوا ، ثُمّ عَرَضَهُمْ عَلَى السّيْفِ فَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ فَلَمّا انْتَهَى الْخَبَرُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَفَعَ يَدَيْهِ إلَى السّمَاءِ ثُمّ قَالَ اللّهُمّ إنّي أَبْرَأُ إلَيْك مِمّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ [ ص 198 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّهُ حُدّثَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَحْمُودِيّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَأَيْت كَأَنّي لَقَمْت لُقْمَةً مِنْ حَيْسٍ فَالْتَذَذْت طَعْمَهَا ، فَاعْتَرَضَ فِي حَلْقِي مِنْهَا شَيْءٌ حِينَ ابْتَلَعْتهَا ، فَأَدْخَلَ عَلِيّ يَدَهُ فَنَزَعَهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَا رَسُولَ اللّهِ هَذِهِ سَرِيّةٌ مِنْ سَرَايَاك تَبْعَثُهَا ، فَيَأْتِيك مِنْهَا بَعْضُ مَا تُحِبّ ، وَيَكُونُ فِي بَعْضِهَا اعْتِرَاضٌ فَتَبْعَثُ عَلِيّا فَيُسَهّلُهُ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي أَنّهُ انْفَلَتَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فَأَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَلْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ؟ فَقَالَ نَعَمْ قَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ رَجُلٌ أَبْيَضُ رَبْعَةٌ فَنَهَمَهُ خَالِدٌ فَسَكَتَ عَنْهُ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ طَوِيلٌ مُضْطَرِبٌ فَرَاجَعَهُ فَاشْتَدّتْ مُرَاجَعَتُهُمَا ؛ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ : أَمّا الْأَوّلُ يَا رَسُولَ اللّهِ فَابْنِي عَبْدُ اللّهِ وَأَمّا الْآخَرُ فَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي حَكِيمُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمّدِ بْنِ عَلِيّ قَالَ ثُمّ دَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ فَقَالَ يَا عَلِيّ ، اُخْرُجْ إلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ فَانْظُرْ فِي أَمْرِهِمْ وَاجْعَلْ أَمْرَ الْجَاهِلِيّةِ تَحْتَ قَدَمَيْك . فَخَرَجَ عَلِيّ حَتّى جَاءَهُمْ وَمَعَهُ مَالٌ قَدْ بَعَثَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَوَدَى لَهُمْ الدّمَاءَ وَمَا أُصِيبَ لَهُمْ مِنْ الْأَمْوَالِ حَتّى إنّهُ لَيُدْنِي لَهُمْ مِيلَغَةَ الْكَلْبِ حَتّى إذَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ وَلَا مَالٍ إلّا وَدَاهُ بَقِيَتْ مَعَهُ بَقِيّةٌ مِنْ الْمَالِ فَقَالَ لَهُمْ عَلِيّ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ حِينَ فَرَغَ مَعَهُمْ هَلْ بَقِيَ لَكُمْ بَقِيّةٌ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ لَمْ يُودَ لَكُمْ ؟ قَالُوا : لَا . قَالَ فَإِنّي أُعْطِيكُمْ هَذِهِ الْبَقِيّةَ مِنْ هَذَا الْمَالِ احْتِيَاطًا لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِمّا يَعْلَمُ وَلَا تَعْلَمُونَ فَفَعَلَ . ثُمّ رَجَعَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ فَقَالَ أَصَبْت وَأَحْسَنْت . قَالَ ثُمّ قَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ قَائِمًا شَاهِرًا يَدَيْهِ حَتّى إنّهُ لَيُرَى مِمّا تَحْتَ مَنْكِبَيْهِ يَقُولُ اللّهُمّ إنّي أَبْرَأُ إلَيْك مِمّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ثَلَاثَ مَرّاتٍ
Sسَرِيّةُ خَالِدٍ إلَى بَنِي جَذِيمَةَ
[ ص 196 ] وَذَكَرَ سَرِيّةَ خَالِدٍ إلَى بَنِي جَذِيمَةَ وَتُعْرَفُ بِغَزْوَةِ الْغَميْطِ وَهُوَ اسْمُ مَاءٍ لِبَنِي جَذِيمَةَ .

الِاعْتِذَارُ عَنْ خَالِدٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَنْ يَعْذُرُ خَالِدًا إنّهُ قَالَ مَا قَاتَلْت حَتّى أَمَرَنِي بِذَلِكَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ حُذَافَةَ السّهْمِيّ ، وَقَالَ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ أَمَرَك أَنْ تُقَاتِلَهُمْ لِامْتِنَاعِهِمْ مِنْ الْإِسْلَامِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَالَ أَبُو عَمْرٍو الْمَدَنِيّ : لَمّا أَتَاهُمْ خَالِدٌ قَالُوا : صَبَأْنَا صَبَأْنَا .
بَيْنَ خَالِدٍ وَبَيْنَ ابْنِ عَوْفٍ
[ ص 199 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَ جَحْدَمُ قَالَ لَهُمْ حِينَ وَضَعُوا السّلَاحَ وَرَأَى مَا يَصْنَعُ خَالِدٌ بِبَنِي جَذِيمَةَ يَا بَنِي جَذِيمَةَ ضَاعَ الضّرْبُ ، قَدْ كُنْت حَذّرْتُكُمْ مَا وَقَعْتُمْ فِيهِ . قَدْ كَانَ بَيْنَ خَالِدٍ وَبَيْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، فِيمَا بَلَغَنِي ، الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ : عَمِلْت بِأَمْرِ الْجَاهِلِيّةِ فِي الْإِسْلَامِ . فَقَالَ إنّمَا ثَأَرْت بِأَبِيك . فَقَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ كَذَبْت ، قَدْ قَتَلْت قَاتِلَ أَبِي ، وَلَكِنّك ثَأَرْت بِعَقّك الْفَاكِهَ بْنَ الْمُغِيرَةِ ، حَتّى كَانَ بَيْنَهُمَا شَرّ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ مَهْلًا يَا خَالِدُ دَعْ عَنْك أَصْحَابِي ، فَوَاَللّهِ لَوْ كَانَ لَك أُحُدٌ ذَهَبًا ثُمّ أَنْفَقْته فِي سَبِيلِ اللّهِ مَا أَدْرَكْت غُدْوَةَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِي وَلَا رَوْحَتَهُ
بَيْنَ قُرَيْشٍ وَبَنِيّ جَذِيمَةَ
وَكَانَ الْفَاكِهُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ ، وَعَوْفُ بْنُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ وَعَفّانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ قَدْ خَرَجُوا تُجّارًا إلَى الْيَمَنِ ، وَمَعَ عَفّانَ ابْنُهُ عُثْمَانُ وَمَعَ عَوْفٍ ابْنُهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ فَلَمّا أَقْبَلُوا حَمَلُوا مَالَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ بْنِ عَامِرٍ كَانَ هَلَكَ بِالْيَمَنِ إلَى وَرَثَتِهِ فَادّعَاهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ خَالِدُ بْنُ هِشَامٍ وَلَقِيَهُمْ بِأَرْضِ بَنِي جَذِيمَةَ قَبْلَ أَنْ يَصِلُوا إلَى أَهْلِ الْمَيّتِ فَأَبَوْا عَلَيْهِ فَقَاتَلَهُمْ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى الْمَالِ لِيَأْخُذُوهُ وَقَاتَلُوهُ فَقُتِلَ عَوْفُ بْنُ عَبْدِ عَوْفٍ وَالْفَاكِهُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ، وَنَجَا عَفّانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ وَابْنُهُ عُثْمَانُ وَأَصَابُوا مَالَ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَمَالَ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ عَوْفٍ فَانْطَلَقُوا بِهِ وَقَتَلَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ خَالِدَ بْنَ هِشَامٍ قَاتِلَ أَبِيهِ فَهَمّتْ قُرَيْشٌ بِغَزْوِ بَنِي جَذِيمَةَ فَقَالَتْ بَنُو جَذِيمَةَ : مَا كَانَ مُصَابُ أَصْحَابِكُمْ عَلَى مَلَإِ مِنّا ، إنّمَا عَدَا عَلَيْهِمْ قَوْمٌ بِجَهَالَةِ فَأَصَابُوهُمْ وَلَمْ نَعْلَمْ فَنَحْنُ نَعْقِلُ لَكُمْ مَا كَانَ لَكُمْ قِبَلَنَا مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ فَقَبِلَتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ وَوَضَعُوا الْحَرْبَ .

شِعْرُ سَلْمَى فِيمَا بَيْنَ جَذِيمَةَ وَقُرَيْشٍ
وَقَالَ قَائِلٌ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا سَلْمَى :
وَلَوْلَا مَقَالُ الْقَوْمِ لِلْقَوْمِ أَسْلِمُوا ... لَلَاقَتْ سُلَيْمٌ يَوْمَ ذَلِكَ نَاطِحَا
لَمَاصَعَهُمْ بُسْرٌ وَأَصْحَابُ جَحْدَمٍ ... وَمُرّةُ حَتّى يَتْرُكُوا الْبَرْكَ ضَابِحَا
فَكَائِنٌ تَرَى يَوْمَ الْعَمِيصَاءِ مِنْ فَتًى ... أُصِيبَ وَلَمْ يُجْرَحْ وَقَدْ كَانَ جَارِحَا
أَلَظّتْ بِخُطّابِ الْأَيَامَى وَطَلّقَتْ ... غَدَاتَئِذٍ مِنْهُنّ مَنْ كَانَ نَاكِحَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْلُهُ " بُسْرٌ " " وَأَلَظّتْ بِخُطّابِ " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ .
شِعْرُ ابْنِ مِرْدَاسٍ فِي الرّدّ عَلَى سَلْمَى
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَجَابَهُ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ وَيُقَالُ بَلْ الْجَحّافُ بْنُ حَكِيمٍ السّلَمِيّ :
دَعِي عَنْك تَقْوَالَ الضّلَالِ كَفَى بِنَا ... لِكَبْشِ الْوَغَى فِي الْيَوْمِ وَالْأَمْسِ نَاطِحَا
فَخَالِدُ أَوْلَى بِالتّعَذّرِ مِنْكُمْ ... غَدَاةَ عَلَا نَهْجًا مِنْ الْأَمْرِ وَاضِحَا
مُعَانًا بِأَمْرِ اللّهِ يُزْجِي إلَيْكُمْ ... سَوَانِحٌ لَا تَكْبُو لَهُ وَبَوَارِحَا
نَعَوْا مَالِكًا بِالسّهْلِ لَمّا هَبَطْنَهُ ... عَوَابِسَ فِي كَابِي الْغُبَارِ كَوَالِحَا
فَإِنْ نَكُ أَثْكَلْنَاك سَلْمَى فَمَالِكٌ ... تَرَكْتُمْ عَلَيْهِ نَائِحَاتٍ وَنَائِحَا
الْجَحّافُ يَرُدّ عَلَى سَلْمَى
قَالَ الْجَحّافُ بْنُ حَكِيمٍ السّلَمِيّ :
شَهِدْنَ مَعَ النّبِيّ مُسَوّمَاتٍ ... حُنَيْنًا وَهِيَ دَامِيَةُ الْكَلَامِ
وَغَزْوَةَ خَالِدٍ شَهِدَتْ وَجَرّتْ ... سَنَابِكَهُنّ بِالْبَلَدِ الْحَرَامِ
نَعْرِضُ لِلطّعَانِ إذَا الْتَقَيْنَا ... وُجُوهًا لَا تُعَرّضُ لِلّطَامِ
وَلَسْت بِخَالِعِ عَنّي ثِيَابِي ... إذَا هَزّ الْكُمَاةُ وَلَا أُرَامِي
وَلَكِنّي يَجُولُ الْمُهْرُ تَحْتِي ... إلَى الْعَلَوَاتِ بِالْعَضْبِ الْحُسَامِ
حَدِيثُ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ يَوْمَ الْفَتْحِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ عَنْ الزّهْرِيّ ، عَنْ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيّ قَالَ كُنْت يَوْمَئِذٍ فِي خَيْلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ، فَقَالَ لِي فَتًى مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ وَهُوَ فِي سِنّي ، وَقَدْ جُمِعَتْ يَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ بِرُمّةِ وَنِسْوَةٌ مُجْتَمِعَاتٌ غَيْرَ بَعِيدٍ مِنْهُ يَا فَتَى ، فَقُلْت : مَا تَشَاءُ ؟ قَالَ هَلْ أَنْتَ آخِذٌ بِهَذِهِ الرّمّةِ فَقَائِدِي إلَى هَؤُلَاءِ [ ص 201 ] بَدَا لَكُمْ ؟ قَالَ قُلْت : وَاَللّهِ لَيَسِيرٌ مَا طَلَبْت . فَأَخَذْت بِرُمّتِهِ فَقُدْته بِهَا ، حَتّى وَقَفَ عَلَيْهِنّ فَقَالَ اسْلَمِي حُبَيْشُ عَلَى نَفَدٍ مِنْ الْعَيْشِ
أَرَيْتُك إذْ طَالَبْتُكُمْ فَوَجَدْتُكُمْ ... بِحَلْيَةَ أَوْ أَلْفَيْتُكُمْ بِالْخَوَانِقِ
أَلَمْ يَكُ أَهْلًا أَنْ يُنَوّلَ عَاشِقٌ ... تَكَلّفَ إدْلَاجَ السّرَى وَالْوَدَائِقِ
فَلَا ذَنْبَ لِي قَدْ قُلْت إذْ أَهْلُنَا مَعًا ... أَثِيبِي بِوُدّ قَبْلَ إحْدَى الصّفَائِقِ
أَثِيبِي بِوُدّ قَبْلَ أَنْ تُشْحَطَ النّوَى ... وَيَنْأَى الْأَمِيرُ بِالْحَبِيبِ الْمُفَارِقِ
فَإِنّيَ لَا ضَيّعْت سِرّ أَمَانَةٍ ... وَلَا رَاقَ عَيْنِي عَنْك بُعْدَك رَائِقِ
سِوَى أَنّ مَا نَالَ الْعَشِيرَةَ شَاغِلٌ ... عَنْ الْوُدّ إلّا أَنْ يَكُونَ التّوَامُقِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ يُنْكِرُ الْبَيْتَيْنِ الْآخَرَيْنِ مِنْهَا لَهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيّ قَالَتْ
وَأَنْت فَحُيّيت سَبْعًا وَعَشْرًا ... وِتْرًا وَثَمَانِيًا تَتْرَى
قَالَ ثُمّ انْصَرَفْت بَهْ فَضَرَبْت عُنُقَهُ . [ ص 202 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي أَبُو فِرَاسِ بْنُ أَبِي سُنْبُلَةَ الْأَسْلَمِيّ عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْهُمْ عَمّنْ كَانَ حَضَرَهَا مِنْهُمْ قَالُوا : فَقَامَتْ إلَيْهِ حِينَ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ فَأَكَبّتْ عَلَيْهِ فَمَا زَالَتْ تُقَبّلُهُ حَتّى مَاتَتْ عِنْدَهُ .
S[ ص 197 ] وَذَكَرَ شِعْرَ امْرَأَةٍ اسْمُهَا : سَلْمَى ، وَفِيهِ وَمُرّةُ حَتّى يَتْرُكُوا الْبَرْكَ ضَابِحَا
الْبَرْكُ : جَمَاعَةُ الْإِبِلِ وَمَاصَعَ جَالَدَ وَقَاتَلَ وَضَابِحَا مِنْ الضّبْحِ وَهُوَ نَفْسُ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ إذَا عُيّيَتْ وَفِي التّنْزِيلِ وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا وَفِي الْخَبَرِ : مَنْ سَمِعَ ضَبْحَةً بِلَيْلِ فَلَا يَخْرُجُ مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَهُ شَرّ . قَالَ الرّاجِزُ نَحْنُ نَطَحْنَاهُمْ غَدَاةَ الْجَمْعَيْنِ
بِالضّابِحَاتِ فِي غُبَارِ النّقْعَيْنِ
نَطْحًا شَدِيدًا لَا كَنَطْحِ الطّورَيْنِ
وَالضّبْحُ وَالضّبْيُ مَصْدَرُ ضَبَحَتْ وَضُبِيَتْ أَيْ شُوِيَتْ وَقُلِيَتْ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ . قَالَ وَالْمَضَابِي وَالْمَضَابِحُ هُوَ الْمَقَالِي . وَذَكَرَ تَبَرّؤَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِمّا فَعَلَ خَالِدٌ وَهَذَا نَحْوٌ مِمّا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ حِينَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا : إنّ فِي سَيْفِ خَالِدٍ رَهَقًا . إنّ فِي سَيْفِ خَالِدٍ رَهَقًا فَاقْتُلْهُ وَذَلِكَ حِينَ قَتَلَ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ ، وَجَعَلَ رَأْسَهُ تَحْتَ قِدْرٍ حَتّى طُبِخَ بِهِ وَكَانَ مَالِكٌ ارْتَدّ ثُمّ رَاجَعَ الْإِسْلَامَ وَلَمْ يُظْهِرْ ذَلِكَ لِخَالِدِ وَشَهِدَ عِنْدَهُ رَجُلَانِ مِنْ الصّحَابَةِ بِرُجُوعِهِ إلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَقْبَلْهُمَا ، وَتَزَوّجَ امْرَأَتَهُ فَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ اُقْتُلْهُ فَقَالَ لَا أَفْعَلُ لِأَنّهُ مُتَأَوّلٌ فَقَالَ اعْزِلْهُ فَقَالَ لَا أَغْمِدُ سَيْفًا سَلّهُ اللّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَلَا أَعْزِلُ وَالِيًا وَلّاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَذَكَرَ قَوْلَ الرّجُلِ لِلْمَرْأَةِ اسْلِمِي حُبَيْشُ عَلَى نَفَدِ الْعَيْشِ النّفَدُ مَصْدَرُ نَفِدَ إذَا فَنِيَ وَهُوَ النّفَادُ وَحُبَيْشٌ مُرَحّمٌ مِنْ حُبَيْشَةَ . [ ص 198 ] [ ص 199 ] [ ص 200 ] شِعْرُ أَبِي حَدْرَدٍ وَحَلْيَةُ وَالْخَوَانِقُ : مَوْضِعَانِ وَالْوَدَائِقُ جَمْعُ وَدِيقَةٍ وَهُوَ شِدّةُ الْحَرّ فِي الظّهِيرَةِ [ ص 201 ] وَنَحْوِهِ وَقَالَ الرّاجِزُ
وَقَامَ مِيزَانُ النّهَارِ فَاعْتَدَلْ ... وَسَالَ لِلشّمْسِ لُعَابٌ فَنَزَلْ
وَقَالَ الْأَحْوَلُ يُقَالُ وَدَقَ إذَا دَنَا مِنْ الْأَرْضِ وَيُقَالُ هُوَ وَادِقُ السّرّةِ إذَا كَانَتْ مَائِلَةً إلَى جِهَةِ الْأَرْضِ وَأَنْشَدَ وَادِقًا سُرّاتُهَا
فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْوَدِيقَةُ مِنْ وَدَقَتْ الشّمْسُ إذَا دَنَتْ مِنْ الْأُفُقِ فَاشْتَدّ حَرّهَا ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ . [ ص 202 ] فَنَهَمَهُ خَالِدٌ أَيّ زَجَرَهُ وَنَجَهَهُ وَرَوَى النّسَائِيّ فِي قِصّةِ الْمَرْأَةِ الّتِي مَاتَتْ [ ص 203 ] قَالَ حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَلِيّ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عَلِيّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَافِدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَزِيدَ النّحْوِيّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعَثَ سَرِيّةً قَالَ فَغَنِمُوا وَفِيهِمْ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُمْ إنّي لَسْت مِنْهُمْ عَشِقْت امْرَأَةً فَلَحِقْتهَا ، فَدَعَوْنِي أَنْظُرُ إلَيْهَا نَظْرَةً ثُمّ اصْنَعُوا بِي مَا بَدَا لَكُمْ قَالَ فَإِذَا امْرَأَةٌ طَوِيلَةٌ أَدْمَاءُ فَقَالَ لَهَا : اسْلِمِي حُبَيْشُ قَبْلَ نَفَدِ الْعَيْشِ وَذَكَرَ الْبَيْتَيْنِ الْأَوّلِينَ مِنْ الْقِطْعَةِ الْقَافِيّةِ أَوّلَ هَذَا الْخَبَرِ نَاقِصِي الْوَزْنِ وَبَعْدَهُمَا قَالَتْ نَعَمْ فَدَيْتُك ، فَقَدّمُوهُ فَضَرَبُوا عُنُقَهُ فَجَاءَتْ الْمَرْأَةُ فَوَقَفَتْ عَلَيْهِ فَشَهِقَتْ شَهْقَةً أَوْ [ ص 204 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ ، فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَحِيمٌ . خَرّجَهُ النّسَوِيّ فِي بَابِ قَتْلِ الْأُسَارَى مِنْ مُصَنّفِهِ .

شِعْرُ جَذِيمِيّ فِي الْفَتْحِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ
جَزَى اللّهُ عَنّا مُدْلِجًا حَيْثُ أَصْبَحَتْ ... جَزَاءَةَ بُوسَى حَيْثُ سَارَتْ وَحَلّتْ
أَقَامُوا عَلَى أَقْضَاضِنَا يَقْسِمُونَهَا ... وَقَدْ نَهِلَتْ فِينَا الرّمَاحُ وَعَلّتْ
فَوَاَللّهِ لَوْلَا دِينُ آلِ مُحَمّدٍ ... لَقَدْ هَرَبَتْ مِنْهُمْ خُيُولٌ فَشُلّتْ
وَمَا ضَرّهُمْ أَنْ لَا يُعِينُوا كَتِيبَةً ... كَرِجْلِ جَرَادٍ أُرْسِلَتْ فَاشْمَعَلّتِ
فَإِمّا يَنْبُوَا أَوْ يَثُوبُوا لِأَمْرِهِمْ ... فَلَا نَحْنُ نَجْزِيهِمْ بِمَا قَدْ أَضَلّتْ
وَهْبٌ يَرُدّ عَلَى الْجَذِيمِيّ
فَأَجَابَهُ وَهْبٌ رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ فَقَالَ
دَعَوْنَا إلَى الْإِسْلَامِ وَالْحَقّ عَامِرًا ... فَمَا ذَنْبُنَا فِي عَامِرٍ إذْ تَوَلّتْ
وَمَا ذَنْبُنَا فِي عَامِرٍ لَا أَبَا لَهُمْ ... لِأَنْ سَفِهَتْ أَحْلَامُهُمْ ثُمّ ضَلّتْ
وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ
لِيَهْنِئْ بَنِي كَعْبٍ مُقَدّمِ خَالِدٍ ... وَأَصْحَابِهِ إذْ صَبّحَتْنَا الْكَتَائِبُ
فَلَا تِرَةٌ يَسْعَى بِهَا ابْنُ خُوَيْلِدٍ ... وَقَدْ كُنْت مَكْفِيّا لَوْ انّكَ غَائِبُ
فَلَا قَوْمُنَا يَنْهَوْنَ عَنّا غُوَاتَهُمْ ... وَلَا الدّاءَ مِنْ يَوْمِ الْغُمَيْصَاءِ ذَاهِبُ
شِعْرُ غُلَامٍ جَذِيمِيّ هَارِبٍ أَمَامَ خَالِدٍ
وَقَالَ غُلَامٌ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ وَهُوَ يَسُوقُ بِأُمّهِ وَأُخْتَيْنِ لَهُ وَهُوَ هَارِبٌ بِهِنّ مِنْ جَيْشِ خَالِدٍ
رَخّينَ أَذْيَالَ الْمُرُوطِ وَأَرْبِعَنْ ... مَشْيَ حَيِيّاتٍ كَأَنْ لَمْ يُفْزَعَنْ
إنْ تُمْنَعْ الْيَوْمَ نِسَاءٌ تُمْنَعُنْ
ارْتِجَازُ بَنِي مُسَاحِقٍ حِينَ سَمِعُوا بِخَالِدٍ
[ ص 203 ] وَقَالَ غِلْمَةٌ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو مُسَاحِقٍ يَرْتَجِزُونَ حِينَ سَمِعُوا بِخَالِدٍ فَقَالَ أَحَدُهُمْ
قَدْ عَلِمَتْ صَفْرَاءُ بَيْضَاءُ الْإِطِلْ ... يَحُوزُهَا ذُو ثَلّةٍ وَذُو إبِلْ
لَأُغْنِيَنّ الْيَوْمَ مَا أَغْنَى رَجُلْ
وَقَالَ الْآخَرُ
قَدْ عَلِمَتْ صَفْرَاءُ تُلْهِي الْعِرْسَا ... لَا تَمْلَأْ الْحَيْزُومَ مِنْهَا نَهْسَا
لَأَضْرِبَنّ الْيَوْمَ ضَرْبًا وَعْسَا ... ضَرْبَ الْمُحِلّينَ مَخَاضًا قُعْسَا
وَقَالَ الْآخَرُ
أَقْسَمْت مَا إنْ خَادِرٌ ذُو لِبْدَةٍ ... شَثْنُ الْبَنَانِ فِي غَدَاةٍ بَرْدَةٍ
جَهْمُ الْمُحَيّا ذُو سِبَالٍ وَرْدَةٍ ... يُرْزِمُ بَيْنَ أَيْكَةٍ وَجَحْدَةٍ
ضَارٍ بِتَأْكَالِ الرّجَالِ وَحْدَةٍ ... بِأَصْدَقِ الْغَدَاةِ مِنّي نَجْدَةٍ

مَسِيرُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ لِهَدْمِ الْعُزّى
ثُمّ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إلَى الْعُزّى ، وَكَانَتْ بِنَخْلَةَ وَكَانَتْ بَيْتًا يُعَظّمُهُ هَذَا الْحَيّ مِنْ قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ وَمُضَرَ كُلّهَا ، وَكَانَتْ سَدَنَتُهَا وَحُجّابُهَا بَنِي شَيْبَانَ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ حُلَفَاءِ بَنِي هَاشِمٍ فَلَمّا سَمِعَ صَاحِبُهَا السّلَمِيّ بِمَسِيرِ خَالِدٍ إلَيْهَا ، عَلّقَ عَلَيْهَا سَيْفَهُ وَأَسْنَدَ فِي الْجَبَلِ الّذِي هِيَ فِيهِ وَهُوَ يَقُولُ
أَيَا عُزّ شُدّي شَدّةً لَا شَوَى لَهَا ... عَلَى خَالِدٍ أَلْقِي الْقِنَاعَ وَشَمّرِي
يَا عُزّ إنْ لَمْ تَقْتُلِي الْمَرْءَ خَالِدًا ... فَبُوئِي بِإِثْمٍ عَاجِلٍ أَوْ تُنْصَرِي
فَلَمّا انْتَهَى إلَيْهَا خَالِدٌ هَدَمَهَا ، ثُمّ رَجَعَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . [ ص 204 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ أَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَكّةَ بَعْدَ فَتْحِهَا خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً يَقْصُرُ الصّلَاةَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ فَتْحُ مَكّةَ لِعَشْرِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ .

غَزْوَةُ حُنَيْنٍ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ بَعْدَ الْفَتْحِ
[ ص 205 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا سَمِعَتْ هَوَازِنُ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِ مِنْ مَكّةَ ، جَمَعَهَا مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النّضْرِيّ فَاجْتَمَعَ إلَيْهِ مَعَ هَوَازِنَ ثَقِيفٌ كُلّهَا ، وَاجْتَمَعَتْ نَصْرٌ وَجُشَمٌ كُلّهَا ، وَسَعْدُ بْنُ بَكْرٍ ، وَنَاسٌ مِنْ بَنِي هِلَالٍ وَهُمْ قَلِيلٌ وَلَمْ يَشْهَدْهَا مِنْ قَيْسِ عَيْلَانَ إلّا هَؤُلَاءِ وَغَابَ عَنْهَا فَلَمْ يَحْضُرْهَا مِنْ هَوَازِنَ كَعْبٌ وَلَا كِلَابٌ وَلَمْ يَشْهَدْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ لَهُ اسْمٌ وَفِي بَنِي جُشَمٍ دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ إلّا التّيَمّنُ بِرَأْيِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِالْحَرْبِ وَكَانَ شَيْخًا مُجَرّبًا ، وَفِي ثَقِيفٍ سَيّدَانِ لَهُمْ . فِي الْأَحْلَافِ قَارِبُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مُعَتّبٍ وَفِي بَنِي مَالِكٍ ذُو الْخِمَارِ سُبَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكٍ وَأَخُوهُ أَحْمَرُ بْنُ الْحَارِثِ وَجِمَاعُ أَمْرِ النّاسِ إلَى مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النّصْرِيّ . فَلَمّا أَجْمَعَ السّيْرَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَطّ مَعَ النّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ فَلَمّا نَزَلَ بِأَوْطَاسٍ [ ص 206 ] دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ فِي شِجَارٍ لَهُ يُقَادُ بِهِ فَلَمّا نَزَلَ قَالَ " بِأَيّ وَادٍ [ ص 207 ] قَالُوا : بِأَوْطَاسٍ قَالَ " نِعْمَ مَجَالُ الْخَيْلِ لَا حَزْنٌ ضَرِسْ وَلَا سَهْلٌ دَهِسْ مَا لِي أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ وَنُهَاقَ الْحَمِيرِ وَبُكَاءَ الصّغِيرِ وَيُعَارَ الشّاءِ ؟ " قَالُوا : سَاقَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ مَعَ النّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ . قَالَ " أَيْنَ مَالِكٌ ؟ " قِيلَ هَذَا مَالِكٌ وَدُعِيَ لَهُ فَقَالَ " يَا مَالِكُ إنّك قَدْ أَصْبَحْت رَئِيسَ قَوْمِك ، وَإِنّ هَذَا يَوْمٌ كَائِنٌ لَهُ مَا بَعْدَهُ مِنْ الْأَيّامِ . مَا لِي أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ وَنُهَاقَ الْحَمِيرِ وَبُكَاءَ الصّغِيرِ وَيُعَارَ الشّاءِ ؟ " قَالَ سُقْت مَعَ النّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ قَالَ " وَلِمَ ذَاكَ ؟ " قَالَ أَرَدْت أَنْ أَجْعَلَ خَلْفَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَهْلُهُ وَمَالُهُ لِيُقَاتِلَ عَنْهُمْ قَالَ " فَأَنْقَضَ بِهِ " . ثُمّ قَالَ رَاعِي ضَأْنٍ وَاَللّهِ وَهَلْ يَرُدّ الْمُنْهَزِمَ شَيْءٌ ؟ إنّهَا إنْ كَانَتْ لَك لَمْ يَنْفَعْك إلّا رَجُلٌ بِسَيْفِهِ وَرُمْحِهِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْك فُضِحْت فِي أَهْلِك وَمَالِك ، ثُمّ قَالَ مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلَابٌ ؟ قَالُوا : لَمْ يَشْهَدْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ ، قَالَ " غَابَ الْحَدّ وَالْجَدّ ، وَلَوْ كَانَ يَوْمَ عَلَاءٍ وَرِفْعَةٍ لَمْ تَغِبْ عَنْهُ كَعْبٌ وَلَا كِلَابٌ وَلَوَدِدْت أَنّكُمْ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلَابٌ فَمَنْ شَهِدَهَا مِنْكُمْ ؟ " قَالُوا : عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ ، وَعَوْفُ بْنُ عَامِرٍ ، قَالَ " ذَانَك الْجَذَعَانِ مِنْ عَامِرٍ لَا يَنْفَعَانِ وَلَا يَضُرّانِ يَا مَالِكُ إنّك لَمْ تَصْنَعْ بِتَقْدِيمِ الْبَيْضَةِ بَيْضَةِ هَوَازِنَ إلَى نُحُورِ الْخَيْلِ شَيْئًا ، ارْفَعْهُمْ إلَى مُتَمَنّعِ بِلَادِهِمْ وَعُلْيَا قَوْمِهِمْ ثُمّ أَلْقِ الصّبّاءَ عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ فَإِنْ كَانَتْ لَهُ لَحِقَ بِك مَنْ وَرَاءَك ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْك أَلْفَاك ذَلِكَ قَدْ أَحْرَزْت أَهْلَك وَمَالَك " ، قَالَ وَاَللّهِ لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ إنّك قَدْ كَبِرْت وَكَبِرَ عَقْلُك . وَاَللّهِ لَتُطِيعُنّنِي يَا مَعْشَرَ هَوَازِنَ أَوْ لَأَتّكِئَنّ عَلَى هَذَا السّيْفِ حَتّى يَخْرُجَ مِنْ ظَهْرِي . وَكَرِهَ أَنْ يَكُونَ لِدُرَيْدِ بْنِ الصّمّةِ فِيهَا ذِكْرٌ أَوْ رَأْيٌ فَقَالُوا : أَطَعْنَاك ؛ فَقَالَ دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ : هَذَا يَوْمٌ لَمْ أَشْهَدْهُ وَلَمْ يَفُتْنِي :
يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ ... أَخُبّ فِيهَا وَأَضَعْ
أَقُودُ وَطْفَاءَ الزّمَعْ ... كَأَنّهَا شَاةٌ صَدَعْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ قَوْلَهُ " يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ
" [ ص 208 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ قَالَ مَالِكٌ لِلنّاسِ إذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَاكْسِرُوا جُفُونَ سُيُوفِكُمْ ثُمّ شُدّوا شَدّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ . قَالَ وَحَدّثَنِي أُمَيّةُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ أَنّهُ حَدّثَ أَنّ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ بَعَثَ عُيُونًا مِنْ رِجَالِهِ ، فَأَتَوْهُ وَقَدْ تَفَرّقَتْ أَوْصَالُهُمْ فَقَالَ وَيْلَكُمْ مَا شَأْنُكُمْ ؟ فَقَالُوا : رَأَيْنَا رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ فَوَاَللّهِ مَا تَمَاسَكْنَا أَنْ أَصَابَنَا مَا تَرَى ، فَوَاَللّهِ مَا رَدّهُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِهِ أَنْ مَضَى عَلَى مَا يُرِيدُ .
Sذِكْرُ غَزْوَةِ حُنَيْنٍ
[ ص 205 ] وَحُنَيْنٌ الّذِي عُرِفَ بَهْ الْمَوْضِعُ هُوَ حُنَيْنُ بْنُ قَانِيَةَ بْنِ مَهْلَايِلَ كَذَا قَالَ الْبَكْرِيّ ، وَقَدْ قَدّمْنَا أَنّهُ قَالَ فِي خَيْبَرَ مِثْلَ هَذَا أَنّهُ ابْنُ قَانِيَةَ فَاَللّهُ أَعْلَمُ .
مِنْ الْبَلَاغَةِ النّبَوِيّةِ
وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا : غَزْوَةُ أَوْطَاسٍ سُمّيَتْ بِالْمَوْضِعِ الّذِي كَانَتْ فِيهِ الْوَقْعَةُ وَهُوَ مِنْ وَطَسْت الشّيْءَ وَطْسًا إذَا كَدّرْته ، وَأَثّرْت فِيهِ . وَالْوَطِيسُ نَقْرَةٌ فِي حُجَرٍ تُوقَدُ حَوْلَهُ النّارُ فَيُطْبَخُ بِهِ [ ص 206 ] غَزْوَةِ أَوْطَاسٍ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ وَذَلِكَ حِينَ اسْتَعَرْت الْحَرْبُ وَهِيَ مِنْ الْكَلِمِ الّتِي لَمْ يُسْبَقْ إلَيْهَا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَمِنْهَا هَذِهِ . وَمِنْهَا : مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ قَالَهَا فِي فَضْلِ مَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ عَنْهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَتِيكٍ ، قَالَ ابْنُ عَتِيكٍ وَمَا سَمِعْت هَذِهِ الْكَلِمَةَ يَعْنِي : حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ أَحَدِ الْعَرَبِ قَبْلَهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَمِنْهَا : لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرّتَيْنِ قَالَهَا لِأَبِي عَزّةَ الْجُمَحِيّ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَقَدْ مَضَى حَدِيثُهُ . وَمِنْهَا : لَا يَنْتَطِحُ فِيهَا عَنْزَانِ وَسَيَأْتِي سَبَبُهُمَا . وَمِنْهَا : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ يَا خَيْلَ اللّهِ ارْكَبِي قَالَهَا يَوْمَ حُنَيْنٍ أَيْضًا فِي حَدِيثٍ خَرّجَهُ مُسْلِمٌ وَقَالَ الْجَاحِظُ فِي كِتَابِ الْبَيَانِ عَنْ يُونُسَ بْنِ حَبِيبٍ لَمْ يَبْلُغْنَا مِنْ رَوَائِعِ الْكَلَامِ مَا بَلَغَنَا عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَغَلِطَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَنُسِبَ إلَى التّصْحِيفِ وَإِنّمَا قَالَ الْقَائِلُ مَا بَلَغَنَا عَنْ الْبَتّيّ يُرِيدُ عُثْمَانَ الْبَتّيّ فَصَحّفَهُ الْجَاحِظُ ، وَالنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَجَلّ مِنْ أَنْ يُخْلَطَ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ الْفُصَحَاءِ حَتّى يُقَالَ مَا بَلَغَنَا عَنْهُ مِنْ الْفَصَاحَةِ أَكْثَرُ مِنْ الّذِي بَلَغَنَا عَنْ غَيْرِهِ كَلَامُهُ أَجَلّ مِنْ ذَلِك ، وَأَعْلَى ، صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ .
ابْنُ الصّمّةِ وَالْخَنْسَاءُ
فَصْلٌ وَذَكَرَ دُرَيْدَ بْنَ الصّمّةِ الْجُشَمِيّ أَحَدَ بَنِي جُشَمِ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ ، وَفِيهِ تَقُولُ الْخَنْسَاءُ حِينَ خَطَبَهَا : مَا كُنْت تَارِكَةً بَنِي عَمّي ، كَأَنّهُمْ صُدُورُ الرّمَاحِ ومرتتة شَيْخًا مِنْ بَنِي جُشَمٍ وَهُوَ دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ خُزَاعَةَ بْنِ غَزِيّةَ بْنِ جُشَمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ ، يُكَنّى أَبَا قُرّةَ وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ زِيَادٍ يُقَالُ كَانَ يَوْمَئِذٍ ابْنَ سِتّينَ وَمِائَةٍ وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ كَاتِبُ اللّيْثِ عَنْ اللّيْثِ قَالَ كَانَ دُرَيْدٌ يَوْمَئِذٍ ابْنَ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ . وَقَوْلُهُ فِي شِجَارٍ لَهُ الشّجَارُ مِثْلُ الْهَوْدَجِ وَفِي الْعَيْنِ الشّجَارُ خَشَبُ الْهَوْدَجِ . [ ص 207 ] فَأَنْقَصَ بِهِ أَيْ صَوّتَ بِلِسَانِهِ فِي فَمِهِ مِنْ النّقِيضِ وَهُوَ الصّوْتُ وَقِيلَ الْإِنْقَاضُ بِالْإِصْبَعِ الْوُسْطَى وَالْإِبْهَامِ كَأَنّهُ يَدْفَعُ بِهِمَا شَيْئًا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْبَرْقِيّ . وَقَوْلُهُ رَاعِي ضَأْنٍ يُجَهّلُهُ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ الشّاعِرُ
أَصْبَحْت هُزُءَ الرّاعِي الضّأْنِ أُعْجِبُهُ ... مَاذَا يَرِيبُك مِنّي رَاعِيَ الضّانِ
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - لِرَجُلٍ قُمْ فَمَا نَفَعَك صِدَاغٌ وَلَا رَاعِي ضَأْنٍ . وَالدّرَيْدُ فِي اللّغَةِ تَصْغِيرُ أَدْرَدَ وَهُوَ تَصْغِيرُ التّرْخِيمِ وَالصّمّةُ الشّجَاعُ وَجَمْعُهُ صِمَمٌ . [ ص 208 ] حَدْرَدٍ وَذَكَرَ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ النّصْرِيّ رَئِيسَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ ، وَهُوَ مَالِكُ بْنُ عَوْفِ بْنِ سَعْدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ يَرْبُوعَ بْنِ وَاثِلَةَ بْنِ دُهْمَانَ بْنِ نَصْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ النّصْرِي .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا سَمِعَ بِهِمْ نَبِيّ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعَثَ إلَيْهِمْ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيّ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي النّاسِ فَيُقِيمَ فِيهِمْ حَتّى يَعْلَمَ عِلْمَهُمْ ثُمّ يَأْتِيهِ بِخَبَرِهِمْ . فَانْطَلَقَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ فَدَخَلَ فِيهِمْ فَأَقَامَ فِيهِمْ حَتّى سَمِعَ وَعَلِمَ مَا قَدْ أَجْمَعُوا لَهُ مِنْ حَرْبِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسَمِعَ مِنْ مَالِكٍ وَأَمْرَ هَوَازِنَ مَا هُمْ عَلَيْهِ ثُمّ أَقْبَلَ حَتّى أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ فَقَالَ عُمَرُ كَذَبَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ فَقَالَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ " إنّ أَكْذَبْتنِي فَرُبّمَا كَذَبْت بِالْحَقّ يَا عُمَرُ فَقَدْ كَذّبْت مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنّي ، فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللّهِ أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ كُنْت ضَالّا فَهَدَاك اللّهُ يَا عُمَرُ .
اسْتِعَارَةُ أَدْرُعِ صَفْوَانَ
فَلَمّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ السّيْرَ إلَى هَوَازِنَ لِيَلْقَاهُمْ ذُكِرَ لَهُ أَنّ عِنْدَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ أَدْرَاعًا لَهُ وَسِلَاحًا ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ فَقَالَ يَا أَبَا أُمَيّةَ أَعِرْنَا سِلَاحَك هَذَا نَلْقَ فِيهِ عَدُوّنَا غَدًا " ، فَقَالَ صَفْوَانُ أَغَصْبًا يَا مُحَمّدُ ؟ قَالَ " بَلْ عَارِيّةً وَمَضْمُونَةً حَتّى نُودِيهَا إلَيْك فَقَالَ لَيْسَ بِهَذَا بَأْسٌ فَأَعْطَاهُ مِائَةَ دُرْعٍ بِمَا يَكْفِيهَا مِنْ السّلَاحِ فَزَعَمُوا [ ص 209 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَأَلَهُ أَنْ يَكْفِيَهُمْ حَمْلَهَا ، فَفَعَلَ . قَالَ ثُمّ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَهُ أَلْفَانِ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ مَعَ عَشْرَةِ آلَافٍ مِنْ أَصْحَابِهِ الّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ فَفَتَحَ اللّهُ بِهِمْ مَكّةَ ، فَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا ، وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَتّابَ بْنَ أَسِيدِ بْنِ أَبِي الْعِيصِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ " عَلَى مَكّةَ أَمِيرًا عَلَى مَنْ تَخَلّفَ عَنْهُ مِنْ النّاسِ " ، ثُمّ مَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى وَجْهِهِ يُرِيدُ لِقَاءَ هَوَازِنَ .
Sوَذَكَرَ بَعْثَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَبْدَ اللّهِ بْنَ أَبِي حَدْرَدٍ عَيْنًا إلَى هَوَازِنَ ، وَهُوَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ سَعْدٍ وَسَلَامَةُ هُوَ أَبُو حَدْرَدٍ وَهُوَ مِنْ بَنِي هَوَازِنَ بْنِ أَسْلَمَ بْن أَفْصَى بْنِ حَارِثَةَ وَهُمْ إخْوَةُ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ، أَعْنِي بَنِي أَسْلَمَ بْنِ أَفْصَى ، مَاتَ عَبْدُ اللّهِ سَنَةَ إحْدَى وَسَبْعِينَ وَهُوَ الْعَامُ الّذِي قُتِلَ فِيهِ مُصْعَبُ بْنُ الزّبَيْرِ . شَهِدَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ مَعَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الْحُدَيْبِيَةَ ، وَمَا بَعْدَهَا ، وَفَاتَهُ مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ .

قَصِيدَةُ ابْنِ مِرْدَاسٍ
فَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السّلَمِيّ
أَصَابَتْ الْعَامَ رِعْلًا غُولُ قَوْمِهِمْ ... وَسَطَ الْبُيُوتِ وَلَوْنُ الْغُولِ أَلْوَانُ
يَا لَهْفَ أُمّ كِلَابٍ إذْ تُبَيّتُهُمْ ... خَيْلُ ابْنِ هَوْذَةَ لَا تُنْهَى وَإِنْسَانُ
لَا تَلْفِظُوهَا وَشُدّوا عِقْدَ ذِمّتِكُمْ ... إنّ ابْنَ عَمّكُمْ سَعْدٌ وَدَهْمَانُ
[ ص 210 ] كَانَتْ مُجَلّلَةً ... مَا دَامَ فِي النّعَمِ الْمَأْخُوذِ أَلْبَانُ
شَنْعَاءُ جَلّلَ مِنْ سَوْآتِهَا حَضَنٌ ... وَسَالَ ذُو شَوْغَرٍ مِنْهَا وَسُلْوَانُ
لَيْسَتْ بِأَطْيَبَ مِمّا يَشْتَوِي حَذَفٌ ... إذْ قَالَ كُلّ شِوَاءِ الْعِيرِ جُوفَانُ
[ ص 211 ] ... دَاءُ الْيَمَانِي فَإِنْ لَمْ يَغْدِرُوا خَانُوا
فِيهِمْ أَخٌ لَوْ وَفَوْا أَوْ بَرّ عَهْدَهُمْ ... وَلَوْ نَهَكْنَاهُمْ بِالطّعْنِ قَدْ لَانُوا
أَبْلِغْ هَوَازِنَ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا ... مِنّي رِسَالَةَ نُصْحٍ فِيهِ تِبْيَانُ
أَنّي أَظُنّ رَسُولَ اللّهِ صَابِحَكُمْ ... جَيْشًا لَهُ فِي فَضَاءِ الْأَرْضِ أَرْكَانُ
فِيهِمْ أَخُوكُمْ سُلَيْمٌ غَيْرَ تَارِكِكُمْ ... وَالْمُسْلِمُونَ عِبَادُ اللّهِ غَسّانُ
وَفِي عِضَادَتِهِ الْيُمْنَى بَنُو أَسَدٍ ... وَالْأَجْرَبَانِ بَنُو عَبْسٍ وَذُبْيَانُ
تَكَادُ تَرْجُفُ مِنْهُ الْأَرْضُ رَهْبَتَهُ ... وَفِي مُقَدّمِهِ أَوْسٌ وَعُثْمَانُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : أَوْسٌ وَعُثْمَانُ قَبِيلَا مُزَيْنَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : مِنْ قَوْلِهِ " أَبْلِغْ هَوَازِنَ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا " إلَى آخِرِهَا ، فِي هَذَا الْيَوْمِ وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْيَوْمِ وَهُمَا مَفْصُولَتَانِ وَلَكِنّ ابْنَ إسْحَاقَ جَعَلَهُمَا وَاحِدَةً .
Sحَوْلَ قَصِيدَةِ عَبّاسٍ النّونِيّةِ
[ ص 209 ] وَذَكَرَ شِعْرَ عَبّاسٍ وَفِيهِ أَصَابَتْ الْعَامَ رِعْلًا . وَهِيَ قَبِيلَةٌ مِنْ سُلَيْمٍ وَفِي الْحَدِيثِ " قَنَتَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَهْرَيْنِ يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعَصِيّةَ " ، وَهُمْ الّذِينَ غَدَرُوا بِأَصْحَابِ بِئْرِ مَعُونَةَ . وَقَوْلُهُ خَيْلُ ابْنِ هَوْذَةَ لَا تُنْهَى وَإِنْسَانُ
إنْسَانُ قَبِيلَةٌ مِنْ قَيْسٍ ، ثُمّ مِنْ بَنِي نَصْرٍ قَالَهُ الْبَرْقِيّ ، وَقِيلَ هُمْ مِنْ بَنِي جُشَمِ بْنِ بَكْرٍ وَمِنْ بَنِي إنْسَانَ شَيْطَانُ بْنُ مُدْلِجٍ صَاحِبُ حَمِيدَةَ وَهِيَ فَرَسٌ لَهُ تَضْرِبُ بِهَا الْعَرَبُ الْمَثَلَ فِي الشّؤْمِ فَيُقَالُ أَشْأَمُ مِنْ حَمِيدَةَ وَسَبَبُ ذَلِكَ خَبَرٌ يَطُولُ ذَكَرَهُ الْأَصْبَهَانِيّ فِي الْأَمْثَالِ .
سَعْدٌ وَدَهْمَانُ
وَسَعْدٌ وَدَهْمَانُ ابْنَا نَصْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ كَذَا وَجَدْته فِي بَعْضِ الْمُعَلّقَاتِ وَالْمَعْرُوفُ فِي قَيْسٍ : دُهْمَانَ بْنُ أَشْجَعَ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ وَالِدُ نَصْرِ بْنِ دُهْمَانَ الّذِي عَاشَ [ ص 210 ] فَكَانَ أُعْجُوبَةً فِي الْعَالَمِ وَقَالَ الشّاعِرُ
لِنَصْرِ بْنِ دُهْمَانَ الْهُنَيْدَةُ عَاشَهَا ... وَتِسْعِينَ حَوْلًا ثُمّ قُوّمَ فَانْصَاتَا
وَعَادَ سَوَادُ الرّأْسِ بَعْدَ ابْيِضَاضِهِ ... وَلَكِنّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ قَدْ مَاتَا
وَمِمّنْ ذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ أَبُو الْحَسَنِ الدّارَقُطْنِيّ رَحِمَهُ اللّهُ . وَحُنَيْنٌ : اسْمُ جَبَلٍ وَمِنْهُ الْمَثَلُ أَنْجَدَ مَنْ رَأَى حُنَيْنًا . وَقَوْلُهُ مِمّا يَشْتَوِي حَذَفٌ . الْحَذَفُ غَنَمٌ سُودٌ صِغَارٌ تَكُونُ بِالْيَمَنِ وَفِي الْحَدِيثِ سَوّوا صُفُوفَكُمْ لَا تَخَلّلَكُمْ الشّيَاطِينُ كَأَنّهَا بَنَاتُ حَذَفٍ يَعْنِي فِي الصّفّ فِي الصّلَاةِ هَكَذَا قَالَ الْبَرْقِيّ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْبَيْتِ وَاَلّذِي أَرَادَ الشّاعِرُ إنّمَا هُوَ رَجُلٌ فَلَعَلّهُ كَانَ يُسَمّى بِحَذَفٍ وَالْحَذَفُ هِيَ الْغَنَمُ السّودُ الّتِي ذَكَرْنَا . وَقَوْلُهُ كُلّ شِوَاءِ الْعِيرِ جُوفَانُ . يُقَالُ إنّهُ شُوِيَ لَهُ غُرْمُولُ حِمَارٍ فَأَكَلَهُ فِي الشّوَاءِ فَوَجَدَهُ أَجْوَفَ وَقِيلَ لَهُ إنّهُ الْقُنْبُ أَيْ وِعَاءُ الْقَضِيبِ فَقَالَ كُلّ شِوَاءِ الْعِيرِ جُوفَانُ فَضُرِبَ هَذَا الْكَلَامُ مَثَلًا ، وَقِيلَ كَانَ فَزَارِيّ وَتَغْلِبِيّ وَكَلْبِيّ اجْتَمَعُوا فِي سِرّ وَقَدْ اشْتَوَوْا حِمَارَ وَحْشٍ فَغَابَ الْفَزَارِيّ فِي بَعْضِ حَاجَاتِهِ فَأَكَلَ صَاحِبُهُ الْعِيرَ وَاخْتَبَآ لَهُ غُرْمُولَهُ فَلَمّا جَاءَ قَالَا لَهُ هَذَا خَبْؤُنَا لَك ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ وَلَا يُسِيغُهُ فَضَحِكَا مِنْهُ فَاخْتَرَطَ سَيْفَهُ وَقَالَ لَأَقْتُلَنّكُمَا إنْ لَمْ تَأْكُلَاهُ فَأَبَى أَحَدُهُمَا فَضَرَبَهُ بِالسّيْفِ فَأَبَانَ رَأْسَهُ وَكَانَ اسْمُهُ مِرْقَمَهْ فَقَالَ صَاحِبُهُ طَاحَ مِرْقَمَهْ فَقَالَ الْفَزَارِيّ ، وَأَنْتَ إنْ لَمْ تَلْقُمْهُ أَرَادَ تَلْقُمَهَا ، فَطَرَحَ حَرَكَةَ الْهَاءِ عَلَى الْمِيمِ وَحَذَفَ الْأَلِفَ كَمَا قَدْ قِيلَ فِي الْحِيرَةِ أَيّ رِجَالٍ بِهِ أَيْ بِهَا ، وَقَدْ عُيّرَتْ فَزَارَةُ بِهَذَا الْخَبَرِ حَتّى قَالَ سَالِمُ بْنُ دَارَةَ
لَا تَأْمَنَن فَزَارِيّا خَلَوْت بِهِ ... عَلَى قُلُوصِك ، وَاكْتُبْهَا بِأَسْيَارِ
لَا تَأْمَنَنهُ وَلَا تَأْمَنْ بَوَائِقَهُ ... بَعْدَ الّذِي امْتَلّ أَيْرَ الْعَيْرِ فِي النّارِ
أَطْعَمْتُمْ الضّيْفَ غُرْمُولًا مُخَاتَلَةً ... فَلَا سَقَاكُمْ إلَهِي الْخَالِقُ الْبَارِي
[ ص 211 ] لِلْأَصْبَهَانِيّ . فَهَذَا الْفَزَارِيّ هُوَ حَذَفٌ الْمَذْكُورُ فِي الْبَيْتِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَقَوْلُهُ وَالْأَجْرَبَانِ بَنُو عَبْسٍ وَذُبْيَانُ
سَمّاهُمَا بِالْأَجْرَبَيْنِ تَشْبِيهًا بِالْأَجْرَبِ الّذِي لَا يُقْرَبُ وَقَالَ مَجْذُومٌ مِنْ الْعَرَبِ :
بِأَيّ فَعَالٍ رَبّ أُوتِيت مَا أَرَى ... أَظَلّ كَأَنّي كُلّمَا قُمْت أَجْرَبُ
أَيْ يُفَرّ مِنّي ، وَفِي الْخَبَرِ أَنّ عُمَرَ لَمّا نُهِيَ النّاسُ عَنْ مُجَالَسَةِ ضَبِيغِ بْنِ عَسَلٍ كَانَ كُلّمَا حَلّ مَوْضِعًا تَفَرّقَ النّاسُ عَنْهُ كَأَنّهُ بَعِيرٌ أَجْرَبُ وَمَنْ رَوَاهُ الْأَجْرَبَانُ بِضَمّ النّونِ فَهُوَ جَائِزٌ فِي كُلّ اثْنَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ كَالْجَلَمَيْنِ يُقَالُ فِيهِمَا : الْجَلَمَانُ بِضَمّ النّونِ وَكَذَلِكَ الْقَمَرَانِ وَرُوِيَ أَنّ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - نَادَتْ ابْنَيْهَا فِي لَيْلَةِ ظُلْمَةٍ يَا حَسَنَانُ يَا حُسَيْنَانُ بِضَمّ النّونِ قَالَهُ الْهَرَوِيّ فِي الْغَرِيبَيْنِ .

ذَاتُ أَنْوَاطٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ الدّؤَلِيّ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللّيْثِيّ أَنّ الْحَارِثَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ " خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى حُنَيْنٍ وَنَحْنُ حَدِيثُو عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيّةِ قَالَ فَسِرْنَا مَعَهُ إلَى حُنَيْنٍ ، قَالَ وَكَانَتْ كُفّارُ قُرَيْشٍ وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْعَرَبِ لَهُمْ شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ خَضْرَاءُ يُقَالُ لَهَا : ذَاتُ أَنْوَاطٍ ، يَأْتُونَهَا كُلّ سَنَةٍ فَيُعَلّقُونَ أَسْلِحَتَهُمْ عَلَيْهَا ، وَيَذْبَحُونَ عِنْدَهَا ، وَيَعْكُفُونَ عَلَيْهَا يَوْمًا . قَالَ فَرَأَيْنَا وَنَحْنُ نَسِيرُ مَعَ [ ص 212 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سِدْرَةً خَضْرَاءَ عَظِيمَةً قَالَ فَتَنَادَيْنَا مِنْ جَنَبَاتِ الطّرِيقِ يَا رَسُولَ اللّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ . قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اللّهُ أَكْبَرُ قُلْتُمْ وَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى : اجْعَلْ لَنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إنّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إنّهَا السّنَنُ لَتَرْكَبُنّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ .

ثَبَاتُ الرّسُولِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ ، عَنْ أَبِيهِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ، قَالَ لَمّا اسْتَقْبَلْنَا وَادِيَ حُنَيْنٍ انْحَدَرْنَا فِي وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ تِهَامَةَ أَجْوَفَ حَطُوطٍ إنّمَا نَنْحَدِرُ فِيهِ انْحِدَارًا ، قَالَ وَفِي عَمَايَةِ الصّبْحِ وَكَانَ الْقَوْمُ قَدْ سَبَقُونَا إلَى الْوَادِي ، فَكَمَنُوا لَنَا فِي شِعَابِهِ وَأَحْنَائِهِ وَمَضَايِقِهِ وَقَدْ أَجْمَعُوا وَتَهَيّئُوا وَأَعَدّوا ، فَوَاَللّهِ مَا رَاعَنَا وَنَحْنُ مُنْحَطّونَ إلّا الْكَتَائِبُ قَدْ شَدّوا عَلَيْنَا شَدّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَانْشَمَرَ النّاسُ رَاجِعِينَ لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَانْحَازَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَاتَ الْيَمِينِ ثُمّ قَالَ أَيْنَ أَيّهَا النّاسُ ؟ هَلُمّوا إلَيّ أَنَا رَسُولُ اللّهِ أَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ . قَالَ فَلَا شَيْءَ حَمَلَتْ الْإِبِلُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فَانْطَلَقَ النّاسُ إلّا أَنّهُ قَدْ بَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَفَرٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ .
الّذِينَ ثَبَتُوا
وَفِيمَنْ ثَبَتَ مَعَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ وَابْنُهُ وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبّاسِ وَرَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَأَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ ، قُتِلَ يَوْمَئِذٍ . [ ص 213 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : اسْمُ ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ جَعْفَرٌ وَاسْمُ أَبِي سُفْيَانَ الْمُغِيرَةُ وَبَعْضُ النّاسِ يَعُدّ فِيهِمْ قُثَمَ بْنَ الْعَبّاسِ ، وَلَا يَعُدّ ابْنَ أَبِي سُفْيَانَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ ، عَنْ أَبِيهِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ، قَالَ وَرَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرُ بِيَدِهِ رَايَةٌ سَوْدَاءُ فِي رَأْسِ رُمْحٍ لَهُ طَوِيلٍ أَمَامَ هَوَازِنَ ، وَهَوَازِنُ خَلْفَهُ إذَا أَدْرَكَ طَعَنَ بِرُمْحِهِ وَإِذَا فَاتَهُ النّاسُ رَفَعَ رُمْحَهُ لِمَنْ وَرَاءَهُ فَأَتْبَعُوهُ .
الشّمَاتَةَ بِالْمُسْلِمِينَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا انْهَزَمَ النّاسُ وَرَأَى مَنْ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ جُفَاةِ أَهْلِ مَكّةَ الْهَزِيمَةَ تَكَلّمَ رِجَالٌ مِنْهُمْ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ الضّغْنِ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ لَا تَنْتَهِي هَزِيمَتُهُمْ دُونَ الْبَحْرِ ، وَإِنّ الْأَزْلَامَ لَمَعَهُ فِي كِنَانَتِهِ وَصَرَخَ جَبَلَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : كَلَدَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ - وَهُوَ مَعَ أَخِيهِ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ مُشْرِكٌ فِي الْمُدّةِ الّتِي جَعَلَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلَا بَطَلَ السّحْرُ الْيَوْمَ فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ اُسْكُتْ فَضّ اللّهُ فَاك ، فَوَاَللّهِ لَأَنْ يَرُبّنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ يَرُبّنِي رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ .
شِعْرُ حَسّانَ فِي هِجَاءِ كَلَدَةَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَهْجُو كَلَدَةَ
رَأَيْت سَوَادًا مِنْ بِعِيدٍ فَرَاعِنِي ... أَبُو حَنْبَلٍ يَنْزُو عَلَى أُمّ حَنْبَلِ
كَأَنّ الّذِي يَنْزُو بِهِ فَوْقَ بَطْنِهَا ... ذِرَاعُ قَلُوصٍ مِنْ نِتَاجِ ابْنِ عِزْهِلِ
أَنْشَدَنَا أَبُو زَيْدٍ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ وَذَكَرَ لَنَا أَنّهُ هَجَا بِهِمَا صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ ، وَكَانَ أَخَا كَلَدَةَ لِأُمّهِ .
Sأَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبْ
[ ص 212 ] وَذَكَرَ قَوْلَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَيْنَ أَيّهَا النّاسُ ؟ أَنَا مُحَمّدٌ أَنَا رَسُولُ اللّهِ وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الرّوَايَةِ أَنَا النّبِيّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطّلِب [ ص 213 ] أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبْ قَالَ إنّمَا خَصّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ بِالذّكْرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَقَدْ انْهَزَمَ النّاسُ تَشْبِيهًا لِنُبُوّتِهِ وَإِزَالَةً لِلشّكّ لِمَا اشْتَهَرَ وَعُرِفَ مِنْ رُؤْيَا عَبْدِ الْمُطّلِبِ الْمُبَشّرَةِ بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ تَقَدّمَ ذِكْرُهَا ، وَلِمَا أَنْبَأَتْ بِهِ الْأَحْبَارُ وَالرّهْبَانُ فَكَأَنّهُ يَقُولُ أَنَا ذَاكَ فَلَا بُدّ مِمّا وُعِدْت بِهِ لِئَلّا يَنْهَزِمُوا عَنْهُ وَيَظُنّوا أَنّهُ مَقْتُولٌ وَمَغْلُوبٌ فَاَللّهُ أَعْلَمُ أَأَرَادَ ذَلِكَ رَسُولُهُ أَمْ لَا .

شَيْبَةَ يُحَاوِلُ قَتْلَ الرّسُولِ
[ ص 214 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الدّارِ . قُلْت : الْيَوْمَ أُدْرِكُ ثَأْرِي مِنْ مُحَمّدٍ وَكَانَ أَبُوهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ ، الْيَوْمَ أَقْتُلُ مُحَمّدًا . قَالَ فَأَرَدْت بِرَسُولِ اللّهِ لِأَقْتُلَهُ فَأَقْبَلَ شَيْءٌ حَتّى تَغَشّى فُؤَادِي ، فَلَمْ أُطِقْ ذَاكَ وَعَلِمْت أَنّهُ مَمْنُوعٌ مِنّي . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ مَكّةَ ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ حِينَ فَصَلَ مِنْ مَكّةَ إلَى حُنَيْنٍ ، وَرَأَى كَثْرَةَ مَنْ مَعَهُ مِنْ جُنُودِ اللّهِ لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلّةٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَزَعَمَ بَعْضُ النّاسِ أَنّ رَجُلًا مِنْ بَنِي بَكْرٍ قَالَهَا .
Sشَيْبَةُ وَمُحَاوَلَةُ قَتْلِ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
[ ص 214 ] وَذَكَرَ قِصّةَ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ حِينَ أَرَادَ قَتْلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ فَجَاءَ شَيْءٌ حَتّى تَغَشّى فُؤَادِي ، وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ فِي تَارِيخِهِ قَالَ شَيْبَةُ الْيَوْمَ آخُذُ بِثَأْرِي ، فَجِئْت النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ خَلْفِهِ فَلَمّا هَمَمْت بِهِ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ خَنْدَقٌ مِنْ نَارٍ وَسُوَرٌ مِنْ حَدِيدٍ قَالَ فَالْتَفَتَ إلَيّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَتَبَسّمَ وَعَرَفَ الّذِي أَرَدْت ، فَمَسَحَ صَدْرِي ، وَذَهَبَ عَنّي الشّكّ ، أَوْ كَمَا قَالَ ذَهَبَ عَنّي بَعْضُ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ .

الِانْتِصَارُ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي الزّهْرِيّ ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ الْعَبّاسِ عَنْ أَبِيهِ الْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، قَالَ إنّي لَمَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ آخُذُ بِحَكَمَةِ بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ قَدْ شَجَرْتهَا بِهَا ، قَالَ وَكُنْت امْرَأً جَسِيمًا شَدِيدَ الصّوْتِ قَالَ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ حِينَ رَأَى مَا رَأَى مِنْ النّاسِ " أَيْنَ أَيّهَا النّاسُ ؟ " فَلَمْ أَرَ النّاسَ يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ فَقَالَ يَا عَبّاسُ اُصْرُخْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ : يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ السّمُرَةِ قَالَ فَأَجَابُوا : لَبّيْكَ لَبّيْكَ قَالَ فَيَذْهَبُ الرّجُلُ لِيُثْنِيَ بَعِيرَهُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فَيَأْخُذُ دُرْعَهُ فَيَقْذِفُهَا فِي عُنُقِهِ وَيَأْخُذُ سَيْفَهُ وَتُرْسَهُ وَيَقْتَحِمُ عَنْ بَعِيرِهِ وَيُخَلّي سَبِيلَهُ فَيَؤُمّ الصّوْتَ حَتّى يَنْتَهِيَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . حَتّى إذَا اجْتَمَعَ إلَيْهِ مِنْهُمْ مِائَةٌ اسْتَقْبَلُوا النّاسَ فَاقْتَتَلُوا ، وَكَانَتْ الدّعْوَى أَوّلَ مَا كَانَتْ يَا لِلْأَنْصَارِ . ثُمّ خَلَصَتْ أَخِيرًا : يَا لِلْخَزْرَجِ . وَكَانُوا صَبْرًا عِنْدَ الْحَرْبِ فَأَشْرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي رَكَائِبِهِ . فَنَظَرَ إلَى مُجْتَلَدِ الْقَوْمِ وَهُمْ يَجْتَلِدُونَ فَقَالَ الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ . [ ص 215 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْن جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ، قَالَ بَيْنَا ذَلِكَ الرّجُلُ مِنْ هَوَازِنَ صَاحِبُ الرّايَةِ عَلَى جَمَلِهِ يَصْنَعُ مَا يَصْنَعُ إذْ هَوَى لَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يُرِيدَانِهِ قَالَ فَيَأْتِيهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْ خَلْفِهِ فَضَرَبَ عُرْقُوبَيْ الْجَمَلِ فَوَقَعَ عَلَى عَجُزِهِ وَوَثَبَ الْأَنْصَارِيّ عَلَى الرّجُلِ فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً أَطَنّ قَدَمَهُ بِنِصْفِ سَاقِهِ فَانْجَعَفَ عَنْ رَحْلِهِ قَالَ وَاجْتَلَدَ النّاسُ فَوَاَللّهِ مَا رَجَعَتْ رَاجِعَةُ النّاسِ مِنْ هَزِيمَتِهِمْ حَتّى وَجَدُوا الْأُسَارَى مُكَتّفِينَ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ وَالْتَفَتَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَكَانَ مِمّنْ صَبَرَ يَوْمَئِذٍ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَ حَسَنَ الْإِسْلَامِ حِينَ أَسْلَمَ ، وَهُوَ آخِذٌ بِثَفَرِ بَغْلَتِهِ فَقَالَ " مَنْ هَذَا ؟ " قَالَ أَنَا ابْنُ أُمّك يَا رَسُولَ اللّهِ .
رَأْيُ أُمّ سُلَيْمٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْتَفَتَ فَرَأَى أُمّ سُلَيْمٍ بِنْتَ مِلْحَانَ ، وَكَانَتْ مَعَ زَوْجِهَا أَبِي طَلْحَةَ وَهِيَ حَازِمَةٌ وَسَطَهَا بِبُرْدٍ لَهَا ، وَإِنّهَا لَحَامِلٌ بِعَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ وَمَعَهَا جَمَلُ أَبِي طَلْحَةَ وَقَدْ خَشِيَتْ أَنْ يَعُزّهَا الْجَمَلُ فَأَدْنَتْ رَأْسَهُ مِنْهَا ، فَأَدْخَلَتْ يَدَهَا فِي خِزَامَتِهِ مَعَ الْخِطَامِ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أُمّ سُلَيْمٍ ؟ " قُلْت : نَعَمْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي يَا رَسُولَ اللّهِ اُقْتُلْ هَؤُلَاءِ الّذِينَ يَنْهَزِمُونَ عَنْك كَمَا تَقْتُلُ الّذِينَ يُقَاتِلُونَك ، فَإِنّهُمْ لِذَلِكَ أَهْلٌ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوَيَكْفِي اللّهُ يَا أُمّ سُلَيْمٍ ؟ " قَالَ وَمَعَهَا خِنْجَرٌ فَقَالَ لَهَا أَبُو طَلْحَةَ مَا هَذَا الْخِنْجَرُ مَعَك يَا أُمّ سُلَيْمٍ ؟ قَالَتْ خِنْجَرٌ أَخَذْته ، إنْ دَنَا مِنّي أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بَعَجْته بِهِ . قَالَ يَقُولُ أَبُو طَلْحَةَ أَلَا تَسْمَعُ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا تَقُولُ أُمّ سُلَيْمٍ الرّمَيْصَاءُ .
Sأُمّ سُلَيْمٍ وَالْفِرَارُ يَوْمَ حُنَيْنٍ
[ ص 215 ] وَذَكَرَ أُمّ سُلَيْمٍ وَهِيَ مُلَيْكَةُ بِنْتُ مِلْحَانَ وَقَالَ فِي اسْمِهَا رُمَيْلَةَ وَيُقَالُ سُهَيْلَةُ وَتُعْرَفُ بِالْغُمَيْصَاءِ وَالرّمَيْصَاءِ لِرَمَصٍ كَانَ فِي عَيْنَيْهَا ، وَأَبُو طَلْحَةَ بَعْلُهَا هُوَ زَيْدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ حَرَامٍ وَهُوَ الْقَائِلُ
أَنَا أَبُو طَلْحَةَ وَاسْمِي : زَيْدٌ ... وَكُلّ يَوْمٍ فِي سِلَاحِي صَيْدٌ
وَقَوْلُ أُمّ سُلَيْمٍ : يَا رَسُولَ اللّهِ اُقْتُلْ هَؤُلَاءِ الّذِينَ يَنْهَزِمُونَ عَنْك . [ ص 216 ] قِيلَ كَيْفَ فَرّ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْهُ حَتّى لَمْ يَبْقَ مَعَهُ مِنْهُمْ إلّا ثَمَانِيَةٌ وَالْفِرَارُ مِنْ الزّحْفِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَقَدْ أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ مَا أَنْزَلَ . قُلْنَا : لَمْ يُجْمِعْ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ إلّا فِي يَوْمِ بَدْرٍ وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ وَنَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلّ عَلَى هَذَا ، فَإِنّهُ قَالَ { وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } [ الْأَنْفَالُ 16 ] فَيَوْمَئِذٍ إشَارَةٌ إلَى يَوْمِ بَدْرٍ ثُمّ نَزَلَ التّحْقِيقُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فِي الْفَارّينَ يَوْمَ أُحُدٍ وَهُوَ قَوْلُهُ { وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ } [ آلُ عِمْرَانَ : 155 ] وَكَذَلِكَ أَنْزَلَ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ : { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } إلَى قَوْلِهِ { غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ التّوْبَةُ 25 ] وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ سَلَامٍ وَكَانَ الْفِرَارُ مِنْ الزّحْفِ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ الْكَبَائِرِ وَكَذَلِك يَكُونُ مِنْ الْكَبَائِرِ فِي مَلْحَمَةِ الرّومِ الْكُبْرَى ، وَعِنْدَ الدّجّالِ وَأَيْضًا فَإِنّ الْمُنْهَزِمِينَ عَنْهُ عَلَيْهِ السّلَامُ رَجَعُوا لِحِينِهِمْ وَقَاتَلُوا مَعَهُ حَتّى فَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِمْ .

شِعْرُ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ فِي الْهَزِيمَةِ
[ ص 216 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ وَجّهَ إلَى حُنَيْنٍ ، قَدْ ضَمّ بَنِي سُلَيْمٍ الضّحّاكِ بْنِ سُفْيَانَ الْكِلَابِيّ ، فَكَانُوا إلَيْهِ وَمَعَهُ وَلَمّا انْهَزَمَ النّاسُ قَالَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ يَرْتَجِزُ بِفَرَسِهِ
أَقْدِمْ مُحَاجُ إنّهُ يَوْمٌ نُكُرْ ... مِثْلِي عَلَى مِثْلِك يَحْمِي وَيَكِرّ
إذَا أُضِيعَ الصّفّ يَوْمًا وَالدّبُرْ ... ثُمّ احْزَأَلّتْ زُمَرٌ بَعْدَ زُمَرْ
كَتَائِبٌ يُكِلّ فِيهِنّ الْبَصَرْ ... قَدْ أَطْعُنُ الطّعْنَةَ تَقْذِي بِالسّبُرْ
حِينَ يُذَمّ الْمُسْتَكِينُ الْمُنْجَحِرْ ... وَأَطْعَنُ النّجْلَاءَ تَعْوِي وَتَهِرْ
[ ص 217 ] مُنْهَمِرْ ... تَفْهَقُ تَارَاتٍ وَحِينًا تَنْفَجِرْ
وَثَعْلَبُ الْعَامِلُ فِيهَا مُنْكَسِرْ ... يَا زَيْدُ يَا ابْنَ هَمْهَمٍ أَيْنَ تَفِرّ
قَدْ نَفِدَ الضّرْسُ وَقَدْ طَالَ الْعُمُرْ ... قَدْ عَلِمَ الْبِيضُ الطّوِيلَاتُ الْخُمُرْ
أَنّي قَدْ امْثَالُهَا غَيْرُ غَمِرْ ... إذْ تُخْرَجُ الْحَاصِنُ مِنْ تَحْتِ السّتُرْ
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ أَيْضًا :
أَقْدِمْ مُحَاجُ إنّهَا الْأَسَاوِرَهْ ... وَلَا تَغُرّنّكَ رِجْلٌ نَادِرَهْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ لِغَيْرِ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْيَوْمِ .
Sحَوْلَ رَجَزٍ مَالِكٍ
وَقَوْلُ مَالِكٍ فِي رَجَزِهِ قَدْ أَطْعُنُ الطّعْنَةَ تَقْذِي بِالسّبُرْ
السّبُرُ جَمْعُ سَابِرٍ وَهُوَ الْفَتِيلُ الّذِي يُسْبَرُ بِهِ الْجُرْحُ أَيْ يُجْبَرُ . [ ص 217 ] أَقْدِمْ مُحَاجُ إنّهَا الْأَسَاوِرَهْ
وَقَوْلُ ابْنِ هِشَامٍ : هُمَا لِغَيْرِ مَالِكٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْيَوْمِ يَعْنِي يَوْمَ الْقَادِسِيّةِ ، وَكَانَتْ الدّوْلَةُ فِيهِ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الْفُرْسِ ، وَالْأَسَاوِرَةُ مُلُوكُ الْفُرْسِ ، وَقُتِلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ رُسْتُمُ مَلِكُهُمْ دُونَ الْمَلِكِ الْأَكْبَرِ وَكَانَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ بِمَ سُمّيَتْ الْقَادِسِيّةُ . وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي قَتَادَةَ فِي سَلَبِ الْقَتِيلِ قَالَ فَاشْتَرَيْت بِثَمَنِهِ مَخْرَفًا فَإِنّهُ لَأَوّلُ مَالٍ اعْتَقَدْته ، يُقَالُ اعْتَقَدْت مَالِي ، أَيْ اتّخَذْت مِنْهُ عُقْدَةً كَمَا تَقُولُ نُبْذَةٌ أَوْ قِطْعَةٌ وَالْأَصْلُ فِيهِ مِنْ الْعَقْدِ وَأَنّ مَنْ مَلَكَ شَيْئًا عَقَدَ عَلَيْهِ وَأَنْشَدَ أَبُو عَلِيّ [ الْقَالِي ] :
وَلَمّا رَأَيْت الدّهْرَ أَنْحَتْ صُرُوفُهُ ... عَلَيّ وَأَوْدَتْ بِالذّخَائِرِ وَالْعُقَدْ
حَذَفْت فُضُولَ الْعَيْشِ حَتّى رَدَدْتهَا ... إلَى الْقُوتِ خَوْفًا أَنْ أُجَاءَ إلَى أَحَدْ
وَيُرْوَى : تَأَثّلْته ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْمُوَطّأِ وَيُقَالُ مَخْرَفٌ بِفَتْحِ الرّاءِ وَكَسْرِهَا ، وَأَمّا كَسْرُ الْمِيمِ فَإِنّمَا هُوَ لِلْمِخْرَفِ وَهِيَ الْآلَةُ الّتِي تُخْتَرَفُ بِهَا التّمْرَةُ أَيْ تُجْتَنَى بِفَتْحِ الْمِيمِ مَعْنَاهُ الْبُسْتَانُ مِنْ النّخْلِ هَكَذَا فَسّرُوهُ وَفَسّرَهُ الْحَرْبِيّ ، وَأَجَادَ فِي تَفْسِيرِهِ فَقَالَ الْمَخْرَفُ نَخْلَةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ نَخَلَاتٌ يَسِيرَةٌ إلَى عَشْرٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ فَهُوَ بُسْتَانٌ أَوْ حَدِيقَةٌ وَيُقَوّي مَا قَالَهُ [ ص 218 ] الْحَرْبِيّ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ الْمَخْرَفُ مِثْلُ الْخَرُوفَةِ وَالْخَرُوفَةُ هِيَ النّخْلَةُ يَخْتَرِفُهَا الرّجُلُ لِنَفْسِهِ وَلِعِيَالِهِ وَأَنْشَدَ مِثْلُ الْمَخَارِفِ مِنْ خَيْلَانَ أَوْ هَجَرَا
قَالَ وَيُقَالُ الْخَرُوفَةُ خَرِيفَةٌ أَيْضًا .

مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ
[ ص 218 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ ، أَنّهُ حَدّثَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيّ قَالَ وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى بَنِي غِفَارٍ أَبِي مُحَمّدٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ ، قَالَا : قَالَ أَبُو قَتَادَةَ : رَأَيْت يَوْمَ حُنَيْنٍ رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ مُسْلِمًا وَمُشْرِكًا ، قَالَ وَإِذَا رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُرِيدُ أَنْ يُعِينَ صَاحِبَهُ الْمُشْرِكَ عَلَى الْمُسْلِمِ . قَالَ فَأَتَيْته فَضَرَبْت يَدَهُ فَقَطَعْتهَا ، وَاعْتَنَقَنِي بِيَدِهِ الْأُخْرَى ، فَوَاَللّهِ مَا أَرْسَلَنِي حَتّى وَجَدْت رِيحَ الدّمِ . وَيُرْوَى : رِيحَ الْمَوْتِ فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَكَادَ يَقْتُلُنِي ، فَلَوْلَا أَنّ الدّمَ نَزَفَهُ لَقَتَلَنِي ، فَسَقَطَ فَضَرَبْته فَقَتَلْته ، وَأَجْهَضَنِي عَنْهُ الْقِتَالُ وَمَرّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ فَسَلَبَهُ فَلَمّا وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا وَفَرَغْنَا مِنْ الْقَوْمِ ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ ، فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ وَاَللّهِ لَقَدْ قَتَلْت قَتِيلًا ذَا سَلَبٍ فَأَجْهَضَنِي عَنْهُ الْقِتَالُ فَمَا أَدْرِي مَنْ اسْتَلَبَهُ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ : صَدَقَ يَا رَسُولَ اللّهِ وَسَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي ، فَأَرْضِهِ عَنّي مِنْ سَلَبِهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لَا وَاَللّهِ لَا يُرْضِيهِ مِنْهُ تَعْمِدُ إلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللّهِ يُقَاتِلُ عَنْ دِينِ اللّهِ تُقَاسِمُهُ سَلَبَهُ اُرْدُدْ عَلَيْهِ سَلَبَ قَتِيلِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَدَقَ فَارْدُدْ عَلَيْهِ سَلَبَهُ . فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ : فَأَخَذْته مِنْهُ فَبِعْته ، فَاشْتَرَيْت مِنْهُ مَخْرَفًا ، فَإِنّهُ لَأَوّلُ مَالٍ اعْتَقَدْته . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ لَقَدْ اسْتَلَبَ أَبُو طَلْحَةَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَحْدَهُ عِشْرِينَ رَجُلًا .
Sالسّلَبُ لِلْقَاتِلِ
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ الْفِقْهِ أَنّ السّلَبَ لِلْقَاتِلِ حُكْمًا شَرْعًا جَعَلَ ذَلِكَ الْإِمَامُ لَهُ أَوْ يَجْعَلُهُ وَهُوَ قَوْلُ الشّافِعِيّ ، وَقَالَ مَالِكٌ إنّمَا ذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ لَهُ أَنْ يَقُولَ بَعْدَ مَعْمَعَةِ الْحَرْبِ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ ، وَيَكْرَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللّهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقِتَالِ لِئَلّا يُخَالِطَ النّيّةَ غَرَضٌ آخَرُ غَيْرُ احْتِسَابِ نَفْسِهِ لِلّهِ تَعَالَى ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا .

نُزُولُ الْمَلَائِكَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 219 ] أَبِي إسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ ، أَنّهُ حَدّثَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، قَالَ لَقَدْ رَأَيْت قَبْلَ هَزِيمَةِ الْقَوْمِ وَالنّاسُ يَقْتَتِلُونَ مِثْلَ الْبِجَادِ الْأَسْوَدِ أَقْبَلَ مِنْ السّمَاءِ حَتّى سَقَطَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ فَنَظَرْت ، فَإِذَا نَمْلٌ أَسْوَدُ مَبْثُوثٌ قَدْ مَلَأَ الْوَادِيَ لَمْ أَشُكّ أَنّهَا الْمَلَائِكَةُ ثُمّ لَمْ يَكُنْ إلّا هَزِيمَةُ الْقَوْمِ .
هَزِيمَةُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ حُنَيْنٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا هَزَمَ اللّهُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ حُنَيْنٍ ، وَأَمْكَنَ رَسُولَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْهُمْ قَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
قَدْ غَلَبَتْ خَيْلُ اللّهِ خَيْلَ اللّاتِ ... وَاَللّهُ أَحَقّ بِالثّبَاتِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالرّوَايَةِ لِلشّعْرِ
غَلَبَتْ خَيْلُ اللّهِ خَيْلَ اللّاتِ ... وَخَيْلُهُ أَحَقّ بِالثّبَاتِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا انْهَزَمَتْ هَوَازِنُ اسْتَحَرّ الْقَتْلُ مِنْ ثَقِيفٍ فِي بَنِي مَالِكٍ فَقُتِلَ مَعَهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا تَحْتَ رَايَتِهِمْ فِيهِمْ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ حَبِيبٍ وَكَانَتْ رَايَتُهُمْ مَعَ ذِي الْخِمَارِ فَلَمّا قُتِلَ أَخَذَهَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ فَقَاتَلَ بِهَا حَتّى قُتِلَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ وَهْبِ بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ لَمّا بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَتْلُهُ قَالَ أَبْعَدَهُ اللّهُ فَإِنّهُ كَانَ يُبْغِضُ قُرَيْشًا . [ ص 220 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ . أَنّهُ قُتِلَ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ غُلَامٌ لَهُ نَصْرَانِيّ أَغْرَلُ قَالَ فَبَيْنَا رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يَسْلُبُ قَتْلَى ثَقِيفٍ ، إذْ كَشَفَ الْعَبْدَ يَسْلُبُهُ فَوَجَدَهُ أَغْرَل . قَالَ فَصَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ يَعْلَمُ اللّهُ أَنّ ثَقِيفًا غُرْلٌ . قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ : فَأَخَذْت بِيَدِهِ وَخَشِيت أَنْ تَذْهَبَ عَنّا فِي الْعَرَبِ ، فَقُلْت : لَا تَقُلْ ذَاكَ فِدَاك أَبِي وَأُمّي ، إنّمَا هُوَ غُلَامٌ لَنَا نَصْرَانِيّ . قَالَ ثُمّ جَعَلْت أَكْشِفُ لَهُ عَنْ الْقَتْلَى ، وَأَقُولُ لَهُ أَلَا تَرَاهُمْ مُخْتَنِينَ كَمَا تَرَى قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَتْ رَايَةُ الْأَحْلَافِ مَعَ قَارِبِ بْنِ الْأَسْوَدِ ، فَلَمّا انْهَزَمَ النّاسُ أَسْنَدَ رَايَتَهُ إلَى شَجَرَةٍ وَهَرَبَ هُوَ وَبَنُو عَمّهِ وَقَوْمُهُ مِنْ الْأَحْلَافِ ، فَلَمْ يُقْتَلْ مِنْ الْأَحْلَافِ غَيْرَ رَجُلَيْنِ رَجُلٌ مِنْ غِيَرَةَ يُقَالُ لَهُ وَهْبٌ وَآخَرُ مِنْ بَنِي كُبّةَ يُقَالُ لَهُ الْجُلَاحُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ بَلَغَهُ قَتْلُ الْجُلَاحِ قُتِلَ الْيَوْمَ سَيّدُ شَبَابِ ثَقِيفٍ إلّا مَا كَانَ مِنْ ابْنِ هُنَيْدَةَ يَعْنِي بِابْنِ هُنَيْدَةَ الْحَارِثَ بْنَ أُوَيْسٍ .
Sنُزُولُ الْمَلَائِكَةِ وَقَوْلُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ
[ ص 219 ] رَآهُ يَنْزِلُ مِنْ السّمَاءِ . قَالَ لَمْ أَشُكّ أَنّهَا الْمَلَائِكَةُ وَقَدْ قَدّمَ ابْنُ إسْحَاقَ قَوْلَ الْآخَرِ رَأَيْت رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ وَكَانَتْ الْمَلَائِكَةُ فَأَرَاهُمْ اللّهُ لِذَلِكَ الْهَوْاَزنِيّ عَلَى صُوَرِ الْخَيْلِ وَالرّجَالِ تَرْهِيبًا لِلْعَدُوّ وَرَآهُمْ جُبَيْرٌ عَلَى صُورَةِ النّمْلِ الْمَبْثُوثِ إشْعَارًا بِكَثْرَةِ عَدَدِهَا ، إذْ النّمْلُ لَا يُسْتَطَاعُ عَدّهَا مَعَ أَنّ النّمْلَةَ يُضْرَبُ بِهَا الْمَثَلُ فِي الْقُوّةِ فَيُقَالُ أَقْوَى مِنْ النّمْلَةِ لِأَنّهَا تَحْمِلُ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ جِرْمِهَا بِأَضْعَافٍ وَقَدْ قَالَ رَجُلٌ لِبَعْضِ الْمُلُوكِ جَعَلَ اللّهُ قُوّتَك قُوّةَ النّمْلَةِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَيْسَ فِي الْحَيَوَانِ مَا يَحْمِلُ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ إلّا النّمْلَةُ وَهَذَا الْمَثَلُ قَدْ ذَكَرَهُ الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابِ الْأَعْمَالِ مَقْرُونًا بِهَذَا الْخَبَرِ ، وَقَدْ أُهْلِكَ بِالنّمْلِ أُمّةٌ مِنْ الْأُمَمِ وَهُمْ جُرْهُمٌ .

رَائِيّةُ ابْنِ مِرْدَاسٍ
فَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السّلَمِيّ يَذْكُرُ قَارِبَ بْنَ الْأَسْوَدِ وَفِرَارَهُ مِنْ بَنِي أَبِيهِ وَذَا الْخِمَارِ وَحَبْسَهُ قَوْمَهُ لِلْمَوْتِ [ ص 221 ]
أَلَا مِنْ مُبْلِغٍ غَيْلَانَ عَنّي ... وَسَوْفَ - إخَالُ - يَأْتِيهِ الْخَبِيرُ
وَعُرْوَةُ إنّمَا أُهْدِي جَوَابًا ... وَقَوْلًا غَيْرَ قَوْلِكُمَا يَسِيرُ
بِأَنّ مُحَمّدًا عَبْدٌ رَسُولٌ ... لِرَبّ لَا يَضِلّ وَلَا يَجُورُ
وَجَدْنَاهُ نَبِيّا مِثْلَ مُوسَى ... فَكُلّ فَتًى يُخَايِرُهُ مُخِيرُ
وَبِئْسَ الْأَمْرُ أَمْرُ بَنِي قَسِيّ ... بِوَجّ إذْ تُقُسّمَتْ الْأُمُورُ
أَضَاعُوا أَمْرَهُمْ وَلِكُلّ قَوْمٍ ... أَمِيرٌ وَالدّوَائِرُ قَدْ تَدُورُ
فَجِئْنَا أُسْدَ غَابَاتٍ إلَيْهِمْ ... جُنُودُ اللّهِ ضَاحِيَةً تَسِيرُ
يَؤُمّ الْجَمْعَ جَمْعَ بَنِي قَسِيّ ... عَلَى حَنَقٍ نَكَادُ لَهُ نَطِيرُ
وَأُقْسِمُ لَوْ هُمْ مَكَثُوا لَسِرْنَا ... إلَيْهِمْ بِالْجُنُودِ وَلَمْ يَغُورُوا
فَكُنّا أُسْدَ لَيّةَ ثَمّ حَتّى ... أَبَحْنَاهَا وَأَسْلَمَتْ النّصُورُ
وَيَوْمٌ كَانَ قَبْلُ لَدَى حُنَيْنٍ ... فَأَقْلَعَ وَالدّمَاءُ بِهِ تَمُورُ
مِنْ الْأَيّامِ لَمْ تَسْمَعْ كَيَوْمٍ ... وَلَمْ يَسْمَعْ بِهِ قَوْمٌ ذُكُورُ
قَتَلْنَا فِي الْغُبَارِ بَنِي حُطَيْطٍ ... عَلَى رَايَاتِهَا وَالْخَيْلُ زُورُ
وَلَمْ يَكُ ذُو الْخِمَارِ رَئِيسَ قَوْمٍ ... لَهُمْ عَقْلٌ يُعَاقِبُ أَوْ مُكِيرُ
أَقَامَ بِهِمْ عَلَى سُنَنِ الْمَنَايَا ... وَقَدْ بَانَتْ لِمُبْصِرِهَا الْأُمُورُ
فَأَفْلَتْ مَنْ نَجَا مِنْهُمْ حَرِيضًا ... وَقُتّلَ مِنْهُمْ بَشَرٌ كَثِيرُ
وَلَا يُغْنِي الْأُمُورَ أَخُو الْتَوَانِي ... وَلَا الْغَلِقُ الصّرَيّرَةِ الْحَصُورُ
أَحَانَهُمُ وَحَانَ وَمَلّكُوهُ ... أُمُورَهُمْ وَأَفْلَتَتْ الصّقُورُ
بَنُو عَوْفٍ تَمِيحُ بِهِمْ جِيَادٌ ... أُهِينَ لَهَا الْفَصَافِصُ وَالشّعِيرُ
فَلَوْلَا قَارِبٌ وَبَنُو أَبِيهِ ... تَقَسّمَتْ الْمَزَارِعُ وَالْقُصُورُ
وَلَكِنّ الرّيَاسَةَ عَمّمُوهَا ... عَلَى يَمَنٍ أَشَارَ بِهِ الْمُشِيرُ
أَطَاعُوا قَارِبًا وَلَهُمْ جُدُودٌ ... وَأَحْلَامٌ إلَى عِزّ تَصِيرُ
فَإِنْ يُهْدَوْا إلَى الْإِسْلَامِ يُلْفَوْا ... أُنُوفَ النّاسِ مَا سَمَرُ السّمِيرُ
وَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا فَهُمْ أَذَانٌ ... بِحَرْبِ اللّهِ لَيْسَ لَهُمْ نَصِيرُ
كَمَا حَكّتْ بَنِي سَعْدٍ وَحَرْبٌ ... بِرَهْطِ بَنِي غَزِيّةَ عَنْقَفِيرُ
كَأَنّ بَنِي مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ ... إلَى الْإِسْلَامِ ضَائِنَةٌ نَخُورُ
فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إنّا أَخُوكُمْ ... وَقَدْ بَرَأَتْ مِنْ الْإِحَنِ الصّدُورُ
كَأَنّ الْقَوْمَ إذْ جَاءُوا إلَيْنَا ... مِنْ الْبَغْضَاءِ بَعْدَ السّلْمِ عُورُ
[ ص 222 ] [ ص 223 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : غَيْلَانُ غَيْلَانُ بْنُ سَلَمَةَ الثّقَفِيّ ، وَعُرْوَةُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثّقَفِيّ .
Sحَوْلَ قَصِيدَةِ ابْنِ مِرْدَاسٍ
فَصْلٌ
[ ص 220 ] وَذَكَرَ قَوْلَ عَبّاسٍ وَسَوْفَ إخَالُ يَأْتِيك الْخَبِيرُ
الْفِعْلُ الْمُسْتَقْبَلُ هُوَ يَأْتِيك ، وَإِنْ كَانَ حَرْفُ سَوْفَ دَاخِلًا عَلَى إخَالُ فِي اللّفْظِ فَإِنّ مَا يَدُلّ عَلَيْهِ مِنْ الِاسْتِقْبَالِ إنّمَا هُوَ الْفِعْلُ الثّانِي كَمَا قَالَ وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إخَالُ أَدْرِي
[ ص 221 ] يَخَالَ الْآنَ أَنْ سَيَكُونُ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ
فَإِنْ يُهْدَوْا إلَى الْإِسْلَامِ يُلْفَوْا ... أُنُوفَ النّاسِ مَا سَمَرُ السّمِيرُ
[ ص 222 ] نَكِرَةٌ لَمْ يَتَعَرّفْ بِالْإِضَافَةِ لِأَنّهُ لَمْ يَرِدْ الْأُنُوفُ بِأَعْيَانِهَا ، وَلَكِنّ أَشْرَافًا ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ بِمُنْجَرَدٍ قَيْدِ الْأَوَابِدِ
لِأَنّهُ جَعَلَهُ كَالْقَيْدِ وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ فِي : نَصْبِ غَمَائِمَ الْأَبْصَارِ عَلَى الْحَالِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ مَا مَنَعَهُ سِيبَوَيْهِ حِينَ قَالَ مُعْتَرِضًا عَلَى الْخَلِيلِ لَوْ قُلْت مَرَرْت بِقَصِيرٍ الطّوِيلَ تُرِيدُ مِثْلَ الطّوِيلِ لَمْ يَجُزْ وَاَلّذِي أَرَادَهُ الْخَلِيلُ هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ اسْتِعَارَةِ الْكَلِمَةِ عَلَى جِهَةِ التّشْبِيهِ نَحْوَ قَيْدِ الْأَوَابِدِ وَأُنُوفِ النّاسِ تُرِيدُ أَشْرَافَهُمْ فَمِثْلُ هَذَا يَكُونُ وَصْفًا لِلنّكِرَةِ وَحَالًا مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَقَدْ أَلْحَقَ بِهَذَا الْبَابِ لَهُ صَوْتٌ صَوْتُ الْحِمَارِ عَلَى الصّفّةِ وَضَعّفَهُ سِيبَوَيْهِ فِي الْحَالِ وَهُوَ فِي الصّفّةِ أَقْبَحُ وَإِنّمَا أَلْحَقَهُ الْخَلِيلُ بِمَا تَنَكّرَ وَهُوَ مُضَافٌ إلَى مُعْرِفَةٍ مِنْ أَجْلِ تُكَرّرْ اللّفْظِ فِيهِ فَحَسُنَ لِذَلِك . وَقَوْلُهُ وَأُسْلِمَتْ النّصُورُ . ذَكَرَ الْبَرْقِيّ أَنّ النّصُورَ هَاهُنَا جَمْعُ : نَاصِرٍ وَلَيْسَ هُوَ عِنْدِي كَذَلِك . فَإِنّ فَاعِلًا قَلّ مَا يُجْمَعُ عَلَى فَعُولٍ وَإِنْ جُمِعَ فَلَيْسَ هُوَ بِالْقِيَاسِ الْمُطّرِدِ وَإِنّمَا هُمْ بَنُو نَصِيرٍ مِنْ هَوَازِنَ رَهْطُ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النّصْرِيّ يُقَال لَهُمْ النّصُورُ كَمَا يُقَال لِبَنِي الْمُهَلّبِ الْمَهَالِبَةُ وَلِبَنِي الْمُنْذِرِ الْمَنَاذِرَةِ ، وَكَمَا يُقَال الْأَشْعَرُونَ وَهُمْ بَنُو أَشْعَرَ بْنِ أُدَدٍ وَالتّوَتْيَاتُ لِبَنِي تُوَبْتِ بْنِ أَسَدٍ .
جَمْعُ أَخ وَابْنٍ
وَقَوْلُهُ إنّا أَخُوكُمْ جَمَعَ أَخًا جَمْعًا مُسْلَمًا بِالْوَاوِ وَالنّونِ ثُمّ حُذِفَتْ النّونُ لِلْإِضَافَةِ كَمَا أَنْشَدُوا :
وَلَمّا تَبَيّنّ أَصْوَاتَنَا بَكَيْنَ ... وَفَدّيْنَنَا بِالْأَبِينَا
[ ص 223 ] يَكُونَ وَضْعُ الْوَاحِدِ مَوْضِعَ الْجَمِيعِ كَمَا تَقَدّمَ فِي قَوْلِهِ أَنْتُمْ الْوَلَدُ وَنَحْنُ الْوُلْدُ [ ص 224 ] [ ص 225 ]
مِنْ وَصْفِ الزّبَيْرِ
وَقَوْلُهُ فِي صِفَةِ الزّبَيْرِ طَوِيلُ الْبَادّ أَيْ الْفَخْرِ وَالْبَدَدُ تَبَاعُدُ مَا بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ .

مَصْرَعُ دُرَيْدٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ أَتَوْا الطّائِفَ وَمَعَهُمْ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ وَعَسْكَرَ بَعْضُهُمْ بِأَوْطَاسٍ وَتَوَجّهَ بَعْضُهُمْ نَحْوَ نَخْلَةَ ، وَلَمْ يَكُنْ فِيمَنْ تَوَجّهَ نَحْوَ نَخْلَةَ إلّا بَنُو غِيَرَةَ مِنْ ثَقِيفٍ ، وَتَبِعَتْ خَيْلُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ سَلَكَ فِي نَخْلَةَ مِنْ النّاسِ وَلَمْ تَتْبَعْ مَنْ سَلَكَ الثّنَايَا . فَأُدْرِكَ رَبِيعَةُ بْنُ رَفِيعِ بْنِ أُهْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ يَرْبُوعِ بْنِ سَمّانِ بْنِ عَوْفِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الدّغُنّةِ وَهِيَ أُمّهُ فَغَلَبَتْ عَلَى اسْمِهِ وَيُقَالُ ابْنُ لَذْعَةَ فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ - دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ ، فَأُخِذَ بِخِطَامِ جَمَلِهِ وَهُوَ يُظَنّ أَنّهُ امْرَأَةٌ وَذَلِكَ أَنّهُ فِي شِجَارٍ لَهُ فَإِذَا بِرَجُلٍ فَأَنَاخَ بِهِ فَإِذَا شَيْخٌ كَبِيرٌ وَإِذَا هُوَ دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ وَلَا يَعْرِفُهُ الْغُلَامُ فَقَالَ لَهُ دُرَيْدٌ مَا تُرِيدُ بِي ؟ قَالَ أَقْتُلُك . قَالَ وَمَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ أَنَا رَبِيعَةُ بْنُ رَفِيعٍ السّلَمِيّ ثُمّ ضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ فَلَمْ يُغْنِ شَيْئًا ، فَقَالَ بِئْسَ مَا سَلّحَتْك أُمّك خُذْ سَيْفِي هَذَا مِنْ مُؤَخّرِ الرّحْلِ وَكَانَ الرّحْلُ فِي الشّجَارِ ثُمّ اضْرِبْ بِهِ وَارْفَعْ عَنْ الْعِظَامِ وَاخْفِضْ عَنْ الدّمَاغِ فَإِنْ كُنْت كَذَلِكَ أَضْرَبَ الرّجَالِ ثُمّ إذَا أَتَيْت أُمّك فَأَخْبِرْهَا أَنّك قَتَلْت دُرَيْدَ بْنَ الصّمّةِ ، فَرُبّ وَاَللّهِ يَوْمٌ قَدْ مُنِعْت فِيهِ نِسَاءَك . فَزَعَمَ بَنُو سُلَيْمٍ أَنّ رَبِيعَةَ لَمّا ضَرَبَهُ فَوَقَعَ تَكَشّفَ فَإِذَا عِجَانُهُ وَبُطُونُ فَخِذَيْهِ مِثْلُ الْقِرْطَاسِ مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ أَعْرَاءً فَلَمّا رَجَعَ رَبِيعَةُ إلَى أُمّهِ أَخْبَرَهَا بِقَتْلِهِ إيّاهُ فَقَالَتْ أَمَا وَاَللّهِ لَقَدْ أَعْتَقَ أُمّهَاتٍ لَك ثَلَاثًا . فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ دُرَيْدٍ فِي قَتْلِ رَبِيعَةَ دُرَيْدًا [ ص 224 ]
لَعَمْرُك مَا خَشِيت عَلَى دُرَيْدٍ ... بِبَطْنِ سُمَيْرَةٍ جَيْشَ الْعَنَاقِ
جَزَى عَنْهُ الْإِلَهُ بَنِي سُلَيْمٍ ... وَعَقّتْهُمْ بِمَا فَعَلُوا عَقَاقُ
وَأَسْقَانَا إذَا قُدْنَا إلَيْهِمْ ... دِمَاءَ خِيَارِهِمْ عِنْدَ التّلَاقِي
فَرُبّ عَظِيمَةٍ دَافَعَتْ عَنْهُمْ ... وَقَدْ بَلَغَتْ نُفُوسَهُمْ التّرَاقِي
وَرُبّ كَرِيمَةٍ أَعْتَقْت مِنْهُمْ ... وَأُخْرَى قَدْ فَكَكْت مِنْ الْوَثَاقِ
وَرُبّ مُنَوّهٍ بِك مِنْ سُلَيْمٍ ... أَجَبْت وَقَدْ دَعَاك بِلَا رَمَاقِ
فَكَانَ جَزَاؤُنَا مِنْهُمْ عُقُوقًا ... وَهَمّا مَاعَ مِنْهُ مُخّ سَاقِي
عَفَتْ آثَارُ خَيْلِك بَعْدَ أَيْنٍ ... بِذِي بَقَرٍ إلَى فَيْفِ النّهَاقِ
وَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ دُرَيْدٍ أَيْضًا :
قَالُوا قَتَلْنَا دُرَيْدًا قُلْت قَدْ صَدَقُوا ... فَظَلّ دَمْعِي عَلَى السّرْبَالِ يَنْحَدِرُ
لَوْلَا الّذِي قَهَرَ الْأَقْوَامَ كُلّهِمْ ... رَأَتْ سُلَيْمٌ وَكَعْبٌ كَيْفَ تَأْتَمِرُ
إذَنْ لَصَبّحَهُمْ غِبّا وَظَاهِرَةً ... حَيْثُ اسْتَقَرّتْ نَوَاهُمْ جَحْفَلٌ ذَفِرِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ اسْمُ الّذِي قَتَلَ دُرَيْدًا : عَبْدُ اللّهِ بْنُ قُنَيْعِ بْنِ أُهْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ .

مَصْرَعُ أَبِي عَامِرٍ الْأَشْعَرِيّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي آثَارِ مَنْ تَوَجّهَ قِبَلَ أَوْطَاسٍ أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيّ ، فَأَدْرَكَ مِنْ النّاسِ بَعْضَ مَنْ انْهَزَمَ فَنَاوَشُوهُ الْقِتَالَ فَرُمِيَ أَبُو عَامِرٍ بِسَهْمٍ فَقُتِلَ فَأَخَذَ الرّايَةَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ ، وَهُوَ ابْنُ عَمّهِ فَقَاتَلَهُمْ فَفَتَحَ اللّهُ عَلَى يَدَيْهِ وَهَزَمَهُمْ . فَيَزْعُمُونَ أَنّ سَلَمَةَ بْنَ دُرَيْدٍ هُوَ الّذِي رَمَى أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيّ بِسَهْمٍ فَأَصَابَ رُكْبَتَهُ فَقَتَلَهُ فَقَالَ
إنْ تَسْأَلُوا عَنّي فَإِنّي سَلَمَهْ ... ابْنُ سَمَادِيرَ لِمَنْ تَوَسّمَهْ
أَضْرِبُ بِالسّيْفِ رُءُوسَ الْمُسْلِمَهْ
وَسَمَادِيرُ أُمّهُ .
حَالُ بَنِي رِئَابٍ فِي الْمَعْرَكَةِ
وَاسْتَحَرّ الْقَتْلُ مِنْ بَنِي نَصْرٍ فِي بَنِي رِئَابٍ فَزَعَمُوا أَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ قَيْسٍ - وَهُوَ الّذِي يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْعَوْرَاءِ وَهُوَ أَحَدُ بَنِي وَهْبِ بْنِ رِئَابٍ - قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ هَلَكَتْ بَنُو رِئَابٍ فَزَعَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ اللّهُمّ اُجْبُرْ مُصِيبَتَهُمْ
مَوْقِفُ قَوْمِ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ
وَخَرَجَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ عِنْدَ الْهَزِيمَةِ فَوَقَفَ فِي فَوَارِسَ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى ثَنِيّةٍ مِنْ الطّرِيقِ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ قِفُوا حَتّى تَمْضِيَ ضُعَفَاؤُكُمْ وَتَلْحَقَ أُخْرَاكُمْ فَوَقَفَ هُنَاكَ حَتّى [ ص 225 ] كَانَ لَحِقَ بِهِمْ مِنْ مُنْهَزِمَةِ النّاسِ ؟ فَقَالَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ فِي ذَلِكَ
وَلَوْلَا كَرّتَانِ عَلَى مُحَاجٍ ... لَضَاقَ عَلَى الْعَضَارِيطِ الطّرِيقُ
وَلَوْلَا كَرّ دُهْمَانَ بْنِ نَصْرٍ ... لَدَى النّخَلَاتِ مُنْدَفِعَ الشّدِيقِ
لَآبَتْ جَعْفَرٌ وَبَنُو هِلَالٍ ... خَزَايَا مُحْقِبِينَ عَلَى شُقُوقِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هَذِهِ الْأَبْيَاتُ لِمَالِكِ بْنِ عَوْفٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْيَوْمِ . وَمِمّا يَدُلّك عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ دُرَيْدِ بْنِ الصّمّةِ فِي صَدْرِ هَذَا الْحَدِيثِ مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلَابٌ ؟ فَقَالُوا لَهُ لَمْ يَشْهَدْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ . وَجَعْفَرُ بْنُ كِلَابٍ . وَقَالَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ " لَآبَتْ جَعْفَرٌ وَبَنُو هِلَالٍ " . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَبَلَغَنِي أَنّ خَيْلًا طَلَعَتْ وَمَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الثّنِيّةِ ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ مَاذَا تَرَوْنَ ؟ فَقَالُوا : نَرَى قَوْمًا وَاضِعِي رِمَاحَهُمْ بَيْنَ آذَانِ خَيْلِهِمْ طَوِيلَةً بَوَادّهُمْ فَقَالَ هَؤُلَاءِ بَنُو سُلَيْمٍ ، وَلَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ فَلَمّا أَقْبَلُوا سَلَكُوا بَطْنَ الْوَادِي . ثُمّ طَلَعَتْ خَيْلٌ أُخْرَى تَتْبَعُهَا ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ مَاذَا تَرَوْنَ ؟ قَالُوا : نَرَى قَوْمًا عَارِضِي رِمَاحَهُمْ أَغْفَالًا عَلَى خَيْلِهِمْ فَقَالَ هَؤُلَاءِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ ، وَلَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ فَلَمّا انْتَهَوْا إلَى أَصْلِ الثّنِيّةِ سَلَكُوا طَرِيقَ بَنِي سُلَيْمٍ . ثُمّ طَلَعَ فَارِسٌ ؛ قَفّال لِأَصْحَابِهِ مَاذَا تَرَوْنَ ؟ قَالُوا : نَرَى فَارِسًا طَوِيلَ الْبَادّ وَاضِعًا رُمْحَهُ عَلَى عَاتِقِهِ عَاصِبًا رَأْسَهُ بِمُلَاءَةٍ حَمْرَاءَ ، فَقَالَ هَذَا الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ وَأَحْلِفُ بِاللّاتِ لَيُخَالِطَنّكُمْ فَاثْبُتُوا لَهُ . فَلَمّا انْتَهَى الزّبَيْرُ إلَى أَصْلِ الثّنِيّةِ أَبْصَرَ الْقَوْمَ فَصَمَدَ لَهُمْ فَلَمْ يَزَلْ يُطَاعِنُهُمْ حَتّى أَزَاحَهُمْ عَنْهَا .
شِعْرُ سَلَمَةَ فِي فِرَارِهِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ دُرَيْدٍ وَهُوَ يَسُوقُ بِامْرَأَتِهِ حَتّى أَعْجَزَهُمْ
نَسّيْتنِي مَا كُنْت غَيْرَ مُصَابَةٍ ... وَلَقَدْ عَرَفْت غَدَاةَ نَعْفَ الْأَظْرُبِ
أَنّي مَنَعْتُك وَالرّكُوبُ مُحَبّبٌ ... وَمَشَيْت خَلْفَك مِثْلَ مَشْيِ الْأَنْكَبِ
إذْ فَرّ كُلّ مُهَذّبٍ ذِي لِمّةٍ ... عَنْ أُمّهِ وَخَلِيلِهِ لَمْ يَعْقُبْ
عَوْدٌ إلَى حَدِيثِ مَصْرَعِ أَبِي عَامِرٍ
[ ص 226 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ وَحَدِيثِهِ أَنّ أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيّ لَقِيَ يَوْمَ أَوْطَاسٍ عَشْرَةَ إخْوَةً مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمْ فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو عَامِرٍ وَهُوَ يَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَيَقُولُ اللّهُمّ اشْهَدْ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ أَبُو عَامِرٍ ثُمّ حَمَلَ عَلَيْهِ آخَرُ فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو عَامِرٍ وَهُوَ يَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَيَقُولُ اللّهُمّ اشْهَدْ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ أَبُو عَامِرٍ . ثُمّ جَعَلُوا يَحْمِلُونَ عَلَيْهِ رَجُلًا رَجُلًا ، وَيَحْمِلُ أَبُو عَامِرٍ وَهُوَ يَقُولُ ذَلِكَ حَتّى قَتَلَ تِسْعَةً وَبَقِيَ الْعَاشِرُ فَحَمَلَ عَلَى أَبِي عَامِرٍ وَحَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو عَامِرٍ وَهُوَ يَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَيَقُولُ اللّهُمّ اشْهَدْ عَلَيْهِ فَقَالَ الرّجُلُ اللّهُمّ لَا تَشْهَدْ عَلَيّ فَكَفّ عَنْهُ أَبُو عَامِرٍ فَأَفْلَتْ ثُمّ أَسْلَمَ بَعْدُ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ . فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا رَآهُ قَالَ هَذَا شَرِيدُ أَبِي عَامِرٍ وَرَمَى أَبَا عَامِرٍ أَخَوَانِ الْعَلَاءُ وَأَوْفَى ابْنَا الْحَارِثِ مِنْ بَنِي جُشَمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ ، فَأَصَابَ أَحَدُهُمَا قَلْبَهُ وَالْآخَرُ رُكْبَتَهُ فَقَتَلَاهُ وَوَلِيَ النّاسَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ فَحَمَلَ عَلَيْهِمَا فَقَتَلَهُمَا ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي جُشَمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ يَرْثِيهِمَا :
إنّ الرّزِيّةَ قَتْلُ الْعَلَاءِ ... وَأَوْفَى جَمِيعًا وَلَمْ يُسْنَدَا
هُمَا الْقَاتِلَانِ أَبَا عَامِرٍ ... وَقَدْ كَانَ ذَا هِبَةٍ أَرْبَدَا
هُمَا تَرَكَاهُ لَدَى مَعْرَكٍ ... كَأَنّ عَلَى عِطْفِهِ مُجْسَدَا
فَلَمْ تَرَ فِي النّاسِ مِثْلَيْهِمَا ... أَقَلّ عِثَارًا وَأَرْمَى يَدَا
Sحُكْمُ رَفْعِ الْيَدِ فِي الدّعَاءِ
وَذَكَرَ فِيمَنْ اُسْتُشْهِدَ أَبَا عَامِرٍ وَاسْمُهُ عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمِ بْنِ حَصّارٍ وَهُوَ عَمّ أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيّ ، وَهُوَ الّذِي اسْتَغْفَرَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ قُتِلَ رَافِعًا يَدَيْهِ جِدّا ، يَقُولُ اللّهُمّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ ثَلَاثًا ، وَفِيهِ مِنْ الْفِقْهِ رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي الدّعَاءِ وَقَدْ كَرِهَهُ قَوْمٌ رَوَى عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ أَنّهُ رَأَى قَوْمًا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي الدّعَاءِ فَقَالَ أَوَقَدْ رَفَعُوهَا ؟ قَطَعَهَا اللّهُ وَاَللّهِ لَوْ كَانُوا بِأَعْلَى شَاهِقٍ مَا ازْدَادُوا مِنْ اللّهِ بِذَلِكَ قُرْبًا ، وَذُكِرَ لِمَالِكٍ أَنّ عَامِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ كَانَ يَدْعُو بِإِثْرِ كُلّ صَلَاةٍ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ فَقَالَ ذَلِكَ حَسَنٌ وَلَا أَرَى أَنْ يَرْفَعَهُمَا جِدّا . وَحُجّةُ مَنْ رَأَى الرّفْعَ أَحَادِيثُ مِنْهَا مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا ، وَمِنْهَا حَدِيثٌ تَقَدّمَ فِي سَرِيّةِ الْغُمَيْصَاءِ حِينَ رَفَعَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَدَيْهِ وَقَالَ اللّهُمّ إنّي أَبْرَأُ إلَيْك مِمّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ثَلَاثَ مَرّاتٍ وَلِكُلّ شَيْءٍ وَجْهٌ فَمَنْ كَرِهَ فَإِنّمَا كَرِهَ الْإِفْرَاطَ فِي الرّفْعِ كَمَا كُرِهَ رَفْعُ الصّوْتِ بِالدّعَاءِ جِدّا . قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمّ وَلَا غَائِبًا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ الّذِي قَدّمْنَاهُ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ .

النّهْيُ عَنْ قَتْلِ الضّعَفَاءِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَرّ يَوْمَئِذٍ بِامْرَأَةٍ وَقَدْ قَتَلَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ، وَالنّاسُ مُتَقَصّفُونَ عَلَيْهَا ، فَقَالَ " مَا هَذَا ؟ " فَقَالُوا : امْرَأَةٌ قَتَلَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِبَعْضِ مَنْ مَعَهُ أَدْرِكْ خَالِدًا ، فَقُلْ لَهُ : إنّ رَسُولَ اللّهِ يَنْهَاك أَنْ تَقْتُلَ وَلِيدًا أَوْ امْرَأَةً أَوْ عَسِيفًا
Sمِنْ أَحْكَامِ الْقِتَالِ
[ ص 226 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَنْهَاك أَنْ تَقْتُلَ وَلِيدًا ، أَوْ امْرَأَةً أَوْ عَسِيفًا الْعَسِيفُ الْأَجِيرُ وَهَذَا مُنْتَزَعٌ مِنْ كِتَابِ اللّهِ تَعَالَى ، لِأَنّهُ يَقُولُ { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } [ الْبَقَرَةُ 190 ] فَاقْتَضَى دَلِيلُ الْخِطَابِ أَلَا تُقْتَلَ الْمَرْأَةُ إلّا أَنْ [ ص 227 ] أَخْطَأَ مَنْ قَاسَ مَسْأَلَةَ الْمُرْتَدّةِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنّ الْمُرْتَدّةَ لَا تُسْتَرَقّ وَلَا تُسْبَى ، كَمَا تُسْبَى نِسَاءُ الْحَرْبِ وَذَرَارِيّهُمْ فَتَكُونُ مَالًا لِلْمُسْلِمِينَ فَنَهَى عَنْ قَتْلِهِنّ لِذَلِكَ .

شَأْنُ الشّيْمَاءِ وَبِجَادٍ
[ ص 227 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ يَوْمَئِذٍ إنْ قَدَرْتُمْ عَلَى بِجَادٍ ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ، فَلَا يُفْلِتَنّكُمْ وَكَانَ قَدْ أَحْدَثَ حَدَثًا ، فَلَمّا ظَفِرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ سَاقُوهُ وَأَهْلَهُ وَسَاقُوا مَعَهُ الشّيْمَاءَ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى أُخْتَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الرّضَاعَةِ فَعَنُفُوا عَلَيْهَا فِي السّيَاقِ فَقَالَتْ لِلْمُسْلِمِينَ تَعْلَمُوا وَاَللّهِ أَنّي لَأُخْتُ صَاحِبِكُمْ مِنْ الرّضَاعَةِ فَلَمْ يُصَدّقُوهَا حَتّى أَتَوْا بِهَا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ السّعْدِيّ ، قَالَ فَلَمّا اُنْتُهِيَ بِهَا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي أُخْتُك مِنْ الرّضَاعَةِ قَالَ " وَمَا عَلَامَةُ ذَلِكَ ؟ " قَالَتْ عَضّةٌ عَضَضْتَنِيهَا فِي ظَهْرِي وَأَنَا مُتَوَرّكَتُك ؛ قَالَ فَعَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَلَامَةَ فَبَسَطَ لَهَا [ ص 228 ] وَقَالَ إنْ أَحْبَبْت فَعِنْدِي مَحَبّةُ مَكْرَمَةٍ وَإِنْ أَحْبَبْت أَنْ أُمَتّعَك وَتَرْجِعِي إلَى قَوْمِك فَعَلْت " ؟ فَقَالَتْ بَلْ تُمَتّعُنِي وَتَرُدّنِي إلَى قَوْمِي ، فَمَتّعَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرَدّهَا إلَى قَوْمِهَا فَزَعَمَتْ بَنُو سَعْدٍ أَنّهُ أَعْطَاهَا غُلَامًا لَهُ يُقَالُ لَهُ مَكْحُولٌ ، وَجَارِيَةٌ فَزَوّجَتْ أَحَدُهُمَا الْأُخْرَى ، فَلَمْ يَزَلْ فِيهِمْ مِنْ نَسْلِهِمَا بَقِيّةٌ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } إلَى قَوْلِهِ { وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ }

شُهَدَاءُ يَوْمِ حُنَيْنٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَهَذِهِ تَسْمِيَةُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ حُنَيْنٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ ثُمّ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ : أَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ . وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى : يَزِيدُ بْنُ زَمَعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدٍ ، جَمَحَ بِهِ فَرَسٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ الْجُنَاحُ فَقُتِلَ . وَمِنْ الْأَنْصَارِ : سُرَاقَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَدِيّ مِنْ بَنِي الْعَجْلَانِ . وَمِنْ الْأَشْعَرِيّينَ : أَبُو عَامِرٍ الْأَشْعَرِيّ .

الْحَفْنَةُ وَشَاهَتْ الْوُجُوهُ
فَصْلٌ
[ ص 228 ] غَزْوَةِ حُنَيْنٍ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ الْحَفْنَةُ الّتِي أَخَذَهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْبَطْحَاءِ ، وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ فَرَمَى بِهَا أَوْجُهَ الْكُفّارِ وَقَالَ شَاهَتْ الْوُجُوهُ فَانْهَزَمُوا . وَالْمُسْتَقْبَلُ مِنْ شَاهَتْ تَشَاهُ لِأَنّ وَزْنَهُ فَعَلَ وَفِيهِ أَنّ الْبَغْلَةَ حَضَجَتْ بِهِ إلَى الْأَرْضِ حِينَ أَخَذَ الْحَفْنَةَ ثُمّ قَامَتْ بِهِ وَفَرّوا حَضَجَتْ أَيْ ضَرَبَتْ بِنَفْسِهَا إلَى الْأَرْضِ وَأَلْصَقَتْ بَطْنَهَا بِالتّرَابِ وَمِنْهُ الْحِضَاجُ وَهُوَ زِقّ مَمْلُوءٌ قَدْ أُسْنِدَ إلَى شَيْءٍ وَأَمِيلُ إلَيْهِ وَالْبَغْلَةُ الّتِي كَانَ عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ هِيَ الّتِي تُسَمّى الْبَيْضَاءَ وَهِيَ الّتِي أَهْدَاهَا إلَيْهِ فَرْوَةُ بْنُ نُفَاثَةَ وَقَدْ تَقَدّمَ ذِكْرُ الْأُخْرَى ، وَاسْمُهَا : دُلْدُلُ وَذِكْرُ مَنْ أَهْدَاهَا إلَيْهِ .
نِدَاءُ أَصْحَابِ الشّجَرَةِ
وَذَكَرَ نِدَاءَ الْعَبّاسِ يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ السّمُرَةِ وَكَانَ الْعَبّاسُ صِيّتَا جَهِيرًا . [ ص 229 ] بَيْعَةِ الرّضْوَانِ الّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَ الشّجَرَةِ ، وَكَانَتْ الشّجَرَةُ سَمُرَةً .

سَبَايَا حُنَيْنٍ يُجْمَعُونَ
[ ص 229 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَبَايَا حُنَيْنٍ وَأَمْوَالُهَا وَكَانَ عَلَى الْمَغَانِمِ مَسْعُودُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيّ ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسَلّمَ بِالسّبَايَا وَالْأَمْوَالِ إلَى الْجِعِرّانَةِ ، فَحُبِسَتْ بِهَا .

شِعْرُ بُجَيْرٍ يَوْمَ حُنَيْنٍ
وَقَالَ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ :
لَوْلَا الْإِلَهُ وَعَبْدُهُ وَلّيْتُمْ ... حِينَ اسْتَخَفّ الرّعْبُ كُلّ جَبَانٍ
بِالْجِزْعِ يَوْمَ حَبَا لَنَا أَقْرَانُنَا ... وَسَوَابِحٌ يَكْبُونَ لِلْأَذْقَانِ
مِنْ بَيْنِ سَاعٍ ثَوْبُهُ فِي كَفّهِ ... وَمُقَطّرٍ بِسَنَابِكِ وَلِبَانِ
وَاَللّهُ أَهْلَكَهُمْ وَفَرّقَ جَمْعَهُمْ ... وَأَذَلّهُمْ بِعِبَادَةِ الشّيْطَانِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيَرْوِي فِيهَا بَعْضُ الرّوَاةِ
إذْ قَامَ عَمّ نَبِيّكُمْ وَوَلِيّهُ ... يَدْعُونَ يَا لَكَتِيبَةِ الْإِيمَانِ
أَيْنَ الّذِينَ هُمْ أَجَابُوا رَبّهُمْ ... يَوْمَ الْعَرِيضِ وَبَيْعَةِ الرّضْوَانِ

شِعْرٌ لِعَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ :
إنّي وَالسّوَابِحُ يَوْمَ جَمْعٍ ... وَمَا يَتْلُو الرّسُولُ مِنْ الْكِتَابِ
لَقَدْ أَحْبَبْت مَا لَقِيَتْ ثَقِيفٌ ... بِجَنْبِ الشّعْبِ أَمْسِ مِنْ الْعَذَابِ
هُمْ رَأْسُ الْعَدُوّ مِنْ أَهْل نَجْدٍ ... فَقَتْلُهُمْ أَلَذّ مِنْ الشّرَابِ
هَزَمْنَا الْجَمْعَ جَمْعَ بَنِي قَسِيّ ... وَحَكّتْ بَرْكَهَا بِبَنِي رِئَابِ
وَصِرْمًا مِنْ هِلَالٍ غَادَرَتْهُمْ ... بِأَوْطَاسٍ تُعَفّرُ بِالتّرَابِ
وَلَوْ لَاقَيْنَ جَمْعَ بَنِي كِلَابٍ ... لَقَامَ نِسَاؤُهُمْ وَالنّقْعُ كَابِي
رَكَضْنَا الْخَيْلَ فِيهِمْ بَيْنَ بُسّ ... إلَى الْأَوْرَالِ تَنْحِطُ بِالنّهَابِ
[ ص 230 ] ... كَتِيبَتُهُ تَعَرّضُ لِلضّرَابِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْلُهُ " تُعَفّرُ بِالتّرَابِ " : عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ .
ابْنُ عَفِيفٍ يَرُدّ عَلَى ابْنِ مِرْدَاسٍ
فَأَجَابَهُ عَطِيّةُ بْنُ عَفِيفٍ النّصْرِيّ ، فِيمَا حَدّثَنَا ابْنُ هِشَامٍ ، فَقَالَ
أَفَاخِرَةٌ رِفَاعَةُ فِي حُنَيْنٍ ... وَعَبّاسُ ابْنُ رَاضِعَةِ اللّجَابِ
فَإِنّك وَالْفِجَارَ كَذَاتِ مِرْطٍ ... لِرَبّتِهَا وَتَرْفُلُ فِي الْإِهَابِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : قَالَ عَطِيّةُ بْنُ عَفِيفٍ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ لَمّا أَكْثَرَ عَبّاسٌ عَلَى هَوَازِنَ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ وَرِفَاعَةُ مِنْ جُهَيْنَةَ .

شِعْرٌ آخَرُ لِعَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا [ ص 231 ]
يَا خَاتَمَ النّبَاءِ إنّك مُرْسَلٌ ... بِالْحَقّ كُلّ هُدَى السّبِيلِ هُدَاكَا
إنّ الْإِلَهَ بَنَى عَلَيْك مَحَبّةً ... فِي خَلْقِهِ وَمُحَمّدًا سَمّاكَا
ثُمّ الّذِينَ وَفَوْا بِمَا عَاهَدْتهمْ ... جُنْدٌ بَعَثْت عَلَيْهِمْ الضّحّاكَا
رَجُلًا بِهِ ذَرَبُ السّلَاحِ كَأَنّهُ ... لَمّا تَكَنّفَهُ الْعَدُوّ يَرَاكَا
يَغْشَى ذَوِي النّسَبِ الْقَرِيبِ وَإِنّمَا ... يَبْغِي رِضَا الرّحْمَنِ ثُمّ رِضَاكَا
أُنْبِيكَ أَنّي قَدْ رَأَيْت مَكَرّهُ ... تَحْتَ الْعَجَاجَةِ يَدْمَغُ الْإِشْرَاكَا
طَوْرًا يُعَانِقُ بِالْيَدَيْنِ وَتَارَةً ... يَفْرِي الْجَمَاجِمَ صَارِمًا بَتّاكًا
يَغْشَى بِهِ هَامَ الْكُمَاةِ وَلَوْ تَرَى ... مِنْهُ الّذِي عَايَنْت كَانَ شَفَاكَا
وَبَنُو سُلَيْمٍ مُعْنِقُونَ أَمَامَهُ ... ضَرْبًا وَطَعْنًا فِي الْعَدُوّ دِرَاكًا
يَمْشُونَ تَحْتَ لِوَائِهِ وَكَأَنّهُمْ ... أُسْدُ الْعَرِينِ أَرَدْنَ ثَمّ عِرَاكَا
مَا يَرْتَجُونَ مِنْ الْقَرِيبِ قَرَابَةً ... إلّا لِطَاعَةِ رَبّهِمْ وَهَوَاكَا
هَذِي مَشَاهِدُنَا الّتِي كَانَتْ لَنَا ... مَعْرُوفَةً وَوَلِيّنَا مَوْلَاكَا
Sالضّحّاكُ بْنُ سُفْيَانَ
فَصْلٌ وَذَكَرَ [ ص 230 ] الضّحّاكَ بْنَ سُفْيَانَ الْكِلَابِيّ ، وَهُوَ الضّحّاكُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عَوْفِ بْنِ كَعْبِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ كِلَابٍ الْكِلَائِيّ يُكَنّى أَبَا سَعِيدٍ وَكَانَ يَقُومُ عَلَى رَأْسِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مُتَوَشّحًا بِالسّيْفِ وَكَانَ يُعَدّ وَحْدَهُ بِمِائَةِ فَارِسٍ ، وَكَانَتْ بَنُو سُلَيْمٍ يَوْمَ حُنَيْنٍ تِسْعَمِائَةٍ فَأَمّرَهُ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَخْبَرَهُ أَنّهُ قَدْ تَمّمَهُمْ بِهِ أَلْفًا ، وَإِيّاهُ أَرَادَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ بِقَوْلِهِ جُنْدٌ بَعَثْت عَلَيْهِمْ الضّحّاكَا [ ص 231 ] الضّحّاكُ بْنُ سُفْيَانَ هَذَا بِالْكِلَابِيّ إنّمَا هُوَ الضّحّاكُ بْنُ سُفْيَانَ السّلَمِيّ . وَذَكَرَ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ الْبَكّائِيّ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ نَسَبَهُ مَرْفُوعًا إلَى بُهْثَةَ بْنِ سُلَيْمٍ وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو عُمَرَ فِي الصّحَابَةِ إلّا الْأَوّلُ وَهُوَ الْكِلَابِيّ فَاَللّهُ أَعْلَمُ .

وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا [ ص 232 ]
إمّا تَرَى يَا أُمّ فَرْوَةَ خَيْلُنَا ... مِنْهَا مُعَطّلَةً نُقَادُ وَظُلّعُ
أَوْهَى مُقَارَعَةُ الْأَعَادِي دَمّهَا ... فِيهَا نَوَافِذُ مِنْ جِرَاحٍ تَنْبُعُ
فَلَرُبّ قَائِلَةٍ كَفَاهَا وَقْعُنَا ... أَزْمَ الْحُرُوبِ فَسِرْبُهَا لَا يُفْزَعُ
لَا وَفْدَ كَالْوَفْدِ الْأُلَى عَقَدُوا لَنَا ... سَبَبًا بِحَبْلِ مُحَمّدٍ لَا يُقْطَعُ
وَفْدُ أَبُو قُطْنٍ حُزَابَةُ مِنْهُمْ ... وَأَبُو الْغُيُوثِ وَوَاسِعٌ وَالْمِقْنَعُ
وَالْقَائِدُ الْمِئَةَ الّتِي وَفّى بِهَا ... تِسْعَ الْمِئِينَ فَتَمّ أَلْفٌ أَقْرَعُ
جَمَعَتْ بَنُو عَوْفٍ وَرَهْطُ مُخَاشِنٍ ... سِتّا وَأَحْلَبُ مِنْ خِفَافٍ أَرْبَعُ
فَهُنَاكَ إذْ نُصِرَ النّبِيّ بِأَلْفِنَا ... عَقَدَ النّبِيّ لَنَا لِوَاءً يَلْمَعُ
فُزْنَا بِرَايَتِهِ وَأَوْرَثَ عِقْدُهُ ... مَجْدُ الْحَيَاةِ وَسُؤْدُدًا لَا يُنْزَعُ
وَغَدَاةَ نَحْنُ مَعَ النّبِيّ جُنَاحُهُ ... بِبِطَاحِ مَكّةَ وَالْقَنَا يَتَهَزّعُ
كَانَتْ إجَابَتُنَا لِدَاعِي رَبّنَا ... بِالْحَقّ مِنّا حَاسِرٌ وَمُقَنّعُ
فِي كُلّ سَابِغَةٍ تَخَيّرَ سَرْدَهَا ... دَاوُدُ إذْ نَسَجَ الْحَدِيدَ وَتُبّعُ
وَلَنَا عَلَى بِئْرَيْ حُنَيْنٍ مَوْكِبٌ ... دَمَغَ النّفَاقَ وَهَضْبَةٌ مَا تُقْلَعُ
نُصِرَ النّبِيّ بِنَا وَكُنّا مَعْشَرًا ... فِي كُلّ نَائِبَةٍ نَضُرّ وَنَنْفَعُ
ذُدْنَا غَدَاتَئِذٍ هَوَازِنَ بِالْقَنَا ... وَالْخَيْلُ يَغْمُرُهَا عَجَاجٌ يَسْطَعُ
إذْ خَافَ حَدّهُمْ النّبِيّ وَأَسْنَدُوا ... جَمْعًا تَكَادُ الشّمْسُ مِنْهُ تَخْشَعُ
تُدْعَى بَنُو جُشَمٍ وَتُدْعَى وَسْطَهُ ... أَفْنَاءَ نَصْرٍ وَالْأَسِنّةُ شُرّعُ
حَتّى إذَا قَالَ الرّسُولُ مُحَمّدٌ ... أَبَنِي سُلَيْمٍ قَدْ وَفَيْتُمْ فَارْفَعُوا
رُحْنَا وَلَوْلَا نَحْنُ أَجْحَفَ بَأْسُهُمْ ... بِالْمُؤْمِنِينَ وَأَحْرَزُوا مَا جَمّعُوا

وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ
[ ص 232 ] [ ص 233 ] [ ص 234 ]
عَفَا مِجْدَلٌ مِنْ أَهْلِهِ فَمُتَالِعُ ... فَمِطْلَا أَرِيكٍ قَدْ خَلَا فَالْمَصَانِعُ
دِيَارٌ لَنَا يَا جُمْلُ إذْ جُلّ عَيْشِنَا ... رَخِيّ وَصَرْفُ الدّارِ لِلْحَيّ جَامِعُ
حُبَيّبَهٌ أَلَوَتْ بِهَا غُرْبَةُ النّوَى ... لِبَيْنٍ فَهَلْ مَاضٍ مِنْ الْعَيْشِ رَاجِعُ
فَإِنّ تَبْتَغِي الْكُفّارُ غَيْرَ مَلُومَةٍ ... فَإِنّي وَزِيرٌ لِلنّبِيّ وَتَابِعُ
دَعَانَا إلَيْهِمْ خَيْرُ وَفْدٍ عَلِمَتْهُمْ ... خُزَيْمَةُ وَالْمَرّارُ مِنْهُمْ وَوَاسِعُ
فَجِئْنَا بِأَلْفٍ مِنْ سُلَيْمٍ عَلَيْهِمْ ... لَبُوسٌ لَهُمْ مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ رَائِعُ
نُبَايِعُهُ بِالْأَخْشَبَيْنِ وَإِنّمَا ... يَدُ اللّهِ الْأَخْشَبَيْنِ نُبَايِعُ
فَجُسْنَا مَعَ الْمَهْدِيّ مَكّةَ عَنْوَةً ... بِأَسْيَافِنَا وَالنّقْعُ كَابٍ وَسَاطِعُ
عَدَنِيّةٌ وَالْخَيْلُ يَغْشَى مُتُونَهَا ... حَمِيمٌ وَآنٍ مِنْ دَمِ الْجَوْفِ نَاقِعُ
وَيَوْمُ حُنَيْنٍ حِينَ سَارَتْ هَوَازِنُ ... إلَيْنَا وَضَاقَتْ بِالنّفُوسِ الْأَضَالِعُ
صَبَرْنَا مَعَ الضّحّاكِ لَا يَسْتَفِزّنَا ... قِرَاعُ الْأَعَادِي مِنْهُمْ وَالْوَقَائِعُ
أَمَامَ رَسُولِ اللّهِ يَخْفُقُ فَوْقَنَا ... لِوَاءٌ كَخُذْرُوفِ السّحَابَةِ لَامِعُ
عَشِيّةَ ضَحّاكُ بْنُ سُفْيَانَ مُعْتَصٍ ... بِسَيْفِ رَسُولِ اللّهِ وَالْمَوْتُ كَانِعُ
نَذُودُ أَخَانَا عَنْ أَخِينَا وَلَوْ نَرَى ... مَصَالًا لَكُنّا الْأَقْرَبِينَ نُتَابِعُ
وَلَكِنّ دِينَ اللّهِ دِينُ مُحَمّدٍ ... رَضِينَا بِهِ فِيهِ الْهُدَى وَالشّرَائِعُ
أَقَامَ بِهِ بَعْدَ الضّلَالَةِ أَمْرَنَا ... وَلَيْسَ لِأَمْرِ حَمّهُ اللّهُ دَافِعُ
Sقَصِيدَةُ ابْنِ مِرْدَاسٍ الْعَيْنِيّةُ
وَذَكَرَ شِعْرَ عَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ الّذِي أَوّلُهُ عَفَا مِجْدَلٌ مِنْ أَهْلِهِ فَمُتَالِعُ الْمِجْدَلُ الْقَصْرُ وَهُوَ فِي هَذَا الْبَيْتِ اسْمُ عَلَمٍ لِكَانَ . وَفِيهِ فَمِطْلَا أَرِيكٍ . الْمِطْلُ يُمَدّ وَيُقْصَرُ وَهِيَ أَرْضٌ تَعْقِلُ الرّجُلَ عَنْ الْمَشْيِ فَقِيلَ إنّهَا مِفْعَالٌ مِنْ الطّلْيِ وَهُوَ الْجَرْيُ يُطْلَى ، أَيْ تُعْقَلُ رِجْلُهُ وَقِيلَ إنّ الْمِطْلَاءَ فِعْلَاءُ مِنْ مَطَلْت إذَا مَدَدْت ، وَجَمْعُهُ مِطَالٌ فِي الْأَمَالِي :
أَمَا تَسْأَلَانِ اللّهَ أَنّ يَسْقِيَ الْحِمَى ... أَلَا فَسَقَى اللّهُ الْحِمَى فَالْمَطَالِيَا
[ ص 233 ]
تَذُودُ أَخَانَا عَنْ أَخِينَا ، وَلَوْ نَرَى ... مَصَالًا لَكُنّا الْأَقْرَبِينَ نُتَابِعُ
يُرِيدُ أَنّهُ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ وَسُلَيْمٌ مِنْ قَيْسٍ ، كَمَا أَنّ هَوَازِنَ مِنْ قَيْسٍ ، كِلَاهُمَا ابْنُ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصَفَةَ بْنِ قَيْسٍ ، فَمَعْنَى الْبَيْتِ نُقَاتِلُ إخْوَتَنَا ، وَنَذُودُهُمْ عَنْ إخْوَتِنَا مِنْ سُلَيْمٍ وَلَوْ نَرَى فِي حُكْمِ الدّينِ مَصَالًا مُفْعِلًا مِنْ الصّوْلَةِ لَكُنّا مَعَ الْأَقْرَبِينَ هَوَازِنُ :
وَلَكِنّ دِينَ اللّهِ دِينُ مُحَمّدٍ ... رَضِينَا بِهِ فِيهِ الْهُدَى وَالشّرَائِعُ
وَفِيهِ قَوْلُهُ
دَعَانَا إلَيْهِ خَيْرُ وَفْدٍ عَلِمَتْهُمْ ... خُزَيْمَةُ وَالْمَدّارُ مِنْهُمْ وَوَاسِعُ
هَؤُلَاءِ وَفْدُ بَنِي سُلَيْمٍ وَفَدُوا عَلَى النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَأَسْلَمُوا ، ثُمّ دَعَوْا قَوْمَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَذَكَرَ فِيهِمْ الْمَدّارَ السّلَمِيّ وَوَاسِعًا السّلَمِيّ وَخُزَيْمَةَ ، وَهُوَ خُزَيْمَةُ بْنُ جُزَيّ أَخُو حِبّانَ بْنِ جُزَيّ وَكَانَ الدّارَقُطْنِيّ يَقُولُ فِيهِ جِزَيّ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالزّايِ . وَفِيهَا : يَدَ اللّهِ بَيْنَ الْأَخْشَبَيْنِ نُبَايِعُ [ ص 234 ] { إِنّ الّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنّمَا يُبَايِعُونَ اللّهَ يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [ الْفَتْحُ 10 ] أَقَامَ يَدَ رَسُول اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَقَامَ يَدِهِ كَمَا قَالَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ : " هُوَ يَمِينُ اللّهِ فِي الْأَرْضِ " ، أَقَامَهُ فِي الْمُصَافَحَةِ وَالتّقْبِيلِ مَقَامَ يَمِينِ الْمَلِكِ الّذِي يُصَافِحُ بِهَا ، لِأَنّ الْحَاجّ وَافِدٌ عَلَى الْمَلِكِ الْأَعْلَى وَزَائِرٌ بَيْتَهُ فَجَعَلَ تَقْبِيلَهُ الْحَجَرَ مُصَافَحَةً لَهُ وَكَمَا جُعِلَتْ يَمِينُ السّائِلِ الْآخِذِ لِلصّدَقَةِ الْمُتَقَبّلَةِ يَمِينَ الرّحْمَنِ سُبْحَانَهُ تَرْغِيبًا فِي الصّدَقَةِ وَتَبْشِيرًا بِقَبُولِهَا ، وَتَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ مَنْ أُعْطِيَتْ لَهُ فَإِنّمَا أَعْطَاهَا الْمُتَصَدّقُ لِلّهِ سُبْحَانَهُ وَإِيّاهُ سُبْحَانَهُ أَفْرَضَ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَيَأْخُذُ الصّدَقَاتِ } [ التّوْبَةُ 104 ] وَقَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " إنّمَا يَضَعُهَا فِي كَفّ الرّحْمَنِ يُرَبّيهَا لَه " الْحَدِيثُ . شِعْرُ عَبّاسٍ الْكَافِي : وَقَوْلُ عَبّاسٍ فِي الشّعْرِ الْكَافِي :
إنّ الْإِلَهَ بَنَى عَلَيْك مَحَبّةً ... فِي خَلْقِهِ وَمُحَمّدًا سَمّاكَا
مَعْنًى دَقِيقٌ وَغَرَضٌ نَبِيلٌ وَتَفَطّنٌ لِحِكْمَةٍ نَبَوِيّةٍ قَدْ بَيّنّاهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ فِي تَسْمِيَةِ اللّهِ تَعَالَى لِنَبِيّهِ مُحَمّدًا وَأَحْمَدَ وَأَنّهُ اسْمٌ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ قَوْمِهِ قَبْلَهُ وَأَنّ أُمّهُ أُمِرَتْ فِي الْمَنَامِ أَنْ تُسَمّيَهُ مُحَمّدًا ، فَوَافَقَ مَعْنَى الِاسْمِ صِفَةَ الْمُسَمّى بِهِ مُوَافَقَةً تَامّةً قَدْ بَيّنّا شَرْحَهَا هُنَالِكَ وَلِذَلِك قَالَ بَنَى عَلَيْك مَحَبّةً لِأَنّ الْبِنَاءَ تَرْكِيبٌ عَلَى أُسّ فَأَسّسَ لَهُ سُبْحَانَهُ مُقَدّمَاتٍ لِنُبُوّتِهِ مِنْهَا : تَسْمِيَتُهُ بِمُحَمّدٍ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ ثُمّ لَمْ يَزَلْ يُدْرِجُهُ فِي مَحَامِدِ الْأَخْلَاقِ وَمَا تُحِبّهُ الْقُلُوبُ مِنْ الشّيَمِ حَتّى بَلَغَ إلَى أَعْلَى الْمَحَامِدِ مَرْتَبَةً وَتَكَامَلَتْ لَهُ الْمَحَبّةُ مِنْ الْخَالِقِ وَالْخَلِيقَةِ ، وَظَهَرَ مَعْنَى اسْمِهِ فِيهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَهُوَ اللّبِنَةُ الّتِي اسْتَتَمّ بِهَا الْبِنَاءُ كَمَا أَخْبَرَ عَلَيْهِ السّلَامُ وَهَذَا كُلّهُ مَعْنَى بَيْتِ عَبّاسٍ حَيْثُ قَالَ إنّ الْإِلَهَ بَنَى عَلَيْك ، الْبَيْتُ . [ ص 235 ] الدّامّاءُ وَالدّأْمَاءُ وَقَوْلُهُ فِي الْعَيْنِيّةِ الْأُخْرَى يَصِفُ الْخَيْلَ أَوْهَى مُقَارَعَةُ الْأَعَادِي دَمّهَا يُرِيدُ شَحْمَهَا ، يُقَالُ أَدْمِمْ قِدْرَك بِوَدَكٍ وَدَمَمْت الشّيْءَ طَلَيْته ، وَمِنْهُ الدّامّاءُ أَحَدُ جُحْرَةِ الْيَرْبُوعِ لِأَنّهُ يَدُمّ بَابَهُ بِقِشْرٍ رَقِيقٍ مِنْ الْأَرْضِ فَلَا يَرَاهُ الصّائِدُ فَإِذَا طَلَبَ مِنْ الْقَاصِعَاءِ أَوْ الرّاهِطَاءِ أَوْ النّافِقَاءِ أَوْ الْعَانُقَاءِ وَهِيَ الْأَبْوَابُ الْأُخَرُ نَطَحَ بِرَأْسِهِ بَابَ الدّامّاءِ فَخَرَقَهُ وَأَمّا الدّأْمَاءُ بِالتّخْفِيفِ فَهُوَ الْبَحْرُ وَهُوَ فَعْلَاءُ لِأَنّهُ يُهْمَزُ فَيُقَالُ دَأْمَاءُ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ .

[ ص 235 ] وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ [ ص 236 ] [ ص 237 ]
تَقَطّعَ بَاقِي وَصْلِ أُمّ مُؤَمّلٍ ... بِعَاقِبَةٍ وَاسْتَبْدَلَتْ نِيّةً خُلْفَا
وَقَدْ حَلَفَتْ بِاَللّهِ لَا تَقْطَعُ الْقُوَى ... فَمَا صَدَقَتْ فِيهِ وَلَا بَرّتْ الْحَلْفَا
خُفَافِيّةٌ بَطْنُ الْعَقِيقِ مَصِيفُهَا ... وَتَحْتَلّ فِي الْبَادِينَ وَجْرَةَ فَالْعُرْفَا
فَإِنْ تَتْبَعْ الْكُفّارَ أُمّ مُؤَمّلٍ ... فَقَدْ زَوّدَتْ قَلْبِي عَلَى نَأْيِهَا شَغَفَا
وَسَوْفَ يُنْبِيهَا الْخَبِيرُ بِأَنّنَا ... أَبَيْنَا وَلَمْ نَطْلُبْ سِوَى رَبّنَا حِلْفَا
وَأَنّا مَعَ الْهَادِي النّبِيّ مُحَمّدٍ ... وَفِينَا وَلَمْ يَسْتَوْفِهَا مَعْشَرٌ أَلْفَا
بِفِتْيَانِ صِدْقٍ مِنْ سُلَيْمٍ أَعِزّةٍ ... أَطَاعُوا فَمَا يَعْصُونَ مِنْ أَمْرِهِ حَرْفَا
خِفَافٌ وَذَكْوَانُ وَعَوْفٌ تَخَالُهُمْ ... مَصَاعِبُ زَافَتْ فِي طَرُوقَتِهَا كُلْفَا
كَأَنّ النّسِيجَ الشّهْبَ وَالْبِيضَ مُلْبَسٌ ... أَسُودًا تَلَاقَتْ فِي مَرَاصِدِهَا غُضْفَا
بِنَا عَزّ دِينُ اللّهِ غَيْرَ تَنَحّلٍ ... وَزُدْنَا عَلَى الْحَيّ الّذِي مَعَهُ ضِعْفَا
بِمَكّةَ إذْ جِئْنَا كَأَنّ لِوَاءَنَا ... عُقَابٌ أَرَادَتْ بَعْدَ تَحْلِيقِهَا خَطْفَا
عَلَى شُخّصِ الْأَبْصَارِ تَحْسَبُ بَيْنَهَا ... إذَا هِيَ جَالَتْ فِي مَرَاوِدِهَا عَزْفَا
غَدَاةَ وَطِئْنَا الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ نَجِدْ ... لِأَمْرِ رَسُولِ اللّهِ عَدْلًا وَلَا صَرْفَا
بِمُعْتَرَكٍ لَا يَسْمَعُ الْقَوْمُ وَسْطَهُ ... لَنَا زَجْمَةً إلّا التّذَامُرَ وَالنّقْفَا
بِبِيضٍ نُطِيرُ الْهَامَ عَنْ مُسْتَقَرّهَا ... وَنَقْطِفُ أَعْنَاقَ الْكُمَاةِ بِهَا قَطْفَا
فَكَائِن تَرَكْنَا مِنْ قَتِيلٍ مُلَحّبٍ ... وَأَرْمَلَةٍ تَدْعُو عَلَى بَعْلِهَا لَهْفَا
رِضَا اللّهِ نَنْوِي لَا رِضَا النّاسِ نَبْتَغِي ... وَلِلّهِ مَا يَبْدُو جَمِيعًا وَمَا يَخْفَى
Sشِعْرُ عَبّاسٍ الْفَاوِيّ وَذَكَرَ شِعْرَ عَبّاسٍ الْفَاوِيّ وَفِيهِ بِعَاقِبَةٍ وَاسْتَبْدَلَتْ نِيّةً خُلْفَا النّيّةُ مِنْ النّوَى وَهُوَ الْبُعْدُ . وَخُلْفَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ أَيْ فَعَلْت ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ الْخُلْفِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مُؤَكّدًا لِلِاسْتِبْدَالِ لِأَنّ اسْتِبْدَالَهَا بِهِ خُلْفٌ مِنْهَا لِمَا وَعَدَتْهُ بِهِ وَيُقَوّي هَذَا الْبَيْتَ الْبَيْتُ الّذِي بَعْدَهُ وَقَدْ حَلَفَتْ بِاَللّهِ لَا تَقْطَعُ الْقُوَى يَعْنِي : قُوَى الْحَبْلِ وَالْحَبْلُ هُنَا : هُوَ الْعَهْدُ ثُمّ قَالَ فَمَا صَدَقَتْ فِيهِ وَلَا بَرّتْ الْحَلْفَا وَهَذَا هُوَ الْخُلْفُ الْمُتَقَدّمُ ذِكْرُهُ . [ ص 236 ] وَفِينَا وَلَمْ يَسْتَوْفِهَا مَعْشَرٌ أَلْفَا أَيْ وَفِينَا أَلْفًا وَلَمْ يَسْتَوْفِهَا غَيْرُنَا ، أَيْ لَمْ يَسْتَوْفِ هَذِهِ الْعُدّةَ غَيْرُنَا مِنْ الْقَبَائِلِ . وَقَوْلُهُ إذَا هِيَ جَالَتْ فِي مَرَاوِدِهَا عَزْفَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ مِرْوَدٍ وَهُوَ الْوَتَدُ كَمَا قَالَ الْآخَرُ يَصِفُ طَعْنَةً
وَمُسْتَنّةٌ كَاسْتِنَانِ الْخَرُو ... فِ قَدْ قَطَعَ الْحَبْلَ بِالْمِرْوَدِ
وَالْخَرُوفُ هَاهُنَا فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ الْمُهْرُ وَقَالَ آخَرُونَ وَالْفَرَسُ يُسَمّى خَرُوفًا ، وَمَعْنَاهُ عِنْدِي فِي هَذَا الْبَيْتِ أَنّهَا صِفَةٌ مِنْ خَرَفْت الثّمَرَةَ إذَا جَنَيْتهَا فَالْفَرَسُ خَرُوفٌ لِلشّجَرِ وَالنّبَاتِ لَا نَقُولُ إنّ الْفَرَسَ يُسَمّى خَرُوفًا فِي عُرْفِ اللّغَةِ وَلَكِنْ خَرُوفٌ فِي مَعْنَى أَكُولٍ لِأَنّهُ يَخْرُفُ أَيْ يَأْكُلُ فَهُوَ صِفَةٌ لِكُلّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ مِنْ الدّوَابّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَرَاوِدِهَا جَمْعُ مُرَادٍ وَهُوَ حَيْثُ تَرُودُ الْخَيْلِ تَذْهَبُ وَتَجِيءُ فَمُرَادُ وَمَرَاوِدُ مِثْلُ مَقَامٍ وَمَقَاوِمَ وَمَنَارٍ وَمَنَاوِرَ . [ ص 237 ] لَنَا زَجْمَةً إلّا التّذَامُرَ وَالنّقْفَا يُقَالُ مَا زَجَمَ زَجْمَةً أَيْ مَا نَبَسَ بِكَلِمَةٍ وَقَوْسٌ زَجُومٌ أَيْ ضَعِيفَةُ الْإِرْنَانِ . وَقَوْلُهُ إلّا التّذَامُرَ أَيْ يَذْمُرُ بَعْضُنَا بَعْضًا ، وَيُحَرّضُهُ عَلَى الْقَتْلِ وَالنّقْفُ كَسْرُ الرّءُوسِ وَنَاقِفُ الْحَنْظَلَةِ كَاسِرُهَا وَمُسْتَخْرِجُ مَا فِيهَا .
النّسَبُ إلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ وَتَصْغِيرُهَا
قَالَ الْمُؤَلّفُ وَإِنّمَا قُلْنَا فِي هَذِهِ الْقَصِيدَةِ وَفِي الّتِي بَعْدَهَا الْغَاوِيَةُ وَالرّاوِيَةُ لِأَنّ النّسَبَ إلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ الّتِي أَوَاخِرُهَا أَلِفٌ هَكَذَا ، هُوَ بِالْوَاوِ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ وَفِي التّصْغِيرِ تُقْلَبُ أَلِفُهَا يَاءً تَقُولُ فِي تَصْغِيرِ بَاءٍ بُيَيّةٌ وَخَاءٍ خُيَيّةٌ وَمَا كَانَ آخِرُهُ حَرْفًا سَالِمًا مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ قُلِبَتْ أَلِفُهُ وَاوًا فِي التّصْغِيرِ فَتَقُولُ فِي الذّالِ ذُوَيْلَةُ وَفِي الضّادِ ضُوَيْدَةُ وَكَذَلِكَ قَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ وَقِيَاسُ الْوَاوِ فِي النّحْوِ أَنْ تُصَغّرَ أُوَيّةٌ بِهَمْزَةٍ [ فِي ] أَوّلِهَا .

وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاس ٍ أَيْضًا [ ص 238 ] [ ص 239 ]
مَا بَالُ عَيْنِك فِيهَا عَائِرٌ سَهَرٌ ... مِثْلُ الْحَمَاطَةِ أَغْضَى فَوْقَهَا الشّفُرُ
عَيْنٌ تَأَوّبَهَا مِنْ شَجْوِهَا أَرَقٌ ... فَالْمَاءُ يَغْمُرُهَا طَوْرًا وَيَنْحَدِرُ
كَأَنّهُ نَظْمُ دُرّ عِنْدَ نَاظِمَةٍ ... تَقَطّعَ السّلْكُ مِنْهُ فَهُوَ مُنْتَثِرُ
يَا بُعْدَ مَنْزِلِ مَنْ تَرْجُو مَوَدّتَهُ ... وَمَنْ أَتَى دُونَهُ الصّمّانُ فَالْحُفَرُ
دَعْ مَا تَقَدّمَ مِنْ عَهْدِ الشّبَابِ فَقَدْ ... وَلّى الشّبَابُ وَزَارَ الشّيْبُ وَالزّعَرُ
وَاذْكُرْ بَلَاءَ سُلَيْمٍ فِي مَوَاطِنِهَا ... وَفِي سُلَيْمٍ لِأَهْلِ الْفَخْرِ مُفْتَخَرُ
قَوْمٌ هُمْ نَصَرُوا الرّحْمَنَ وَاتّبَعُوا ... دِينَ الرّسُولِ وَأَمْرُ النّاسِ مُشْتَجَرُ
لَا يَغْرِسُونَ فَسِيلَ النّخْلِ وَسْطَهُمْ ... وَلَا تُخَاوِرُ فِي مَشْتَاهُمْ الْبَقَرُ
إلّا سَوَابِحَ كَالْعِقْبَانِ مَقْرَبَةً ... فِي دَارَةٍ حَوْلَهَا الْأَخْطَارُ وَالْعُكَرُ
تُدْعَى خِفَافٌ وَعَوْفٌ فِي جَوَانِبِهَا ... وَحَيّ ذَكْوَانَ لَا مَيْلُ وَلَا ضُجُرُ
الضّارِبُونَ جُنُودَ الشّرْكِ ضَاحِيَةً ... بِبَطْنِ مَكّةَ وَالْأَرْوَاحُ تَبْتَدِرُ
حَتّى دَفَعْنَا وَقَتْلَاهُمْ كَأَنّهُمْ ... نَخْلٌ بِطَاهِرَةِ الْبَطْحَاءِ مُنْقَعِرُ
وَنَحْنُ يَوْمَ حُنَيْنٍ كَانَ مَشْهَدُنَا ... لِلدّينِ عِزّا وَعِنْدَ اللّهِ مُدّخَرُ
إذْ نَرْكَبُ الْمَوْتَ مُخْضَرّا بَطَائِنُهُ ... وَالْخَيْلُ يَنْجَابُ عَنْهَا سَاطِعٌ كَدِرُ
تَحْتَ اللّوَاءِ مَعَ الضّحّاكِ يَقْدُمُنَا ... كَمَا مَشَى اللّيْثُ فِي غَابَاتِهِ الْخَدِرُ
فِي مَأْزِقٍ مِنْ مَجَرّ الْحَرْبِ كَلْكَلُهَا ... تَكَادُ تَأْفُلُ مِنْهُ الشّمْسُ وَالْقَمَرُ
وَقَدْ صَبَرْنَا بِأَوْطَاسٍ أَسِنّتَنَا ... لِلّهِ نَنْصُرُ مَنْ شِئْنَا وَنَنْتَصِرُ
حَتّى تَأَوّبَ أَقْوَامٌ مَنَازِلَهُمْ ... لَوْلَا الْمَلِيكُ وَلَوْلَا نَحْنُ مَا صَدَرُوا
فَمَا تَرَى مَعْشَرٌ قَلّوا وَلَا كَثُرُوا ... إلّا قَدْ اصْبَحَ مِنّا فِيهِمْ أَثَرُ
Sالْقَصِيدَةُ الرّاوِيَةُ
وَقَوْلُ عَبّاسٍ فِي الْقَصِيدَةِ الرّاوِيَةُ مِثْلُ الْحَمَاطَةِ أَغْضَى فَوْقَهَا الشّفُرُ الْحَمَاطَةُ مِنْ وَرَقِ الشّجَرِ مَا فِيهِ خُشُونَةٌ وَحُرُوشَةٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْحُمَاطُ وَرَقُ التّينِ الْجَبَلِيّ . وَقَالَ أَيْضًا فِي بَاب الْقَطَانِيّ الْحَمَاطُ تِبْنُ الذّرَةِ إذَا ذُرّيَتْ وَلَهُ أُكَالٌ فِي [ ص 238 ]
حَتّى شَئَاهَا كَلِيلٌ مُوهِمًا عَمَلُ ... بَاتَتْ طِرَابًا وَبَاتَ اللّيْلُ لَمْ يَنَمْ
شَئَاهَا : شَاقّهَا ، يُقَالُ شَاهَ وَشَاءَهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ أَيْ شَاقّهُ وَأَنْشَدَ وَلَقَدْ عَهِدْت تَشَاءُ بِالْأَظْعَانِ فَتَأَمّلْهُ فَإِنّهُ بَدِيعٌ مِنْ الْمَعَانِي . وَقَوْلُهُ الصّمّانُ وَالْحَفَرُ : هُمَا مَوْضِعَانِ وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيّ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ . وَالْعَكَرُ جَمْعُ عَكَرَةٍ وَهِيَ الْقِطْعَةُ الضّخْمَةُ مِنْ الْمَالِ . وَعَكَرَةُ اللّسَانِ أَيْضًا : أَصْلُهُ وَمَا غَلُظَ مِنْهُ وَعَكَدَتُهُ أَيْضًا بِالدّالِ .

وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا [ ص 240 ] [ ص 241 ]
يَا أَيّهَا الرّجُلُ الّذِي تَهْوِي بِهِ ... وَجْنَاةُ مُجْمَرَةُ الْمَنَاسِمِ عِرْمِسُ
إمّا أَتَيْت عَلَى النّبِيّ فَقُلْ لَهُ ... حَقّا عَلَيْك إذَا اطْمَأَنّ الْمَجْلِسُ
يَا خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطِيّ وَمَنْ مَشَى ... فَوْقَ التّرَابِ إذَا تُعَدّ الْأَنْفُسُ
إنّا وَفَيْنَا بِاَلّذِي عَاهَدْتنَا ... وَالْخَيْلُ تُقْدَعُ بِالْكُمَاةِ وَتُضْرَسُ
إذْ سَالَ مِنْ أَفْنَاءِ بُهْثَةَ كُلّهَا ... جَمْعٌ تَظِلّ بِهِ الْمَخَارِمُ تَرْجِسُ
حَتّى صَبَحْنَا أَهْلَ مَكّةَ فَيْلَقًا ... شَهْبَاءَ يَقْدُمُهَا الْهُمَامُ الْأَشْوَسُ
مِنْ كُلّ أَغْلَبَ مِنْ سُلَيْمٍ فَوْقَهُ ... بَيْضَاءَ مُحْكِمَةَ الدّخَالِ وَقَوْنَسُ
يَرْوِي الْقَنَاةَ إذَا تَجَاسَرَ فِي الْوَغَى ... وَتَخَالُهُ أَسَدًا إذَا مَا يَعْبِسُ
يَغْشَى الْكَتِيبَةَ مُعْلِمًا وَبِكَفّهِ ... عَضْبٌ يَقُدّ بِهِ وَلَدْنٌ مِدْعَسُ
وَعَلَى حُنَيْنٍ قَدْ وَفَى مِنْ جَمْعِنَا ... أَلْفٌ أُمِدّ بِهِ الرّسُولُ عَرَنْدَسُ
كَانُوا أَمَامَ الْمُؤْمِنِينَ دَرِيئَةً ... وَالشّمْسُ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهِمْ أَشْمَسُ
نَمْضِي وَيَحْرُسُنَا الْإِلَهُ بِحِفْظِهِ ... وَاَللّهُ لَيْسَ بِضَائِعٍ مَنْ يَحْرُسُ
وَلَقَدْ حُبِسْنَا بِالْمَنَاقِبِ مَحْبِسًا ... رَضِيَ الْإِلَهُ بِهِ فَنِعْمَ الْمَحْبِسُ
وَغَدَاةَ أَوْطَاسٍ شَدَدْنَا شَدّةً ... كَفَتْ الْعَدُوّ وَقِيلَ مِنْهَا يَا احْبِسُوا
تَدْعُو هَوَازِنَ بِالْإِخَاوَةِ بَيْنَنَا ... ثَدْيٌ تَمُدّ بِهِ هَوَازِنُ أَيْبَسُ
حَتّى تَرَكْنَا جَمْعَهُمْ وَكَأَنّهُ ... عِيرٌ تُعَاقِبُهُ السّبَاعُ مُفَرّسُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي خَلَفٌ الْأَحْمَرُ قَوْلَهُ " وَقِيلَ مِنْهَا يَا احْبِسُوا " .
S[ ص 239 ] قَصِيدَةُ عَبّاسٍ السّينِيّةُ وَقَوْلُهُ فِي السّينِيّةِ وَجْنَاءُ مُجْمَرَةُ الْمَنَاسِمِ عِرْمِسُ وَجْنَاءُ غَلِيظَةُ الْوَجَنَاتِ بَارِزَتُهَا ، وَذَلِكَ يَدُلّ عَلَى غُثُورِ عَيْنَيْهَا ، وَهُمْ يَصِفُونَ الْإِبِلَ بِغُئُورِ الْعَيْنَيْنِ عِنْدَ طُولِ السّفَارِ وَيُقَالُ هِيَ الْوَجْنَةُ فِي الْآدَمِيّينَ رَجُلٌ مُوجَنٌ وَامْرَأَةٌ مُوجَنَةٌ وَلَا يُقَالُ وَجْنَاءُ . قَالَهُ يَعْقُوبُ . وَمُجْمَرَةُ الْمَنَاسِمِ أَيْ نَكَبَتْ مَنَاسِمَهَا الْجِمَارُ وَهِيَ الْحِجَارَةُ وَالْعِرْمِسُ الصّخْرَةُ الصّلْبَةُ وَتُشَبّهُ بِهَا النّاقَةُ الْجَلْدَةُ وَقَدْ يُرِيدُ بِمُجْمَرَةٍ أَيْضًا أَنّ مَنَاسِمَهَا مُجْتَمِعَةٌ مُنْضَمّةٌ فَذَلِكَ أَقْوَى لَهَا ، وَقَدْ حُكِيَ أَجْمَرَتْ الْمَرْأَةُ شَعْرَهَا إذَا ظَفّرَتْهُ وَأَجْمَرَ الْأَمِيرُ الْجَيْشَ أَيْ حَبَسَهُ عَنْ الْقُفُولِ قَالَ الشّاعِرُ
مُعَاوِيَ إمّا أَنْ يُجَهّزَ أَهْلُنَا ... إلَيْنَا ، وَإِمّا أَنّ نَئُوبَ مُعَاوِيَا
أَأَجْمَرْتنَا إجْمَارَ كِسْرَى جُنُودَهُ ... وَمَنّيْتنَا حَتّى نَسِينَا الْأَمَانِيَا
[ ص 240 ] كَانُوا أَمَامَ الْمُؤْمِنِينَ دَرِيئَةً الدّرِيئَةُ الْحَلْقَةُ الّتِي يُتَعَلّمُ عَلَيْهَا الرّمْيُ أَيْ كَانُوا كَالدّرِيئَةِ لِلرّمَاحِ وَقَوْلُهُ وَالشّمْسُ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهِمْ أَشْمَسُ يُرِيدُ لَمَعَانَ الشّمْسِ فِي كُلّ بَيْضَةٍ مِنْ بَيْضَاتِ الْحَدِيدِ وَالسّيُوفِ كَأَنّهَا شَمْسٌ وَهُوَ مَعْنًى صَحِيحٌ وَتَشْبِيهٌ مَلِيحٌ . وَفِيهَا قَوْلُهُ وَالْخَيْلُ تَقْرَعُ بِالْكُمَاةِ وَتُضْرَسُ أَيْ تَضْرِبُ أَضْرَاسَهَا بِاللّجُمِ . تَقُولُ ضَرَسَتْهُ أَيْ ضَرَبَتْ أَضْرَاسَهُ كَمَا تَقُولُ رَأَسْته ، أَيْ أَصَبْت رَأْسَهُ . [ ص 241 ]

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا :
نَصَرْنَا رَسُولَ اللّهِ مِنْ غَضَبٍ لَهُ ... بِأَلْفِ كَمِيّ لَا تُعَدّ حَوَاسِرُهْ
حَمَلْنَا لَهُ فِي عَامِلِ الرّمْحِ رَايَةً ... يَذُودُ بِهَا فِي حَوْمَةِ الْمَوْتِ نَاصِرُهْ
وَنَحْنُ خَضَبْنَاهَا دَمًا فَهْوَ لَوْنُهَا ... غَدَاةَ حُنَيْنٍ يَوْمَ صَفْوَانَ شَاجِرُهْ
وَكُنّا عَلَى الْإِسْلَامِ مَيْمَنَةً لَهُ ... وَكَانَ لَنَا عَقْدُ اللّوَاءِ وَشَاهِرُهْ
وَكُنّا لَهُ دُونَ الْجُنُودِ بِطَانَةً ... يُشَاوِرُنَا فِي أَمْرِهِ وَنُشَاوِرُهْ
دَعَانَا فَسَمّانَا الشّعَارَ مُقَدّمًا ... وَكُنّا لَهُ عَوْنًا عَلَى مَنْ يُنَاكِرُهْ
جَزَى اللّهُ خَيْرًا مِنْ نَبِيّ مُحَمّدًا ... وَأَيّدَهُ بِالنّصْرِ وَاَللّهُ نَاصِرُهْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي مِنْ قَوْلِهِ " وَكُنّا عَلَى الْإِسْلَامِ " إلَى آخِرِهَا ، بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ وَلَمْ يَعْرِفْ الْبَيْتَ الّذِي أَوّلُهُ حَمَلْنَا لَهُ فِي عَامِلِ الرّمْحِ رَايَةً وَأَنْشَدَنِي بَعْدَ قَوْلِهِ
وَكَانَ لَنَا عَقْدُ اللّوَاءِ وَشَاهِرُهْ ... وَنَحْنُ خَضَبْنَاهُ دَمًا فَهْوَ لَوْنُهُ

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا [ ص 242 ]
مَنْ مُبْلِغُ الْأَقْوَامِ أَنّ مُحَمّدًا ... رَسُولُ الْإِلَهِ رَاشِدٌ حَيْثُ يَمّمَا
دَعَا رَبّهُ وَاسْتَنْصَرَ اللّهَ وَحْدَهُ ... فَأَصْبَحَ قَدْ وَفّى إلَيْهِ وَأَنْعَمَا
سَرَيْنَا وَوَاعَدْنَا قُدَيْدًا مُحَمّدًا ... يَؤُمّ بِنَا أَمْرًا مِنْ اللّهِ مُحْكَمَا
تَمَارَوْا بِنَا فِي الْفَجْرِ حَتّى تَبَيّنُوا ... مَعَ الْفَجْرِ فِتْيَانًا وِغَابًا مُقَوّمَا
عَلَى الْخَيْلِ مَشْدُودًا عَلَيْنَا دُرُوعُنَا ... وَرَجْلًا كَدُفّاعِ الْأَتِيّ عَرَمْرَمَا
فَإِنّ سَرَاةَ الْحَيّ إنْ كُنْت سَائِلًا ... سُلَيْمٌ وَفِيهِمْ مِنْهُمْ مَنْ تَسَلّمَا
وَجُنْدٌ مِنْ الْأَنْصَارِ لَا يَخْذُلُونَهُ ... أَطَاعُوا فَمَا يَعْصُونَهُ مَا تَكَلّمَا
فَإِنْ تَكُ قَدْ أَمّرْت فِي الْقَوْمِ خَالِدًا ... وَقَدّمْته فَإِنّهُ قَدْ تَقَدّمَا
بِجُنْدٍ هَدَاهُ اللّهُ أَنْتَ أَمِيرُهُ ... تُصِيبُ بِهِ فِي الْحَقّ مَنْ كَانَ أَظْلَمَا
حَلَفْت يَمِينًا بَرّةً لِمُحَمّدٍ ... فَأَكْمَلْتهَا أَلْفًا مِنْ الْخَيْلِ مُلْجَمَا
وَقَالَ نَبِيّ الْمُؤْمِنِينَ تَقَدّمُوا ... وَحُبّ إلَيْنَا أَنْ نَكُونَ الْمُقَدّمَا
وَبِتْنَا بِنَهْيِ الْمُسْتَدِيرِ وَلَمْ يَكُنْ ... بِنَا الْخَوْفُ إلّا رَغْبَةً وَتَحَزّمَا
أَطَعْنَاك حَتّى أَسْلَمَ النّاسُ كُلّهُمْ ... وَحَتّى صَبَحْنَا الْجَمْعَ أَهْلَ يَلَمْلَمَا
يَضِلّ الْحِصَانُ الْأَبْلَقُ الْوَرْدُ وَسْطُهُ ... وَلَا يَطْمَئِنّ الشّيْخُ حَتّى يُسَوّمَا
سَمَوْنَا لَهُمْ وِرْدَ الْقَطَا زَفّهُ ضُحًى ... وَكُلّ تَرَاهُ عَنْ أَخِيهِ قَدْ احْجَمَا
لَدُنْ غُدْوَةٍ حَتّى تَرَكْنَا عَشِيّةً ... حُنَيْنًا وَقَدْ سَالَتْ دَوَافِعُهُ دَمَا
إذَا شِئْت مِنْ كُلّ رَأَيْت طِمِرّةً ... وَفَارِسُهَا يَهْوِي وَرُمْحًا مُحَطّمَا
وَقَدْ أَحْرَزَتْ مِنّا هَوَازِنُ سِرْبَهَا ... وَحُبّ إلَيْهَا أَنْ نَخِيبَ وَنُحْرَمَا
Sقَصِيدَةُ عَبّاسٍ الْمِيمِيّةِ
وَقَوْلُهُ [ ص 242 ] تَسَلّمَا . يُرِيدُ وَفِي سُلَيْمٍ مِنْ اعْتَزَى إلَيْهِمْ مِنْ حُلَفَائِهِمْ فَتَسَلّمَ بِذَلِكَ كَمَا تَقُولُ تَقَيّسَ الرّجُلُ إذَا اعْتَزَى إلَى قَيْسٍ . أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : وَقَيْسُ عَيْلَانَ وَمَنْ تَقَيّسَا

شِعْرُ ضَمْضَمٍ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ
قَالَ [ ص 243 ] ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ ضَمْضَمُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ جُشَمِ بْنِ عَبْدِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ عَصِيّةَ السّلَمِيّ فِي يَوْمِ حُنَيْن ٍ ، وَكَانَتْ ثَقِيفٌ أَصَابَتْ كِنَانَةَ بْنَ الْحَكَمِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الشّرِيدِ ، فَقَتَلَ بِهِ مِحْجَنًا وَابْنَ عَمّ لَهُ وَهُمَا مِنْ ثَقِيفٍ :
نَحْنُ جَلَبْنَا الْخَيْلَ مِنْ غَيْرِ مَجْلَبٍ ... إلَى جُرَشٍ مِنْ أَهْلِ زَيّانَ وَالْغَمْ
نُقَتّلُ أَشْبَالَ الْأُسُودِ وَنَبْتَغِي ... طَوَاغِيَ كَانَتْ قَبْلَنَا لَمْ تُهْدَمْ
فَإِنْ تَفْخَرُوا بِابْنِ الشّرِيدِ فَإِنّنِي ... تَرَكْت بِوَجّ مَأْتَمًا بَعْدَ مَأْتَمِ
أَبَأْتهمَا بِابْنِ الشّرِيدِ وَغَرّهُ ... جِوَارَكُمْ وَكَانَ غَيْرَ مُذَمّمِ
تُصِيبُ رِجَالًا مِنْ ثَقِيفٍ رِمَاحُنَا ... وَأَسْيَافُنَا يَكْلُمْنَهُمْ كُلّ مَكْلَمِ
وَقَالَ ضَمْضَمُ بْنُ الْحَارِث ِ أَيْضًا [ ص 244 ]
أَبْلِغْ لَدَيْك ذَوِي الْحَلَائِلِ آيَةً ... لَا تَأْمَنَنّ الدّهْرَ ذَاتَ خِمَارِ
بَعْدَ الّتِي قَالَتْ لِجَارَةِ بَيْتِهَا ... قَدْ كُنْت لَوْ لَبِثَ الْغَزِيّ بِدَارِ
لَمّا رَأَتْ رَجُلًا تَسَفّعَ لَوْنَهُ ... وَغْرُ الْمَصِيفَةِ وَالْعِظَامُ عَوَارِي
مُشُطَ الْعِظَامِ تَرَاهُ آخِرَ لَيْلِهِ ... مُتَسَرْبِلًا فِي دُرْعِهِ لِغَوَارِ
إذْ لَا أُزَالُ عَلَى رِحَالَةِ نَهْدَةٍ ... جَرْدَاءَ تَلْحَقُ بِالنّجَادِ إزَارِي
يَوْمًا عَلَى أَثَرِ النّهَابِ وَتَارَةً ... كُتِبَتْ مُجَاهِدَةً مَعَ الْأَنْصَارِ
وَزُهَاءَ كُلّ خَمِيلَةٍ أَزْهَقْتهَا ... مَهْلًا تَمَهّلُهُ وَكُلّ خَبَارِ
كَيْمَا أُغَيّرُ مَا بِهَا مِنْ حَاجَةٍ ... وَتَوَدّ أَنّي لَا أَءُوبَ فَجَارِ
Sحَوْلَ قَصِيدَةِ ضَمْضَمِ بْنِ الْحَارِثِ
وَأَنْشَدَ [ ص 243 ] حُنَيْنًا مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ يَنْبَغِي لِأَبِي عُمَرَ رَحِمَهُ اللّهُ أَنْ يَذْكُرَهُ فِي الصّحَابَةِ لِأَنّهُ مِنْ شَرْطِهِ فَلَمْ يَفْعَلْ وَقَدْ أَنْشَدَ لَهُ ابْنُ إسْحَاقَ مَا يَدُلّ عَلَى أَنّهُ مِنْهُمْ لِقَوْلِهِ
يَوْمًا عَلَى أَثَرِ النّهَابِ وَتَارَةً ... كُتِبَتْ مُجَاهَدَةً مَعَ الْأَنْصَارِ
يَعْنِي : فَرَسَهُ وَكَذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ أَبُو عُمَرَ ضَمْضَمَ بْنَ قَتَادَةَ الْعِجْلِيّ وَلَهُ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ فِي قُدُومِهِ عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَذَلِكَ أَنّهُ قَالَ لَهُ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي قَدْ تَزَوّجْت امْرَأَةً فَوَلَدَتْ لِي غُلَامًا أَسْوَدَ فَقَالَ لَهُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - " هَلْ لَك مِنْ إبِلٍ " ، فَقَالَ نَعَمْ وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ [ ص 244 ] الصّحِيحَيْنِ ، وَسُمّيَ فِي بَعْضِ الْمُسْنَدَاتِ وَذَكَرَهُ عَبْدُ الْغَنِيّ فِي الْمُبْهَمَاتِ وَذَكَرَ عَبْدُ الْغَنِيّ فِي الْحَدِيثِ زِيَادَةً حَسَنَةً قَالَ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ بَنِي عِجْلٍ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ عَجَائِزُ مِنْ عِجْلٍ فَسُئِلْنَ عَنْ الْمَرْأَةِ الّتِي وَلَدَتْ الْغُلَامَ الْأَسْوَدَ فَقُلْنَ كَانَ فِي آبَائِهَا رَجُلٌ أَسْوَدُ

رِثَاءُ أَبِي خِرَاشٍ لَابْن عَجْوَةَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ قَالَ أُسِرَ زُهَيْرُ بْنُ الْعَجْوَةِ الْهُذَلِيّ يَوْمَ حُنَيْنٍ ، فَكُتِفَ فَرَآهُ جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ الْجُمَحِيّ ، فَقَالَ لَهُ أَأَنْتَ الْمَاشِي لَنَا بِالْمَغَايِظِ ؟ فَضَرَبَ عُنُقَهُ فَقَالَ أَبُو خِرَاشٍ الْهُذَلِيّ يَرْثِيهِ وَكَانَ ابْنَ عَمّهِ [ ص 245 ]
عَجّفَ أَضْيَافِي جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ ... بِذِي فَجْرٍ تَأْوِي إلَيْهِ الْأَرَامِلُ
طَوِيلُ نِجَادِ السّيْفِ لَيْسَ بِجَيْدَرٍ ... إذَا اهْتَزّ وَاسْتَرْخَتْ عَلَيْهِ الْحَمَائِلُ
تَكَادُ يَدَاهُ تُسْلِمَانِ إزَارَهُ ... مِنْ الْجُودِ لَمّا أَذْلَقَتْهُ الشّمَائِلُ
إلَى بَيْتِهِ يَأْوِي الضّرِيكُ إذَا شَتَا ... وَمُسْتَنْبِحٌ بَالِي الدّرِيسَيْنِ عَائِلُ
تَرَوّحَ مَقْرُورًا وَهَبّتْ عَشِيّةً ... لَهَا حَدَبٌ تَحْتَثّهُ فَيُوَائِلُ
فَمَا بَالُ أَهْلِ الدّارِ لَمْ يَتَصَدّعُوا ... وَقَدْ بَانَ مِنْهَا اللّوْذَعِيّ الْحُلَاحِلُ
فَأُقْمِمَ لَوْ لَاقَيْته غَيْرَ مُوثَقٍ ... لِآبَك بِالنّعْفِ الضّبَاعِ الْجَيَائِلُ
وَإِنّك لَوْ وَاجَهْته إذْ لَقِيته ... فَنَازَلْته أَوْ كُنْت مِمّنْ يُنَازِلُ
لَظَلّ جَمِيلٌ أَفْحَشَ الْقَوْمِ صُرَعَةً ... وَلَكِنّ قَرْنَ الظّهْرِ لِلْمَرْءِ شَاغِلُ
فَلَيْسَ كَعَهْدِ الدّارِ يَا أُمّ ثَابِتٍ ... وَلَكِنْ أَحَاطَتْ بِالرّقَابِ السّلَاسِلُ
وَعَادَ الْفَتَى كَالشّيْخِ لَيْسَ بِفَاعِلٍ ... سِوَى الْحَقّ شَيْئًا وَاسْتَرَاحَ الْعَوَاذِلُ
وَأَصْبَحَ إخْوَانُ الصّفَاءِ كَأَنّمَا ... أَهَالَ عَلَيْهِمْ جَانِبَ التّرْبِ هَائِلُ
فَلَا تَحْسَبِي أَنّي نَسَبْت لَيَالِيًا ... بِمَكّةَ إذْ لَمْ نَعْدُ عَمّا نُحَاوِلُ
إذْ النّاسُ نَاسٌ وَالْبِلَادُ بِغِرّةٍ ... وَإِذْ نَحْنُ لَا تُثْنَى عَلَيْنَا الْمَدَاخِلُ
Sشِعْرُ أَبِي خِرَاشٍ
وَذَكَرَ شِعْرَ أَبِي خِرَاشٍ وَاسْمُهُ خُوَيْلِدُ بْنُ مُرّةَ شَاعِرٌ إسْلَامِيّ مَاتَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ رَحِمَهُ اللّهُ مِنْ نَهْشِ حَيّةٍ نَهَشَتْهُ كَانَ سَبَبُهَا أَضْيَافٌ نَزَلُوا بِهِ وَخَبَرُهُ بِذَلِكَ عَجِيبٌ وَلَهُ فِيهِ شِعْرٌ . وَالْخِرَاشُ وَسْمٌ لِإِبِلٍ يَكُونُ مِنْ الصّدْغِ إلَى الذّقْنِ فَقَوْلُهُ
تَكَادُ يَدَاهُ تُسْلَمَانِ إزَارَهُ ... مِنْ الْجُودِ لَمّا أَذْلَفَتْهُ الشّمَائِلُ
يُرِيدُ أَنّهُ مِنْ سَخَائِهِ يُرِيدُ أَنْ يَتَجَرّدَ مِنْ إزَارِهِ لِسَائِلِهِ فَيُسَلّمَهُ إلَيْهِ وَأَلْفَيْت بِخَطّ أَبِي الْوَلِيدِ الْوَقْشِيّ الْجُودُ هَاهُنَا ، وَعَلَى هَذِهِ الرّوَايَةِ وَبِهَذِهِ الرّتْبَةِ السّخَاءُ وَكَذَلِكَ فَسّرَهُ الْأَصْمَعِيّ وَالطّوسِيّ وَأَمّا عَلَى مَا وَقَعَ فِي شِعْرِ الْهُذَلِيّ وَفُسّرَ فِي الْغَرِيبِ الْمُصَنّفِ فَهُوَ الْجُوعُ وَمَوْضِعُهُ فِي الشّعْرِ الْمَذْكُورِ يَتْلُو قَوْلَهُ تَرَوّحَ مَقْرُورًا . وَفِي الْغَرِيبِ رِدَاءَهُ بَدَلَ إزَارِهِ . [ ص 245 ] وَلَكِنّ قَرْنَ الظّهْرِ لِلْمَرْءِ شَاغِلُ قَرْنٌ بِالْقَافِ جَمْعُهُ أَقْرَانٍ وَيُرْوَى : وَلَكِنّ أَقْرَانَ الظّهُورِ مَقَاتِلُ مَقَاتِلُ جَمْعُ مَقْتَلٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ مِثْلُ مِحْرَبٍ مِنْ الْحَرْبِ أَيْ مَنْ كَانَ قِرْنَ طُهْرٍ فَإِنّهُ قَاتِلٌ وَغَالِبٌ . وَقَوْلُهُ يَصِفُ الرّيحَ لَهَا حَدَبٌ تَحْتَثّهُ فَيُوَائِلُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَقَعَ فِي الْأَصْلِ وَقَدْ يُسَمّى انْحِدَارُ الْمَاءِ وَنَحْوُهُ حَدَبًا ، فَيَكُونُ هَذَا مِنْهُ وَإِلّا فَالْخَدَبُ بِالْخَاءِ الْمَنْقُوطَةِ أَشْبَهُ بِمَعْنَى الْبَيْتِ لِأَنّهُمْ يَقُولُونَ رِيحٌ خَدْبَاءُ كَانَ بِهَا خَدْبًا ، وَهُوَ الْهَوَجُ .

ابْنُ عَوْفٍ يَعْتَذِرُ عَنْ فِرَارِهِ
[ ص 246 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ وَهُوَ يَعْتَذِرُ يَوْمَئِذٍ مِنْ فِرَارِهِ
مَنَعَ الرّفَادَ فَمَا أُغَمّضُ سَاعَةً ... نَعَمٌ بِأَجْزَاعِ الطّرِيقِ مُخَضْرَمُ
سَائِلْ هَوَازِنَ هَلْ أَضَرّ عَدُوّهَا ... وَأُعِينَ غَارِمُهَا إذَا مَا يَغْرَمُ
وَكَتِيبَةٌ لَبّسْتهَا بِكَتِيبَةٍ ... فِئَتَيْنِ مِنْهَا حَاسِرٌ وَمُلْأَمُ
وَمُقَدّمٌ تَعْيَا النّفُوسُ لِضِيقِهِ ... قَدّمْته وَشُهُودُ قَوْمِي أَعْلَمُ
فَوَرَدْته وَتَرَكْت إخْوَانًا لَهُ ... يَرِدُونَ غَمْرَتَهُ وَغَمَرَتُهُ الدّمُ
فَإِذَا انْجَلَتْ غَمَرَاتُهُ أَوْرَثْنَنِي ... مَجْدَ الْحَيَاةِ وَمَجْدَ غُنْمِ يُقْسَمُ
كَلّفْتُمُونِي ذَنْبَ آلِ مُحَمّدٍ ... وَاَللّهُ أَعْلَمُ مَنْ أَعَقّ وَأَظْلَمُ
وَخَذَلْتُمُونِي إذْ أُقَاتِلُ وَاحِدًا ... وَخَذَلْتُمُونِي إذْ تُقَاتِلُ خَثْعَمُ
وَإِذَا بَنَيْت الْمَجْدَ يَهْدِمُ بَعْضُكُمْ ... لَا يَسْتَوِي بَانٍ وَآخَرُ يَهْدِمُ
وَأَقَبّ مِخْمَاصِ الشّتَاءِ مُسَارِعٌ ... فِي الْمَجْدِ يَنْمِي لِلْعُلَى مُتَكَرّمٌ
أَكْرَهْت فِيهِ أَلّةً يَزْنِيّةً ... سَحْمَاءَ يَقْدَمُهَا سِنَانٌ سَلْجَمُ
وَتَرَكْت حَنّتَهُ تَرُدّ وَلِيّهُ ... وَتَقُولُ لَيْسَ عَلَى فُلَانَةَ مَقْدَمُ
وَنَصَبْت نَفْسِي لِلرّمَاحِ مُدَجّجًا ... مِثْلَ الدّرِيئَةِ تُسْتَحَلّ وَتُشْرَمُ
Sمِنْ شِعْرِ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ
[ ص 246 ] وَذَكَرَ فِي آخِرِ بَيْتٍ مِنْ شِعْرِ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ : مِثْلَ الدّرِيئَةِ تُسْتَحَلّ وَتُشْرَمُ الدّرِيئَةُ
الْحَلْقَةُ الّتِي يُتَعَلّمُ عَلَيْهَا الطّعْنُ وَهُوَ مَهْمُوزٌ وَتُسْتَحَلّ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَقَعَ فِي الْأَصْلِ وَفِي غَيْرِهِ تُسْتَخَلّ بِالْخَاءِ مُعْجَمَةً وَهُوَ أَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى مِنْ الْخِلَالِ وَقَدْ يَكُونُ لِتَسْتَحِلّ وَحَيّه مِنْ الْحَلّ إذْ بَعْدَهُ تُشْرَمُ وَكِلَاهُمَا قَرِيبٌ فِي الْمَعْنَى . [ ص 247 ] [ ص 248 ]

هَوَازِنِيّ يَذْكُرُ إسْلَامَ قَوْمِهِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ قَائِلٌ فِي هَوَازِنَ أَيْضًا ، يَذْكُرُ مَسِيرَهُمْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ بَعْدَ إسْلَامِهِ [ ص 247 ]
أَذْكُرْ مَسِيرَهُمْ لِلنّاسِ إذْ جَمَعُوا ... وَمَالِكٌ فَوْقَهُ الرّايَاتِ تَخْتَفِقُ
وَمَالِكُ مَالِكٌ مَا فَوْقَهُ أَحَدٌ ... يَوْمَ حُنَيْنٍ عَلَيْهِ التّاجُ يَأْتَلِقُ
حَتّى لَقُوا الْبَاسَ حِينَ الْبَاسُ يَقْدُمهُمْ ... عَلَيْهِمْ الْبِيضُ وَالْأَبْدَانُ وَالدّرَقُ
فَضَارَبُوا النّاسَ حَتّى لَمْ يَرَوْا أَحَدًا ... حَوْلَ النّبِيّ وَحَتّى جَنّهُ الْغَسَقُ
ثُمّتَ نُزّلَ جِبْرِيلُ بِنَصْرِهِمْ ... مِنْ السّمَاءِ فَمَهْزُومٌ وَمُعْتَنِقُ
مِنّا وَلَوْ غَيْرَ جِبْرِيلِ يُقَاتِلُنَا ... لَمَنّعَتْنَا إذَنْ أَسْيَافُنَا الْعُتُقُ
وَفَاتَنَا عُمَرُ الْفَارُوقُ إذْ هُزِمُوا ... بِطَعْنَةٍ بَلّ مِنْهَا سَرْجَهُ الْعَلَقُ
جُشَمِيّةٌ تَرْثِي أَخَوَيْهَا
وَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي جُشَمٍ تَرْثِي أَخَوَيْنِ لَهَا أُصِيبَا يَوْمَ حُنَيْنٍ :
أَعَيْنِيّ جُودَا عَلَى مَالِكٍ ... مَعًا وَالْعَلَاءِ وَلَا تَجْمُدَا
هُمَا الْقَاتِلَانِ أَبَا عَامِرٍ ... وَقَدْ كَانَ ذَا هِبَةٍ أَرْبَدَا
هُمَا تَرَكَاهُ لَدَى مُجْسَدٍ ... يَنُوءُ نَزِيفًا وَمَا وُسّدَا
أَبُو ثَوَابٍ يَهْجُو قُرَيْشًا
وَقَالَ أَبُو ثَوَابٍ زَيْدُ بْنُ صُحَارٍ ، أَحَدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ :
أَلَا هَلْ أَتَاك أَنْ غَلَبَتْ قُرَيْشٌ ... هَوَازِنَ وَالْخُطُوبُ لَهَا شُرُوطُ
وَكُنّا يَا قُرَيْشُ إذَا غَضِبْنَا ... يَجِيءُ مِنْ الْغِضَابِ دَمٌ عَبِيطُ
وَكُنّا يَا قُرَيْشُ إذَا غَضِبْنَا ... كَأَنّ أُنُوفَنَا فِيهَا سَعُوطُ
فَأَصْبَحْنَا تُسَوّقُنَا قُرَيْشٌ ... سِيَاقَ الْعِيرِ يَحْدُوهَا النّبِيطُ
فَلَا أَنَا إنْ سُئِلْت الْخَسْفَ آبٍ ... وَلَا أَنَا أَنْ أَلِينَ لَهُمْ نَشِيطُ
سَيُنْقَلُ لَحْمُهَا فِي كُلّ فَجّ ... وَتُكْتَبُ فِي مَسَامِعِهَا الْقُطُوطُ
وَيُرْوَى " الْخُطُوطُ " ، وَهَذَا الْبَيْتُ فِي رِوَايَةِ أَبِي سَعْدٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ أَبُو ثَوَابٍ زِيَادُ بْنُ ثَوَابٍ . وَأَنْشَدَنِي خَلَفٌ الْأَحْمَرُ قَوْلَهُ يَجِيءُ مِنْ الْغِضَابِ دَمٌ عَبِيطُ
[ ص 248 ] ابْنِ إسْحَاقَ .
ابْنُ وَهْبٍ يَرُدّ عَلَى ابْنِ أَبِي ثَوَابٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَجَابَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ ، ثُمّ مِنْ بَنِي أَسَدٍ ، فَقَالَ
بِشَرْطِ اللّهِ نَضْرِبُ مَنْ لَقِينَا ... كَأَفْضَلَ مَا رَأَيْت مِنْ الشّرُوطِ
وَكُنّا يَا هَوَازِنُ حِينَ نَلْقَى ... نَبُلّ الْهَامَ مِنْ عَلَقٍ عَبِيطِ
بِجَمْعِكُمْ وَجَمْعِ بَنِي قَسِيّ ... نَحُكّ الْبَرْكَ كَالْوَرِقِ الْخَبِيطِ
أَصَبْنَا مِنْ سُرَاتِكُمُ وَمِلْنَا ... بِقَتْلٍ فِي الْمَبَايِنِ وَالْخَلِيطِ
بِهِ الْمُلْتَاثُ مُفْتَرِشٌ يَدَيْهِ ... يَمُجّ الْمَوْتَ كَالْبِكْرِ النّحِيطِ
فَإِنْ تَكُ قَيْسُ عَيْلَانَ غِضَابًا ... فَلَا يَنْفَكّ يُرْغِمُهُمْ سَعُوطِي
شِعْرُ خَدِيجٍ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ
وَقَالَ خَدِيجُ بْنُ الْعَوْجَاءِ النّصْرِيّ :
لَمّا دَنَوْنَا مِنْ حُنَيْنٍ وَمَائِهِ ... رَأَيْنَا سَوَادًا مُنْكَرَ اللّوْنِ أَخْصَفَا
بِمَلْمُومَةٍ شَهْبَاءَ لَوْ قَدَفُوا بِهَا ... شَمَارِيخَ مِنْ عُزْوَى إذَنْ عَادَ صَفْصَفَا
وَلَوْ إنّ قَوْمِي طَاوَعَتْنِي سَرَاتُهُمْ ... إذَنْ مَا لَقِينَا الْعَارِضَ الْمُتَكَشّفَا
إذَنْ مَا لَقِينَا جُنْدَ آلِ مُحَمّدٍ ... ثَمَانِينَ أَلْفًا وَاسْتَمَدّوا بِخَنْدَقَا

ذِكْرُ غَزْوَةِ الطّائِفِ بَعْدَ حُنَيْنٍ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ
[ ص 249 ] ثَقِيفٍ الطّائِفَ أَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ مَدِينَتِهَا ، وَصَنَعُوا الصّنَائِعَ لِلْقِتَالِ .
Sغَزْوَةُ الطّائِفِ
[ ص 249 ] ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ النّسَبِ أَنّ الدّمُونَ بْنَ الصّدَفِ ، وَاسْمُ الصّدَفِ : مَلَكُ بْنُ مَالِكِ بْنِ مُرَتّعِ بْنِ كِنْدَةَ مِنْ حَضْرَمَوْتَ أَصَابَ دَمًا مِنْ قَوْمِهِ فَلَحِقَ بِثَقِيفٍ فَأَقَامَ فِيهِمْ وَقَالَ لَهُمْ أَلَا أَبْنِي لَكُمْ حَائِطًا يُطِيفُ بِبَلَدِكُمْ فَبَنَاهُ فَسُمّيَ بِهِ الطّائِفُ ، ذَكَرَهُ الْبَكْرِيّ هَكَذَا قَالَ وَإِنّمَا هُوَ الدّمُونُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ دَهْقَلٍ وَهُوَ مِنْ الصّدَفِ ، وَلَهُ ابْنَانِ أَدْرَكَا النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَبَايَعَاهُ اسْمُ أَحَدِهِمَا : الْهُمَيْلُ وَالْآخَرُ قَبِيصَةُ ، وَلَمْ يَذْكُرْهُمَا أَبُو عُمَرَ فِي الصّحَابَةِ وَذَكَرَهُمَا غَيْرُهُ . وَذَكَرَ أَنّ أَصْلَ أَعْنَابِهَا أَنّ قَيْسَ بْنَ مُنَبّهٍ وَهُوَ ثَقِيفٌ أَصَابَ دَمًا فِي قَوْمِهِ أَيْضًا ، وَهُمْ إيَادٌ فَفَرّ إلَى الْحِجَازِ ، فَمَرّ بِامْرَأَةٍ يَهُودِيّةٍ فَآوَتْهُ وَأَقَامَ عِنْدَهَا زَمَانًا ، ثُمّ انْتَقَلَ عَنْهَا ، فَأَعْطَتْهُ قُضُبًا مِنْ الْحُبْلَةِ وَأَمَرَتْهُ أَنْ يَغْرِسَهَا فِي أَرْضٍ وَصَفَتْهَا لَهُ فَأَتَى بِلَادَ عَدْوَانَ ، وَهُمْ سُكّانُ الطّائِفِ فِي ذَلِكَ الزّمَانِ فَمَرّ بِسُخَيْلَةَ جَارِيَةِ عَامِرِ بْنِ الظّرِبِ الْعَدْوَانِيّ وَهِيَ تَرْعَى غَنَمًا ، فَأَرَادَ سِبَاءَهَا ، وَأَخَذَ الْغَنَمَ فَقَالَتْ لَهُ أَلَا أَدُلّك عَلَى خَيْرٍ مِمّا هَمَمْت بِهِ اقْصِدْ إلَى سَيّدِي وَجَاوِرْهُ فَهُوَ أَكْرَمُ النّاسِ فَأَتَاهُ فَزَوّجَهُ مِنْ بِنْتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ عَامِرٍ فَلَمّا جَلَتْ عَدْوَانُ عَنْ الطّائِفِ بِالْحُرُوبِ الّتِي وَقَعَتْ بَيْنَهَا أَقَامَ قَسِيّ ، وَهُوَ ثَقِيفٌ ، فَمِنْهُ تَنَاسَلَ أَهْلُ الطّائِفِ ، وَسُمّيَ قَسِيّا بِقَسْوَةِ قَلْبِهِ حِينَ قَتَلَ أَخَاهُ أَوْ ابْنَ عَمّهِ وَقِيلَ سمي ثقيفا لِقَوْلِهِمْ فِيهِ مَا أَثْقَفَهُ حِينَ ثَقِفَ عَامِرًا حَتّى أَمّنَهُ وَزَوّجَهُ بِنْتَه . [ ص 250 ] وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسّرِينَ وَجْهًا آخَرَ فِي تَسْمِيَتِهَا بِالطّائِفِ فَقَالَ فِي الْجَنّةِ الّتِي ذَكَرَهَا اللّهُ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ " ن " حَيْثُ يَقُولُ { فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ } [ الْقَلَمُ 19 ] . قَالَ كَانَ الطّائِفُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ اقْتَلَعَهَا مِنْ مَوْضِعِهَا ، فَأَصْبَحَتْ كَالصّرِيمِ وَهُوَ اللّيْلُ أَصْبَحَ مَوْضِعُهَا كَذَلِكَ ثُمّ سَارَ بِهَا إلَى مَكّةَ ، فَطَافَ بِهَا حَوْلَ الْبَيْتِ ثُمّ أَنْزَلَهَا حَيْثُ الطّائِفُ الْيَوْمَ فَسُمّيَتْ بِاسْمِ الطّائِفِ الّذِي طَافَ عَلَيْهَا ، وَطَافَ بِهَا ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْجَنّةُ بِضَرْوَانَ عَلَى فَرَاسِخَ مِنْ صَنْعَاءَ ، وَمِنْ ثَمّ كَانَ الْمَاءُ وَالشّجَرُ بِالطّائِفِ دُونَ مَا حَوْلَهَا مِنْ الْأَرَضِينَ وَكَانَتْ قِصّةُ أَصْحَابِ الْجَنّةِ بَعْدَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ صَلّى اللّهُ عَلَى نَبِيّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلّمَ بِيَسِيرٍ ذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ النّقّاشُ وَغَيْرُهُ . فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كَانَ ثَقِيفٌ هُوَ قَسِيّ بْنُ مُنَبّهٍ كَمَا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ وَغَيْرُهُ فَكَيْفَ قَالَ سِيبَوَيْهِ حَاكِيًا عَنْ الْعَرَبِ : ثَقِيفُ بْنُ قَسِيّ فَجَعَلَهُ ابْنًا لِقَسِيّ ؟ قِيلَ إنّمَا أَرَادَ سِيبَوَيْهِ أَنّ الْحَيّ سُمّيَ ثَقِيفًا ، وَهُمْ بَنُو قَسِيّ كَمَا قَالُوا : بَاهِلَةُ بْنُ أَعْصَرَ وَإِنّمَا هِيَ أُمّهُمْ وَلَكِنْ سُمّيَ الْحَيّ بِهَا ، ثُمّ قِيلَ فِيهِ ابْنُ أَعْصَرَ كَذَلِكَ قَالُوا : ثَقِيفُ بْنُ قَسِيّ عَلَى هَذَا ، وَيُقَوّي هَذَا أَنّ سِيبَوَيْهِ إنّمَا قَالَ حَاكِيًا : هَؤُلَاءِ ثَقِيفُ بْنُ قَسِيّ .

[ ص 250 ] حُنَيْنًا وَلَا حِصَارَ الطّائِفِ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ وَلَا غَيْلَانُ بْنُ سَلَمَةَ كَانَا بِجُرَشٍ يَتَعَلّمَانِ صَنْعَةَ الدّبّابَاتِ وَالْمَجَانِيقِ وَالضّبُورِ .Sآلَاتُ الْحَرْبِ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي الطّائِفِ
فَصْلٌ " وَذَكَرَ تَعَلّمَ أَهْلِ الطّائِفِ صَنْعَةَ الدّبّابَاتِ وَالْمَجَانِيقِ وَالضّبُورِ . الدّبّابَةُ آلَةٌ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ يَدْخُلُ فِيهَا الرّجَالُ فَيَدُبّونَ بِهَا إلَى الْأَسْوَارِ لِيَنْقُبُوهَا ، وَالضّبُورُ مِثْلُ رُءُوسِ الْأَسْفَاطِ يُتّقَى بِهَا فِي الْحَرْبِ عِنْدَ الِانْصِرَافِ وَفِي الْعَيْنِ الضّبْرُ جُلُودٌ يُغْشَى بِهَا خَشَبٌ يُتّقَى بِهَا فِي الْحَرْبِ . وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ الزّهْرِيّ أَنّ اللّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حِينَ مَسَخَ بَنِي إسْرَائِيلَ قِرَدَةً مَسَخَ رُمّانَهُمْ الْمَظّ وَبُرّهُمْ الذّرَةَ وَعِنَبَهُمْ الْأَرَاكَ ، وَجَوْزَهُمْ الضّبْرَ وَهُوَ مِنْ شَجَرِ الْبَرِيّةِ وَلَهُ ثَمَرٌ كَالْجَوْزِ لَا نَفْعَ فِيهِ فَهَذَا مَعْنًى آخَرُ غَيْرَ الْأَوّلِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الضّبْرِ إنّهُ كَالْجَوْزِ يُنَوّرُ وَلَا يُطْعَمُ . قَالَ وَيُقَالُ أَظَلّ الظّلَالِ ظِلّ الضّبْرَةِ وَظِلّ التّنْعِيمَةِ وَظِلّ الْحَجَرِ ، قَالَ وَوَرَقُهَا كَدَارٍ كَثِيفَةٍ فَكَانَ ظِلّهَا لِذَلِكَ أَلْمَى كَثِيفًا ، وَأَمّا الْمَظّ الّذِي تَقَدّمَ ذِكْرُهُ فِي الْحَدِيثِ فَهُوَ وَرُمّانُ الْبَرّ يُنَوّرُ وَلَا يُثْمِرُ وَلَهُ جُلّنَارُ كَمَا لِلرّمّانِ يُمْتَصّ مِنْهُ الْمَذَخُ وَهُوَ عَسَلٌ كَثِيرٌ يُشْبِعُ مَنْ امْتَصّهُ حَتّى يَمْلَأَ بَطْنَهُ ذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ النّبَاتِ " . [ ص 251 ] الْعَرَبُ . قَالَ كُرَاعٌ كُلّ كَلِمَةٍ فِيهَا جِيمٌ وَقَافٌ أَوْ جِيمٌ وَكَافٌ فَهِيَ أَعْجَمِيّةٌ وَذَلِكَ كَالْجُوَالِقِ وَالْجَوْلَقِ وَجِلّقٍ وَالْكَيْلَجَةِ وَهِيَ مِكْيَالٌ صَغِيرٌ وَالْكَفْجَلَارُ وَهِيَ الْمِغْرَفَةُ وَالْقَبْجُ وَهُوَ الْحَجَلُ وَمَا كَانَ نَحْوَ ذَلِكَ وَالْمِيمُ فِي مَنْجَنِيقٍ أَصْلِيّةٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَالنّونُ زَائِدَةٌ وَلِذَلِكَ سَقَطَتْ فِي الْجَمْعِ .

[ ص 251 ] سَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الطّائِفِ حِينَ فَرَغَ مِنْ حُنَيْنٍ ؛ فَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ، حِينَ أَجْمَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ السّيْرَ إلَى الطّائِفِ : [ ص 252 ]
شِعْرُ كَعْبٍ
قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلّ رَيْبٍ ... وَخَيْبَرَ ثُمّ أَجْمَمْنَا السّيُوفَا
فَلَسْت لِحَاضِنٍ إنْ لَمْ تَرَوْهَا ... بِسَاحَةِ دَارِكُمْ مِنّا أُلُوفَا
وَنَنْتَزِعُ الْعُرُوشَ بِبَطْنِ وَجّ ... وَتُصْبِحُ دُورُكُمْ مِنْكُمْ خُلُوفَا
وَيَأْتِيكُمْ لَنَا سُرْعَانُ خَيْلٍ ... يُغَادِرُ خَلْفَهُ جَمْعًا كَثِيفَا
إذَا نَزَلُوا بِسَاحَتِكُمْ سَمِعْتُمْ ... لَهَا مِمّا أَنَاخَ بِهَا رَجِيفَا
بِأَيْدِيهِمْ قَوَاضِبُ مُرْهِفَاتٍ ... يَزُرْنَ الْمُصْطَلِينَ بِهَا الْحُتُوفَا
كَأَمْثَالِ الْعَقَائِقِ أَخْلَصَتْهَا ... قُيُونُ الْهِنْدِ لَمْ تَضْرِبْ كَتِيفَا
تَخَالُ جَدِيّةِ الْأَبْطَالِ فِيهَا ... غَدَاةَ الزّحْفِ جَادِيّا مَدُوفَا
أَجَدّهُمْ أَلَيْسَ لَهُمْ نَصِيحٌ ... مِنْ الْأَقْوَامِ كَانَ بِنَا عَرِيفَا
يُخَبّرُهُمْ بِأَنّا قَدْ جَمَعْنَا ... عِتَاقَ الْخَيْلِ وَالنّجُبَ الطّرُوفَا
وَأَنّا قَدْ أَتَيْنَاهُمْ بِزَحْفٍ ... يُحِيطُ بِسُورِ حِصْنِهِمْ صُفُوفَا
رَئِيسُهُمْ النّبِيّ وَكَانَ صُلْبًا ... نَقِيّ الْقَلْبِ مُصْطَبِرًا عَزُوفَا
رَشِيدُ الْأَمْرِ ذُو حُكْمٍ وَعِلْمٍ ... وَحِلْمٍ لَمْ يَكُنْ نَزِقًا خَفِيفَا
نُطِيعُ نَبِيّنَا وَنُطِيعُ رَبّا ... هُوَ الرّحْمَنُ كَانَ بِنَا رَءُوفَا
فَإِنْ تُلْقُوا إلَيْنَا السّلَمَ نَقْبَلْ ... وَنَجْعَلُكُمْ لَنَا عَضُدًا وَرِيفَا
وَإِنْ تَابُوا نُجَاهِدْكُمْ وَنَصْبِرْ ... وَلَا يَكُ أَمْرُنَا رَعَشًا ضَعِيفَا
نُجَالِدُ مَا بَقِينَا أَوْ تُنِيبُوا ... إلَى الْإِسْلَامِ إذْعَانًا مُضِيفَا
نُجَاهِدُ لَا نُبَالِي مَنْ لَقِينَا ... أَأَهّكْنَا التّلَادَ أَمْ الطّرِيفَا
وَكَمْ مِنْ مَعْشَرٍ أَلَبُوا عَلَيْنَا ... صَمِيمَ الْجِذْمِ مِنْهُمْ وَالْحَلِيفَا
أَتَوْنَا لَا يَرَوْنَ لَهُمْ كِفَاءً ... فَجَدّعْنَا الْمَسَامِعَ وَالْأَنُوفَا
بِكُلّ مُهَنّدٍ لَيْنٍ صَقِيلٍ ... يَسُوقُهُمْ بِهَا سَوْقًا عَنِيفَا
لِأَمْرِ اللّهِ وَالْإِسْلَامِ حَتّى ... يَقُومَ الدّينُ مُعْتَدِلًا حَنِيفَا
وَتُنْسَى اللّاتُ وَالْعُزّى وَوَدّ ... وَنَسْلُبُهَا الْقَلَائِدَ وَالشّنُوفَا
فَأَمْسَوْا قَدْ أَقَرّوا وَاطْمَأَنّوا ... وَمَنْ لَا يَمْتَنِعْ يَقْبَلْ خُسُوفَا
كِنَانَةُ يَرُدّ عَلَى كَعْبٍ
[ ص 253 ] عَبْدِ يَالَيْلَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ ، فَقَالَ [ ص 254 ]
مَنْ كَانَ يَبْغِينَا يُرِيدُ قِتَالَنَا ... فَإِنّا بِدَارِ مُعَلّمٍ لَا نَرِيمُهَا
وَجَدْنَا بِهَا الْآبَاءَ مِنْ قَبْلِ مَا تَرَى ... وَكَانَتْ لَنَا أَطْوَاؤُهَا وَكُرُومُهَا
وَقَدْ جَرّبَتْنَا قَبْلَ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ... فَأَخْبَرَهَا ذُو رَأْيِهَا وَحَلِيمُهَا
وَقَدْ عَلِمَتْ إنْ قَالَتْ الْحَقّ أَنّنَا ... إذَا مَا أَبَتْ صُعْرُ الْخُدُودِ نُقِيمُهَا
نُقَوّمُهَا حَتّى يَلِينَ شَرِيسُهَا ... وَيُعْرَفُ لِلْحَقّ الْمُبِينِ ظَلُومُهَا
عَلَيْنَا دِلَاصٌ مِنْ تُرَاثٍ مُحَرّقٍ ... كَلَوْنِ السّمَاءِ زَيّنَتْهَا نُجُومُهَا
نُرَفّهُهَا عَنّا بِبِيضٍ صَوَارِمٍ ... إذَا جُرّدَتْ فِي غَمْرَةٍ لَا نَشِيمُهَا
قَصِيدَةُ شَدّادٍ فِي الْمَسِيرِ إلَى الطّائِفِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ شَدّادُ بْنُ عَارِضٍ الْجُشَمِيّ فِي مَسِيرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الطّائِفِ :
لَا تَنْصُرُوا اللّاتَ إنّ اللّهَ مُهْلِكُهَا ... وَكَيْفَ يُنْصَرُ مَنْ هُوَ لَيْسَ يَنْتَصِرُ
إنّ الّتِي حُرّقَتْ بِالسّدّ فَاشْتَغَلَتْ ... وَلَمْ يُقَاتِلْ لَدَى أَحْجَارِهَا هَدَرُ
إنّ الرّسُولَ مَتَى يَنْزِلْ بِلَادَكُمْ ... يَظْعَنْ وَلَيْسَ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا بَشَرُ
Sحَوْلَ شِعْرِ كَعْبٍ
وَذَكَرَ شِعْرَ كَعْبٍ وَفِيهِ وَكَمْ مِنْ مَعْشَرٍ أَلَبُوا عَلَيْنَا
أَيْ جَمَعُوا ، وَصَمِيمُ الْجِذْم مَفْعُولٌ بِأَلَبُوا ، وَفِيهِ يَصِفُ السّيُوفَ
كَأَمْثَالِ الْعَقَائِقِ أَخْلَصَتْهَا ... قُيُونُ الْهِنْدِ لَمْ تَضْرِبْ كَتِيفَا
الْعَقَائِقُ جَمْعُ عَقِيقَةٍ وَهُوَ الْبَرْقُ تَنْعَقُ عَنْهُ السّحَابُ . وَقَوْلُهُ لَمْ تَضْرِبْ كَتِيفًا ، جَمْعُ كَتِيفَةٍ وَهِيَ صَحِيفَةٌ مِنْ حَدِيدٍ صَغِيرَةٌ وَأَصْلُ الْكَتِيفِ الضّيّقُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ . - شِعْرُ كِنَانَةَ 252 [ ص 253 ] وَذَكَرَ شِعْرَ كِنَانَةَ بْنِ عَبْدِ يَالَيْلَ الثّقَفِيّ ، وَفِيهِ وَكَانَتْ لَنَا أَطْوَاؤُهَا وَكُرُومُهَا
الْأَطْوَاءُ جَمْعُ طَوِيّ وَهِيَ الْبِئْرُ جُمِعَتْ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ تَوَهّمُوا سُقُوطَ يَاءَ فَعِيلٍ مِنْهَا إذْ كَانَتْ زَائِدَةً . وَفِيهَا : وَقَدْ جَرّبَتْنَا قَبْلَ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ
إنّمَا قَالَ هَذَا جَوَابًا لِلْأَنْصَارِ لِأَنّهُمْ بَنُو حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ، وَعَمْرٍو وَهُوَ مُزَيْقِيَاءُ وَعَامِرٌ هُوَ مَاءُ السّمَاءِ وَلَمْ يَرِدْ أَنّ الْأَنْصَار جَرّبَتْهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ وَإِنّمَا أَرَادَ إخْوَتَهُمْ وَهُمْ خُزَاعَةُ لِأَنّهُمْ بَنُو رَبِيعَةَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَقَدْ كَانُوا حَارَبُوهُمْ عِنْدَ نُزُولِهِمْ مَكّةَ ، وَقَالَ الْبَكْرِيّ فِي مَعْنَى هَذَا الْبَيْتِ إنّمَا أَرَادَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ ، وَكَانُوا مُجَاوِرِينَ لِثَقِيفٍ وَأُمّهُمْ عَمْرَةُ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ الظّرِبِ الْعَدْوَانِيّ وَأُخْتُهَا زَيْنَبُ كَانَتْ تَحْتَ ثَقِيفٍ ، وَأَكْثَرُ قَبَائِلِ ثَقِيفٍ مِنْهَا ، وَكَانَتْ ثَقِيفٌ قَدْ أَنْزَلَتْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ فِي أَرْضِهِمْ لِيَعْمَلُوا فِيهَا ، وَيَكُونَ لَهُمْ النّصْفُ فِي الزّرْعِ وَالثّمَرِ ثُمّ إنّ ثَقِيفًا مَنَعَتْهُمْ ذَلِكَ وَتَحَصّنُوا مِنْهُمْ بِالْحَائِطِ الّذِي بَنَوْهُ حَوْلَ حَاضِرِهِمْ فَحَارَبَتْهُمْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ، فَلَمْ يَظْفَرُوا مِنْهُمْ بِشَيْءٍ وَجَلَوْا عَنْ تِلْكَ الْبِلَادِ وَلِذَلِكَ يَقُولُ كِنَانَةُ وَقَدْ جَرّبَتْنَا قَبْلَ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ
[ ص 254 ] ذَكَرَهُ الْبَكْرِيّ فِي خَبَرٍ طَوِيلٍ لَخّصْته .

الطّرِيقُ إلَى الطّائِفِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَسَلَكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى نَخْلَةَ الْيَمَانِيّةِ ، ثُمّ عَلَى قَرْنٍ ، ثُمّ عَلَى الْمُلَيْحِ ، ثُمّ عَلَى بُحْرَةِ الرّغَاءِ مِنْ لَهِيّةَ فَابْتَنَى بِهَا مَسْجِدًا فَصَلّى فِيهِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ : أَنّهُ أَقَادَ يَوْمَئِذٍ بِبُحْرَةِ الرّغَاءِ حِينَ نَزَلَهَا ، بِدَمٍ وَهُوَ أَوّلُ دَمٍ أُقِيدَ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ ، فَقَتَلَهُ بِهِ وَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ بِلِيّةَ بِحِصْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ فَهُدِمَ ثُمّ سَلَكَ فِي طَرِيقٍ يُقَالُ لَهَا : الضّيّقَةُ ، فَلَمّا تَوَجّهَ فِيهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَأَلَ عَنْ اسْمِهَا ، فَقَالَ " مَا اسْم هَذِهِ الطّرِيقِ ؟ " فَقِيلَ لَهُ الضّيّقَةُ ، فَقَالَ " بَلْ هِيَ الْيُسْرَى " ، ثُمّ خَرَجَ مِنْهَا عَلَى نَخْبٍ حَتّى نَزَلَ تَحْتَ سِدْرَةٍ يُقَالُ لَهَا : الصّادِرَةُ ، قَرِيبًا مِنْ مَالِ رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إمّا أَنْ تُخْرِجَ وَإِمّا أَنْ نُخَرّبَ عَلَيْك حَائِطَك فَأَبَى أَنْ يُخْرِجَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِإِخْرَابِهِ . ثُمّ مَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى نَزَلَ قَرِيبًا مِنْ الطّائِفِ ، فَضَرَبَ بِهِ عَسْكَرَهُ فَقُتِلَ بِهِ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالنّبْلِ وَذَلِكَ أَنّ الْعَسْكَرَ اقْتَرَبَ مِنْ حَائِطِ الطّائِفِ ، فَكَانَتْ النّبْلُ تَنَالُهُمْ وَلَمْ يَقْدِرْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنْ يَدْخُلُوا حَائِطَهُمْ أَغْلَقُوهُ دُونَهُمْ فَلَمّا أُصِيبَ أُولَئِكَ النّفَرُ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالنّبْلِ وَضَعَ عَسْكَرَهُ عِنْدَ مَسْجِدِهِ الّذِي بِالطّائِفِ الْيَوْمَ فَحَاصَرَهُمْ بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً . [ ص 255 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ سَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمَعَهُ امْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِهِ إحْدَاهُمَا أُمّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيّةَ ضَرَبَ لَهُمَا قُبّتَيْنِ ثُمّ صَلّى بَيْنَ الْقُبّتَيْنِ . ثُمّ أَقَامَ فَلَمّا أَسْلَمَتْ ثَقِيفٌ بَنَى عَلَى مُصَلّى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ بْنِ وَهْبِ بْنِ مُعَتّبِ بْنِ مَالِكٍ مَسْجِدًا ، وَكَانَتْ فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ سَارِيَةٌ فِيمَا يَزْعُمُونَ لَا تَطْلُعُ الشّمْسُ عَلَيْهَا يَوْمًا مِنْ الدّهْرِ إلّا سُمِعَ لَهَا نَقِيضٌ فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا ، وَتَرَامَوْا النّبْلَ .

أَوّلُ مَنْ رَمَى بِالْمَنْجَنِيقِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَرَمَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْمَنْجَنِيقِ . حَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوّلُ مَنْ رَمَى فِي الْإِسْلَامِ بِالْمَنْجَنِيقِ رَمَى أَهْلَ الطّائِفِ .
يَوْمَ الشّدْخَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَتّى إذَا كَانَ يَوْمَ الشّدْخَةِ عِنْدَ جِدَارِ الطّائِفِ ، دَخَلَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَحْتَ دَبّابَةٍ ثُمّ زَحَفُوا بِهَا إلَى جِدَارِ الطّائِفِ لِيُحَرّقُوهُ فَأَرْسَلَتْ عَلَيْهِمْ ثَقِيفٌ سِكَكَ الْحَدِيدِ مُحْمَاةً بِالنّارِ فَخَرَجُوا مِنْ تَحْتِهَا ، فَرَمَتْهُمْ ثَقِيفٌ بِالنّبْلِ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ رِجَالًا ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقَطْعِ أَعْنَابِ ثَقِيفٍ ، فَوَقَعَ النّاسُ فِيهَا يَقْطَعُونَ .
Sأَوّلُ مَنْ رَمَى بِالْمَنْجَنِيقِ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَالْإِسْلَامِ
[ ص 255 ] وَذَكَرَ حِصَارَ الطّائِفِ ، وَأَنّ أَوّلَ مَنْ رَمَى بِالْمَنْجَنِيقِ فِي الْإِسْلَامِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ الْمُؤَلّفُ وَأَمّا فِي الْجَاهِلِيّةِ فَيُذْكَرُ أَنّ جَذِيمَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ فَهْمِ بْنِ غَنْمِ بْنِ دَوْسٍ ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِالْأَبْرَشِ أَوّلُ مَنْ رَمَى بِالْمَنْجَنِيقِ وَكَانَ مِنْ مُلُوكِ الطّوَائِفِ وَكَانَ يُرْعَفُ بِالْوَضّاحِ وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا : مُنَادِمُ الْفَرْقَدَيْنِ لِأَنّهُ رَبَأَ بِنَفْسِهِ عَنْ مُنَادَمَةِ النّاسِ فَكَانَ إذَا شَرِبَ نَادَمَ الْفَرْقَدَيْنِ عَجَبًا بِنَفْسِهِ ثُمّ نَادَمَ بَعْدَ ذَلِكَ مَالِكًا وَعُقَيْلًا اللّذَيْنِ يَقُولُ فِيهِمَا مُتَمّمُ [ بْنُ نُوَيْرَةَ يَرْثِي أَخَاهُ مَالِكًا ] :
وَكُنّا كَنَدْمَانَيْ جَذِيمَةَ حِقْبَةً ... مِنْ الدّهْرِ حَتّى قِيلَ لَنْ يَتَصَدّعَا
وَيُذْكَرُ أَيْضًا أَنّهُ أَوّلُ مَنْ أَوْقَدَ الشّمْعَ .

بَيْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَثَقِيفٍ
[ ص 256 ] أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ إلَى الطّائِفِ ، فَنَادَيَا ثَقِيفًا : أَنْ أَمّنُونَا حَتّى نُكَلّمَكُمْ فَأَمّنُوهُمَا ، فَدَعَوَا نِسَاءً مِنْ نِسَاءٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَبَنِيّ كِنَانَةَ لَيَخْرُجُنّ إلَيْهِمَا ، وَهُمَا يَخَافَانِ عَلَيْهِنّ السّبَاءَ فَأَبَيْنَ مِنْهُنّ آمِنَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ كَانَتْ عِنْدَ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ لَهُ مِنْهَا دَاوُدُ بْنُ عُرْوَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ إنّ أُمّ دَاوُدَ مَيْمُونَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ ، وَكَانَتْ عِنْدَ أَبِي مُرّةَ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ فَوَلَدَتْ لَهُ دَاوُدَ بْنَ أَبِي مُرّةَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَالْفِرَاسِيّةُ بِنْتُ سُوَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَةَ ، لَهَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنِ قَارِبٍ ، وَالْفَقِيمِيّةُ أُمَيْمَةُ بِنْتُ النّاسِئِ أُمَيّة بْن قُلْع ؛ فَلَمّا أَبَيْنَ عَلَيْهِمَا ، قَالَ لَهُمَا ابْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ يَا أَبَا سُفْيَانَ وَيَا مُغِيرَةُ أَلَا أَدُلّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمّا جِئْتُمَا لَهُ إنّ مَالَ بَنِي الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمَا ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطّائِفِ ، نَازِلًا بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ الْعَقِيقُ ، إنّهُ لَيْسَ بِالطّائِفِ مَالٌ أَبْعَدُ رِشَاءً وَلَا أَشَدّ مُؤْنَةً وَلَا أَبْعَدُ عِمَارَةً مِنْ مَالِ بَنِي الْأَسْوَدِ وَإِنّ مُحَمّدًا إنْ قَطَعَهُ لَمْ يُعْمَرْ أَبَدًا ، فَكَلّمَاهُ فَلْيَأْخُذْ لِنَفْسِهِ أَوْ لِيَدْعُهُ لِلّهِ وَلِلرّحِمِ فَإِنّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ مِنْ الْقَرَابَةِ مَا لَا يُجْهَلُ فَزَعَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَرَكَهُ لَهُمْ

تَفْسِيرُ أَبِي بَكْرٍ لِرُؤْيَا الرّسُولِ
[ ص 257 ] رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ وَهُوَ مُحَاصِرٌ ثَقِيفًا : يَا أَبَا بَكْرٍ ، إنّي رَأَيْت أَنّي أُهْدِيَتْ لِي قُعْبَةٌ مَمْلُوءَةٌ زَيْدًا ، فَنَقَرَهَا دِيكٌ فَهَرَاقَ مَا فِيهَا . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : مَا أَظُنّ أَنْ تُدْرِكَ مِنْهُمْ يَوْمَك هَذَا مَا تُرِيدُ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنَا لَا أَرَى ذَلِكَ
سَبَبُ ارْتِحَالِ الْمُسْلِمِينَ
ثُمّ إنّ خُوَيْلَةَ بِنْتَ حَكِيمِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ الْأَوْقَصِ السّلَمِيّةَ وَهِيَ امْرَأَةُ عُثْمَانَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ أَعْطِنِي إنْ فَتَحَ اللّهُ عَلَيْك الطّائِفَ حُلِيّ بَادِيَةَ ابْنَةَ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ أَوْ حُلِيّ الْفَارِعَةِ بِنْتِ عُقَيْلٍ وَكَانَتَا مِنْ أَحْلَى نِسَاءِ ثَقِيفٍ . [ ص 258 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَهَا : وَإِنْ كَانَ لَمْ يُؤْذَنْ لِي فِي ثَقِيفٍ يَا خُوَيْلَةُ ؟ " فَخَرَجَتْ خُوَيْلَةُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطّابِ فَدَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ مَا حَدِيثٌ حَدّثَتْنِيهِ خُوَيْلَةُ زَعَمَتْ أَنّك قُلْته ؟ قَالَ " قَدْ قُلْته " ؛ قَالَ أَوَمَا أُذِنَ لَك فِيهِمْ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ " لَا " . قَالَ أَفَلَا أُؤَذّنُ بِالرّحِيلِ ؟ قَالَ " بَلَى " . قَالَ فَأَذّنَ عُمَرُ بِالرّحِيلِ
Sغَيْلَانُ بْنُ سَلَمَةَ
[ ص 256 ] وَذَكَرَ حُلِيّ بَادِيَةَ بِنْتِ غَيْلَانَ وَهُوَ غَيْلَانُ بْنُ سَلَمَةَ الثّقَفِيّ ، وَهُوَ الّذِي أَسْلَمَ ، وَعِنْدَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ فَأَمَرَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُمْسِكَ أَرْبَعًا ، وَيُفَارِقَ سَائِرَهُنّ فَقَالَ فُقَهَاءُ الْحِجَازِ : يَخْتَارُ أَرْبَعًا ، وَقَالَ فُقَهَاءُ الْعِرَاقِ : بَلْ يُمْسِكُ الّتِي تَزَوّجَ أَوّلًا ، ثُمّ الّتِي تَلِيهَا إلَى الرّابِعَةِ وَاحْتَجّ فُقَهَاءُ الْحِجَازِ بِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَسْتَفْصِلْهُ أَيّتَهنّ تَزَوّجَ أَوّلَ وَتَرْكُهُ لِلِاسْتِفْصَالِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّهُ مُخَيّرٌ حَتّى جَعَلَ الْأُصُولِيّونَ مِنْهُمْ هَذَا أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الْعُمُومِ فَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي كِتَابِ الْبُرْهَانِ تَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ فِي حِكَايَاتِ الْأَحْوَالِ مَعَ الِاحْتِمَالِ يَتَنَزّلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ كَحَدِيثِ غَيْلَانَ . وَغَيْلَانُ هَذَا هُوَ الّذِي قُدّمَ عَلَى كِسْرَى ، فَسَأَلَهُ أَيّ وَلَدِهِ أَحَبّ إلَيْهِ ؟ فَقَالَ غَيْلَانُ الْغَائِبُ حَتّى يَقْدَمَ وَالْمَرِيضُ حَتّى يُفِيقَ وَالصّغِيرُ حَتّى يَكْبُرَ فَقَالَ لَهُ كِسْرَى : مَا غِذَاؤُك فِي بَلَدِك ؟ قَالَ الْخُبْزُ . قَالَ هَذَا عَقْلُ الْخُبْزِ تَفْضِيلًا لِعَقْلِهِ عَلَى عُقُولِ أَهْلِ الْوَرّ [ ص 257 ] وَنَسَبَ الْمُبَرّدُ هَذِهِ الْحِكَايَةَ مَعَ كِسْرَى إلَى هَوْذَةَ بْنِ عَلِيّ الْحَنَفِيّ ، وَالصّحِيحُ عِنْدَ الْإِخْبَارِيّينَ مَا قَدّمْنَاهُ وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْفَرَجِ .
بَادِيَةُ بِنْتُ غَيْلَانَ
وَأَمّا بَادِيَةُ ابْنَتُهُ فَقَدْ قِيلَ فِيهَا : بَادِنَةُ بِالنّونِ وَالصّحِيحُ بِالْيَاءِ وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ وَهِيَ الّتِي قَالَ فِيهَا هِيتٌ الْمُخَنّثُ لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي أُمَيّةَ إنْ فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ الطّائِفَ ، فَإِنّي أَدُلّك عَلَى بَادِيَةَ بِنْتِ غَيْلَانَ فَإِنّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ فَسَمِعَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ " قَاتَلَك اللّهُ لَقَدْ أَمْعَنْت النّظَرَ وَقَالَ لَا يَدْخُلَنّ هَؤُلَاءِ عَلَيْكُنّ " ثُمّ نَفَاهُ إلَى رَوْضَةِ خَاخٍ فَقِيلَ إنّهُ يَمُوتُ بِهَا جُوعًا فَأَذِنَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ الْمَدِينَةَ كُلّ جُمُعَةٍ يَسْأَلُ النّاسَ وَيُرْوَى فِي الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ لَمْ تَقَعْ فِي الصّحِيحِ بَعْدَ قَوْلِهِ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ مَعَ ثَغْرٍ كَالْأُقْحُوَانِ إنْ قَامَتْ تَثَنّتْ وَإِنْ قَعَدَتْ تَبَنّتْ وَإِنْ تَكَلّمَتْ تَغَنّتْ يَعْنِي مِنْ الْغُنّةِ وَالْأَصْلُ تَغَنّنَتْ فَقُلِبَتْ إحْدَى النّونَيْنِ يَاءً وَهِيَ هَيْفَاءُ شَمُوعٌ نَجْلَاءُ كَمَا قَالَ قَيْسُ بْنُ الْخَطِيمِ
بَيْضَاءُ فَرْعَاءٌ يُسْتَضَاءُ بِهَا ... كَأَنّهَا خُوطُ بَانَةٍ قَصِفُ
تَنْتَرِقُ الطّرْفَ وَهِيَ لَاهِيَةٌ ... كَأَنّمَا شَفّ وَجْهَهَا نُزَفُ
تَنَامُ عَنْ كِبْرِ شَأْنِهَا فَإِذَا قَا ... مَتْ رُوَيْدًا تَكَادُ تَنْغَرِفُ
[ ص 258 ] دُرَيْدٍ أَعْنِي قَوْلَهُ تُغْتَرَقُ فَقَالَ هُوَ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ حَتّى هُجّيَ بِذَلِكَ فَقِيلَ
أَلَسْت قِدْمًا جَعَلْت تَعْتَرِقُ الْ ... طَرْفَ بِجَهْلِ مَكَانٍ تَغْتَرِقُ
وَقُلْت : كَانَ الْخِبَاءُ مِنْ أَدَمٍ ... وَهُوَ حِبَاءٌ يُهْدَى وَيُصْطَدَقُ
وَكَانَ صَحّفَ أَيْضًا قَوْلَ مُهَلْهَلٍ فَقَالَ فِيهِ الْخِبَاءُ وَبَادِيَةُ هَذِهِ كَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، فَوَلَدَتْ لَهُ جُوَيْرِيَةَ وَهِيَ امْرَأَةُ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ .
الْمُخَنّثُونَ الّذِينَ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ
وَكَانَ الْمُخَنّثُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْبَعَةً هِيتٌ هَذَا ، وَهَرِمٌ وَمَاتِعٌ وَإِنْهٌ وَلَمْ يَكُونُوا يَزْنُونَ بِالْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى ، وَإِنّمَا كَانَ تَأْنِيثُهُمْ لِينًا فِي الْقَوْلِ وَخِضَابًا فِي الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ كَخِضَابِ النّسَاءِ وَلَعِبًا كَلَعِبِهِنّ وَرُبّمَا لَعِبَ بَعْضُهُمْ بِالْكُرّجِ وَفِي مَرَاسِيلِ أَبِي دَاوُدَ أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ رَأَى لَاعِبًا يَلْعَبُ بِالْكُرّجِ فَقَالَ " لَوْلَا أَنّي رَأَيْت هَذَا يَلْعَبُ بِهِ عَلَى عَهْدِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَنَفَيْته مِنْ الْمَدِينَةِ " .

عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ
فَلَمّا اسْتَقَلّ النّاسُ نَادَى سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ أُسَيْدِ بْنِ أَبِي عَمْرِو بْنِ عَلّاجٍ أَلَا إنّ الْحَيّ مُقِيمٌ . قَالَ يَقُولُ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ : أَجَلْ وَاَللّهِ مُجِدّةً كِرَامًا ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَاتَلَك اللّهُ يَا عُيَيْنَةُ ، أَتَمْدَحُ الْمُشْرِكِينَ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ جِئْت تَنْصُرُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ إنّي وَاَللّهِ مَا جِئْت لِأُقَاتِلَ ثَقِيفًا مَعَكُمْ وَلَكِنّي أَرَدْت أَنْ يَفْتَحَ [ ص 259 ] الطّائِفَ ، فَأُصِيبَ مِنْ ثَقِيفٍ جَارِيَةً أَتّطِئُهَا ، لَعَلّهَا تَلِدُ لِي رَجُلًا ، فَإِنّ ثَقِيفًا قَوْمٌ مَنَاكِيرُ . وَنَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي إقَامَتِهِ مِمّنْ كَانَ مُحَاصَرًا بِالطّائِفِ عَبِيدٌ ، فَأَسْلَمُوا ، فَأَعْتَقَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
Sعُيَيْنَةُ
وَذَكَرَ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ ، وَاسْمُهُ حُذَيْفَةُ وَإِنّمَا قِيلَ لَهُ عُيَيْنَةُ لِشَتْرٍ كَانَ بِعَيْنِهِ .

الْعَبِيدُ الّذِينَ نَزَلُوا مِنْ حِصْنِ الطّائِفِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُكَدّمٍ عَنْ رِجَالٍ مِنْ ثَقِيفٍ ، قَالُوا : لَمّا أَسْلَمَ أَهْلُ الطّائِفِ تَكَلّمَ نَفَرٌ مِنْهُمْ فِي أُولَئِكَ الْعَبِيدِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا ، أُولَئِكَ عُتَقَاءُ اللّهِ وَكَانَ مِمّنْ تَكَلّمَ فِيهِمْ الْحَارِثُ بْنُ كَلَدَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَدْ سَمّى ابْنُ إسْحَاقَ مَنْ نَزَلَ مِنْ أُولَئِكَ الْعَبِيدِ .
Sالْعَبِيدُ الّذِينَ نَزَلُوا مِنْ حِصْنِ الطّائِفِ
[ ص 259 ] وَذَكَرَ الْعَبِيدَ الّذِينَ نَزَلُوا مِنْ الطّائِفِ ، وَلَمْ يُسَمّهِمْ وَمِنْهُمْ أَبُو بَكْرَةَ نُفَيْعُ بْنُ مَسْرُوحٍ تَدَلّى مِنْ سُوَرِ الطّائِفِ عَلَى بَكْرَةٍ فَكُنّيَ أَبَا بَكْرَةَ وَهُوَ مِنْ أَفَاضِلِ الصّحَابَةِ وَمَاتَ بِالْبَصْرَةِ وَمِنْهُمْ الْأَزْرَقُ وَكَانَ عَبْدًا لِلْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ الْمُتَطَبّبُ وَهُوَ زَوْجُ سُمَيّةَ مَوْلَاةِ الْحَارِثِ أُمّ زِيَادِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَأُمّ سَلَمَةَ بْنِ الْأَزْرَقِ وَبَنُو سَلَمَةَ بْنُ الْأَزْرَقِ وَلَهُمْ صِيتٌ وَذِكْرٌ بِالْمَدِينَةِ وَقَدْ انْتَسَبُوا إلَى غَسّانَ ، وَغَلِطَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ فَجَعَلَ سُمَيّةَ هَذِهِ الْمَذْكُورَةَ أُمّ عَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ ، وَجَعَلَ سَلَمَةَ بْنَ الْأَزْرَقِ أَخَا عَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ لِأُمّهِ وَقَدْ ذَكَرَ أَنّ الْأَزْرَقَ خَرَجَ مِنْ الطّائِفِ ، فَأَسْلَمَ وَسُمَيّةُ قَدْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ قَتَلَهَا أَبُو جَهْلٍ وَهِيَ إذْ ذَاكَ تَحْتَ يَاسِرٍ أَبِي عَمّارٍ كَمَا تَقَدّمَ فِي بَابِ الْمَبْعَثِ فَتَبَيّنَ غَلَطُ ابْنِ قُتَيْبَةَ وَوَهْمُهُ وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو عُمَرَ النّمِرِيّ كَمَا قُلْت . وَمِنْ أُولَئِكَ الْعَبِيدِ الْمُنْبَعِثُ وَكَانَ اسْمُهُ الْمُضْطَجِعُ فَبَدّلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اسْمَهُ وَكَانَ عَبْدًا لِعُثْمَانِ بْنِ عَامِرِ بْنِ مُعَتّبٍ . وَمِنْهُمْ يُحَنّسُ النّبّالُ وَكَانَ عَبْدًا لِبَعْضِ آلِ يَسَارٍ . [ ص 260 ] الْفُرَاتِ بْنِ زَيْدِ بْنِ وَرْدَان ، وَكَانَ لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ خَرَشَةَ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ جَابِرٍ وَكَانَ أَيْضًا لِخَرَشَةَ وَجَعَلَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَلَاءَ هَؤُلَاءِ الْعَبِيدِ لِسَادَتِهِمْ حِينَ أَسْلَمُوا . كُلّ هَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ . وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ فِيهِمْ نَافِعَ بْنَ مَسْرُوحٍ ، وَهُوَ أَخُو نُفَيْعِ أَبِي بَكْرَةَ وَيُقَالُ فِيهِ وَفِي أَخِيهِ ابْنِ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ . وَذَكَرَ ابْنُ سَلَامٍ فِيهِمْ نَافِعًا مَوْلَى غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ الثّقَفِيّ ، وَذَكَرَ أَنّ وَلَاءَهُ رَجَعَ إلَى غَيْلَانَ حِينَ أَسْلَمَ وَأَحْسَبُهُ وَهْمًا مِنْ ابْنِ سَلَامٍ أَوْ مِمّنْ رَوَاهُ عَنْهُ وَإِنّمَا الْمَعْرُوفُ نَافِعُ بْنُ غَيْلَانَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

شِعْرُ الضّحّاكِ وَمَوْضُوعُهُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 260 ] وَقَدْ كَانَتْ ثَقِيفٌ أَصَابَتْ أَهْلًا لِمَرْوَانَ بْنِ قَيْسٍ الدّوْسِيّ وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ ، وَظَاهَرَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى ثَقِيفٍ ، فَزَعَمَتْ ثَقِيفٌ ، وَهُوَ الّذِي تَزْعُمُ بِهِ ثَقِيفٌ أَنّهَا مِنْ قَيْسٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِمَرْوَانَ بْنِ قَيْسٍ : خُذْ يَا مَرْوَانُ بِأَهْلِك أَوّلَ رَجُلٍ مِنْ قَيْسٍ تَلْقَاهُ فَلَقِيَ أُبَيّ بْنَ مَالِكٍ الْقُشَيْرِيّ ، فَأَخَذَهُ حَتّى يُؤَدّوا إلَيْهِ أَهْلَهُ فَقَامَ فِي ذَلِكَ الضّحّاكُ بْنُ سُفْيَانَ الْكِلَابِيّ ، فَكَلّمَ ثَقِيفًا حَتّى أَرْسَلُوا أَهْلَ مَرْوَانَ وَأَطْلَقَ لَهُمْ أُبَيّ بْنَ مَالِكٍ فَقَالَ الضّحّاكُ بْنُ سُفْيَانَ فِي شَيْءٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُبَيّ بْنِ مَالِكٍ
أَتَنْسَى بَلَائِي يَا أُبَيّ بْنَ مَالِكٍ ... غَدَاةَ الرّسُولُ مُعْرِضٌ عَنْك أَشْوَسُ
يَقُودُك مَرْوَانُ بْنُ قَيْسٍ بِحَبْلِهِ ... ذَلِيلًا كَمَا قِيدَ الذّلُولُ الْمُخَيّسُ
فَعَادَتْ عَلَيْك مِنْ ثَقِيفٍ عِصَابَةٌ ... مَتَى يَأْتِهِمْ مُسْتَقْبِسُ الشّرّ يُقْبَسُوا
فَكَانُوا هُمْ الْمَوْلَى فَعَادَتْ حُلُومُهُمْ ... عَلَيْك وَقَدْ كَادَتْ بِك النّفْسُ تَيْأَسُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : " يُقْبَسُوا " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ .

الشّهَدَاءُ فِي يَوْمِ الطّائِفِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : هَذِهِ تَسْمِيَةُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ الطّائِفِ : مِنْ قُرَيْشٍ ، ثُمّ مِنْ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ : سَعِيدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ ، وَعُرْفُطَةُ بْنُ جَنّابٍ حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ الْأَسَدِ بْنِ الْغَوْثِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ ابْنُ حُبَابٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرّةَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقُ ، رُمِيَ بِسَهْمٍ فَمَاتَ مِنْهُ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . [ ص 261 ] بَنِي مَخْزُومٍ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، مِنْ رَمْيَةٍ رُمِيَهَا يَوْمَئِذٍ . وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ : عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ ، حَلِيفٌ لَهُمْ . وَمِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرٍو : السّائِبُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ ، وَأَخُوهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْحَارِثِ . وَمِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ جُلَيْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ . وَاسْتُشْهِدَ مِنْ الْأَنْصَارِ : مِنْ بَنِي سَلِمَةَ ثَابِتُ بْنُ الْجَذَعِ . وَمِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ النّجّارِ الْحَارِثُ بْنُ سَهْلِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ . وَمِنْ بَنِي سَاعِدَةَ الْمُنْذِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ . وَمِنْ الْأَوْسِ : رُقَيْمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ لَوْذَان بْنِ مُعَاوِيَةَ . فَجَمِيعُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ بِالطّائِفِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا ، سَبْعَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ ، وَأَرْبَعَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ ، وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ .

قَصِيدَةُ بُجَيْرٍ فِي حُنَيْنٍ وَالطّائِفِ
فَلَمّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ الطّائِفِ بَعْدَ الْقِتَالِ وَالْحِصَارِ قَالَ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرِ بْن أَبِي سُلْمَى يَذْكُرُ حُنَيْنًا وَالطّائِفَ [ ص 262 ]
كَانَتْ عُلَالَةُ يَوْمَ بَطْنِ حُنَيْنٍ ... وَغَدَاةَ أَوْطَاسٍ وَيَوْمَ الْأَبْرَقِ
جَمَعَتْ بِإِغْوَاءٍ هَوَازِنُ جَمْعَهَا ... فَتَبَدّوْا كَالطّائِرِ الْمُتَمَزّقِ
لَمْ يَمْنَعُوا مِنّا مَقَامًا وَاحِدًا ... إلّا جِدَارَهُمْ وَبَطْنَ الْخَنْدَقِ
وَلَقَدْ تَعَرّضْنَا لِكَيْمَا يَخْرُجُوا ... فَتَحَصّنُوا مِنّا بِبَابٍ مُغْلَقِ
تَرْتَدّ حَسْرَانَا إلَى رَجْرَاجَةٍ ... شَهْبَاءَ تَلْمَعُ بِالْمَنَايَا فَيْلَقِ
مَلْمُومَةٌ خَضْرَاءَ لَوْ قَذَفُوا بِهَا ... حَضَنًا لَظَلّ كَأَنّهُ لَمْ يُخْلَقْ
مَشْيَ الضّرَاءِ عَلَى الْهَرَاسِ كَأَنّنَا ... قُدُرٌ تَفَرّقُ فِي الْقِيَادِ وَتَلْتَقِي
فِي كُلّ سَابِغَةٍ إذَا مَا اسْتَحْصَنَتْ ... كَالنّهْيِ هَبّتْ رِيحُهُ الْمُتَرَقْرِقِ
جُدُلٌ تَمَسّ فُضُولَهُنّ نِعَالُنَا ... مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ وَآلِ مُحَرّقِ
Sمِنْ نَسَبِ بُجَيْرِ بْنِ زُهَيْرٍ
[ ص 261 ] وَذَكَرَ شِعْرَ بُجَيْرِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى ، وَاسْمُ أَبِي سُلْمَى : رَبِيعَةُ ، وَهُوَ مِنْ بَنِي لَاطِمِ بْنِ عُثْمَانَ وَهِيَ مُزَيْنَةُ ، عُرِفُوا بِأُمّهِمْ وَقَدْ قَدّمْنَا أَنّهَا بِنْتُ كَلْبِ بْنِ وَبَرَةَ وَأَنّ أُخْتَهَا الْحَوْأَبُ وَبِهَا سُمّيَ مَاءُ الْحَوْأَبِ وَعُثْمَانُ هُوَ ابْنُ أَدّ بْنِ طَابِخَةَ .
حَوْلَ شِعْرِ بُجَيْرٍ
وَقَوْلُهُ كَانَتْ عُلَالَةُ يَوْمَ بَطْنِ حُنَيْنٍ
هَذَا مِنْ الْإِقْوَاءِ الّذِي تَقَدّمَ ذِكْرُهُ وَهُوَ أَنْ يُنْقِصَ حَرْفًا مِنْ آخِرِ الْقَسِيمِ الْأَوّلِ مِنْ الْكَامِلِ وَهُوَ الّذِي كَانَ الْأَصْمَعِيّ يُسَمّيهِ الْمُقْعَدُ . [ ص 262 ] كَانَتْ عُلَالَةَ . الْعُلَالَةُ جَرْيٌ بَعْدَ جَرْيٍ أَوْ قِتَالٌ بَعْدَ قِتَالٍ يُرِيدُ أَنّ هَوَازِنَ جَمَعَتْ جَمْعَهَا عُلَالَةً فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَحُذِفَ التّنْوِينُ مِنْ عُلَالَةَ ضَرُورَةً وَأُضْمِرَ فِي كَانَتْ اسْمُهَا ، وَهُوَ الْقِصّةُ وَإِنْ كَانَتْ الرّوَايَةُ بِخَفْضِ يَوْمٍ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْتِزَامِ الضّرُورَةِ الْقَبِيحَةِ بِالنّصْبِ وَلَكِنّ أَلْفِيّتَهُ فِي النّسْخَةِ الْمُقَيّدَةِ وَإِذَا كَانَ الْيَوْمُ مَخْفُوضًا بِالْإِضَافَةِ جَازَ فِي عُلَالَةَ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى خَبَرِ كَانَ فَيَكُونُ اسْمُهَا عَائِدًا عَلَى شَيْءٍ تَقَدّمَ ذِكْرُهُ وَيَجُوزُ الرّفْعُ فِي عُلَالَةَ مَعَ إضَافَتِهَا إلَى يَوْمٍ عَلَى أَنْ تَكُونَ كَانَ تَامّةً مُكْتَفِيَةً بِاسْمٍ وَاحِدٍ وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَهَا اسْمًا عَلَمًا لِلْمَصْدَرِ مِثْلَ بَرّةَ وَفَجَارِ وَيُنْصَبُ يَوْمٌ عَلَى الظّرْفِ كَمَا تَقَيّدَ فِي النّسْخَةِ . وَقَوْلُهُ تَرْتَدّ حَسْرَانَا ، جَمْعُ : حَسِيرٍ وَهُوَ الْكَلِيلُ . وَالرّجْرَاجَةُ الْكَتِيبَةُ الضّخْمَةُ مِنْ الرّجْرَجَةِ وَهِيَ شِدّةُ الْحَرَكَةِ وَالِاضْطِرَابِ . وَفَيْلَقٌ مِنْ الْفِلْقِ وَهِيَ الدّاهِيَةُ . وَالْهَرَاسُ شَوْكٌ مَعْرُوفٌ وَالضّرَاءُ الْكِلَابُ وَهِيَ إذَا مَشَتْ فِي الْهَرَاسِ ابْتَغَتْ لِأَيْدِيهَا مَوْضِعًا ، ثُمّ تَضَعُ أَرْجُلَهَا فِي مَوْضِعِ أَيْدِيهَا ، شَبّهَ الْخَيْلَ بِهَا . وَالْفُدُرُ الْوُعُولُ الْمُسِنّةُ . وَالنّهِيءُ الْغَدِيرُ ، سُمّيَ بِذَلِكَ لِأَنّهُ مَاءٌ نَهَاهُ مَا ارْتَفَعَ مِنْ الْأَرْضِ عَنْ السّيَلَانِ فَوَقَفَ . وَقَوْلُهُ جُدُلٌ جَمْعُ جَدْلَاءَ وَهِيَ الشّدِيدَةُ الْفَتْلِ وَمَنْ رَوَاهُ جَدْلٌ فَمَعْنَاهُ ذَاتُ جَدْلٍ . وَقَوْلُهُ وَآل مُحَرّقِ يَعْنِي عُمَرَ بْنِ هِنْدَ مَلِكَ الْحِيرَةِ ، وَقَدْ تَقَدّمَ فِي أَوّلِ الْكِتَابِ سَبَبُ تَسْمِيَتِهِ بِمُحَرّقٍ وَفِي زَمَانِهِ وُلِدَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا ذَكَرُوا - وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

أَمْرُ أَمْوَالِ هَوَازِنَ وَسَبَايَاهَا وَعَطَايَا الْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ
مِنْهَا وَإِنْعَامُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيهَا
[ ص 263 ] خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ انْصَرَفَ عَنْ الطّائِفِ عَلَى دَحْنَا حَتّى نَزَلَ الْجِعْرَانَةَ فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ النّاسِ وَمَعَهُ مِنْ هَوَازِنَ سَبْيٌ كَثِيرٌ وَقَدْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَوْمَ ظَعَنَ عَنْ ثَقِيفٍ : يَا رَسُولَ اللّهِ اُدْعُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اللّهُمّ اهْدِ ثَقِيفًا وَأْتِ بِهِمْ . ثُمّ أَتَاهُ وَفْدُ هَوَازِنَ بِالْجِعْرَانَةِ وَكَانَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ سَبْيِ هَوَازِنَ سِتّةُ آلَافٍ مِنْ الذّرَارِيّ وَالنّسَاءِ وَمِنْ الْإِبِلِ وَالشّاءِ مَا لَا يُدْرَى مَا عِدّتُهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو : [ ص 264 ] أَنّ وَفْدَ هَوَازِنَ أَتَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ أَسْلَمُوا ، فَقَالُوا : يَا رَسُولُ إنّا أَصْلٌ وَعَشِيرَةٌ ، وَقَدْ أَصَابَنَا مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْك ، فَامْنُنْ عَلَيْنَا ، مَنّ اللّهُ عَلَيْك . قَالَ وَقَامَ رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ ، ثُمّ أَحَدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ، يُقَالُ لَهُ زُهَيْرٌ يُكَنّى أَبَا صُرَدٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّمَا فِي الْحَظَائِرِ عَمّاتُك وَخَالَاتُك وَحَوَاضِنُك اللّاتِي كُنّ يَكْفُلْنَك ، وَلَوْ أَنّا مَلَحْنَا لِلْحَارِثِ بْنِ أَبِي شَمِرٍ ، أَوْ النّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ ، ثُمّ نَزَلَ مِنّا بِمِثْلِ الّذِي نَزَلْت بِهِ رَجَوْنَا عَطْفَهُ وَعَائِدَتَهُ عَلَيْنَا ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْمَكْفُولِينَ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُرْوَى : وَلَوْ أَنّا مَالَحْنَا الْحَارِثَ بْنَ أَبِي شَمِرٍ ، أَوْ النّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ أَحَبّ إلَيْكُمْ أَمْ أَمْوَالُكُمْ ؟ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ خَيّرْتنَا بَيْنَ أَمْوَالِنَا وَأَحْسَابِنَا ، بَلْ تَرُدّ إلَيْنَا نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا ، فَهُوَ أَحَبّ إلَيْنَا ، فَقَالَ لَهُمْ أَمّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ وَإِذَا مَا أَنَا صَلّيْت الظّهْرَ بِالنّاسِ فَقُومُوا فَقُولُوا : إنّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللّهِ إلَى الْمُسْلِمِينَ وَبِالْمُسْلِمِينَ إلَى رَسُولِ اللّهِ فِي أَبْنَائِنَا وَنِسَائِنَا ، فَسَأُعْطِيكُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَأَسْأَلُ لَكُمْ فَلَمّا صَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالنّاسِ الظّهْرَ قَامُوا فَتَكَلّمُوا بِاَلّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَمّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ . فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ : وَمَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَقَالَتْ الْأَنْصَارُ : وَمَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . فَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ أَمّا أَنَا وَبَنُو تَمِيمٍ فَلَا . وَقَالَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ أَمّا أَنَا وَبَنُو فَزَارَةَ فَلَا . وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَمّا أَنَا وَبَنُو سُلَيْمٍ فَلَا فَقَالَتْ بَنُو سُلَيْمٍ : بَلَى ، مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ يَقُولُ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ لِبَنِي سُلَيْمٍ وَهّنْتُمُونِي . [ ص 265 ] فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمّا مَنْ تَمَسّكَ مِنْكُمْ بِحَقّهِ مِنْ هَذَا السّبْيِ فَلَهُ بِكُلّ إنْسَانٍ سِتّ فَرَائِضَ مِنْ أَوّلِ سَبْيٍ أُصِيبُهُ فَرُدّوا إلَى النّاسِ أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ .
Sدَحْنَا وَمَسْحُ ظَهْرِ آدَمَ
[ ص 263 ] وَذَكَرَ انْصِرَافَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ الطّائِفِ عَلَى دَحْنَا . وَدَحْنَا هَذِهِ هِيَ الّتِي خُلِقَ مِنْ تُرْبِهَا آدَمُ صَلّى اللّهُ عَلَى نَبِيّنَا وَعَلَيْهِ وَفِي الْحَدِيثِ إنّ اللّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ دَحْنَا ، وَمَسَحَ ظَهْرَهُ بِنُعْمَانِ الْأَرَاكِ رَوَاهُ ابْنُ عَبّاسٍ ، وَكَانَ مَسْحُ ظَهْرِ آدَمَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ الْجَنّةِ بِاتّفَاقٍ مِنْ الرّوَايَاتِ وَاخْتَلَفَتْ الرّوَايَةُ فِي مَسْحِ ظَهْرِهِ فَرُوِيَ مَا تَقَدّمَ وَهُوَ أَصَحّ ، وَرُوِيَ أَنّ ذَلِكَ كَانَ فِي سَمَاءِ الدّنْيَا قَبْلَ هُبُوطِهِ إلَى الْأَرْضِ وَهُوَ قَوْلُ السّدّيّ ، وَكِلْتَا الرّوَايَتَيْنِ ذَكَرَهُمَا الطّبَرِيّ . وَقَوْلُهُ حَتّى نَزَلَ الْجِعْرَانَةَ ، بِسُكُونِ الْعَيْنِ فِيهَا هُوَ أَصَحّ الرّوَايَتَيْنِ وَقَدْ ذَكَرَ الْخَطّابِيّ أَنّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ يُشَدّدُونَ الرّاءَ وَقَدْ ذُكِرَ أَنّ الْمَرْأَةَ الّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوّةٍ كَانَتْ تُلَقّبُ بِالْجِعْرَانَةِ وَاسْمُهَا : رَيْطَةُ بِنْتُ سَعْدٍ وَأَنّ الْمَوْضِعَ يُسَمّى بِهَا ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
حَوْلَ قَوْلِ زُهَيْرٍ أَبِي صُرَدٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ زُهَيْرًا أَبَا صُرَدٍ وَقَوْلُهُ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَوْ أَنّا مَلَحْنَا لِلْحَارِثِ بْنِ أَبِي شَمِرٍ ، [ ص 264 ] أَرْضَعْنَا ، وَالْمِلْحُ الرّضَاعُ قَالَ الشّاعِرُ
فَلَا يُبْعِدُ اللّهُ رَبّ الْعِبَا ... دِ وَالْمِلْحُ مَا وَلَدَتْ خَالِدَهْ
هُمْ الْمُطْعِمُو الضّيْفَ شَحْمَ السّنَا ... مِ وَالْكَاسِرُ وَ اللّيْلَةِ الْبَارِدَهْ
وَهُمْ يَكْسِرُونَ صُدُورَ الْقَنَاِ ... بِالْخَيْلِ تُطْرَدُ أَوْ طَارِدَهْ
فَإِنْ يَكُنْ الْمَوْتُ أَفْنَاهُمْ ... فَلِلْمَوْتِ مَا تَلِدُ الْوَالِدَهْ
وَأَمّا زُهَيْرٌ الّذِي ذَكَرَهُ فَهُوَ ابْنُ صُرَدٍ يُكَنّى أَبَا صُرَدٍ وَقِيلَ أَبَا جَرْوَلَ ، وَكَانَ مِنْ رُؤَسَاءِ بَنِي جُشَمٍ وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ إسْحَاقَ شِعْرَهُ فِي النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَلِكَ الْيَوْمَ فِي رِوَايَةِ الْبَكّائِيّ وَذَكَرَهُ فِي رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْهُ وَهُوَ [ ص 265 ]
أَمْنِنْ عَلَيْنَا رَسُولَ اللّهِ فِي كَرَمٍ ... فَإِنّك الْمَرْءُ نَرْجُوهُ وَنَنْتَظِرُ
اُمْنُنْ عَلَى بَيْضَةٍ قَدْ عَاقَهَا قَدَرٌ ... مُمَزّقٌ شَمْلَهَا فِي دَهْرِهَا غِيَرُ
يَا خَيْرَ طِفْلٍ وَمَوْلُودٍ وَمُنْتَخَبٍ ... فِي الْعَالَمِينَ إذَا مَا حُصّلَ الْبَشَرُ
إنْ لَمْ تُدَارِكْهُمْ نَعْمَاءُ تَنْشُرُهَا ... يَا أَرْجَحَ النّاسِ حِلْمًا حِينَ يُخْتَبَرُ
اُمْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْت تَرْضَعُهَا ... إذْ فُوك تَمْلَأُهُ مِنْ مَحْضِهَا الدّرَرُ
إذْ كُنْت طِفْلًا صَغِيرًا كُنْت تَرْضَعُهَا ... وَإِذْ يُزَيّنْكَ مَا تَأْتِي وَمَا تَدَرُ
لَا تَجْعَلَنّا كَمَنْ شَالَتْ نَعَامَتُهُ ... وَاسْتَبْقِ مِنّا مِنْهُ مَعْشَرٌ زُهْرُ
يَا خَيْرَ مَنْ مَرَحَتْ كُمْتُ الْجِيَادِ بِهِ ... عِنْدَ الْهِيَاجِ إذَا مَا اسْتَوْقَدَ الشّرَرُ
إنّا لَنَشْكُرُ آلَاءً وَإِنْ كُفِرَتْ ... وَعِنْدَنَا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ مُدّخَرُ
إنّا نُؤَمّلُ عَفْوًا مِنْك تَلْبَسُهُ ... هَذِي الْبَرِيّةِ إذْ تَعْفُو وَتَنْتَصِرُ
فَاغْفِرْ عَفَا اللّهُ عَمّا أَنْتَ رَاهِبُهُ ... يَوْمَ الْقِيَامَةِ إذْ يُهْدَى لَك الظّفَرُ
مِنْ أَحْكَامِ السّبَايَا
فَصْلٌ وَذَكَرَ رَدّ السّبَايَا إلَى هَوَازِنَ ، وَأَنّهُ مَنْ لَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِالرّدّ عَوّضَهُ مِمّا كَانَ بِيَدِهِ وَاسْتَطَابَ نُفُوسَ الْبَاقِينَ وَذَلِكَ أَنّ الْمَقَاسِمَ كَانَتْ قَدْ وَقَعَتْ فِيهِمْ وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمُنّ عَلَى الْأَسْرَى بَعْدَ الْقَسْمِ وَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ الْمَقَاسِمِ كَمَا فَعَلَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِأَهْلِ خَيْبَرَ حِينَ مَنّ عَلَيْهِمْ وَتَرَكَهُمْ عُمّالًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي أَرْضِهِمْ الّتِي افْتَتَحُوهَا عَنْوَةً كَذَلِكَ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ ، قَالَ وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمُنّ عَلَيْهِمْ فَيَرُدّهُمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَلَكِنْ عَلَى أَنْ يُؤَدّوا الْجِزْيَةَ وَيَكُونُوا تَحْتَ حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ وَالْإِمَامُ مُخَيّرٌ فِي الْأَسْرَى بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْفِدَاءِ وَالْمَنّ وَالِاسْتِرْقَاقِ وَالْفِدَاءِ بِالنّفُوسِ لَا بِالْمَالِ كَذَلِكَ قَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ هَذَا فِي الرّجَالِ وَأَمّا الذّرَارِيّ وَالنّسَاءُ فَلَيْسَ إلّا الِاسْتِرْقَاقُ أَوْ الْمُفَادَاةُ بِالنّفُوسِ دُونَ الْمَالِ كَمَا تَقَدّمَ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي أَبُو وَجْزَةَ يَزِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ السّعْدِيّ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَعْطَى عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ جَارِيَةً يُقَالُ لَهَا : رَيْطَةُ بِنْتُ هِلَالِ بْنِ حَيّانَ بْنِ عُمَيْرَةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ نَاصِرَةَ بْنِ قُصَيّةَ بْنِ نَصْرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ، وَأَعْطَى عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ جَارِيَةً يُقَالُ لَهَا : زَيْنَبُ بِنْتُ حَيّانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَيّانَ ، وَأَعْطَى عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ جَارِيَةً فَوَهَبَهَا لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ ابْنِهِ . [ ص 266 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ ، قَالَ بَعَثْت بِهَا إلَى أَخْوَالِي مِنْ بَنِي جُمَحٍ لِيُصْلِحُوا لِي مِنْهَا ، وَيُهَيّئُوهَا ، حَتّى أَطُوفَ بِالْبَيْتِ ثُمّ آتِيهِمْ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُصِيبَهَا إذَا رَجَعْت إلَيْهَا . قَالَ فَخَرَجْت مِنْ الْمَسْجِدِ حِينَ فَرَغْت ، فَإِذَا النّاسُ يَشْتَدّونَ فَقُلْت : مَا شَأْنُكُمْ ؟ قَالُوا : رَدّ عَلَيْنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا ؛ فَقُلْت : تِلْكُمْ صَاحِبَتُكُمْ فِي بَنِي جُمَحٍ فَاذْهَبُوا فَخُذُوهَا ، فَذَهَبُوا إلَيْهَا ، فَأَخَذُوهَا .S[ ص 266 ] وَذَكَرَ الْجَارِيَةَ الّتِي أُعْطِيَهَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَأَنّهُ بَعَثَ بِهَا إلَى أَخْوَالِهِ مِنْ بَنِي جُمَحٍ لِيُصْلِحُوا لَهُ مِنْهَا كَيْ يُصِيبَهَا ، وَهَذَا لِأَنّهَا كَانَتْ قَدْ أَسْلَمَتْ لِأَنّهُ لَا يَجُوزُ وَطْءُ وَثَنِيّةٍ وَلَا مَجُوسِيّةٍ بِمِلْكِ يَمِينٍ وَلَا بِنِكَاحٍ حَتّى تُسْلِمَ وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ فَلَا بُدّ أَيْضًا مِنْ اسْتِبْرَائِهَا ، وَأَمّا الْكِتَابِيّاتُ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ وَطْئِهِنّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ التّابِعِينَ مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ إبَاحَةُ وَطْءِ الْمَجُوسِيّةِ وَالْوَثَنِيّةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَقَوْلُ اللّهِ تَعَالَى : { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتّى يُؤْمِنّ } [ الْبَقَرَةُ 221 ] تَحْرِيمٌ عَامّ إلّا مَا خَصّصَتْهُ آيَةُ الْمَائِدَةِ مِنْ الْكِتَابِيّاتِ وَالنّكَاحُ يَقَعُ عَلَى الْوَطْءِ بِالْعَقْدِ وَالْمِلْكِ .
حَوْلَ سَبْيِ حُنَيْنٍ
وَكَانَ سَبْيُ حُنَيْنٍ سِتّةَ آلَافِ رَأْسٍ وَكَانَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَدْ وَلّى أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَمْرَهُمْ وَجَعَلَهُ أَمِينًا عَلَيْهِمْ قَالَهُ الزّبَيْرُ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ ذَكَرَهُ الزّبَيْرُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ أَنّ أَبَا جَهْمِ بْنَ حُذَيْفَةَ الْعَدَوِيّ كَانَ عَلَى الْأَنْفَالِ يَوْمَ حُنَيْنٍ ، فَجَاءَهُ خَالِدُ بْنُ الْبَرْصَاءِ فَأَخَذَ مِنْ الْأَنْفَالِ زِمَامَ شَعْرٍ فَمَانَعَهُ أَبُو جَهْمٍ فَلَمّا تَمَانَعَا ضَرَبَهُ أَبُو جَهْمٍ بِالْقَوْسِ فَشَجّهُ مُنَقّلَةٌ فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ خَالِدٌ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ لَهُ خُذْ خَمْسِينَ شَاةً وَدَعْهُ فَقَالَ أَقِدْنِي مِنْهُ فَقَالَ خُذْ مِائَةً وَدَعْهُ فَقَالَ أَقِدْنِي مِنْهُ فَقَالَ خُذْ خَمْسِينَ وَمِائَةً وَدَعْهُ وَلَيْسَ لَك إلّا ذَلِكَ وَلَا أُقِصّكَ مِنْ وَالٍ عَلَيْك فَقُوّمَتْ الْخَمْسُونَ وَالْمِائَةُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ فَرِيضَةً مِنْ الْإِبِلِ فَمِنْ هُنَالِكَ جُعِلَتْ دِيَةُ الْمُنَقّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ فَرِيضَةً .
إعْطَاءُ الْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ الْغَنَائِمِ
فَصْلٌ وَأَمّا إعْطَاءُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ حَتّى تَكَلّمَتْ الْأَنْصَارُ فِي ذَلِكَ وَكَثُرَتْ مِنْهُمْ الْقَالَةُ وَقَالَتْ يُعْطِي صَنَادِيدَ الْعَرَبِ وَلَا يُعْطِينَا ، وَأَسْيَافُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ فَلِلْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا أَنّهُ أَعْطَاهُمْ مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْدُودٌ لِأَنّ خُمْسَ الْخُمْسِ مِلْكٌ لَهُ وَلَا كَلَامَ لِأَحَدٍ فِيهِ . [ ص 267 ] الثّانِي : أَنّهُ أَعْطَاهُمْ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ وَأَنّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { قُلِ الْأَنْفَالُ لِلّهِ وَالرّسُولِ } [ الْأَنْفَالُ 1 ] وَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا يَرُدّهُ مَا تَقَدّمَ مِنْ نُسَخِ هَذِهِ الْآيَةِ وَقَدْ تَقَدّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ غَيْرَ أَنّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ لِهَذَا الْقَوْلِ بِأَنّ الْأَنْصَارَ لَمّا انْهَزَمُوا يَوْمَ حُنَيْنٍ فَأَيّدَ اللّهُ رَسُولَهُ وَأَمَدّهُ بِمَلَائِكَتِهِ فَلَمْ يَرْجِعُوا حَتّى كَانَ الْفَتْحُ رَدّ اللّهُ تَعَالَى أَمْرَ الْمَغَانِمِ إلَى رَسُولِهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ فَلَمْ يُعْطِهِمْ مِنْهَا شَيْئًا وَقَالَ لَهُمْ أَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النّاسُ بِالشّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُوا بِرَسُولِ اللّهِ إلَى رِحَالِكُمْ فَطَيّبَ نُفُوسَهُمْ بِذَلِكَ بَعْدَمَا فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ . وَالْقَوْلُ الثّالِثُ وَهُوَ الّذِي اخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ أَنّ إعْطَاءَهُمْ كَانَ مِنْ الْخُمْسِ حَيْثُ يَرَى أَنّ فِيهِ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ . فَصْلٌ وَمِمّا لَمْ يَذْكُرْ ابْنُ إسْحَاقَ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَنّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أُثْقِلَ بِالْجِرَاحَةِ يَوْمَئِذٍ فَأَتَاهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ مَنْ يَدُلّنِي عَلَى رَحْلِ خَالِدٍ حَتّى دُلّ عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ قَدْ أُسْنِدَ إلَى مُؤَخّرَةِ رَحْلِهِ فَنَفَثَ عَلَى جُرْحِهِ فَبَرِئَ ذَكَرَهُ الْكَشّيّ .

[ ص 267 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَمّا عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ فَأَخَذَ عَجُوزًا مِنْ عَجَائِزِ هَوَازِنَ ، وَقَالَ حِينَ أَخَذَهَا : أَرَى عَجُوزًا إنّي لَأَحْسَبُ لَهَا فِي الْحَيّ نَسَبًا ، وَعَسَى أَنْ يَعْظُمَ فِدَاؤُهَا فَلَمّا رَدّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ السّبَايَا بِسِتّ فَرَائِضَ أَبَى أَنْ يَرُدّهَا ، فَقَالَ لَهُ زُهَيْرٌ أَبُو صُرَدٍ خُذْهَا عَنْك ، فَوَاَللّهِ مَا فُوهَا بِبَارِدٍ وَلَا ثَدْيُهَا بِنَاهِدٍ وَلَا بَطْنُهَا بِوَالِدٍ وَلَا زَوْجُهَا بِوَاجِدٍ وَلَا دَرّهَا بِمَاكِدٍ . فَرَدّهَا بِسِتّ فَرَائِضَ حِينَ قَالَ لَهُ زُهَيْرٌ مَا قَالَ فَزَعَمُوا أَنّ عُيَيْنَةَ لَقِيَ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ فَشَكَا إلَيْهِ ذَلِكَ فَقَالَ إنّك وَاَللّهِ مَا أَخَذْتهَا بَيْضَاءَ غَرِيرَةً وَلَا نَصَفًا وَثِيرَةً .Sوَصْفُ عَجُوزِ ابْنِ حِصْنٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ وَقَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ صُرَدٍ لَهُ فِي الْعَجُوزِ الّتِي أَخَذَهَا : مَا فُوهَا بِبَارِدٍ وَلَا ثَدْيُهَا بِنَاهِدٍ وَلَا دَرّهَا بِمَاكِدٍ وَيُقَالُ أَيْضًا : بِنَاكِدٍ يُرِيدُ لَيْسَتْ بِغَزِيرَةِ الدّرّ وَالنّوقُ النّكْدُ الْغَزِيرَاتُ اللّبَنِ وَأَحْسَبُهُ مِنْ الْأَضْدَادِ لِأَنّهُ قَدْ يُقَالُ أَيْضًا نَكِدَ لَبَنُهَا إذَا نَقَصَ قَالَهُ صَاحِبُ الْعَيْنِ وَالصّحِيحُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ أَنّ النّكِدَ هِيَ الْقَلِيلَاتُ اللّبَنِ مِنْ قَوْلِهِ عَزّ وَجَلّ { لَا يَخْرُجُ إِلّا نَكِدًا } [ الْأَعْرَافُ 58 ] وَأَنّ الْمُكْدَ بِالْمِيمِ هِيَ الْغَزِيرَاتُ اللّبَنِ قَالَ ابْنُ سِرَاجٍ لِأَنّهُ مِنْ مَكَدَ فِي الْمَكَانِ إذَا أَقَامَ فِيهِ وَقَدْ يُقَالُ أَيْضًا : نَكِدَ فِي مَعْنَى مَكَدَ أَيْ ثَبَتَ . [ ص 268 ]
الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ
وَذَكَرَ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ وَكَانَ مِنْ الْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ ثُمّ حَسُنَ إسْلَامُهُ بَعْدُ وَهُوَ الّذِي قَالَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ نَزَلَتْ { وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَيْتِ } [ آلُ عِمْرَانَ : 97 ] أَفِي كُلّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ لَوْ قُلْتهَا لَوَجَبَتْ وَهُوَ الّذِي قَالَ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ أَقْطَعَ أَبْيَضَ بْنَ حَمّالٍ الْمَاءَ الّذِي بِمَأْرِبٍ أَتَدْرِي مَا أَقْطَعْته يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ إنّمَا أَقْطَعْته الْمَاءَ الْعِدّ فَاسْتَرْجَعَهُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ غَيْرَ أَنّهُ لَمْ يُسَمّ قَائِلَ هَذَا الْكَلَامَ فِيهِ إلّا الدّارَقُطْنِيّ فِي رِوَايَتِهِ وَزَادَ فِيهِ أَيْضًا : قَالَ أَبْيَضُ عَلَى أَنْ يَكُونَ صَدَقَةً مِنّي يَا رَسُولَ اللّهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ نَعَمْ وَأَمّا نَسَبُ الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ فَهُوَ ابْنُ حَابِسِ بْنِ عِقَالٍ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ مُجَاشِعِ [ بْنِ دَارِمٍ ] التّمِيمِيّ الْمُجَاشِعِيّ الدّارِمِيّ وَأَمّا عُيَيْنَةُ فَاسْمُهُ حُذَيْفَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيّ ، وَقَدْ تَقَدّمَ ذِكْرُهُ .

[ ص 268 ] وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِوَفْدِ هَوَازِنَ ، وَسَأَلَهُمْ عَنْ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ مَا فَعَلَ ؟ فَقَالُوا : هُوَ بِالطّائِفِ مَعَ ثَقِيفٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخْبِرُوا مَالِكًا أَنّهُ إنْ أَتَانِي مُسْلِمًا رَدَدْت عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَأَعْطَيْته مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ فَأُتِيَ مَالِكٌ بِذَلِكَ فَخَرَجَ إلَيْهِ مِنْ الطّائِفِ . وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ خَافَ ثَقِيفًا عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَعْلَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَهُ مَا قَالَ فَيَحْبِسُوهُ فَأَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَهُيّئَتْ لَهُ وَأَمَرَ بِفَرَسٍ لَهُ فَأُتِيَ بِهِ إلَى الطّائِفِ ، فَخَرَجَ لَيْلًا ، فَجَلَسَ عَلَى فَرَسِهِ فَرَكَضَهُ حَتّى أَتَى رَاحِلَتَهُ حَيْثُ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُحْبَسَ فَرَكِبَهَا ، فَلَحِقَ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَدْرَكَهُ بِالْجِعْرَانَةِ أَوْ بِمَكّةَ فَرَدّ عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَأَعْطَاهُ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ وَأَسْلَمَ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ فَقَالَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ حِينَ أَسْلَمَ :
مَا إنْ رَأَيْت وَلَا سَمِعْت بِمِثْلِهِ ... فِي النّاسِ كُلّهُمُ بِمِثْلِ مُحَمّدِ
أَوْفَى وَأَعْطَى لِلْجَزِيلِ إذَا اُجْتُدِيَ ... وَمَتَى تَشَأْ يُخْبِرْك عَمّا فِي غَدٍ
إذَا الْكَتِيبَةُ عَرّدَتْ أَنْيَابَهَا ... بِالسّمْهَرِيّ وَضَرْبِ كُلّ مُهَنّدِ
فَكَأَنّهُ لَيْثٌ عَلَى أَشْبَالِهِ ... وَسْطَ الْهَبَاءَةِ خَادِرٌ فِي مَرْصَدِ
فَاسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ وَتِلْكَ الْقَبَائِلُ ثُمَالَةُ وَسَلِمَةُ [ ص 269 ] فَكَانَ يُقَاتِلُ بِهِمْ ثَقِيفًا ، لَا يَخْرُجُ لَهُمْ سَرْحٌ إلّا أَغَار عَلَيْهِ حَتّى ضَيّقَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ أَبُو مِحْجَنِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الثّقَفِيّ :
هَابَتْ الْأَعْدَاءُ جَانِبَنَا ... ثُمّ تَغْزُونَا بَنُو سَلَمَهْ
وَأَتَانَا مَالِكٌ بِهِمْ ... نَاقِضًا لِلْعَهْدِ وَالْحُرْمَهْ
وَأَتَوْنَا فِي مَنَازِلِنَا ... وَلَقَدْ كُنّا أُولِي نِقْمَهْ
Sمَالِكُ بْنُ عَوْفٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ تَوْلِيَةَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ عَلَى ثُمَالَةَ وَبَنِيّ سَلِمَةَ وَفَهْمٍ . وَثُمَالَةُ هُمْ [ ص 269 ] أَسْلَمَ بْنُ أَحْجَنَ أُمّهُمْ ثُمَالَةُ وَقَوْلُ أَبِي مِحْجَنٍ فِيهِ
هَابَتْ الْأَعْدَاءُ جَانِبَنَا ... ثُمّ تَغْزُونَا بَنُو سَلَمَهْ
هَكَذَا تَقَيّدَ فِي النّسْخَةِ بِكَسْرِ اللّامِ وَالْمَعْرُوفُ فِي قَبَائِلِ قَيْسٍ : سَلَمَةُ بِالْفَتْحِ إلّا أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْأَزْدِ ، فَإِنّ ثُمَالَةَ الْمَذْكُورِينَ مَعَهُمْ حَيّ مِنْ الْأَزْدِ وَفَهْمٌ مِنْ دَوْسٍ ، وَهُمْ مِنْ الْأَزْدِ أَيْضًا ، وَأُمّهُمْ جَدِيلَةُ وَهِيَ مِنْ غَطَفَانَ بْنِ قَيْسِ بْنِ غَيْلَانَ عَلَى أَنّهُ لَا يُعْرَفُ فِي الْأَزْدِ سَلِمَةُ إلّا فِي الْأَنْصَارِ ، وَهُمْ مِنْ الْأَزْدِ وَسَلِمَةُ أَيْضًا فِي جُعْفَى هُمْ وَسَلِمَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ ذُهْلِ بْنِ مُرّانَ بْنُ جُعْفِيّ وَسَلِمَةُ فِي جُهَيْنَةَ أَيْضًا سَلِمَةُ بْنُ نَصْرِ بْنِ غَطَفَانَ بْنِ قَيْسِ بْنِ جُهَيْنَةَ وَجُعْفِيّ مِنْ مَذْحِجَ وَجُهَيْنَةُ مِنْ قُضَاعَةَ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا فَرَغَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ رَدّ سَبَايَا حُنَيْنٍ إلَى أَهْلِهَا ، رَكِبَ وَاتّبَعَهُ النّاسُ يَقُولُونَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَقْسِمْ عَلَيْنَا فَيْئَنَا مِنْ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ حَتّى أَلْجَئُوهُ إلَى شَجَرَةٍ فَاخْتَطَفَتْ عَنْهُ رِدَاءَهُ فَقَالَ أَدّوا عَلَيّ رِدَائِي أَيّهَا النّاسُ فَوَاَللّهِ أَنْ لَوْ كَانَ لَكُمْ بِعَدَدِ شَجَرِ تِهَامَةَ نَعَمًا لَقَسَمْته عَلَيْكُمْ ثُمّ مَا أَلْفَيْتُمُونِي بَخِيلًا وَلَا جَبَانًا وَلَا كَذّابًا ، ثُمّ قَامَ إلَى جَنْبِ بَعِيرٍ . فَأَخَذَ وَبَرَةً مِنْ سَنَامِهِ فَجَعَلَهَا بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ ثُمّ رَفَعَهَا ، ثُمّ قَالَ أَيّهَا النّاسُ وَاَللّهِ مَا لِي مِنْ فَيْئِكُمْ وَلَا هَذِهِ الْوَبَرَةِ إلّا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ . فَأَدّوا الْخِيَاطَ وَالْمُخْيَطَ فَإِنّ الْغُلُولَ يَكُونُ عَلَى أَهْلِهِ عَارًا وَنَارًا وَشَنَارًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ . قَالَ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ بِكُبّةٍ مِنْ خُيُوطِ شَعْرٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَخَذْت هَذِهِ الْكُبّةَ أَعْمَلُ بِهَا بَرْذعَةَ بَعِيرٍ لِي دَبِرٍ فَقَالَ أَمّا نَصِيبِي مِنْهَا فَلَك قَالَ أَمَا إذْ بَلَغَتْ هَذَا فَلَا حَاجَةَ لِي بِهَا ، ثُمّ طَرَحَهَا مِنْ يَدِهِ [ ص 270 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَذَكَرَ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ ، عَنْ أَبِيهِ أَنّ عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ دَخَلَ يَوْمَ حُنَيْنٍ عَلَى امْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، وَسَيْفُهُ مُتَلَطّخٌ دَمًا ، فَقَالَتْ إنّي قَدْ عَرَفْت أَنّك قَدْ قَتَلْت ، فَمَاذَا أَصَبْت مِنْ غَنَائِمِ الْمُشْرِكِينَ ؟ فَقَالَ دُونَك هَذِهِ الْإِبْرَةُ تَخِيطِينَ بِهَا ثِيَابَك ، فَدَفَعَهَا إلَيْهَا ، فَسَمِعَ مُنَادِي رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَلْيَرُدّهُ حَتّى الْخِيَاطَ وَالْمُخْيَطَ . فَرَجَعَ عَقِيلٌ فَقَالَ مَا أَرَى إبْرَتَك إلّا قَدْ ذَهَبْت ، فَأَخَذَهَا ، فَأَلْقَاهَا فِي الْغَنَائِمِ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَعْطَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُؤَلّفَةَ قُلُوبُهُمْ وَكَانُوا أَشْرَافًا مِنْ أَشْرَافِ النّاسِ يَتَأَلّفُهُمْ وَيَتَأَلّفُ بِهِمْ قَوْمَهُمْ فَأَعْطَى أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ مِائَةَ بَعِيرٍ وَأَعْطَى ابْنَهُ مُعَاوِيَةَ مِائَةَ بَعِيرٍ وَأَعْطَى حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ مِائَةَ بَعِيرٍ وَأَعْطَى الْحَارِثَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ ، أَخَا بَنِي عَبْدِ الدّارِ مِائَةَ بَعِيرٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : نَصِيرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُهُ الْحَارِثَ أَيْضًا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَعْطَى الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ مِائَةَ بَعِيرٍ وَأَعْطَى سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو مِائَةَ بَعِيرٍ وَأَعْطَى حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ أَبِي قَيْسٍ مِائَةَ بَعِيرٍ وَأَعْطَى الْعَلَاءَ بْنَ جَارِيَةَ الثّقَفِيّ حَلِيفَ بَنِي زُهْرَةَ مِائَةَ بَعِيرٍ وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ مِائَةَ بَعِيرٍ وَأَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ التّمِيمِيّ مِائَةَ بَعِيرٍ . وَأَعْطَى مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ النّضْرِيّ مِائَةَ بَعِيرٍ وَأَعْطَى صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ مِائَةَ بَعِيرٍ فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ الْمِئِينَ . وَأَعْطَى دُونَ الْمِائَةِ رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ ، مِنْهُمْ مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الزّهْرِيّ ، وَعُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيّ ، وَهِشَامُ بْنُ عَمْرٍو أَخُو بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ ، لَا أَحْفَظُ مَا أَعْطَاهُمْ وَقَدْ عَرَفْت أَنّهَا دُونَ الْمِائَةِ وَأَعْطَى سَعِيدَ بْنَ يَرْبُوعِ بْنِ عَنْكَثَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ مَخْزُومٍ خَمْسِينَ مِنْ الْإِبِلِ وَأَعْطَى السّهْمِيّ خَمْسِينَ مِنْ الْإِبِلِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاسْمُهُ عَدِيّ بْنُ قَيْسٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 271 ] أَبَاعِرَ فَسَخِطَهَا ، فَعَاتَبَ فِيهَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ يُعَاتِبُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
كَانَتْ نِهَابًا تَلَافَيْتهَا ... بِكَرّي عَلَى الْمُهْرِ فِي الْأَجْرَعِ
وَإِيقَاظِي الْقَوْمِ أَنْ يَرْقُدُوا ... إذَا هَجَعَ النّاسُ لَمْ أَهْجَعْ
فَأَصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْبُ الْعَبِي ... دِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ
وَقَدْ كُنْت فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَإٍ ... فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعْ
إلّا أَفَائِلَ أُعْطِيتهَا ... عَدِيدَ قَوَائِمِهَا الْأَرْبَعِ
وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ ... يَفْوَقَانِ شَيْخِي فِي الْمَجْمَعِ
وَمَا كُنْت دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا ... وَمَنْ تَضَعُ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي يُونُسُ النّحْوِيّ :
فَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ ... يَفْوَقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اذْهَبُوا بِهِ فَاقْطَعُوا عَنّي لِسَانَهُ فَأَعْطَوْهُ حَتّى رَضِيَ فَكَانَ ذَلِكَ قَطْعَ لِسَانِهِ الّذِي أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ عَبّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْتَ الْقَائِلُ فَأَصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْبُ الْعَبِيدِ بَيْنَ الْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةِ ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ : بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هُمَا وَاحِدٌ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَشْهَدُ أَنّك كَمَا قَالَ اللّهُ { وَمَا عَلّمْنَاهُ الشّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } [ يس : 69 ] . [ ص 272 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي إسْنَادٍ لَهُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ [ ص 273 ] ابْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ بَايَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ فَأَعْطَاهُمْ يَوْمَ الْجِعْرَانَةِ مِنْ غَنَائِمِ حُنَيْن ٍ . مِنْ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ : أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبِ بْنِ أُمَيّةَ ، وَطُلَيْقُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ أُمَيّةَ ، وَخَالِدُ بْنُ أُسَيْدِ بْنِ أَبِي الْعِيصِ بْنِ أُمَيّةَ . وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ : شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الدّارِ ، وَأَبُو السّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمِيلَةَ بْنِ السّبّاقِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ . وَمِنْ بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَخَالِدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَهِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَسُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ ، وَالسّائِبُ بْنُ أَبِي السّائِبِ بْنِ عَائِذِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ . وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ : مُطِيعُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ نَضْلَةَ وَأَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ بْنِ غَانِمٍ . وَمِنْ بَنِي جُمَحِ بْنِ عَمْرٍو . صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ ، وَأُحَيْحَةُ بْنُ أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ ، وَعُمَيْرُ بْنُ وَهْبِ بْنِ خَلَفٍ . وَمِنْ بَنِي سَهْمٍ عَدِيّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ . وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ : حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ أَبِي قَيْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ وَهِشَامُ بْنُ عَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ حَبِيبٍ . وَمِنْ أَفْنَاءِ الْقَبَائِلِ مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ صَخْرِ بْنِ رَزْنِ بْنِ يَعْمَرَ بْنِ نُفَاثَةَ بْنِ عَدِيّ بْنِ الدّيلِ . وَمِنْ بَنِي قَيْسٍ ، ثُمّ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ ثُمّ مِنْ بَنِي كِلَابِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ عَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ الْأَحْوَصِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ ، وَلَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ . وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ : خَالِدُ بْنُ هَوْذَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَحَرْمَلَةُ بْنُ هَوْذَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرٍو . وَمِنْ بَنِي نَصْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ مَالِكُ بْنُ عَوْفِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ يَرْبُوعٍ . وَمِنْ بَنِي سُلَيْمِ بْنِ مَنْصُورٍ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ ، أَخُو بَنِي الْحَارِثِ بْنِ بُهْثَةُ بْنُ سُلَيْمٍ . وَمِنْ بَنِي غَطَفَانَ ، ثُمّ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ . وَمِنْ بَنِي تَمِيمٍ ثُمّ مِنْ بَنِي حَنْظَلَةَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسِ بْنِ عِقَالٍ مِنْ بَنِي مُجَاشِعِ بْنِ دَارِمٍ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التّيْمِيّ : أَنّ قَائِلًا قَالَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ أَصْحَابِهِ يَا رَسُولَ اللّهِ أَعْطَيْت عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ وَالْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِائَةً وَتَرَكْت جُعَيْلَ بْنَ سُرَاقَةَ الضّمْرِيّ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَا وَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ لَجُعَيْلُ بْنُ سُرَاقَةَ خَيْرٌ مِنْ طِلَاعِ الْأَرْضِ كُلّهِمْ مِثْلَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَلَكِنّي تَأَلّفْتهمَا لِيَسْلَمَا ، وَوَكَلْت جُعَيْلَ بْنَ سُرَاقَةَ إلَى إسْلَامِهِ
Sوَأَمّا مِحْجَنٌ فَاسْمُهُ مَالِكُ بْنُ حَبِيبٍ ، وَقِيلَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ حَبِيبٍ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُقْدَةَ بْنِ غِيَرَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ قَيْسٍ الثّقَفِيّ وَقَدْ تَقَدّمَ نَسَبُ أُحْجَنَ عِنْدَ ذِكْرِنَا لَهَبَ بْنَ أُحْجَنَ قَبْلَ بَابِ الْمَبْعَثِ . وَذَكَرَ أَبَا السّنَابِلِ بْنَ بَعْكَكٍ وَاسْمُهُ حَبّةُ أَحَدُ بَنِي عَبْدِ الدّارِ وَكَانَ شَاعِرًا وَحَدِيثُهُ مَعَ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيّةِ حِينَ آمَتْ مِنْ زَوْجِهَا مَذْكُورٌ فِي الصّحَاحِ . [ ص 270 ] [ ص 271 ]
قَوْلُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِمِرْدَاسٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ قَوْلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِعَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ أَنْتَ الْقَائِلُ فَأَصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْبُ الْعَبِيدِ بَيْنَ الْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةِ ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ : بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هُمَا وَاحِدٌ يَعْنِي فِي الْمَعْنَى ، وَأَمّا فِي الْفَصَاحَةِ فَاَلّذِي أُجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هُوَ الْأَفْصَحُ فِي تَنْزِيلِ الْكَلَامِ وَتَرْتِيبِهِ وَذَلِكَ أَنّ الْقَبْلِيّةَ تَكُونُ بِالْفَضْلِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى : { مِنَ النّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ } [ النّسَاءُ 69 ] وَتَكُونُ بِالرّتْبَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى حِينَ ذَكَرَ الْيَهُودَ وَالنّصَارَى ، فَقَدِمَ الْيَهُودُ لِمُجَاوَرَتِهِمْ الْمَدِينَةَ ، فَهُمْ فِي الرّتْبَةِ قَبْلَ النّصَارَى ، وَقَبْلِيّةٌ بِالزّمَانِ نَحْوَ ذِكْرِ التّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بَعْدَهُ وَنُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَقَبْلِيّةٌ بِالسّبَبِ وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ مَا هُوَ عِلّةُ الشّيْءِ وَسَبَبُ وُجُودِهِ ثُمّ يَذْكُرُ الْمُسَبّبَ بَعْدَهُ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ مِثْلُ أَنْ يَذْكُرَ مَعْصِيَةً وَعِقَابًا أَوْ طَاعَةً وَثَوَابًا فَالْأَجْوَدُ فِي حُكْمِ الْفَصَاحَةِ تَقْدِيمُ السّبَبِ . [ ص 272 ]
الْقَبْلِيّةُ بَيْنَ الْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةَ
وَالْأَقْرَعُ وَعُيَيْنَةُ مِنْ بَابِ قَبْلِيّةِ الْمَرْتَبَةِ وَقَبْلِيّةِ الْفَضْلِ أَمّا قَبْلِيّةُ الرّتْبَةِ فَإِنّهُ مِنْ خِنْدِفٍ ، ثُمّ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَهُوَ أَقْرَبُ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ عُيَيْنَةَ فَتَرَتّبَ فِي الذّكْرِ قَبْلَهُ وَأَمّا قَبْلِيّةُ الْفَضْلِ فَإِنّ الْأَقْرَعَ حَسُنَ إسْلَامُهُ وَعُيَيْنَةَ لَمْ يَزَلْ مَعْدُودًا فِي أَهْلِ الْجَفَاءِ حَتّى ارْتَدّ وَآمَنَ بِطُلَيْحَةَ وَأُخِذَ أَسِيرًا فَجَعَلَ الصّبْيَانُ يَقُولُونَ لَهُ - وَهُوَ يُسَاقُ إلَى أَبِي بَكْرٍ - وَيْحَك يَا عَدُوّ [ ص 273 ] إيمَانِك ، فَيَقُولُ وَاَللّهِ مَا كُنْت آمَنْت ، ثُمّ أَسْلَمَ فِي الظّاهِرِ وَلَمْ يَزَلْ جَافِيًا أَحْمَقَ حَتّى مَاتَ وَبِحَسْبِك تَسْمِيَةُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهُ الْأَحْمَقُ الْمُطَاعُ وَمِمّا يُذْكَرُ مِنْ جَفَائِهِ أَنّ عَمْرَو بْنَ مَعْدِي كَرِبَ نَزَلَ بِهِ ضَيْفًا ، فَقَالَ لَهُ عُيَيْنَةُ هَلْ لَك فِي الْخَمْرِ نَتَنَادَمُ عَلَيْهَا ؟ فَقَالَ عَمْرٌو : أَلَيْسَتْ مُحَرّمَةً فِي الْقُرْآنِ ؟ فَقَالَ عُيَيْنَةُ إنّمَا قَالَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فَقُلْنَا نَحْنُ لَا ، فَشَرِبَا .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ عَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ ، عَنْ مِقْسَمٍ أَبِي الْقَاسِمِ مَوْلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ ، قَالَ خَرَجْت أَنَا وَتَلِيدُ بْنُ كِلَابٍ اللّيْثِيّ حَتّى أَتَيْنَا عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ مُعَلّقًا نَعْلَهُ بِيَدِهِ فَقُلْنَا لَهُ هَلْ حَضَرْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ كَلّمَهُ التّمِيمِيّ يَوْمَ حُنَيْنٍ ؟ قَالَ [ ص 274 ] جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ يُقَالُ لَهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُعْطِي النّاسَ فَقَالَ يَا مُحَمّدُ قَدْ رَأَيْت مَا صَنَعْت فِي هَذَا الْيَوْمِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أَجَلْ فَكَيْفَ رَأَيْت ؟ " فَقَالَ لَمْ أَرَك عَدَلْت ؛ قَالَ فَغَضِبَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ قَالَ " وَيْحَك إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَدْلُ عِنْدِي ، فَعِنْدَ مَنْ يَكُونُ ؟ " فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ : يَا رَسُولَ اللّهِ أَلَا أَقْتُلُهُ ؟ فَقَالَ " لَا ، دَعْهُ فَإِنّهُ سَيَكُونُ لَهُ شِيعَةٌ يَتَعَمّقُونَ فِي الدّينِ حَتّى يَخْرُجُوا مِنْهُ كَمَا يَخْرُجُ السّهْمُ مِنْ الرّمِيّةِ يَنْظُرُ فِي النّصْلِ فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ ثُمّ فِي الْقِدْحِ فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ ثُمّ فِي الْفُوقِ فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدّم قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَلِيّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَوْ جَعْفَرٌ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَسَمّاهُ ذَا الْخُوَيْصِرَةِ .Sحَدِيثُ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ
[ ص 274 ] وَذَكَرَ حَدِيثَ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ التّمِيمِيّ ، وَمَا قَالَ فِيهِ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ وَفِي شِيعَتِهِ وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِهِ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ إلَى صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَكُمْ إلَى صِيَامِهِمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدّينِ كَمَا يَمْرُقُ السّهْمُ مِنْ الرّمِيّةِ الْحَدِيثُ فَكَانَ كَمَا قَالَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَظَهَرَ صِدْقُ الْحَدِيثِ فِي الْخَوَارِجِ ، وَكَانَ أَوّلُهُمْ مِنْ ضِئْضِئِي ذَلِكَ الرّجُلِ أَيْ مِنْ أَصْلِهِ وَكَانُوا مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ الّتِي قَالَ فِيهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشّيْطَانِ فَكَانَ بَدْؤُهُمْ مِنْ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ وَكَانَ آيَتُهُمْ ذُو الثّدَيّةِ الّذِي قَتَلَهُ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَكَانَتْ إحْدَى يَدَيْهِ كَثَدْيِ الْمَرْأَةِ وَاسْمُ ذِي الثّدَيّةِ نَافِعٌ ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَغَيْرُهُ يَقُولُ اسْمُهُ حُرْقُوصُ [ بْنُ زُهَيْرٍ ] وَقَوْلُ أَبِي دَاوُدَ أَصَحّ ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

شِعْرُ حَسّانَ فِي حِرْمَانِ الْأَنْصَارِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ أَبِيهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَلَمّا أَعْطَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا أَعْطَى قُرَيْشًا وَقَبَائِلَ الْعَرَبِ ، وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ شَيْئًا ، قَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يُعَاتِبُهُ فِي ذَلِكَ [ ص 275 ]
زَادَتْ هُمُومٌ فَمَاءُ الْعَيْنِ مُنْحَدِرٌ ... سَحَا إذَا حَفَلَتْهُ عَبْرَةٌ دِرَرُ
وَجْدًا بِشَمّاءَ إذْ شَمّاءُ بَهْكَنَةٌ ... هَيْفَاءُ لَا ذَنَنٌ فِيهَا وَلَا خَوَرُ
دَعْ عَنْك شَمّاءَ إذْ كَانَتْ مَوَدّتُهَا ... نَزَرًا وَشَرّ وَصَالِ الْوَاصِلِ النّزَرُ
وَأْتِ الرّسُولَ فَقُلْ يَا خَيْرَ مُؤْتَمَنٍ ... لِلْمُؤْمِنِينَ إذَا مَا عُدّدَ الْبَشَرُ
عَلَامَ تُدْعَى سُلَيْمٌ وَهِيَ نَازِحَةٌ ... قُدّامَ قَوْمٍ هُمْ آوَوْا وَهُمْ نَصَرُوا
سَمّاهُمْ اللّهُ أَنْصَارًا بِنَصْرِهِمْ ... دِينَ الْهُدَى وَعَوَانُ الْحَرْبِ تَسْتَعِرُ
وَسَارَعُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْتَرَفُوا ... لِلنّائِبَاتِ وَمَا خَامُوا وَمَا ضَجِرُوا
وَالنّاسُ أَلْبٌ عَلَيْنَا فِيك لَيْسَ لَنَا ... إلّا السّيُوفُ وَأَطْرَافُ الْقَنَا وَزَرُ
نُجَالِدُ النّاسَ لَا نُبْقِي عَلَى أَحَدٍ ... وَلَا نُضَيّعُ مَا تُوحِي بِهِ السّوَرُ
وَلَا تَهِرّ جُنَاةُ الْحَرْبِ نَادِيَنَا ... وَنَحْنُ حِينَ تَلَظّى نَارُهَا سُعُرُ
كَمَا رَدَدْنَا بِبَدْرٍ دُونَ مَا طَلَبُوا ... أَهْلَ النّفَاقِ وَفِينَا يَنْزِلُ الظّفَرُ
وَنَحْنُ جُنْدُك يَوْمَ النّعْفِ مِنْ أُحُدٍ ... إذْ حَزَبَتْ بَطَرًا أَحْزَابَهَا مُضَرُ
فَمَا وَنَيْنَا وَمَا خِمْنَا وَمَا خَبُرُوا ... مِنّا عِثَارًا وَكُلّ النّاسِ قَدْ عَثَرُوا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ قَالَ حَدّثَنَا ابْنُ إسْحَاقَ : قَالَ وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيَدٍ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ لَمّا أَعْطَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا ، فِي قُرَيْشٍ وَفِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ وَجَدَ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى كَثُرَتْ مِنْهُمْ الْقَالَةُ حَتّى قَالَ قَائِلُهُمْ لَقَدْ لَقِيَ وَاَللّهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَوْمَهُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عِبَادَةَ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْك فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْت فِي هَذَا الْفَيْءِ الّذِي أَصَبْت ، قَسَمْت فِي قَوْمِك ، وَأَعْطَيْت عَطَايَا عِظَامًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ ، وَلَمْ يَكُ فِي هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ . قَالَ [ ص 276 ] فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ ؟ " قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا أَنَا إلّا مِنْ قَوْمِي ، قَالَ " فَاجْمَعْ لِي قَوْمَك فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ " قَالَ فَخَرَجَ سَعْدٌ فَجَمَعَ الْأَنْصَارَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ قَالَ فَجَاءَ رِجَالٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَتَرَكَهُمْ فَدَخَلُوا ، وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدّهُمْ فَلَمّا اجْتَمَعُوا لَهُ أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ قَدْ اجْتَمَعَ لَك هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمّ قَالَ " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ : مَا قَالَة بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجْدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا عَلَيّ فِي أَنْفُسِكُمْ ؟ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلّالًا فَهُدَاكُمْ اللّه ، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللّهُ وَأَعْدَاءَ فَأَلّفَ اللّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ " قَالُوا : بَلَى ، اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنّ وَأَفْضَلُ ثُمّ قَالَ " أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ؟ " قَالُوا : بِمَاذَا نُجِيبُك يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنّ وَالْفَضْلُ قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أَمَا وَاَللّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَلَصُدّقْتُمْ أَتَيْتنَا مُكَذّبًا فَصَدّقْنَاك ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاك ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاك ، وَعَائِلًا فَآسَيْنَاك . أَوَجَدْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِكُمْ فِي لُعَاعَةٍ مِنْ الدّنْيَا تَأَلّفْت بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا ، وَوَكَلْتُكُمْ إلَى إسْلَامِكُمْ أَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ، أَنْ يَذْهَبَ النّاسُ بِالشّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُوا بِرَسُولِ اللّهِ إلَى رِحَالِكُمْ ؟ فَوَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْت امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ ، وَلَوْ سَلَكَ النّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبًا ، لَسَلَكْت شِعْبَ الْأَنْصَارِ . اللّهُمّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ " قَالَ فَبَكَى الْقَوْمُ حَتّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ وَقَالُوا : رَضِينَا بِرَسُولِ اللّهِ قَسْمًا وَحَظّا . ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَفَرّقُوا
Sشِعْرُ حَسّانَ فِي عِتَابِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَذَكَرَ شِعْرَ حَسّانَ وَفِيهِ [ ص 275 ] هَيْفَاءُ لَا ذَنَنٌ فِيهَا وَلَا خَوَرُ
الذّنَنُ الْغَدْرُ وَالتّفْلُ وَالذّنِينُ الْمُخَاطُ وَالذّنَنُ أَيْضًا أَلّا يَنْقَطِعَ حَيْضُ الْمَرْأَةِ يُقَالُ امْرَأَةٌ دَنّاءُ وَلَوْ رُوِيَ بِالدّالِ الْمُهْمَلَةِ لَكَانَ جَيّدًا أَيْضًا ، فَإِنّ الدّنَنَ بِالدّالِ هُوَ قِصَرُ الْعُنُقِ وَتَطَامُنُهَا ، وَهُوَ عَيْبٌ . وَالْبَهْكَنَةُ الضّخْمَةُ . [ ص 276 ]
حَوْلَ عِتَابِ النّبِيّ لِلْأَنْصَارِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ قَوْلَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِلْأَنْصَارِ مَا قَالَة بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجْدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ هَكَذَا الرّوَايَةُ جِدَةٌ وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ اللّغَةِ مَوْجِدَةٌ إذَا أَرَدْت الْغَضَبَ وَإِنّمَا الْجِدَةُ فِي الْمَالِ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي لُعَاعَةٍ مِنْ الدّنْيَا تَأَلّفْت بِهَا قَوْمًا ، لِيُسْلِمُوا . اللّعَاعَةُ بَقْلَةٌ نَاعِمَةٌ وَهَذَا نَحْوٌ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ الْمَالُ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَاللّعَةُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى ، وَهِيَ الْمَرْأَةُ الْمَلِيحَةُ الْعَفِيفَةُ وَاللّعْلَعُ السّرَابُ وَلُعَاعُهُ بَصِيصُهُ .

جُعَيْلَ بْنُ سُرَاقَةَ
وَذَكَرَ جُعَيْلَ بْنَ سُرَاقَةَ وَقَوْلَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيهِ وَوَكَلْت جُعَيْلَ بْنَ سُرَاقَةَ إلَى إسْلَامِهِ . نَسَبَ ابْنُ إسْحَاقَ جُعَيْلًا إلَى ضَمْرَةَ وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي غِفَارٍ ، لِأَنّ غِفَارًا ، هُمْ بَنُو مُلَيْلِ بْنِ ضَمْرَةَ مِنْ بَنِي لَيْثِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ . وَأَمّا حَدِيثُ التّمِيمِيّ الّذِي قَالَ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 277 ] أَرَك عَدَلْت ، فَغَضِبَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ قَالَ إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَدْلُ عِنْدِي ، فَعِنْدَ مَنْ يَكُونُ ؟ وَقَالَ أَيْضًا : إنّي أَرَى قِسْمَةَ مَا أُرِيدُ بِهَا وَجْهَ اللّهِ فَقَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَيَأْمَنُنِي اللّهُ فِي السّمَاءِ وَلَا تَأْمَنُونِي أَوْ كَمَا قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَالرّجُلُ هُوَ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ كَذَلِكَ جَاءَ ذِكْرُهُ فِي الْحَدِيثِ . وَيُذْكَرُ عَنْ الْوَاقِدِيّ أَنّهُ قَالَ هُوَ حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ السّعْدِيّ مِنْ سَعْدِ تَمِيمٍ وَقَدْ كَانَ لِحُرْقُوصٍ هَذَا مَشَاهِدُ مَحْمُودَةٌ فِي حَرْبِ الْعِرَاقِ مَعَ الْفُرْسِ أَيّامَ عُمَرَ ثُمّ كَانَ خَارِجِيّا ، وَفِيهِ يَقُولُ نُحَيْبَةُ الْخَارِجِيّ حَتّى أُلَاقِيَ فِي الْفِرْدَوْسِ حُرْقُوصًا
وَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّهُ سَيَكُونُ مِنْ ضِئْضِئِهِ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ إلَى صَلَاتِهِمْ وَذَكَرَ صِفَةَ الْخَوَارِجِ ، وَلَيْسَ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ هَذَا ذَا النّدَيّةِ الّذِي قَتَلَهُ عَلِيّ بِالنّهَرِ وَأَنّ ذَلِكَ اسْمُهُ نَافِعٌ ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَكَلَامُ الْوَاقِدِيّ حَكَاهُ ابْنُ الطّلّاعِ فِي الْأَحْكَامِ لَهُ .

عُمْرَةُ الرّسُولِ مِنْ الْجِعْرَانَةِ
وَاسْتِخْلَافُهُ عَتّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكّةَ ، وَحَجّ عَتّابٌ بِالْمُسْلِمِينَ سَنَةَ ثَمَانٍ
اعْتِمَارُ الرّسُولِ وَاسْتِخْلَافُهُ ابْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكّةَ
[ ص 277 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْجِعْرَانَةِ مُعْتَمِرًا ، وَأَمَرَ بِبَقَايَا الْفَيْءِ فَحُبِسَ بِمَجَنّةَ بِنَاحِيَةِ مَرّ الظّهْرَانِ ، فَلَمّا فَرَغَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ عُمْرَتِهِ انْصَرَفَ رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ وَاسْتَخْلَفَ عَتّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكّةَ ، وَخَلّفَ مَعَهُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ ، يُفَقّهُ النّاسَ فِي الدّينِ وَيُعَلّمُهُمْ الْقُرْآنَ وَاتّبِعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِبَقَايَا الْفَيْءِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَبَلَغَنِي عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنّهُ قَالَ لَمّا اسْتَعْمَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَتّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكّةَ رَزَقَهُ كُلّ يَوْمٍ دِرْهَمًا ، فَقَامَ فَخَطَبَ النّاسَ فَقَالَ أَيّهَا النّاسُ أَجَاعَ اللّهُ كَبِدَ مَنْ جَاعَ عَلَى دِرْهَمٍ ، فَقَدْ رَزَقَنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ دِرْهَمًا كُلّ يَوْمٍ فَلَيْسَتْ بِي حَاجَةٌ إلَى أَحَد
وَقْتُ الْعُمْرَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَتْ عُمْرَةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ فَقَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ فِي بَقِيّةِ ذِي الْقِعْدَةِ أَوْ فِي ذِي الْحِجّةِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ لِسِتّ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ فَمَا زَعَمَ أَبُو عَمْرٍو الْمَدَنِيّ . [ ص 278 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَجّ النّاسُ تِلْكَ السّنَةَ عَلَى مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَحُجّ عَلَيْهِ وَحَجّ بِالْمُسْلِمِينَ تِلْكَ السّنَةَ عَتّابُ بْنُ أَسِيدٍ ، وَهِيَ سَنَةُ ثَمَانٍ وَأَقَامَ أَهْلُ الطّائِفِ عَلَى شِرْكِهِمْ وَامْتِنَاعِهِمْ فِي طَائِفِهِمْ مَا بَيْنَ ذِي الْقِعْدَةِ إذْ انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ .

أَمْرُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ بَعْدَ الِانْصِرَافِ عَنْ الطّائِفِ
وَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ مُنْصَرَفِهِ عَنْ الطّائِفِ كَتَبَ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى إلَى أَخِيهِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ يُخْبِرُهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَتَلَ رِجَالًا بِمَكّةَ مِمّنْ كَانَ يَهْجُوهُ وَيُؤْذِيهِ وَأَنّ مَنْ بَقِيَ مِنْ شُعَرَاءِ قُرَيْشٍ ، ابْنُ الزّبَعْرَى وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ ، قَدْ هَرَبُوا فِي كُلّ وَجْهٍ فَإِنْ كَانَتْ لَك فِي نَفْسِك حَاجَةٌ فَطِرْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَإِنّهُ لَا يَقْتُلُ أَحَدًا جَاءَهُ تَائِبًا ، وَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَانْجُ إلَى نَجَائِك مِنْ الْأَرْضِ وَكَانَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ قَدْ قَالَ
أَلَا أَبْلِغَا عَنّي بُجَيْرًا رِسَالَةً ... فَهَلْ لَك فِيمَا قُلْت وَيْحَك هَلْ لَكَا ؟
فَبَيّنْ لَنَا إنْ كُنْت لَسْت بِفَاعِلٍ ... عَلَى أَيّ شَيْءٍ غَيْرَ ذَلِكَ دَلّكَا
عَلَى خُلُقٍ لَمْ أُلْفِ يَوْمًا أَبَالَهُ ... عَلَيْهِ وَمَا تُلْفِي عَلَيْهِ أَبَا لَكَا
فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَلَسْت بِآسِفٍ ... وَلَا قَائِلٍ إمّا عَثَرْت لَعًا لَكَا
سَقَاك بِهَا الْمَأْمُونُ كَأْسًا رَوِيّةً ... فَأَنْهَلَكَ الْمَأْمُونُ مِنْهَا وَعَلّكَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُرْوَى " الْمَأْمُورُ " . وَقَوْلُهُ " فَبَيّنْ لَنَا " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ . [ ص 279 ]
مَنْ مُبْلِغٌ عَنّي بُجَيْرًا رِسَالَةً ... فَهَلْ لَك فِيمَا قُلْت بِالْخَيْفِ هَلْ لَكَا
شَرِبْت مَعَ الْمَأْمُونِ كَأْسًا رَوِيّةً ... فَأَنْهَلَكَ الْمَأْمُونُ مِنْهَا وَعَلّكَا
وَخَالَفْت أَسْبَابَ الْهُدَى وَاتّبَعْته ... عَلَى أَيّ شَيْءٍ وَيْبَ غَيْرِك دَلّكَا
عَلَى خُلُقٍ لَمْ تُلْفِ أُمّا وَلَا أَبًا ... عَلَيْهِ وَلَمْ تُدْرِكْ عَلَيْهِ أَخًا لَكَا
فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَلَسْت بِآسِفٍ ... وَلَا قَائِلٍ إمّا عَثَرْت لَعًا لَكَا
قَالَ وَبَعَثَ بِهَا إلَى بُجَيْرٍ فَلَمّا أَتَتْ بُجَيْرًا كَرِهَ أَنْ يَكْتُمَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَنْشَدَهُ إيّاهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا سَمِعَ سَقَاك بِهَا الْمَأْمُونُ صَدَقَ وَإِنّهُ لَكَذُوب أَنَا الْمَأْمُونُ : وَلَمّا سَمِعَ " عَلَى خُلُقٍ لَمْ تُلْفِ أُمّا وَلَا أَبًا عَلَيْهِ " قَالَ أَجَلْ لَمْ يُلْفِ عَلَيْهِ أَبَاهُ وَلَا أُمّهُ ثُمّ قَالَ بُجَيْرٌ لِكَعْبٍ
مَنْ مُبْلِغٌ كَعْبًا فَهَلْ لَك فِي الّتِي ... تَلُومُ عَلَيْهَا بَاطِلًا وَهِيَ أَحْزَمُ
إلَى اللّهِ ( لَا الْعُزّى وَلَا اللّاتِ ) وَحْدَهُ ... فَتَنْجُو إذَا كَانَ النّجَاءُ وَتَسْلَمُ
لَدَى يَوْمِ لَا يَنْجُو وَلَيْسَ بِمُفْلِتٍ ... مِنْ النّاسِ إلّا طَاهِرُ الْقَلْبِ مُسْلِمُ
فَدِينُ زُهَيْرٍ وَهُوَ لَا شَيْءَ دِينُهُ ... وَدِينُ أَبِي سُلْمَى عَلَيّ مُحَرّمُ
[ ص 280 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَإِنّمَا يَقُولُ كَعْبٌ " الْمَأْمُونُ " ، وَيُقَالُ " الْمَأْمُورُ " فِي قَوْلِ ابْنِ هِشَامٍ : لِقَوْلِ قُرَيْشٍ الّذِي كَانَتْ تَقُولُهُ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
Sشِعْرُ بُجَيْرٍ وَكَعْبٍ ابْنَيْ زُهَيْرٍ
فَصْلٌ
[ ص 278 ] وَذَكَرَ قِصّةَ بُجَيْرِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى ، وَاسْمُ أَبِي سُلْمَى : رَبِيعَةُ بْنُ رِيَاحٍ أَحَدُ بَنِي مُزَيْنَةَ . وَفِي شِعْرِ كَعْبٍ إلَى أَخِيهِ بُجَيْرٍ سَقَاك بِهِ الْمَأْمُونُ كَأْسًا رَوِيّةً
وَيُرْوَى : الْمَحْمُودُ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ ، أَرَادَ بِالْمَحْمُودِ مُحَمّدًا - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَكَذَلِكَ الْمَأْمُونُ وَالْأَمِينُ كَانَتْ قُرَيْشٌ تُسَمّي بِهِمَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ النّبُوّةِ . [ ص 279 ] بُجَيْرٍ
عَلَى خُلُقٍ لَمْ تُلْفِ أُمّا وَلَا أَبًا ... عَلَيْهِ وَلَمْ تُدْرِكْ عَلَيْهِ أَخَا لَكَا
إنّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنّ أُمّهُمَا وَاحِدَةٌ وَهِيَ كَبْشَةُ بِنْتُ عَمّارٍ السّحَيْمِيّةُ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ الْأَعْرَابِيّ عَنْ ابْنِ الْكَلْبِيّ . وَقَوْلُهُ إمّا عَثَرْت لَعًا لَكَا ، كَلِمَةٌ تُقَالُ لِلْعَاثِرِ دُعَاءً لَهُ بِالْإِقَالَةِ قَالَ الْأَعْشَى :
فَالتّعْسُ أَدْنَى لَهَا ... مِنْ أَنْ يُقَالَ لَعَا لَهَا
وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدٍ : فَلَا لَعَا لِبَنِي فَعْلَانَ إذْ عَثَرُوا
وَقَوْلُ بُجَيْرٍ وَدِينُ زُهَيْرٍ وَهُوَ لَا شَيْءَ دِينُهُ
[ ص 280 ] فَقَالَ وَهُوَ لَا شَيْءَ غَيْرُهُ وَفَسّرَهُ عَلَى التّقْدِيمِ وَالتّأْخِيرِ أَرَادَ وَدِينُ زُهَيْرٍ غَيْرُهُ وَهُوَ لَا شَيْءَ . وَرِوَايَةُ ابْنِ إسْحَاقَ أَبْعَدُ مِنْ الْإِشْكَالِ وَأَصَحّ ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَكَعْبٌ هَذَا مِنْ فُحُولِ الشّعَرَاءِ هُوَ وَأَبُوهُ زُهَيْرٌ وَكَذَلِكَ ابْنُهُ عُقْبَةُ بْنُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ يُعْرَفُ عُقْبَةُ بِالْمُضَرّبِ وَابْنُ عُقْبَةَ الْعَوّامُ شَاعِرٌ أَيْضًا ، وَهُوَ الّذِي يَقُولُ
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ تَغَيّرَ بَعْدَنَا ... مَلَاحَةُ عَيْنَيْ أُمّ عَمْرٍو وَجِيدُهَا
وَهَلْ بَلِيَتْ أَثْوَابُهَا بَعْدَ جِدّةٍ ... أَلَا حَبّذَ أَخْلَاقُهَا وَجَدِيدُهَا
وَمِمّا يُسْتَحْسَنُ وَيُسْتَجَادُ مِنْ قَوْلِ كَعْبٍ
لَوْ كُنْت أَعْجَبُ مِنْ شَيْءٍ لَأَعْجَبَنِي ... سَعْيُ الْفَتَى وَهُوَ مَخْبُوءٌ لَهُ الْقَدَرُ
يَسْعَى الْفَتَى لِأُمُورٍ لَيْسَ يُدْرِكُهَا ... فَالنّفْسُ وَاحِدَةٌ وَالْهَمّ مُنْتَشِرُ
وَالْمَرْءُ مَا عَاشَ مَمْدُودٌ لَهُ أَمَلٌ ... لَا تَنْتَهِي الْعَيْنُ حَتّى يَنْتَهِي الْأَثَرُ
وَقَوْلُهُ
إنْ كُنْت لَا تَرْهَبُ ذَمّي ... لِمَا تَعْرِفُ مِنْ صَفْحِي عَنْ الْجَاهِلْ
فَاخْشَ سُكُوتِي إذْ أَنَا مُنْصِتٌ ... فِيك لِمَسْمُوعِ خَنَا الْقَائِلْ
فَالسّامِعُ الذّمّ شَرِيكٌ لَهُ ... وَمُطْعِمُ الْمَأْكُولِ كَالْآكِلْ
مَقَالَةُ السّوءِ إلَى أَهْلِهَا ... أَسْرَعُ مِنْ مُنْحَدِرٍ سَائِلْ
وَمَنْ دَعَا النّاسَ إلَى ذَمّهِ ... ذَمّوهُ بِالْحَقّ وَبِالْبَاطِلْ

قُدُومُ كَعْبٍ عَلَى الرّسُولِ وَقَصِيدَتُهُ اللّامِيّةُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا بَلَغَ كَعْبًا الْكِتَابُ ضَاقَتْ بِهِ الْأَرْضُ وَأَشْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَرْجَفَ بِهِ مَنْ كَانَ فِي حَاضِرِهِ مِنْ عَدُوّهِ فَقَالُوا : هُوَ مَقْتُولٌ فَلَمّا لَمْ يَجِدْ مِنْ شَيْءٍ بُدّا ، قَالَ قَصِيدَتَهُ الّتِي يَمْدَحُ فِيهَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَذَكَرَ فِيهَا خَوْفَهُ وَإِرْجَافَ الْوُشَاةِ بِهِ [ ص 281 ] خَرَجَ حَتّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ ، فَنَزَلَ عَلَى رَجُلٍ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَعْرِفَةٌ مِنْ جُهَيْنَةَ ، كَمَا ذُكِرَ لِي ، فَغَدَا بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ صَلّى الصّبْحَ فَصَلّى مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ أَشَارَ لَهُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ هَذَا رَسُولُ اللّهِ فَقُمْ إلَيْهِ فَاسْتَأْمِنْهُ . فَذُكِرَ لِي أَنّهُ قَامَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى جَلَسَ إلَيْهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يَعْرِفُهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ كَعْبَ بْنَ زُهَيْرٍ قَدْ جَاءَ لِيَسْتَأْمِنَ مِنْك تَائِبًا مُسْلِمًا ، فَهَلْ أَنْتَ قَابِلٌ مِنْهُ إنْ أَنَا جِئْتُك بِهِ ؟ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " نَعَمْ " ، قَالَ أَنَا يَا رَسُولَ اللّهِ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ : أَنّهُ وَثَبَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ دَعْنِي وَعَدُوّ اللّهِ أَضْرِبُ عُنُقَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَعْهُ عَنْك ، فَإِنّهُ قَدْ جَاءَ تَائِبًا ، نَازِعًا ( عَمّا كَانَ عَلَيْهِ ) فَقَالَ فَغَضِبَ كَعْبٌ عَلَى هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ ، لِمَا صَنَعَ بِهِ صَاحِبُهُمْ وَذَلِكَ أَنّهُ لَمْ يَتَكَلّمْ فِيهِ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ إلّا بِخَيْرٍ

فَقَالَ فِي قَصِيدَتِهِ الّتِي قَالَ حِينَ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ ... مُتَيّمٌ إثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ
وَمَا سُعَادُ غَدَاةَ الْبَيْنِ إذْ رَحَلُوا ... إلّا أَغَنّ غَضِيضُ الطّرْفِ مَكْحُولُ
هَيْفَاءُ مُقْبِلَةٌ عَجْزَاءُ مُدْبِرَةٌ ... لَا يُشْتَكَى قِصَرٌ مِنْهَا وَلَا طُولُ
تَجْلُو عَوَارِضَ ذِي ظَلْمٍ إذَا ابْتَسَمَتْ ... كَأَنّهُ مَنْهَلٌ بِالرّوْحِ مَعْلُولُ
شُجّتْ بِذِي شَيَمٍ مِنْ مَاءِ مَحْنِيَةٍ ... صَافٍ بِأَبْطَحَ أَضْحَى وَهُوَ مَشْمُولُ
[ ص 282 ]
تَنْفِي الرّيَاحُ الْقَذَى عَنْهُ وَأَفْرَطَهُ ... مِنْ صَوْبِ غَادِيَةٍ بِيضٌ يَعَالِيلُ
فَيَا لَهَا حُلّةٌ لَوْ أَنّهَا صَدَقَتْ ... بِوَعْدِهَا أَوْ لَوْ إنّ النّصْحَ مَقْبُولُ
لَكِنّهَا خُلّةٌ قَدْ سِيطَ مِنْ دَمِهَا ... فَجَعٌ وَوَلَعٌ وَإِخْلَافٌ وَتَبْدِيلُ
فَمَا تَدُومُ عَلَى حَالٍ تَكُونُ بِهَا ... كَمَا تَلَوّنَ فِي أَثْوَابِهَا الْغُولُ
وَمَا تَمَسّكَ بِالْعَهْدِ الّذِي زَعَمَتْ ... إلّا كَمَا يُمْسِكُ الْمَاءَ الْغَرَابِيلُ
فَلَا يَغُرّنّكَ مَا مَنّتْ وَمَا وَعَدَتْ ... إنّ الْأَمَانِيّ وَالْأَحْلَامَ تَضْلِيلُ
[ ص 283 ]
كَانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلًا ... وَمَا مَوَاعِيدُهَا إلّا الْأَبَاطِيلُ
أَرْجُو وَآمُلُ أَنْ تَدْنُو مَوَدّتُهَا ... وَمَا إخَالُ لَدَيْنَا مِنْك تَنْوِيلُ
أَمْسَتْ سُعَادُ بِأَرْضٍ لَا يُبَلّغُهَا ... إلّا الْعِتَاقُ النّجِيبَاتُ الْمَرَاسِيلُ
وَلَنْ يُبَلّغَهَا إلّا عُذَافِرَةٌ ... لَهَا عَلَى الْأَيْنِ إرْقَالٌ وَتَبْغِيلُ
مِنْ كُلّ نَضّاخَةِ الذّفْرَى إذَا عَرِقَتْ ... عُرْضَتُهَا طَامِسُ الْأَعْلَامِ مَجْهُولُ
تَرْمِي الْغُيُوبَ بِعَيْنَيْ مُفْرِدٍ لَهَقٍ ... إذَا تَوَقّدَتْ الْحِزّانُ وَالْمِيلُ
ضَخْمٌ مُقَلّدُهَا فَعْمٌ مُقَيّدُهَا ... فِي خَلْقِهَا عَنْ بَنَاتِ الْفَحْلِ تَفْضِيلُ
غَلْبَاءُ وَجْنَاءُ عُلْكُومٌ مُذّكّرَةٌ ... فِي دَفّهَا سَعَةٌ قُدّامُهَا مِيلُ
وَجِلْدُهَا مِنْ أُطُومٍ مَا يُؤَيّسُهُ ... طِلْحٌ بِضَاحِيَةِ الْمَتْنَيْنِ مَهْزُولُ
[ ص 284 ]
حَرْفٌ أَخُوهَا أَبُوهَا مِنْ مُهَجّنَةٍ ... وَعَمّهَا خَالُهَا قَوْدَاءُ شِمْلِيلُ
يَمْشِي الْقُرَادُ عَلَيْهَا ثُمّ يُزْلِقُهُ ... مِنْهَا لَبَانٌ وَأَقْرَابٌ زَهَالِيلُ
عَيْرَانَةٌ قُذِفَتْ بِالنّحْضِ عَنْ عُرُضٍ ... مِرْفَقُهَا عَنْ بَنَاتِ الزّوْرِ مَفْتُولُ
كَأَنّمَا فَاتَ عَيْنَيْهَا وَمَذْبَحُهَا ... مِنْ خَطْمِهَا وَمِنْ اللّحْيَيْنِ بِرْطِيلُ
تَمُرّ مِثْلَ عَسِيبِ النّخْلِ ذَا خُصَلٍ ... فِي غَارِزٍ لَمْ تَخَوّنُهُ الْأَحَالِيلُ
قَنْوَاءُ فِي حُرّتَيْهَا لِلْبَصِيرِ بِهَا ... عِتْقٌ مُبِينٌ وَفِي الْخَدّيْنِ تَسْهِيلُ
تَخْدِي عَلَى يَسَرَاتٍ وَهِيَ لَاحِقَةٌ ... ذَوَابِلٌ مَسّهُنّ الْأَرْضَ تَحْلِيلُ
سُمْرُ الْعُجَايَاتِ يَتْرُكْنَ الْحَصَى زِيَمًا ... لَمْ يَقِهِنّ رُءُوسُ الْأُكْمِ تَنْعِيلُ
[ ص 285 ]
كَأَنّ أَوْبَ ذِرَاعَيْهَا وَقَدْ عَرِقَتْ ... وَقَدْ تَلَفّعَ بِالْقُورِ الْعَسَاقِيلُ
يَوْمًا يَظَلّ بِهِ الْحِرْبَاءُ مُصْطَخِدًا ... كَأَنّ ضَاحِيَهُ بِالشّمْسِ مَمْلُولُ
وَقَالَ لِلْقَوْمِ حَادِيهِمْ وَقَدْ جُعِلَتْ ... وُرْقُ الْجَنَادِبِ يَرْكُضْنَ الْحَصَا قِيلُوا
شَدّ النّهَارُ ذِرَاعًا عَيْطَلٍ نَصَفٌ ... قَامَتْ فَجَاوَبَهَا نُكْدٌ مَثَاكِيلُ
نَوّاحَةٌ رَخْوَةُ الضّبَعَيْنِ لَيْسَ لَهَا ... لَمّا نَعَى بِكْرَهَا النّاعُونَ مَعْقُولُ
تَفْرِي اللّبَانَ بِكَفّيْهَا وَمِدْرَعِهَا ... مُشَقّقٌ عَنْ تَرَاقِيهَا رَعَابِيلُ
تَسْعَى الْغُوَاةُ جَنَابَيْهَا وَقَوْلُهُمْ ... إنّك يَا ابْنَ أَبِي سُلْمَى لَمَقْتُولُ
[ ص 286 ]
وَقَالَ كُلّ صَدِيقٍ كُنْت آمُلُهُ ... لَا أُلْهِيَنّكَ إنّي عَنْك مَشْغُولُ
فَقُلْت خَلّوا سَبِيلِي لَا أَبَا لَكُمْ ... فَكُلّ مَا قَدّرَ الرّحْمَنُ مَفْعُولُ
كُلّ ابْنِ أُنْثَى وَإِنْ طَالَتْ سَلَامَتُهُ ... يَوْمًا عَلَى آلَةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُولُ
نُبّئْت أَنّ رَسُولَ اللّهِ أَوْعَدَنِي ... وَالْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ مَأْمُولُ
مَهْلًا هَدَاك الّذِي أَعْطَاك نَافِلَةَ الْ ... قُرْآنِ فِيهَا مَوَاعِيظٌ وَتَفْصِيلُ
لَا تَأْخُذَنّي بِأَقْوَالِ الْوُشَاةِ وَلَمْ ... أُذْنِبْ وَلَوْ كَثُرَتْ فِيّ الْأَقَاوِيلُ
لَقَدْ أَقُومُ مَقَامًا لَوْ يَقُومُ بِهِ ... أَرَى وَأَسْمَعُ مَا لَوْ يَسْمَعُ الْفِيلُ
لَظَلّ يَرْعَدُ إلّا أَنْ يَكُونَ لَهُ ... مِنْ الرّسُولِ بِإِذْنِ اللّهِ تَنْوِيلُ
حَتّى وَضَعْت يَمِينِي مَا أُنَازِعُهُ ... فِي كَفّ ذِي نَقَمَاتٍ قِيلُهُ الْقِيلُ
[ ص 287 ]
فَلَهُوَ أَخَوْفُ عِنْدِي إذْ أُكَلّمُهُ ... وَقِيلَ إنّك مَنْسُوبٌ وَمَسْئُولُ
مِنْ ضَيْغَمٍ بِضَرّاءِ الْأَرْضِ مُخْدَرُهُ ... فِي بَطْنِ عَثّرَ غِيلٌ دُونَهُ غِيلُ
يَغْدُو فَيَلْحَمُ ضِرْغَامَيْنِ عَيْشُهُمَا ... لَحْمٌ مِنْ النّاسِ مَعْفُورٌ خَرَادِيلُ
إذَا يُسَاوِرُ قِرْنًا لَا يَحِلّ لَهُ ... أَنْ يَتْرُكَ الْقِرْنَ إلّا وَهُوَ مَفْلُولُ
مِنْهُ تَظَلّ سِبَاعُ الْجَوّ نَافِرَةً ... وَلَا تَمْشِي بِوَادِيهِ الْأَرَاجِيلُ
وَلَا يَزَالُ بِوَادِيهِ أَخُو ثِقَةٍ ... مُضَرّجُ الْبِزّ وَالدّرْسَانِ مَأْكُولُ
إنّ الرّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ ... مُهَنّدٌ مِنْ سُيُوفِ اللّهِ مَسْلُولُ
فِي عُصْبَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ ... بِبَطْنِ مَكّةَ لَمّا أَسْلَمُوا زُولُوا
زَالُوا فَمَا زَالَ أَنْكَاسٌ وَلَا كُشَفٌ ... عِنْدَ اللّقَاءِ وَلَا مِيلٌ مَعَازِيلُ
شُمّ الْعَرَانِينِ أَبْطَالٌ لَبُوسُهُمْ ... مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ فِي الْهَيْجَا سَرَابِيلُ
بِيضٌ سَوَابِغُ قَدْ شُكّتْ لَهَا حَلَقٌ ... كَأَنّهَا حَلَقُ الْقَفْعَاءِ مَجْدُولُ
[ ص 288 ]
لَيْسُوا مَفَارِيحَ إنْ نَالَتْ رِمَاحُهُمْ ... قَوْمًا وَلَيْسُوا مَجَازِيعًا إذَا نِيلُوا
يَمْشُونَ مَشْيَ الْجِمَالِ الزّهْرِ يَعْصِمُهُمْ ... ضَرْبٌ إذَا عَرّدَ السّودُ التّنَابِيلُ
لَا يَقَعُ الطّعْنُ إلّا فِي نُحُورِهِمْ ... وَمَا لَهُمْ عَنْ حِيَاضِ الْمَوْتِ تَهْلِيلُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَالَ كَعْبٌ هَذِهِ الْقَصِيدَةَ بَعْدَ قُدُومِهِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ وَبَيْتُهُ " حَرْفٌ أَخُوهَا أَبُوهَا " وَبَيْتُهُ " يَمْشِي الْقُرَادَ " وَبَيْتُهُ " عَيْرَانَةٌ قُذِفَتْ " ، وَبَيْتُهُ " تَمُرّ مِثْلَ عَسِيبِ النّخْلِ " ، وَبَيْتُهُ " تَفْرِي اللّبَانَ " وَبَيْتُهُ " إذَا يُسَاوِرُ قَرْنًا " وَبَيْتُهُ " وَلَا يَزَالُ بِوَادِي " : عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ .
Sقَصِيدَةُ بَانَتْ سُعَادُ
وَذَكَرَ قَصِيدَتَهُ [ ص 281 ] بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ
وَفِيهَا قَوْلُهُ شُجّتْ بِذِي شَبَمٍ . يَعْنِي : الْخَمْرَ وَشُجّتْ كُسِرَتْ مِنْ أَعْلَاهَا لِأَنّ الشّجّةَ لَا تَكُونُ إلّا فِي الرّأْسِ وَالشّيَمُ [ ص 282 ] مَلَأَهُ . وَالْبِيضُ الْيَعَالِيلُ السّحَابُ وَقِيلَ جِبَالٌ يَنْحَدِرُ الْمَاءُ مِنْ أَعْلَاهَا ، وَالْيَعَالِيلُ أَيْضًا : الْغُدْرَانُ وَاحِدُهَا يَعْلُولٌ لِأَنّهُ يُعِلّ الْأَرْضَ بِمَائِهِ . وَقَوْلُهُ يَا وَيْحَهَا خُلّةٌ قَدْ سِيطَ مِنْ دَمِهَا
أَيْ خُلِطَ بِلَحْمِهَا وَدَمِهَا هَذِهِ الْأَخْلَاقُ الّتِي وَصَفَهَا بِهَا مِنْ الْوَلَعِ وَهُوَ الْخَلْفُ وَالْكَذِبُ وَالْمَطْلُ يُقَالُ سَاطَ الدّمَ وَالشّرَابَ إذَا ضَرَبَ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ . وَقَالَ الشّاعِرُ يَصِفُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَبّاسٍ :
صَمُوتٌ إذَا مَا زَيّنَ الصّمْتُ أَهْلَهُ ... وَفَتّاقُ أَبْكَارِ الْكَلَامِ الْمُخَتّمِ
وَعَى مَا حَوَى الْقُرْآنُ مِنْ كُلّ حِكْمَةٍ ... وَسِيطَتْ لَهُ الْآدَابُ بِاللّحْمِ وَالدّمِ
وَالْغُولُ الّتِي تَتَرَاءَى بِاللّيْلِ . وَالسّعْلَاةُ مَا تَرَاءَى بِالنّهَارِ مِنْ الْجِنّ ، وَقَدْ أَبْطَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حُكْمَ الْغُولِ حَيْثُ قَالَ لَا عَدْوَى وَلَا غُولَ وَلَيْسَ يُعَارِضُ هَذَا مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ إذَا تَغَوّلَتْ الْغِيلَانُ فَارْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ بِالْأَذَانِ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي أَيّوبَ مَعَ الْغُولِ حِينَ أَخَذَهَا ، لِأَنّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ " لَا غُولَ إنّمَا أَبْطَلَ بِهِ مَا كَانَتْ الْجَاهِلِيّةُ تَتَقَوّلُهُ مِنْ أَخْبَارِهَا وَخُرَافَاتِهَا مَعَهَا " . [ ص 283 ] كَانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلًا
هُوَ عُرْقُوبُ بْنُ صَخْرٍ مِنْ الْعَمَالِيقِ الّذِينَ سَكَنُوا يَثْرِبَ ، وَقِيلَ بَلْ هُوَ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ، وَقِصّتُهُ فِي إخْلَافِ الْوَعْدِ مَشْهُورَةٌ حِينَ وَعَدَ أَخَاهُ بِجَنَا نَخْلَةٍ لَهُ وَعْدًا مِنْ بَعْدِ وَعْدٍ ثُمّ جَذّهَا لَيْلًا ، وَلَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا . وَالتّبْغِيلُ ضَرْبٌ مِنْ السّيْرِ سَرِيعٌ وَالْحِزّانُ جَمْعُ حَزْنٍ وَهُوَ مَا غَلُظَ مِنْ الْأَرْضِ . وَالْمِيلُ مَا اتّسَعَ مِنْهَا . وَقَوْلُهُ تَرْمِي النّجَادَ وَأَنْشَدَهُ أَبُو عَلِيّ تَرْمِي الْغُيُوبَ وَهُوَ جَمْعُ غَيْبٍ وَهُوَ مَا غَار مِنْ الْأَرْضِ كَمَا قَالَ ابْنُ مِقْبَلٍ لَزْمُ الْغُلَامِ وَرَاءَ الْغَيْبِ بِالْحَجَرِ
وَقَوْلُهُ
حَرْفٌ أَبُوهَا أَخُوهَا مِنْ مُهَجّنَةٍ ... وَعَمّهَا خَالُهَا قَوْدَاءُ شِمْلِيلُ
[ ص 284 ] الطّوِيلَةُ الْعُنُقِ . وَالشّمْلِيلُ السّرِيعَةُ . وَالْحَرْفُ النّاقَةُ الضّامِرُ . وَقَوْلُهُ مِنْ مُهَجّنَةٍ أَيْ مِنْ إبِلٍ مُهَجّنَةٍ مُسْتَكْرَمَةٍ هِجَانٍ . وَقَوْلُهُ أَبُوهَا أَخُوهَا أَيْ أَنّهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ مِنْ الْكَرَمِ وَقِيلَ إنّهَا مِنْ فَحْلٍ حَمَلَ عَلَى أُمّهِ فَجَاءَتْ بِهَذِهِ النّاقَةِ فَهُوَ أَبُوهَا وَأَخُوهَا ، وَكَانَتْ لِلنّاقَةِ الّتِي هِيَ أُمّ هَذِهِ بِنْتٌ أُخْرَى مِنْ الْفَحْلِ الْأَكْبَرِ فَعَمّهَا خَالُهَا عَلَى هَذَا ، وَهُوَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَكْرَمِ النّتَاجِ وَالْقَوْلُ الْأَوّلُ ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيّ الْقَالِيّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَقَوْلُهُ أَقْرَابٌ زَهَالِيلُ أَيْ خَوَاصِرُ مُلْسٌ وَاحِدُهَا : زُهْلُولٌ وَالْبِرْطِيلُ حَجَرٌ طَوِيلٌ وَيُقَالُ لِلْمِعْوَلِ أَيْضًا : بِرْطِيلٌ . وَقَوْلُهُ ذَوَابِلٌ وَقْعُهُنّ الْأَرْضَ تَحْلِيلُ
تَحْلِيلُ أَيْ قَلِيلٌ . يُقَالُ مَا أَقَامَ عِنْدَنَا إلّا كَتَحْلِيلِ الْأَلِيّةِ وَكَتَحِلّةِ الْمَقْسِمِ وَعَلَيْهِ حَمَلَ ابْنُ قُتَيْبَةَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لَنْ تَمَسّهُ النّارُ إلّا تَحِلّةَ الْقَسَمِ وَغَلّطَ أَبَا عُبَيْدٍ حَيْثُ فَسّرَهُ عَلَى الْقَسَمِ حَقِيقَةً . قَالَ الْقُتَبِيّ لَيْسَ فِي الْآيَةِ قَسَمٌ لِأَنّهُ قَالَ { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلّا وَارِدُهَا } [ مَرْيَمُ : 71 ] وَلَمْ يُقْسِمْ . قَالَ الْخَطّابِيّ : هَذِهِ غَفْلَةٌ مِنْ ابْنِ قُتَيْبَةَ فَإِنّ فِي أَوّلِ الْآيَةِ { فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنّهُمْ وَالشّيَاطِينَ } وَقَوْلُهُ { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلّا وَارِدُهَا } دَاخِلٌ تَحْتَ الْقَسَمِ الْمُتَقَدّمِ . [ ص 285 ] جَمْعُ قَارَةٍ وَهِيَ الْحِجَارَةُ السّودُ . وَالْعَسَاقِيلُ هُنَا السّرَابُ وَهَذَا مِنْ الْمَقْلُوبِ أَرَادَ وَقَدْ تَلَفّعَتْ الْقُودُ بِالْعَسَاقِيلِ . وَفِيهَا قَوْلُهُ تَمْشِي الْغُوَاةُ بِجَنْبَيْهَا ، أَيْ بِجَنْبَيْ نَاقَتِهِ .
عَنْ الْقَوْلِ وَالْقِيلِ إعْرَابًا وَمَعْنًى
وَقَوْلُهُ إنّك يَا ابْنَ أَبِي سُلْمَى لَمَقْتُولُ
وَيُرْوَى : وَقَيْلُهُمْ وَهُوَ أَحْسَنُ فِي الْمَعْنَى ، وَأَوْلَى بِالصّوَابِ لِأَنّ الْقِيلَ هُوَ الْكَلَامُ الْمَقُولُ فَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ إنّك يَا ابْنَ أَبِي سُلْمَى لَمَقْتُولُ خَبَرٌ تَقُولُ إذَا سُئِلْت مَا قِيلُك ؟ قِيلِي : إنّ اللّهَ وَاحِدٌ فَقَوْلُك : إنّ اللّهَ وَاحِدٌ هُوَ الْقِيلُ وَالْقَوْلُ مَصْدَرٌ كَالطّحْنِ وَالذّبْحِ وَالْقِيلُ اسْمٌ لِلْمَقُولِ كَالطّحْنِ وَالذّبْحِ بِكَسْرِ أَوّلِهِ وَإِنّمَا حَسُنَتْ هَذِهِ الرّوَايَةُ لِأَنّ الْقَوْلَ مَصْدَرٌ فَيَصِيرُ إنّك يَا ابْنَ أَبِي سُلْمَى فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ فِيهِ فَيَبْقَى الْمُبْتَدَأُ بِلَا خَبَرٍ إلّا أَنْ تَجْعَلَ الْمَقُولَ هُوَ الْقَوْلَ عَلَى الْمَجَازِ كَمَا يُسَمّى الْمَخْلُوقُ خَلْقًا ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ عَزّ وَجَلّ { وَقِيلِهِ يَا رَبّ } [ الزّخْرُفُ 88 ] فِي مَوْضِعِ الْبَدَلِ مِنْ الْقِيلِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { إِلّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا } [ الْوَاقِعَةُ 26 ] مُنْتَصِبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ فَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْبَدَلِ مِنْ قِيلًا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللّهِ قِيلًا } [ النّسَاءُ 122 ] أَيْ حَدِيثًا مَقُولًا ، وَمِنْ هَذَا الْبَابِ مَسْأَلَةٌ مِنْ النّحْوِ ذَكَرَهَا سِيبَوَيْهِ ، وَابْنُ السّرَاجِ فِي كِتَابِهِ وَأَخَذَ الْفَارِسِيّ مِنْهُمَا ، أَوْ مِنْ ابْنِ السّرَاجِ فَكَثِيرًا مَا يَنْقُلُ مِنْ كِتَابِهِ بِلَفْظِهِ غَيْرَ أَنّهُ أَفْسَدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَلَمْ [ ص 286 ] أَرَادَ بِهَا ، وَذَلِكَ أَنّهُمَا قَالَا : إذَا قُلْت أَوّلَ مَا أَقُولُ إنّي أَحْمَدُ اللّهَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ فَهُوَ عَلَى الْحِكَايَةِ فَظَنّ الْفَارِسِيّ أَنّهُ يُرِيدُ عَلَى الْحِكَايَةِ بِالْقَوْلِ فَجَعَلَ إنّي أَحْمَدُ اللّهَ فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ بِأَقُولُ فَلَمّا بَقِيَ لَهُ الْمُبْتَدَأُ بِلَا خَبَرٍ تَكَلّفَ لَهُ تَقْدِيرًا لَا يُعْقَلُ فَقَالَ تَقْدِيرُهُ أَوّلُ مَا أَقُولُ إنّي أَحْمَدُ اللّهَ مَوْجُودٌ أَوْ ثَابِتٌ فَصَارَ مَعْنَى كَلَامِهِ إلَى أَنّ أَوّلَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ الّتِي هِيَ إنّي أَحْمَدُ اللّهَ مَوْجُودٌ أَيْ أَوّلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مَوْجُودٌ فَآخِرُهَا إذًا مَعْدُومٌ وَهَذَا خُلْفٌ مِنْ الْقَوْلِ كَمَا تَرَى ، وَقَدْ وَافَقَهُ ابْنُ جِنّي عَلَيْهِ رَأَيْته فِي بَعْضِ مَسَائِلِهِ قَالَ قُلْت لِأَبِي عَلِيّ لِمَ لَا يَكُونُ إنّي أَحْمَدُ اللّهَ فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ ، كَمَا تَقُولُ أَوّلُ سُورَةٍ أَقْرَؤُهَا : { إِنّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } [ الْكَوْثَرُ : 1 ] أَوْ نَحْوَ هَذَا وَلَا يَحْتَاجُ إلَى حَذْفِ خَبَرٍ قَالَ فَسَكَتَ وَلَمْ يَجِدْ جَوَابًا ، وَإِنّمَا مَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَوّلُ مَا أَقُولُ أَيْ أَوّلُ الْقِيلِ الّذِي أَقُولُهُ إنّي أَحْمَدُ اللّهَ عَلَى حِكَايَةِ الْكَلَامِ الْمَقُولِ وَهَذَا الّذِي أَرَادَ سِيبَوَيْهِ ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ السّرَاجِ فَإِنْ فَتَحْت الْهَمْزَةَ مِنْ أَنّ صَارَ مَعْنَى الْكَلَامِ أَوّلُ الْقَوْلِ لَا أَوّلُ الْقِيلِ وَكَانَتْ مَا وَاقِعَةً عَلَى الْمَصْدَرِ وَصَارَ مَعْنَاهُ أَوّلُ قَوْلِي الْحَمْدُ إذْ الْحَمْدُ قَوْلٌ وَلَمْ يُبَيّنْ مَعَ فَتْحِ الْهَمْزَةِ كَيْفَ حَمِدَ اللّهَ هَلْ قَالَ الْحَمْدُ لِلّهِ بِهَذَا اللّفْظِ أَوْ غَيْرِهِ وَعَلَى كَسْرِ الْهَمْزَةِ قَدْ بَيّنَ كَيْفَ حَمِدَ حِينَ افْتَتَحَ كَلَامَهُ بِأَنّهُ قَالَ إنّي أَحْمَدُ اللّهَ بِهَذَا اللّفْظِ أَوْ غَيْرِهِ وَعَلَى كَسْرِ الْهَمْزَةِ قَدْ بَيّنَ كَيْفَ حَمِدَ حِينَ افْتَتَحَ كَلَامَهُ بِأَنّهُ قَالَ إنّي أَحْمَدُ اللّهَ بِهَذَا اللّفْظِ لَا بِلَفْظٍ آخَرَ فَقِفْ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَدَبّرْهَا إعْرَابًا وَمَعْنًى ، فَقُلْ مَنْ أَحْكَمَهَا وَحَسْبُك أَنّ الْفَارِسِيّ لَمْ يَفْهَمْ عَمّنْ قَبْلَهُ وَجَاءَ بِالتّخْلِيطِ الْمُتَقَدّمِ وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ . [ ص 287 ]
عَوْدٌ إلَى بَانَتْ سُعَادُ
وَالْخَرَادِيلُ الْقِطَعُ مِنْ اللّحْمِ وَفِي الْحَدِيثِ فِي صِفَةِ الصّرَاطِ فَمِنْهُمْ الْمُوبَقُ بِعَمَلِهِ وَمِنْهُمْ الْمُخَرْدَلُ أَيْ تُخَرْدِلُ لَحْمَهُ الْكَلَالِيبُ الّتِي حَوْلَ الصّرَاطِ سَمِعْت شَيْخَنَا الْحَافِظَ أَبَا بَكْرٍ رَحِمَهُ اللّهُ يَقُولُ تِلْكَ الْكَلَالِيبُ هِيَ الشّهَوَاتُ لِأَنّهَا تَجْذِبُ الْعَبْدَ فِي الدّنْيَا عَنْ الِاسْتِقَامَةِ عَلَى سَوَاءِ الصّرَاطِ فَتُمَثّلُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى نَحْوِ ذَلِكَ . وَقَوْلُهُ بِضَرَاءِ الْأَرْضِ . الضّرَاءُ مَا وَارَاك مِنْ شَجَرٍ وَالْخَمْرُ مَا وَارَاك مِنْ شَجَرٍ وَغَيْرِهِ . وَقَوْلُهُ بِوَادِيهِ الْأَرَاجِيلُ أَيْ الرّجّالَةُ قِيلَ إنّهُ جَمْعٌ الْجَمْعُ كَأَنّهُ جَمْعُ الرّجْلِ وَهُمْ الرّجّالَةُ عَلَى أَرْجُلٍ ثُمّ جَمَعَ أَرَجُلًا عَلَى أَرَاجِلَ وَزَادَ الْيَاءَ ضَرُورَةً . وَالدّرْسُ الثّوْبُ الْخَلِقُ . وَالْفَقْعَاءُ شَجَرَةٌ لَهَا ثَمَرٌ كَأَنّهُ حَلَقٌ . وَيُرْوَى أَنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ أَنْشَدَهُ كَعْبٌ
إنّ الرّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ ... مُهَنّدٌ مِنْ سُيُوفِ اللّهِ مَسْلُولُ
نَظَرَ إلَى أَصْحَابِهِ كَالْمُعْجَبِ لَهُمْ مِنْ حُسْنِ الْقَوْلِ وَجَوْدَةِ الشّعْرِ . [ ص 288 ] لَيْسَ لَهُمْ عَنْ حِيَاضِ الْمَوْتِ تَهْلِيلُ
التّهْلِيلُ أَيْ يَنْكُصُ الرّجُلُ عَنْ الْأَمْرِ جُبْنًا . وَقَوْلُهُ فِي الْأَنْصَارِ : ضَرَبُوا عَلِيّا يَوْمَ بَدْرٍ ضَرْبَةً
بَنُو عَلِيّ هُمْ بَنُو كِنَانَةَ ، يُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَلِيّ لِمَا تَقَدّمَ ذِكْرُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَأَرَادَ ضَرَبُوا قُرَيْشًا لِأَنّهُمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ .

اسْتِرْضَاءُ كَعْبِ الْأَنْصَارِ بِمَدْحِهِ إيّاهُمْ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ : فَلَمّا قَالَ كَعْبٌ " إذَا عَرّدَ السّودُ التّنَابِيلُ " ، وَإِنّمَا يُرِيدُنَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ، لَمّا كَانَ صَاحِبُنَا صَنَعَ بِهِ مَا صَنَعَ وَخَصّ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمِدْحَتِهِ غَضِبَتْ عَلَيْهِ الْأَنْصَارُ ؛ فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ يَمْدَحُ الْأَنْصَارَ ، وَيَذْكُرُ بَلَاءَهُمْ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَوْضِعَهُمْ مِنْ الْيُمْنِ [ ص 289 ]
مَنْ سَرّهُ كَرَمُ الْحَيَاةِ فَلَا يَزَلْ ... فِي مِقْنَبٍ مِنْ صَالِحِي الْأَنْصَارِ
وَرِقُوا الْمَكَارِمَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ ... إنّ الْخِيَارَ هُمْ بَنُو الْأَخْيَارِ
الْمُكْرِهِينَ السّمْهَرِيّ بِأَذْرُعٍ ... كَسَوَالِفِ الْهِنْدِيّ غَيْرِ قِصَارِ
وَالنّاظِرِينَ بِأَعْيُنٍ مُحْمَرّةٍ ... كَالْجَمْرِ غَيْرِ كَلَيْلَةِ الْأَبْصَارِ
وَالْبَائِعِينَ نُفُوسَهُمْ لِنَبِيّهِمْ ... لِلْمَوْتِ يَوْمَ تَعَانُقٍ وَكِرَارِ
وَالْقَائِدِينَ النّاسَ عَلَى أَدْيَانِهِمْ ... بِالْمَشْرِفِيّ وَبِالْقَنَا الْخَطّارِ
يَتَطَهّرُونَ يَرَوْنَهُ نُسُكًا لَهُمْ ... بِدِمَاءِ مِنْ عَلِقُوا مِنْ الْكُفّارِ
دَرِبُوا كَمَا دَرِبَتْ بِبَطْنِ خَفِيّةٍ ... غُلْبُ الرّقَابِ مِنْ الْأُسُودِ ضَوَارِي
وَإِذَا حَلَلْت لِيَمْنَعُوك إلَيْهِمْ ... أَصْبَحْت عِنْدَ مَعَاقِلِ الْأَعْفَارِ
ضَرَبُوا عَلِيّا يَوْمَ بَدْرٍ ضَرْبَةً ... دَانَتْ لِوَقْعَتِهَا جَمِيعُ نِزَارِ
لَوْ يَعْلَمُ الْأَقْوَامُ عِلْمِي كُلّهُ ... فِيهِمْ لَصَدّقَنِي الّذِينَ أُمَارِي
قَوْمٌ إذَا خَوَتْ النّجُومُ فَإِنّهُمْ ... لِلطّارِقِينَ النّازِلِينَ مَقَارِي
فِي الْغُرّ مِنْ غَسّانَ مِنْ جُرْثُومَةٍ ... أَغْيَتْ مَحَافِرُهَا عَلَى الْمِنْقَارِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَهُ حِينَ أَنْشَدَهُ " بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ " : لَوْلَا ذَكَرْت الْأَنْصَارَ بِخَيْرٍ ، فَإِنّهُمْ لِذَلِكَ أَهْلٌ فَقَالَ كَعْبٌ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ وَهِيَ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . [ ص 290 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَذُكِرَ لِي عَنْ عَلِيّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ أَنّهُ قَالَ أَنْشَدَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمَسْجِدِ بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ
Sوَقَوْلُهُ إذَا عَرّدَ السّودُ التّنَابِيلُ جَمْعُ تِنْبَالٍ وَهُوَ الْقَصِيرُ وَقَوْلُهُ عَرّدَ أَيْ هَرَبَ . قَالَ الشّاعِرُ
يُعَرّدُ عَنْهُ صَحْبُهُ وَصَدِيقُهُ ... وَيَنْبُشُ عَنْهُ كَلْبُهُ وَهُوَ ضَارِبُهْ
عِلّةُ السّوَادِ فِي أَهْلِ الْيَمَنِ وَشَرْحُ بَيْتٍ لِحَسّانَ
[ ص 289 ] وَجَعَلَهُمْ سُودًا لِمَا خَالَطَ أَهْلَ الْيَمَنِ مِنْ السّودَانِ عِنْدَ غَلَبَةِ الْحَبَشَةِ عَلَى بِلَادِهِمْ وَلِذَلِك قَالَ حَسّانُ فِي آلِ جَفْنَةَ
أَوْلَادُ جَفْنَةَ حَوْلَ قَبْرِ أَبِيهِمْ ... بِيضُ الْوُجُوهِ مِنْ الطّرَازِ الْأَوّلِ
يَعْنِي بِقَوْلِهِ مِنْ الطّرَازِ الْأَوّلِ أَنّ آلَ جَفْنَةَ كَانُوا مِنْ الْيَمَنِ ، ثُمّ اسْتَوْطَنُوا الشّامَ بَعْدَ سَيْلِ الْعَرِمِ ، فَلَمْ يُخَالِطْهُمْ السّودَانُ كَمَا خَالَطُوا مَنْ كَانَ مِنْ الْيَمَنِ ، مِنْ الطّرَازِ الْأَوّلِ الّذِي كَانُوا عَلَيْهِ فِي أَلْوَانِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ . وَقَوْلُهُ حَوْلَ قَبْرِ أَبِيهِمْ أَيْ إنّهُمْ لِعِزّهِمْ لَمْ يَجْلُوا عَنْ مَنَازِلِهِمْ قَطّ ، وَلَا فَارَقُوا قَبْرَ أَبِيهِمْ .
مَدْحٌ آخَرَ لِكَعْبٍ
وَمِمّا أَجَادَ فِيهِ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ قَوْلُهُ يَمْدَحُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 290 ]
تَخْدِي بِهِ النّاقَةُ الْأَدْمَاءُ مُعْتَجِرًا ... بِالْبُرْدِ كَالْبَدْرِ جَلّى لَيْلَةَ الظّلَمِ
فَفِي عَطَافَيْهِ أَوْ أَثْنَاءِ بُرْدَتِهِ ... مَا يَعْلَمُ اللّهُ مِنْ دِينٍ وَمِنْ كَرَمِ

غَزْوَةُ تَبُوكَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ
[ ص 291 ] قَالَ حَدّثَنَا أَبُو مُحَمّدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ قَالَ زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَكّائِيّ ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ الْمُطّلِبِيّ قَالَ ثُمّ أَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْمَدِينَةِ مَا بَيْنَ ذِي الْحِجّةِ إلَى رَجَبٍ ثُمّ أَمَرَ النّاسَ بِالتّهَيّؤِ لِغَزْوِ الرّومِ وَقَدْ ذَكَرَ لَنَا الزّهْرِيّ وَيَزْدُ بْنُ رُومَانَ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، وَغَيْرُهُمْ مِنْ عُلَمَائِنَا ، كُلّ حَدّثَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ مَا بَلَغَهُ عَنْهَا ، وَبَعْضُ الْقَوْمِ يُحَدّثُ مَا لَا يُحَدّثُ بَعْضٌ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ [ ص 292 ] الرّومِ ، وَذَلِكَ فِي زَمَانٍ مِنْ عُسْرَةِ النّاسِ وَشِدّةٍ مِنْ الْحَرّ وَجَدْبٍ مِنْ الْبِلَادِ وَحِينَ طَابَتْ الثّمَارُ وَالنّاسُ يُحِبّونَ الْمُقَامَ فِي ثِمَارِهِمْ وَظِلَالِهِمْ وَيَكْرَهُونَ الشّخُوصَ عَلَى الْحَالِ مِنْ الزّمَانِ الّذِي هُمْ عَلَيْهِ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَلّمَا يَخْرُجُ فِي غَزْوَةٍ إلّا كَنّى عَنْهَا ، وَأَخْبَرَ أَنّهُ يُرِيدُ غَيْرَ الْوَجْهِ الّذِي يَصْمُدُ لَهُ إلّا مَا كَانَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ ، فَإِنّهُ بَيّنَهَا لِلنّاسِ لِبُعْدِ الشّقّةِ وَشِدّةِ الزّمَانِ وَكَثْرَةِ الْعَدُوّ الّذِي يَصْمُدُ لَهُ لِيَتَأَهّبَ النّاسُ لِذَلِكَ أُهْبَتَهُ فَأَمَرَ النّاسَ بِالْجِهَازِ وَأَخْبَرَهُمْ أَنّهُ يُرِيدُ الرّومَ .
Sغَزْوَةُ تَبُوكَ
[ ص 291 ] تَبُوكَ ، وَهِيَ الْعَيْنُ الّتِي أَمَرَ رَسُولُ اللّه - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - النّاسَ أَلَا يَمَسّوا مِنْ مَائِهَا شَيْئًا ، فَسَبَقَ إلَيْهَا رَجُلَانِ وَهِيَ تَبِضُ بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ فَجَعَلَا يُدْخِلَانِ فِيهَا سَهْمَيْنِ لِيَكْثُرَ مَاؤُهَا ، فَسَبّهُمَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ لَهُمَا : مَا زُلْتُمَا تَبُوكَانِهَا مُنْذُ الْيَوْم فِيمَا ذَكَرَ الْقُتَبِيّ قَالَ وَبِذَلِكَ سُمّيَتْ الْعَيْنُ تَبُوكَ ، وَالْبَوْكُ كَالنّقْشِ وَالْحَفْرِ فِي الشّيْءِ وَيُقَالُ مِنْهُ بَاكَ الْحِمَارُ الْأَتَانَ يَبُوكُهَا إذَا نَزَا عَلَيْهَا . وَوَقَعَ فِي السّيرَةِ فَقَالَ " مَنْ سَبَقَنَا إلَى هَذَا ؟ " فَقِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللّهِ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانٌ وَقَالَ الْوَاقِدِيّ : فِيمَا ذُكِرَ لِي ، سَبَقَهُ إلَيْهَا أَرْبَعَةٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مُعَتّبُ بْنُ قُشَيْرٍ ، وَالْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ الطّائِيّ ، وَوَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَزَيْدُ بْنُ لُصَيْتٍ .

شَأْنُ الْجَدّ بْنِ قَيْسٍ
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ فِي جِهَازِهِ ذَلِكَ لِلْجَدّ بْنِ قَيْسٍ أَحَدِ بَنِي سَلِمَةَ : يَا جَدّ ، هَلْ لَك الْعَامَ فِي جِلَادِ بَنِي الْأَصْفَرِ ؟ " فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَوَتَأْذَنُ لِي وَلَا تَفْتِنّي ؟ فَوَاَللّهِ لَقَدْ عَرَفَ قَوْمِي أَنّهُ مَا مِنْ رَجُلٍ بِأَشَدّ عُجْبًا بِالنّسَاءِ مِنّي ، وَإِنّي أَخْشَى إنْ رَأَيْت نِسَاءَ بَنِي الْأَصْفَرِ أَنْ لَا أَصْبِرَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ " قَدْ أَذِنْت لَك فَفِي الْجَدّ بْنِ قَيْسٍ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنّ جَهَنّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } [ التّوْبَةُ 49 ] . أَيْ إنْ كَانَ إنّمَا خَشِيَ الْفِتْنَةَ مِنْ نِسَاءِ بَنِي الْأَصْفَرِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِهِ فَمَا سَقَطَ فِيهِ مِنْ الْفِتْنَةِ أَكْبَرُ بِتَخَلّفِهِ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالرّغْبَةِ بِنَفْسِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَيَقُولُ وَإِنّ جَهَنّمَ لَمِنْ وَرَائِهِ .
الْمُنَافِقُونَ الْمُثَبّطُونَ
وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرّ زَهَادَةً فِي الْجِهَادِ وَشَكّا فِي الْحَقّ وَإِرْجَافًا بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهِمْ { وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرّ قُلْ نَارُ جَهَنّمَ أَشَدّ حَرّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [ التّوْبَةُ 81 ، 82 ] .
شِعْرُ الضّحّاكِ فِي تَحْرِيقِ بَيْتِ سُوَيْلِمٍ
[ ص 293 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي الثّقَةُ عَمّنْ حَدّثَهُ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ عَنْ إسْحَاقَ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ حَارِثَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ قَالَ بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ نَاسًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ يَجْتَمِعُونَ فِي بَيْتِ سُوَيْلِمٍ الْيَهُودِيّ ، وَكَانَ بَيْتُهُ عِنْدَ جَاسُومٍ ، يُثَبّطُونَ النّاسَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ، فَبَعَثَ إلَيْهِمْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللّهِ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يُحَرّقَ عَلَيْهِمْ بَيْتَ سُوَيْلِمٍ فَفَعَلَ طَلْحَةُ . فَاقْتَحَمَ الضّحّاكُ بْنُ خَلِيفَةَ مِنْ ظَهْرِ الْبَيْتِ فَانْكَسَرَتْ رِجْلُهُ وَاقْتَحَمَ أَصْحَابُهُ فَأَفْلَتُوا . فَقَالَ الضّحّاكُ فِي ذَلِكَ .
كَادَتْ وَبَيْتِ اللّهِ نَارُ مُحَمّدٍ ... يَشِيطُ بِهَا الضّحّاكُ وَابْنُ أُبَيْرِقِ
وَظَلْت وَقَدْ طَبّقْت كَبْسَ سُوَيْلِمٍ ... أَنُوءُ عَلَى رِجْلِي كَسِيرًا وَمِرْفَقِي
سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا أَعُودُ لِمِثْلِهَا ... أَخَافُ وَمَنْ تَشْمَلُ بِهِ النّارُ يُحْرَقْ
S[ ص 292 ] وَذَكَرَ الْجَدّ بْنَ قَيْسٍ ، وَقَوْلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهُ يَا جَدّ هَلْ لَك الْعَامَ فِي جِلَادِ بَنِي الْأَصْفَر يُقَالُ إنّ الرّومَ قِيلَ لَهُمْ بَنُو الْأَصْفَرِ ، لِأَنّ عِيصُو بْنُ إسْحَاقَ كَانَ بِهِ صُفْرَةٌ وَهُوَ جَدّهُمْ وَقِيلَ إنّ الرّومَ بْنَ عِيصُو هُوَ الْأَصْفَرُ وَهُوَ أَبُوهُمْ وَأُمّهُ نَسْمَةُ بِنْتُ إسْمَاعِيلَ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوّلِ الْكِتَابِ مَنْ وَلَدَتْ مِنْ الْأُمَمِ وَلَيْسَ كُلّ الرّومِ مِنْ وَلَدِ بَنِي الْأَصْفَرِ فَإِنّ الرّومَ الْأُوَلَ هُمْ فِيمَا زَعَمُوا مِنْ وَلَدِ يُونَانِ بْنِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ وَاَللّهُ أَعْلَمُ بِحَقَائِقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَصِحّتِهَا . [ ص 293 ] وَذَكَرَ يُونُسَ بِإِثْرِ حَدِيثِ الْجَدّ بْنِ قَيْسٍ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ بَهْرَامَ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ أَنّ الْيَهُودَ أَتَوْا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمًا ، فَقَالُوا : يَا أَبَا الْقَاسِمِ إنْ كُنْت صَادِقًا أَنّك نَبِيّ فَالْحَقْ بِالشّامِ فَإِنّ الشّامَ أَرْضُ الْمَحْشَرِ وَأَرْضُ الْأَنْبِيَاءِ فَصَدّقَ [ ص 294 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَا قَالُوا فَغَزَا غَزْوَةَ تَبُوكَ لَا يُرِيدُ إلّا الشّامَ ، فَلَمّا بَلَغَ أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ بَعْدَمَا خُتِمَتْ السّورَةُ { وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ } - إلَى قَوْلِهِ - تَحْوِيلًا [ الْإِسْرَاءُ 76 ، 77 ] . [ ص 295 ] فَأَمَرَهُ بِالرّجُوعِ إلَى الْمَدِينَةِ ، وَقَالَ فِيهَا مَحْيَاك ، وَفِيهَا مَمَاتُك ، وَمِنْهَا تُبْعَثُ ثُمّ قَالَ { أَقِمِ الصّلَاةَ لِدُلُوكِ الشّمْسِ } إلَى قَوْلِهِ مَحْمُودًا [ الْإِسْرَاءُ 78 ، 79 ] فَرَجَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 296 ] فَأَمَرَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ سَلْ رَبّك ، فَإِنّ لِكُلّ نَبِيّ مَسْأَلَةً وَكَانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ لَهُ نَاصِحًا ، وَكَانَ مُحَمّدٌ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهُ مُطِيعًا ، فَقَالَ مَا تَأْمُرُنِي أَنْ أَسْأَلَ ؟ قَالَ [ ص 297 ] { وَقُلْ رَبّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا } وَهَؤُلَاءِ نَزَلْنَ عَلَيْهِ فِي رَجْعَتِهِ مِنْ تَبُوكَ .

حَضّ أَهْلِ الْغِنَى عَلَى النّفَقَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَدّ فِي سَفَرِهِ وَأَمَرَ النّاسَ بِالْجِهَازِ وَالِانْكِمَاشِ وَحَضّ أَهْلَ الْغِنَى عَلَى النّفَقَةِ وَالْحُمْلَانِ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَحَمَلَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْغِنَى وَاحْتَسَبُوا ، وَأَنْفَقَ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ فِي ذَلِكَ نَفَقَةً عَظِيمَةً لَمْ يُنْفِقْ أَحَدٌ مِثْلَهَا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنّ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ أَنْفَقَ فِي جَيْشِ الْعُسْرَةِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَلْفَ دِينَارٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اللّهُمّ ارْضَ عَنْ عُثْمَانَ ، فَإِنّي عَنْهُ رَاضٍ .
قِصّةُ الْبَكّائِينَ وَالْمُعْذَرِينَ والمتخلفين
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ رِجَالًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَتَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُمْ الْبَكّاءُونَ ، وَهُمْ سَبْعَةُ نَفَرٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ ، وَعُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ ، أَخُو بَنِي حَارِثَةَ وَأَبُو لَيْلَى عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ كَعْبٍ أَخُو بَنِي مَازِنِ بْنِ النّجّارِ [ ص 294 ] أَخُو بَنِي سَلِمَةَ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ الْمُغَفّلِ الْمُزَنِيّ - وَبَعْضُ النّاسِ يَقُولُ بَلْ هُوَ عَبْدُ اللّهِ الْفَزَارِيّ . فَاسْتَحْمَلُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانُوا أَهْلَ حَاجَةٍ فَقَالَ " لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ " ، فَتَوَلّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدّمْعِ حَزَنًا أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَبَلَغَنِي أَنّ ابْنَ يَامِينَ بْنَ عُمَيْرِ بْنِ كَعْبٍ النّضْرِيّ لَقِيَ أَبَا لَيْلَى عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ كَعْبٍ وَعَبْدَ اللّهِ بْنَ مُغَفّلٍ وَهُمَا يَبْكِيَانِ فَقَالَ مَا يُبْكِيكُمَا ؟ قَالَا : جِئْنَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِيَحْمِلَنَا ، فَلَمْ نَجِدْ عِنْدَهُ مَا يَحْمِلُنَا عَلَيْهِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نَتَقَوّى بِهِ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَهُ فَأَعْطَاهُمَا نَاضِحًا لَهُ فَارْتَحَلَاهُ وَزَوّدَهُمَا شَيْئًا مِنْ تَمْرٍ فَخَرَجَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَجَاءَهُ الْمُعَذّرُونَ مِنْ الْأَعْرَابِ ، فَاعْتَذَرُوا إلَيْهِ فَلَمْ يَعْذِرْهُمْ اللّهُ تَعَالَى . وَقَدْ ذُكِرَ لِي أَنّهُمْ نَفَرٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ . ثُمّ اسْتَتَبّ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَفَرَهُ وَأَجْمَعَ السّيْرَ وَقَدْ كَانَ نَفَرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَبْطَأَتْ بِهِمْ النّيّةُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى تَخَلّفُوا عَنْهُ عَنْ غَيْرِ شَكّ وَلَا ارْتِيَابٍ مِنْهُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي كَعْبٍ ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ وَمُرَارَةُ بْنُ الرّبِيعِ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيّةَ ، أَخُو بَنِي وَاقِفٍ وَأَبُو خَيْثَمَةَ أَخُو بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ . وَكَانُوا نَفَرَ صِدْقٍ لَا يُتّهَمُونَ فِي إسْلَامِهِمْ . فَلَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ضَرَبَ عَسْكَرَهُ عَلَى ثَنِيّةِ الْوَدَاعِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ مُحَمّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيّ . وَذَكَرَ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ مُحَمّدٍ الدّرَاوَرْدِيّ عَنْ أَبِيهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ ، مَخْرَجَهُ إلَى تَبُوكَ : سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ .

الْمُنَافِقُونَ الْمُتَخَلّفُونَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَضَرَبَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ مَعَهُ عَلَى حِدَةِ عَسْكَرِهِ أَسْفَلَ مِنْهُ نَحْوَ ذُبَابٍ ، وَكَانَ فِيمَا يَزْعُمُونَ لَيْسَ بِأَقَلّ الْعَسْكَرَيْنِ . فَلَمّا سَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَخَلّفَ عَنْهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ، فِيمَنْ تَخَلّفَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الرّيْبِ . [ ص 295 ]
إرْجَافُ الْمُنَافِقِينَ بِعَلِيّ
وَخَلّفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهِ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ عَلَى أَهْلِهِ وَأَمَرَهُ بِالْإِقَامَةِ فِيهِمْ فَأَرْجَفَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا : مَا خَلّفَهُ إلّا اسْتِثْقَالًا لَهُ وَتَخَلّفًا مِنْهُ . فَلَمّا قَالَ ذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ أَخَذَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ سِلَاحَهُ ثُمّ خَرَجَ حَتّى أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ نَازِلٌ بِالْجُرْفِ فَقَالَ يَا نَبِيّ اللّهِ زَعَمَ الْمُنَافِقُونَ أَنّك إنّمَا خَلّفْتنِي لِأَنّك اسْتَثْقَلْتنِي وَتَخَفّفْت مِنّي . فَقَالَ " كَذَبُوا ، وَلَكِنّنِي خَلّفْتُك لِمَا تَرَكْت وَرَائِي ، فَارْجِعْ فَاخْلُفْنِي فِي أَهْلِي وَأَهْلِك ، أَفَلَا تَرْضَى يَا عَلِيّ أَنْ تَكُونَ مِنّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى ؟ إلّا أَنّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي " ، فَرَجَعَ عَلِيّ إلَى الْمَدِينَةِ ، وَمَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى سَفَرِهِ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ طَلْحَةَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رُكَانَةَ ، عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ ، عَنْ أَبِيهِ سَعْدٍ أَنّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ لِعَلِيّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ رَجَعَ عَلِيّ إلَى الْمَدِينَةِ ، وَمَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى سَفَرِهِ .

قِصّةُ أَبِي خَيْثَمَةَ
ثُمّ إنّ أَبَا خَيْثَمَةَ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ سَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَيّامًا إلَى أَهْلِهِ فِي يَوْمٍ حَارّ فَوَجَدَ امْرَأَتَيْنِ لَهُ فِي عَرِيشَيْنِ لَهُمَا فِي حَائِطِهِ قَدْ رَشّتْ كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَرِيشَهَا ، وَبَرّدَتْ لَهُ فِيهِ مَاءً وَهَيّأَتْ لَهُ فِيهِ طَعَامًا . فَلَمّا دَخَلَ قَامَ عَلَى بَابِ الْعَرِيشِ فَنَظَرَ إلَى امْرَأَتَيْهِ وَمَا صَنَعَتَا لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الضّحّ وَالرّيحِ وَالْحَرّ وَأَبُو خَيْثَمَةَ فِي ظِلّ بَارِدٍ وَطَعَامٍ مُهَيّأٍ وَامْرَأَةٍ حَسْنَاءَ فِي مَالِهِ مُقِيمٌ مَا هَذَا بِالنّصَفِ ثُمّ قَالَ وَاَللّهِ لَا أَدْخُلُ عَرِيشَ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا حَتّى أَلْحَقَ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَهَيّئَا لِي زَادًا ، فَفَعَلَتَا . ثُمّ قَدّمَ نَاضِحَهُ فَارْتَحَلَهُ ثُمّ خَرَجَ فِي طَلَبِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى أَدْرَكَهُ حِينَ نَزَلَ تَبُوكَ . وَقَدْ كَانَ أَدْرَكَ أَبَا خَيْثَمَةَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيّ فِي الطّرِيقِ يَطْلُبُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَتَرَافَقَا ، حَتّى إذَا دَنَوْا مِنْ تَبُوكَ ، قَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ لِعُمَيْرِ بْنِ وَهْبٍ إنّ لِي ذَنْبًا ، فَلَا عَلَيْك أَنْ تَخَلّفَ عَنّي حَتّى آتِيَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَفَعَلَ حَتّى إذَا دَنَا مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ نَازِلٌ بِتَبُوكَ قَالَ النّاسُ هَذَا رَاكِبٌ عَلَى الطّرِيقِ مُقْبِلٌ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ " ؛ [ ص 296 ] فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ هُوَ وَاَللّهِ أَبُو خَيْثَمَةَ . فَلَمّا أَنَاخَ أَقْبَلَ فَسَلّمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أَوْلَى لَك يَا أَبَا خَيْثَمَةَ " . ثُمّ أَخْبَرَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْخَبَرَ ؛ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَيْرًا ، وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ فِي ذَلِكَ شِعْرًا ، وَاسْمُهُ مَالِكُ بْنُ قَيْسٍ :
لَمّا رَأَيْت النّاسَ فِي الدّينِ نَافَقُوا ... أَتَيْت الّتِي كَانَتْ أَعَفّ وَأَكْرَمَا
وَبَايَعْت بِالْيُمْنَى يَدِي لِمُحَمّدٍ ... فَلَمْ أَكْتَسِبْ إثْمًا وَلَمْ أَغْشَ مَحْرَمَا
تَرَكْت خَضِيبًا فِي الْعَرِيشِ وَصِرْمَةً ... صَفَايَا كِرَامًا بُسْرُهَا قَدْ تَحَمّمَا
وَكُنْت إذَا شَكّ الْمُنَافِقُ أَسْمَحْت ... إلَى الدّينِ نَفْسِي شَطْرَهُ حَيْثُ يَمّمَا

مُرُورُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْحِجْرِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ مَرّ بِالْحِجْرِ نَزَلَهَا ، وَاسْتَقَى النّاسُ مِنْ بِئْرِهَا ، فَلَمّا رَاحُوا قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " لَا تَشْرَبُوا مِنْ مَائِهَا شَيْئًا ، وَلَا تَتَوَضّئُوا مِنْهُ لِلصّلَاةِ وَمَا كَانَ مِنْ عَجِينٍ عَجَنْتُمُوهُ فَاعْلِفُوهُ الْإِبِلَ وَلَا تَأْكُلُوا مِنْهُ شَيْئًا ، وَلَا يَخْرُجَنّ أَحَدٌ مِنْكُمْ اللّيْلَةَ إلّا وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ " ، فَفَعَلَ النّاسُ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلّا أَنّ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ خَرَجَ أَحَدُهُمَا لِحَاجَتِهِ وَخَرَجَ الْآخَرُ فِي طَلَبِ بَعِيرٍ لَهُ فَأَمّا الّذِي ذَهَبَ لِحَاجَتِهِ فَإِنّهُ خُنِقَ عَلَى مَذْهَبِهِ وَأَمّا الّذِي ذَهَبَ فِي طَلَبِ بَعِيرِهِ فَاحْتَمَلَتْهُ الرّيحُ حَتّى طَرَحَتْهُ بِجَبَلَيْ طَيّئٍ . فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ " أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْكُمْ أَحَدٌ إلّا وَمَعَهُ صَاحِبُهُ " . ثُمّ دَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلّذِي أُصِيبَ عَلَى مَذْهَبِهِ فَشُفِيَ وَأَمّا الْآخَرُ الّذِي وَقَعَ بِجَبَلَيْ طَيّئٍ فَإِنّ طَيّئًا أَهْدَتْهُ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَالْحَدِيثُ عَنْ الرّجُلَيْنِ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْن أَبِي بَكْرٍ ، عَنْ عَبّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السّاعِدِيّ ، وَقَدْ حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنْ قَدْ سَمّى لَهُ الْعَبّاسُ الرّجُلَيْنِ وَلَكِنّهُ اسْتَوْدَعَهُ إيّاهُمَا ، فَأَبَى عَبْدُ اللّهِ أَنْ يُسَمّيَهُمَا لِي . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : بَلَغَنِي عَنْ الزّهْرِيّ أَنّهُ قَالَ لَمّا مَرّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْحِجْرِ سَجّى ثَوْبَهُ عَلَى وَجْهِهِ وَاسْتَحَثّ رَاحِلَتَهُ ثُمّ قَالَ " لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ الّذِينَ ظَلَمُوا إلّا وَأَنْتُمْ بَاكُونَ خَوْفًا أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ " . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا أَصْبَحَ النّاسُ وَلَا مَاءَ مَعَهُمْ شَكَوْا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَدَعَا [ ص 297 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَرْسَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ سَحَابَةً فَأَمْطَرَتْ حَتّى ارْتَوَى النّاسُ وَاحْتَمَلُوا حَاجَتَهُمْ مِنْ الْمَاءِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيَدٍ ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ ، قَالَ قُلْت لِمَحْمُودٍ هَلْ كَانَ النّاسُ يَعْرِفُونَ النّفَاقَ فِيهِمْ ؟ قَالَ نَعَمْ وَاَللّهِ إنْ كَانَ الرّجُلُ لَيَعْرِفُهُ مِنْ أَخِيهِ وَمِنْ أَبِيهِ وَمِنْ عَمّهِ وَفِي عَشِيرَتِهِ ثُمّ يُلَبّسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَى ذَلِكَ . ثُمّ قَالَ مَحْمُودٌ لَقَدْ أَخْبَرَنِي رِجَالٌ مِنْ قَوْمِي عَنْ رَجُلٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مَعْرُوفٍ نِفَاقُهُ كَانَ يَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَيْثُ سَارَ فَلَمّا كَانَ مِنْ أَمْرِ النّاسِ بِالْحِجْرِ مَا كَانَ وَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ دَعَا ، فَأَرْسَلَ اللّهُ السّحَابَةَ فَأَمْطَرَتْ حَتّى ارْتَوَى النّاسُ قَالُوا : أَقْبَلْنَا عَلَيْهِ نَقُولُ وَيْحَك ، هَلْ بَعْدَ هَذَا شَيْءٌ قَالَ سَحَابَةٌ مَارّةٌ
مَقَالَةُ ابْنِ اللّصَيْتِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَارَ حَتّى إذَا كَانَ بِبَعْضِ الطّرِيقِ ضَلّتْ نَاقَتُهُ فَخَرَجَ أَصْحَابُهُ فِي طَلَبِهَا ، وَعِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يُقَالُ لَهُ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ ، وَكَانَ عَقِبِيّا بَدْرِيّا ، وَهُوَ عَمّ بَنِي عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، وَكَانَ فِي رَحْلِهِ زَيْدُ بْنُ اللّصَيْتِ الْقَيْنُقَاعِيّ وَكَانَ مُنَافِقًا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ ابْنُ لُصَيْبٍ بِالْبَاءِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيَدٍ ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ قَالُوا : فَقَالَ زَيْدُ بْنُ اللّصَيْتِ وَهُوَ فِي رَحْلِ عُمَارَةَ وَعُمَارَةُ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلَيْسَ مُحَمّدٌ يَزْعُمُ أَنّهُ نَبِيّ ، وَيُخْبِرُكُمْ عَنْ خَبَرِ السّمَاءِ وَهُوَ لَا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعُمَارَةُ عِنْدَهُ إنّ رَجُلًا قَالَ هَذَا مُحَمّدٌ يُخْبِرُكُمْ أَنّهُ نَبِيّ ، وَيَزْعُمُ أَنّهُ يُخْبِرُكُمْ بِأَمْرِ السّمَاءِ وَهُوَ لَا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ وَإِنّي وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُ إلّا مَا عَلّمَنِي اللّهُ وَقَدْ دَلّنِي اللّهُ عَلَيْهَا ، وَهِيَ فِي هَذَا الْوَادِي ، فِي شِعْبِ كَذَا وَكَذَا ، قَدْ حَبَسَتْهَا شَجَرَةٌ بِزِمَامِهَا ، فَانْطَلِقُوا حَتّى تَأْتُونِي بِهَا ، فَذَهَبُوا ، فَجَاءُوا بِهَا . فَرَجَعَ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ إلَى رَحْلِهِ فَقَالَ وَاَللّهِ لَعَجَبٌ مِنْ شَيْءٍ حَدّثْنَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ آنِفًا ، عَنْ مَقَالَةِ قَائِلٍ أَخْبَرَهُ اللّهُ [ ص 298 ] قَالَ زَيْدُ بْنُ لُصَيْتٍ فَقَالَ رَجُلٌ مِمّنْ كَانَ فِي رَحْلِ عُمَارَةَ وَلَمْ يَحْضُرْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ زَيْدٌ وَاَللّهِ قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَ . فَأَقْبَلَ عُمَارَةُ عَلَى زَيْدٍ يُجَافِي عُنُقَهُ وَيَقُولُ إلَيّ عِبَادَ اللّهِ إنّ فِي رَحْلِي لَدَاهِيَةٌ وَمَا أَشْعُرُ اُخْرُجْ أَيْ عَدُوّ اللّهِ مِنْ رَحْلِي ، فَلَا تَصْحَبْنِي . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَزَعَمَ بَعْضُ النّاسِ أَنّ زَيْدًا تَابَ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَالَ بَعْضُ النّاسِ لَمْ يَزَلْ مُتّهَمًا بِشَرّ حَتّى هَلَكَ .

إبْطَاءُ أَبِي ذَرّ
ثُمّ مَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَائِرًا ، فَجَعَلَ يَتَخَلّفُ عَنْهُ الرّجُلُ فَيَقُولُونَ يَا رَسُولَ اللّهِ تَخَلّفَ فُلَانٌ فَيَقُولُ دَعُوهُ فَإِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللّهُ تَعَالَى بِكُمْ وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمْ اللّهُ مِنْهُ حَتّى قِيلَ يَا رَسُولَ اللّهِ قَدْ تَخَلّفَ أَبُو ذَرّ وَأَبْطَأَ بِهِ بَعِيرُهُ فَقَالَ دَعُوهُ فَإِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللّهُ بِكُمْ ، وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمْ اللّهُ مِنْهُ وَتَلَوّمَ أَبُو ذَرّ عَلَى بَعِيرِهِ فَلَمّا أَبْطَأَ عَلَيْهِ أَخَذَ مَتَاعَهُ فَحَمَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ ثُمّ خَرَجَ يَتْبَعُ أَثَرَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَاشِيًا . وَنَزَلَ رَسُولُ اللّهِ فِي بَعْضِ مَنَازِلِهِ فَنَظَرَ نَاظِرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ هَذَا الرّجُلَ يَمْشِي عَلَى الطّرِيقِ وَحْدَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كُنْ أَبَا ذَرّ . فَلَمّا تَأَمّلَهُ الْقَوْمُ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ هُوَ وَاَللّهِ أَبُو ذَرّ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَحِمَ اللّهُ أَبَا ذَرّ يَمْشِي وَحْدَهُ وَيَمُوتُ وَحْدَهُ وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ . [ ص 299 ] وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي بُرَيْدَةُ بْنُ سُفْيَانَ الْأَسْلَمِيّ ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ لَمّا نَفَى عُثْمَانُ أَبَا ذَرّ إلَى الرّبَذَةِ ، وَأَصَابَهُ بِهَا قَدَرُهُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ إلّا امْرَأَتُهُ وَغُلَامُهُ فَأَوْصَاهُمَا أَنْ اغْسِلَانِي وَكَفّنَانِي ، ثُمّ ضَعَانِي عَلَى قَارِعَةِ الطّرِيقِ فَأَوّلُ رَكْبٍ يَمُرّ بِكُمْ فَقُولُوا : هَذَا أَبُو ذَرّ صَاحِبُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَعِينُونَا عَلَى دَفْنِهِ . فَلَمّا مَاتَ فَعَلَا ذَلِكَ بِهِ . ثُمّ وَضَعَاهُ عَلَى قَارِعَةِ الطّرِيقِ وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي رَهْطٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عُمّارٍ فَلَمْ يَرُعْهُمْ إلّا بِالْجِنَازَةِ عَلَى ظَهْرِ الطّرِيقِ قَدْ كَادَتْ الْإِبِلُ تَطَؤُهَا ، وَقَامَ إلَيْهِمْ الْغُلَامُ . فَقَالَ هَذَا أَبُو ذَرّ صَاحِبُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَعِينُونَا عَلَى دَفْنِهِ . قَالَ فَاسْتَهَلّ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَبْكِي وَيَقُولُ صَدَقَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَمْشِي وَحْدَك ، وَتَمُوتُ وَحْدَك ، وَتُبْعَثُ وَحْدَك . ثُمّ نَزَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَوَارَوْهُ ثُمّ حَدّثَهُمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ حَدِيثَهُ وَمَا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي مَسِيرِهِ إلَى تَبُوكَ .
Sإبْطَاءُ أَبِي ذَرّ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ [ ص 298 ] أَبَا ذَرّ الْغِفَارِيّ ، وَإِبْطَاءَهُ . وَاسْمُهُ جُنْدُبُ بْنُ جُنَادَةَ هَذَا أَصَحّ مَا قِيلَ فِيهِ وَقَدْ قِيلَ فِيهِ بَرِيرُ بْنُ عِشْرِقَةَ وَجُنْدُبُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ وَابْنُ السّكَنِ أَيْضًا . وَقَوْلُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كُنْ أَبَا ذَرّ ، وَفِي أَبِي خَيْثَمَةَ كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ ، لَفْظُهُ لَفْظُ الْأَمْرِ وَمَعْنَاهُ الدّعَاءُ كَمَا تَقُولُ أَسْلِمْ سَلّمَك اللّهُ . إعْرَابُ كَلِمَةِ وَحْدَهُ وَقَوْلُهُ فِي أَبِي ذَرّ رَحِمَ اللّهُ أَبَا ذَرّ يَمْشِي وَحْدَهُ وَيَمُوتُ وَحْدَهُ أَيْ يَمُوتُ [ ص 299 ] [ ص 300 ] سِيبَوَيْهِ ، وَأَمّا الّذِي فِي الْحَدِيثِ فَلَا يَتَقَدّرُ هَذَا التّقْدِيرَ لِأَنّهُ مِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَمُوتَ خُصُوصًا ، وَإِنّمَا مَعْنَاهُ مُنْفَرِدًا بِذَاتِهِ أَيْ عَلَى حِدَتِهِ كَمَا قَالَ يُونُسُ فَقَوْلُ يُونُسَ صَالِحٌ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ وَتَقْدِيرُ سِيبَوَيْهِ لَهُ بِالْخُصُوصِ يَصْلُحُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ فِي أَكْثَرِ الْمَوَاطِنِ وَإِنّمَا لَمْ يَتَعَرّفْ وَحْدَهُ بِالْإِضَافَةِ لِأَنّ مَعْنَاهُ كَمَعْنَى لَا غَيْرَ وَلِأَنّهَا كَلِمَةٌ تُنْبِئُ عَنْ نَفْيٍ وَعَدَمٍ وَالْعَدَمُ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُتَعَرّفًا مُتَعَيّنًا بِالْإِضَافَةِ وَإِنّمَا لَمْ يُشْتَقّ مِنْهُ فِعْلٌ وَإِنْ كَانَ مَصْدَرًا فِي الظّاهِرِ لِمَا قَدّمْنَاهُ مِنْ أَنّهُ لَفْظٌ يُنْبِئُ عَنْ عَدَمٍ وَنَفْيٍ وَالْفِعْلُ يَدُلّ عَلَى حَدَثٍ وَزَمَانٍ فَكَيْفَ يُشْتَقّ مِنْ شَيْءٍ لِشَيْءٍ بِحَدَثٍ إنّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ انْتِفَاءِ الْحَدَثِ عَنْ كُلّ أَحَدٍ إلّا عَنْ زَيْدٍ مَثَلًا إذَا قُلْت : جَاءَنِي زَيْدٌ وَحْدَهُ أَيْ لَمْ يَجِئْ غَيْرُهُ وَإِنّمَا يُقَالُ انْعَدَمَ وَانْتَفَى بَعْدَ الْوُجُودِ لَا قَبْلَهُ لِأَنّهُ أَمْرٌ مُتَجَدّدٌ كَالْحَدَثِ وَقَدْ أَطْنَبْنَا فِي هَذَا الْغَرَضِ وَزِدْنَاهُ بَيَانًا فِي مَسْأَلَةِ سُبْحَانَ اللّهِ وَبِحَمْدِهِ وَشَرْحِهَا .
أَجَأٌ وَسَلْمَى
فَصْلٌ وَذَكَرَ الرّجُلَ الّذِي طَرَحَتْهُ الرّيحُ بِجَبَلَيْ طَيّئٍ ، وَهُمَا أَجَأٌ وَسَلْمَى وَعَرّفَ أَجَأً بِأَجَأِ بْنِ عَبْدِ الْحَيّ كَانَ صُلِبَ فِي ذَلِكَ الْجَبَلِ وَسَلْمَى صُلِبَتْ فِي الْجَبَلِ الْآخَرِ فَعُرِفَ بِهَا ، وَهِيَ سَلْمَى بِنْتُ حَامٍ فِيمَا ذُكِرَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

تَخْذِيلُ الْمُنَافِقِينَ الْمُسْلِمِينَ وَمَا نَزَلَ فِيهِمْ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَ رَهْطٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ ، أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَمَعَهُمْ رَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ حِلْفٌ لِبَنِي سَلِمَةَ يُقَالُ لَهُ مُخَشّنُ بْنُ حُمَيّرٍ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَال : مَخْشِيّ - يُشِيرُونَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ مُنْطَلِقٌ إلَى تَبُوكَ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَتَحْسَبُونَ جِلَادَ بَنِي الْأَصْفَرِ كَقِتَالِ الْعَرَبِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَاَللّهِ لَكَأَنّا بِكُمْ غَدًا مُقَرّنِينَ فِي الْحِبَالِ إرْجَافًا وَتَرْهِيبًا لِلْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ مُخَشّنُ بْنُ حُمَيّرٍ : وَاَللّهِ لَوَدِدْت أَنّي أُقَاضِيَ عَلَى أَنْ يُضْرَبَ كُلّ رَجُلٍ مِنّا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَأَنْ نَنْفَلِتَ أَنْ يَنْزِلَ فِينَا قُرْآنٌ لِمَقَالَتِكُمْ هَذِهِ . وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيمَا بَلَغَنِي - لِعَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ " أَدْرِكْ الْقَوْمَ فَإِنّهُمْ قَدْ احْتَرَقُوا ، فَسَلْهُمْ عَمّا قَالُوا ، فَإِنْ أَنْكَرُوا فَقُلْ بَلَى ، قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا " . فَانْطَلَقَ إلَيْهِمْ عَمّارٌ فَقَالَ ذَلِكَ لَهُمْ فَأَتَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَعْتَذِرُونَ إلَيْهِ فَقَالَ وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاقِفٌ عَلَى نَاقَتِهِ فَجَعَلَ يَقُولُ وَهُوَ آخِذٌ بِحَقَبِهَا : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّمَا كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنّ إِنّمَا كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } [ التّوْبَةُ 65 ] . وَقَالَ مُخَشّنُ بْنُ حُمَيّرٍ : يَا رَسُولَ اللّهِ قَعَدَ بِي اسْمِي وَاسْمُ أَبِي ، وَكَأَنّ الّذِي عُفِيَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُخَشّنُ بْنُ حُمَيّرٍ ، فَتَسَمّى عَبْدَ الرّحْمَنِ وَسَأَلَ اللّهَ تَعَالَى أَنْ يَقْتُلَهُ شَهِيدًا لَا يُعْلَمُ بِمَكَانِهِ فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ ، فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ أَثَرٌ

الصّلْحُ مَعَ صَاحِبِ أَيْلَةَ
وَلَمّا [ ص 300 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى تَبُوكَ ، أَتَاهُ يُحَنّةُ بْنُ رُؤْبَةَ ، صَاحِبُ أَيْلَةَ ، فَصَالَحَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَعْطَاهُ الْجِزْيَةَ وَأَتَاهُ أَهْلُ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ ، فَأَعْطَوْهُ الْجِزْيَةَ فَكَتَبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهُمْ كِتَابًا ، فَهُوَ عِنْدَهُمْ .
كِتَابُ الرّسُولِ لِصَاحِبِ أَيْلَةَ
فَكَتَبَ لِيُحَنّةَ بْنِ رُؤْبَةَ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ هَذِهِ أَمَنَةٌ مِنْ اللّهِ وَمُحَمّدٍ النّبِيّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِيُحَنّةَ بْنِ رُؤْبَةَ وَأَهْلِ أَيْلَةَ ، سُفُنُهُمْ وَسَيّارَتُهُمْ فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ لَهُمْ ذِمّةُ اللّهِ وَذِمّةُ مُحَمّدٍ النّبِيّ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الشّامِ ، وَأَهْلِ الْيَمَنِ ، وَأَهْلِ الْبَحْرِ فَمَنْ أَحْدَثَ مِنْهُمْ حَدَثًا ، فَإِنّهُ لَا يَحُولُ مَالُهُ دُونَ نَفْسِهِ وَإِنّهُ طَيّبٌ لِمَنْ أَخَذَهُ مِنْ النّاسِ وَإِنّهُ لَا يَحِلّ أَنْ يُمْنَعُوا مَاءً يَرِدُونَهُ وَلَا طَرِيقًا يُرِيدُونَهُ مِنْ بَرّ أَوْ بَحْرٍ .

أُكَيْدِرٌ
ثُمّ [ ص 301 ] إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَعَا خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ ، فَبَعَثَهُ إلَى أُكَيْدِرِ دُومَةَ ، وَهُوَ أُكَيْدِرُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ رَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ كَانَ مَلِكًا عَلَيْهَا ، وَكَانَ نَصْرَانِيّا ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِخَالِدٍ إنّك سَتَجِدُهُ يَصِيدُ الْبَقَرَ . فَخَرَجَ خَالِدٌ حَتّى إذَا كَانَ مِنْ حِصْنِهِ بِمَنْظَرِ الْعَيْنِ وَفِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ صَائِفَةٍ وَهُوَ عَلَى سَطْحٍ لَهُ وَمَعَ امْرَأَتِهِ فَبَاتَتْ الْبَقَرُ تَحُكّ بِقُرُونِهَا بَابَ الْقَصْرِ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ هَلْ رَأَيْت مِثْلَ هَذَا قَطّ ؟ قَالَ لَا وَاَللّهِ قَالَتْ فَمَنْ يَتْرُكُ هَذِهِ ؟ قَالَ لَا أَحَدَ . فَنَزَلَ فَأَمَرَ بِفَرَسِهِ فَأُسْرِجَ لَهُ وَرَكِبَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ فِيهِمْ أَخٌ يُقَالُ لَهُ حُسّانُ . فَرَكِبَ وَخَرَجُوا مَعَهُ بِمَطَارِدِهِمْ . فَلَمّا خَرَجُوا تَلَقّتْهُمْ خَيْلُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخَذَتْهُ وَقَتَلُوا أَخَاهُ وَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُخَوّصٍ بِالذّهَبِ فَاسْتَلَبَهُ خَالِدٌ فَبَعَثَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ قُدُومِهِ بِهِ عَلَيْهِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ رَأَيْت قَبَاءَ أُكَيْدِرٍ حِين قَدِمَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَلْمِسُونَهُ بِأَيْدِيهِمْ وَيَتَعَجّبُونَ مِنْهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَتَعْجَبُونَ مِنْ هَذَا ؟ فَوَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنّةِ أَحْسَنُ مِنْ هَذَا . [ ص 302 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ خَالِدًا قَدّمَ أُكَيْدِرًا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَحَقَنَ لَهُ دَمَهُ وَصَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَةِ ثُمّ خَلّى سَبِيلَهُ فَرَجَعَ إلَى قَرْيَتِهِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ طَيّئٍ يُقَالُ لَهُ بُجَيْرُ بْنُ بُجَرَةَ يَذْكُرُ قَوْلَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِخَالِدٍ إنّك سَتَجِدُهُ يَصِيدُ الْبَقَرَ ، وَمَا صَنَعَتْ الْبَقَرُ تِلْكَ اللّيْلَةَ حَتّى اسْتَخْرَجَتْهُ لِتَصْدِيقِ قَوْلِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّم
تَبَارَكَ سَائِقُ الْبَقَرَاتِ إنّي ... رَأَيْت اللّهَ يَهْدِي كُلّ هَادِ
فَمَنْ يَكُ حَائِدًا عَنْ ذِي تَبُوكِ ... فَإِنّا قَدْ أُمِرْنَا بِالْجِهَادِ
فَأَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِتَبُوكَ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً لَمْ يُجَاوِزْهَا ثُمّ انْصَرَفَ قَافِلًا إلَى الْمَدِينَةِ .
حَدِيثُ وَادِي الْمُشَقّقِ وَمَائِهِ
وَكَانَ فِي الطّرِيقِ مَاءٌ يَخْرُجُ مِنْ وَشَلٍ ، مَا يَرْوِي الرّاكِبَ وَالرّاكِبَيْنِ وَالثّلَاثَةَ بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ وَادِي الْمُشَقّقِ ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ سَبَقَنَا إلَى ذَلِكَ الْوَادِي فَلَا يَسْتَقِيَنّ مِنْهُ شَيْئًا حَتّى نَأْتِيَهُ . قَالَ فَسَبَقَهُ إلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ فَاسْتَقَوْا مَا فِيهِ فَلَمّا أَتَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَفَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرَ فِيهِ شَيْئًا . فَقَالَ مَنْ سَبَقَنَا إلَى هَذَا الْمَاءِ ؟ فَقِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللّهِ فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَقَالَ أَوَلَمْ أَنْهَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنْهُ شَيْئًا حَتّى آتِيَهُ " ثُمّ لَعَنَهُمْ [ ص 303 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَدَعَا عَلَيْهِمْ . ثُمّ نَزَلَ فَوَضَعَ يَدَهُ تَحْتَ الْوَشَلِ فَجَعَلَ يَصُبّ فِي يَدِهِ مَا شَاءَ اللّهُ أَنْ يَصُبّ ثُمّ نَضَحَهُ بِهِ وَمَسَحَهُ بِيَدِهِ وَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَا شَاءَ اللّهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُ فَانْخَرَقَ مِنْ الْمَاءِ - كَمَا يَقُولُ مَنْ سَمِعَهُ - مَا إنّ لَهُ حِسّا كَحِسّ الصّوَاعِقِ فَشَرِبَ النّاسُ وَاسْتَقَوْا حَاجَتَهُمْ مِنْهُ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَئِنْ بَقِيتُمْ أَوْ مَنْ بَقِيَ مِنْكُمْ لَتَسْمَعُنّ بِهَذَا الْوَادِي ، وَهُوَ أَخْصَبُ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمَا خَلْفَهُ .
Sأُكَيْدِرٌ وَالْكِتَابُ الّذِي أُرْسِلَ إلَيْهِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ كِتَابَهُ لِأُكَيْدِرِ دُومَةَ [ ص 301 ] وَدُومَةُ بِضَمّ الدّالِ هِيَ هَذِهِ وَعُرِفَتْ بِدُومِيّ بْنِ إسْمَاعِيلَ فِيمَا ذَكَرُوا ، وَهِيَ دُومَةُ الْجَنْدَلِ ، وَدُومَةُ بِالضّمّ أُخْرَى ، وَهِيَ عِنْدَ الْحِيرَةِ ، وَيُقَالُ لِمَا حَوْلَهَا : النّجَفُ ، وَأَمّا دَوْمَةُ بِالْفَتْحِ فَأُخْرَى مَذْكُورَةٌ فِي أَخْبَارِ الرّدّةِ . وَذَكَرَ أَنّهُ كَتَبَ لِأُكَيْدِرِ دُومَةَ كِتَابًا فِيهِ عَهْدٌ وَأَمَانٌ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : أَنَا قَرَأْته ، أَتَانِي بِهِ شَيْخٌ هُنَالِكَ فِي قَضِيمٍ وَالْقَضِيمُ الصّحِيفَةُ وَإِذَا فِيهِ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ لِأُكَيْدِرٍ حِينَ أَجَابَ إلَى الْإِسْلَامِ وَخَلَعَ الْأَنْدَادَ وَالْأَصْنَامَ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ سَيْفِ اللّهِ فِي دُومَةِ الْجَنْدَلِ وَأَكْنَافِهَا ، إنّ لَنَا الضّاحِيَةَ مِنْ الضّحْلِ وَالْبَوْرَ وَالْمَعَامِيَ وَأَغْفَالَ الْأَرْضِ وَالْحَلْقَةَ وَالسّلَاحَ وَالْحَافِرَ وَالْحِصْنَ وَلَكُمْ الضّامِنَةُ مِنْ النّخْلِ وَالْمَعِينِ مِنْ الْمَعْمُورِ لَا تُعْدَلُ سَارِحَتُكُمْ وَلَا تُعَدّ فَارِدَتُكُمْ وَلَا يُحْظَرُ عَلَيْكُمْ النّبَاتُ تُقِيمُونَ الصّلَاةَ لِوَقْتِهَا ، وَتُؤْتُونَ الزّكَاةَ بِحَقّهَا ، عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ عَهْدُ اللّهِ وَالْمِيثَاقُ وَلَكُمْ بِذَلِكَ الصّدْقُ وَالْوَفَاءُ . شَهِدَ اللّهُ وَمَنْ حَضَرَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الضّاحِيَةُ أَطْرَافُ الْأَرْضِ وَالْمَعَامِي : مَجْهُولُهَا ، وَأَغْفَالُ الْأَرْضِ مَا لَا أَثَرَ لَهُمْ فِيهِ مِنْ عِمَارَةٍ أَوْ نَحْوِهَا ، وَالضّامِنَةُ مِنْ النّخْلِ مَا دَاخَلَ بَلَدَهُمْ وَلَا يُحْظَرُ عَلَيْكُمْ النّبَاتُ أَيْ لَا تُمْنَعُونَ مِنْ الرّعْيِ حَيْثُ شِئْتُمْ وَلَا تُعْدَلُ سَارِحَتُكُمْ أَيْ لَا تُحْشَرُ إلَى [ ص 302 ] أَهْلِ الطّائِفِ حِينَ جَاءُوا تَائِبِينَ لِأَنّ هَؤُلَاءِ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ وَأَخَذَ مَلِكَهُمْ أَسِيرًا ، وَلَكِنّهُ أَبْقَى لَهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ مَا تَضَمّنَهُ الْكِتَابُ لِأَنّهُ لَمْ يُقَاتِلْهُمْ حَتّى يَأْخُذَهُمْ عَنْوَةً كَمَا أَخَذَ خَيْبَر َ ، فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَكَانَتْ أَمْوَالُهُمْ كُلّهَا لِلْمُسْلِمِينَ وَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي رِقَابِهِمْ كَمَا تَقَدّمَ وَلَوْ جَاءُوا إلَيْهِ تَائِبِينَ أَيْضًا قَبْلَ الْخُرُوجِ إلَيْهِمْ كَمَا فَعَلَتْ ثَقِيفٌ مَا أَخَذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ شَيْئًا .
الْكِتَابُ إلَى هِرَقْلَ
وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ إسْحَاقَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ هِرَقْلَ ، فَإِنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَتَبَ إلَيْهِ مِنْ تَبُوكَ مَعَ دِحْيَةَ بْنِ خَلِيفَةَ وَنَصّهُ مَذْكُورٌ فِي الصّحَاحِ مَشْهُورٌ فَأَمَرَ هِرَقْلُ مُنَادِيًا يُنَادِي : أَلَا إنّ هِرَقْلَ قَدْ آمَن َ بِمُحَمّد ٍ وَاتّبَعَهُ فَدَخَلَتْ الْأَجْنَادُ فِي سِلَاحِهَا ، وَأَطَافَتْ بِقَصْرِهِ تُرِيدُ قَتْلَهُ فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ إنّي أَرَدْت أَنْ أَخْتَبِرَ صَلَابَتَكُمْ فِي دِينِكُمْ فَقَدْ رَضِيت عَنْكُمْ فَرَضُوا عَنْهُ ثُمّ كَتَبَ كِتَابًا ، وَأَرْسَلَهُ مَعَ دِحْيَةَ يَقُولُ فِيهِ لِلنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إنّي مُسْلِمٌ وَلَكِنّي مَغْلُوبٌ عَلَى أَمْرِي ، وَأَرْسَلَ إلَيْهِ بِهَدِيّةٍ فَلَمّا قَرَأَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كِتَابَهُ قَالَ " كَذَبَ عَدُوّ اللّهِ لَيْسَ بِمُسْلِمٍ ، بَلْ هُوَ على نَصْرَانِيّتِهِ " .

قِيَامُ الرّسُولِ عَلَى دَفْنِ ذِي الْبِجَادَيْنِ
قَالَ وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التّيْمِيّ ، أَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يُحَدّثُ قَالَ قُمْت مِنْ جَوْفِ اللّيْلِ وَأَنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ، قَالَ فَرَأَيْت شُعْلَةً مِنْ نَارٍ فِي نَاحِيَةِ الْعَسْكَرِ قَالَ فَاتّبَعْتهَا أَنْظُرُ إلَيْهَا ، فَإِذَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَإِذَا عَبْدُ اللّهِ ذُو الْبِجَادَيْنِ الْمُزَنِيّ قَدْ مَاتَ وَإِذَا هُمْ قَدْ حَفَرُوا لَهُ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حُفْرَتِهِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يُدَلّيَانِهِ إلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ أَدْنِيَا إلَيّ أَخَاكُمَا ، فَدَلّيَاهُ إلَيْهِ فَلَمّا هَيّأَهُ لِشِقّهِ قَالَ اللّهُمّ إنّي أَمْسَيْت رَاضِيًا عَنْهُ فَارْضَ عَنْهُ . قَالَ يَقُولُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : يَا لَيْتَنِي كُنْت صَاحِبَ الْحُفْرَةِ . [ ص 304 ]
لِمَ سُمّيَ ذُو الْبِجَادَيْنِ ؟
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَإِنّمَا سُمّيَ ذُو الْبِجَادَيْنِ لِأَنّهُ كَانَ يُنَازَعُ إلَى الْإِسْلَامِ فَيَمْنَعُهُ قَوْمُهُ مِنْ ذَلِكَ وَيُضَيّقُونَ عَلَيْهِ حَتّى تَرَكُوهُ فِي بِجَادٍ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَالْبِجَادُ الْكِسَاءُ الْغَلِيظُ الْجَافِي ، فَهَرَبَ مِنْهُمْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ شَقّ بِجَادَهُ بِاثْنَيْنِ فَاتّزَرَ بِوَاحِدٍ وَاشْتَمَلَ بِالْآخَرِ ثُمّ أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقِيلَ لَهُ ذُو الْبِجَادَيْنِ لِذَلِكَ وَالْبِجَادُ أَيْضًا : الْمَسْحُ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ :
كَأَنّ أَبَانَا فِي عَرَانِينِ ... وَدْقِهِ كَبِيرُ أُنَاسٍ فِي بِجَادٍ مُزَمّلِ

مَوْقِفُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ بَعْضِ الْهَدَايَا
وَقَبِلَ [ ص 303 ] هَدِيّتَهُ وَقَسّمَهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ لَا يَقْبَلُ هَدِيّةَ مُشْرِكٍ مُحَارِبٍ وَإِنّمَا قَبِلَ هَذِهِ لِأَنّهَا فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَلِذَلِكَ قَسّمَهَا عَلَيْهِمْ وَلَوْ أَتَتْهُ فِي بَيْتِهِ كَانَتْ لَهُ خَالِصَةً كَمَا كَانَتْ هَدِيّةُ الْمُقَوْقِسِ خَالِصَةً لَهُ وَقَبِلَهَا مِنْ الْمُقَوْقِسِ ، لِأَنّهُ لَمْ يَكُنْ مُحَارِبًا لِلْإِسْلَامِ بَلْ كَانَ قَدْ أَظْهَرَ الْمَيْلَ إلَى الدّخُولِ فِي الدّينِ وَقَدْ رَدّ هَدِيّةَ أَبِي بَرَاءٍ مُلَاعِبِ الْأَسِنّةِ وَكَانَ أَهْدَى إلَيْهِ فَرَسًا ، وَأَرْسَلَ إلَيْهِ إنّي قَدْ أَصَابَنِي وَجَعٌ أَحْسَبُهُ قَالَ يُقَالُ لَهُ الدّبَيْلَةُ فَابْعَثْ إلَيّ بِشَيْءٍ أَتَدَاوَى بِهِ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِعُكّةِ عَسَلٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَشْفِيَ بِهِ وَرَدّ عَلَيْهِ هَدِيّتَهُ وَقَالَ " إنّي نُهِيت عَنْ زَبْدِ الْمُشْرِكِينَ " ، وَبَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَنْسُبُ هَذَا الْخَبَرَ لِعَامِرِ بْنِ الطّفَيْلِ عَدُوّ اللّهِ وَإِنّمَا هُوَ عَمّهُ عَامِرُ بْنُ مَالِكٍ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ عَنْ زَبْدِ الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يَقُلْ عَنْ هَدِيّتِهِمْ يَدُلّ عَلَى أَنّهُ إنّمَا كَرِهَ مُلَايَنَتَهُمْ وَمُدَاهَنَتَهُمْ إذَا كَانُوا حَرْبًا ، لِأَنّ الزّبْدَ مُشْتَقّ مِنْ الزّبْدِ كَمَا أَنّ الْمُدَاهَنَةَ مُشْتَقّةٌ مِنْ الدّهْنِ فَعَادَ الْمَعْنَى إلَى مَعْنَى اللّينِ وَالْمُلَايَنَةِ وَوُجُودِ الْجِدّ فِي حَرْبِهِمْ وَالْمُخَاشَنَةِ . وَقَدْ رَدّ هَدِيّةَ عِيَاضِ بْنِ حَمّادٍ [ ص 304 ] الْمُجَاشِعِيّ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ وَفِيهَا قَالَ إنّي نُهِيت عَنْ زَبْدِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْدَى إلَى أَبِي سُفْيَانَ عَجْوَةً وَاسْتَهْدَاهُ أَدَمًا فَأَهْدَاهُ أَبُو سُفْيَانَ وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ الْأَدَمَ وَذَلِك فِي زَمَنِ الْهُدْنَةِ الّتِي كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَدْ رُوِيَ أَنّ هِرَقْلَ وَضَعَ كِتَابَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الّذِي كَتَبَ إلَيْهِ فِي قَصَبَةٍ مِنْ ذَهَبٍ تَعْظِيمًا لَهُ وَأَنّهُمْ لَمْ يَزَالُوا يَتَوَارَثُونَهُ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ فِي أَرْفَعِ صِوَانٍ وَأَعَزّ مَكَانٍ حَتّى كَانَ عِنْدَ " إذفونش " الّذِي تَغَلّبَ عَلَى طُلَيْطِلَةَ وَمَا أَخَذَ أَخَذَهَا مِنْ بِلَادِ الْأَنْدَلُسِ ثُمّ كَانَ عِنْدَ ابْنِ بِنْتِهِ الْمَعْرُوفِ " بِالسّلِيطِينَ " حَدّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنّهُ حَدّثَهُ مَنْ سَأَلَهُ رُؤْيَتَهُ مِنْ قُوّادِ أَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ يُعْرَفُ بِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ فَأَخْرَجَهُ إلَيّ فَاسْتَعْبَرْته وَأَرَدْت تَقْبِيلَهُ وَأَخْذَهُ بِيَدِي ، فَمَنَعَنِي مِنْ ذَلِكَ صِيَانَةً لَهُ وَضَنّا بِهِ عَلَيّ . وَيُقَالُ هِرَقْلُ وَهِرْقِلُ .
حَوْلَ قِصّةِ الْبَكّائِينَ
فَصْلٌ وَذَكَرَ الْبَكّائِينَ وَذَكَرَ فِيهِمْ عُلْبَةَ بْنَ زَيْدٍ ، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ أَنّ عُلْبَةَ خَرَجَ مِنْ اللّيْلِ فَصَلّى مَا شَاءَ اللّهُ ثُمّ بَكَى ، وَقَالَ " اللّهُمّ إنّك قَدْ أَمَرْت بِالْجِهَادِ وَرَغّبْت فِيهِ ثُمّ لَمْ تَجْعَلْ عِنْدِي ، مَا أَتَقَوّى بِهِ مَعَ رَسُولِك ، وَلَمْ تَجْعَلْ فِي يَدِ رَسُولِك مَا يَحْمِلُنِي عَلَيْهِ وَإِنّي أَتَصَدّقُ عَلَى كُلّ مُسْلِمٍ بِكُلّ مَظْلِمَةٍ أَصَابَنِي بِهَا فِي مَالٍ أَوْ جَسَدٍ أَوْ عِرْضٍ " ثُمّ أَصْبَحَ مَعَ النّاسِ وَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أَيْنَ الْمُتَصَدّقُ فِي هَذِهِ اللّيْلَةِ ؟ " لَمْ يَقُمْ أَحَدٌ ، ثُمّ قَالَ " أَيْنَ الْمُتَصَدّقُ فِي هَذِهِ اللّيْلَةِ فَلْيَقُمْ وَلَا يَتَزَاهَدُ مَا صَنَعَ هَذِهِ اللّيْلَةَ ؟ " فَقَامَ إلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أَبْشِرْ فَوَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ كُتِبَ فِي الزّكَاةِ الْمُتَقَبّلَةِ " . وَأَمّا سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ الْمُغَفّلِ فَرَآهُمَا يَامِينُ بْنُ كَعْبٍ يَبْكِيَانِ فَزَوّدَهُمَا ، وَحَمَلَهُمَا ، فَلَحِقَا بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .

أَبُو رُهْمٍ فِي تَبُوكَ
[ ص 305 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَذَكَرَ ابْنُ شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، عَنْ ابْنِ أُكَيْمَةَ اللّيْثِيّ عَنْ ابْنِ أَخِي أَبِي رُهْمٍ الْغِفَارِيّ أَنّهُ سَمِعَ أَبَا رُهْمٍ كُلْثُومَ بْنَ الْحُصَيْنِ وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَ الشّجَرَةِ ، يَقُولُ غَزَوْت مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ غَزْوَةَ تَبُوكَ ، فَسِرْت ذَاتَ لَيْلَةٍ مَعَهُ وَنَحْنُ بِالْأَخْضَرِ قَرِيبًا مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَلْقَى اللّهُ عَلَيْنَا النّعَاسَ فَطَفِقْت أَسْتَيْقِظُ وَقَدْ دَنَتْ رَاحِلَتِي مِنْ رَاحِلَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَيُفْزِعُنِي دُنُوّهَا مِنْهُ مَخَافَةَ أَنْ أُصِيبَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ فَطَفِقْت أَحُوزُ رَاحِلَتِي عَنْهُ حَتّى غَلَبَتْنِي عَيْنِي فِي بَعْضِ الطّرِيقِ وَنَحْنُ فِي بَعْضِ اللّيْلِ فَزَاحَمَتْ رَاحِلَتِي رَاحِلَةَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرِجْلُهُ فِي الْغَرْزِ فَمَا اسْتَيْقَظْت إلّا بِقَوْلِهِ " حَسّ " ، فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ اسْتَغْفِرْ لِي . فَقَالَ " سِرْ " ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَسْأَلُنِي عَمّنْ تَخَلّفَ عَنْ بَنِي غِفَارٍ ، فَأُخْبِرُهُ بِهِ فَقَالَ وَهُوَ يَسْأَلُنِي : " مَا فَعَلَ النّفَرُ الْحُمْرُ الطّوَالُ الثّطَاطُ " . فَحَدّثْته بِتَخَلّفِهِمْ . قَالَ " فَمَا فَعَلَ النّفَرُ السّودُ الْجِعَادُ الْقِصَارُ ؟ " قَالَ قُلْت : وَاَللّهِ مَا أَعْرِفُ هَؤُلَاءِ مِنّا . قَالَ " بَلَى الّذِينَ لَهُمْ نَعَمٌ بِشَبَكَةِ شَدَخٍ فَتَذَكّرْتهمْ فِي بَنِي غِفَارٍ ، وَلَمْ أَذْكُرْهُمْ حَتّى ذَكَرْت أَنّهُمْ رَهْطٌ مِنْ أَسْلَم كَانُوا حُلَفَاءَ فِينَا " ، فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ أُولَئِكَ رَهْطٌ مِنْ أَسْلَمَ ، حُلَفَاءُ فِينَا ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " مَا مَنَعَ أَحَدَ أُولَئِكَ حِينَ تَخَلّفَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَى بَعِيرٍ مِنْ إبِلِهِ امْرَأً نَشِيطًا فِي سَبِيلِ اللّهِ ؟ إنّ أَعَزّ أَهْلِي عَلَيّ أَنْ يَتَخَلّفَ عَنّي الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارُ وَغِفَارٌ وَأَسْلَمُ
Sمَعْنَى كَلِمَةِ حَسّ
[ ص 305 ] أَبِي رُهْمٍ أَصَابَتْ رِجْلِي رِجْلَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرِجْلُهُ فِي الْغَرْزِ فَمَا اسْتَيْقَظْت إلّا بِقَوْلِهِ " حَسّ " . الْغَرْزُ لِلرّحْلِ كَالرّكَابِ لِلسّرْجِ " ، وَحَسّ كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ عِنْدَ وُجُودِ الْأَلَمِ وَفِي الْحَدِيثِ أَنّ طَلْحَةَ لَمّا أُصِيبَتْ يَدُهُ يَوْمَ أُحُدٍ ، قَالَ حَسّ فَقَالَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَوْ أَنّهُ قَالَ بِسْمِ اللّهِ يَعْنِي مَكَانَ حَسّ لَدَخَلَ الْجَنّةَ وَالنّاسُ يَنْظُرُونَ أَوْ كَلَامًا هَذَا مَعْنَاهُ وَلَيْسَتْ حَسّ بِاسْمٍ وَلَا بِفِعْلٍ إنّهَا لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنْ الْإِعْرَابِ وَلَيْسَتْ بِمَنْزِلَةِ صَهْ وَمَهْ وَرُوَيْدٍ لِأَنّ تِلْكَ أَسْمَاءٌ سُمّيَ الْفِعْلُ بِهَا وَإِنّمَا حَسّ صَوْتٌ كَالْأَنِينِ الّذِي يُخْرِجُهُ الْمُتَأَلّمُ نَحْوَ آهْ وَنَحْوِ قَوْلِ الْغُرَابِ غَلَقِ وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ فِي أُفّ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنْ تَكُونَ مِنْ بَابِ الْأَصْوَاتِ مَبْنِيّةً كَأَنّهُ يُحْكَى بِهَا صَوْتُ النّفْخِ وَالثّانِي أَنْ تَكُونَ مُعْرَبَةً مِثْلُ تَبّا يُرَادُ بِهِ الْوَسَخُ . وَقَوْلُهُ السّودُ الثّطَاطُ جَمْعُ : ثَطّ وَهُوَ الّذِي لَا لِحْيَةَ لَهُ . قَالَ الشّاعِرُ كَهَامَةِ الشّيْخِ الْيَمَانِيّ الثّطّ
[ ص 306 ] وَأَحْسَبُهُ تَصْحِيفًا . وَقَوْلُهُ شَبَكَةَ شَدَخٍ مَوْضِعٌ مِنْ بِلَادِ غِفَارٍ .

أَمْرُ مَسْجِدِ الضّرَارِ عِنْدَ الْقُفُولِ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ
[ ص 306 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ أَقْبَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى نَزَلَ بِذِي أَوَانٍ ، بَلَدٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ وَكَانَ أَصْحَابُ مَسْجِدِ الضّرَارِ قَدْ كَانُوا أَتَوْهُ وَهُوَ يَتَجَهّزُ إلَى تَبُوكَ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّا قَدْ بَنَيْنَا مَسْجِدًا لِذِي الْعِلّةِ وَالْحَاجَةِ وَاللّيْلَةِ الْمَطِيرَةِ وَاللّيْلَةِ الشّاتِيَةِ وَإِنّا نُحِبّ أَنْ تَأْتِيَنَا ، فَتُصَلّيَ لَنَا فِيهِ فَقَالَ " إنّي عَلَى جَنَاحِ سَفَرٍ وَحَالِ شُغْلٍ أَوْ كَمَا قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَوْ قَدْ قَدِمْنَا إنْ شَاءَ اللّهُ لَأَتَيْنَاكُمْ فَصَلّيْنَا لَكُمْ فِيه فَلَمّا نَزَلَ بِذِي أَوَانٍ ، أَتَاهُ خَبَرُ الْمَسْجِدِ فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَالِكَ بْنَ الدّخْشُمِ أَخَا بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ ، وَمَعْنَ بْنَ عَدِيّ أَوْ أَخَاهُ عَاصِمَ بْنَ عَدِيّ ، أَخَا بَنِي الْعَجْلَانِ فَقَالَ انْطَلِقَا إلَى هَذَا الْمَسْجِدِ الظّالِمِ أَهْلُهُ فَاهْدِمَاهُ وَحَرّقَاهُ فَخَرَجَا سَرِيعَيْنِ حَتّى أَتَيَا بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ ، وَهُمْ رَهْطُ مَالِكِ بْنِ الدّخْشُمِ ، فَقَالَ مَالِكٌ لِمَعْنٍ أَنْظِرْنِي حَتّى أَخْرُجَ إلَيْك بِنَارٍ مِنْ أَهْلِي . فَدَخَلَ إلَى أَهْلِهِ فَأَخَذَ سَعَفًا مِنْ النّخْلِ فَأَشْعَلَ فِيهِ نَارًا ، ثُمّ خَرَجَا يَشْتَدّانِ حَتّى دَخَلَاهُ وَفِيهِ أَهْلُهُ فَحَرّقَاهُ وَهَدَمَاهُ وَتَفَرّقُوا مَعَهُ عَنْهُ وَنَزَلَ فِيهِمْ مِنْ الْقُرْآنِ مَا نَزَلَ { وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ } إلَى آخِرِ الْقِصّةِ . [ ص 307 ] بَنِي عُبَيْدِ بْنِ زَيْدٍ ، أَحَدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْف ٍ وَمِنْ دَارِهِ أُخْرِجَ مَسْجِدُ الشّقَاقِ ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ مِنْ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ زَيْدٍ ، وَمُعَتّبُ بْنُ قُشَيْرٍ ، مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ بْنِ زَيْدٍ ، وَأَبُو حَبِيبَةَ بْنُ الْأَزْعَرِ مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ بْنِ زَيْدٍ ، وَعَبّادُ بْنُ حُنَيْفٍ أَخُو سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ ، مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْف ٍ وَجَارِيَةُ بْنُ عَامِرٍ وَابْنَاهُ مُجَمّعُ بْنُ جَارِيَةَ ، وَزَيْدُ بْنُ جَارِيَةَ وَنَبْتَلُ بْنُ الْحَارِثِ مِنْ ضُبَيْعَةَ ، وَبَحْزَجٌ مِنْ بَنِي ضُبَيْعَة َ وَبِجَادُ بْنُ عُثْمَانَ مِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ ، وَوَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَهُوَ مِنْ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ زَيْدٍ رَهْطِ أَبِي لُبَابَةَ بْنِ الْمُنْذِرِ . وَكَانَتْ مَسَاجِدُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ إلَى تَبُوكَ مَعْلُومَةً مُسَمّاةً مَسْجِدٌ بِتَبُوكَ ، وَمَسْجِدٌ بِثَنِيّةِ مِدْرَانَ ، وَمَسْجِدٌ بِذَاتِ الزّرَابِ وَمَسْجِدٌ بِالْأَخْضَرِ وَمَسْجِدٌ بِذَاتِ الْخِطْمِيّ وَمَسْجِدٌ بِأَلَاءَ وَمَسْجِدٌ بِطَرَفِ الْبَتْرَاءِ ، مِنْ ذَنَبِ كَوَاكِبَ وَمَسْجِدٌ بِالشّقّ ، شِقّ تَارَا ، وَمَسْجِدٌ بِذِي الْجِيفَةِ ، وَمَسْجِدٌ بِصَدْرِ حَوْضَى ، وَمَسْجِدٌ بِالْحِجْرِ وَمَسْجِدٌ بِالصّعِيدِ ، وَمَسْجِدٌ بِالْوَادِي ، الْيَوْمَ وَادِي الْقُرَى . وَمَسْجِدٌ بِالرّقْعَةِ مِنْ الشّقّةِ شِقّةِ بَنِي عُذْرَةَ ، وَمَسْجِدٌ بِذِي الْمَرْوَةِ ، وَمَسْجِدٌ بِالْفَيْفَاءِ ، وَمَسْجِدٌ بِذِي خُشُبٍ .
Sأَصْحَابُ مَسْجِدِ الضّرَارِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ الْمُنَافِقِينَ الّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا . وَذَكَرَ فِيهِمْ جَارِيَةَ بْنَ عَامِرٍ وَكَانَ يُعْرَفُ بِحِمَارِ الدّارِ وَهُوَ جَارِيَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ مُجَمّعِ بْنِ الْعَطّافِ . وَذَكَرَ فِيهِمْ ابْنَهُ مُجَمّعًا ، وَكَانَ إذْ ذَاكَ غُلَامًا حَدَثًا قَدْ جَمَعَ الْقُرْآنَ فَقَدّمُوهُ إمَامًا لَهُمْ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِشَيْءٍ مِنْ شَأْنِهِمْ وَقَدْ ذُكِرَ أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ فِي أَيّامِهِ أَرَادَ عَزْلَهُ عَنْ الْإِمَامَةِ وَقَالَ أَلَيْسَ بِإِمَامِ مَسْجِدِ الضّرَارِ ، فَأَقْسَمَ لَهُ مُجَمّعٌ أَنّهُ مَا عَلِمَ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَا ظَنّ إلّا الْخَيْرَ فَصَدّقَهُ عُمَرُ وَأَقَرّهُ وَكَانَتْ مَسَاجِدُ الْمَدِينَةِ تِسْعَةً سِوَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كُلّهُمْ يُصَلّونَ بِأَذَانِ بِلَالٍ كَذَلِكَ قَالَ بُكَيْرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْأَشَجّ فِيمَا رَوَى عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ فِي مَرَاسِيلِهِ ، والدّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنِهِ ، فَمِنْهَا مَسْجِدُ رَاتِجٍ ، وَمَسْجِدُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ وَمَسْجِدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ مَبْذُولٍ ، وَمَسْجِدُ جُهَيْنَةَ وَأَسْلَمَ ، وَأَحْسَبُهُ قَالَ وَمَسْجِدُ بَنِي سَلِمَةَ ، [ ص 307 ] وَسَائِرُهَا مَذْكُورٌ فِي السّنَنِ وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي الْمَسَاجِدِ الّتِي فِي الطّرِيقِ مَسْجِدًا بِذِي الْخِيفَةِ كَذَا وَقَعَ فِي كِتَابِ أَبِي بَحْرٍ بِالْخَاءِ مُعْجَمَةً وَوَقَعَ الْجِيفَةِ بِالْجِيمِ فِي كِتَابٍ قُرِئَ عَلَى ابْنِ أَبِي سِرَاجٍ وَابْنِ الْإِقْلِيلِيّ وَأَحْمَدَ بْنِ خَالِدٍ .

أَمْرُ الثّلَاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا وَأَمْرُ الْمُعَذّرِينَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ
وَقَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ ، وَقَدْ كَانَ تَخَلّفَ عَنْهُ رَهْطٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَتَخَلّفَ أُولَئِكَ الرّهْطُ الثّلَاثَةُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ شَكّ وَلَا نِفَاقٍ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ، وَمُرَارَةُ بْنُ [ ص 308 ] وَهِلَالُ بْنُ أُمَيّةَ ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأَصْحَابِهِ لَا تُكَلّمُنّ أَحَدًا مِنْ هَؤُلَاءِ الثّلَاثَة وَأَتَاهُ مَنْ تَخَلّفَ عَنْهُ مِنْ الْمُنَافِقِينَ فَجَعَلُوا يَحْلِفُونَ لَهُ وَيَعْتَذِرُونَ فَصَفَحَ عَنْهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَمْ يَعْذِرْهُمْ اللّهُ وَلَا رَسُولُهُ . وَاعْتَزَلَ الْمُسْلِمُونَ كَلَامَ أُولَئِكَ النّفَرِ الثّلَاثَةِ .
Sعَنْ الثّلَاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا
فَصْلٌ وَذَكَرَ الثّلَاثَةَ الّذِينَ خُلّفُوا ، وَنَهْيَ النّاسِ عَنْ كَلَامِهِمْ وَإِنّمَا اشْتَدّ غَضَبُهُ عَلَى مَنْ تَخَلّفَ عَنْهُ وَنَزَلَ فِيهِمْ مِنْ الْوَعِيدِ مَا نَزَلَ حَتّى تَابَ اللّهُ عَلَى الثّلَاثَةِ مِنْهُمْ وَإِنْ كَانَ الْجِهَادُ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ لَا مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ لَكِنّهُ فِي حَقّ الْأَنْصَارِ كَانَ فَرْضَ عَيْنٍ وَعَلَيْهِ بَايَعُوا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ ، وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ نَحْنُ الّذِينَ بَايَعُوا مُحَمّدًا عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا
[ ص 308 ] كَانَ تَخَلّفُهُمْ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي هَذِهِ الْغَزَاةِ كَبِيرَةً لِأَنّهَا كَالنّكْثِ لِبَيْعَتِهِمْ كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ بَطّالٍ رَحِمَهُ اللّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَا أَعْرِفُ لَهَا وَجْهًا غَيْرَ الّذِي قَالَ وَأَمّا [ ص 309 ] كَعْبُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي كَعْبٍ ، وَاسْمُ أَبِي كَعْبٍ عَمْرُو بْنُ الْقَيْنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَوَادِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلِمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَسَدِ بْنِ سَارِدَةَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ الْأَنْصَارِيّ السّلَمِيّ ، يُكَنّى : أَبَا عَبْدِ اللّهِ وَقِيلَ أَبَا عَبْدِ الرّحْمَنِ [ وَقِيلَ أَبَا بَشِيرٍ ] أُمّهُ لَيْلَى بِنْتُ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ أَيْضًا ، وَهِلَالُ بْنُ أُمَيّةَ ، وَهُوَ مِنْ بَنِي وَاقِفٍ وَمُرَارَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَيُقَالُ ابْنُ الرّبِيعِ الْعُمَرِيّ الْأَنْصَارِيّ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْف ٍ .

حَدِيثُ كَعْبٍ عَنْ التّخَلّفِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَذَكَرَ الزّهْرِيّ مُحَمّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ : أَنّ أَبَاهُ عَبْدَ اللّهِ وَكَانَ قَائِدَ أَبِيهِ حِينَ أُصِيبَ بَصَرُهُ قَالَ سَمِعْت أَبِي كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدّثُ حَدِيثَهُ حِينَ تَخَلّفَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ، وَحَدِيثَ صَاحِبَيْهِ قَالَ مَا تَخَلّفْت عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَطّ ، غَيْرَ أَنّي كُنْت قَدْ تَخَلّفْت عَنْهُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَكَانَتْ غَزْوَةً لَمْ يُعَاتِبْ اللّهُ وَلَا رَسُولُهُ أَحَدًا تَخَلّفَ عَنْهَا ، وَذَلِكَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّمَا خَرَجَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ ، حَتّى جَمَعَ اللّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوّهِ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ وَلَقَدْ شَهِدْت مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَقَبَةَ ، وَحِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَى الْإِسْلَامِ وَمَا أُحِبّ أَنّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ وَإِنْ كَانَتْ غَزْوَةُ بَدْرٍ هِيَ أَذْكَرَ فِي النّاسِ مِنْهَا . قَالَ كَانَ مِنْ خَبَرِي حِينَ تَخَلّفْت عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَنّي لَمْ أَكُنْ قَطّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنّي حِينَ تَخَلّفْت عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ وَ وَاَللّهِ مَا اجْتَمَعَتْ لِي رَاحِلَتَانِ قَطّ حَتّى اجْتَمَعَتَا فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَلّمَا يُرِيدُ غَزْوَةً يَغْزُوهَا إلّا وَرّى بِغَيْرِهَا ، حَتّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ فَغَزَاهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حَرّ شَدِيدٍ وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا ، وَاسْتَقْبَلَ غَزْوَ عَدُوّ كَثِيرٍ فَجَلّى لِلنّاسِ أَمْرَهُمْ لِيَتَأَهّبُوا لِذَلِكَ أُهْبَتَهُ وَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَهُ بِوَجْهِهِ الّذِي يُرِيدُ وَالْمُسْلِمُونَ مِنْ تَبَعِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَثِيرٌ لَا يَجْمَعُهُمْ كِتَابٌ حَافِظٌ يَعْنِي بِذَلِكَ الدّيوَانَ يَقُولُ لَا يَجْمَعُهُمْ دِيوَانٌ مَكْتُوبٌ . قَالَ كَعْبٌ فَقَلّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيّبَ إلّا ظَنّ أَنّهُ سَيَخْفَى لَهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ مِنْ اللّهِ وَغَزَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتْ الثّمَارُ وَأُحِبّتْ الظّلَالُ فَالنّاسُ إلَيْهَا صُعْرٌ فَتَجَهّزَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَجَهّزَ الْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَجَعَلْت أَغْدُو لِأَتَجَهّزَ مَعَهُمْ فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ حَاجَةً فَأَقُولُ فِي نَفْسِي ، أَنَا قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ إذَا أَرَدْت ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي حَتّى شَمّرَ النّاسُ بِالْجِدّ فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ غَادِيًا ، وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جِهَازِي شَيْئًا ، فَقُلْت : أَتَجَهّزُ بَعْدَهُ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمّ أَلْحَقُ بِهِمْ فَغَدَوْت [ ص 309 ] فَصَلُوا لِأَتَجَهّزَ فَرَجَعْت وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا ، ثُمّ غَدَوْت فَرَجَعْت وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي حَتّى أَسْرَعُوا ، وَتَفَرّطَ الْغَزْوُ فَهَمَمْت أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ وَلَيْتَنِي فَعَلْت ، فَلَمْ أَفْعَلْ وَجَعَلْت إذَا خَرَجْت فِي النّاسِ بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ، فَطُفْت فِيهِمْ يُحْزِنُنِي أَنّي لَا أَرَى إلّا رَجُلًا مَغْمُوصًا عَلَيْهِ فِي النّفَاقِ أَوْ رَجُلًا مِمّنْ عَذَرَ اللّهُ مِنْ الضّعَفَاءِ وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى بَلَغَ تَبُوكَ ، فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ يَا رَسُولَ اللّهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَالنّظَرُ فِي عِطْفَيْهِ فَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ : بِئْسَ مَا قُلْت وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا عَلِمْنَا مِنْهُ إلّا خَيْرًا ؛ فَسَكَتَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . فَلَمّا بَلَغَنِي أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ تَوَجّهَ قَافِلًا مِنْ تَبُوكَ ، حَضَرَنِي بَثّي ، فَجَعَلْت أَتَذَكّرُ الْكَذِبَ وَأَقُولُ بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سَخْطَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ غَدًا وَأَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ كُلّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي ؛ فَلَمّا قِيلَ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ أَظَلّ قَادِمًا زَاحَ عَنّي الْبَاطِلُ وَعَرَفْت أَنّي لَا أَنْجُو مِنْهُ إلّا بِالصّدْقِ فَأَجْمَعْت أَنْ أَصْدُقَهُ وَصَبّحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ ، وَكَانَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ ، فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمّ جَلَسَ لِلنّاسِ فَلَمّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلّفُونَ فَجَعَلُوا يَحْلِفُونَ لَهُ وَيَعْتَذِرُونَ وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا ، فَيَقْبَلُ مِنْهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَانِيَتَهُمْ وَأَيْمَانَهُمْ وَيَسْتَغْفِرُ لَهُمْ وَيَكِلُ سَرَائِرَهُمْ إلَى اللّهِ تَعَالَى ، حَتّى جِئْت فَسَلّمْت عَلَيْهِ فَتَبَسّمَ تَبَسّمَ الْمُغْضَبِ ثُمّ قَالَ لِي : " تَعَالَهُ " ، فَجِئْت أَمْشِي ، حَتّى جَلَسْت بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ لِي : مَا خَلّفَك ؟ أَلَمْ تَكُنْ ابْتَعْت ظَهْرَك ؟ " قَالَ قُلْت : إنّي يَا رَسُولَ اللّهِ وَاَللّهِ لَوْ جَلَسْت عِنْدَ غَيْرِك مِنْ أَهْلِ الدّنْيَا ، لَرَأَيْت أَنّي سَأَخْرُجُ مِنْ سُخْطِهِ بِعُذْرٍ وَلَقَدْ أُعْطِيت جَدَلًا ، لَكِنْ وَاَللّهِ لَقَدْ عَلِمْت لَئِنْ حَدّثْتُك الْيَوْمَ حَدِيثًا كَذِبًا لَتَرْضَيَنّ عَنّي ، وَلَيُوشِكَنّ اللّهُ أَنْ يُسْخِطَك عَلَيّ وَلَئِنْ حَدّثْتُك حَدِيثًا صِدْقًا تَجِدُ عَلَيّ فِيهِ إنّي لَأَرْجُو عُقْبَايَ مِنْ اللّهِ فِيهِ وَلَا وَاَللّهِ مَا كَانَ لِي عُذْرٌ وَاَللّهِ مَا كُنْت قَطّ أَقْوَى وَلَا أَيْسَرَ مِنّي حِينَ تَخَلّفْت عَنْك . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أَمّا هَذَا فَقَدْ صُدِقْت فِيهِ ، فَقُمْ حَتّى يَقْضِيَ اللّهُ فِيك فَقُمْت ، وَثَارَ مَعِي رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ ، فَاتّبَعُونِي فَقَالُوا لِي : وَاَللّهِ مَا عَلِمْنَاك كُنْت أَذْنَبْت ذَنْبًا قَبْلَ هَذَا ، وَلَقَدْ عَجَزْت أَنْ لَا تَكُونَ اعْتَذَرْت إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَا [ ص 310 ] كَانَ كَافِيَك ذَنْبَك اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَك ، فَوَاَللّهِ مَا زَالُوا بِي حَتّى أَرَدْت أَنْ أَرْجِعَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأُكَذّبَ نَفْسِي ، ثُمّ قُلْت لَهُمْ هَلْ لَقِيَ هَذَا أَحَدٌ غَيْرِي ؟ قَالُوا : نَعَمْ رَجُلَانِ قَالَا مِثْلَ مَقَالَتِك ، وَقِيلَ لَهُمَا مِثْلَ مَا قِيلَ لَك ؛ قُلْت : مَنْ هُمَا ؟ قَالُوا : مُرَارَةُ بْنُ الرّبِيعِ الْعَمْرِيّ ، مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ، وَهِلَالُ بْنُ ( أَبِي ) أُمَيّةَ الْوَاقِفِيّ ؛ فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ فِيهِمَا أُسْوَةٌ فَصُمْت حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي ، وَنَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ كَلَامِنَا أَيّهَا الثّلَاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلّفَ عَنْهُ فَاجْتَنَبَنَا النّاسُ وَتَغَيّرُوا لَنَا ، حَتّى تَنَكّرَتْ لِي نَفْسِي وَالْأَرْضُ فَمَا هِيَ بِالْأَرْضِ الّتِي كُنْت أَعْرِفُ فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً فَأَمّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا ، وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا ، وَأَمّا أَنَا فَكُنْت أَشَبّ الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ فَكُنْت أَخْرُجُ وَأَشْهَدُ الصّلَوَاتِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَأَطُوفُ بِالْأَسْوَاقِ وَلَا يُكَلّمُنِي أَحَدٌ ، وَآتِي رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأُسَلّمُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصّلَاةِ فَأَقُولُ فِي نَفْسِي ، هَلْ حَرّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدّ السّلَامِ عَلَيّ أَمْ لَا ؟ ثُمّ أُصَلّي قَرِيبًا مِنْهُ فَأُسَارِقُهُ النّظَرَ فَإِذَا أَقْبَلْت عَلَى صَلَاتِي نَظَرَ إلَيّ وَإِذَا الْتَفَتّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنّي ، حَتّى إذَا طَالَ ذَلِكَ عَلَيّ مِنْ جَفْوَةِ الْمُسْلِمِينَ مَشَيْت حَتّى كَوّرْت جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ . وَهُوَ ابْنُ عَمّي ، وَأَحَبّ النّاسِ إلَيّ فَسَلّمْت عَلَيْهِ فَوَاَللّهِ مَا رَدّ عَلَيّ السّلَامَ فَقُلْت : يَا أَبَا قَتَادَةَ ، أَنْشُدُك بِاَللّهِ هَلْ تَعْلَمُ أَنّي أُحِبّ اللّهَ وَرَسُولَهُ ؟ فَسَكَتَ . فَعُدْت فَنَاشَدْته ، فَسَكَتَ عَنّي ، فَعُدْت فَنَاشَدْته فَسَكَتَ عَنّي ، فَعُدْت فَنَاشَدْته ، فَقَالَ اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ فَفَاضَتْ عَيْنَايَ وَوَثَبْت فَتَسَوّرْت الْحَائِطَ ، ثُمّ غَدَوْت إلَى السّوقِ فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي بِالسّوقِ إذَا نَبَطِيّ يَسْأَلُ عَنّي مِنْ نَبَطِ الشّامِ ، مِمّا قَدِمَ بِالطّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُ مَنْ يَدُلّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ؟ قَالَ فَجَعَلَ النّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إلَيّ حَتّى جَاءَنِي ، فَدَفَعَ إلَيّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسّانَ ، وَكَتَبَ كِتَابًا فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ فَإِذَا فِيهِ أَمّا بَعْدُ فَإِنّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنّ صَاحِبَك قَدْ جَفَاك ، وَلَمْ يَجْعَلْك اللّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِك . قَالَ قُلْت حِينَ قَرَأْتهَا : وَهَذَا مِنْ الْبَلَاءِ أَيْضًا ، قَدْ بَلَغَ بِي مَا وَقَعْت فِيهِ أَنْ طَمِعَ فِيّ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشّرْكِ . قَالَ فَعَمَدْت بِهَا إلَى تَنّورٍ فَسَجَرْته بِهَا . فَأَقَمْنَا عَلَى ذَلِكَ حَتّى إذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً مِنْ الْخَمْسِينَ إذَا رَسُولُ رَسُولِ اللّهِ يَأْتِينِي ، فَقَالَ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَأْمُرُك أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَك ، قَالَ قُلْت : أُطَلّقُهَا أَمْ مَاذَا ؟ قَالَ لَا ، بَلْ اعْتَزِلْهَا وَلَا تَقْرَبْهَا ، وَأَرْسَلَ إلَى صَاحِبَيّ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَقُلْت لِامْرَأَتِي : الْحَقِي بِأَهْلِك ، [ ص 311 ] قَالَ وَجَاءَتْ امْرَأَةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيّةَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ هِلَالَ بْنَ أُمَيّةَ شَيْخٌ كَبِيرٌ ضَائِعٌ لَا خَادِمَ لَهُ أَفَتَكْرَهُ أَنْ أَخْدُمَهُ ؟ قَالَ " لَا ، وَلَكِنْ لَا يَقْرَبَنّكِ " ؛ قَالَتْ وَاَللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا بِهِ مِنْ حَرَكَةٍ إلَيّ وَاَللّهِ مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إلَى يَوْمِهِ هَذَا ، وَلَقَدْ تَخَوّفْت عَلَى بَصَرِهِ . قَالَ فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي : لَوْ اسْتَأْذَنْت رَسُولَ اللّهِ لِامْرَأَتِك ، فَقَدْ أَذِنَ لِامْرَأَةِ هِلَالِ بْنِ أُمَيّةَ أَنْ تَخْدُمَهُ قَالَ فَقُلْت : وَاَللّهِ لَا أَسْتَأْذِنُهُ فِيهَا ، مَا أَدْرِي مَا يَقُولُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِي فِي ذَلِكَ إذَا اسْتَأْذَنْته فِيهَا ، وَأَنَا رَجُلٌ شَابّ ، قَالَ فَلَبِثْنَا بَعْدَ ذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ فَكَمَلَ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينِ نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلَامِنَا ، ثُمّ صَلّيْت الصّبْحَ صُبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا ، عَلَى الْحَالِ الّذِي ذَكَرَ اللّهُ مِنّا ، قَدْ ضَاقَتْ عَلَيْنَا الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيّ نَفْسِي ، وَقَدْ كُنْت ابْتَنَيْت خَيْمَةً فِي ظَهْرِ مَبْلَغٍ فَكُنْت أَكُونُ فِيهَا إذْ سَمِعْت صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَيّ فَهُوَ سَلْعٌ يَقُولُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ ، أَبْشِرْ قَالَ فَخَرَرْت سَاجِدًا ، وَعَرَفْت أَنْ قَدْ جَاءَ الْفَرَجُ . قَالَ وَآذَنَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّاسَ بِتَوْبَةِ اللّهِ عَلَيْنَا حِينَ صَلّى الْفَجْرَ فَذَهَبَ النّاسُ يُبَشّرُونَنَا ، وَذَهَبَ نَحْوَ صَاحِبَيّ مُبَشّرُونَ وَرَكَضَ رَجُلٌ إلَيّ فَرَسًا . وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ ، حَتّى أَوْفَى عَلَى الْجَبَلِ فَكَانَ الصّوْتُ أَسْرَعَ مِنْ الْفَرَسِ ، فَلَمّا جَاءَنِي الّذِي سَمِعْت صَوْتَهُ يُبَشّرُنِي ، نَزَعْت ثَوْبِي ، فَكَسَوْتهمَا إيّاهُ بِشَارَةً وَاَللّهِ مَا أَمْلِكُ يَوْمَئِذٍ غَيْرَهُمَا ، وَاسْتَعَرْت ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتهمَا ، ثُمّ انْطَلَقْت أَتَيَمّمُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَلَقّانِي النّاسُ يُبَشّرُونَنِي بِالتّوْبَةِ يَقُولُونَ لِيَهْنِكَ تَوْبَةُ اللّهِ عَلَيْك ، حَتّى دَخَلْت الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَالِسٌ حَوْلَهُ النّاسُ فَقَامَ إلَيّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ ، فَحَيّانِي وَهَنّانِي ، وَ وَاَللّهِ مَا قَامَ إلَيّ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ . قَالَ فَكَانَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ لَا يَنْسَاهَا لِطَلْحَةِ . [ ص 312 ] قَالَ كَعْبٌ فَلَمّا سَلّمْت عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِي ، وَوَجْهُهُ يُبْرِقُ مِنْ السّرُورِ أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرّ عَلَيْك مُنْذُ وَلَدَتْك أُمّك " ، قَالَ قُلْت : أَمِنْ عِنْدِك يَا رَسُولَ اللّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ؟ قَالَ " بَلْ مِنْ عِنْدِ اللّهِ . قَالَ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا اسْتَبْشَرَ كَانَ وَجْهُهُ قِطْعَةَ قَمَرٍ . قَالَ وَكُنّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ . قَالَ فَلَمّا جَلَسْت بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ مِنْ تَوْبَتِي إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي ، صَدَقَةً إلَى اللّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمْسِكْ عَلَيْك بَعْضَ مَالِك ، فَهُوَ خَيْرٌ لَك " . قَالَ قُلْت : إنّي مُمْسِكٌ سَهْمِي الّذِي بِخَيْبَرِ وَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ اللّهَ قَدْ نَجّانِي بِالصّدْقِ وَإِنّ مِنْ تَوْبَتِي إلَى اللّهِ أَنْ لَا أُحَدّثَ إلّا صِدْقًا مَا حَيِيت وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ النّاسِ أَبْلَاهُ اللّهُ فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْت لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَلِكَ أَفْضَلَ مِمّا أَبْلَانِي اللّهُ وَاَللّهِ مَا تَعَمّدْت مِنْ كِذْبَةٍ مُنْذُ ذَكَرْت ذَلِكَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى يَوْمِي هَذَا ، وَإِنّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللّهُ فِيمَا بَقِيَ . وَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : { لَقَدْ تَابَ اللّهُ عَلَى النّبِيّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثّلَاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا } إلَى قَوْلِهِ { وَكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ } [ التّوْبَةَ 117 - 119 ] . قَالَ كَعْبٌ فَوَاَللّهِ مَا أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيّ نِعْمَةً قَطّ بَعْدَ أَنْ هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ كَانَتْ أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَئِذٍ أَنْ لَا أَكُونَ كَذَبْته ، فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الّذِينَ كَذَبُوا ، فَإِنّ اللّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ فِي الّذِينَ كَذَبُوهُ حِينَ أُنْزِلَ الْوَحْيُ شَرّ مَا قَالَ لِأَحَدٍ قَالَ { سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنّ اللّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } [ التّوْبَةَ 95 ، 96 ] . [ ص 313 ] { وَعَلَى الثّلَاثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا } وَلَيْسَ الّذِي ذَكَرَ اللّهُ مِنْ تَخْلِيفِنَا لِتَخَلّفِنَا عَنْ الْغَزْوَةِ وَلَكِنْ لِتَخْلِيفِهِ إيّانَا ، وَإِرْجَائِهِ أَمْرَنَا عَمّنْ حَلَفَ لَهُ وَاعْتَذَرَ إلَيْهِ فَقَبِلَ مِنْهُ .
Sزَاحَ عَنّي الْبَاطِلُ
[ ص 310 ] وَذَكَرَ قَوْلَ كَعْبٍ زَاحَ عَنّي الْبَاطِلُ يُقَال : زَاحَ وَانْزَاحَ إذَا ذَهَبَ وَالْمَصْدَرُ زُيُوحًا وَزَيَحَانًا ، إحْدَاهُمَا عَنْ الْأَصْمَعِيّ ، وَالْأُخْرَى عَنْ الْكِسَائِيّ . [ ص 311 ] طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ يُهَنّئُنِي ، فَكَانَ كَعْبٌ يَرَاهَا لَهُ فِيهِ جَوَازُ السّرُورِ بِالْقِيَامِ إلَى الرّجُلِ كَمَا سُرّ كَعْبٌ بِقِيَامِ طَلْحَةَ إلَيْهِ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي خَبَرِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ : قُومُوا إلَى سَيّدِكُمْ وَقَامَ هُوَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى قَوْمٍ مِنْهُمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ وَإِلَى عَدِيّ بْنِ حَاتِمٍ ، وَإِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ مِنْ مَكّةَ وَغَيْرِهِمْ وَلَيْسَ هَذَا بِمُعَارِضٍ لِحَدِيثِ مُعَاوِيَةَ عَنْهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنّهُ قَالَ مَنْ سَرّهُ أَنْ يَمْثُلَ لَهُ الرّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النّارِ [ ص 312 ] يُقَامَ لَهُ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ السّلَفِ يُقَامُ إلَى الْوَالِدِ بِرّا بِهِ وَإِلَى الْوَلَدِ سُرُورًا بِهِ وَصَدَقَ هَذَا الْقَائِلُ فَإِنّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا كَانَتْ تَقُومُ إلَى أَبِيهَا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِرّا بِهِ وَكَانَ هُوَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُومُ إلَيْهَا سُرُورًا بِهَا رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا ، وَكَذَلِك كُلّ قِيَامٍ أَثْمَرَهُ الْحُبّ فِي اللّهِ وَالسّرُورُ بِأَخِيك بِنِعْمَةِ اللّهِ وَالْبِرّ بِمَنْ يُحِبّ بِرّهُ فِي اللّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، فَإِنّهُ خَارِجٌ عَنْ حَدِيثِ النّهْيِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

أَمْرُ وَفْدِ ثَقِيفٍ وَإِسْلَامُهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ تِسْعٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ مِنْ تَبُوكَ فِي رَمَضَانَ وَقَدِمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الشّهْرِ وَفْدُ ثَقِيفٍ . وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهِمْ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا انْصَرَفَ عَنْهُمْ اتّبَعَ أَثَرَهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثّقَفِيّ ، حَتّى أَدْرَكَهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْمَدِينَةِ ، فَأَسْلَمَ وَسَأَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى قَوْمِهِ بِالْإِسْلَامِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَمَا يَتَحَدّثُ قَوْمُهُ إنّهُمْ قَاتِلُوك وَعَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ فِيهِمْ نَخْوَةَ الِامْتِنَاعِ الّذِي كَانَ مِنْهُمْ فَقَالَ عُرْوَةُ يَا رَسُولَ اللّهِ أَنَا أَحَبّ إلَيْهِمْ مِنْ أَبْكَارِهِمْ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ مِنْ أَبْصَارِهِمْ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ فِيهِمْ كَذَلِكَ مُحَبّبًا مُطَاعًا ، فَخَرَجَ يَدْعُو قَوْمَهُ إلَى الْإِسْلَامِ رَجَاءَ أَنْ لَا يُخَالِفُوهُ لِمَنْزِلَتِهِ فِيهِمْ فَلَمّا أَشْرَفَ لَهُمْ عَلَى عِلّيّةٍ لَهُ وَقَدْ دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ وَأَظْهَرَ لَهُمْ دِينَهُ رَمَوْهُ بِالنّبْلِ مِنْ كُلّ وَجْهٍ فَأَصَابَهُ سَهْمٌ فَقَتَلَهُ . فَتَزْعُمُ بَنُو مَالِكٍ أَنّهُ قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أَوْسُ بْنُ عَوْفٍ ، أَخُو بَنِي سَالِمِ بْنِ مَالِكٍ وَتَزْعُمُ الْأَحْلَافُ أَنّهُ قَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ مِنْ بَنِي عَتّابِ بْنِ مَالِك ٍ يُقَالُ لَهُ وَهْبُ بْنُ جَابِرٍ فَقِيلَ [ ص 314 ] تَرَى فِي دَمِك ؟ قَالَ كَرَامَةً أَكْرَمَنِي اللّهُ بِهَا ، وَشَهَادَةً سَاقَهَا اللّهُ إلَيّ فَلَيْسَ فِيّ إلّا مَا فِي الشّهَدَاءِ الّذِينَ قُتِلُوا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ عَنْكُمْ فَادْفِنُونِي مَعَهُمْ فَدَفَنُوهُ مَعَهُمْ فَزَعَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ فِيهِ إنّ مَثَلَهُ فِي قَوْمِهِ لَكَمَثَلِ صَاحِبِ يَاسِينَ فِي قَوْمِهِ ثُمّ أَقَامَتْ ثَقِيفٌ بَعْدَ قَتْلِ عُرْوَةَ أَشْهُرًا ، ثُمّ إنّهُمْ ائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ وَرَأَوْا أَنّهُ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِحَرْبِ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ وَقَدْ بَايَعُوا وَأَسْلَمُوا . حَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ أَنّ عَمْرَو بْنَ أُمَيّةَ أَخَا بَنِي عِلَاجٍ كَانَ مُهَاجِرًا لِعَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَمْرٍو ، الّذِي بَيْنَهُمَا سَيّئٌ وَكَانَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ مِنْ أَدْهَى الْعَرَبِ ، فَمَشَى إلَى عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَمْرٍو ، حَتّى دَخَلَ دَارَهُ ثُمّ أَرْسَلَ إلَيْهِ أَنّ عَمْرَو بْنَ أُمَيّةَ يَقُولُ لَك : اُخْرُجْ إلَيّ قَالَ فَقَالَ عَبْدُ يَالِيلَ لِلرّسُولِ وَيْلَك أَعَمْرٌو أَرْسَلَك إلَيّ ؟ قَالَ نَعَمْ وَهَا هُوَ ذَا وَاقِفًا فِي دَارِك ، فَقَالَ إنّ هَذَا الشّيْءَ مَا كُنْت أَظُنّهُ لَعَمْرٌو كَانَ أَمْنَعَ فِي نَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ فَخَرَجَ إلَيْهِ فَلَمّا رَآهُ رَحّبَ بِهِ فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو : إنّهُ [ ص 315 ] نَزَلَ بِنَا أَمْرٌ لَيْسَتْ مَعَهُ هِجْرَةٌ إنّهُ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِ هَذَا الرّجُلِ مَا قَدْ رَأَيْت ، قَدْ أَسْلَمَتْ الْعَرَبُ كُلّهَا ، وَلَيْسَتْ لَكُمْ بِحَرْبِهِمْ طَاقَةٌ فَانْظُرُوا فِي أَمْرِكُمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ ائْتَمَرَتْ ثَقِيفٌ بَيْعَهَا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَفَلَا تَرَوْنَ أَنّهُ لَا يَأْمَنُ لَكُمْ سِرْبٌ وَلَا يَخْرُجُ مِنْكُمْ أَحَدٌ إلّا اُقْتُطِعَ فَاتّمَرُوا بَيْنَهُمْ وَأَجْمَعُوا أَنْ يُرْسِلُوا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَجُلًا ، كَمَا أَرْسَلُوا عُرْوَةَ فَكَلّمُوا عَبْدَ يَالِيلَ بْنَ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ ، وَكَانَ سِنّ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَرَضُوا ذَلِكَ عَلَيْهِ فَأَبَى أَنْ يَفْعَلَ وَخَشِيَ أَنْ يُصْنَعَ بِهِ إذَا رَجَعَ كَمَا صُنِعَ بِعُرْوَةِ . فَقَالَ لَسْت فَاعِلًا حَتّى تُرْسِلُوا مَعِي رِجَالًا ، فَأَجْمَعُوا أَنْ يَبْعَثُوا مَعَهُ رَجُلَيْنِ مِنْ الْأَحْلَافِ ، وَثَلَاثَةً مِنْ بَنِي مَالِكٍ فَيَكُونُوا سِتّةً فَبَعَثُوا مَعَ عَبْدِ يَالِيلَ الْحَكَمَ بْنَ عَمْرِو بْنِ وَهْبِ بْنِ مُعَتّبٍ وَشُرَحْبِيلَ بْنَ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ مُعَتّبٍ ، وَمِنْ بَنِي مَالِكٍ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ بْنِ بِشْرِ بْنِ عَبْدِ دُهْمَانَ ، أَخَا بَنِي يَسَارٍ وَأَوْسَ بْنَ عَوْفٍ ، أَخَا بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْف ٍ وَنُمَيْرَ بْنَ خَرَشَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، أَخَا بَنِي الْحَارِثِ . فَخَرَجَ بِهِمْ عَبْدُ يَالِيلَ وَهُوَ نَابُ الْقَوْمِ وَصَاحِبُ أَمْرِهِمْ وَلَمْ يَخْرُجْ بِهِمْ إلّا خَشْيَةً مِنْ مِثْلِ مَا صُنِعَ بِعُرْوَةِ بْنِ مَسْعُودٍ لِكَيْ يَشْغَلَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَى الطّائِفِ رَهْطَهُ . فَلَمّا دَنَوْا مِنْ الْمَدِينَةِ ، وَنَزَلُوا قَنَاةً أَلِفُوا بِهَا الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ ، يَرْعَى فِي نَوْبَتِهِ رِكَابَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَتْ رِعْيَتُهَا نُوَبًا عَلَى أَصْحَابِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا رَآهُمْ تَرَكَ الرّكَابَ عِنْدَ الثّقَفِيّينَ وَضَبَرَ يَشْتَدّ ، لِيُبَشّرَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقُدُومِهِمْ عَلَيْهِ فَلَقِيَهُ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَهُ عَنْ رَكْبِ ثَقِيفٍ أَنْ قَدْ قَدِمُوا يُرِيدُونَ الْبَيْعَةَ وَالْإِسْلَامَ بِأَنْ يَشْرُطَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شُرُوطًا ، وَيَكْتَتِبُوا مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كِتَابًا فِي قَوْمِهِمْ وَبِلَادِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِلْمُغِيرَةِ أَقْسَمْت عَلَيْك بِاَللّهِ لَا تَسْبِقْنِي إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى أَكُونَ أَنَا أُحَدّثُهُ فَفَعَلَ الْمُغِيرَةُ . فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَهُ بِقُدُومِهِمْ عَلَيْهِ ثُمّ خَرَجَ الْمُغِيرَةُ إلَى أَصْحَابِهِ فَرَوّحَ الظّهْرَ مَعَهُمْ وَعَلّمَهُمْ كَيْفَ يُحَيّونَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمْ يَفْعَلُوا إلّا بِتَحِيّةِ الْجَاهِلِيّةِ وَلَمّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ضَرَبَ عَلَيْهِمْ قُبّةً فِي نَاحِيَةِ مَسْجِدِهِ كَمَا يَزْعُمُونَ فَكَانَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ ، هُوَ الّذِي يَمْشِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى اكْتَتَبُوا كِتَابَهُمْ . وَكَانَ [ ص 316 ] وَكَانُوا لَا يَطْعَمُونَ طَعَامًا يَأْتِيهِمْ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى يَأْكُلَ مَعَهُ خَالِدٌ حَتّى أَسْلَمُوا وَفَرَغُوا مِنْ كِتَابِهِمْ وَقَدْ كَانَ فِيمَا سَأَلُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَدَعَ لَهُمْ الطّاغِيَةَ ، وَهِيَ اللّاتُ لَا يَهْدِمُهَا ثَلَاثَ سِنِينَ فَأَبَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَمَا بَرِحُوا يَسْأَلُونَهُ سَنَةً سَنَةً وَيَأْبَى عَلَيْهِمْ حَتّى سَأَلُوا شَهْرًا وَاحِدًا بَعْدَ مَقْدَمِهِمْ فَأَبَى عَلَيْهِمْ أَنْ يَدَعَهَا شَيْئًا مُسَمّى ، وَإِنّمَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ فِيمَا يُظْهِرُونَ أَنْ يَتَسَلّمُوا بِتَرْكِهَا مِنْ سُفَهَائِهِمْ وَنِسَائِهِمْ وَذَرَارِيّهِمْ وَيَكْرَهُونَ أَنْ يُرَوّعُوا قَوْمَهُمْ بِهَدْمِهَا حَتّى يَدْخُلَهُمْ الْإِسْلَامُ فَأَبَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلّا أَنْ يَبْعَثَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَالْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ فَيَهْدِمَاهَا ، وَقَدْ كَانُوا سَأَلُوهُ مَعَ تَرْكِ الطّاغِيَةِ أَنْ يُعْفِيَهُمْ مِنْ الصّلَاةِ وَأَنْ لَا يَكْسِرُوا أَوْثَانَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمّا كَسْرُ أَوْثَانِكُمْ بِأَيْدِيكُمْ فَسَنُعْفِيكُمْ مِنْهُ وَأَمّا الصّلَاةُ فَإِنّهُ لَا خَيْرَ فِي دِينٍ لَا صَلَاةَ فِيهِ فَقَالُوا : يَا مُحَمّدُ فَسَنُؤْتِيكهَا ، وَإِنْ كَانَتْ دَنَاءَةً . فَلَمّا أَسْلَمُوا وَكَتَبَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كِتَابَهُمْ أَمّرَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ ، وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنّا ، وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ أَحْرَصَهُمْ عَلَى التّفَقّهِ فِي الْإِسْلَامِ وَتَعَلّمِ الْقُرْآنِ . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي قَدْ رَأَيْت هَذَا الْغُلَامَ مِنْهُمْ مِنْ أَحْرَصِهِمْ عَلَى التّفَقّهِ فِي الْإِسْلَامِ وَتَعَلّمِ الْقُرْآنِ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عِيسَى بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَطِيّةَ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ رَبِيعَةَ الثّقَفِيّ ، عَنْ بَعْضِ وَفْدِهِمْ . قَالَ كَانَ بِلَالٌ يَأْتِينَا حِينَ أَسْلَمْنَا وَصُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا بَقِيَ مِنْ رَمَضَانَ بِفِطْرِنَا وَسَحُورِنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَيَأْتِينَا بِالسّحُورِ وَإِنّا لَنَقُولُ إنّا لِنَرَى الْفَجْرَ قَدْ طَلَعَ فَيَقُولُ قَدْ تَرَكْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَتَسَحّرُ لِتَأْخِيرِ السّحُورِ وَيَأْتِينَا بِفِطْرِنَا ، وَإِنّا لَنَقُولُ مَا نَرَى الشّمْسَ كُلّهَا ذَهَبَتْ بَعْدُ . فَيَقُولُ مَا جِئْتُكُمْ حَتّى أَكَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ يَضَعُ يَدَهُ فِي الْجَفْنَةِ فَيَلْتَقِمُ مِنْهَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : بِفَطُورِنَا وَسَحُورِنَا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ ، عَنْ مُطَرّفِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الشّخّيرِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ ، قَالَ كَانَ مِنْ آخِرِ مَا عَهِدَ إلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ بَعَثَنِي [ ص 317 ] ثَقِيفٍ أَنْ قَالَ يَا عُثْمَانُ تَجَاوَزْ فِي الصّلَاةِ ، وَاقْدُرْ النّاسَ بِأَضْعَفِهِمْ فَإِنّ فِيهِمْ الْكَبِيرَ وَالصّغِيرَ وَالضّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا فَرَغُوا مِنْ أَمْرِهِمْ وَتَوَجّهُوا إلَى بِلَادِهِمْ رَاجِعِينَ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَالْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ ، فِي هَدْمِ الطّاغِيَةِ ، فَخَرَجَا مَعَ الْقَوْمِ حَتّى إذَا قَدِمُوا الطّائِفَ أَرَادَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنْ يُقَدّمَ أَبَا سُفْيَانَ فَأَبَى ذَلِكَ أَبُو سُفْيَانَ عَلَيْهِ وَقَالَ اُدْخُلْ أَنْتَ عَلَى قَوْمِك ؛ وَأَقَامَ أَبُو سُفْيَانَ بِمَالِهِ بِذِي الْهَدْمِ ؛ فَلَمّا دَخَلَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ عَلَاهَا يَضْرِبُهَا بِالْمِعْوَلِ وَقَامَ قَوْمُهُ دُونَهُ بَنُو مُعَتّبٍ ، خَشْيَةَ أَنْ يُرْمَى أَوْ يُصَابَ كَمَا أُصِيبَ عُرْوَةُ وَخَرَجَ نِسَاءُ ثَقِيفٍ حُسّرًا يَبْكِينَ عَلَيْهَا وَيَقُلْنَ
لَتَبْكِيَنّ دُفّاعْ أَسْلَمَهَا ... الرّضّاعْ لَمْ يُحْسِنُوا الْمِصَاعْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : " لَتَبْكِيَنّ " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَيَقُول أَبُو سُفْيَانَ وَالْمُغِيرَةُ يَضْرِبُهَا بِالْفَأْسِ وَاهًا لَك آهًا لَك فَلَمّا هَدَمَهَا الْمُغِيرَةُ وَأَخَذَ مَالَهَا وَحُلِيّهَا أَرْسَلَ إلَى أَبِي سُفْيَانَ وَحُلِيّهَا مَجْمُوعٌ وَمَالُهَا مِنْ الذّهَبِ وَالْجَزْعِ . وَقَدْ كَانَ أَبُو مُلَيْحِ بْنُ عُرْوَةَ وَقَارِبُ بْنُ الْأَسْوَدِ قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ وَفْدِ ثَقِيفٍ ، حِينَ قُتِلَ عُرْوَةُ يُرِيدَانِ فِرَاقَ ثَقِيفٍ ، وَأَنْ لَا يُجَامِعَاهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا ، فَأَسْلَمَا ؛ فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَوَلّيَا مَنْ شِئْتُمَا ؛ فَقَالَا : نَتَوَلّى اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَخَالَكُمَا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ " ، فَقَالَا : وَخَالَنَا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ [ ص 318 ] أَسْلَمَ أَهْلُ الطّائِفِ وَوَجّهَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبَا سُفْيَان َ وَالْمُغِيرَةَ إلَى هَدْمِ الطّاغِيَةِ ، سَأَلَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبُو مُلَيْحِ بْنُ عُرْوَةَ أَنْ يَقْضِيَ عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ دَيْنًا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الطّاغِيَةِ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " نَعَمْ " ، فَقَالَ لَهُ قَارِبُ بْنُ الْأَسْوَدِ ، وَعَنْ الْأَسْوَدِ يَا رَسُولَ اللّهِ فَاقْضِهِ وَعُرْوَةُ وَالْأَسْوَدُ أَخَوَانِ لِأَبٍ وَأُمّ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ الْأَسْوَدَ مَاتَ مُشْرِكًا " . فَقَالَ قَارِبٌ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا رَسُولَ اللّهِ وَلَكِنْ تَصِلُ مُسْلِمًا ذَا قَرَابَةٍ يَعْنِي نَفْسَهُ إنّمَا الدّيْنُ عَلَيّ وَإِنّمَا أَنَا الّذِي أُطْلَبُ بِهِ فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبَا سُفْيَانَ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَ عُرْوَةَ وَالْأَسْوَدِ مِنْ مَالِ الطّاغِيَة فَلَمّا جَمَعَ الْمُغِيرَةُ مَالَهَا قَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ أَمَرَك أَنْ تَقْضِيَ عَنْ عُرْوَةَ وَالْأَسْوَدِ دَيْنَهُمَا ، فَقَضَى عَنْهُمَا .
Sإسْلَامُ ثَقِيفٍ
[ ص 313 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ حِينَ قُتِلَ مَثَلُهُ كَمَثَلِ صَاحِبِ يَاسِينَ فِي قَوْمِهِ يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَمَثَلِ صَاحِبِ يَاسِينَ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمَذْكُورَ فِي سُورَةِ يَاسِينَ الّذِي قَالَ لِقَوْمِهِ اتّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ فَقَتَلَهُ قَوْمُهُ وَاسْمُهُ حَبِيبُ بْنُ مُرّي ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ صَاحِبَ إلْيَاسَ وَهُوَ الْيَسَعُ فَإِنّ إلْيَاسَ يُقَالُ فِي اسْمِهِ يَاسِينُ أَيْضًا ، وَقَالَ الطّبَرِيّ : هُوَ إلْيَاسُ بْنُ يَاسِينَ وَفِيهِ قَالَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ } [ الصّافّاتِ 130 ] فَاَللّهُ أَعْلَمُ وَقَدْ بَيّنّا فِي التّعْرِيفِ وَالْإِعْلَامِ مَعْنَى إلْيَاسَ وَإِلْيَاسِينَ وَآلِ يَاسِينَ بَيَانًا شَافِيًا ، وَأَوْضَحْنَا خَطَأَ قَوْلِ مَنْ قَالَ إنّ إلْيَاسِينَ جَمْعٌ كَالْأَشْعَرِينَ وَضَعْفَ قَوْلِ مَنْ قَالَ إنّ يَاسِينَ هُوَ مُحَمّدٌ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ .
زَوْجُ عُرْوَةَ
[ ص 314 ] وَكَانَتْ تَحْتَ عُرْوَةَ مَيْمُونَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ ، فَوَلَدَتْ لَهُ أَبَا مُرّةَ بْنَ عُرْوَةَ وَبِنْتُ أَبِي مُرّةَ هِيَ لَيْلَى امْرَأَةُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيّ عَلَيْهِمَا السّلَامُ وَلَدَتْ لِلْحُسَيْنِ عَلِيّا الْأَكْبَرَ قُتِلَ مَعَهُ بِالطّفّ وَأَمّا عَلِيّ الْأَصْغَرُ فَلَمْ يُقْتَلْ مَعَهُ وَأُمّهُ أُمّ وَلَدٍ وَاسْمُهَا سُلَافَةُ وَهِيَ بِنْتُ كِسْرَى بْنِ يَزْدَجِرْدَ وَأُخْتُهَا الْغَزَالُ هِيَ أُمّ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْحَارِبِ بْنِ هِشَامٍ .
حَوْلَ هَدْمِ اللّاتِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ إسْلَامَ ثَقِيفٍ وَعَدَمَ طَاغِيَتِهِمْ وَهِيَ اللّاتُ ، وَأَنّ الْمُغِيرَةَ وَأَبَا سُفْيَانَ هُمَا اللّذَانِ هَدَمَاهَا وَذَكَرَ بَعْضَ مَنْ أَلّفَ فِي السّيَرِ أَنّ الْمُغِيرَةَ قَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ حِينَ هَدَمَهَا : أَلَا أُضْحِكُك مِنْ ثَقِيفٍ ؟ فَقَالَ بَلَى ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ وَضَرَبَ بِهِ اللّاتَ ضَرْبَةً ثُمّ صَاحَ وَخَرّ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَجّتْ الطّائِفُ بِالصّيَاحِ سُرُورًا بِأَنّ اللّاتَ قَدْ صَرَعَتْ الْمُغِيرَةَ وَأَقْبَلُوا يَقُولُونَ كَيْفَ رَأَيْتهَا يَا مُغِيرَةُ دُونَكَهَا إنْ اسْتَطَعْت ، أَلَمْ تَعْلَمْ أَنّهَا تُهْلِكُ مَنْ عَادَاهَا ، وَيْحَكُمْ أَلَا تَرَوْنَ مَا تَصْنَعُ ؟ فَقَامَ الْمُغِيرَةُ يَضْحَكُ مِنْهُمْ وَيَقُولُ لَهُمْ يَا خُبَثَاءُ وَاَللّهِ مَا قَصَدْت إلّا الْهُزُأَ بِكُمْ ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى هَدْمِهَا ، حَتّى اسْتَأْصَلَهَا ، وَأَقْبَلَتْ عَجَائِزُ ثَقِيفٍ تَبْكِي حَوْلَهَا ، وَتَقُولُ أَسْلَمَهَا الرّضّاعُ إذْ كَرِهُوا الْمِصَاعَ أَيْ أَسْلَمَهَا اللّئَامُ حِينَ كَرِهُوا الْقِتَالَ .
فِقْهُ حَدِيثِ كِتَابِ النّبِيّ لِثَقِيفٍ
[ ص 315 ] وَذَكَرَ كِتَابَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِثَقِيفٍ وَذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ ، وَذَكَرَ فِيهِ شَهَادَةَ عَلِيّ وَابْنَيْهِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ قَالَ وَفِيهِ مِنْ الْفِقْهِ شَهَادَةُ الصّبْيَانِ وَكِتَابَةُ أَسْمَائِهِمْ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَإِنّمَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ إذَا أَدّوْهَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَفِيهِ مِنْ الْفِقْهِ أَيْضًا شَهَادَةُ الِابْنِ مَعَ شَهَادَةِ أَبِيهِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ .

وَكَانَ كِتَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّذِي كَتَبَ لَهُمْ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدٍ النّبِيّ رَسُولِ اللّهِ إلَى الْمُؤْمِنِينَ : إنّ عِضَاهَ وَجّ وَصَيْدَهُ لَا يُعْضَدُ مَنْ وُجِدَ يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَإِنّهُ يُجْلَدُ وَتُنْزَعُ ثِيَابُهُ فَإِنْ تَعَدّى ذَلِكَ فَإِنّهُ يُؤْخَذُ فَيُبْلَغُ بِهِ إلَى النّبِيّ مُحَمّدٍ وَإِنّ هَذَا أَمْرُ النّبِيّ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ وَكَتَبَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ : بِأَمْرِ الرّسُولِ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ فَلَا يَتَعَدّهُ أَحَدٌ ، فَيَظْلِمَ نَفْسَهُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .S[ ص 316 ] وَذَكَرَ فِي الْكِتَابِ وَجّا ، وَأَنّهُ حَرَامٌ عِضَاهُهُ وَشَجَرُهُ يَعْنِي حَرَامًا عَلَى غَيْرِ أَهْلِهِ كَتَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ وَمَكّةَ . وَوَجّ هِيَ أَرْضُ الطّائِفِ ، وَهِيَ الّتِي جَاءَ فِيهَا الْحَدِيثُ إنّ آخِرَ وَطْأَةٍ وَطِئَهَا الرّبّ بِوَج وَمَعْنَاهَا عِنْدَ بَعْضِهِمْ آخِرُ غَزْوَةٍ وَوَقْعَةٍ كَانَتْ بِأَرْضِ الْعَرَبِ بِوَجّ لِأَنّهَا آخِرُ غَزَوَاتِهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى الْعَرَبِ ، وَقَدْ قِيلَ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ غَيْرُ هَذَا ، مِمّا ذَكَرَهُ الْقُتَبِيّ ، وَنَحْنُ نَضْرِبُ عَنْ ذِكْرِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْهَامِ التّشْبِيهِ وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ .
وَجّ
[ ص 317 ] قِيلَ فِي وَجّ هِيَ الطّائِفُ نَفْسُهَا ، وَقِيلَ هُوَ اسْمٌ لِوَادٍ بِهَا ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ أُمَيّةَ بْنِ الْأَسْكَرِ
إذْ يَبْكِي الْحَمَامُ بِبَطْنِ وَجّ ... عَلَى بَيْضَاتِهِ بَكَيَا كِلَابَا
وَقَالَ آخَرُ
أَتُهْدِي لِي الْوَعِيدَ بِبَطْنِ وَجّ ... كَأَنّي لَا أَرَاك وَلَا تَرَانِي
وَقَدْ أَلْفَيْت فِي نُسْخَةِ الشّيْخِ وَجًا بِتَخْفِيفِ الْجِيمِ وَالصّوَابُ تَشْدِيدُهَا كَمَا تَقَدّمَ وَقَالَ أُمَيّةُ بْنُ أَبِي الصّلْتِ :
إنّ وَجّا وَمَا يَلِي بَطْنَ وَجّ ... دَارُ قَوْمِي بِرَبْوَةٍ وَزُتُوقِ
[ ص 318 ] الْعَمَالِقَةِ ، وَيُقَالُ وَجّ ، وَأَجّ بِالْهَمْزَةِ قَالَهُ يَعْقُوبُ فِي كِتَابِ الْإِبْدَالِ وَكِتَابُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأَهْلِ الطّائِفِ أَطْوَلُ مِمّا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ بِكَثِيرٍ وَقَدْ أَوْرَدَهُ أَبُو عُبَيْدٍ بِكَمَالِهِ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ .

حَجّ أَبِي بَكْرٍ بِالنّاسِ سَنَةَ تِسْعٍ
وَاخْتِصَاصُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ بِتَأْدِيَةِ أَوّلِ " بَرَاءَةٌ " عَنْهُ وَذِكْرُ " بَرَاءَةٌ " وَالْقِصَصُ فِي تَفْسِيرِهَا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ أَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَقِيّةَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَشَوّالًا وَذَا الْقَعْدَةِ ثُمّ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْحَجّ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ لِيُقِيمَ لِلْمُسْلِمِينَ حَجّهُمْ وَالنّاسُ مِنْ أَهْلِ الشّرْكِ عَلَى مَنَازِلِهِمْ مِنْ حَجّهِمْ فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ . [ ص 319 ] نَقْضِ مَا بَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الْعَهْدِ الّذِي كَانُوا عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَنْ لَا يُصَدّ عَنْ الْبَيْتِ أَحَدٌ جَاءَهُ وَلَا يُخَافَ أَحَدٌ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ . وَكَانَ ذَلِكَ عَهْدًا عَامّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النّاسِ مِنْ أَهْلِ الشّرْكِ وَكَانَتْ بَيْنَ ذَلِكَ عُهُودٌ بَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَ قَبَائِلَ مِنْ الْعَرَبِ خَصَائِصَ إلَى آجَالٍ مُسَمّاةٍ فَنَزَلَتْ فِيهِ وَفِيمَنْ تَخَلّفَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ عَنْهُ فِي تَبُوكَ ، وَفِي قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ فَكَشَفَ اللّهُ تَعَالَى فِيهَا سَرَائِرَ أَقْوَامٍ كَانُوا يَسْتَخِفّونَ بِغَيْرِ مَا يُظْهِرُونَ مِنْهُمْ مَنْ سُمّيَ لَنَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُسَمّ لَنَا ، فَقَالَ عَزّ وَجَلّ { بَرَاءَةٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } أَيْ لِأَهْلِ الْعَهْدِ الْعَامّ مِنْ أَهْلِ الشّرْكِ { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ وَأَذَانٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النّاسِ يَوْمَ الْحَجّ الْأَكْبَرِ أَنّ اللّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ } أَيْ بَعْدَ هَذِهِ الْحَجّةِ { فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشّرِ الّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ إِلّا الّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } أَيْ الْعَهْدَ الْخَاصّ إلَى الْأَجَلِ الْمُسَمّى { وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدّتِهِمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتّقِينَ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ } يَعْنِي الْأَرْبَعَةَ الّتِي ضَرَبَ لَهُمْ أَجَلًا { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصّلَاةَ وَآتَوُا الزّكَاةَ فَخَلّوا سَبِيلَهُمْ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } أَيْ مِنْ هَؤُلَاءِ الّذِينَ أَمَرْتُك بِقَتْلِهِمْ { اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللّهِ ثُمّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ } [ ص 320 ] { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ } الّذِينَ كَانُوا هُمْ وَأَنْتُمْ عَلَى الْعَهْدِ الْعَامّ أَنْ لَا يُخِيفُوكُمْ وَلَا يُخِيفُوهُمْ فِي الْحُرْمَةِ وَلَا فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ { عَهْدٌ عِنْدَ اللّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلّا الّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } وَهِيَ قَبَائِلُ مِنْ بَنِي بَكْرٍ الّذِينَ كَانُوا دَخَلُوا فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ ، إلَى الْمُدّةِ الّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ ، فَلَمْ يَكُنْ نَقَضَهَا إلّا هَذَا الْحَيّ مِنْ قُرَيْشٍ ؛ وَهِيَ الدّيلُ مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِل ٍ ، الّذِينَ كَانُوا دَخَلُوا فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ . فَأَمَرَ بِإِتْمَامِ الْعَهْدِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ نَقَضَ مِنْ بَنِي بَكْرٍ إلَى مُدّتِهِ { فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الْمُتّقِينَ } ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ } أَيْ الْمُشْرِكُونَ الّذِينَ لَا عَهْدَ لَهُمْ إلَى مُدّةٍ مِنْ أَهْلِ الشّرْكِ الْعَامّ { لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلّا وَلَا ذِمّةً }
تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْمُفْرَدَاتِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْإِلّ : الْحِلْفُ . قَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ أَحَدُ بَنِي أُسَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ
لَوْلَا بَنُو مَالِكٍ وَالْإِلّ مَرْقَبَةٌ ... وَمَالِكٌ فِيهِمْ الْآلَاءُ وَالشّرَفُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ وَجَمْعُهُ آلَالٌ قَالَ الشّاعِرُ
فَلَا إلّ مِنْ الْآلَالِ بَيْنِي ... وَبَيْنَكُمْ فَلَا تَأْلُنّ جُهْدَا
وَالذّمّةُ الْعَهْدُ . قَالَ الْأَجْدَعُ بْنُ مَالِكٍ الْهَمْدَانِيّ ، وَهُوَ أَبُو مَسْرُوقِ بْنُ الْأَجْدَعِ الْفَقِيهُ
وَكَانَ عَلَيْنَا ذِمّةٌ أَنْ تُجَاوِزُوا ... مِنْ الْأَرْضِ مَعْرُوفًا إلَيْنَا وَمُنْكَرَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي ثَلَاثَةِ أَبْيَاتٍ لَهُ وَجَمْعُهَا : ذِمَمٌ . { يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلّا وَلَا ذِمّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ } أَيْ قَدْ اعْتَدَوْا عَلَيْكُمْ { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصّلَاةَ وَآتَوُا الزّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدّينِ وَنُفَصّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }
اخْتِصَاصُ الرّسُولِ عَلِيّا بِتَأْدِيَةِ " بَرَاءَةٌ " عَنْهُ
[ ص 321 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي حَكِيمُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ عَبّادِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمّدِ بْنِ عَلِيّ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ أَنّهُ قَالَ لَمّا نَزَلَتْ بَرَاءَةٌ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ كَانَ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ الصّدّيقَ لِيُقِيمَ لِلنّاسِ الْحَجّ قِيلَ لَهُ يَا رَسُولَ اللّهِ لَوْ بَعَثْت بِهَا إلَى أَبِي بَكْر ٍ فَقَالَ " لَا يُؤَدّي عَنّي إلّا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي ثُمّ دَعَا عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ اُخْرُجْ بِهَذِهِ الْقِصّةِ مِنْ صَدْرِ بَرَاءَةٌ ، وَأَذّنْ فِي النّاسِ يَوْمَ النّحْرِ إذَا اجْتَمَعُوا بِمِنًى : أَنّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنّةَ كَافِرٌ وَلَا يَحُجّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ وَمَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَهْدٌ فَهُوَ لَهُ إلَى مُدّتِهِ فَخَرَجَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ عَلَى نَاقَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَضْبَاءِ حَتّى أَدْرَكَ أَبَا بَكْرٍ بِالطّرِيقِ فَلَمّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ بِالطّرِيقِ قَالَ أَأَمِيرٌ أَمْ مَأْمُورٌ ؟ فَقَالَ بَلْ مَأْمُورٌ ثُمّ مَضَيَا . فَأَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنّاسِ الْحَجّ وَالْعَرَبُ إذْ ذَاكَ فِي تِلْكَ السّنَةِ عَلَى مَنَازِلِهِمْ مِنْ الْحَجّ الّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ حَتّى إذَا كَانَ يَوْمُ النّحْرِ قَامَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَأَذّنَ فِي النّاسِ بِاَلّذِي أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ أَيّهَا النّاسُ إنّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنّةَ كَافِرٌ وَلَا يَحُجّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ وَمَنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَهْدٌ فَهُوَ لَهُ إلَى مُدّتِهِ وَأَجّلَ النّاسَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ أَذّنَ فِيهِمْ لِيَرْجِعَ كُلّ قَوْمٍ إلَى مَأْمَنِهِمْ أَوْ بِلَادِهِمْ ثُمّ لَا عَهْدَ لِمُشْرِكٍ وَلَا ذِمّةَ إلّا أَحَدٌ كَانَ لَهُ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَهْدٌ إلَى مُدّةٍ فَهُوَ لَهُ إلَى مُدّتِهِ . فَلَمْ يَحُجّ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ . ثُمّ قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَكَانَ هَذَا مِنْ بَرَاءَةٍ فِيمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشّرْكِ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ الْعَامِ وَأَهْلِ الْمُدّةِ إلَى الْأَجَلِ الْمُسَمّى .
Sإنْزَالُ سُورَةِ " بَرَاءَةٌ
كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ قَدِمَ مِنْ تَبُوكَ ، فَذَكَرَ مُخَالَطَةَ الْمُشْرِكِينَ لِلنّاسِ فِي حَجّهِمْ وَتَلْبِيَتِهِمْ بِالشّرْكِ وَطَوَافِهِمْ عُرَاةً بِالْبَيْتِ ، وَكَانُوا يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ أَنْ يَطُوفُوا كَمَا وُلِدُوا بِغَيْرِ [ ص 319 ] فَأَمْسَكَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَنْ الْحَجّ فِي ذَلِكَ الْعَامِ وَبَعَثَ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - بِسُورَةِ بَرَاءَةٌ لِيَنْبِذَ إلَى كُلّ ذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ إلّا بَعْضَ بَنِي بَكْرٍ الّذِينَ كَانَ لَهُمْ عَهْدٌ إلَى أَجَلٍ خَاصّ ، ثُمّ أَرْدَفَ بِعَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ هَلْ أُنْزِلَ فِيّ قُرْآنٌ ؟ قَالَ " لَا " ، وَلَكِنْ أَرَدْت أَنْ يُبَلّغَ عَنّي مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : فَأَمَرَنِي عَلِيّ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - أَنْ أَطُوفَ فِي الْمَنَازِلِ مِنْ مِنًى بِبَرَاءَةٌ فَكُنْت أَصِيحُ حَتّى صَحِلَ حَلْقِي ، فَقِيلَ لَهُ بِمَ كُنْت تُنَادِي ؟ فَقَالَ بِأَرْبَعٍ أَلّا يَدْخُلَ الْجَنّةَ إلّا مُؤْمِنٌ وَأَلّا يَحُجّ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ ، وَأَلّا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ فَلَهُ أَجَلٌ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ثُمّ لَا عَهْدَ لَهُ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ إذَا سَمِعُوا النّدَاءَ بِبَرَاءَةٌ يَقُولُونَ لِعَلِيّ سَتَرَوْنَ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ بِأَنّهُ لَا عَهْدَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ ابْنِ عَمّك إلّا الطّعْنُ وَالضّرْبُ ثُمّ إنّ النّاسَ فِي ذَلِكَ الْمُدّةِ رَغِبُوا فِي الْإِسْلَامِ حَتّى دَخَلُوا فِيهِ طَوْعًا وَكَرْهًا ، وَحَجّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ وَحَجّ الْمُسْلِمُونَ وَقَدْ عَادَ الدّينُ كُلّهُ وَاحِدًا لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ . [ ص 320 ] وَبِعَالٍ فَإِنّ الّذِي أُمِرَ أَنْ يُنَادِيَ بِذَلِكَ فِي أَيّامِ التّشْرِيقِ هُوَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ وَأَوْسُ بْنُ [ ص 321 ] وَيُقَالُ فِيهِ أَيْضًا : عَبْدُ اللّهِ بْنُ مِرْبَعٍ كَانَ مِمّنْ أُمِرَ أَنْ يُنَادِيَ بِذَلِكَ وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ بِشْرِ بْنِ سُحَيْمٍ الْغِفَارِيّ وَقَدْ رُوِيَ أَنّ حُذَيْفَةَ كَانَ الْمُنَادِيَ بِذَلِكَ وَعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ أَيْضًا ، وَبِلَالٍ ذَكَرَ بَعْضَ ذَلِكَ الْبَزّارُ فِي مُسْنَدِهِ ، وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ } أَنّهُ أَرَادَ ذَا الْحِجّةِ وَالْمُحَرّمَ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِ وَأَنّهُ [ ص 322 ] جَعَلَ ذَلِكَ أَجَلًا لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَمَنْ كَانَ لَهُ عَهْدٌ جَعَلَ لَهُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوّلُهَا يَوْمُ النّحْرِ مِنْ ذَلِكَ الْعَامِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { يَوْمَ الْحَجّ الْأَكْبَرِ } قِيلَ أَرَادَ حِينَ الْحَجّ أَيْ أَيّامَ الْمَوْسِمِ كُلّهَا ، لِأَنّ نِدَاءَ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ بِبَرَاءَةٌ كَانَ فِي تِلْكَ الْأَيّامِ .

مَا نَزَلَ فِي الْأَمْرِ بِجِهَادِ الْمُشْرِكِينَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ أَمَرَ اللّهُ رَسُولَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِجِهَادِ أَهْلِ الشّرْكِ مِمّنْ نَقَضَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ الْخَاصّ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ الْعَامّ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ الّتِي ضَرَبَ لَهُمْ أَجَلًا إلّا أَنْ يَعْدُوَ فِيهَا عَادٍ مِنْهُمْ فَيُقْتَلَ بِعَدَائِهِ فَقَالَ [ ص 322 ] { أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمّوا بِإِخْرَاجِ الرّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَاتِلُوهُمْ يُعَذّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ } أَيْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ { عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمّا يَعْلَمِ اللّهُ الّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتّخِذُوا مِنْ دُونِ اللّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } .
تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَلِيجَةٌ دَخِيلٌ وَجَمْعُهَا : وَلَائِجُ وَهُوَ مِنْ وَلَجَ يَلِجُ أَيْ دَخَلَ يَدْخُلُ وَفِي كِتَابِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ { حَتّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمّ الْخِيَاطِ } أَيْ يَدْخُلَ يَقُولُ لَمْ يَتّخِذُوا دَخِيلًا مِنْ دُونِهِ يُسِرّونَ إلَيْهِ غَيْرَ مَا يُظْهِرُونَ نَحْوَ مَا يَصْنَعُ الْمُنَافِقُونَ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ لِلّذِينَ آمَنُوا { وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنّا مَعَكُمْ } قَالَ الشّاعِرُ وَاعْلَمْ بِأَنّك قَدْ جَعَلْت وَلِيجَة سَاقُوا إلَيْك الْحَتْفَ غَيْرَ مَشُوبِ
مَا نَزَلَ فِي الرّدّ عَلَى قُرَيْشٍ بِادّعَائِهِمْ عِمَارَةَ الْبَيْتِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ ذَكَرَ قَوْلَ قُرَيْشٍ : إنّا أَهْلُ الْحَرَمِ ، وَسُقَاةُ الْحَاجّ وَعُمّارُ هَذَا الْبَيْتِ فَلَا أَحَدَ أَفْضَلُ مِنّا ، فَقَالَ { إِنّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ } أَيْ إنّ عِمَارَتَكُمْ لَيْسَتْ عَلَى ذَلِكَ وَإِنّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ أَيْ مَنْ عَمَرَهَا بِحَقّهَا { مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصّلَاةَ وَآتَى الزّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلّا اللّهَ } أَيْ فَأُولَئِكَ عُمّارُهَا { فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } وَعَسَى مِنْ اللّهِ حَقّ . ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللّهِ }
مَا نَزَلَ فِي الْأَمْرِ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ
[ ص 323 ] حُنَيْنٍ ، وَمَا كَانَ فِيهِ وَتَوَلّيهِمْ عَنْ عَدُوّهِمْ وَمَا أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى مِنْ نُصْرَةٍ بَعْدَ تَخَاذُلِهِمْ ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { إِنّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } وَذَلِكَ أَنّ النّاسَ قَالُوا : لَتَنْقَطِعَنّ عَنّا الْأَسْوَاقُ فَلَتَهُكّنّ التّجَارَةُ وَلَيَذْهَبَنّ مَا كُنّا نُصِيبُ فِيهَا مِنْ الْمَرَافِقِ فَقَالَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ } أَيْ مِنْ وَجْهٍ غَيْرِ ذَلِكَ { إِنْ شَاءَ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ قَاتِلُوا الّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرّمُونَ مَا حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } أَيْ فَفِي هَذَا عِوَضٌ مِمّا تَخَوّفْتُمْ مِنْ قَطْعِ الْأَسْوَاقِ فَعَوّضَهُمْ اللّهُ بِمَا قَطَعَ عَنْهُمْ بِأَمْرِ الشّرْكِ مَا أَعْطَاهُمْ مِنْ أَعْنَاقِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْجِزْيَةِ .
مَا نَزَلَ فِي أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ
[ ص 324 ] ذَكَرَ أَهْلَ الْكِتَابَيْنِ بِمَا فِيهِ مِنْ الشّرّ وَالْفِرْيَةِ عَلَيْهِ حَتّى انْتَهَى إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { إِنّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذّهَبَ وَالْفِضّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }
مَا نَزَلَ فِي النّسِيءِ
ثُمّ ذَكَرَ النّسِيءَ وَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ أَحْدَثَتْ فِيهِ . وَالنّسِيءُ مَا كَانَ يُحِلّ مَا حَرّمَ اللّهُ تَعَالَى مِنْ الشّهُورِ وَيُحَرّمُ مِمّا أَحَلّ اللّهُ مِنْهَا ، فَقَالَ { إِنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنّ أَنْفُسَكُمْ } أَيْ لَا تَجْعَلُوا حَرَامَهَا حَلَالًا ، وَلَا حَلَالَهَا حَرَامًا : أَيْ كَمَا فَعَلَ أَهْلُ الشّرْكِ { إِنّمَا النّسِيءُ } الّذِي كَانُوا يَصْنَعُونَ { زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا يُحِلّونَهُ عَامًا وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدّةَ مَا حَرّمَ اللّهُ فَيُحِلّوا مَا حَرّمَ اللّهُ زُيّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }
مَا نَزَلَ فِي تَبُوكَ
ثُمّ ذَكَرَ تَبُوكَ وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ تَثَاقُلِ الْمُسْلِمِينَ عَنْهَا ، وَمَا أَعْظَمُوا مِنْ غَزْوَةِ الرّومِ ، حِينَ دَعَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى جِهَادِهِمْ وَنِفَاقَ مَنْ نَافَقَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ حِين دُعُوا إلَى مَا دُعُوا إلَيْهِ مِنْ الْجِهَادِ ثُمّ مَا نَعَى عَلَيْهِمْ مِنْ إحْدَاثِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ فَقَالَ تَعَالَى : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ } ثُمّ الْقِصّةُ إلَى [ ص 325 ] { يُعَذّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ } إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { إِلّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ }
Sمَا نَزَلَ فِي سُورَةِ " بَرَاءَةٌ "
فَصْلٌ وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ، وَأَهْلُ التّفْسِيرِ يَقُولُونَ إنّ آخِرَهَا نَزَلَ قَبْلَ أَوّلِهَا ، فَإِنّ أَوّلَ مَا نَزَلَ مِنْهَا : { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا } ثُمّ نَزَلَ أَوّلُهَا فِي نَبْذِ كُلّ عَهْدٍ إلَى صَاحِبِهِ كَمَا تَقَدّمَ . [ ص 323 ] { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا } فِيهِ أَقْوَالٌ قِيلَ مَعْنَاهُ شُبّانًا وَشُيُوخًا ، وَقِيلَ أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ وَقِيلَ أَصْحَابَ شُغْلٍ وَغَيْرَ ذِي شُغْلٍ وَقِيلَ رُكْبَانًا وَرَجّالَةً .
عَنْ الْأَجْدَعِ بْنِ مَالِكٍ
وَأَنْشَدَ شَاهِدًا عَلَى أَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ لِلْأَجْدَعِ بْنِ مَالِكٍ وَالِدِ مَسْرُوقِ بْنِ الْأَجْدَعِ وَقَدْ غَيّرَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ اسْمَ الْأَجْدَعِ وَقَالَ الْأَجْدَعُ اسْمُ شَيْطَانٍ فَسَمّاهُ عَبْدَ الرّحْمَنِ وَيُكَنّى مَسْرُوقٌ أَبَا عَائِشَةَ . وَقَوْلُهُ فِي الْبَيْتِ يَصْطَادُك الْوَحَدَ أَيْ يَصْطَادُ بِك ، وَأَرَادَ بِالْوَحَدِ الثّوْرَ الْوَحْشِيّ . وَقَوْلُهُ بِشَرِيجٍ بَيْنَ الشّدّ وَالْإِيضَاعِ يُقَالُ هُمَا شَرِيجَانِ أَيْ مُخْتَلِفَانِ وَقَبْلَ هَذَا الْبَيْتِ بِأَبْيَاتٍ فِي شِعْرِ الْأَجْدَعِ
أَسَأَلْتنِي بِرَكَائِبِي وَرِحَالِهَا ... وَنَسِيت قَتْلَى فَوَارِسِ الْأَرْبَاعِ
وَذَكَرَهُ أَبُو عَلِيّ [ الْقَالِي ] فِي الْأَمَالِي ، فَقَالَ وَسَأَلْتنِي بِالْوَاوِ وَقَدْ خَطّئُوهُ وَقَالُوا : إنّمَا هُوَ أَسَأَلْتنِي . وَفَوَارِسُ الْأَرْبَاعِ قَدْ سَمّاهُمْ أَبُو عَلِيّ فِي الْأَمَالِي ، وَذَكَرَ لَهُمْ خَبَرًا .
إعْطَاءُ الْجِزْيَةِ عَنْ يَدٍ
وَذَكَرَ قَوْلَهُ تَعَالَى : { حَتّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } وَقِيلَ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ أيضا : [ ص 324 ] الثّانِي : أَنْ يُؤَدّيَهَا قَائِمًا ، وَاَلّذِي يَأْخُذُهَا قَاعِدًا . الثّالِثُ أَنّ مَعْنَاهُ عَنْ قَهْرٍ وَإِذْلَالٍ . الرّابِعُ أَنّ مَعْنَاهُ عَنْ يَدٍ مِنْكُمْ أَيْ إنْعَامٍ عَلَيْهِمْ بِحَقْنِ دِمَائِهِمْ وَأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ بَدَلًا مِنْ الْقَتْلِ كُلّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْمُفَسّرِينَ وَلَفْظُ الْآيَةِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ هَذِهِ الْمَعَانِي ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى : فِي هَذِهِ الْآيَةِ { قَاتِلُوا الّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يُصَدّقُونَ بِالْآخِرَةِ فَمَعْنَاهُ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ سَلّامٍ أَنّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَا يَقُولُونَ بِإِعَادَةِ الْأَجْسَادِ وَيَقُولُونَ إنّ الْأَرْوَاحَ هِيَ الّتِي تُبْعَثُ دُونَ الْأَجْسَادِ .

مَا نَزَلَ فِي أَهْلِ النّفَاقِ
ثُمّ قَالَ تَعَالَى لِنَبِيّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَذْكُرُ أَهْلَ النّفَاقِ { لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشّقّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أَيْ إنّهُمْ يَسْتَطِيعُونَ { عَفَا اللّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتّى يَتَبَيّنَ لَكَ الّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ } إلَى قَوْلِهِ { لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ }
تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ سَارُوا بَيْنَ أَضْعَافِكُمْ فَالْإِيضَاعُ ضَرْبٌ مِنْ السّيْرِ أَسْرَعُ مِنْ الْمَشْيِ قَالَ الْأَجْدَعُ بْنُ مَالِكٍ الْهَمْدَانِيّ :
يَصْطَادُك الْوَحَدَ الْمُدِلّ بِشَأْوِهِ ... بِشَرِيجَ بَيْنَ الشّدّ وَالْإِيضَاعِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ .
عَوْدٌ إلَى مَا نَزَلَ فِي أَهْلِ النّفَاقِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ الّذِينَ اسْتَأْذَنُوهُ مِنْ ذَوِي الشّرَفِ فِيمَا بَلَغَنِي ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابْنِ سَلُولَ وَالْجَدّ بْنُ قَيْسٍ ؛ وَكَانُوا أَشْرَافًا فِي قَوْمِهِمْ فَثَبّطَهُمْ اللّهُ لِعِلْمِهِ بِهِمْ أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُ فَيُفْسِدُوا عَلَيْهِ جُنْدَهُ وَكَانَ فِي جُنْدِهِ قَوْمٌ أَهْلُ مَحَبّةٍ لَهُمْ وَطَاعَةٍ فِيمَا يَدْعُونَهُمْ إلَيْهِ لِشَرَفِهِمْ فِيهِمْ . فَقَالَ تَعَالَى : { وَفِيكُمْ سَمّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ } أَيْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَسْتَأْذِنُوك ، { وَقَلّبُوا لَكَ الْأُمُورَ } أَيْ لِيُخَذّلُوا عَنْك أَصْحَابَك وَيَرُدّوا عَلَيْك أَمْرَك { حَتّى جَاءَ الْحَقّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا } وَكَانَ الّذِي قَالَ ذَلِكَ . فِيمَا سُمّيَ لَنَا ، الْجَدّ بْنُ قَيْسٍ ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ ، حِين دَعَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى [ ص 326 ] الرّومِ . ثُمّ كَانَتْ الْقِصّةُ إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدّخَلًا لَوَلّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } أَيْ إنّمَا نِيّتُهُمْ وَرِضَاهُمْ وَسُخْطُهُمْ لِدُنْيَاهُمْ .
مَا نَزَلَ فِي ذِكْرِ أَصْحَابِ الصّدَقَاتِ
ثُمّ بَيّنَ الصّدَقَاتِ لِمَنْ هِيَ وَسَمّى أَهْلَهَا ، فَقَالَ { إِنّمَا الصّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَاِبْنِ السّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ }
مَا نَزَلَ فِيمَنْ آذَوْا الرّسُولَ
ثُمّ ذَكَرَ غِشّهُمْ وَأَذَاهُمْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ { وَمِنْهُمُ الّذِينَ يُؤْذُونَ النّبِيّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وَكَانَ الّذِي يَقُولُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ فِيمَا بَلَغَنِي ، نَبْتَلُ بْنُ الْحَارِثِ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَفِيهِ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ يَقُولُ إنّمَا مُحَمّدٌ أُذُنٌ مَنْ حَدّثَهُ شَيْئًا صَدّقَهُ . يَقُولُ اللّهُ تَعَالَى : { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ } أَيْ يَسْمَعُ الْخَيْرَ وَيُصَدّقُ بِهِ . ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ } ثُمّ قَالَ { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنّ إِنّمَا كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذّبْ طَائِفَةً } وَكَانَ الّذِي قَالَ وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ ، أَخُو بَنِي أُمَيّةَ بْنِ زَيْدٍ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْف ٍ وَكَانَ الّذِي عُفِيَ عَنْهُ فِيمَا بَلَغَنِي : مُخَشّنُ بْنُ حُمَيّرٍ الْأَشْجَعِيّ ، حَلِيفُ بَنِي سَلِمَةَ ، وَذَلِكَ أَنّهُ أَنْكَرَ مِنْهُمْ بَعْضَ مَا سَمِعَ . ثُمّ الْقِصّةُ مِنْ صِفَتِهِمْ حَتّى انْتَهَى إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيّهَا النّبِيّ جَاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ } إلَى قَوْلِهِ { مِنْ وَلِيّ وَلَا نَصِيرٍ } وَكَانَ الّذِي قَالَ تِلْكَ الْمَقَالَةَ الْجُلَاسُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ صَامِتٍ فَرَفَعَهَا عَلَيْهِ رَجُلٌ كَانَ فِي حُجْرَةٍ يُقَالُ لَهُ عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ [ ص 327 ] فَأَنْكَرَهَا وَحَلَفَ بِاَللّهِ مَا قَالَهَا ، فَلَمّا نَزَلَ فِيهِمْ الْقُرْآنُ تَابَ وَنَزَعَ وَحَسُنَتْ حَالُهُ وَتَوْبَتُهُ فِيمَا بَلَغَنِي . ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصّدّقَنّ وَلَنَكُونَنّ مِنَ الصّالِحِينَ } وَكَانَ الّذِي عَاهَدَ اللّهَ مِنْهُمْ ثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ ، وَمُعَتّبُ بْنُ قُشَيْرٍ ، وَهُمَا مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ . ثُمّ قَالَ { الّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطّوّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقَاتِ وَالّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وَكَانَ الْمُطّوّعُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقَاتِ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ ، وَعَاصِمَ بْنَ عَدِيّ أَخَا بَنِي الْعَجْلَانِ وَذَلِكَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَغِبَ فِي الصّدَقَةِ وَحَضّ عَلَيْهَا ، فَقَامَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، فَتَصَدّقَ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَقَامَ عَاصِمُ بْنُ عَدِيّ ، فَتَصَدّقَ بِمِائَةِ وَسْقٍ مِنْ تَمْرٍ فَلَمَزُوهُمَا وَقَالُوا : مَا هَذَا إلّا رِيَاءٌ وَكَانَ الّذِي تَصَدّقَ بِجُهْدِهِ أَبُو عُقَيْلٍ أَخُو بَنِي أُنَيْفٍ أَتَى بِصَاعٍ مِنْ تَمْرٍ فَأَفْرَغَهَا فِي الصّدَقَةِ فَتَضَاحَكُوا بِهِ وَقَالُوا : إنّ اللّهَ لَغَنِيّ عَنْ صَاعِ أَبِي عُقَيْلٍ ثُمّ ذَكَرَ قَوْلَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ حِينَ أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْجِهَادِ وَأَمَرَ بِالسّيْرِ إلَى تَبُوكَ ، عَلَى شِدّةِ الْحَرّ وَجَدْبِ الْبِلَادِ فَقَالَ تَعَالَى : { وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرّ قُلْ نَارُ جَهَنّمَ أَشَدّ حَرّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا } إلَى قَوْلِهِ { وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ }

مَا نَزَلَ بِسَبَبِ صَلَاةِ النّبِيّ عَلَى ابْنِ أُبَيّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي الزّهْرِيّ عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ سَمِعْت عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ يَقُولُ لَمّا تُوُفّيَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ، دُعِيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلصّلَاةِ عَلَيْهِ فَقَامَ إلَيْهِ فَلَمّا وَقَفَ عَلَيْهِ يُرِيدُ الصّلَاةَ تَحَوّلْت حَتّى قُمْت فِي صَدْرِهِ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ أَتُصَلّي عَلَى عَدُوّ اللّهِ عَبْدِ بْنِ أُبَيّ ابْنِ سَلُولَ ؟ الْقَائِلِ كَذَا يَوْمَ كَذَا ، وَالْقَائِلِ كَذَا يَوْمَ كَذَا ؟ أُعَدّدُ أَيّامَهُ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَتَبَسّمُ حَتّى إذَا أَكْثَرْت قَالَ يَا عُمَرُ أَخّرْ عَنّي ، إنّي قَدْ خُيّرْت فَاخْتَرْت ، قَدْ قِيلَ لِي : اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ فَلَوْ أَعْلَمُ أَنّي إنْ زِدْت عَلَى السّبْعِينَ غُفِرَ لَهُ لَزِدْت . قَالَ ثُمّ صَلّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَشَى مَعَهُ حَتّى قَامَ عَلَى قَبْرِهِ حَتّى فُرِغَ [ ص 328 ] قَالَ فَعَجِبْت لِي وَلِجُرْأَتِي عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . فَوَاَللّهِ مَا كَانَ إلّا يَسِيرًا حَتّى نَزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ { وَلَا تُصَلّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ } فَمَا صَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدَهُ عَلَى مُنَافِقٍ حَتّى قَبَضَهُ اللّهُ تَعَالَى .

مَا نَزَلَ فِي الْمُسْتَأْذِنِينَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطّوْلِ مِنْهُمْ } وَكَانَ ابْنُ أُبَيّ مِنْ أُولَئِكَ فَنَعَى اللّهُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَذَكَرَهُ مِنْهُ ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { لَكِنِ الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَعَدّ اللّهُ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَجَاءَ الْمُعَذّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الّذِينَ كَذَبُوا اللّهَ وَرَسُولَهُ } إلَى آخِرِ الْقِصّةِ . وَكَانَ الْمُعَذّرُونَ ، فِيمَا بَلَغَنِي نَفَرًا مِنْ بَنِي غِفَارٍ ، مِنْهُمْ خُفَافُ بْنُ إيمَاءِ بْنِ رَحَضَةَ ، ثُمّ كَانَتْ الْقِصّةُ لِأَهْلِ الْعُذْرِ حَتّى انْتَهَى إلَى قَوْلِهِ { وَلَا عَلَى الّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ حَزَنًا أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ } وَهُمْ الْبَكّاءُونَ . ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { إِنّمَا السّبِيلُ عَلَى الّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } وَالْخَوَالِفُ النّسَاءُ . ثُمّ ذَكَرَ حَلِفَهُمْ لِلْمُسْلِمِينَ وَاعْتِذَارَهُمْ فَقَالَ { فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ } إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنّ اللّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ }
Sمِنْ الْمُعَذّرِينَ
[ ص 325 ] وَذَكَرَ فِي الْمُعَذّرِينَ خُفَافَ بْنَ إيمَاءَ بْنِ رَحْضَةَ ، وَيُقَالُ فِيهِ رُحْضَةُ بِالضّمّ ابْنُ خَرِبَةَ وَكَانَ لَهُ وَلِأَبِيهِ إيمَاءَ وَلِجَدّهِ رَحْضَةَ صُحْبَةٌ . مَاتَ خُفَافٌ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - وَكَانَ إمَامًا لِبَنِي غِفَارٍ . [ ص 326 ] وَذَكَرَ ابْنَ عُقَيْلٍ صَاحِبَ الصّاعِ الّذِي لَمَزَهُ الْمُنَافِقُونَ وَاسْمُهُ جَثْجَاثٌ وَقَدْ قِيلَ فِي صَاحِبِ الصّاعِ أَنّهُ رِفَاعَةُ بْنُ سَهْلٍ . [ ص 327 ] [ ص 328 ]

مَا نَزَلَ فِيمَنْ نَافَقَ مِنْ الْأَعْرَابِ
ثُمّ ذَكَرَ الْأَعْرَابَ وَمَنْ نَافَقَ مِنْهُمْ وَتَرَبّصَهُمْ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبِالْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ { وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتّخِذُ مَا يُنْفِقُ } أَيْ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ نَفَقَةٍ فِي سَبِيلِ اللّه { مَغْرَمًا وَيَتَرَبّصُ بِكُمُ الدّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السّوْءِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ثُمّ ذَكَرَ الْأَعْرَابَ أَهْلَ الْإِخْلَاصِ وَالْإِيمَانِ مِنْهُمْ فَقَالَ { وَيَتّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرّسُولِ أَلَا إِنّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ } . [ ص 329 ]

مَا نَزَلَ فِي السّابِقِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ
ثُمّ ذَكَرَ السّابِقِينَ الْأَوّلِينَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، وَفَضْلَهُمْ وَمَا وَعَدَهُمْ اللّهُ مِنْ حُسْنِ ثَوَابِهِ إيّاهُمْ ثُمّ أَلْحَقَ بِهِمْ التّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ فَقَالَ { رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ } ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { وَمِمّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النّفَاقِ } أَيْ لَجّوا فِيهِ وَأَبَوْا غَيْرَهُ { سَنُعَذّبُهُمْ مَرّتَيْنِ } وَالْعَذَابُ الّذِي أَوْعَدَهَا اللّهُ تَعَالَى مَرّتَيْنِ فِيمَا بَلَغَنِي : غَمّهُمْ بِمَا هُمْ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الْإِسْلَامِ وَمَا يَدْخُلُ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْظِ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ حِسْبَةٍ ثُمّ عَذَابُهُمْ فِي الْقُبُورِ إذَا صَارُوا إلَيْهَا ، ثُمّ الْعَذَابُ الْعَظِيمُ الّذِي يَرُدّونَ إلَيْهِ عَذَابُ النّارِ وَالْخُلْدِ فِيهِ . ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمّا يُعَذّبُهُمْ وَإِمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } وَهُمْ الثّلَاثَةُ الّذِينَ خُلّفُوا ، وَأَرْجَأَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمْرَهُمْ حَتّى أَتَتْ مِنْ اللّهِ تَوْبَتُهُمْ . ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { وَالّذِينَ اتّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا } إلَخْ . الْقِصّةَ ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { إِنّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنّ لَهُمُ الْجَنّةَ } ثُمّ كَانَ قِصّةُ الْخَبَرِ عَنْ تَبُوكَ ، وَمَا كَانَ فِيهَا إلَى آخِرِ السّورَةِ . وَكَانَتْ بَرَاءَةٌ تُسَمّى فِي زَمَانِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَعْدَهُ الْمُبَعْثِرَةَ لِمَا كَشَفَتْ مِنْ سَرَائِرِ النّاسِ . وَكَانَتْ تَبُوكُ آخِرَ غَزْوَةٍ غَزَاهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .

شِعْرُ حَسّانَ الّذِي عَدّدَ فِيهِ الْمَغَازِيَ
وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يُعَدّدُ أَيّامَ الْأَنْصَارِ مَعَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَيَذْكُرُ مَوَاطِنَهُمْ مَعَهُ فِي أَيّامِ غَزْوِهِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَتُرْوَى لِابْنِهِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ حَسّانَ : [ ص 330 ]
أَلَسْت خَيْرَ مَعَدّ كُلّهَا نَفَرًا ... وَمَعْشَرًا إنْ هُمْ عُمّوا وَإِنْ حُصِلُوا
قَوْمٌ هُمْ شَهِدُوا بَدْرًا بِأَجْمَعِهِمْ ... مَعَ الرّسُولِ فَمَا آلَوْا وَمَا خَذَلُوا
وَبَايَعُوهُ فَلَمْ يَنْكُثْ بِهِ أَحَدٌ ... مِنْهُمْ وَلَمْ يَكُ فِي إيمَانِهِمْ دَخَلُ
وَيَوْمَ صَبّحَهُمْ فِي الشّعْبِ مِنْ أُحُدٍ ... ضَرْبٌ رَصِينٌ كَحَرّ النّارِ مُشْتَعِلُ
وَيَوْمَ ذِي قَرَدٍ يَوْمَ اسْتَثَارَ بِهِمْ ... عَلَى الْجِيَادِ فَمَا خَامُوا وَمَا نَكَلُوا
وَذَا الْعُشَيْرَةِ جَاسُوهَا بِخَيْلِهِمْ ... مَعَ الرّسُولِ عَلَيْهَا الْبَيْضُ وَالْأَسَلُ
وَيَوْمَ وَدّانَ أَجْلَوْا أَهْلَهُ رَقَصًا ... بِالْخَيْلِ حَتّى نَهَانَا الْحَزْنُ وَالْجَبَلُ
وَلَيْلَةً طَلَبُوا فِيهَا عَدُوّهُمْ ... لِلّهِ وَاَللّهُ يَجْزِيهِمْ بِمَا عَمِلُوا
وَغَزْوَةً يَوْمَ نَجْدٍ ثُمّ كَانَ لَهُمْ ... مَعَ الرّسُولِ بِهَا الْأَسْلَابُ وَالنّفَلُ
وَلَيْلَةً بِحُنَيْنٍ جَالَدُوا مَعَهُ ... فِيهَا يَعِلّهُمُ بِالْحَرْبِ إذْ نَهَلُوا
وَغَزْوَةَ الْقَاعِ فَرّقْنَا الْعَدُوّ بِهِ ... كَمَا تَفَرّقَ دُونَ الْمَشْرَبِ الرّسَلُ
وَيَوْمَ بُويِعَ كَانُوا أَهْلَ بَيْعَتِهِ ... عَلَى الْجِلَادِ فَآسَوْهُ وَمَا عَدَلُوا
وَغَزْوَةَ الْفَتْحِ كَانُوا فِي سَرِيّتِهِ ... مُرَابِطِينَ فَمَا طَاشُوا وَمَا عَجِلُوا
وَيَوْمَ خَيْبَرَ كَانُوا فِي كَتِيبَتِهِ ... يَمْشُونَ كُلّهُمْ مُسْتَبْسِلٌ بَطَلُ
بِالْبَيْضِ تَرْعَشُ فِي الْأَيْمَانِ عَارِيَةً ... تَعْوَجّ فِي الضّرْبِ أَحْيَانًا وَتَعْتَدِلُ
وَيَوْمَ سَارَ رَسُولُ اللّهِ مُحْتَسِبًا ... إلَى تَبُوكَ وَهُمْ رَايَاتُهُ الْأُوَلُ
وَسَاسَةُ الْحَرْبِ إنْ حَرْبٌ بَدَتْ لَهُمْ ... حَتّى بَدَا لَهُمْ الْإِقْبَالُ وَالْقَفَلُ
أُولَئِكَ الْقَوْمُ أَنْصَارُ النّبِيّ وَهُمْ ... قَوْمِي أَصِيرُ إلَيْهِمْ حِينَ أَتّصِلُ
مَاتُوا كِرَامًا وَلَمْ تُنْكَثْ عُهُودُهُمْ ... وَقَتْلُهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ إذْ قُتِلُوا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ عَجُزُ آخِرِهَا بَيْتًا عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ .
Sقَصِيدَةُ حَسّانَ الْمِيمِيّةُ
فَصْلٌ
[ ص 329 ] وَذَكَرَ كَلِمَةَ حَسّانَ الْمِيمِيّةَ وَفِيهَا : أَلَسْت خَيْرَ مَعَدّ كُلّهَا نَفَرًا
وَحَسّانُ لَيْسَ مِنْ مَعَدّ وَلَكِنْ أَرَادَ أَلَسْت خَيْرَ النّاسِ فَأَقَامَ مَعَدّا لِكَثْرَتِهَا مَقَامَ النّاسِ . [ ص 330 ]

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا : [ ص 331 ]
كُنّا مُلُوكَ النّاسِ قَبْلَ مُحَمّدٍ ... فَلَمّا أَتَى الْإِسْلَامُ كَانَ لَنَا الْفَضْلُ
وَأَكْرَمَنَا اللّهُ الّذِي لَيْسَ غَيْرَهُ ... إلَهٌ بِأَيّامٍ مَضَتْ مَا لَهَا شَكْلُ
بِنَصْرِ الْإِلَهِ وَالرّسُولِ وَدِينِهِ ... وَأَلْبَسَنَاهُ اسْمًا مَضَى مَا لَهُ مِثْلُ
أُولَئِكَ قَوْمِي خَيْرُ قَوْمِك بِأَسْرِهِمْ ... فَمَا عُدّ مِنْ خَيْرٍ فَقَوْمِي لَهُ أَهْلُ
يَرُبّونَ بِالْمَعْرُوفِ مَعْرُوفَ مَنْ مَضَى ... وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ دُونَ مَعْرُوفِهِمْ قَفْلُ
إذَا اخْتُبِطُوا لَمْ يُفْحِشُوا فِي نَدِيّهِمْ ... وَلَيْسَ عَلَى سُؤَالِهِمْ عِنْدَهُمْ بُخْلُ
وَإِنْ حَارَبُوا أَوْ سَالَمُوا لَمْ يُشَبّهُوا ... فَحَرْبُهُمْ حَتْفٌ وَسِلْمُهُمْ سَهْلُ
وَجَارُهُمْ مُوفٍ بِعَلْيَاءِ بَيْتِهِ ... لَهُ مَا ثَوَى فِينَا الْكَرَامَةُ وَالْبَذْلُ
وَحَامِلُهُمْ مُوفٍ بِكُلّ حَمَالَةٍ ... تَحَمّلَ لَا غُرْمٌ عَلَيْهَا وَلَا خَذْلُ
وَقَائِلُهُمْ بِالْحَقّ إنْ قَالَ قَائِلٌ ... وَحِلْمُهُمْ عَوْدٌ وَحُكْمُهُمْ عَدْلُ
وَمِنّا أَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ حَيَاتَهُ ... وَمَنْ غَسّلَتْهُ مِنْ جَنَابَتِهِ الرّسْلُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَوْلُهُ " وَأَلْبَسَنَاهُ اسْمًا " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا : [ ص 332 ] [ ص 333 ]
قَوْمِي أُولَئِكَ إنْ تَسْأَلِي ... كِرَامٌ إذَا الضّيْفُ يَوْمًا أَلَمْ
عِظَامُ الْقُدُورِ لِأَيْسَارِهِمْ ... يَكُبّونَ فِيهَا الْمُسِنّ السّنِمْ
يُؤَاسُونَ جَارَهُمْ فِي الْغِنَى ... وَيَحْمُونَ مَوْلَاهُمْ إنْ ظُلِمْ
فَكَانُوا مُلُوكًا بِأَرْضِيهِمْ ... يُنَادُونَ عَضْبًا بِأَمْرٍ غُشُمْ
مُلُوكًا عَلَى النّاسِ لَمْ يُمْلَكُوا ... مِنْ الدّهْرِ يَوْمًا كَحِلّ القَسَمْ
فَأَنْبَوْا بِعَادٍ وَأَشْيَاعِهَا ... ثَمُودَ وَبَعْضِ بَقَايَا إرَمْ
بِيَثْرِبَ قَدْ شَيّدُوا فِي النّخِيلِ ... حُصُونًا وَدُجّنَ فِيهَا النّعَمْ
نَوَاضِحَ قَدْ عَلّمَتْهَا الْيَهُو ... دُ ( عَلْ ) إلَيْك وَقَوْلًا هَلُمْ
وَفِيمَا اشْتَهَوْا مِنْ عَصِيرِ الْقِطَا ... فِ وَالْعَيْشِ رَخْوًا عَلَى غَيْرِهِمْ
فَسِرْنَا إلَيْهِمْ بِأَثْقَالِنَا ... عَلَى كُلّ فَحْلٍ هِجَانٍ قَطِمْ
جَنَبْنَا بِهِنّ جِيَادَ الْخُيُو ... لِ قَدْ جَلّلُوهَا جِلَالَ الْأَدَمْ
فَلَمّا أَنَاخُوا بِجَنْبَيْ صِرَارٍ ... وَشَدّوا السّرُوجَ بِلَيّ الحُزُمْ
فَمَا رَاعَهُمْ غَيْرُ مَعْجِ الْخُيُو ... لِ وَالزّحْفُ مِنْ خَلْفِهِمْ قَدْ دَهِمْ
فَطَارُوا سِرَاعًا وَقَدْ أُفْزِعُوا ... وَجِئْنَا إلَيْهِمْ كَأُسْدِ الأُجُمْ
عَلَى كُلّ سَلْهَبَةٍ فِي الصّيَا ... نِ لَا يَشْتَكِينَ نُحُولَ السّأَمْ
وَكُلّ كُمَيْتٍ مُطَارِ الْفُؤَادِ ... أَمِينِ الْفُصُوصِ كَمِثْلِ الزّلَمْ
عَلَيْهَا فَوَارِسُ قَدْ عُوّدُوا ... قِرَاعَ الْكُمَاةِ وَضَرْبَ الْبُهَمْ
مُلُوكٌ إذَا غَشَمُوا فِي الْبِلَا ... دِ لَا يَنْكُلُونَ وَلَكِنْ قُدُمْ
فَأُبْنَا بِسَادَاتِهِمْ وَالنّسَاءِ ... وَأَوْلَادِهِمْ فِيهِمْ تُقْتَسَمْ
وَرِثْنَا مَسَاكِنَهُمْ بَعْدَهُمْ ... وَكُنّا مُلُوكًا بِهَا لَمْ نَرِمْ
فَلَمّا أَتَانَا الرّسُولُ الرّشِي ... دُ بِالْحَقّ وَالنّورِ بَعْدَ الظّلَمْ
قُلْنَا صَدَقْت رَسُولَ الْمَلِيكِ ... هَلُمّ إلَيْنَا وَفِينَا أَقِمْ
فَنَشْهَدُ أَنّك عَبْدُ الْإِلَ ... هِ أُرْسِلْت نُورًا بِدِينٍ قِيَمْ
فَإِنّا وَأَوْلَادَنَا جُنّةٌ ... نَقِيك وَفِي مَالِنَا فَاحْتَكِمْ
فَنَحْنُ أُولَئِكَ إنْ كَذّبُوك ... فَنَادِ نِدَاءً وَلَا تَحْتَشِمْ
وَنَادِ بِمَا كُنْت أَخْفَيْته ... نِدَاءً جِهَارًا وَلَا تَكْتَتِمْ
فَصَارَ الْغُوَاةُ بِأَسْيَافِهِمْ ... إلَيْهِ يَظُنّونَ أَنْ يُخْتَرَمْ
فَقُمْنَا إلَيْهِمْ بِأَسْيَافِنَا ... نُجَالِدُ عَنْهُ بُغَاةَ الْأُمَمْ
بِكُلّ صَقِيلٍ لَهُ مَيْعَةٌ ... رَقِيقِ الذّبَابِ عَضُوضٍ خَذِمْ
إذَا مَا يُصَادِفُ صُمّ الْعِظَا ... مِ لَمْ يَنْبُ عَنْهَا وَلَمْ يَنْثَلِمْ
فَذَلِكَ مَا وَرّثَتْنَا الْقُرُو ... مُ مَجْدًا تَلِيدًا وَعِزّا أَشَمّ
إذَا مَرّ نَسْلٌ كَفَى نَسْلُهُ ... وَغَادَرَ نَسْلًا إذَا مَا انْفَصَمْ
فَمَا إنْ مِنْ النّاسِ إلّا لَنَا ... عَلَيْهِ وَإِنْ خَاصَ فَضْلُ النّعَمْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيّ بَيْتَهُ
فَكَانُوا مُلُوكًا بِأَرْضِيهِمْ ... يُنَادُونَ غُضْبًا بِأَمْرٍ غُشُمْ
[ ص 334 ]
بِيَثْرِبَ قَدْ شَيّدُوا فِي النّخِيلِ ... حُصُونًا وَدُجّنَ فِيهَا النّعَمْ
وَبَيْتَهُ " وَكُلّ كُمَيْتٍ مُطَارِ الْفُؤَادِ
" عَنْهُ . [ ص 335 ]
S[ ص 331 ] وَنَادِ جِهَارًا وَلَا تَحْتَشِمْ
وَفِيهَا رَدّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنّ الْحِشْمَةَ لَا تَكُونُ إلّا بِمَعْنَى الْغَضَبِ وَأَنّهَا مِمّا يَضَعُهَا النّاسُ غَيْرَ مَوْضِعِهَا ، وَقَدْ جَاءَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ : لِكُلّ طَاعِمٍ حِشْمَةٌ فَابْدَءُوهُ بِالْيَمِينِ وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ لَا يَرْفَعَنّ أَحَدُكُمْ يَدَهُ عَنْ الطّعَامَ قَبْلَ أَكِيلِهِ فَإِنّ ذَلِكَ مِمّا يَحْشِمُه وَأَنْشَدَ أَبُو الْفَرَجِ لِمُحَمّدِ بْنِ يَسِيرٍ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ مِثْلُ حَسّانَ فِي الْحُجّةِ
فِي انْقِبَاضٍ وَحِشْمَةٍ فَإِذَا ... جَالَسْت أَهْلَ الْوَفَاءِ وَالْكَرَمِ
أَرْسَلْت نَفْسِي عَلَى سَجِيّتِهَا ... وَقُلْت مَا شِئْت غَيْرَ مُحْتَشِمِ
[ ص 332 ]
وَكَانُوا مُلُوكًا ، وَلَمْ يَمْلِكُوا ... مِنْ الدّهْرِ يَوْمًا كَحِلّ القَسَمْ
فِيهِ شَاهِدٌ لِمَا قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي تَفْسِيرِ كَحِلّةِ الْقَسَمِ وَخِلَافُهُ لِأَبِي عُبَيْدٍ ، وَقَدْ قَدّمْنَا قَوْلَهُمَا فِيمَا تَقَدّمَ مِنْ شَرْحِ قَصِيدَةِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ . [ ص 333 ] ابْنُ قُتَيْبَةَ :
إذَا عَصَفَتْ رِيحٌ فَلَيْسَ بِقَائِمٍ ... بِهَا وَتَدٌ إلّا تَحِلّةَ مُقْسِمِ
وَأَنْشَدَ أَيْضًا : قَلِيلًا كَتَحْلِيلِ الْأُلَى ثُمّ أَصْبَحَتْ
الْبَيْتَ . وَقَوْلُهُ وَعِزّا أَشَمْ هُوَ كَقَوْلِ الْعَرَبِ : عِزّةٌ قَعْسَاءُ يُرِيدُ شَمّاءُ لِأَنّ الْأَقْعَسَ الّذِي يُخْرِجُ صَدْرَهُ وَيُدْخِلُ ظَهْرَهُ وَقَدْ فَسّرَهُ الْمُبَرّدُ غَيْرَ هَذَا التّفْسِيرِ وَبَيْتُ حَسّانَ يَشْهَدُ لِمَا قُلْنَاهُ إنّمَا هُوَ الشّمَمُ الّذِي يُوصَفُ بِهِ ذُو الْعِزّةِ فَوُصِفَتْ الْعِزّةُ بِهِ مَجَازًا .

تَفْسِيرُ سُورَةِ النّصْرِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ سُورَةَ إذَا جَاءَ نَصْرُ اللّهِ وَتَفْسِيرُهُ لَهَا فِي الظّاهِرِ خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبّاسٍ حِينَ سَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ تَأْوِيلِهَا ، فَأَخْبَرَهُ أَنّ اللّهَ تَعَالَى أَعْلَمَ فِيهَا نَبِيّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ بِانْقِضَاءِ أَجَلِهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إلّا مَا قُلْت . وَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ يَدُلّ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وَعُمَرُ لِأَنّ اللّهَ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ فَاشْكُرْ رَبّك ، وَاحْمَدْهُ كَمَا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : إنّمَا قَالَ فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّك وَاسْتَغْفِرْهُ إنّهُ كَانَ تَوّابًا ، فَهَذَا أَمْرٌ لِنَبِيّهِ عَلَيْهِ السّلَامُ بِالِاسْتِعْدَادِ لِلِقَاءِ رَبّهِ تَعَالَى وَالتّوْبَةِ إلَيْهِ وَمَعْنَاهَا الرّجُوعُ عَمّا كَانَ بِسَبِيلِهِ مِمّا أُرْسِلَ بِهِ مِنْ إظْهَارِ الدّينِ إذْ قَدْ فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ وَتَمّ مُرَادُهُ فِيهِ فَصَارَ جَوَابُ إذَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : [ ص 334 ] { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أَفْوَاجًا } مَحْذُوفًا . وَكَثِيرًا مَا يَجِيءُ فِي الْقُرْآنِ الْجَوَابُ مَحْذُوفًا ، وَالتّقْدِيرُ { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ } فَقَدْ انْقَضَى الْأَمْرُ وَدَنَا الْأَجَلُ وَحَانَ اللّقَاءُ { فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنّهُ كَانَ تَوّابًا } وَوَقَعَ فِي مُسْنَدِ الْبَزّارِ مُبَيّنًا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ فَقَالَ فِيهِ فَقَدْ دَنَا أَجَلُك فَسَبّحْ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الّذِي فَهِمَهُ ابْنُ عَبّاسٍ ، وَهُوَ حَذْفُ جَوَابِ إذَا ، وَمَنْ لَمْ يَتَنَبّهْ لِهَذِهِ النّكْتَةِ حَسِبَ أَنّ جَوَابَ إذَا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ فَسَبّحْ كَمَا تَقُولُ إذَا جَاءَ رَمَضَانُ فَصُمْ وَلَيْسَ فِي هَذَا التّأْوِيلِ مِنْ الْمُشَاكَلَةِ لِمَا قَبْلَهُ مَا فِي تَأْوِيلِ ابْنِ عَبّاسٍ فَتَدَبّرْهُ فَقَدْ وَافَقَهُ عَلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَحَسْبُك بِهِمَا فَهْمًا لِكِتَابِ اللّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، فَالْفَاءُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ رَابِطَةٌ لِلْأَمْرِ بِالْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ وَعَلَى مَا ظَهَرَ لِغَيْرِهِ رَابِطَةٌ لِجَوَابِ الشّرْطِ الّذِي فِي إذَا .

ذِكْرُ سَنَةِ تِسْعٍ وَتَسْمِيَتِهَا سَنَةَ الْوُفُودِ
وَنُزُولِ سُورَةِ الْفَتْحِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : لَمّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ ، وَفَرَغَ مِنْ تَبُوكَ ، وَأَسْلَمَتْ ثَقِيفٌ وَبَايَعَتْ ضَرَبَتْ إلَيْهِ وُفُودُ الْعَرَبِ مِنْ كُلّ وَجْهٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ أَنّ ذَلِكَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَأَنّهَا كَانَتْ تُسَمّى سَنَةَ الْوُفُودِ .
انْقِيَادُ الْعَرَبِ وَإِسْلَامُهُمْ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَإِنّمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَرَبّصُ بِالْإِسْلَامِ أَمْرَ هَذَا الْحَيّ مِنْ قُرَيْشٍ ، وَأَمْرَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَذَلِكَ أَنّ قُرَيْشًا كَانُوا إمَامَ النّاسِ وَهَادِيَهُمْ وَأَهْلَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ ، وَصَرِيحَ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السّلَامُ وَقَادَةَ الْعَرَبِ لَا يُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَكَانَتْ [ ص 336 ] قُرَيْشٌ هِيَ الّتِي نَصَبَتْ لِحَرْبِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَخِلَافِهِ فَلَمّا اُفْتُتِحَتْ مَكّةُ ، وَدَانَتْ لَهُ قُرَيْشٌ ، وَدَوّخَهَا الْإِسْلَامُ وَعَرَفَتْ الْعَرَبُ أَنّهُ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِحَرْبِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا عَدَاوَتِهِ فَدَخَلُوا فِي دِينِ اللّهِ كَمَا قَالَ عَزّ وَجَلّ أَفْوَاجًا ، يَضْرِبُونَ إلَيْهِ مِنْ كُلّ وَجْهٍ يَقُولُ اللّهُ تَعَالَى لِنَبِيّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللّهِ أَفْوَاجًا فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنّهُ كَانَ تَوّابًا } أَيْ فَاحْمَدْ اللّهَ عَلَى مَا أَظْهَرَ مِنْ دِينِك ، وَاسْتَغْفِرْهُ إنّهُ كَانَ تَوّابًا .
Sقُدُومُ الْوُفُودِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ
[ ص 335 ] قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَرْحَبًا بِالْوَفْدِ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا نَدَامَى وَقَدْ تَكَرّرَ حَدِيثُهُمْ فِي الصّحِيحَيْنِ دُونَ تَسْمِيَةِ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَمِنْهُمْ أَشَجّ عَبْدِ الْقَيْسِ ، وَهُوَ الْمُنْذِرُ بْنُ عَائِذٍ قَالَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 336 ] إنّ فِيك خَلّتَيْنِ يُحِبّهُمَا اللّهُ وَرَسُولُهُ الْحِلْمَ وَالْأَنَاةَ وَمِنْهُمْ أَبُو الْوَازِعِ الزّارِعُ بْنُ عَامِرٍ وَابْنُ أُخْتِهِ مَطَرُ بْنُ هِلَالٍ الْعَنْزِيّ " . وَلَمّا ذَكَرُوا لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ ابْنُ أُخْتِهِمْ قَالَ ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ . وَمِنْهُمْ ابْنُ أَخِي الزّارِعِ وَكَانَ مَجْنُونًا ، فَجَاءَ بِهِ مَعَهُ لِيَدْعُوَ لَهُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَمَسَحَ ظَهْرَهُ وَدَعَا لَهُ فَبَرِئَ لِحِينِهِ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا فَكُسِيَ جَمَالًا وَشَبَابًا ، حَتّى كَانَ وَجْهُهُ وَجْهَ الْعَذْرَاءِ وَمِنْهُمْ الْجَهْمُ بْنُ قُثَمَ لَمّا نَهَاهُمْ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ عَنْ الشّرْبِ فِي الْأَوْعِيَةِ وَحَذّرَهُمْ مَا يَقَعُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْجِرَاحِ وَأَخْبَرَهُمْ أَنّهُمْ إذَا شَرِبُوا الْمُنْكَرَ عَمَدَ أَحَدُهُمْ إلَى ابْنِ عَمّهِ فَجَرَحَهُ وَكَانَ فِيهِمْ رَجُلٌ قَدْ جُرِحَ فِي ذَلِكَ وَكَانَ يُخْفِي جُرْحَهُ وَيَكْتُمُهُ وَذَلِكَ الرّجُلُ هُوَ جَهْمُ بْنُ قُثَمَ ، عَجِبُوا مِنْ عِلْمِ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ بِذَلِكَ وَإِشَارَتِهِ إلَى ذَلِكَ الرّجُلِ . وَمِنْهُمْ أَبُو خَيْرَةَ الصّبَاحِيّ مِنْ بَنِي صُبَاحِ بْنِ لُكَيْزٍ مِنْ حَدِيثِهِ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ اللّهُمّ اغْفِرْ لِعَبْدِ الْقَيْسِ وَأَنّهُ زَوّدَهُمْ الْأَرَاكَ يَسْتَاكُونَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَزِيدَةُ الْعَصْرِيّ جَدّ هُودِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مَزِيدَةَ وَعَلَى هُودٍ يَدُورُ حَدِيثُهُ فِي التّمْرِ الْبَرْنِيّ وَأَنّهُ دَوَاءٌ وَلَيْسَ فِيهِ دَاءٌ وَمِنْهُمْ قَيْسُ بْنُ النّعْمَانِ ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ فَهَذَا مَا بَلَغَنِي مِنْ تَسْمِيَةِ مَنْ وَفَدَ عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ .

قُدُومُ وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ وَنُزُولُ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ
رِجَالُ الْوَفْدِ
فَقَدِمَتْ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وُفُودُ الْعَرَبِ ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبِ بْنِ زُرَارَةَ بْنِ عُدَسَ التّمِيمِيّ ، فِي أَشْرَافِ بَنِي تَمِيمٍ مِنْهُمْ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التّمِيمِيّ ، وَالزّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ التّمِيمِيّ ، أَحَدُ بَنِي سَعْدٍ وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ ، وَالْحَبْحَابُ بْنُ يَزِيدَ . [ ص 337 ]
شَيْءٌ عَنْ الْحُتَاتِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْحُتَاتُ وَهُوَ الّذِي آخَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ آخَى بَيْنَ نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَبَيْنَ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ وَعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، وَبَيْنَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ وَالزّبَيْرِ بْنِ الْعَوّامِ ، وَبَيْنَ أَبِي ذَرّ الْغِفَارِيّ وَالْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو الْبَهْرَانِيّ ، وَبَيْنَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَالْحُتَاتِ بْنِ يَزِيدَ الْمُجَاشِعِيّ فَمَاتَ الْحُتَاتُ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ فِي خِلَافَتِهِ فَأَخَذَ مُعَاوِيَةُ مَا تَرَكَ وِرَاثَةً بِهَذِهِ الْأُخُوّةِ فَقَالَ الْفَرَزْدَقُ لِمُعَاوِيَةَ
أَبُوك وَعَمّي يَا مُعَاوِيَ أَوْرَثَا ... تُرَاثًا فَيَحْتَازُ التّرَاثَ أَقَارِبُهْ
فَمَا بَالُ مِيرَاثِ الْحُتَاتِ أَكَلْته ... وَمِيرَاثِ حَرْبٍ جَامِدٌ لَك ذَائِبُهْ
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ .
سَائِرُ رِجَالِ الْوَفْدِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَفِي وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ نُعَيْمُ بْنُ يَزِيدَ وَقَيْسُ بْنُ الْحَارِثِ ، وَقَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ ، أَخُو بَنِي سَعْدٍ فِي وَفْدٍ عَظِيمٍ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَعُطَارِدُ بْنُ حَاجِبٍ ، أَحَدُ بَنِي دَارِمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ ، وَالْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ أَحَدُ بَنِي دَارِمِ بْنِ مَالِكٍ وَالْحُتَاتُ بْنُ يَزِيدَ أَحَدُ بَنِي دَارِمِ بْنِ مَالِكٍ وَالزّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ ، أَحَدُ بَنِي بَهْدَلَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ ، وَعَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ ، أَحَدُ بَنِي مِنْقَرِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ ، وَقَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ ، أَحَدُ بَنِي مِنْقَرِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمَعَهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيّ ، وَقَدْ كَانَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ شَهِدَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَتْحَ مَكّةَ وَحُنَيْنًا وَالطّائِفَ . [ ص 338 ]
صِيَاحُهُمْ بِالرّسُولِ وَكَلِمَةُ عُطَارِدٍ
فَلَمّا قَدِمَ وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ كَانَا مَعَهُمْ فَلَمّا دَخَلَ وَفْدُ بَنِي تَمِيمٍ الْمَسْجِدَ نَادَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ وَرَاءِ حُجُرَاتِهِ أَنْ اُخْرُجْ إلَيْنَا يَا مُحَمّدُ فَآذَى ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ صِيَاحِهِمْ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ فَقَالُوا : يَا مُحَمّدُ جِئْنَاك نُفَاخِرُك ، فَأْذَنْ لِشَاعِرِنَا وَخَطِيبِنَا ، قَالَ " قَدْ أُذِنَ لِخَطِيبِكُمْ فَلْيَقُلْ " فَقَالَ عُطَارِدُ بْنُ حَاجِبٍ ، فَقَالَ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي لَهُ عَلَيْنَا الْفَضْلُ وَالْمَنّ ، وَهُوَ أَهْلُهُ الّذِي جَعَلَنَا مُلُوكًا ، وَوَهَبَ لَنَا أَمْوَالًا عِظَامًا ، نَفْعَلُ فِيهَا الْمَعْرُوفَ وَجَعَلَنَا أَعَزّ أَهْلِ الْمَشْرِقِ وَأَكْثَرَهُ عَدَدًا ، وَأَيْسَرَهُ عُدّةً فَمَنْ مِثْلُنَا فِي النّاسِ ؟ أَلَسْنَا بِرُءُوسِ النّاسِ وَأُولِي فَضْلِهِمْ ؟ فَمَنْ فَاخَرَنَا فَلْيَعْدُدْ مِثْلَ مَا عَدَدْنَا ، وَإِنّا لَوْ نَشَاءُ لَأَكْثَرْنَا الْكَلَامَ وَلَكِنّا نَحْيَا مِنْ الْإِكْثَارِ فِيمَا أَعْطَانَا ، وَإِنّا نُعْرَفُ بِذَلِكَ . أَقُولُ هَذَا لِأَنْ تَأْتُوا بِمِثْلِ قَوْلِنَا ، وَأَمْرٍ أَفْضَلَ مِنْ أَمْرِنَا . ثُمّ جَلَسَ .
S[ ص 337 ] وَذَكَرَ فِي الْوُفُودِ الْحُتَاتَ بْنَ يَزِيدَ وَقَوْلَ الْفَرَزْدَقِ لِمُعَاوِيَةَ فِيهِ فَمَا بَالُ مِيرَاثِ الْحُتَاتِ أَكَلْته
الْبَيْتَ وَبَعْدَهُ فِي غَيْرِ سِيرَةِ ابْنِ إسْحَاقَ :
فَلَوْ أَنّ هَذَا كَانَ فِي غَيْرِ مُلْكِكُمْ ... لَبُؤْت بِهَا أَوْ غَصّ بِالْمَاءِ شَارِبُهْ
[ ص 338 ]
شَرْحُ صَاحِبِ الْحُلّةِ
وَذَكَرَ فِيهِمْ عُطَارِدَ بْنَ حَاجِبِ بْنِ زُرَارَةَ ، وَهُوَ صَاحِبُ الْحُلّةِ الّتِي قَالَ فِيهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " إنّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ الْحُلّةَ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ [ فِي الْآخِرَةِ ] " وَقَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَتَكْسُونِي هَذِهِ وَقَدْ قُلْت فِي حُلّةِ عُطَارِدٍ مَا قُلْت ، وَكَانَ سَبَبُ تِلْكَ الْحُلّةِ أَنّ حَاجِبَ بْنَ زُرَارَةَ أَبَا عُطَارِدٍ كَانَ وَفَدَ عَلَى كِسْرَى لِيَأْخُذَ مِنْهُ أَمَانًا لِقَوْمِهِ لِيَقْرُبُوا مِنْ رِيفِ الْعِرَاقِ لِجَدْبٍ أَصَابَ بِلَادَهُمْ فَسَأَلَهُ كِسْرَى رَهْنًا لِيَسْتَوْثِقَ بِهَا مِنْهُمْ فَدَفَعَ إلَيْهِ قَوْسَهُ رَهِينَةً فَاسْتَحْمَقَهُ الْمَلِكُ وَضَحِكَ مِنْهُ فَقِيلَ لَهُ أَيّهَا الْمَلِكُ إنّهُمْ الْعَرَبُ لَوْ رَهَنَك أَحَدُهُمْ تِبْنَةً مَا أَسْلَمَهَا غَدْرًا فَقَبِلَهَا مِنْهُ كِسْرَى ، فَلَمّا أَخْصَبَتْ بِلَادُهُمْ انْتَشَرُوا رَاجِعِينَ إلَيْهَا ، وَجَاءَ حَاجِبٌ يَطْلُبُ قَوْسَهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ كَسَاهُ كِسْرَى تِلْكَ الْحُلّةَ الّتِي كَانَتْ عِنْدَ عُطَارِدٍ الْمَذْكُورَةَ فِي جَامِعِ الْمُوَطّإِ . ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ أَوْ مَعْنَاهُ وَفِي الْمُوَطّإِ أَنّ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - كَسَا الْحُلّةَ أَخًا لَهُ مُشْرِكًا بِمَكّةَ قَالَ ابْنُ الْحَذّاءِ كَانَ أَخَاهُ لِأُمّهِ وَاسْمُهُ عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ الثّقَفِيّ ، وَهُوَ جَدّ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ لِأُمّهِ هَكَذَا ذَكَرَ فِي تَسْمِيَةِ رِجَالِ الْمُوَطّإِ وَغَلِطَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنّهُ قَالَ كَانَ أَخَا عُمَرَ لِأُمّهِ وَإِنّمَا هُوَ أَخُو زَيْدِ بْنِ الْخَطّابِ لِأُمّهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ وَهْبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ [ ص 339 ] خُزَيْمَةَ ، وَأَمّا أُمّ عُمَرَ فَهِيَ حَنْتَمَةُ بِنْتُ هَاشِمِ بْنِ الْمُغِيرَةِ [ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَخْزُومٍ ] ، وَالْغَلَطُ الثّانِي أَنّهُ جَعَلَهُ ثَقِيفِيّا وَإِنّمَا هُوَ سُلَمِيّ وَهُوَ عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ فَالِجِ بْنِ ذَكْوَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ بُهْثَةَ بْنِ سُلَيْمٍ هَكَذَا نَسَبَهُ الزّبَيْرُ وَبِنْتُهُ أُمّ سَعْدٍ وَلَدَتْ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيّبِ .
نَسَبُ ابْنِ الْأَهْتَمِ
وَذَكَرَ فِيهِمْ عَمْرَو بْنَ الْأَهْتَمِ وَنَسَبَهُ وَاسْمُ الْأَهْتَمِ سُمَيّ بْنُ سِنَانٍ وَهُوَ جَدّ شَبِيبِ بْنِ شَيْبَةَ وَخَالِدِ بْنِ صَفْوَانَ الْخَطِيبَيْنِ الْبَلِيغَيْنِ وَسُمّيَ سُمَيّ بِالْأَهْتَمِ لِأَنّ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ ضَرَبَهُ فَهَتَمَ فَاهُ .

كَلِمَةُ ثَابِتٍ فِي الرّدّ عَلَى عُطَارِدٍ
[ ص 339 ] فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ الشّمّاسِ أَخِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ : قُمْ فَأَجِبْ الرّجُلَ فِي خُطْبَتِهِ . فَقَامَ ثَابِتٌ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي السّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ خَلْقُهُ قَضَى فِيهِنّ أَمْرَهُ وَوَسِعَ كُرْسِيّهُ عِلْمُهُ وَلَمْ يَكُ شَيْءٌ قَطّ إلّا مِنْ فَضْلِهِ ثُمّ كَانَ مِنْ قُدْرَتِهِ أَنْ جَعَلَنَا مُلُوكًا ، وَاصْطَفَى مِنْ خَيْرِ خَلْقِهِ رَسُولًا ، أَكْرَمَهُ نَسَبًا ، وَأَصْدَقَهُ حَدِيثًا ، وَأَفْضَلَهُ حَسَبًا ، فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ وَائْتَمَنَهُ عَلَى خَلْقِهِ فَكَانَ خِيرَةَ اللّهِ مِنْ الْعَالَمِينَ ثُمّ دَعَا النّاسَ إلَى الْإِيمَانِ بِهِ فَآمَنَ بِرَسُولِ اللّهِ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قَوْمِهِ وَذَوِي رَحِمِهِ أَكْرَمُ النّاسِ حَسَبًا ، وَأَحْسَنُ النّاسِ وُجُوهًا ، وَخَيْرُ النّاسِ فِعَالًا . ثُمّ كَانَ أَوّلَ الْخَلْقِ إجَابَةً وَاسْتَجَابَ لِلّهِ حِينَ دَعَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَحْنُ فَنَحْنُ أَنْصَارُ اللّهِ وَوُزَرَاءُ رَسُولِهِ نُقَاتِلُ النّاسَ حَتّى يُؤْمِنُوا بِاَللّهِ فَمَنْ آمَنَ بِاَللّهِ وَرَسُولِهِ مَنَعَ مِنّا مَالَهُ وَدَمَهُ وَمَنْ كَفَرَ جَاهَدْنَاهُ فِي اللّهِ أَبَدًا ، وَكَانَ قَتْلُهُ عَلَيْنَا يَسِيرًا . أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللّهَ لِي وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالسّلَامُ عَلَيْكُمْ .
Sعَنْ كُرْسِيّ اللّهِ
وَذَكَرَ خُطْبَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ ، وَفِيهَا وَسِعَ كُرْسِيّهُ عِلْمُهُ وَفِيهِ رَدّ عَلَى مَنْ قَالَ الْكُرْسِيّ هُوَ الْعِلْمُ وَكَذَلِك مَنْ قَالَ هُوَ الْقُدْرَةُ لِأَنّهُ لَا تُوصَفُ الْقُدْرَةُ وَالْعِلْمُ بِأَنّ الْعِلْمَ وَسِعَهَا ، وَإِنّمَا كُرْسِيّهُ مَا أَحَاطَ بِالسّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ وَهُوَ دُونَ الْعَرْشِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْآثَارُ فَعِلْمُهُ سُبْحَانَهُ قَدْ وَسِعَ الْكُرْسِيّ بِمَا حَوَاهُ مِنْ دَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَجَلَائِلِهَا وَجُمَلِهَا وَتَفَاصِيلِهَا ، وَقَدْ قِيلَ إنّ الْكُرْسِيّ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الْعَرْشُ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَا يَكَادُ أَنْ يَكُونَ حُجّةً لِهَذَا الْقَوْلِ لِأَنّهُ لَمْ يُرِدْ أَنّ الْعِلْمَ وَسِعَ الْكُرْسِيّ فَمَا دُونَهُ عَلَى الْخُصُوصِ دُونَ مَا فَوْقَهُ فَجَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْعَرْشَ وَمَا تَحْتَهُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . فَإِنْ صَحّتْ الرّوَايَةُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ [ ص 340 ] أَشَارَ إلَى أَنّ مَعْنَى الْعِلْمِ وَالْإِحَاطَةِ يُفْهَمُ مِنْ الْآيَةِ لِأَنّ الْكُرْسِيّ الّذِي هُوَ عِنْدَ الْعَرَبِ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ مِنْ سَرِيرِ الْمُلْكِ إذَا وَسِعَ مَا وَسِعَ فَقَدْ وَسِعَهُ عِلْمُ الْمَلِكِ وَمُلْكُهُ وَقُدْرَتُهُ وَنَحْوَ هَذَا ، فَلَيْسَ فِي أَنْ يَسَعَ الْكُرْسِيّ مَا وَسِعَهُ مَدْحٌ وَثَنَاءٌ عَلَى الْمَلِكِ سُبْحَانَهُ إلّا مِنْ حَيْثُ تَضَمّنِ سَعَةِ الْعِلْمِ وَالْمُلْكِ وَإِلّا فَلَا مَدْحَ فِي وَصْفِ الْكُرْسِيّ بِالسّعَةِ وَالْآيَةُ لَا مَحَالَةَ وَارِدَةٌ فِي مَعْرِضِ الْمَدْحِ وَالتّعْظِيمِ لِلْعَلِيّ الْعَظِيمِ الّذِي لَا يَئُودُهُ حِفْظُ مَخْلُوقَاتِهِ كُلّهَا ، وَهُوَ الْحَيّ الْقَيّومُ وَقَرّى الطّبَرِيّ قَوْلَ ابْنِ عَبّاسٍ ، وَاحْتَجّ لَهُ بِقَوْلِهِ عَزّ وَجَلّ { وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا } وَبِأَنّ الْعَرَبَ تُسَمّي الْعُلَمَاءَ كَرَاسِيّ . قَالَ وَمِنْهُ سُمّيَتْ الْكُرّاسُ لِمَا تَضَمّنَتْهُ وَتَجْمَعُهُ مِنْ الْعِلْمِ وَأَنْشَدَ
تَحُفّهُمْ بِيضُ الْوُجُوهِ وَعَصَبَةٌ ... كَرَاسِيّ بِالْأَحْدَاثِ حِينَ تَنُوبُ
أَيْ عَالِمُونَ بِالْأَحْدَاثِ .

شِعْرُ الزّبْرِقَانِ فِي الْفَخْرِ بِقَوْمِهِ
[ ص 340 ] الزّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرٍ ، فَقَالَ
نَحْنُ الْكِرَامُ فَلَا حَيّ يُعَادِلُنَا ... مِنّا الْمُلُوكُ وَفِينَا تُنْصَبُ الْبِيَعُ
وَكَمْ قَسَرْنَا مِنْ الْأَحْيَاءِ كُلّهِمْ ... عِنْدَ النّهَابِ وَفَضْلُ الْعِزّ يُتّبَعُ
وَنَحْنُ يُطْعِمُ عِنْدَ الْقَحْطِ مُطْعِمُنَا ... مِنْ الشّوَاءِ إذَا لَمْ يُؤْنَسْ الْقَزَعُ
بِمَا تَرَى النّاسَ تَأْتِينَا سَرَاتُهُمْ ... مِنْ كُلّ أَرْضٍ هُوِيّا ثُمّ تَصْطَنِعُ
[ ص 341 ] الْكُومَ عُبْطًا فِي أَرُومَتِنَا ... لِلنّازِلِينَ إذَا مَا أُنْزِلُوا شَبِعُوا
فَلَا تَرَانَا إلَى حَيّ نُفَاخِرُهُمْ ... إلّا اسْتَفَادُوا فَكَانُوا الرّأْسَ يُقْتَطَعُ
فَمَنْ يُفَاخِرُنَا فِي ذَاكَ نَعْرِفُهُ ... فَيَرْجِعُ الْقَوْمُ وَالْأَحْبَارُ تَسْتَمِعُ
إنّا أَبَيْنَا وَلَا يَأْبَى لَنَا أَحَدٌ ... إنّا كَذَلِكَ عِنْدَ الْفَخْرِ نَرْتَفِعُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُرْوَى : مِنّا الْمُلُوكُ وَفِينَا تُقْسَمُ الرّبَعُ
وَيُرْوَى : مِنْ كُلّ أَرْضٍ هَوَانَا ثُمّ نُتّبَعُ
رَوَاهُ لِي بَعْضُ بَنِي تَمِيمٍ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ يُنْكِرُهَا لِلزّبْرِقَانِ .
Sشِعْرُ الزّبْرِقَانِ
وَذَكَرَ شِعْرَ الزّبْرِقَانِ وَأَنّ بَعْضَ النّاسِ يُنْكِرُ الشّعْرَ لَهُ وَذَكَرَ الْبَرْقِيّ أَنّ الشّعْرَ لِقَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيّ وَكَانَ الزّبْرِقَانُ يُرْفَعُ لَهُ بَيْتٌ مِنْ عَمَائِمَ وَثِيَابٍ وَيُنْضَخُ بِالزّعْفَرَانِ وَالطّيبِ وَكَانَتْ بَنُو تَمِيمٍ تَحُجّ ذَلِكَ الْبَيْتَ . قَالَ الشّاعِرُ وَهُوَ الْمُخَبّلُ السّعْدِيّ ، وَاسْمُهُ كَعْبُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ قِتَالٍ
وَأَشْهَدَ مِنْ عَوْفٍ حُلُولًا كَثِيرَةً ... يَحُجّونَ سِبّ الزّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا
وَالسّبّ : الْعِمَامَةُ وَأَحْسَبُهُ أَشَارَ إلَى هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ بِمَا تَرَى النّاسَ تَأْتِينَا سَرَاتُهُمْ
الْبَيْتَ . وَلَيْسَ السّرَاةُ جَمْعَ سَرِيّ كَمَا ظَنّوا ، وَإِنّمَا هُوَ كَمَا تَقُولُ ذُرْوَتُهُمْ وَسَنَامُهُمْ وَسَرَاةُ كُلّ شَيْءٍ أَعْلَاهُ وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِيمَا مَضَى مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَالزّبْرِقَانُ مِنْ أَسْمَاءِ [ ص 341 ] قَالَ الشّاعِرُ
تُضِيءُ بِهِ الْمَنَابِرُ حِينَ يَرْقَى ... عَلَيْهَا مِثْلَ ضَوْءِ الزّبْرِقَانِ
وَالزّبْرِقَانُ أَيْضًا : الْخَفِيفُ الْعَارِضَيْنِ وَكَانَتْ لَهُ ثَلَاثَةُ أَسْمَاءَ الزّبْرِقَانُ وَالْقَمَرُ وَالْحُصَيْنُ وَثَلَاثُ كُنًى : أَبُو الْعَبّاسِ وَأَبُو شَذْرَةَ وَأَبُو عَيّاشٍ وَهُوَ الزّبْرِقَانُ بْنُ بَدْرِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ خَلَفِ بْنِ بَهْدَلَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ .

شِعْرُ حَسّانَ فِي الرّدّ عَلَى الزّبْرِقَانِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ حَسّانُ غَائِبًا ، فَبَعَثَ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ حَسّانُ جَاءَنِي رَسُولُهُ فَأَخْبَرَنِي أَنّهُ إنّمَا دَعَانِي لِأُجِيبَ شَاعِرَ بَنِي تَمِيمٍ فَخَرَجْت إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنَا أَقُولُ
مَنَعْنَا رَسُولَ اللّهِ إذْ حَلّ وَسْطَنَا ... عَلَى أَنْفِ رَاضٍ مِنْ مَعَدّ وَرَاغِمِ
مَنَعْنَاهُ لَمّا حَلّ بَيْنَ بُيُوتِنَا ... بِأَسْيَافِنَا مِنْ كُلّ بَاغٍ وَظَالِمِ
بِبَيْتٍ حَرِيدٍ عِزّهُ وَثَرَاؤُهُ ... بِجَابِيَةِ الْجَوْلَانِ وَسْطَ الْأَعَاجِمِ
هَلْ الْمَجْدُ إلّا السّودَدُ الْعَوْدُ وَالنّدَى ... وَجَاهُ الْمُلُوكِ وَاحْتِمَالُ الْعَظَائِمِ
[ ص 342 ] قَالَ فَلَمّا انْتَهَيْت إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَامَ شَاعِرُ الْقَوْمِ فَقَالَ مَا قَالَ عَرَضْت فِي قَوْلِهِ وَقُلْت عَلَى نَحْوِ مَا قَالَ . قَالَ فَلَمّا فَرَغَ الزّبْرِقَانُ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِحَسّانَ بْنِ ثَابِتٍ قُمْ يَا حَسّانُ فَأَجِبْ الرّجُلَ فِيمَا قَالَ . فَقَامَ حَسّانُ فَقَالَ [ ص 343 ]
إنّ الذّوَائِبَ مِنْ فِهْرٍ وَإِخْوَتِهِمْ ... قَدْ بَيّنُوا سُنّةً لِلنّاسِ تُتّبَعُ
يَرْضَى بِهِمْ كُلّ مَنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ ... تَقْوَى الْإِلَهِ وَكُلّ الْخَيْرِ يُصْطَنَعُ
قَوْمٌ إذَا حَارَبُوا ضَرّوا عَدُوّهُمْ ... أَوْ حَاوَلُوا النّفْعَ فِي أَشْيَاعِهِمْ نَفَعُوا
سَجِيّةٌ تِلْكَ مِنْهُمْ غَيْرُ مُحْدَثَةٍ ... إنّ الْخَلَائِقَ فَاعْلَمْ شَرّهَا الْبِدَعُ
إنْ كَانَ فِي النّاسِ سَبّاقُونَ بَعْدَهُمْ ... فَكُلّ سَبْقٍ لِأَدْنَى سَبْقِهِمْ تَبَعُ
لَا يَرْفَعُ النّاسُ مَا أَوْهَتْ أَكُفّهُمْ ... عِنْدَ الدّفَاعِ وَلَا يُوهُونَ مَا رَقَعُوا
إنْ سَابَقُوا النّاسَ يَوْمًا فَازَ سَبْقُهُمْ ... أَوْ وَازَنُوا أَهْلَ مَجْدٍ بِالنّدَى مَتَعُوا
أَعِفّةٌ ذُكِرَتْ فِي الْوَحْيِ عِفّتُهُمْ ... لَا يَطْمَعُونَ وَلَا يُرْدِيهِمْ طَمَعُ
لَا يَبْخَلُونَ عَلَى جَارٍ بِفَضْلِهِمْ ... وَلَا يَمَسّهُمْ مِنْ مَطْمَعٍ طَبَعُ
إذَا نَصَبْنَا لِحَيّ لَمْ نَدِبّ لَهُمْ ... كَمَا يَدِبّ إلَى الْوَحْشِيّةِ الذّرَعُ
نَسْمُو إذَا الْحَرْبُ نَالَتْنَا مَخَالِبُهَا ... إذَا الزّعَانِفُ مِنْ أَظْفَارِهَا خَشَعُوا
لَا يَفْخَرُونَ إذَا نَالُوا عَدُوّهُمْ ... وَإِنْ أُصِيبُوا فَلَا خُورٌ وَلَا هُلُعُ
كَأَنّهُمْ فِي الْوَغَى وَالْمَوْتِ مُكْتَنِعٌ ... أُسْدٌ بِحَلْبَةَ فِي أَرْسَاغِهَا فَدَعُ
خُذْ مِنْهُمْ مَا أَتَى عَفْوًا إذَا غَضِبُوا ... وَلَا يَكُنْ هَمّك الْأَمْرَ الّذِي مَنَعُوا
فَإِنّ فِي حَرْبِهِمْ فَاتْرُكْ عَدَاوَتَهُمْ ... شَرّا يُخَاضُ عَلَيْهِ السّمّ وَالسّلَعُ
أَكْرِمْ بِقَوْمٍ رَسُولُ اللّهِ شِيعَتُهُمْ ... إذَا تَفَاوَتَتْ الْأَهْوَاءُ وَالشّيَعُ
أَهْدَى لَهُمْ مِدْحَتِي قَلْبٌ يُؤَازِرُهُ ... فِيمَا أَحَبّ لِسَانٌ حَائِكٌ صَنَعُ
فَإِنّهُمْ أَفْضَلُ الْأَحْيَاءِ كُلّهِمْ ... إنْ جَدّ بِالنّاسِ جِدّ الْقَوْلِ أَوْ شَمَعُوا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي أَبُو زَيْدٍ :
يَرْضَى بِهَا كُلّ مَنْ كَانَتْ سَرِيرَتُهُ ... تَقْوَى الْإِلَهِ وَبِالْأَمْرِ الّذِي شَرَعُوا
Sشِعْرُ حَسّانَ فِي الرّدّ عَلَى الزّبْرِقَانِ فِي الْمِيمِيّةِ وَالْعَيْنِيّةِ
وَقَوْلُ حَسّانَ بِبَيْتٍ حَرِيدٍ عِزّهُ وَثَرَاؤُهُ
[ ص 342 ] غَسّانَ وَهُمْ مُلُوكُ الشّامِ ، وَهُمْ وَسَطَ الْأَعَاجِمِ ، وَالْبَيْتُ الْحَرِيدُ الْمُنْفَرِدُ عَنْ الْبُيُوتِ كَمَا انْفَرَدَتْ غَسّانُ ، وَانْقَطَعَتْ عَنْ أَرْضِ الْعَرَبِ ، وَكَانَ حَسّانُ يَضْرِبُ بِلِسَانِهِ أَرْنَبَةَ أَنْفِهِ هُوَ وَابْنُهُ وَأَبُوهُ وَجَدّهُ وَكَانَ يَقُولُ لَوْ وَضَعْته يَعْنِي لِسَانَهُ عَلَى حَجَرٍ لَفَلَقَهُ أَوْ عَلَى شَعْرٍ لَحَلَقَهُ وَمَا يَسُرّنِي بِهِ مَقُولٌ مِنْ مَعَدّ . وَقَوْلُ حَسّانَ يُخَاضُ إلَيْهِ السّمّ وَالسّلَعُ . السّلَعُ شَجَرٌ مُرّ . قَالَ أُمَيّةُ [ بْنُ أَبِي الصّلْتِ ] :
عُشَرٌ مَا وَفَوْقَهُ سَلَعٌ مَا ... عَائِلٌ مَا ، وَعَالَتْ الْبَيْقُورَا
يُرِيدُ أَنّهُمْ كَانُوا إذَا اسْتَسْقَوْا فِي الْجَاهِلِيّةِ رَبَطُوا السّلَعَ وَالْعُشَرَ فِي أَذْنَابِ الْبَقَرِ . وَقَوْلُهُ شَمَعُوا ، أَيْ ضَحِكُوا وَمَزَحُوا . قَالَ الشّاعِرُ [ الْمُتَنَخّلُ الْهُذَلِيّ ] يَصِفُ الْأَضْيَافَ
وَأَبْدَؤُهُمْ بِمَشْمَعَةٍ وَأُثْنِي ... بِجُهْدِي مِنْ طَعَامٍ أَوْ بِسَاطِ
وَفِي الْحَدِيثِ مَنْ تَتَبّعَ الْمَشْمَعَةَ شَمّعَ اللّهُ بِهِ . يُرِيدُ مِنْ ضَحِكَ مِنْ النّاسِ وَأَفْرَطَ فِي الْمَزْحِ . [ ص 343 ] أَوْ وَازَنُوا أَهْلَ مَجْدٍ بِالنّدَى مَتَعُوا
أَيْ ارْتَفَعُوا ، يُقَال : مَتَعَ النّهَارُ إذَا ارْتَفَعَ .

شِعْرٌ آخَرُ لِلزّبْرِقَانِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ أَنّ الزّبْرِقَانَ بْنَ بَدْرٍ لَمّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ قَامَ فَقَالَ
أَتَيْنَاك كَيْمَا يَعْلَمَ النّاسُ فَضْلَنَا ... إذَا احْتَفَلُوا عِنْدَ احْتِضَارِ الْمَوَاسِمِ
بِأَنّا فُرُوعُ النّاسِ فِي كُلّ مَوْطِنٍ ... وَأَنْ لَيْسَ فِي أَرْضِ الْحِجَازِ كَدَارِمِ
وَأَنّا نَذُودُ الْمُعْلِمِينَ إذَا انْتَخَوْا ... وَنَضْرِبُ رَأْسَ الْأَصْيَدِ الْمُتَفَاقِمِ
وَأَنّ لَنَا الْمِرْبَاعَ فِي كُلّ غَارَةٍ ... نُغِيرُ بِنَجْدٍ أَوْ بِأَرْضِ الْأَعَاجِمِ
Sشِعْرٌ آخَرُ لِحَسّانَ فِي الرّدّ عَلَى الزّبْرِقَانِ
[ ص 344 ] حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ فَأَجَابَهُ فَقَالَ
هَلْ الْمَجْدُ إلّا السّودَدُ الْعَوْدُ وَالنّدَى ... وَجَاهُ الْمُلُوكِ وَاحْتِمَالُ الْعَظَائِمِ
نَصَرْنَا وَآوَيْنَا النّبِيّ مُحَمّدًا ... عَلَى أَنْفِ رَاضٍ مِنْ مَعَدّ وَرَاغِمِ
بِحَيّ حَرِيدٍ أَصْلُهُ وَثَرَاؤُهُ ... بِجَابِيَةِ الْجَوْلَانِ وَسْطَ الْأَعَاجِمِ
نَصَرْنَاهُ لَمّا حَلّ وَسْطَ دِيَارِنَا ... بِأَسْيَافِنَا مِنْ كُلّ بَاغٍ وَظَالِمِ
جَعَلْنَا بَنِينَا دُونَهُ وَبَنَاتِنَا ... وَطِبْنَا لَهُ نَفْسًا بِفَيْءِ الْمَغَانِمِ
وَنَحْنُ ضَرَبْنَا النّاسَ حَتّى تَتَابَعُوا ... عَلَى دِينِهِ بِالْمُرْهَفَاتِ الصّوَارِمِ
وَنَحْنُ وَلَدْنَا مِنْ قُرَيْشٍ عَظِيمَهَا ... وَلَدْنَا نَبِيّ الْخَيْرِ مِنْ آلِ هَاشِمِ
بَنِي دَارِمٍ لَا تَفْخَرُوا إنّ فَخْرَكُمْ ... يَعُودُ وَبَالًا عِنْدَ ذِكْرِ الْمَكَارِمِ
هَبِلْتُمْ عَلَيْنَا تَفْخَرُونَ وَأَنْتُم ... لَنَا خَوَلٌ مَا بَيْنَ ظِئْرٍ وَخَادِمِ
فَإِنْ كُنْتُمْ جِئْتُمْ لِحَقْنِ دِمَائِكُمْ ... وَأَمْوَالِكُمْ أَنْ تُقْسَمُوا فِي الْمَقَاسِمِ
فَلَا تَجْعَلُوا لِلّهِ نِدّا وَأَسْلِمُوا ... وَلَا تَلْبَسُوا زِيّا كَزِيّ الْأَعَاجِمِ
[ ص 344 ]
شِعْرٌ آخَرُ لِحَسّانَ فِي الرّدّ عَلَى الزّبْرِقَانِ وَقَوْلُ حَسّانَ
وَطِبْنَا لَهُ نَفْسًا بِفَيْءِ الْمَغَانِمِ
يُرِيدُ طِيبَ نُفُوسِهِمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ حِينَ أَعْطَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُؤَلّفَةَ قُلُوبُهُمْ وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ شَيْئًا .

إسْلَامُهُمْ وَتَجْوِيزُ الرّسُولِ إيّاهُمْ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا فَرَغَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ مِنْ قَوْلِهِ قَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَأَبِي ، إنّ هَذَا الرّجُلَ لِمُؤَتّى لَهُ لَخَطِيبُهُ أَخْطَبُ مِنْ خَطِيبِنَا ، وَلَشَاعِرُهُ أَشْعَرُ مِنْ شَاعِرِنَا ، وَلَأَصْوَاتُهُمْ أَحْلَى مِنْ أَصْوَاتِنَا . فَلَمّا فَرَغَ الْقَوْمُ أَسْلَمُوا ، وَجَوّزَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَحْسَنَ جَوَائِزَهُمْ .
شِعْرُ ابْنِ الْأَهْتَمِ فِي هِجَاءِ قَيْسٍ لِتَحْقِيرِهِ إيّاهُ
[ ص 345 ] كَانَ عَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ قَدْ خَلّفَهُ الْقَوْمُ فِي ظَهْرِهِمْ وَكَانَ أَصْغَرَهُمْ سِنّا ، فَقَالَ قَيْسُ بْنُ عَاصِمٍ ، وَكَانَ يُبْغِضُ عَمْرَو بْنَ الْأَهْتَمِ : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّهُ قَدْ كَانَ رَجُلٌ مِنّا فِي رِحَالِنَا ، وَهُوَ غُلَامٌ حَدَثٌ وَأَزْرَى بِهِ فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِثْلَ مَا أَعْطَى الْقَوْمَ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ حِينَ بَلَغَهُ أَنّ قَيْسًا قَالَ ذَلِكَ يَهْجُوهُ
ظَلِلْت مُفْتَرِشَ الْهَلْبَاءِ تَشْتُمُنِي ... عِنْدَ الرّسُولِ فَلَمْ تَصْدُقْ وَلَمْ تُصِبْ
سُدْنَاكُمْ سُودَدًا رَهْوًا وَسُودَدُكُمْ ... بَادٍ نَوَاجِذُهُ مُقْعٍ عَلَى الذّنَبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : بَقِيَ بَيْتٌ وَاحِدٌ تَرَكْنَاهُ لِأَنّهُ أَقْذَعَ فِيهِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَفِيهِمْ نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ { إِنّ الّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } [ الْحُجُرَاتِ 4 ] .
S[ ص 345 ]
شَرْحُ قَوْلِ ابْنِ الْأَهْتَمِ لِابْنِ عَاصِمٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ قَوْلَ عَمْرِو بْنِ الْأَهْتَمِ لِقَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ
ظَلِلْت مُفْتَرِشَ الْهَلْبَاءِ تَشْتُمُنِي ... عِنْدَ النّبِيّ فَلَمْ تَصْدُقْ وَلَمْ تُصِبْ
الْهَلْبَاءُ فَعْلَاءُ مِنْ الْهُلْبِ وَهُوَ الْخَشِينُ مِنْ الشّعْرِ يُقَالُ مِنْهُ رَجُلٌ أَهْلَبُ وَمِنْهُ قَوْلُ الشّعْبِيّ فِي مُشْكِلَةٍ نَزَلَتْ هَلْبَاءُ زَبّاءُ ذَاتُ وَبَرٍ كَأَنّهُ أَرَادَ بِمُفْتَرِشِ الْهَلْبَاءِ أَيْ مُفْتَرِشًا لِحْيَتَهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِمُفْتَرِشِ الْهَلْبَاءِ يَعْنِي امْرَأَةً . وَقِيلَ الْهَلْبَاءُ يُرِيدُ بِهَا هَاهُنَا دُبُرَهُ فَإِنْ كَانَ عَنَى امْرَأَةً فَهُوَ نَصْبٌ عَلَى النّدَاءِ .
مَا نَزَلَ فِي وَفْدِ تَمِيمٍ مِنْ الْحُجُرَاتِ
وَذَكَرَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهِمْ فِي سُورَةِ الْحُجُرَاتِ وَقَدْ كَانَ عُمَرُ وَأَبُو بَكْرٍ اخْتَلَفَا فِي أَمْرِ الزّبْرِقَانِ وَعَمْرِو بْنِ الْأَهْتَمِ ، فَأَشَارَ أَحَدُهُمَا بِتَقْدِيمِ الزّبْرِقَانِ وَأَشَارَ الْآخَرُ بِتَقْدِيمِ عَمْرِو بْنِ الْأَهْتَمِ حَتّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا ، فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَاتّقُوا اللّهَ } إلَى قَوْلِهِ { لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ } فَكَانَ عُمَرُ بَعْدَ ذَلِكَ إذَا كَلّمَ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ لَا يُكَلّمُهُ إلّا كَأَخِي السّرَارِ .
إنّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا
وَفِي هَذَا الْوَفْدِ جَاءَ الْحَدِيثُ أَنّ رَجُلَيْنِ قَدِمَا مِنْ نَجْدٍ فَخَطَبَا ، فَعَجِبَ النّاسُ لِبَيَانِهِمَا ، [ ص 346 ] فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا وَأَدْخَلَهُ مَالِكٌ فِي بَابِ مَا يُذَمّ مِنْ الْقَوْلِ مِنْ أَجْلِ أَنّ السّحْرَ مَذْمُومٌ شَرْعًا ، وَغَيْرُهُ يَذْهَبُ إلَى أَنّهُ مَدْحٌ لَهُمَا بِالْبَيَانِ وَاسْتِمَالَةِ الْقُلُوبِ كَالسّحْرِ وَكَانَ مِنْ قَوْلِهِمَا . إنّ عَمْرًا قَالَ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الزّبْرِقَانِ إنّهُ مُطَاعٌ فِي أَدْنَيْهِ سَيّدٌ فِي عَشِيرَتِهِ فَقَالَ الزّبْرِقَانُ لَقَدْ حَسَدَنِي يَا رَسُولَ اللّهِ لِشَرَفِي ، وَلَقَدْ عَلِمَ أَفْضَلَ مِمّا قَالَ . قَالَ فَقَالَ عَمْرٌو : إنّهُ لَزَمِرُ الْمُرُوءَةِ ضَيّقُ الْعَطَنِ لَئِيمُ الْخَالِ فَعَرَفَ الْإِنْكَارَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ رَضِيت فَقُلْت أَحْسَنَ مَا عَلِمْت ، وَسَخِطْت فَقُلْت أَقْبَحَ مَا عَلِمْت ، وَلَقَدْ صَدَقْت فِي الْأُولَى وَمَا كَذَبْت فِي الثّانِيَةِ فَحِينَئِذٍ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ مِنْ الْبَيَانِ لَسِحْرًا وَقَوْلُهُ لَئِيمُ الْخَالِ قِيلَ إنّ أُمّهُ كَانَتْ مِنْ بَاهِلَةَ ، قَالَهُ ابْنُ ثَابِتٍ فِي الدّلَائِلِ وَقَدْ أَنْكَرَ هَذَا عَلَيْهِ وَمِمّنْ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ أَبُو مَرْوَانَ بْنُ سِرَاجٍ فَاَللّهُ أَعْلَمُ لِأَنّ أَهْلَ النّسَبِ ذَكَرُوا أَنّ أُمّ الزّبْرِقَانِ عُكْلِيّةٌ مِنْ بَنِي أُقَيْشٍ وَعُكْلٌ وَإِنْ كَانَتْ تَجْتَمِعُ مَعَ تَمِيمٍ فِي أُدّ بْنِ طَابِخَةَ لَكِنّ تَمِيمًا أَشْرَفُ مِنْهُمْ وَلَا سِيّمَا بَنِي سَعْدٍ رَهْطُ الزّبْرِقَانِ فَلِذَلِكَ جَعَلَهُ عَمْرٌو لَئِيمَ الْخَالِ .

قِصّةُ عَامِرِ بْنِ الطّفَيْلِ وَأَرْبَدَ بْنِ قَيْسٍ فِي الْوِفَادَةِ عَنْ بَنِي عَامِر
بَعْضُ رِجَالِ الْوَفْدِ
وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 346 ] بَنِي عَامِرٍ فِيهِمْ عَامِرُ بْنُ الطّفَيْلِ وَأَرْبَدُ بْنُ قَيْسِ بْنِ جَزْءِ بْنِ خَالِدِ بْنِ جَعْفَرٍ وَجَبّارُ بْنُ سَلْمَى بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرٍ ، وَكَانَ هَؤُلَاءِ الثّلَاثَةُ رُؤَسَاءَ الْقَوْمِ وَشَيَاطِينَهُمْ .
تَدْبِيرُ عَامِرٍ لِلْغَدْرِ بِالرّسُولِ
فَقَدِمَ عَامِرُ بْنُ الطّفَيْلِ عَدُوّ اللّهِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ يُرِيدُ الْغَدْرَ بِهِ وَقَدْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ يَا عَامِرُ إنّ النّاسَ قَدْ أَسْلَمُوا فَأَسْلِمْ قَالَ وَاَللّهِ لَقَدْ كُنْت آلَيْتَ أَنْ لَا أَنْتَهِيَ حَتّى تَتّبِعَ الْعَرَبُ عَقِبِي ، أَفَأَنَا أَتّبِعُ عَقِبَ هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ ثُمّ قَالَ لِأَرْبَدَ إذَا قَدِمْنَا عَلَى الرّجُلِ فَإِنّي سَأَشْغَلُ عَنْك وَجْهَهُ فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ فَاعْلُهُ بِالسّيْفِ فَلَمّا [ ص 347 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ عَامِرُ بْنُ الطّفَيْلِ : يَا مُحَمّدُ خَالِنِي ، قَالَ لَا وَاَللّهِ حَتّى تُؤْمِنَ بِاَللّهِ وَحْدَهُ . قَالَ يَا مُحَمّدُ خَالِنِي . وَجَعَلَ يُكَلّمُهُ وَيَنْتَظِرُ مِنْ أَرْبَدَ مَا كَانَ أَمَرَهُ بِهِ فَجَعَلَ أَرْبَدُ لَا يُحِيرُ شَيْئًا ، قَالَ فَلَمّا رَأَى عَامِرٌ مَا يَصْنَعُ أَرْبَدُ قَالَ يَا مُحَمّدُ خَالِنِي قَالَ لَا ، حَتّى تُؤْمِنَ بِاَللّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ . فَلَمّا أَبَى عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ أَمَا وَاَللّهِ لَأَمْلَأَنّهَا عَلَيْك خَيْلًا وَرِجَالًا ، فَلَمّا وَلّى قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اللّهُمّ اكْفِنِي عَامِرَ بْنَ الطّفَيْلِ . فَلَمّا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ عَامِرٌ لِأَرْبَدَ وَيْلَك يَا أَرْبَدُ أَيْنَ مَا كُنْت أَمَرْتُك بِهِ ؟ وَاَللّهِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ رَجُلٌ هُوَ أَخْوَفَ عِنْدِي عَلَى نَفْسِي مِنْك . وَأَيْمُ اللّهِ لَا أَخَافُك بَعْدَ الْيَوْمِ أَبَدًا . قَالَ لَا أَبَالَك لَا تَعْجَلْ عَلَيّ وَاَللّهِ مَا هَمَمْت بِاَلّذِي أَمَرْتنِي بِهِ مِنْ أَمْرِهِ إلّا دَخَلْتَ بَيْنِي وَبَيْنَ الرّجُلِ حَتّى مَا أَرَى غَيْرَك ، أَفَأَضْرِبُك بِالسّيْفِ ؟
مَوْتُ عَامِرٍ بِدُعَاءِ الرّسُولِ عَلَيْهِ
وَخَرَجُوا رَاجِعِينَ إلَى بِلَادِهِمْ حَتّى إذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطّرِيقِ بَعَثَ اللّهُ عَلَى عَامِرِ بْنِ الطّفَيْلِ الطّاعُونَ فِي عُنُقِهِ فَقَتَلَهُ اللّهُ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي سَلُولَ فَجَعَلَ يَقُولُ يَا بَنِي عَامِرٍ أَغُدّةً كَغُدّةِ الْإِبِلِ وَمَوْتًا فِي بَيْتِ سَلُولِيّةٍ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ أَغُدّةً كَغُدّةِ الْإِبِلِ وَمَوْتًا فِي بَيْتِ سَلُولِيّةٍ .
Sخَبَرُ عَامِرٍ وَأَرْبَد
فَصْلٌ
وَذَكَرَ خَبَرَ عَامِرِ بْنِ الطّفَيْلِ وَأَرْبَدَ وَأَنّ أَرْبَدَ قَالَ لِعَامِرٍ مَا هَمَمْت بِقَتْلِ مُحَمّدٍ إلّا رَأَيْتُك بَيْنِي وَبَيْنَهُ أَفَأَقْتُلُك ؟ وَفِي غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ : إلّا رَأَيْت بَيْنِي وَبَيْنَهُ [ ص 347 ] سُورًا مِنْ حَدِيدٍ وَكَذَلِك فِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ قَالَ عَامِرٌ لَأَمْلَأَنّهَا عَلَيْك خَيْلًا جُرْدًا ، وَرِجَالًا مُرْدًا ، وَلَأَرْبِطَنّ بِكُلّ نَخْلَةٍ فَرَسًا ، فَجَعَلَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ يَضْرِبُ فِي رُءُوسِهِمَا وَيَقُولُ اُخْرُجَا أَيّهَا الْهِجْرِسَانِ فَقَالَ لَهُ عَامِرٌ وَمَنْ أَنْتَ ؟ فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَقَالَ أَحُضَيْرُ بْنُ سِمَاكٍ ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ أَبُوك كَانَ خَيْرًا مِنْك ، فَقَالَ بَلْ أَنَا خَيْرٌ مِنْك ، وَمِنْ أَبِي ، لِأَنّ أَبِي كَانَ مُشْرِكًا ، وَأَنْت مُشْرِكٌ . وَذَكَرَ سِيبَوَيْهِ قَوْلَ عَامِرٍ أَغُدّةً كَغُدّةِ الْبَعِيرِ وَمَوْتًا فِي بَيْتِ سَلُولِيّةٍ فِي بَابِ مَا يَنْتَصِبُ عَلَى إضْمَارِ الْفِعْلِ الْمَتْرُوكِ إظْهَارُهُ كَأَنّهُ قَالَ أُغَدّ غُدّةً وَالسّلُولِيّةُ امْرَأَةٌ مَنْسُوبَةٌ إلَى سَلُولَ بْنِ صَعْصَعَةَ وَهُمْ بَنُو مُرّةَ بْنِ صَعْصَعَةَ وَسَلُولُ أُمّهُمْ وَهِيَ بِنْتُ ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَ وَكَانَ عَامِرُ بْنُ الطّفَيْلِ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ فَلِذَلِكَ اخْتَصّهَا لِقُرْبِ النّسَبِ بَيْنَهُمَا ، حَتّى مَاتَ فِي بَيْتِهَا .

مَوْتُ أَرْبَدَ بِصَاعِقَةٍ وَمَا نَزَلَ فِيهِ وَفِي عَامِرٍ
[ ص 348 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ خَرَجَ أَصْحَابُهُ حِينَ وَارَوْهُ حِينَ قَدِمُوا أَرْضَ بَنِي عَامِرٍ شَاتِينَ فَلَمّا قَدِمُوا أَتَاهُمْ قَوْمُهُمْ فَقَالُوا : مَا وَرَاءَك يَا أَرْبَدُ ؟ قَالَ لَا شَيْءَ وَاَللّهِ لَقَدْ دَعَانَا إلَى عِبَادَةِ شَيْءٍ لَوَدِدْت أَنّهُ عِنْدِي الْآنَ فَأَرْمِيهِ بِالنّبْلِ حَتّى أَقْتُلَهُ فَخَرَجَ بَعْدَ مَقَالَتِهِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ مَعَهُ جَمَلٌ لَهُ يَتْبَعُهُ فَأَرْسَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى جَمَلِهِ صَاعِقَةً فَأَحْرَقَتْهُمَا . وَكَانَ أَرْبَدُ بْنُ قَيْسٍ أَخَا لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ لِأُمّهِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَذَكَرَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ وَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِي عَامِرٍ وَأَرْبَدَ { اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ } [ الرّعْدَ 8 ] . . . إلَى قَوْلِهِ { وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ } . قَالَ الْمُعَقّبَاتُ هِيَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ يَحْفَظُونَ مُحَمّدًا . ثُمّ ذَكَرَ أَرْبَدَ وَمَا قَتَلَهُ اللّهُ بِهِ فَقَالَ { وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ } [ الرّعْدَ 13 ] إلَى قَوْلِهِ { شَدِيدُ الْمِحَالِ }
شِعْرُ لَبِيدٍ فِي بُكَاءِ أَرْبَدَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَقَالَ لَبِيدٌ يَبْكِي أَرْبَدَ [ ص 349 ]
مَا إنْ تُعَدّي الْمَنُونُ مِنْ أَحَدٍ ... لَا وَالِدٍ مُشْفِقٍ وَلَا وَلَدِ
أَخْشَى عَلَى أَرْبَدَ الْحُتُوفَ وَلَا ... أَرْهَبُ نَوْءَ السّمَاكِ وَالْأَسَدِ
فَعَيْنِ هَلّا بَكَيْت أَرْبَدَ إذْ ... قُمْنَا وَقَامَ النّسَاءُ فِي كَبَدِ
إنْ يَشْغَبُوا لَا يُبَالِ شَغْبَهُمْ ... أَوْ يَقْصِدُوا فِي الْحُكُومِ يَقْتَصِدْ
حُلْوٌ أَرِيبٌ وَفِي حَلَاوَتِهِ ... مُرّ لَطِيفُ الْأَحْشَاءِ وَالْكَبِدِ
وَعَيْنِ هَلّا بَكَيْت أَرْبَدَ إذْ ... أَلْوَتْ رِيَاحُ الشّتَاءِ بِالْعَضَدِ
وَأَصْبَحَتْ لَاقِحًا مُصَرّمَةً ... حَتّى تَجَلّتْ غَوَابِرُ الْمُدَدِ
أَشْجَعُ مِنْ لَيْثِ غَابَةٍ لَحِمٍ ... ذُو نَهْمَةٍ فِي الْعُلَا وَمُنْتَقَدِ
لَا تَبْلُغُ الْعَيْنُ كُلّ نَهْمَتِهَا ... لَيْلَةَ تَمْشِي الْجِيَادُ كَالْقِدَدِ
الْبَاعِثُ النّوْحَ فِي مَآتِمِهِ ... مِثْلَ الظّبَاءِ الْأَبْكَارِ بِالْجِرَدِ
فَجَعَنِي الْبَرْقُ وَالصّوَاعِقُ بِالْ ... ـفَارِسِ يَوْمَ الْكَرِيهَةِ النّجِدِ
وَالْحَارِبِ الْجَابِرِ الْحَرِيبَ إذَا ... جَاءَ نَكِيبًا وَإِنْ يَعُدْ يَعْدِ
يَعْفُو عَلَى الْجَهْدِ وَالسّؤَالِ كَمَا ... يَنْبُتُ غَيْثُ الرّبِيعِ ذُو الرّصَدِ
كُلّ بَنِي حُرّةٍ مُصِيرُهُمْ ... قُلّ وَإِنْ أَكْثَرَتْ مِنْ الْعَدَدِ
إنْ يُغْبِطُوا يُهْبَطُوا وَإِنْ أُمِرُوا ... يَوْمًا فَهُمْ لِلْهَلَاكِ وَالنّفَدِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : بَيْتُهُ " وَالْحَارِبِ الْجَابِرِ الْحَرِيبَ " عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَبَيْتُهُ " يَعْفُو عَلَى الْجَهْدِ " : عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ لَبِيدٌ أَيْضًا يَبْكِي أَرْبَدَ [ ص 350 ]
أَلَا ذَهَبَ الْمَحَافِظُ وَالْمُحَامِي ... وَمَانِعُ ضَيْمِهَا يَوْمَ الْخِصَامِ
وَأَيْقَنْت التّفَرّقَ يَوْمَ قَالُوا ... تُقُسّمَ مَالُ أَرْبَدَ بِالسّهَامِ
تَطِيرُ عَدَائِدُ الْأَشْرَاكِ شَفْعًا ... وَوِتْرًا وَالزّعَامَةُ لِلْغُلَامِ
فَوَدّعْ بِالسّلَامِ أَبَا حُرَيْزٍ ... وَقَلّ وَدَاعُ أَرْبَدَ بِالسّلَامِ
وَكُنْت إمَامَنَا وَلَنَا نِظَامًا ... وَكَانَ الْجَزْعُ يُحْفَظُ بِالنّظَامِ
وَأَرْبَدُ فَارِسُ الْهَيْجَا إذَا مَا ... تَقَعّرَتْ الْمَشَاجِرُ بِالْفِئَامِ
إذَا بَكَرَ النّسَاءُ مُرَدّفَاتٍ ... حَوَاسِرَ لَا يَجِئْنَ عَلَى الْخِدَامِ
فَوَاءَلَ يَوْمَ ذَلِكَ مَنْ أَتَاهُ ... كَمَا وَأَلَ الْمُحِلّ إلَى الْحَرَامِ
وَيَحْمَدُ قِدْرَ أَرْبَدَ مَنْ عَرَاهَا ... إذَا مَا ذُمّ أَرْبَابُ اللّحَامِ
وَجَارَتُهُ إذَا حَلّتْ لَدَيْهِ ... لَهَا نَفَلٌ وَحَظّ مِنْ سَنَامِ
فَإِنْ تَقْعُدْ فَمُكْرَمَةٌ حَصَانٌ ... وَإِنْ تَظْعَنْ فَمُحْسِنَةُ الْكَلَامِ
وَهَلْ حُدّثْت عَنْ أَخَوَيْنِ دَامَا ... عَلَى الْأَيّامِ إلّا ابْنَيْ شَمَامِ
وَإِلّا الْفَرْقَدَيْنِ وَآلَ نَعْشٍ ... خَوَالِدَ مَا تُحَدّثُ بِانْهِدَامِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهِيَ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ لَبِيدٌ أَيْضًا يَبْكِي أَرْبَدَ
انْعَ الْكَرِيمَ لِلْكَرِيمِ أَرْبَدَا ... انْعَ الرّئِيسَ وَاللّطِيفَ كَبِدَا
يُحْذِي وَيُعْطِي مَالَهُ لِيُحْمَدَا ... أُدْمًا يُشَبّهْنَ صُوَارًا أُيّدَا
السّابِلَ الْفَضْلِ إذَا مَا عُدّدَا ... وَيَمْلَأُ الْجَفْنَةَ مَلْئًا مَدَدَا
رِفْهَا إذَا يَأْتِي ضَرِيكٌ وَرَدَا ... مِثْلُ الّذِي فِي الْغِيلِ يَقْرُو جُمُدَا
يَزْدَادُ قُرْبًا مِنْهُمْ أَنْ يُوعَدَا ... أَوْرَثْتنَا تُرَاثَ غَيْرِ أَنْكَدَا
غِبّا وَمَالًا طَارِفًا وَوَلَدًا ... شَرْخًا صُقُورًا يَافِعًا وَأَمْرَدَا
وَقَالَ لَبِيدٌ أَيْضًا :
لَنْ تُفْنِيَا خَيْرَاتِ أَرْ ... بَدَ فَابْكِيَا حَتّى يَعُودَا
قُولَا هُوَ الْبَطَلُ الْمُحَا ... مِي حِينَ يَكْسُونَ الْحَدِيدَا
وَيَصُدّ عَنّا الظّالِمِ ... ـينَ إذَا لَقِينَا الْقَوْمَ صِيدَا
فَاعْتَاقَهُ رَبّ الْبَرِيّ ... خُلُودَا
فَنَوَى وَلَمْ يُوجَعْ وَلَمْ ... يُوصَبْ وَكَانَ هُوَ الْفَقِيدَا
وَقَالَ لَبِيدٌ أَيْضًا [ ص 351 ]
يُذَكّرُنِي بِأَرْبَدَ كُلّ خَصْمٍ ... أَلَدّ تَخَالُ خُطّتَهُ ضِرَارَا
إذَا اقْتَصَدُوا فَمُقْتَصِدٌ كَرِيمٌ ... وَإِنْ جَارُوا سَوَاءَ الْحَقّ جَارَا
وَيَهْدِي الْقَوْمَ مُطّلِعًا إذَا مَا ... دَلِيلُ الْقَوْمِ بِالْمَوْمَاةِ حَارَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : آخِرُهَا بَيْتًا عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ لَبِيدٌ أَيْضًا :
أَصْبَحْت أَمْشِي بَعْدَ سَلْمَى بْنِ مَالِكٍ ... وَبَعْدَ أَبِي قَيْسٍ وَعُرْوَةَ كَالْأَجَبْ
إذَا مَا رَأَى ظِلّ الْغُرَابِ أَضَجّهُ ... حِذَارًا عَلَى بَاقِي السّنَاسِنِ وَالْعَصَبْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ .
Sوَأَمّا أَشْعَارُ لَبِيدٍ فِي أَرْبَدَ فَفِيهَا قَوْلُهُ
تَطِيرُ عَدَائِدُ الْأَشْرَاكِ شَفْعًا ... وَوِتْرًا وَالزّعَامَةُ لِلْغُلَامِ
[ ص 348 ] وَقِيلَ أَرَادَ بِالزّعَامَةِ هُنَا بَيْضَةَ السّلَاحِ وَالْأَشْرَاكُ الشّرَكَاءُ وَالْعَدَائِدُ الْأَنْصِبَاءُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْعَدَدِ وَيُقَالُ إنّ أَرْبَدَ حِينَ أَصَابَتْهُ الصّاعِقَةُ أَنْزَلَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ { وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ } [ الرّعْدَ 13 ] يَعْنِي أَرْبَدَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَعَامِرٌ وَأَرْبَدُ يَجْتَمِعَانِ فِي جَعْفَرِ بْنِ كِلَابِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرٍ وَأُمّهُمَا وَاحِدَةٌ وَسَائِرُ شِعْرِ لَبِيَدٍ فِي أَرْبَدَ مَرْغُوبٌ عَنْ الِاشْتِغَالِ بِشَرْحِهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا الْمُتَقَدّمِ وَاَللّهُ وَلِيّ التّوْفِيقِ [ ص 349 ]
عَنْ لَبِيدٍ
عَلَى أَنّ لَبِيدًا رَحِمَهُ اللّهُ قَدْ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إسْلَامُهُ وَعَاشَ فِي الْإِسْلَامِ سِتّينَ سَنَةً لَمْ يَقُلْ فِيهَا بَيْتَ شِعْرٍ فَسَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ تَرْكِهِ الشّعْرَ فَقَالَ مَا كُنْت لِأَقُولَ شِعْرًا بَعْدَ أَنْ عَلّمَنِي اللّهُ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ ، فَزَادَهُ عُمَرُ فِي عَطَائِهِ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ أَجْلِ هَذَا الْقَوْلِ فَكَانَ عَطَاؤُهُ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةٍ فَلَمّا كَانَ مُعَاوِيَةُ أَرَادَ أَنْ يَنْقُصَهُ مِنْ عَطَائِهِ الْخَمْسَمِائَةِ وَقَالَ لَهُ مَا بَالُ الْعِلَاوَةِ فَوْقَ الْفَوْدَيْنِ ؟ فَقَالَ لَهُ لَبِيدٌ الْآنَ أَمُوتُ وَتَصِيرُ لَك الْعِلَاوَةُ وَالْفَوْدَانِ فَرَقّ لَهُ مُعَاوِيَةُ وَتَرَكَهَا لَهُ فَمَاتَ لَبِيدٌ إثْرَ ذَلِكَ بِأَيّامٍ قَلِيلَةٍ وَقَدْ قِيلَ إنّهُ قَالَ بَيْتًا وَاحِدًا فِي الْإِسْلَامِ
الْحَمْدُ لِلّهِ إذْ لَمْ يَأْتِنِي أَجَلِي ... حَتّى اكْتَسَيْت مِنْ الْإِسْلَامِ سِرْبَالًا

قُدُومُ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ وَافِدًا عَنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَبَعَثَ بَنُو سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ .
سُؤَالُهُ الرّسُولَ أَسْئِلَةً ثُمّ إسْلَامُهُ
[ ص 352 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ نُوَيْفِعٍ عَنْ كُرَيْبٍ ، مَوْلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ بَعَثَتْ بَنُو سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ضِمَامَ بْنَ ثَعْلَبَةَ وَافِدًا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَدِمَ عَلَيْهِ وَأَنَاخَ بَعِيرَهُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ ثُمّ عَقَلَهُ ثُمّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ وَكَانَ ضِمَامٌ رَجُلًا جَلْدًا أَشْعَرَ ذَا غَدِيرَتَيْنِ فَأَقْبَلَ حَتّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَصْحَابِهِ فَقَالَ أَيّكُمْ ابْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ؟ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ . قَالَ أَمُحَمّدٌ ؟ قَالَ " نَعَمْ " ؛ قَالَ يَا ابْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، إنّي سَائِلُك وَمُغَلّظٌ عَلَيْك فِي الْمَسْأَلَةِ فَلَا تَجِدَنّ فِي نَفْسِك ، قَالَ لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي ، فَسَلْ عَمّا بَدَا لَك قَالَ أَنْشُدُك اللّهَ إلَهَك وَإِلَهَ مَنْ كَانَ قَبْلَك ، وَإِلَه مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَك ، آللّهُ بَعَثَك إلَيْنَا رَسُولًا ؟ قَالَ " اللّهُمّ نَعَمْ " ؛ قَالَ فَأَنْشُدُك اللّهَ إلَهَك وَإِلَهَ مَنْ كَانَ قَبْلَك ، وَإِلَهَ مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَك ، آللّهُ أَمَرَك أَنْ تَأْمُرَنَا أَنْ نَعْبُدَهُ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ، وَأَنْ نَخْلَعَ هَذِهِ الْأَنْدَادَ الّتِي كَانَ آبَاؤُنَا يَعْبُدُونَ مَعَهُ ؟ قَالَ " اللّهُمّ نَعَمْ " ، قَالَ فَأَنْشُدُك اللّهَ إلَهَك وَإِلَهَ مَنْ كَانَ قَبْلَك ، وَإِلَهَ مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَك ، آللّهُ أَمَرَك أَنْ نُصَلّيَ هَذِهِ الصّلَوَاتِ الْخَمْسَ ؟ قَالَ " اللّهُمّ نَعَمْ قَالَ ثُمّ جَعَلَ يَذْكُرُ فَرَائِضَ الْإِسْلَامِ فَرِيضَةً فَرِيضَةً . الزّكَاةَ وَالصّيَامَ وَالْحَجّ وَشَرَائِعَ الْإِسْلَامِ كُلّهَا ، يَنْشُدُهُ عِنْدَ كُلّ فَرِيضَةٍ مِنْهَا كَمَا يَنْشُدُهُ فِي الّتِي قَبْلَهَا ، حَتّى إذَا فَرَغَ قَالَ فَإِنّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ ، وَأَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ وَسَأُؤَدّي هَذِهِ الْفَرَائِضَ وَأَجْتَنِبُ مَا نَهَيْتنِي عَنْهُ ثُمّ لَا أَزِيدُ وَلَا أَنْقُصُ ثُمّ انْصَرَفَ إلَى بَعِيرِهِ رَاجِعًا . قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنْ صَدَقَ ذُو الْعَقِيصَتَيْنِ دَخَلَ الْجَنّة
دَعْوَتُهُ قَوْمَهُ لِلْإِسْلَامِ
[ ص 353 ] قَالَ فَأَتَى بَعِيرَهُ فَأَطْلَقَ عِقَالَهُ ثُمّ خَرَجَ حَتّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَاجْتَمَعُوا إلَيْهِ فَكَانَ أَوّلَ مَا تَكَلّمَ بِهِ أَنْ قَالَ بِئْسَ اللّاتُ وَالْعُزّى قَالُوا : مَهْ يَا ضِمَامُ اتّقِ الْبَرَصَ اتّقِ الْجُذَامَ اتّقِ الْجُنُونَ قَالَ وَيْلَكُمْ إنّهُمَا وَاَللّهِ لَا يَضُرّانِ وَلَا يَنْفَعَانِ إنّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ رَسُولًا ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابًا اسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِمّا كُنْتُمْ فِيهِ وَإِنّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَقَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِهِ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ قَالَ فَوَاَللّهِ مَا أَمْسَى مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ فِي حَاضِرِهِ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ إلّا مُسْلِمًا . قَالَ يَقُولُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبّاسٍ : فَمَا سَمِعْنَا بِوَافِدِ قَوْمٍ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ .
S[ ص 350 ]
وَفْدُ جُرَشٍ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ وَفْدَ جُرَشٍ ، وَأَنّ خَثْعَمَ ضَوَتْ إلَيْهَا حِينَ حَاصَرَهُمْ صُرَدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ وَأَنْشَدَ
حَتّى أَتَيْنَا حُمَيْرًا فِي مَصَانِعِهَا ... وَجَمْعَ خَثْعَمَ قَدْ صَاغَتْ لَهَا النّذُرُ
[ ص 351 ] خُمَيْرًا بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَفِي حِمْيَرَ حِمْيَرُ الْأَدْنَى ، وَهُوَ حِمْيَرُ بْنُ الْغَوْثِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَدِيّ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ شُدَدَ بْنِ زُرْعَةَ وَهُوَ حِمْيَرُ الْأَصْغَرُ بْنُ سَبَأٍ الْأَصْغَرِ بْنِ كَعْبِ كَهْفِ الظّلْمِ بْنِ زَيْدِ الْجُمْهُورِ بْنِ عَمْرِو بْنِ قَيْسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ جُشَمَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ وَائِلِ بْنِ الْغَوْثِ بْنِ حَيْدَان بْنِ قَطَنِ بْنِ عَرِيبِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ الْهَمَيْسَعِ بْنِ حِمْيَرَ الْأَكْبَرِ وَهُوَ الْعَرَنْجَجُ وَقَالَ الْأَبْرَهِيّ : وَهُوَ مِنْ عُلَمَاءِ حِمْيَرَ بِالنّسَبِ وَهُوَ مَنْسُوبٌ إلَى أَبَرْهَةَ بْنِ الصّبَاحِ الْحِمْيَرِيّ فِي حِمْيَرَ الْأَدْنَى الْمَبْدُوءِ بِذِكْرِهِ حِمْيَرُ ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَصِحّ رِوَايَةُ الْخَاءِ الْمَنْقُوطَةِ وَمَنْ رَوَاهُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ فَهُوَ تَصْغِيرُ حِمْيَرَ تَصْغِيرَ التّرْخِيمِ وَالْعَرَنْجَجُ فِي لُغَةٍ حِمْيَرُ الْعَتِيقُ .
حَدِيثُ ضِمَامٍ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ حَدِيثَ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ وَهُوَ الّذِي قَالَ فِيهِ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ : جَاءَنَا أَعْرَابِيّ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرَ الرّأْسِ يُسْمَعُ دَوِيّ صَوْتِهِ وَلَا يُفْقَهُ مَا يَقُولُ حَتّى دَنَا ، فَإِذَا هُوَ [ ص 352 ] عَمّهِ عَنْ جَدّهِ عَنْ طَلْحَةَ وَقَدْ تَرْجَمَ عَلَيْهِ أَبُو دَاوُدَ لِمَا فِيهِ مِنْ دُخُولِ الْمُشْرِكِ الْمَسْجِدَ . وَذَكَرَ مَعَهُ حَدِيثَ الْيَهُودِ حِينَ دَخَلُوا الْمَسْجِدَ وَذَكَرُوا أَنّ رَجُلًا مِنْهُمْ وَامْرَأَةً زَنَيَا ، وَقَالَ بِهِ الشّافِعِيّ ، وَكَرِهَ مَالِكٌ دُخُولَ الذّمّيّ الْمَسْجِدَ وَخَصّصَ أَبُو حَنِيفَةَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ لِقَوْلِ اللّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { إِنّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ } . [ التّوْبَةَ 28 ] الْآيَةَ وَتَعَلّقَ مَالِكٌ بِالْعِلّةِ الّتِي نَبّهَتْ عَلَيْهَا الْآيَةُ وَهِيَ التّنْجِيسُ فَعَمّ الْمَسَاجِدَ كُلّهَا .

قُدُومُ الْجَارُودِ فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْجَارُودُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَنَشٍ أَخُو عَبْدِ الْقَيْسِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْجَارُودُ بْنُ بِشْرِ بْنِ الْمُعَلّى فِي وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ وَكَانَ نَصْرَانِيّا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ لَمّا انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَلّمَهُ فَعَرَضَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْإِسْلَامَ وَدَعَاهُ إلَيْهِ وَرَغّبَهُ فِيهِ فَقَالَ يَا مُحَمّدُ إنّي قَدْ كُنْت عَلَى دِينٍ وَإِنّي تَارِكٌ دِينِي لِدِينِك ، أَفَتَضْمَنُ لِي دِينِي ؟ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَعَمْ أَنَا ضَامِنٌ أَنْ قَدْ هَدَاك اللّهُ إلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ قَالَ فَأَسْلَمَ وَأَسْلَمَ أَصْحَابُهُ ثُمّ سَأَلَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْحُمْلَانَ فَقَالَ " وَاَللّهِ مَا عِنْدِي مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ " . قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ فَإِنّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ بِلَادِنَا ضَوَالّ مِنْ ضَوَالّ النّاسِ أَفَنَتَبَلّغُ عَلَيْهَا إلَى بِلَادِنَا ؟ قَالَ لَا ، إيّاكَ وَإِيّاهَا ، فَإِنّمَا تِلْكَ حَرَقُ النّارِ .
مَوْقِفُهُ مِنْ قَوْمِهِ فِي الرّدّةِ
[ ص 354 ] فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ الْجَارُودُ رَاجِعًا إلَى قَوْمِهِ وَكَانَ حَسَنَ الْإِسْلَامِ صُلْبًا عَلَى دِينِهِ حَتّى هَلَكَ وَقَدْ أَدْرَكَ الرّدّةَ فَلَمّا رَجَعَ مِنْ قَوْمِهِ مَنْ كَانَ أَسْلَمَ مِنْهُمْ إلَى دِينِهِمْ الْأَوّلِ مَعَ الْغَرُورِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ النّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ ، قَامَ الْجَارُودُ فَتَكَلّمَ فَتَشَهّدَ شَهَادَةَ الْحَقّ وَدَعَا إلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ أَيّهَا النّاسُ إنّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأُكَفّرُ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : يُرْوَى : وَأَكْفِي مَنْ لَمْ يَشْهَدْ .
إسْلَامُ ابْنِ سَاوَى
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعَثَ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيّ قَبْلَ فَتْحِ مَكّةَ إلَى الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوَى الْعَبْدِيّ فَأَسْلَمَ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ ثُمّ هَلَكَ بَعْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ رِدّةِ أَهْلِ الْبَحْرَيْنِ ، وَالْعَلَاءُ عِنْدَهُ أَمِيرًا لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى الْبَحْرَيْنِ .
Sحَوْلَ حَدِيثِ الْجَارُودِ
فَصْلٌ
[ ص 353 ] وَذَكَرَ الْجَارُودَ الْعَبْدِيّ وَهُوَ بِشْرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْمُعَلّى ، يُكَنّى أَبَا الْمُنْذِرِ وَقَالَ الْحَاكِمُ : يُكَنّى أَبَا غِيَاثٍ وَأَبَا عِتَابٍ وَسُمّيَ الْجَارُودَ لِأَنّهُ أَغَارَ عَلَى قَوْمٍ مِنْ بَكْرٍ فَجَرّدَهُمْ قَالَ الشّاعِرُ وَدُسْنَاهُمْ بِالْخَيْلِ مِنْ كُلّ جَانِبٍ كَمَا جَرّدَ الْجَارُودُ بَكْرَ بْنَ وَائِلِ
[ ص 354 ] وَذَكَرَ فِي آخِرِ حَدِيثِ الْجَارُودِ الْغَرُورَ بْنَ النّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ ، وَكَانَ كِسْرَى حِينَ قَتَلَ النّعْمَانَ صَيّرَ أَمْرَ الْحِيرَةِ إلَى هَانِئِ بْنِ قَبِيصَةَ الشّيْبَانِيّ وَلَمْ يَبْقَ لِآلِ الْمُنْذِرِ رَسْمٌ وَلَا أَمْرٌ يُذْكَرُ حَتّى كَانَتْ الرّدّةُ وَمَاتَ هَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ فَأَظْهَرَ أَهْلُ الرّدّةِ أَمْرَ الْغَرُورِ بْنِ النّعْمَانِ وَاسْمُهُ الْمُنْذِرُ وَإِنّمَا سُمّيَ الْغَرُورَ لِأَنّهُ غَرّ قَوْمَهُ فِي تِلْكَ الرّدّةِ أَوْ غَرّوهُ وَاسْتَعَانُوا بِهِ عَلَى حَرْبِهِمْ فَقُتِلَ هُنَالِكَ وَزَعَمَ وَثِيمَةُ بْنُ مُوسَى أَنّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ ارْتِدَادِهِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

قُدُومُ وَفْدِ بَنِي حَنِيفَةَ وَمَعَهُمْ مُسَيْلِمَةُ الْكَذّابُ
وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفْدُ بَنِي حَنِيفَةَ فِيهِمْ مُسَيْلِمَةُ بْنُ حَبِيبٍ الْحَنَفِيّ الْكَذّابُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : مُسَيْلِمَةُ بْنُ ثُمَامَةَ وَيُكَنّى أَبَا ثُمَامَةَ .
مَا كَانَ مِنْ الرّسُولِ لِمُسَيْلِمَةَ
[ ص 355 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَكَانَ مَنْزِلُهُمْ فِي دَارِ بِنْتِ الْحَارِثِ امْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ ، ثُمّ مِنْ بَنِي النّجّارِ فَحَدّثَنِي بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ : أَنّ بَنِي حَنِيفَةَ أَتَتْ بِهِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَسْتُرُهُ بِالثّيَابِ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ . مَعَهُ عَسِيبٌ مِنْ سَعَفِ النّخْلِ فِي رَأْسِهِ خُوصَاتٌ فَلَمّا انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُمْ يَسْتُرُونَهُ بِالثّيَابِ كَلّمَهُ وَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَوْ سَأَلْتنِي هَذَا الْعَسِيبَ مَا أَعْطَيْتُكَهُ . [ ص 356 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ حَدّثَنِي شَيْخٌ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ مِنْ أَهْلِ الْيَمَامَةِ أَنّ حَدِيثَهُ كَانَ عَلَى غَيْرِ هَذَا . زَعَمَ أَنّ وَفْدَ بَنِي حَنِيفَةَ أَتَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَخَلّفُوا مُسَيْلِمَةَ فِي رِحَالِهِمْ فَلَمّا أَسْلَمُوا ذَكَرُوا مَكَانَهُ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّا قَدْ خَلّفْنَا صَاحِبًا لَنَا فِي رِحَالِنَا وَفِي رِكَابِنَا يَحْفَظُهَا لَنَا ، قَالَ فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمِثْلِ مَا أَمَرَ بِهِ لِلْقَوْمِ وَقَالَ أَمَا إنّهُ لَيْسَ بِشَرّكُمْ مَكَانًا ، أَيْ لِحِفْظِهِ ضَيْعَةَ أَصْحَابِهِ وَذَلِكَ الّذِي يُرِيدُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
ارْتِدَادُهُ وَتَنَبّؤُهُ
[ ص 357 ] قَالَ ثُمّ انْصَرَفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجَاءُوهُ بِمَا أَعْطَاهُ فَلَمّا انْتَهَوْا إلَى الْيَمَامَةِ ارْتَدّ عَدُوّ اللّهِ وَتَنَبّأَ وَتَكَذّبَ لَهُمْ وَقَالَ إنّي قَدْ أُشْرِكْت فِي الْأَمْرِ مَعَهُ . وَقَالَ لِوَفْدِهِ الّذِينَ كَانُوا مَعَهُ أَلَمْ يَقُلْ لَكُمْ حِينَ ذَكَرْتُمُونِي لَهُ أَمَا إنّهُ لَيْسَ بِشَرّكُمْ مَكَانًا ؛ مَا ذَاكَ إلّا لِمَا كَانَ يَعْلَمُ أَنّي قَدْ أُشْرِكْت فِي الْأَمْرِ مَعَهُ ثُمّ جَعَلَ يَسْجَعُ لَهُمْ الْأَسَاجِيعَ وَيَقُولُ لَهُمْ فِيمَا يَقُولُ مُضَاهَاةً لِلْقُرْآنِ " لَقَدْ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَى الْحُبْلَى ، أَخْرَجَ مِنْهَا نَسَمَةً تَسْعَى ، مِنْ بَيْنِ صِفَاقٍ وَحَشَى " وَأَحَلّ لَهُمْ الْخَمْرَ وَالزّنَا ، وَوَضَعَ عَنْهُمْ الصّلَاةَ وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَشْهَدُ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأَنّهُ نَبِيّ ، فَأَصْفَقَتْ مَعَهُ حَنِيفَةُ عَلَى ذَلِكَ فَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ .
Sوَفْدُ بَنِي حَنِيفَةَ وَنَسَبُ مُسَيْلِمَةَ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ وَفْدَ بَنِي حَنِيفَةَ وَاسْمُ حَنِيفَةَ أَثَالُ بْنُ لُجَيْمِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ مَعَ مُسَيْلِمَةَ عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ مُسَيْلِمَةُ بْنُ ثُمَامَةَ بْنِ كَبِيرِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ بْنِ هِفّانَ بْنِ ذُهْلِ بْنِ الدّوَلِ بْنِ حَنِيفَةَ يُكَنّى أَبَا ثُمَامَةَ وَقِيلَ أَبَا هَارُونَ وكان [ ص 355 ] الزّهْرِيّ قَبْلَ مَوْلِدِ عَبْدِ اللّهِ وَالِدِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَقُتِلَ وَهُوَ ابْنُ مِائَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً وَكَانَتْ قُرَيْشٌ حِينَ سَمِعَتْ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ قَالَ قَائِلُهُمْ دُقّ فُوك ، إنّمَا تَذْكُرُ مُسَيْلِمَةَ رَحْمَانَ الْيَمَامَةِ ، وَكَانَ الرّحّالُ الْحَنَفِيّ ، وَاسْمُهُ نَهَارُ بْنُ عُنْفُوَةَ وَالْعُنْفُوَةُ يَابِسُ الْحَلِيّ وَهُوَ نَبَاتٌ وَذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ فِيهِ عُنْثُوَ بِالثّاءِ الْمُثَلّثَةِ وَقَالَ هُوَ يَابِسُ الْحَلِيّ وَالْحَلِيّ : النّصِيّ ، وَهُوَ نَبْتٌ - قَدِمَ فِي وَفْدِ الْيَمَامَةِ عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَآمَنَ وَتَعَلّمَ سُوَرًا مِنْ الْقُرْآنِ فَرَآهُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَوْمًا جَالِسًا مَعَ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ أَحَدُهُمَا فُرَاتُ بْنُ حَيّانَ ، وَالْآخَرُ أَبُو هُرَيْرَةَ ، فَقَالَ ضِرْسُ أَحَدِكُمْ فِي النّارِ مِثْلُ أُحُدٍ فَمَا زَالَا خَائِفَيْنِ حَتّى ارْتَدّ الرّحّالُ ، وَآمَنَ بِمُسَيْلِمَةَ وَشَهِدَ زُورًا أَنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَدْ شَرِكَهُ مَعَهُ فِي النّبُوّةِ وَنَسَبَ إلَيْهِ بَعْضَ مَا تَعَلّمَ مِنْ الْقُرْآنِ فَكَانَ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ الْفِتْنَةِ عَلَى بَنِي حَنِيفَةَ وَقَتَلَهُ زَيْدُ بْنُ الْخَطّابِ يَوْمَ الْيَمَامَةِ ، ثُمّ قَتَلَ زَيْدَ بْنَ الْخَطّابِ سَلَمَةُ بْنُ صُبَيْحٍ الْحَنَفِيّ ، وَكَانَ مُسَيْلِمَةُ صَاحِبَ نَيْرُوجَاتٍ يُقَالُ إنّهُ أَوّلُ مَنْ أَدْخَلَ الْبَيْضَةَ فِي الْقَارُورَةِ وَأَوّلُ مَنْ وَصَلَ جَنَاحَ الطّائِرِ الْمَقْصُوصَ وَكَانَ يَدّعِي أَنّ ظَبْيَةً تَأْتِيهِ مِنْ الْجَبَلِ فَيَحْلُبُ لَبَنَهَا ، وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يَرْثِيهِ
لَهَفِي عَلَيْك أَبَا ثُمَامَةَ ... لَهَفِي عَلَى رُكْنِي شَمَامَةِ
كَمْ آيَةٍ لَك فِيهِمْ ... كَالشّمْسِ تَطْلُعُ مِنْ غَمَامَةِ
وَكَذَبَ بَلْ كَانَتْ آيَاتُهُ مَنْكُوسَةً تَفَلَ فِي بِئْرِ قَوْمٍ سَأَلُوهُ ذَلِكَ تَبَرّكًا فَمَلُحَ مَاؤُهَا ، وَمَسَحَ رَأْسَ صَبِيّ فَقَرِعَ قَرَعًا فَاحِشًا ، وَدَعَا لِرَجُلٍ فِي ابْنَيْنِ لَهُ بِالْبَرَكَةِ فَرَجَعَ إلَى مَنْزِلِهِ فَوَجَدَ أَحَدَهُمَا قَدْ سَقَطَ فِي الْبِئْرِ وَالْآخَرَ قَدْ أَكَلَهُ الذّئْبُ وَمَسَحَ عَلَى عَيْنَيْ رَجُلٍ اسْتَشْفَى بِمَسْحِهِ فَابْيَضّتْ عَيْنَاهُ [ ص 356 ]
مُؤَذّنَا مُسَيْلِمَةَ وَسَجَاحَ
وَاسْمُ مُؤَذّنِهِ حُجَيْرٌ وَكَانَ أَوّلَ مَا أُمِرَ أَنْ يَذْكُرَ مُسَيْلِمَةَ فِي الْأَذَانِ تَوَقّفَ فَقَالَ لَهُ مُحَكّمُ بْنُ الطّفَيْلِ صَرّحْ حُجَيْرُ فَذَهَبَتْ مَثَلًا . وَأَمّا سَجَاحُ الّتِي تَنَبّأَتْ فِي زَمَانِهِ وَتَزَوّجَهَا ، فَكَانَ مُؤَذّنُهَا جَنَبَةَ بْنَ طَارِقٍ وَقَالَ الْقُتَبِيّ : اسْمُهُ زُهَيْرُ بْنُ عَمْرٍو ، وَقِيلَ إنّ شِبْثَ بْنَ رِبْعِيّ أَذّنَ لَهَا أَيْضًا ، وَتُكَنّى أُمّ صَادِرٍ وَكَانَ آخِرُ أَمْرِهَا أَنْ أَسْلَمَتْ فِي زَمَانِ عُمَرَ كُلّ هَذَا مِنْ كِتَابِ الوّاقِدِيّ وَغَيْرِهِ . وَكَانَ مُحَكّمُ بْنُ طُفَيْلٍ الْحَنَفِيّ ، صَاحِبَ حَرْبِهِ وَمُدَبّرَ أَمْرِهِ وَكَانَ أَشْرَفَ مِنْهُ فِي حَنِيفَةَ وَيُقَالُ فِيهِ مُحَكّمٌ وَمُحَكّمٌ وَفِيهِ يَقُولُ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ :
يَا مُحَكّمُ بْنَ طُفَيْلٍ قَدْ أُتِيحَ لَكُمْ ... لِلّهِ دُرّ أَبِيكُمْ حَيّةِ الْوَادِي
وَقَالَ أَيْضًا : يَخْبِطْنَ بِالْأَيْدِي حِيَاضَ مُحَكّمِ
امْرَأَةُ مُسَيْلِمَةَ
وَقَوْلُ ابْنِ إسْحَاقَ : انْزِلُوا ، يَعْنِي وَفْدَ بَنِي حَنِيفَةَ بِدَارِ الْحَارِثِ . الصّوَابُ بِنْتُ الْحَارِثِ وَاسْمُهَا : كَيْسَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ كُرَيْزِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ، وَقَدْ تَقَدّمَ فِي غَزْوَةِ قُرَيْظَةَ الْكَلَامُ عَلَى كَيْسَةَ وَكَيْسَةُ بِالتّخْفِيفِ وَأَنّهَا كَانَتْ امْرَأَةً لِمُسَيْلِمَةَ قَبْلَ ذَلِكَ فَلِذَلِكَ أَنْزَلَهُمْ بِدَارِهَا وَكَانَتْ تَحْتَ مُسَيْلِمَةَ ثُمّ خَلَفَ عَلَيْهَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَامِرٍ وَذَكَرْنَا هُنَالِكَ أَنّ الصّوَابَ مَا قَالَهُ ابْنُ إسْحَاقَ أَنّ اسْمَ تِلْكَ الْمَرْأَةِ زَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ ، كَذَا وَقَعَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَالْمَذْكُورَةُ هَاهُنَا كَيْسَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ وَإِيّاهُ عَنَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ خَطَبَ فَقَالَ أُرِيت فِي يَدَيّ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ فَكَرِهْتهمَا ، فَنَفَخْت فِيهِمَا فَطَارَا فَأَوّلْتهمَا كَذّابَ الْيَمَامَةِ وَالْعَنْسِيّ ، صَاحِبَ صَنْعَاءَ ، فَأَمّا مُسَيْلِمَةُ فَقَتَلَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ، وَأَفْنَى قَوْمَهُ قَتْلًا وَسَبْيًا .
مَسْعُودٌ الْعَنْسِيّ
وَأَمّا مَسْعُودُ بْنُ كَعْبٍ الْعَنْسِيّ ، وَعَنْسٌ مِنْ مَذْحِجٍ ، فَاتّبَعَتْهُ قَبَائِلُ مِنْ مَذْحِجٍ وَالْيَمَنُ [ ص 357 ] أَمْرِهِ وَغَلَبَ عَلَى صَنْعَاءَ ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ ذُو الْخِمَارِ وَيُلَقّبُ عَيْهَلَةَ وَكَانَ يَدّعِي أَنّ سَحِيقًا وَشَرِيقًا يَأْتِيَانِهِ بِالْوَحْيِ وَيَقُول : هُمَا مَلَكَانِ يَتَكَلّمَانِ عَلَى لِسَانِي ، فِي خُدَعٍ كَثِيرَةٍ يُزَخْرِفُ بِهَا ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ مَالِكِ بْنِ عَنْسٍ ، وَبَنُو عَنْسٍ جُشَمُ وَجُشَيْمٌ وَمَالِكٌ وَعَامِرٌ وَعَمْرٌو ، وَعَزِيزٌ وَمُعَاوِيَةُ وَعَتِيكَةُ وَشِهَابٌ وَالْقِرّيّةُ وَيَامُ وَمِنْ وَلَدِ يَامَ بْنِ عَنْسٍ عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ ، وَأَخَوَاهُ عَبْدُ اللّهِ وَحُوَيْرِثٌ ابْنَا يَاسِرِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَالِكٍ قَتَلَهُ فَيْرُوزُ الدّيْلَمِيّ ، وَقَيْسُ بْنُ مَكْشُوحٍ وَدَاذَوَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الْأَبْنَاءِ دَخَلُوا عَلَيْهِ مِنْ سِرْبٍ صَنَعَتْهُ لَهُمْ امْرَأَةٌ كَانَ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهَا مِنْ الْأَبْنَاءِ فَوَجَدُوهُ سَكْرَانَ لَا يَعْقِلُ مِنْ الْخَمْرِ فَخَبَطُوهُ بِأَسْيَافِهِمْ وَهُمْ يَقُولُونَ
ضَلّ نَبِيّ مَاتَ وَهُوَ سَكْرَانْ ... وَالنّاسُ تَلْقَى جُلّهُمْ كَالذّبّانْ
النّورُ وَالنّارُ لَدَيْهِمْ سِيّانْ
ذَكَرَهُ الدّوْلَابِيّ ، وَزَادَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْهُ أَنّ امْرَأَتَهُ سَقَتْهُ الْبَنْجَ فِي شَرَابِهِ تِلْكَ اللّيْلَةَ وَهِيَ الّتِي احْتَفَرَتْ السّرْبَ لِلدّخُولِ عَلَيْهِ وَكَانَ اغْتَصَبَهَا ، لِأَنّهَا كَانَتْ مِنْ أَجْمَلِ النّسَاءِ وَكَانَتْ مُسْلِمَةً صَالِحَةً وَكَانَتْ تُحَدّثُ عَنْهُ أَنّهُ لَا يَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ وَاسْمُهَا الْمَرْزُبَانَةُ وَفِي صُورَةِ قَتْلِهِ اخْتِلَافٌ . وَقَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أُرِيت سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ فَنَفَخْتهمَا فَطَارَا ، قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالتّعْبِيرِ تَأْوِيلُ نَفْخِهِ لَهُمَا أَنّهُمَا بِرِيحِهِ قُتِلَا ، لِأَنّهُ لَمْ يَغْزُهُمَا بِنَفْسِهِ وَتَأْوِيلُ الذّهَبِ أَنّهُ زُخْرُفٌ فَدَلّ لَفْظُهُ عَلَى زَخْرَفَتِهِمَا ، وَكَذِبِهِمَا ، وَدَلّ الْإِسْوَارَانِ بِلَفْظِهِمَا عَلَى مَلِكَيْنِ لِأَنّ الْأَسَاوِرَةَ هُمْ الْمُلُوكُ وَبِمَعْنَاهُمَا عَلَى التّضْيِيقِ عَلَيْهِ لِكَوْنِ السّوَارِ مُضَيّقًا عَلَى الذّرَاعِ .

قُدُومُ زَيْدِ الْخَيْلِ فِي وَفْدِ طَيّئٍ
إسْلَامُهُ وَمَوْتُهُ
[ ص 358 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفْدُ طَيّئٍ فِيهِمْ زَيْدُ الْخَيْلِ ، وَهُوَ سَيّدُهُمْ فَلَمّا انْتَهَوْا إلَيْهِ كَلّمُوهُ وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمُوا ، فَحَسُنَ إسْلَامُهُمْ وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَمَا حَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ مِنْ رِجَالِ طَيّئٍ مَا ذُكِرَ لِي رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ بِفَضْلٍ ثُمّ جَاءَنِي ، إلّا رَأَيْته دُونَ مَا يُقَالُ فِيهِ إلّا زَيْدَ الْخَيْلِ : فَإِنّهُ لَمْ يَبْلُغْ كُلّ مَا كَانَ فِيهِ ثُمّ سَمّاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ زَيْدَ الْخَيْرِ وَقَطَعَ لَهُ فَيْدًا وَأَرَضِينَ مَعَهُ وَكَتَبَ لَهُ بِذَلِكَ فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَاجِعًا إلَى قَوْمِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنْ يَنْجُ زَيْدٌ مِنْ حُمّى الْمَدِينَةِ فَإِنّهُ قَالَ قَدْ سَمّاهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِاسْمٍ غَيْرِ الْحُمّى ، [ ص 359 ] مَلْدَمٍ فَلَمْ يُثْبِتْهُ - فَلَمّا انْتَهَى مِنْ بَلَدِ نَجْدٍ إلَى مَاءٍ مِنْ مِيَاهِهِ يُقَالُ لَهُ فَرْدَةُ ، أَصَابَهُ الْحُمّى بِهَا فَمَاتَ وَلَمّا أَحَسّ زَيْدٌ بِالْمَوْتِ قَالَ [ ص 360 ]
أَمُرْتَحِلٌ قَوْمِي الْمَشَارِقَ غُدْوَةً ... وَأُتْرَكُ فِي بَيْتٍ بِفَرْدَةَ مُنْجِدِ
أَلَا رُبّ يَوْمٍ لَوْ مَرِضْت لَعَادَنِي ... عَوَائِدُ مَنْ لَمْ يُبْرَ مِنْهُنّ يُجْهَدْ
فَلَمّا مَاتَ عَمَدَتْ امْرَأَتُهُ إلَى مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ كُتُبِهِ الّتِي قَطَعَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَحَرّقَتْهَا بِالنّارِ .
Sزَيْدُ الْخَيْلِ
فَصْلٌ
[ ص 358 ] وَذَكَرَ زَيْدَ الْخَيْلِ ، وَهُوَ زَيْدُ بْنُ مُهَلْهِلِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مُنْهِبٍ يُكَنّى : أَبَا مُكْنِفٍ الطّائِيّ وَاسْمُ طَيّئٍ أُدَدُ وَقِيلَ لَهُ زَيْدُ الْخَيْلِ لِخَمْسِ أَفْرَاسٍ كَانَتْ لَهُ لَهَا أَسْمَاءُ أَعْلَامٍ ذَهَبَ عَنّي حِفْظُهَا الْآنَ . وَذَكَرَ قَوْلَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنْ يَنْجُ زَيْدٌ مِنْ حُمّى الْمَدِينَةِ .
أَسْمَاءُ الْحُمّى
قَالَ الرّاوِي : وَلَمْ يُسَمّهَا بِاسْمِهَا الْحُمّى ، وَلَا أُمّ مَلْدَمٍ سَمّاهَا بِاسْمٍ آخَرَ ذَهَبَ عَنّي ، وَالِاسْمُ الّذِي ذَهَبَ عَنْ الرّاوِي مِنْ أَسْمَاءِ الْحُمّى ، هُوَ أُمّ كُلْبَةَ ذُكِرَ لِي أَنّ أَبَا عُبَيْدَةَ ذَكَرَهُ فِي مَقَاتِلِ الْفُرْسَانِ وَلَمْ أَرَهُ وَلَكِنْ رَأَيْت الْبَكْرِيّ ذَكَرَهُ فِي بَابٍ أَفْرَدَهُ مِنْ أَسْمَاءِ الْبِلَادِ وَلَهَا أَيْضًا اسْمٌ سِوَى هَذِهِ الْأَسْمَاءِ ذَكَرَهُ ابْنُ دُرَيْدٍ فِي الْجَمْهَرِ قَالَ سَبَاطِ مِنْ أَسْمَاءِ الْحُمّى عَلَى وَزْنِ رَقَاشِ وَأَمّا أُمّ مَلْدَمٍ فَيُقَالُ بِالدّالِ وَبِالذّالِ وَبِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا ، وَهُوَ [ مِنْ ] اللّدْمِ وَهُوَ شِدّةُ الضّرْبِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أُمّ كُلْبَةَ هَذَا الِاسْمُ مُغَيّرًا مِنْ كُلْبَةٍ بِضَمّ الْكَافِ وَالْكُلْبَةُ شِدّةُ الرّعْدَةِ وَكُلَبُ الْبَرْدِ مَدَائِدُهُ فَهَذِهِ أُمّ كُلْبَةَ بِالْهَاءِ وَهِيَ الْحُمّى ، وَأَمّا أُمّ كُلْبٍ ، فَشَجَرَةٌ لَهَا نُورٌ حَسَنٌ وَهِيَ إذَا حُرّكَتْ أَنْتَنُ شَيْءٍ وَزَعَمَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنّ الْغَنَمَ إذَا مَسّتْهَا لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَقْرَبَ الْغَنَمَ لَيْلَتَهَا تِلْكَ مِنْ شِدّةِ إنْتَانِهَا .
خَيْرُ زَيْدٍ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى
وَذَكَرَ فِي خَبَرِ زَيْدِ الْخَيْلِ فِي رِوَايَةِ أَبِي عَلِيّ الْبَغْدَادِيّ مَا هَذَا نَصّهُ خَرَجَ نَفَرٌ مِنْ طَيّئٍ يُرِيدُونَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْمَدِينَةِ وُفُودًا ، وَمَعَهُمْ زَيْدُ الْخَيْلِ ، وَوَزَرُ بْنُ سُدُوسٍ النّبْهَانِيّ وَقَبِيصَةُ بْنُ [ ص 359 ] جُوَيْنٍ الْجِرْمِيّ ، وَهُوَ النّصْرَانِيّ ، وَمَالِكُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ خَيْبَرِيّ بْنِ أَفْلَتَ بْنِ سَلْسَلَةَ وَقُعَيْنُ بْنُ خُلَيْفٍ الطّرِيفِيّ رَجُلٌ مِنْ جَدِيلَةَ ثُمّ مِنْ بَنِي بَوْلَانَ فَعَقَلُوا رَوَاحِلَهُمْ بِفِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَدَخَلُوا ، فَجَلَسُوا قَرِيبًا مِنْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حَيْثُ يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ فَلَمّا نَظَرَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَيْهِمْ قَالَ إنّي خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ الْعُزّى ، وَلَاتِهَا ، وَمِنْ الْجَمَلِ الْأَسْوَدِ الّذِي تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ وَمِمّا حَازَتْ مِنَاع ، مِنْ كُلّ ضَارٍ غَيْرِ نَفّاعٍ فَقَامَ زَيْدُ الْخَيْلِ ، فَكَانَ مِنْ أَعْظَمِهِمْ خُلُقًا وَأَحْسَنِهِمْ وَجْهًا وَشِعْرًا ، وَكَانَ يَرْكَبُ الْفَرَسَ الْعَظِيمَ الطّوِيلَ فَتَخُطّ رِجْلَاهُ فِي الْأَرْضِ كَأَنّهُ حِمَارٌ فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ " الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَتَى بِك مِنْ سَهْلِك وَحَزَنِك ، وَسَهّلَ قَلْبَك لِلْإِيمَانِ " ، ثُمّ قَبَضَ عَلَى يَدِهِ فَقَالَ " مَنْ أَنْتَ ؟ " فَقَالَ أَنَا زَيْدُ الْخَيْلِ بْنُ مُهَلْهِلٍ وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ ، وَأَنّك عَبْدُ اللّهِ وَرَسُولُهُ فَقَالَ لَهُ " بَلْ أَنْتَ زَيْدُ الْخَيْرِ " ، ثُمّ قَالَ " يَا زَيْدُ مَا خُبّرْت عَنْ رَجُلٍ شَيْئًا قَطّ إلّا رَأَيْته دُونَ مَا خُبّرْت عَنْهُ غَيْرَك " ، فَبَايَعَهُ وَحَسُنَ إسْلَامُهُ وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا عَلَى مَا أَرَادَ وَأَطْعَمَهُ قِرًى كَثِيرَةً مِنْهَا : فَيْدٌ ، وَكَتَبَ لِكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى قَوْمِهِ إلّا وَزَرَ بْنَ سُدُوسٍ فَقَالَ إنّي لَأَرَى رَجُلًا لَيَمْلِكَنّ رِقَابَ الْعَرَبِ ، وَلَا وَاَللّهِ لَا يَمْلِكُ رَقَبَتِي عَرَبِيّ أَبَدًا ، ثُمّ لَحِقَ بِالشّامِ وَتَنَصّرَ وَحَلَقَ رَأْسَهُ فَلَمّا قَامَ زَيْدٌ مِنْ عِنْدِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ أَيْ فَتًى لَمْ تُدْرِكْهُ أُمّ كُلْبَةَ يَعْنِي : الْحُمّى ، وَيُقَالُ بَلْ قَالَ إنْ نَجَا مِنْ آجَامِ الْمَدِينَةِ ، فَقَالَ زَيْدٌ حِينَ انْصَرَفَ
أُنِيخَتْ بِآجَامِ الْمَدِينَةِ أَرْبَعًا ... وَعَشْرًا يُغَنّي فَوْقَهَا اللّيْلَ طَائِرُ
فَلَمّا قَضَتْ أَصْحَابُهَا كُلّ بُغْيَةٍ ... وَخَطّ كِتَابًا فِي الصّحِيفَةِ سَاطِرُ
شَدَدْت عَلَيْهَا رَحْلَهَا وَشَلِيلَهَا ... مِنْ الدّرْسِ وَالشّعْرَاءِ وَالْبَطْنُ ضَامِر
الدّرْسُ الْجَرَبُ وَالشّعْرَاءُ ذُبَابٌ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيّ فِي حَدِيثِهِ وَأَهْدَى زَيْدٌ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَخْذُومًا وَالرّسُوبَ وَكَانَا سَيْفَيْنِ لِصَنَمِ بَلِيّ الْفَلْسِ فَلَمّا انْصَرَفُوا قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " مَا قَدِمَ عَلَيّ رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ يُفَضّلُهُ قَوْمُهُ إلّا رَأَيْته دُونَ مَا يُقَالُ إلّا مَا كَانَ مِنْ [ ص 360 ] الْمَدِينَةِ فَلِأَمْرٍ مَا هُوَ " . وَقَوْلُهُ
أَلَا رُبّ يَوْمٍ لَوْ مَرِضْت لَعَادَنِي ... عَوَائِدُ مَنْ لَمْ يُبْرَ مِنْهُنّ يُجْهَدْ
وَبَعْدَهُ
فَلَيْتَ اللّوَاتِي عُدْنَنِي ... لَمْ يَعُدْنَنِي وَلَيْتَ اللّوَاتِي غِبْنَ عَنّي شُهّدِي

أَمْرُ عَدِيّ بْنِ حَاتِمٍ
وَأَمّا [ ص 361 ] عَدِيّ بْنُ حَاتِمٍ فَكَانَ يَقُولُ فِيمَا بَلَغَنِي : مَا مِنْ رَجُلٍ مِنْ الْعَرَبِ كَانَ أَشَدّ كَرَاهِيَةً لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ سَمِعَ بِهِ مِنّي ، أَمّا أَنَا فَكُنْت امْرَأً شَرِيفًا ، وَكُنْت نَصْرَانِيّا ، وَكُنْت أَسِيرُ فِي قَوْمِي بِالْمِرْبَاعِ فَكُنْت فِي نَفْسِي عَلَى دِينٍ وَكُنْت مَلِكًا فِي قَوْمِي ، لِمَا كَانَ يُصْنَعُ بِي . فَلَمّا سَمِعْت بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَرِهْته ، فَقُلْت لِغُلَامٍ كَانَ لِي عَرَبِيّ وَكَانَ رَاعِيًا لِإِبِلِي : لَا أَبَالَك ، أَعْدِدْ لِي مِنْ إبِلِي أَجْمَالًا ذُلُلًا سِمَانًا ، فَاحْتَبِسْهَا قَرِيبًا مِنّي ، فَإِذَا سَمِعْت بِجَيْشٍ لِمُحَمّدٍ قَدْ وَطِئَ هَذِهِ الْبِلَادَ فَآذِنّي ، فَفَعَلَ ثُمّ إنّهُ أَتَانِي ذَاتَ غَدَاةٍ فَقَالَ يَا عَدِيّ مَا كُنْت صَانِعًا إذَا غَشِيَتْك خَيْلُ مُحَمّدٍ فَاصْنَعْهُ الْآنَ فَإِنّي قَدْ رَأَيْت رَايَاتٍ فَسَأَلْت عَنْهَا ، فَقَالُوا : هَذِهِ جُيُوشُ مُحَمّدٍ . قَالَ فَقُلْت : فَقَرّبْ إلَيّ أَجْمَالِي ، فَقَرّبَهَا ، فَاحْتَمَلْت بِأَهْلِي وَوَلَدِي ، ثُمّ قُلْت : أَلْحَقُ بِأَهْلِ دِينِي مِنْ النّصَارَى بِالشّامِ فَسَلَكْت الْجَوْشِيّةَ ، وَيُقَالُ الْحَوْشِيّةَ فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ - وَخَلّفْت بِنْتًا لِحَاتِمٍ فِي الْحَاضِرِ فَلَمّا قَدِمْت الشّامَ أَقَمْت بِهَا . وَتُخَالِفُنِي خَيْلٌ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَتُصِيبُ ابْنَةَ حَاتِمٍ فِيمَنْ أَصَابَتْ فَقُدِمَ بِهَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي سَبَايَا مِنْ طَيّئٍ وَقَدْ بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَرَبِي إلَى الشّامِ ، قَالَ فَجُعِلَتْ بِنْتُ حَاتِمٍ فِي حَظِيرَةٍ بِبَابِ الْمَسْجِدِ كَانَتْ السّبَايَا يُحْبَسْنَ فِيهَا ، فَمَرّ بِهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَامَتْ إلَيْهِ وَكَانَتْ امْرَأَةً جَزْلَةً فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ هَلَكَ الْوَالِدُ وَغَابَ الْوَافِدُ فَامْنُنْ عَلَيّ مَنّ اللّهُ عَلَيْك . قَالَ وَمَنْ وَافِدُك ؟ قَالَتْ عَدِيّ بْنُ حَاتِمٍ . قَالَ الْفَارّ مِنْ اللّهِ وَرَسُولِهِ ؟ قَالَتْ ثُمّ مَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَرَكَنِي ، حَتّى إذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ مَرّ بِي ، فَقُلْت لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ وَقَالَ لِي مِثْلَ مَا قَالَ بِالْأَمْسِ . قَالَتْ حَتّى إذَا كَانَ بَعْدَ الْغَدِ مَرّ بِي وَقَدْ يَئِسْت مِنْهُ فَأَشَارَ إلَيّ رَجُلٌ مِنْ خَلْفِهِ أَنْ قُومِي فَكَلّمِيهِ قَالَ فَقُمْت إلَيْهِ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ هَلَكَ الْوَالِدُ وَغَابَ الْوَافِدُ فَامْنُنْ عَلَيّ مَنّ اللّهُ عَلَيْك ؛ فَقَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ فَعَلْت ، فَلَا تَعْجَلِي بِخُرُوجٍ حَتّى تَجِدِي مِنْ قَوْمِك مَنْ يَكُونُ لَهُ ثِقَةً حَتّى يُبَلّغَك إلَى بِلَادِك ، ثُمّ آذِنِينِي . فَسَأَلْت عَنْ الرّجُلِ الّذِي أَشَارَ إلَيّ أَنْ أُكَلّمَهُ فَقِيلَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ وَأَقَمْت حَتّى قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَلِيّ أَوْ قُضَاعَةَ ، قَالَتْ وَإِنّمَا أُرِيدُ أَنْ آتِيَ أَخِي بِالشّامِ . قَالَتْ فَجِئْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ قَدْ قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ قَوْمِي ، لِي فِيهِمْ ثِقَةٌ وَبَلَاغٌ . قَالَتْ فَكَسَانِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَحَمَلَنِي ، وَأَعْطَانِي نَفَقَةً فَخَرَجْت مَعَهُمْ حَتّى قَدِمْت الشّامَ . قَالَ عَدِيّ : فَوَاَللّهِ إنّي لَقَاعِدٌ فِي أَهْلِي ، إذْ نَظَرْت إلَى ظَعِينَةٍ تُصَوّبُ إلَيّ تَؤُمّنَا ، قَالَ فَقُلْت ابْنَةُ حَاتِمٍ قَالَ فَإِذَا هِيَ هِيَ فَلَمّا وَقَفَتْ عَلَيّ انْسَحَلَتْ تَقُولُ الْقَاطِعُ الظّالِمُ احْتَمَلْت بِأَهْلِك وَوَلَدِك ، وَتَرَكْت بَقِيّةَ وَالِدِك عَوْرَتَك ، قَالَ قُلْت : أَيْ أُخَيّةُ لَا تَقُولِي إلّا خَيْرًا ، فَوَاَللّهِ مَا لِي مِنْ عُذْرٍ لَقَدْ صَنَعْت مَا ذَكَرْت . قَالَ ثُمّ نَزَلَتْ فَأَقَامَتْ عِنْدِي ، فَقُلْت لَهَا : وَكَانَتْ امْرَأَةً حَازِمَةً مَاذَا تَرَيْنَ فِي أَمْرِ هَذَا الرّجُلِ ؟ قَالَتْ أَرَى وَاَللّهِ أَنْ تَلْحَقَ بِهِ سَرِيعًا ، فَإِنْ يَكُنْ الرّجُلُ نَبِيّا فَلِلسّابِقِ إلَيْهِ فَضْلُهُ وَإِنْ يَكُنْ مَلِكًا فَلَنْ تُذَلّ فِي عِزّ الْيَمَنِ ، وَأَنْتَ أَنْتَ . قَالَ قُلْت : وَاَللّهِ إنّ هَذَا الرّأْيُ
إسْلَامُ عَدِيّ
قَالَ [ ص 362 ] فَخَرَجْت حَتّى أَقْدَمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ ، فَدَخَلْت عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَسْجِدِهِ فَسَلّمْت عَلَيْهِ فَقَالَ مَنْ الرّجُلُ ؟ فَقُلْت : عَدِيّ بْنُ حَاتِمٍ ؛ فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَانْطَلَقَ بِي إلَى بَيْتِهِ فَوَاَللّهِ إنّهُ لَعَامِدٌ بِي إلَيْهِ إذْ لَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ ضَعِيفَةٌ كَبِيرَةٌ فَاسْتَوْقَفَتْهُ فَوَقَفَ لَهَا طَوِيلًا تُكَلّمُهُ فِي حَاجَتِهَا ؛ قَالَ قُلْت فِي نَفْسِي : وَاَللّهِ مَا هَذَا بِمَلِكٍ قَالَ ثُمّ مَضَى بِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى إذَا دَخَلَ بِي بَيْتَهُ تَنَاوَلَ وِسَادَةً مِنْ أَدَمٍ مَحْشُوّةً لِيفًا ، فَقَذَفَهَا إلَيّ فَقَالَ اجْلِسْ عَلَى هَذِهِ قَالَ قُلْت : بَلْ أَنْتَ فَاجْلِسْ عَلَيْهَا ، فَقَالَ بَلْ أَنْتَ فَجَلَسْت عَلَيْهَا ، وَجَلَسَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْأَرْضِ قَالَ قُلْت فِي نَفْسِي : وَاَللّهِ مَا هَذَا بِأَمْرِ مَلِكٍ ثُمّ قَالَ إيهِ يَا عَدِيّ بْنَ حَاتِمٍ أَلَمْ تَكُ رَكُوسِيّا ؟ قَالَ قُلْت : بَلَى ، ( قَالَ ) : أَوَلَمْ تَكُنْ تَسِيرُ فِي قَوْمِك بِالْمِرْبَاعِ ؟ قَالَ قُلْت : بَلَى ، قَالَ فَإِنّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَحِلّ لَك فِي دِينِك ؛ قَالَ قُلْت : أَجَلْ وَاَللّهِ وَقَالَ وَعَرَفْت أَنّهُ نَبِيّ مُرْسَلٌ يَعْلَمُ مَا يُجْهَلُ ثُمّ قَالَ لَعَلّك يَا عَدِيّ إنّمَا يَمْنَعُك مِنْ دُخُولٍ فِي هَذَا الدّينِ مَا تَرَى مِنْ حَاجَتِهِمْ فَوَاَللّهِ لَيُوشِكَنّ الْمَالُ أَنْ يَفِيضَ فِيهِمْ حَتّى لَا يُوجَدَ مَنْ يَأْخُذُهُ وَلَعَلّك إنّمَا يَمْنَعُك مِنْ دُخُولٍ فِيهِ مَا تَرَى مِنْ كَثْرَةِ عَدُوّهِمْ وَقِلّةِ عَدَدِهِمْ فَوَاَللّهِ لَيُوشِكَنّ أَنْ تَسْمَعَ بِالْمَرْأَةِ تَخْرُجُ مِنْ الْقَادِسِيّةِ عَلَى بَعِيرِهَا ( حَتّى ) تَزُورَ هَذَا الْبَيْتَ لَا تَخَافُ وَلَعَلّك إنّمَا يَمْنَعُك مِنْ دُخُولٍ فِيهِ أَنّك تَرَى أَنّ الْمُلْكَ وَالسّلْطَانَ فِي غَيْرِهِمْ وَأَيْمُ اللّهِ لَيُوشِكَنّ أَنْ تَسْمَعَ بِالْقُصُورِ الْبِيضِ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ قَدْ فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ قَالَ فَأَسْلَمْت .
وُقُوعُ مَا وَعَدَ بِهِ الرّسُولُ عَدِيّا
وَكَانَ عَدِيّ يَقُولُ قَدْ مَضَتْ اثْنَتَانِ وَبَقِيَتْ الثّالِثَةُ وَاَللّهِ لَتَكُونَنّ قَدْ رَأَيْت الْقُصُورَ الْبِيضَ مِنْ أَرْضِ بَابِلَ قَدْ فُتِحَتْ وَقَدْ رَأَيْت الْمَرْأَةَ تَخْرُجُ مِنْ الْقَادِسِيّةِ عَلَى بَعِيرِهَا لَا تَخَافُ حَتّى تَحُجّ هَذَا الْبَيْتَ وَأَيْمُ اللّهِ لَتَكُونَنّ الثّالِثَةُ لَيَفِيضَنّ الْمَالُ حَتّى لَا يُوجَدَ مَنْ يَأْخُذُهُ
Sقُدُومُ عَدِيّ بْنِ حَاتِمٍ
[ ص 361 ] عَدِيّ بْنُ حَاتِمِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ حَشْرَجِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ عَدِيّ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ جَرْوَلَ بْنِ ثُعَلَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْغَوْثِ بْنِ طَيّئٍ يُكَنّى أَبَا ظَرِيفٍ وَحَدِيثُ إسْلَامِهِ صَحِيحٌ عَجِيبٌ خَرّجَهُ التّرْمِذِيّ ، وَأُخْتُهُ الّتِي ذُكِرَ إسْلَامُهَا أَحْسَبُ اسْمَهَا سَفّانَةَ لِأَنّي وَجَدْت فِي خَبَرٍ عَنْ امْرَأَةِ حَاتِمٍ تَذْكُرُ فِيهِ مِنْ سَخَائِهِ قَالَتْ فَأَخَذَ حَاتِمٌ عَدِيّا يُعَلّلُهُ مِنْ الْجُوعِ وَأَخَذْت أَنَا سَفّانَةَ وَلَا يُعْرَفُ لِعَدِيّ وَلَدًا نُقْرَضُ عَقِبُهُ وَلِحَاتِمٍ عَقِبٌ مِنْ قَبْلِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ حَاتِمٍ ذَكَرَهُ الْقُتَبِيّ ، وَلَا يُعْرَفُ لَهُ بِنْتٌ إلّا سَفّانَةُ فَهِيَ إذًا هَذِهِ الْمَذْكُورَةُ فِي السّيرَةِ وَاَللّهُ [ ص 362 ] أَعْلَمُ وَأُمّ حَاتِمٍ عِنَبَةُ بِنْتُ عَفِيفِ [ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الْقَيْسِ ] كَانَتْ مِنْ أَكْرَمِ النّاسِ وَهِيَ الّتِي تَقُولُ
لَعَمْرِي لَقَدْ مَا عَضّنِي الْجُوعُ عَضّةً ... فَآلَيْت أَلّا أَحْرِمَ الدّهْرَ جَائِعًا
وَالسّفّانَةُ الدّرّةُ وَبِهَا كَانَ يُكَنّى حَاتِمٌ . [ ص 363 ]

قُدُومُ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ الْمُرَادِيّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدِمَ فَرْوَةُ بْنُ مُسَيْكٍ الْمُرَادِيّ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُفَارِقًا لِمُلُوكِ كِنْدَةَ ، وَمُبَاعِدًا لَهُمْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَقَدْ كَانَ قُبَيْلَ الْإِسْلَامِ بَيْنَ مُرَادٍ وَهَمْدَانَ وَقْعَةٌ أَصَابَتْ فِيهَا هَمْدَانُ مِنْ مُرَادٍ مَا أَرَادُوا ، حَتّى أَثْخَنُوهُمْ فِي يَوْمٍ كَانَ يُقَالُ لَهُ يَوْمُ الرّدْمِ ، فَكَانَ الّذِي قَادَ هَمْدَانَ إلَى مُرَادٍ الْأَجْدَعُ بْنُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ . [ ص 363 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الّذِي قَادَ هَمْدَانَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَالِكُ بْنُ حَرِيمٍ الْهَمْدَانِيّ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَفِي ذَلِكَ الْيَوْمِ يَقُولُ فَرْوَةُ بْنُ مُسَيْكٍ :
مَرَرْنَا عَلَى لُفَاةَ وَهُنّ خُوصٌ ... يُنَازِعْنَ الْأَعِنّةَ يَنْتَحِينَا
فَإِنْ نَغْلِبْ فَغَلّابُونَ قِدْمًا ... وَإِنْ نُغْلَبْ فَغَيْرُ مُغَلّبِينَا
وَمَا إنْ طِبّنَا جُبْنٌ وَلَكِنْ ... مَنَايَانَا وَطُعْمَةُ آخَرِينَا
كَذَاك الدّهْرُ دَوْلَتُهُ سِجَالٌ ... تَكُرّ صُرُوفُهُ حِينًا فَحِينَا
فَبَيْنَا مَا نُسَرّ بِهِ وَنَرْضَى ... وَلَوْ لُبِسَتْ غَضَارَتُهُ سِنِينَا
إذْ انْقَلَبَتْ بِهِ كَرّاتُ دَهْرٍ ... فَأَلْقَيْت الْأُلَى غُبِطُوا طَحِينَا
فَمَنْ يُغْبَطْ بِرَيْبِ الدّهْرِ مِنْهُمْ ... يَجِدْ رَيْبَ الزّمَانِ لَهُ خَئُونَا
فَلَوْ خَلَدَ الْمُلُوكُ إذَنْ خَلَدْنَا ... وَلَوْ بَقِيَ الْكِرَامُ إذَنْ بَقِينَا
فَأَفْنَى ذَلِكَ سَرَوَاتِ قَوْمِي ... كَمَا أَفْنَى الْقُرُونَ الْأَوّلِينَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَوّلُ بَيْتٍ مِنْهَا ، وَقَوْلُهُ " فَإِنْ نَغْلِبْ " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ .
قُدُومُ فَرْوَةَ عَلَى الرّسُولِ وَإِسْلَامُهُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا تَوَجّهَ فَرْوَةُ بْنُ مُسَيْكٍ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُفَارِقًا لِمُلُوكِ كِنْدَةَ ، قَالَ
لَمّا رَأَيْت مُلُوكَ كِنْدَةَ أَعْرَضَتْ ... كَالرّجْلِ خَانَ الرّجْلَ عِرْقُ نَسَائِهَا
قَرّبْت رَاحِلَتِي أَؤُمّ مُحَمّدًا ... أَرْجُو فَوَاضِلَهَا وَحُسْنَ ثَرَائِهَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ أَرْجُو فَوَاضِلَهُ وَحُسْنَ ثَنَائِهَا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا بَلَغَنِي : يَا فَرْوَةُ هَلْ سَاءَك مَا أَصَابَ قَوْمَك يَوْمَ الرّدْمِ ؟ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ مَنْ ذَا يُصِيبُ قَوْمَهُ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمِي يَوْمَ الرّدْمِ لَا يَسُوءُهُ ذَلِكَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهُ أَمَا إنّ ذَلِكَ لَمْ يَزِدْ قَوْمَك فِي الْإِسْلَامِ إلّا خَيْرًا . [ ص 364 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى مُرَادٍ وَزُبَيْدٍ وَمَذْحِجٍ كُلّهَا ، وَبَعَثَ مَعَهُ خَالِدَ بْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ عَلَى الصّدَقَةِ فَكَانَ مَعَهُ فِي بِلَادِهِ حَتّى تُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . [ ص 364 ]

قُدُومُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ فِي أُنَاسٍ مِنْ بَنِي زُبَيْدٍ
وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يَكْرِبَ فِي أُنَاسٍ مِنْ بَنِي زُبَيْدٍ ، فَأَسْلَمَ وَكَانَ عَمْرٌو قَدْ قَالَ لِقَيْسِ بْنِ مَكْشُوحٍ الْمُرَادِيّ حِينَ انْتَهَى إلَيْهِمْ أَمْرُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا قَيْسُ ، إنّك سَيّدُ قَوْمِك ، وَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ مُحَمّدٌ قَدْ خَرَجَ بِالْحِجَازِ يَقُولُ إنّهُ نَبِيّ ، فَانْطَلِقْ بِنَا إلَيْهِ حَتّى نَعْلَمَ عِلْمَهُ فَإِنْ كَانَ نَبِيّا كَمَا يَقُولُ فَإِنّهُ لَنْ يَخْفَى عَلَيْك ، وَإِذَا لَقِينَاهُ اتّبَعْنَاهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ عَلِمْنَا عِلْمَهُ فَأَبَى عَلَيْهِ قَيْسٌ ذَلِكَ وَسَفّهَ رَأْيَهُ فَرَكِبَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يَكْرِبَ حَتّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَسْلَمَ وَصَدّقَهُ وَآمَنَ بِهِ . فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ قَيْسَ بْنَ مَكْشُوحٍ أَوْعَدَ عَمْرًا ، وَتَحَطّمَ عَلَيْهِ وَقَالَ خَالَفَنِي وَتَرَكَ رَأْيِي ؛ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يَكْرِبَ فِي ذَلِكَ
أَمَرْتُك يَوْمَ ذِي صَنْعَا ... ءَ أَمْرًا بَادِيًا رَشَدُهْ
أَمَرْتُك بِاتّقَاءِ الل ... ه وَالْمَعْرُوفِ تَتّعِدُهْ
خَرَجْت مِنْ الْمُنَى مِثْلَ الْ ... حُمَيّرِ غَرّهُ وَتِدُهْ
تُمَنّانِي عَلَى فَرَسٍ ... عَلَيْهِ جَالِسًا أَسَدُهْ
عَلَيّ مُفَاضَةٌ كَالنّهْ ... يِ أَخْلَصَ مَاءَهُ جَدَدُهْ
تَرُدّ الرّمْحَ مُنْثَنِيَ الس ... نان عَوَائِرًا قِصَدُهْ
فَلَوْ لَاقَيْتنِي لَلَقِيَ ... تَ لَيْثًا فَوْقَهُ لِبَدُهْ
تُلَاقِي شَنْبَثًا شَثْنَ الْ ... بَرَاثِنِ نَاشِزًا كَتَدُهْ
يُسَامِي الْقِرْنَ إنْ قِرْنٌ ... تَيَمّمَهُ فَيَعْتَضِدُهْ
فَيَأْخُذُهُ فَيَرْفَعُهُ ... فَيَخْفِضُهُ فَيَقْتَصِدُهْ
فَيَدْمَغُهُ فَيَحْطِمُهُ ... فَيَخْضِمُهُ فَيَزْدَرِدُهْ
ظَلُومُ الشّرْكِ فِيمَا أَحْ ... رَزَتْ أَنْيَابُهُ وَيَدُهْ
[ ص 365 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ
أَمَرْتُك يَوْمَ ذِي صَنْعَا ... ءَ أَمْرًا بَاديًا رَشَدُهْ
أَمَرْتُك بِاتّقَاءِ الل ... ه تَأْتِيهِ وتَتّعِدُهْ
فَكُنْت كَذِي الحُمَيّرِ غَرّ ... رَه مِمّا بِهِ وَتِدُهْ
لَمْ يُعْرَفْ سَائِرُهَا .
ارْتِدَادُهُ وَشِعْرُهُ فِي ذَلِكَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَقَامَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يَكْرِبَ فِي قَوْمِهِ مِنْ بَنِي زُبَيْدَةَ وَعَلَيْهِمْ فَرْوَةُ بْنُ مُسَيْكٍ . فَلَمّا تُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ارْتَدّ عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يَكْرِبَ ، وَقَالَ حِينَ ارْتَدّ
وَجَدْنَا مُلْكَ فَرْوَةَ شَرّ مُلْكٍ ... حِمَارًا سَافَ مَنْخَرُهُ بِثُفْرِ
وَكُنْت إذَا رَأَيْت أَبَا عُمَيْرٍ ... تَرَى الْحُوَلَاءَ مِنْ خَبَثٍ وَغَدْرِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْلُهُ " بِثُفْرِ " عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ . [ ص 365 ]

قُدُومُ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ فِي وَفْدِ كِنْدَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فِي وَفْدِ كِنْدَةَ ، فَحَدّثَنِي الزّهْرِيّ بْنُ شِهَابٍ أَنّهُ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ثَمَانِينَ رَاكِبًا مِنْ كِنْدَةَ ، فَدَخَلُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَسْجِدَهُ وَقَدْ رَجّلُوا جُمَمَهُمْ وَتَكَحّلُوا ، وَعَلَيْهِمْ جُبَبُ الْحِبَرَةِ وَقَدْ كَفّفُوهَا بِالْحَرِيرِ فَلَمّا دَخَلُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ أَلَمْ تُسْلِمُوا ؟ قَالُوا : بَلَى ، قَالَ فَمَا بَالُ هَذَا الْحَرِيرِ فِي أَعْنَاقِكُمْ ؟ قَالَ فَشَقّوهُ مِنْهَا ، فَأَلْقَوْهُ . ثُمّ قَالَ لَهُ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ : يَا رَسُولَ اللّهِ نَحْنُ بَنُو آكِلِ الْمُرَارِ ، وَأَنْتَ ابْنُ آكِلِ الْمُرَارِ قَالَ فَتَبَسّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ نَاسِبُوا بِهَذَا النّسَبِ الْعَبّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَرَبِيعَةَ بْنَ الْحَارِثِ ، وَكَانَ الْعَبّاسُ وَرَبِيعَةُ رَجُلَيْنِ تَاجِرَيْنِ وَكَانَا إذَا شَاعَا فِي بَعْضِ الْعَرَبِ ، فَسُئِلَا مِمّنْ هُمَا ؟ قَالَا : نَحْنُ بَنُو آكِلِ الْمُرَارِ ، يَتَعَزّزَانِ بِذَلِكَ وَذَلِكَ أَنّ كِنْدَةَ كَانُوا مُلُوكًا : ثُمّ قَالَ لَهُمْ لَا ، بَلْ نَحْنُ بَنُو النّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ ، لَا نَقْفُو أُمّنَا ، وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا ، فَقَالَ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ : هَلْ فَرَغْتُمْ يَا مَعْشَرَ كِنْدَةَ ؟ وَاَللّهِ لَا أَسْمَعُ رَجُلًا يَقُولُهَا إلّا ضَرَبْته ثَمَانِينَ . [ ص 366 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ مِنْ وَلَدِ آكِلِ الْمُرَارِ مِنْ قِبَلِ النّسَاءِ وَآكِلُ الْمُرَارِ الْحَارِثُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حُجْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ ثَوْرِ بْنِ مُرَتّعِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ كِنْدِيّ وَيُقَالُ كِنْدَةُ ، وَإِنّمَا سُمّيَ آكِلَ الْمُرَارِ لِأَنّ عَمْرَو بْنَ الْهَبُولَةِ الْغَسّانِيّ أَغَارَ عَلَيْهِمْ وَكَانَ الْحَارِثُ غَائِبًا ، فَغَنِمَ وَسَبَى ، وَكَانَ فِيمَنْ سَبَى أُمّ أُنَاسِ بِنْتُ عَوْفِ بْنِ مُحَلّمِ الشّيْبَانِيّ امْرَأَةُ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو ، فَقَالَتْ لِعَمْرٍو فِي مَسِيرِهِ لَكَأَنّي بِرَجُلٍ أَدْلَمَ أَسْوَدَ كَأَنّ مَشَافِرَهُ مَشَافِرُ بَعِيرٍ آكِلِ مُرَارٍ قَدْ أَخَذَ بِرَقَبَتِك ، تَعْنِي : الْحَارِثَ فَسُمّيَ آكِلَ الْمُرَارِ وَالْمُرَارُ شَجَرٌ . ثُمّ تَبِعَهُ الْحَارِثُ فِي بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ ، فَلَحِقَهُ فَقَتَلَهُ وَاسْتَنْقَذَ امْرَأَتَهُ وَمَا كَانَ أَصَابَ . فَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلّزَةَ الْيَشْكُرِيّ لِعَمْرِو بْنِ الْمُنْذِرِ وَهُوَ عَمْرُو بْنُ هِنْدٍ اللّخْمِيّ :
وَأَقَدْنَاك رَبّ غَسّانَ بِالْمُنْ ... ذِرْ كَرْهًا إذْ لَا تُكَالُ الدّمَاءُ
لِأَنّ الْحَارِثَ الْأَعْرَجَ الْغَسّانِيّ قَتَلَ الْمُنْذِرُ أَبَاهُ وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَهَذَا الْحَدِيثُ أَطْوَلُ مِمّا ذَكَرْت ، وَإِنّمَا مَنَعَنِي مِنْ اسْتِقْصَائِهِ مَا ذَكَرْت مِنْ الْقَطْعِ . وَيُقَالُ بَلْ آكِلُ الْمُرَارِ حُجْرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُعَاوِيَةَ وَهُوَ صَاحِبُ هَذَا الْحَدِيثِ وَإِنّمَا سُمّيَ آكِلَ الْمُرَارِ لِأَنّهُ أَكَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ شَجَرًا يُقَالُ لَهُ الْمُرَارُ . [ ص 366 ]

قُدُومُ صُرَدَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ الْأَزْدِيّ
إسْلَامُهُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صُرَدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْأَزْدِيّ ، فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إسْلَامُهُ فِي وَفْدٍ مِنْ الْأَزْدِ ، فَأَمّرَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ . وَأَمَرَهُ أَنْ يُجَاهِدَ بِمَنْ أَسْلَمَ مَنْ كَانَ يَلِيهِ مِنْ أَهْلِ الشّرْكِ مِنْ قِبَلِ الْيَمَنِ .
قِتَالُهُ أَهْلَ جُرَشَ
فَخَرَجَ صُرَدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ يَسِيرُ بِأَمْرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى نَزَلَ بِجُرَشَ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ مَدِينَةٌ مُعَلّقَةٌ وَبِهَا قَبَائِلُ مِنْ قَبَائِلِ الْيَمَنِ ، وَقَدْ ضَوَتْ إلَيْهِمْ خَثْعَمُ ، فَدَخَلُوهَا مَعَهُمْ حِينَ سَمِعُوا بِسَيْرِ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ فَحَاصَرُوهُمْ فِيهَا قَرِيبًا مِنْ شَهْرٍ وَامْتَنَعُوا فِيهَا مِنْهُ ثُمّ إنّهُ رَجَعَ عَنْهُمْ قَافِلًا ، حَتّى إذَا كَانَ إلَى جَبَلٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ شَكْرٌ ، ظَنّ أَهْلُ جُرَشَ أَنّهُ إنّمَا [ ص 367 ] عَطَفَ عَلَيْهِمْ فَقَتَلَهُمْ قَتْلًا شَدِيدًا .
إخْبَارُ الرّسُولِ وَافِدِي جُرَشَ بِمَا حَدَثَ لِقَوْمِهَا
وَقَدْ كَانَ أَهْلُ جُرَشَ بَعَثُوا رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْمَدِينَةِ يَرْتَادَانِ وَيَنْظُرَانِ فَبَيْنَمَا هُمَا عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَشِيّةً بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إذْ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأَيّ بِلَادِ اللّهِ شَكْرٌ ؟ فَقَامَ إلَيْهِ الْجُرَشِيّانِ فَقَالَا : يَا رَسُولَ اللّهِ بِبِلَادِنَا جَبَلٌ يُقَال لَهُ كَشْرٌ ؛ وَكَذَلِكَ يُسَمّيهِ أَهْلُ جُرَشَ ، فَقَالَ إنّهُ لَيْسَ بِكَشْرٍ وَلَكِنّهُ شَكْرٌ ؛ قَالَا : فَمَا شَأْنُهُ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ إنّ بُدْنَ اللّهِ لَتُنْحَرُ عِنْدَهُ الْآنَ قَالَ فَجَلَسَ الرّجُلَانِ إلَى أَبِي بَكْرٍ أَوْ إلَى عُثْمَانَ فَقَالَ لَهُمَا : وَيْحَكُمَا إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَيَنْعَى لَكُمَا قَوْمَكُمَا ، فَقُومَا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَاسْأَلَاهُ أَنْ يَدْعُوَ اللّهَ أَنْ يَرْفَعَ عَنْ قَوْمِكُمَا ؛ فَقَامَا إلَيْهِ فَسَأَلَاهُ ذَلِكَ فَقَالَ اللّهُمّ ارْفَعْ عَنْهُمْ فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَاجِعِينَ إلَى قَوْمِهِمَا ، فَوَجَدَا قَوْمَهُمَا قَدْ أُصِيبُوا يَوْمَ أَصَابَهُمْ صُرَدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ فِي الْيَوْمِ الّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا قَالَ وَفِي السّاعَةِ الّتِي ذَكَرَ فِيهَا مَا ذَكَرَ
إسْلَامُ أَهْلِ جُرَشَ
وَخَرَجَ وَفْدُ جُرَشَ حَتّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَسْلَمُوا ، وَحَمَى لَهُمْ حِمًى حَوْلَ قَرْيَتِهِمْ عَلَى أَعْلَامٍ مَعْلُومَةٍ لِلْفَرَسِ وَالرّاحِلَةِ وَلِلْمُثِيرَةِ بَقَرَةِ الْحَرْثِ فَمَنْ رَعَاهُ مِنْ النّاسِ فَمَالُهُمْ سُحْتٌ . فَقَالَ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ رَجُلٌ مِنْ الْأَزْدِ : وَكَانَتْ خَثْعَمُ تُصِيبُ مِنْ الْأَزْدِ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَكَانُوا يَعْدُونَ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ
يَا غَزْوَةً مَا غَزَوْنَا غَيْرَ خَائِبَةٍ ... فِيهَا الْبِغَالُ وَفِيهَا الْخَيْلُ وَالْحُمُرُ
حَتّى أَتَيْنَا حُمَيْرًا فِي مَصَانِعِهَا ... وَجَمْعَ خَثْعَمَ قَدْ شَاعَتْ لَهَا النّذُرُ
إذَا وَضَعْت غَلِيلًا كُنْت أَحْمِلُهُ ... فَمَا أُبَالِي أَدَانُوا بَعْدُ أَمْ كَفَرُوا

قُدُومُ رَسُولِ مُلُوكِ حِمْيَرَ بِكِتَابِهِمْ :
[ ص 367 ] حِمْيَرَ ، مَقْدَمَهُ مِنْ تَبُوكَ ، وَرَسُولُهُمْ إلَيْهِ بِإِسْلَامِهِمْ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ كُلَالٍ ، وَنُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ كُلَالٍ . وَالنّعْمَانُ قِيلَ ذِي رُعَيْنٍ وَمَعَافِرَ [ ص 368 ] وَهَمْدَانَ ؛ وَبَعَثَ إلَيْهِ زُرْعَةُ ذُو يَزَنٍ مَالِكَ بْنَ مُرّةَ الرّهَاوِيّ بِإِسْلَامِهِمْ وَمُفَارَقَتِهِمْ الشّرْكَ وَأَهْلَهُ .
كِتَابُ الرّسُولِ إلَيْهِمْ
فَكَتَبَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 369 ] بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ النّبِيّ ، إلَى الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ ، وَإِلَى نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ ، وَإِلَى النّعْمَانِ قِيلَ ذِي رُعَيْنٍ وَمَعَافِرَ وَهَمْدَانَ . أَمّا بَعْدَ ذَلِكُمْ فَإِنّي أَحْمَدُ إلَيْكُمْ اللّهَ الّذِي لَا إلَهَ إلّا هُوَ أَمّا بَعْدُ فَإِنّهُ قَدْ وَقَعَ بِنَا رَسُولُكُمْ مُنْقَلَبَنَا مِنْ أَرْضِ الرّومِ ، فَلَقِيَنَا بِالْمَدِينَةِ فَبَلّغَ مَا أَرْسَلْتُمْ بِهِ وَخَبّرَنَا مَا قِبَلَكُمْ وَأَنْبَأَنَا بِإِسْلَامِكُمْ وَقَتْلِكُمْ الْمُشْرِكِينَ وَأَنّ اللّهَ قَدْ هَدَاكُمْ بِهُدَاهُ إنْ أَصْلَحْتُمْ وَأَطَعْتُمْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَأَقَمْتُمْ الصّلَاةَ وَآتَيْتُمْ الزّكَاةَ وَأَعْطَيْتُمْ مِنْ الْمَغَانِمِ خُمُسَ اللّهِ وَسَهْمَ الرّسُولِ وَصَفِيّهُ وَمَا كُتِبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الصّدَقَةِ مِنْ الْعَقَارِ عُشْرَ مَا سَقَتْ الْعَيْنُ وَسَقَتْ السّمَاءُ وَعَلَى مَا سَقَى الْغَرْبُ نِصْفَ الْعُشْرِ وَأَنّ فِي الْإِبِلِ الْأَرْبَعِينَ ابْنَةَ لَبُونٍ وَفِي ثَلَاثِينَ مِنْ الْإِبِلِ ابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٍ وَفِي كُلّ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ وَفِي كُلّ عَشْرٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاتَانِ وَفِي كُلّ أَرْبَعِينَ مِنْ الْبَقَرِ بَقَرَةٌ وَفِي كُلّ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ تَبِيعٌ جَذَعٌ أَوْ جَذَعَةٌ وَفِي كُلّ أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ سَائِمَةً وَحْدَهَا ، شَاةٌ وَأَنّهَا فَرِيضَةُ اللّهِ الّتِي فُرِضَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقَةِ فَمَنْ زَادَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَمَنْ أَدّى ذَلِكَ وَأَشْهَدَ عَلَى إسْلَامِهِ وَظَاهَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَإِنّهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ وَلَهُ ذِمّةُ اللّهِ وَذِمّةُ رَسُولِهِ وَإِنّهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِيّ أَوْ نَصْرَانِيّ فَإِنّهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِمْ وَمَنْ كَانَ عَلَى يَهُودِيّتِهِ أَوْ نَصْرَانِيّتِهِ فَإِنّهُ لَا يُرَدّ عَنْهَا ، وَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ عَلَى كُلّ حَالٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى ، حُرّ أَوْ عَبْدٍ دِينَارٌ وَافٍ مِنْ قِيمَةِ الْمَعَافِرِ أَوْ عِوَضُهُ ثِيَابًا ، فَمَنْ أَدّى ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَإِنّ لَهُ ذِمّةَ اللّهِ وَذِمّةَ رَسُولِهِ وَمَنْ مَنَعَهُ فَإِنّهُ عَدُوّ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ . أَمّا بَعْدُ فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ مُحَمّدًا النّبِيّ أَرْسَلَ إلَى زُرْعَةَ ذِي يَزَنٍ أَنْ إذَا أَتَاكُمْ رُسُلِي فَأُوصِيكُمْ بِهِمْ خَيْرًا : مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ زَيْدٍ ، وَمَالِكُ بْنُ عُبَادَةَ ، وَعُقْبَةُ بْنُ نَمِرٍ وَمَالِكُ بْنُ مُرّةَ وَأَصْحَابُهُمْ وَأَنْ اجْمَعُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنْ الصّدَقَةِ وَالْجِزْيَةِ مِنْ مُخَالِفِيكُمْ وَأَبْلِغُوهَا رُسُلِي ، وَأَنّ أَمِيرَهُمْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، فَلَا يَنْقَلِبَنّ إلّا رَاضِيًا . أَمّا بَعْدُ . فَإِنّ مُحَمّدًا يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّهُ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ثُمّ إنّ مَالِكَ بْنَ مُرّةَ الرّهَاوِيّ قَدْ حَدّثَنِي أَنّك أَسْلَمْت مِنْ أَوّلِ حِمْيَرَ ، وَقَتَلْت الْمُشْرِكِينَ فَأَبْشِرْ بِخَيْرٍ وَآمُرُك بِحِمْيَرَ خَيْرًا ، وَلَا تَخُونُوا وَلَا تَخَاذَلُوا ، فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هُوَ وَلِيّ غَنِيّكُمْ وَفَقِيرِكُمْ وَأَنّ الصّدَقَةَ لَا تَحِلّ لِمُحَمّدٍ وَلَا لِأَهْلِ بَيْتِهِ إنّمَا هِيَ زَكَاةٌ يُزَكّى بِهَا عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَابْنِ السّبِيلِ وَإِنّ مَالِكًا قَدْ بَلّغَ الْخَبَرَ ، وَحَفِظَ الْغَيْبَ وَآمُرُكُمْ بِهِ خَيْرًا ، وَإِنّي قَدْ أَرْسَلْت إلَيْكُمْ مِنْ صَالِحِي أَهْلِي وَأُولِي دِينِهِمْ وَأُولِي عِلْمِهِمْ وَآمُرُك بِهِمْ خَيْرًا ، فَإِنّهُمْ مَنْظُورٌ إلَيْهِمْ وَالسّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ . [ ص 368 ]

وَصِيّةُ الرّسُولِ مُعَاذًا حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ
بَعْثُ الرّسُولِ مُعَاذًا عَلَى الْيَمَنِ وَشَيْءٌ مِنْ أَمْرِهِ بِهَا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ أَنّهُ حَدّثَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ بَعَثَ مُعَاذًا ، أَوْصَاهُ وَعَهِدَ إلَيْهِ ثُمّ قَالَ لَهُ يَسّرْ وَلَا تُعَسّرْ وَبَشّرْ وَلَا تُنَفّرْ وَإِنّك سَتَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَسْأَلُونَك مَا مِفْتَاحُ الْجَنّةِ فَقُلْ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ قَالَ فَخَرَجَ مُعَاذٌ حَتّى إذَا قَدِمَ الْيَمَنَ قَامَ بِمَا أَمَرَهُ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ ، فَقَالَتْ يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللّهِ مَا حَقّ زَوْجِ الْمَرْأَةِ عَلَيْهَا ؟ قَالَ وَيْحَك إنّ الْمَرْأَةَ لَا تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تُؤَدّيَ حَقّ زَوْجِهَا ، فَأَجْهِدِي نَفْسَك فِي أَدَاءِ حَقّهِ مَا اسْتَطَعْت ، قَالَتْ وَاَللّهِ لَئِنْ كُنْت صَاحِبَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّك لَتَعْلَمُ مَا حَقّ الزّوْجِ عَلَى الْمَرْأَةِ . قَالَ وَيْحَك لَوْ رَجَعْت إلَيْهِ فَوَجَدْته تَنْثَعِبُ مَنْخَرَاهُ قَيْحًا وَدَمًا ، فَمَصَصْت ذَلِكَ حَتّى تُذْهِبِيهِ مَا أَدّيْت حَقّهُ .

إسْلَامُ فَرْوَةَ بْنِ عَمْرٍو الْجُذَامِيّ
إسْلَامُهُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَبَعَثَ فَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو النّافِرَةَ الْجُذَامِيّ ثُمّ النّفَاثِيّ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَسُولًا بِإِسْلَامِهِ وَأَهْدَى لَهُ بَغْلَةً بَيْضَاءَ وَكَانَ فَرْوَةُ عَامِلًا لِلرّومِ عَلَى مَنْ يَلِيهِمْ مِنْ الْعَرَبِ ، وَكَانَ مَنْزِلُهُ مَعَانَ وَمَا حَوْلَهَا مِنْ أَرْضِ الشّامِ .
حَبْسُ الرّومِ لَهُ وَشِعْرُهُ فِي مَحْبِسِهِ
فَلَمّا بَلَغَ الرّومَ ذَلِكَ مِنْ إسْلَامِهِ طَلَبُوهُ حَتّى أَخَذُوهُ فَحَبَسُوهُ عِنْدَهُمْ فَقَالَ فِي مَحْبِسِهِ ذَلِكَ [ ص 370 ]
طَرَقَتْ سُلَيْمَى مَوْهِنًا أَصْحَابِي ... وَالرّومُ بَيْنَ الْبَابِ وَالْقِرْوَانِ
صَدّ الْخَيَالُ وَسَاءَهُ مَا قَدْ رَأَى ... وَهَمَمْت أَنْ أُغْفِي وَقَدْ أَبْكَانِي
لَا تَكْحَلَنّ الْعَيْنَ بَعْدِي إثْمِدًا ... سَلْمَى وَلَا تَدِيِنّ لِلْإِتْيَانِ
وَلَقَدْ عَلِمْت أَبَا كُبَيْشَةَ أَنّنِي ... وَسْطَ الْأَعِزّةِ لَا يُحَصّ لِسَانِي
فَلَئِنْ هَلَكْت لَتَفْقِدُنّ أَخَاكُمْ ... وَلَئِنْ بَقِيت لَتَعْرِفُنّ مَكَانِي
وَلَقَدْ جَمَعْت أَجَلّ مَا جَمَعَ الْفَتَى ... مِنْ جَوْدَةٍ وَشَجَاعَةٍ وَبَيَانِ
فَلَمّا أَجَمَعَتْ الرّومُ لِصَلْبِهِ عَلَى مَاءٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ عَفْرَاءُ بِفِلَسْطِينَ قَالَ
أَلَا هَلْ أَتَى سَلْمَى بِأَنّ حَلِيلَهَا ... عَلَى مَاءِ عَفْرَا فَوْقَ إحْدَى الرّوَاحِلِ
عَلَى نَاقَةٍ لَمْ يَضْرِبْ الْفَحْلُ أُمّهَا ... مُشَذّبَةٍ أَطْرَافُهَا بِالْمَنَاجِلِ
مَقْتَلُهُ فَزَعَمَ الزّهْرِيّ بْنُ شِهَابٍ ، أَنّهُمْ لَمّا قَدّمُوهُ لِيَقْتُلُوهُ . قَالَ
بَلّغْ سَرَاةَ الْمُسْلِمِينَ بِأَنّنِي ... سِلْمٌ لِرَبّي أَعْظُمِي وَمَقَامِي
ثُمّ ضَرَبُوا عُنُقَهُ وَصَلَبُوهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ يَرْحَمُهُ اللّهُ تَعَالَى .
Sحَدِيثُ فَرْوَةَ " مَعْنَى قَرْوٍ "
[ ص 369 ] وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ حَدِيثَ فَرْوَةَ وَقَوْلَهُ
طَرَقَتْ سُلَيْمَى مَوْهِنًا أَصْحَابِي ... وَالرّومُ بَيْنَ الْبَابِ وَالْقِرْوَانِ
[ ص 370 ] يَكُونَ جَمْعَ قَرْوٍ وَهُوَ حَوْضُ الْمَاءِ مِثْلُ صِنْوَانٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ : قَرِيّ مِثْلُ صَلِيبٍ وَصُلْبَانٍ . وَأَصَحّ مَا قِيلَ فِي الْقَرْوِ إنّهُ حُوَيْضٌ مِنْ خَشَبٍ تُسْقَى فِيهِ الدّوَابّ ، وَتَلِغُ فِيهِ الْكِلَابُ وَفِي الْمَثَلِ مَا فِيهَا لَاعِي قَرْوٍ أَيْ مَا فِي الدّارِ حَيَوَانٌ وَأَرَادَ بِلَاعِي قَرْوٍ لَاعِقَ قَرْوٍ وَقَلَبَ الْقَافَ الْأُولَى يَاءً لِلتّضْعِيفِ .
إبْدَالُ آخِرِ حَرْفٍ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ
وَحَسّنَ ذَلِكَ أَنّهُ اسْمُ فَاعِلٍ وَقَدْ يُبْدِلُونَ مِنْ آخِرِ حَرْفٍ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ يَاءً وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمّ تَضْعِيفٌ كَقَوْلِهِمْ فِي الْخَامِسِ خَامِيهِمْ وَفِي سَادِسِهِمْ سَادِيهِمْ وَكَذَلِكَ إلَى الْعَاشِرِ وَنَحْوٌ مِنْهُ مَا أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ . وَلِضَفَادِي جَمّهِ نَقَانِقُ
أَيْ لِضَفَادِعِ جَمّهِ وَأَنْشَدَ مِنْ الثّعَالِي وَوَخْزٌ مِنْ أَرَانِبِهَا
أَرَادَ الثّعَالِبَ وَأَرَانِبِهَا ، وَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْرُوفًا فَلَاعِي قَرْوٍ أَحَقّ أَنْ يُقْلَبَ آخِرُهُ يَاءً كَرَاهَةَ اجْتِمَاعِ قَافَيْنِ .

إسْلَامُ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ عَلَى يَدَيْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ لَمّا سَارَ إلَيْهِمْ
دَعْوَةُ خَالِدٍ النّاسَ إلَى الْإِسْلَامِ وَإِسْلَامُهُمْ
[ ص 371 ] [ ص 372 ] ثُمّ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخِرِ أَوْ جُمَادَى الْأُولَى ، سَنَةَ عَشْرٍ إلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ بِنَجْرَانَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ ثَلَاثًا ، فَإِنْ اسْتَجَابُوا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَقَاتِلْهُمْ . فَخَرَجَ خَالِدٌ حَتّى قَدِمَ عَلَيْهِمْ فَبَعَثَ الرّكْبَانَ يَضْرِبُونَ فِي كُلّ وَجْهٍ وَيَدْعُونَ إلَى الْإِسْلَامِ وَيَقُولُونَ أَيّهَا النّاسُ أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا . فَأَسْلَمَ النّاسُ وَدَخَلُوا فِيمَا دُعُوا إلَيْهِ فَأَقَامَ فِيهِمْ خَالِدٌ يُعَلّمُهُمْ الْإِسْلَامَ وَكِتَابَ اللّهِ وَسُنّةَ نَبِيّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبِذَلِكَ كَانَ أَمَرَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنْ هُمْ أَسْلَمُوا وَلَمْ يُقَاتِلُوا . ثُمّ كَتَبَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ، السّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللّهِ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ فَإِنّي أَحْمَدُ إلَيْك اللّهَ الّذِي لَا إلَهَ إلّا هُوَ أَمّا بَعْدُ يَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْك ، فَإِنّك بَعَثْتنِي إلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ وَأَمَرْتنِي إذَا أَتَيْتهمْ أَلّا أُقَاتِلَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ وَأَنْ أَدْعُوَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَسْلَمُوا أَقَمْت فِيهِمْ وَقَبِلْت مِنْهُمْ وَعَلّمْتهمْ مَعَالِمَ الْإِسْلَامِ وَكِتَابَ اللّهِ وَسُنّةَ نَبِيّهِ وَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا قَاتَلْتهمْ . وَإِنّي قَدِمْت عَلَيْهِمْ فَدَعَوْتهمْ إلَى الْإِسْلَامِ ثَلَاثَةَ أَيّامٍ كَمَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَعَثْت فِيهِمْ رُكْبَانًا ، قَالُوا : يَا بَنِي الْحَارِثِ أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا ، فَأَسْلَمُوا وَلَمْ يُقَاتِلُوا ، وَأَنَا مُقِيمٌ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ آمُرُهُمْ بِمَا أَمَرَهُمْ اللّهُ بِهِ وَأَنْهَاهُمْ عَمّا نَهَاهُمْ اللّهُ عَنْهُ وَأُعَلّمُهُمْ مَعَالِمَ الْإِسْلَامِ وَسُنّةَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى يَكْتُبَ إلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَالسّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللّهِ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ
كِتَابُ الرّسُولِ إلَى خَالِدٍ يَأْمُرُهُ بِالْمَجِيءِ
فَكَتَبَ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدٍ النّبِيّ رَسُولِ اللّهِ إلَى خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ . سَلَامٌ عَلَيْك ، فَإِنّي أَحْمَدُ إلَيْك اللّهَ الّذِي لَا إلَهَ إلّا هُوَ . أَمّا بَعْدُ فَإِنّ كِتَابَك جَاءَنِي مَعَ رَسُولِك تُخْبِرُ أَنّ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ قَدْ أَسْلَمُوا قَبْلَ أَنْ تُقَاتِلَهُمْ وَأَجَابُوا إلَى مَا دَعَوْتهمْ إلَيْهِ مِنْ الْإِسْلَامِ وَشَهِدُوا أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُ اللّهِ وَرَسُولُهُ وَأَنْ قَدْ هَدَاهُمْ اللّهُ بِهُدَاهُ فَبَشّرْهُمْ وَأَنْذِرْهُمْ وَأَقْبِلْ وَلْيُقْبِلْ مَعَك وَفْدُهُمْ وَالسّلَامُ عَلَيْك وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ
قُدُومُ خَالِدٍ مَعَ وَفْدِهِمْ عَلَى الرّسُولِ
فَأَقْبَلَ خَالِدٌ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَقْبَلَ مَعَهُ وَفْدُ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ مِنْهُمْ قَيْسُ بْنُ الْحُصَيْنِ ذِي الْغُصّةِ ، وَيَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَدَانِ ، وَيَزِيدُ بْنُ الْمُحَجّلِ ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ قُرْدٍ الزّيَادِيّ ؛ وَشَدّادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْقَنَانِيّ ، وَعَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللّهِ الضّبَابِيّ . [ ص 373 ]
حَدِيثُ وَفْدِهِمْ مَعَ الرّسُولِ
فَلَمّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرَآهُمْ قَالَ مَنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الّذِينَ كَأَنّهُمْ رِجَالُ الْهِنْدِ ؟ قِيلَ يَا رَسُولَ اللّهِ هَؤُلَاءِ رِجَالُ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ فَلَمّا وَقَفُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَلّمُوا عَلَيْهِ وَقَالُوا : نَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللّهِ وَأَنّهُ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّي رَسُولُ اللّهِ ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْتُمْ الّذِينَ إذَا زُجِرُوا اُسْتُقْدِمُوا ؟ فَسَكَتُوا ، فَلَمْ يُرَاجِعْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ ، ثُمّ أَعَادَهَا الثّانِيَةَ فَلَمْ يُرَاجِعْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ ، ثُمّ أَعَادَهَا الثّالِثَةَ فَلَمْ يُرَاجِعْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ ، ثُمّ أَعَادَهَا الرّابِعَةَ فَقَالَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَدَانِ : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللّهِ نَحْنُ الّذِينَ إذَا زُجِرُوا اُسْتُقْدِمُوا ، قَالَهَا أَرْبَعَ مِرَارٍ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَوْ أَنّ خَالِدًا لَمْ يَكْتُبْ إلَيّ أَنّكُمْ أَسْلَمْتُمْ وَلَمْ تُقَاتِلُوا ، لَأَلْقَيْت رُءُوسَكُمْ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ فَقَالَ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَدَانِ : أَمَا وَاَللّهِ مَا حَمِدْنَاك وَلَا حَمِدْنَا خَالِدًا ، قَالَ فَمَنْ حَمِدْتُمْ ؟ قَالُوا : حَمِدْنَا اللّهَ عَزّ وَجَلّ الّذِي هَدَانَا بِك يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ صَدَقْتُمْ . ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَ كُنْتُمْ تَغْلِبُونَ مَنْ قَاتَلَكُمْ فِي الْجَاهِلِيّةِ ؟ قَالُوا : لَمْ نَكُنْ نَغْلِبُ أَحَدًا ؛ قَالَ بَلَى ، قَدْ كُنْتُمْ تَغْلِبُونَ مَنْ قَاتَلَكُمْ قَالُوا : كُنّا نَغْلِبُ مَنْ قَاتَلَنَا يَا رَسُولَ اللّهِ إنّا كُنّا نَجْتَمِعُ وَلَا نَفْتَرِقُ وَلَا نَبْدَأُ أَحَدًا بِظُلْمٍ قَالَ صَدَقْتُمْ وَأَمّرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ قَيْسَ بْنَ الْحُصَيْنِ . فَرَجَعَ وَفْدُ بَنِي الْحَارِثِ إلَى قَوْمِهِمْ فِي بَقِيّةٍ مِنْ شَوّالٍ أَوْ فِي صَدْرِ ذِي الْقَعْدَةِ فَلَمْ يَمْكُثُوا بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا إلَى قَوْمِهِمْ إلّا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ حَتّى تُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرَحِمَ وَبَارَكَ وَرَضِيَ وَأَنْعَمَ .
بَعْثُ الرّسُولِ عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ بِعَهْدِهِ إلَيْهِمْ
وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعَثَ إلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ وَلّى وَفْدُهُمْ عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ ، لِيُفَقّهَهُمْ فِي الدّينِ وَيُعَلّمَهُمْ السّنّةَ وَمَعَالِمَ الْإِسْلَامِ وَيَأْخُذَ مِنْهُمْ صَدَقَاتِهِمْ وَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا عَهِدَ إلَيْهِ فِيهِ عَهْدَهُ وَأَمَرَهُ فِيهِ بِأَمْرِهِ .َ [ ص 374 ] بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ هَذَا بَيَانٌ مِنْ اللّهِ وَرَسُولِهِ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ عَهْدٌ مِنْ مُحَمّدٍ النّبِيّ رَسُولِ اللّهِ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ ، أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللّهِ فِي أَمْرِهِ كُلّهِ فَإِنّ اللّهَ مَعَ الّذِينَ اتّقَوْا وَاَلّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالْحَقّ كَمَا أَمَرَهُ اللّهُ وَأَنْ يُبَشّرَ النّاسَ بِالْخَيْرِ وَيَأْمُرَهُمْ بِهِ وَيُعَلّمَ النّاسَ الْقُرْآنَ وَيُفَقّهَهُمْ فِيهِ وَيَنْهَى النّاسَ فَلَا يَمَسّ الْقُرْآنَ إنْسَانٌ إلّا وَهُو طَاهِرٌ وَيُخْبِرَ النّاسَ بِاَلّذِي لَهُمْ وَاَلّذِي عَلَيْهِمْ وَيَلِينَ لِلنّاسِ فِي الْحَقّ وَيَشُدّ عَلَيْهِمْ فِي الظّلْمِ فَإِنّ اللّهَ كَرِهَ الظّلْمَ وَنَهَى عَنْهُ فَقَالَ { أَلَا لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظّالِمِينَ } [ هُودُ : 18 ] ، وَيُبَشّرَ النّاسَ بِالْجَنّةِ وَبِعَمَلِهَا ، وَيُنْذِرَ النّاسَ النّارَ وَعَمَلَهَا ، وَيَسْتَأْلِفَ النّاسَ حَتّى يَفْقَهُوا فِي الدّينِ وَيُعَلّمَ النّاسَ مَعَالِمَ الْحَجّ وَسُنّتَهُ وَفَرِيضَتَهُ وَمَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ وَالْحَجّ الْأَكْبَرُ الْحَجّ الْأَكْبَرُ وَالْحَجّ الْأَصْغَرُ هُوَ الْعُمْرَةُ وَيَنْهَى النّاسَ أَنْ يُصَلّيَ أَحَدٌ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ صَغِيرٍ إلّا أَنْ يَكُونَ ثَوْبًا يُثْنِي طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ وَيَنْهَى النّاسَ أَنْ يَحْتَبِيَ أَحَدٌ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ يُفْضِي بِفَرْجِهِ إلَى السّمَاءِ وَيَنْهَى أَنْ يُعَقّصَ أَحَدٌ شَعْرَ رَأْسِهِ فِي قَفَاهُ وَيَنْهَى إذَا كَانَ بَيْنَ النّاسِ هَيْجٌ عَنْ الدّعَاءِ إلَى الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ وَلْيَكُنْ دَعْوَاهُمْ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ فَمَنْ لَمْ يَدْعُ إلَى اللّهِ وَدَعَا إلَى الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ فَلْيُقْطَفُوا بِالسّيْفِ حَتّى تَكُونَ دَعْوَاهُمْ إلَى اللّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَيَأْمُرَ النّاسَ بِإِسْبَاغِ الْوُضُوءِ وُجُوهَهُمْ وَأَيْدِيَهُمْ إلَى الْمَرَافِقِ وَأَرْجُلَهُمْ إلَى الْكَعْبَيْنِ وَيَمْسَحُونَ بِرُءُوسِهِمْ كَمَا أَمَرَهُمْ اللّهُ وَأَمَرَ بِالصّلَاةِ لِوَقْتِهَا ، وَإِتْمَامِ الرّكُوعِ وَالسّجُودِ وَالْخُشُوعِ وَيُغَلّسُ بِالصّبْحِ وَيُهَجّرُ بِالْهَاجِرَةِ حِينَ تَمِيلُ الشّمْسُ وَصَلَاةُ الْعَصْرِ وَالشّمْسُ فِي الْأَرْضِ مُدْبِرَةٌ وَالْمَغْرِبِ حِينَ يُقْبِلُ اللّيْلُ لَا يُؤَخّرُ حَتّى تَبْدُوَ النّجُومُ فِي السّمَاءِ وَالْعِشَاءِ أَوّلَ اللّيْلِ وَأَمَرَ بِالسّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ إذَا نُودِيَ لَهَا ، وَالْغُسْلِ عِنْدَ الرّوَاحِ إلَيْهَا ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمَغَانِمِ خُمُسَ اللّهِ وَمَا كُتِبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقَةِ مِنْ الْعَقَارِ عُشْرَ مَا سَقَتْ الْعَيْنُ وَسَقَتْ السّمَاءُ وَعَلَى مَا سَقَى الْغَرْبُ نِصْفُ الْعُشْرِ وَفِي كُلّ عَشْرٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاتَانِ وَفِي كُلّ عِشْرِينَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ وَفِي كُلّ أَرْبَعِينَ مِنْ الْبَقَرِ بَقَرَةٌ وَفِي كُلّ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ تَبِيعٌ جَذَعٌ أَوْ جَذَعَةٌ وَفِي كُلّ أَرْبَعِينَ مِنْ الْغَنَمِ سَائِمَةً وَحْدَهَا شَاةٌ فَإِنّهَا فَرِيضَةُ اللّهِ الّتِي افْتَرَضَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقَةِ فَمَنْ زَادَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنّهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودِيّ أَوْ نَصْرَانِيّ إسْلَامًا خَالِصًا مِنْ نَفْسِهِ وَدَانَ بِدِينِ الْإِسْلَامِ فَإِنّهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَهُ مِثْلُ مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِ مِثْلُ مَا عَلَيْهِمْ وَمَنْ كَانَ عَلَى نَصْرَانِيّتِهِ أَوْ يَهُودِيّتِهِ فَإِنّهُ لَا يُرَدّ عَنْهَا ، وَعَلَى كُلّ حَالِمٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى ، حُرّ أَوْ عَبْدٍ دِينَارٌ وَافٍ أَوْ عِوَضُهُ ثِيَابًا . فَمَنْ أَدّى ذَلِكَ فَإِنّ لَهُ ذِمّةَ اللّهِ وَذِمّةَ رَسُولِهِ وَمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ فَإِنّهُ عَدُوّ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ جَمِيعًا ، صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَى مُحَمّدٍ وَالسّلَامُ عَلَيْهِ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ
S[ ص 371 ] وَذَكَرَ قُدُومَ وَفْدِ كِنْدَةَ ، وَفِيهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لَا نَقْفُو أُمّنَا ، وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا وَفِي هَذَا مَا يَدُلّ عَلَى أَنّ الْأَشْعَثَ قَدْ أَصَابَ فِي بَعْضِ قَوْلِهِ نَحْنُ وَأَنْتَ بَنُو آكِلِ الْمُرَارِ ، وَذَلِكَ أَنّ فِي جَدّاتِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ هِيَ مِنْ ذَلِكَ الْقَبِيلِ مِنْهُنّ دَعْدُ بِنْتُ سُرَيْرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَارِثِ الْكِنْدِيّ الْمَذْكُورِ وَهِيَ أُمّ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ ، وَقِيلَ بَلْ هِيَ جَدّةُ كِلَابٍ أُمّ أُمّهِ هِنْدٍ ، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ هِنْدًا هَذِهِ وَأَنّهَا وَلَدَتْ كِلَابًا .
قُدُومُ وَفْدِ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ
ذَكَرَ فِيهِمْ يَزِيدَ بْنَ عَبْدِ الْمَدَانِ ، وَاسْمُ عَبْدِ الْمَدَانِ عَمْرُو بْنُ الدّيّانِ وَالدّيّانُ اسْمُهُ يَزِيدُ بْنُ قَطَنِ بْنِ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ الْحَارِثِيّ . [ ص 372 ] وَذَكَرَ فِيهِمْ أَيْضًا ذَا الْغُصّةِ وَاسْمُهُ الْحُصَيْنُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ شَدّادٍ الْحَارِثِيّ ، وَقِيلَ لَهُ ذُو الْغُصّةِ لِغُصّةٍ كَانَتْ فِي حَلْقِهِ لَا يَكَادُ يُبِينُ مِنْهَا ، وَذَكَرَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ يَوْمًا ، فَقَالَ لَا تُزَادُ امْرَأَةٌ فِي صَدَاقِهَا عَلَى كَذَا وَكَذَا ، وَلَوْ كَانَتْ بِنْتَ ذِي الْغُصّةِ وَذَكَرَ فِيهِمْ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ اللّهِ الضّبَابِيّ وَهُوَ ضِبَابٌ بِكَسْرِ الضّادِ فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَذْلِجَ وَضِبَابٌ أَيْضًا فِي قُرَيْشٍ وَهُوَ ابْنُ حُجَيْرِ بْنِ عَبْدِ بْنِ مَعِيصِ بْنِ عَامِرٍ أَخُو حَجَرِ بْنِ عَبْدٍ وَفِي حَجَرٍ وَحُجَيْرٍ يَقُولُ الشّاعِرُ
أُنْبِئْت أَنّ غُوَاةً مِنْ بَنِي حَجَرٍ ... وَمِنْ حُجَيْرٍ بِلَا ذَنْبٍ أَرَاغُونِي
أَغْنُوا بَنِي حَجَرٍ عَنّا غُوَاتَكُمْ ... وَيَا حُجَيْرُ إلَيْكُمْ لَا تَبُورُونِي
وَالضّبَابُ فِي بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَهُمْ ضِبَابٌ وَمُضِبّ وَحِسْلٌ وَحُسَيْلٌ بَنُو مُعَاوِيَةَ بْنِ كِلَابٍ وَأَمّا الضّبَابُ بِالْفَتْحِ فَفِي نَسَبِ النّابِغَةِ الذّبْيَانِيّ ضَبَابُ بْنُ يَرْبُوعِ بْنِ غَيْظٍ وَأَمّا الضّبَابُ بِالضّمّ فَزَيْدٌ وَمَنْجَا ابْنَا ضُبَابٍ مِنْ بَنِي بَكْرٍ ذَكَرَهُ الدّارَقُطْنِيّ . [ ص 373 ] [ ص 374 ]

قُدُومُ رِفَاعَةَ بْنِ زَيْدٍ الْجُذَامِيّ
إسْلَامُهُ وَحَمْلُهُ كِتَابَ الرّسُولِ إلَى قَوْمِهِ
وَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي هُدْنَةِ الْحُدَيْبِيَةِ ، قَبْلَ خَيْبَرَ ، رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ الْجُذَامِيّ ثُمّ الضّبَيْبِيّ ، فَأَهْدَى لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ غُلَامًا ، وَأَسْلَمَ ، فَحَسُنَ إسْلَامُهُ وَكَتَبَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كِتَابًا إلَى قَوْمِهِ . وَفِي الْكِتَابِ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ لِرِفَاعَةِ بْنِ زَيْدٍ . إنّي بَعَثْته إلَى قَوْمِهِ عَامّةً وَمَنْ دَخَلَ فِيهِمْ يَدْعُوهُمْ إلَى اللّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ فَمَنْ أَقْبَلَ مِنْهُمْ فَفِي حِزْبِ اللّهِ وَحِزْبِ رَسُولِهِ وَمَنْ أَدْبَرَ فَلَهُ أَمَانُ شَهْرَيْنِ . فَلَمّا قَدِمَ رِفَاعَةُ عَلَى قَوْمِهِ أَجَابُوا وَأَسْلَمُوا ، ثُمّ سَارُوا إلَى الْحَرّةِ : حَرّةِ الرّجْلَاءِ . وَنَزَلُوهَا .
Sوُفُودُ رِفَاعَةَ
[ ص 375 ] وَذَكَرَ وُفُودَ رِفَاعَةَ الضّبَيْبِيّ وَأَنّهُ أَهْدَى لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ غُلَامًا ، وَذَلِكَ الْغُلَامُ هُوَ الّذِي يُقَالُ لَهُ مِدْعَمٌ ، وَقَعَ ذِكْرُهُ فِي الْمُوَطّإِ .

قُدُومُ وَفْدِ هَمْدَانَ
أَسَمَاؤُهُمْ وَكَلِمَةُ ابْنِ نَمَطٍ بَيْنَ يَدَيْ الرّسُولِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَدِمَ وَفْدُ هَمْدَانَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا حَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُذَيْنَةَ الْعَبْدِيّ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ السّبِيعِيّ قَالَ قَدِمَ وَفْدُ هَمْدَانَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْهُمْ مَالِكُ بْنُ نَمَطٍ وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَهُوَ ذُو الْمِشْعَارِ وَمَالِكُ بْنُ أَيْفَعَ وَضِمَامُ بْنُ مَالِكٍ السّلْمَانِيّ وَعَمِيرَةُ بْنُ مَالِكٍ الْخَارِفِيّ ، فَلَقُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَرْجِعَهُ مِنْ تَبُوكَ وَعَلَيْهِمْ مُقَطّعَاتُ الْحِبَرَاتِ . وَالْعَمَائِمُ الْعَدَنِيّةُ بِرِحَالِ الْمَيْسِ عَلَى الْمَهْرِيّةِ وَالْأَرْحَبِيّةِ وَمَالِكُ بْنُ نَمَطٍ وَرَجُلٌ آخَرُ يَرْتَجِزَانِ بِالْقَوْمِ يَقُولُ أَحَدُهُمَا :
هَمْدَانُ خَيْرٌ سَوْقَةً وَأَقْيَالْ ... لَيْسَ لَهَا فِي الْعَالَمِينَ أَمْثَالْ
مَحَلّهَا الْهَضْبُ وَمِنْهَا الْأَبْطَالْ ... لَهَا إطَابَاتٌ بِهَا وَآكَالْ
[ ص 376 ]
إلَيْك جَاوَزْنَ سَوَادَ الرّيفِ ... فِي هَبَوَاتِ الصّيْفِ وَالْخَرِيفِ
مُخَطّمَاتٍ بِحِبَالِ اللّيفِ
فَقَامَ مَالِكُ بْنُ نَمَطٍ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ نَصِيّةٌ مِنْ هَمْدَانَ ، مِنْ كُلّ حَاضِرٍ وَبَادٍ أَتَوْك عَلَى قُلُصٍ نَوَاجٍ مُتّصِلَةٍ بِحَبَائِلِ الْإِسْلَامِ لَا تَأْخُذُهُمْ فِي اللّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ مِنْ مِخْلَافِ خَارِفٍ وَيَامٍ وَشَاكِرٍ أَهْلِ السّودِ وَالْقُودِ أَجَابُوا دَعْوَةَ الرّسُولِ وَفَارَقُوا آلِهَاتِ الْأَنْصَابِ عَهْدُهُمْ لَا يُنْقَضُ مَا أَقَامَتْ لَعْلَعُ ، وَمَا جَرَى الْيَعْفُورُ بِصُلّعٍ . فَكَتَبَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كِتَابًا فِيهِ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ . هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَسُولِ اللّهِ مُحَمّدٍ ، لِمِخْلَافِ خَارِفٍ وَأَهْلِ جَنَابِ الْهَضْبِ وَحِقَافِ الرّمْلِ مَعَ وَفْدِهَا ذِي الْمِشْعَارِ مَالِكِ بْنِ نَمَطٍ وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى أَنّ لَهُمْ فِرَاعَهَا وَوِهَاطَهَا ، مَا أَقَامُوا الصّلَاةَ وَآتَوْا الزّكَاةَ يَأْكُلُونَ عِلَافَهَا وَيَرْعَوْنَ عَافِيَهَا ، لَهُمْ بِذَلِكَ عَهْدُ اللّهِ وَذِمَامُ رَسُولِهِ وَشَاهِدُهُمْ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فَقَالَ فِي ذَلِكَ مَالِكُ بْنُ نَمَطٍ [ ص 377 ]
ذَكَرْت رَسُولَ اللّهِ فِي فَحْمَةِ الدّحَى ... وَنَحْنُ بِأَعْلَى رَحْرَحَانَ وَصَلْدَدِ
وَهُنّ بِنَا خُوصٌ طَلَائِحُ تَعْتَلِي ... بِرُكْبَانِهَا فِي لَاحِبٍ مُتَمَدّدِ
عَلَى كُلّ فَتْلَاءِ الذّرَاعَيْنِ جَسْرَةٍ ... تَمُرّ بِنَا مَرّ الْهِجَفّ الخَفَيْدَدِ
حَلَفْت بِرَبّ الرّاقِصَاتِ إلَى مِنًى ... صَوَادِرَ بِالرّكْبَانِ مِنْ هَضْبِ قَرْدَدِ
بِأَنّ رَسُولَ اللّهِ فِينَا مُصَدّقٌ ... رَسُولٌ أَتَى مِنْ عِنْدِ ذِي الْعَرْشِ مُهْتَدِي
فَمَا حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ رَحْلِهَا ... أَشَدّ عَلَى أَعْدَائِهِ مِنْ مُحَمّدِ
وَأَعْطَى إذَا مَا طَالِبُ الْعُرْفِ جَاءَهُ ... وَأَفْضَى بِحَدّ الْمَشْرَفِيّ الْمُهَنّدِ
Sوَذَكَرَ وَفْدَ هَمْدَانَ ، وَمَالِكَ بْنَ نَمَطٍ الْهَمْدَانِيّ الّذِي يُقَالُ لَهُ ذُو الْمِشْعَارِ وَكُنْيَتُهُ أَبُو ثَوْرٍ وَقَعَ فِي النّسْخَةِ وَفِي أَكْثَرِ النّسَخِ وَأَبُو ثَوْرٍ بِالْوَاوِ كَأَنّهُ غَيْرُهُ وَالصّوَابُ سُقُوطُ الْوَاوِ لِأَنّهُ هُوَ هُوَ وَقَدْ يُخَرّجُ إثْبَاتُ الْوَاوِ عَلَى إضْمَارِ هُوَ كَأَنّهُ قَالَ وَهُوَ أَبُو ثَوْرٍ ذُو الْمِشْعَارِ ، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ ، فَقَالَ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ مَالِكٌ ذُو الْمِشْعَارِ وَذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ فَقَالَ هُوَ [ ص 376 ] الْمِشْعَارِ يُكَنّى : أَبَا ثَوْرٍ وَفِي الْكِتَابِ الّذِي كَتَبَهُ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ إلَى مِخْلَافِ خَارِفٍ وَيَامٍ وَأَهْلِ جَنَابِ الْهَضْبِ وَحِقَافِ الرّمْلِ مَعَ وَافِدِهَا ذِي الْمِشْعَارِ مَالِكِ بْنِ نَمَطٍ فَهَذَا كُلّهُ يَدُلّ عَلَى أَنّ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ وَأَبُو ثَوْرٍ ذُو الْمِشْعَارِ لَا مَعْنَى لَهُ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِمْ مُقَطّعَاتُ الْحِبَرَاتِ الْمُقَطّعَاتُ مِنْ الثّيَابِ فِي تَفْسِيرِ أَبِي عُبَيْدٍ ، هِيَ الْقِصَارُ وَاحْتَجّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ فِي صَلَاةِ الضّحَى إذَا انْقَطَعَتْ الظّلَالُ أَيْ قَصُرَتْ وَبِقَوْلِهِمْ فِي الْأَرَاجِيزِ مُقَطّعَاتٍ وَخَطّأَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي هَذَا التّأْوِيلِ وَقَالَ إنّمَا الْمُقَطّعَاتُ الثّيَابُ الْمَخِيطَةُ كَالْقُمُصِ وَنَحْوِهَا ، سُمّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنّهَا تُقَطّعُ وَتُفَصّلُ ثُمّ تُخَاطُ وَاحْتَجّ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ عَنْ بَعْضِ وَلَدِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ ، وَفِيهِ أَنّهُ خَرَجَ وَعَلَيْهِ مُقَطّعَاتٌ يَجُرّهَا ، فَقَالَ لَهُ شَيْخٌ مِنْ بَنِي أُمَيّةَ لَقَدْ رَأَيْت أَبَاك ، وَكَانَ مُشَمّرًا غَيْرَ جَرّارٍ لِثِيَابِهِ فَقَالَ لَهُ الْفَتَى : لَقَدْ هَمَمْت بِتَقْصِيرِهَا ، فَمَنَعَنِي قَوْلُ الشّاعِرِ فِي أَبِيك : قَصِيرُ الثّيَابِ فَاحِشٌ عِنْدَ ضَيْفِهِ لِشَرّ قُرَيْشٍ فِي قُرَيْشٍ مُرَكّبَا [ ص 377 ] قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ ، وَلَا مَعْنَى لِوَصْفِهَا بِالْقِصَرِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ . وَالْمَهْرِيّةُ مَنْسُوبَةٌ إلَى مَهْرَةَ بْنِ حَيْدَانَ بْنِ الْحَافّ بْنِ قُضَاعَةَ . وَالْأَرْحَبِيّةُ [ ص 378 ] أَرْحَبَ بَطْنٍ مِنْ هَمْدَانَ . وَيَامٌ هُوَ يَامُ بْنُ أُصْبَى ، وَخَارِفُ بْنُ الْحَارِثِ بَطْنَانِ مِنْ هَمْدَانَ يُنْسَبُ إلَى يَامٍ زُبَيْدُ [ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْكَرِيمِ ] الْيَامِيّ الْمُحَدّثُ ، وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يَقُولُونَ فِيهِ الْأَيَامِيّ : وَالْفِرَاعُ مَا عَلَا مِنْ الْأَرْضِ . وَالْوِهَاطُ مَا انْخَفَضَ مِنْهَا ، وَاحِدُهَا : وَهْطٌ وَلَعْلَعٌ : اسْمُ جَبَلٍ . وَالصّلّعُ الْأَرْضُ الْمَلْسَاءُ . وَالْخَفَيْدَدُ وَلَدُ النّعَامَةِ . وَالْهِجَفّ : الضّخْمُ . وَذَكَرَ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ ، وَقَيْسُ بْنُ مَكْشُوحٍ . وَذَكَرَ فِي الشّعْرِ
تُلَاقِ شَنْبَثًا شَثْنَ الْ ... بَرَاثِنِ نَاشِزًا قَتَدَهْ
[ ص 379 ] أَلْفَيْت بِخَطّ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ قَالَ قَالَ الْقَاضِي : لَا أَعْرِفُ شَنْبَثًا الْآنَ وَلَعَلّهُ تُلَاقِ شَرْ نَبَثًا ، وَجَزَمَ تُلَاقِ لِمَا فِي قَوْلِهِ فَلَوْ لَاقَيْتنِي مِنْ قُوّةِ الشّرْطِ فَكَأَنّهُ أَرَادَ إنْ لَاقَيْتنِي تُلَاقِ .

ذِكْرُ الْكَذّابَيْنِ مُسَيْلِمَةَ الْحَنَفِيّ وَالْأَسْوَدِ الْعَنْسِيّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَ تَكَلّمَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْكَذّابَانِ مُسَيْلِمَةُ بْنُ حَبِيبٍ بِالْيَمَامَةِ فِي حَنِيفَةَ وَالْأَسْوَدُ بْنُ كَعْبٍ الْعَنْسِيّ بِصَنْعَاءَ .
رُؤْيَا الرّسُولِ فِيهِمَا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ قُسَيْطٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَوْ أَخِيهِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ يَخْطُبُ النّاسَ عَلَى مِنْبَرِهِ وَهُوَ يَقُولُ أَيّهَا النّاسُ إنّي قَدْ رَأَيْت لَيْلَةَ الْقَدْرِ ثُمّ أُنْسِيتهَا ، وَرَأَيْت فِي ذِرَاعَيّ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ فَكَرِهْتهمَا ، فَنَفَخْتهمَا فَطَارَا ، فَأَوّلْتهمَا هَذَيْنِ الْكَذّابَيْنِ صَاحِبَ الْيَمَنِ ، وَصَاحِبَ الْيَمَامَةِ
حَدِيثُ الرّسُولِ عَنْ الدّجّالِينَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّهُ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ لَا تَقُومُ السّاعَةُ حَتّى يَخْرُجَ ثَلَاثُونَ دَجّالًا كُلّهُمْ يَدّعِي النّبُوّةَ

خُرُوجُ الْأُمَرَاءِ وَالْعُمّالِ عَلَى الصّدَقَاتِ
الْأُمَرَاءُ وَأَسْمَاءُ الْعُمّالِ وَمَا تَوَلّوْهُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ بَعَثَ أُمَرَاءَهُ وَعُمّالَهُ عَلَى الصّدَقَاتِ إلَى كُلّ مَا أَوْطَأَ الْإِسْلَامُ مِنْ الْبُلْدَانِ فَبَعَثَ الْمُهَاجِرَ بْنَ أَبِي أُمَيّة بْنِ الْمُغِيرَةِ إلَى صَنْعَاءَ ، [ ص 378 ] فَخَرَجَ عَلَيْهِ الْعَنْسِيّ وَهُوَ بِهَا ، وَبَعَثَ زِيَادَةَ بْنَ لَبِيدٍ أَخَا بَنِي بَيَاضَةَ الْأَنْصَارِيّ إلَى حَضْرَمَوْتَ وَعَلَى صَدَقَاتِهَا ؛ وَبَعَثَ عَدِيّ بْنَ حَاتِمٍ عَلَى طَيّئٍ وَصَدَقَاتِهَا ، وَعَلَى بَنِي أَسَدٍ ، وَبَعَثَ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْيَرْبُوعِيّ - عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي حَنْظَلَةَ وَفَرّقَ صَدَقَةَ بَنِي سَعْدٍ عَلَى رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ فَبَعَثَ الزّبْرِقَانَ بْنَ بَدْرٍ عَلَى نَاحِيَةٍ مِنْهَا ، وَقَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ عَلَى نَاحِيَةٍ وَكَانَ قَدْ بَعَثَ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيّ عَلَى الْبَحْرَيْنِ ، وَبَعَثَ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ إلَى أَهْلِ نَجْرَانَ ، لِيَجْمَعَ صَدَقَتَهُمْ وَيَقْدَمَ عَلَيْهِ بِجِزْيَتِهِمْ .

كِتَابُ مُسَيْلِمَةَ إلَى رَسُولِ اللّهِ وَالْجَوَابُ عَنْهُ
وَقَدْ كَانَ مُسَيْلِمَةُ بْنُ حَبِيبٍ قَدْ كَتَبَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " مِنْ مُسَيْلِمَةَ رَسُولِ اللّهِ إلَى مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ : سَلَامٌ عَلَيْك ، أَمّا بَعْدُ فَإِنّي قَدْ أُشْرِكْت فِي الْأَمْرِ مَعَك ، وَإِنّ لَنَا نِصْفَ الْأَرْضِ وَلِقُرَيْشٍ نِصْفَ الْأَرْضِ وَلَكِنّ قُرَيْشًا قَوْمٌ يَعْتَدُونَ " . فَقَدِمَ عَلَيْهِ رَسُولَانِ لَهُ بِهَذَا الْكِتَابِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي شَيْخٌ مِنْ أَشْجَعَ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيّ عَنْ أَبِيهِ نُعَيْمٍ قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ لَهُمَا حِينَ قَرَأَ كِتَابَهُ فَمَا تَقُولَانِ أَنْتُمَا ؟ " قَالَا : نَقُولُ كَمَا قَالَ فَقَالَ " أَمَا وَاَللّهِ لَوْلَا أَنّ الرّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَرَبْت أَعْنَاقَكُمَا " . ثُمّ كَتَبَ إلَى مُسَيْلِمَةَ " بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ ، إلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذّابِ : السّلَامُ عَلَى مَنْ اتّبَعَ الْهُدَى . أَمّا بَعْدُ الْأَرْضُ لِلّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ [ ص 379 ]

حَجّةُ الْوَدَاعِ
تَجَهّزُ الرّسُولِ وَاسْتِعْمَالُهُ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا دُجَانَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذُو الْقَعْدَةِ تَجَهّزَ لِلْحَجّ وَأَمَرَ النّاسَ بِالْجَهَازِ لَهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ ، عَنْ أَبِيهِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمّدٍ ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَتْ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْحَجّ لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا دُجَانَةَ السّاعِدِيّ وَيُقَالُ سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ الْغِفَارِيّ .
مَا أَمَرَ بِهِ الرّسُولُ عَائِشَةَ فِي حَيْضِهَا
[ ص 381 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ ، عَنْ أَبِيهِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمّدٍ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَا يَذْكُرُ وَلَا يَذْكُرُ النّاسُ إلّا الْحَجّ حَتّى إذَا كَانَ بِسَرِفَ وَقَدْ سَاقَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَهُ الْهَدْيَ وَأَشْرَافٌ مِنْ أَشْرَافِ النّاسِ أَمَرَ النّاسَ أَنْ يُحِلّوا بِعُمْرَةٍ إلّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ قَالَتْ وَحِضْت ذَلِكَ الْيَوْمَ فَدَخَلَ عَلَيّ وَأَنَا أَبْكِي ، فَقَالَ مَا لَك يَا عَائِشَةُ ؟ لَعَلّك نُفِسْت ؟ قَالَتْ قُلْت : نَعَمْ وَاَللّهِ لَوَدِدْت أَنّي لَمْ أَخْرُجْ مَعَكُمْ عَامِي فِي هَذَا السّفَرِ فَقَالَ " لَا تَقُولِنّ ذَاكَ فَإِنّك تَقْضِينَ كُلّ مَا يَقْضِي الْحَاجّ إلّا أَنّك لَا تَطُوفِينَ بِالْبَيْتِ . قَالَتْ وَدَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ ، فَحَلّ كُلّ مَنْ كَانَ لَا هَدْيَ مَعَهُ وَحَلّ نِسَاؤُهُ بِعُمْرَةٍ فَلَمّا كَانَ يَوْمُ النّحْرِ أُتِيت بِلَحْمِ بَقَرٍ كَثِيرٍ فَطُرِحَ فِي بَيْتِي ، فَقُلْت : مَا هَذَا ؟ قَالُوا : ذَبَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ نِسَائِهِ الْبَقَرَ حَتّى إذَا كَانَتْ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ بَعَثَ بِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَ أَخِي عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ فَأَعْمَرَنِي مِنْ التّنْعِيمِ ، مَكَانَ عُمْرَتِي الّتِي فَاتَتْنِي . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ قَالَتْ لَمّا أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نِسَاءَهُ أَنْ يَحْلُلْنَ بِعُمْرَةٍ قُلْنَ فَمَا يَمْنَعُك يَا رَسُولَ اللّهِ أَنْ تَحِلّ مَعَنَا ؟ فَقَالَ " إنّي أَهْدَيْت وَلَبّدْت ، فَلَا أَحِلّ حَتّى أَنْحَرَ هَدْيِي .
Sحَجّةُ الْوَدَاعِ
[ ص 380 ] ذَكَرَ فِيهَا حَدِيثَ عَائِشَةَ وَقَوْلَهَا : فَأَهْلَلْنَا بِالْحَجّ وَمَا نَذْكُرُ إلّا أَمْرَ الْحَجّ وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّهُمْ أَفْرَدُوا ، وَقَدْ بَيّنَ ذَلِكَ جَابِرٌ فِي حَدِيثِهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَفْرَدَ الْحَجّ وَهَذَا هُوَ الصّحِيحُ فِي حَدِيثِ جَابِرٍ وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ فِيهَا لِينٌ عَنْ جَابِرٍ أَنّهُ قَالَ قَرَنَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَ الْحَجّ وَالْعُمْرَةِ وَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا ، وَسَعَى لَهُمَا سَعْيًا وَاحِدًا رَوَاهُ الدّارَقُطْنِيّ ، وَرُوِيَ أَيْضًا أَنّ جَابِرًا قَالَ حَجّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثَلَاثَ حَجّاتٍ حَجّتَيْنِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَحَجّتَهُ الّتِي قَرَنَهَا بِعُمْرَتِهِ وَأَمّا حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ فَصَحِيحٌ وَقَالَ فِيهِ طَافَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ حَجّتِهِ وَعُمْرَتِهِ طَوَافًا وَاحِدًا [ ص 381 ] عَلِيّ فَرُوِيَ عَنْهُ أَنّهُ طَافَ عَنْهُمَا طَوَافَيْنِ وَلَمْ يُخْتَلَفْ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ قَارِنًا ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ كَانَ قَارِنًا ، وَأَمّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَصَرّحَ فِيهِ بِأَنّهُ كَانَ قَارِنًا ، وَقَالَ مَا تَعُدّونَا إلّا صِبْيَانًا سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَصْرُخُ بِهِمَا جَمِيعًا يَعْنِي الْحَجّ وَالْعُمْرَةَ فَاخْتَلَفَتْ الرّوَايَاتُ فِي إحْرَامِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَمَا تَرَى : هَلْ كَانَ مُفْرِدًا أَوْ قَارِنًا ، أَوْ مُتَمَتّعًا ، وَكُلّهَا صِحَاحٌ إلّا مَنْ قَالَ كَانَ مُتَمَتّعًا ، وَأَرَادَ بِهِ أَنّهُ أَهَلّ بِعُمْرَةٍ وَأَمّا مَنْ قَالَ تَمَتّعَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَيْ أَمَرَ بِالتّمَتّعِ وَفَسْخِ الْحَجّ بِالْعُمْرَةِ فَقَدْ يَصِحّ هَذَا التّأْوِيلُ وَيَصِحّ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ تَمَتّعَ إذَا قَرَنَ ، لِأَنّ الْقِرَانَ ضَرْبٌ مِنْ الْمُتْعَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ إسْقَاطِ أَحَدِ السّفَرَيْنِ . وَاَلّذِي يَرْفَعُ الْإِشْكَالَ حَدِيثُ الْبُخَارِيّ [ ص 382 ] أَهَلّ بِالْحَجّ ، فَلَمّا كَانَ بِالْعَقِيقِ أَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ إنّك بِهَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ فَقُلْ لَبّيْكَ بِحَجّ وَعُمْرَةٍ مَعًا فَقَدْ صَارَ قَارِنًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مُفْرِدًا ، وَصَحّ الْقَوْلَانِ جَمِيعًا ، وَأَمْرُهُ لِأَصْحَابِهِ أَنْ يَفْسَخُوا الْحَجّ بِالْعُمْرَةِ خُصُوصٌ لَهُمْ وَلَيْسَ لِغَيْرِهِمْ أَنْ يَفْعَلَهُ وَإِنّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيُذْهِبَ مِنْ قُلُوبِهِمْ أَمْرَ الْجَاهِلِيّةِ فِي تَحْرِيمِهِمْ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجّ فَكَانُوا يَرَوْنَ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ وَيَقُولُونَ إذَا بَرَأَ الدّبَرُ ، وَعَفَا الْأَثَرُ وَانْسَلَخَ صَفَرُ حَلّتْ الْعُمْرَةُ لِمَنْ اعْتَمَرَ وَلَمْ يَفْسَخْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَجّهُ كَمَا فَعَلَ أَصْحَابُهُ لِأَنّهُ سَاقَ الْهَدْيَ وَقَلّدَهُ وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ { حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلّهُ } [ الْبَقَرَةَ 196 ] وَقَالَ حِينَ رَأَى أَصْحَابَهُ قَدْ شَقّ عَلَيْهِمْ خِلَافُهُ لَوْ اسْتَقْبَلْت مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْت لَجَعَلْتهَا عُمْرَةً وَلَمَا سُقْت الْهَدْي قَالَ شَيْخُنَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ إنّمَا نَدِمَ عَلَى تَرْكِ مَا هُوَ أَسْهَلُ وَأَرْفَقُ لَا عَلَى تَرْكِ مَا هُوَ أَفْضَلُ وَأَوْفَقُ وَذَلِكَ لِمَا رَأَى مِنْ كَرَاهَةِ أَصْحَابِهِ لِمُخَالَفَتِهِ وَلَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ مِنْ أَصْحَابِهِ إلّا طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ ، فَلَمْ يَحِلّ حَتّى نَحَرَ وَعَلِيّ أَيْضًا أَتَى مِنْ الْيَمَنِ وَسَاقَ الْهَدْيَ فَلَمْ يَحِلّ إلّا بِإِحْلَالِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .

مُوَافَاةُ عَلِيّ فِي قُفُولِهِ مِنْ الْيَمَنِ رَسُولَ اللّهِ فِي الْحَجّ
بِهِ مَا أَمَرَ الرّسُولُ عَلِيّا مِنْ أُمُورِ الْحَجّ
[ ص 382 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ بَعَثَ عَلِيّا رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ إلَى نَجْرَانَ ، فَلَقِيَهُ بِمَكّةَ وَقَدْ أَحْرَمَ فَدَخَلَ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا ، فَوَجَدَهَا قَدْ حَلّتْ وَتَهَيّأَتْ فَقَالَ مَا لَك يَا بِنْتَ رَسُولِ اللّهِ ؟ قَالَتْ أَمَرَنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ نَحِلّ بِعُمْرَةٍ فَحَلَلْنَا . ثُمّ أَتَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا فَرَغَ مِنْ الْخَبَرِ عَنْ سَفَرِهِ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ انْطَلِقْ فَطُفْ بِالْبَيْتِ ، وَحِلّ كَمَا حَلّ أَصْحَابُك . قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي أَهْلَلْتُ كَمَا أَهْلَلْتَ فَقَالَ ارْجِعْ فَاحْلِلْ كَمَا حَلّ أَصْحَابُك ؛ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي قُلْت حِينَ أَحْرَمْت : اللّهُمّ إنّي أُهِلّ بِمَا أَهَلّ بِهِ نَبِيّك وَعَبْدُك وَرَسُولُك مُحَمّدٌ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ " فَهَلْ مَعَك مِنْ هَدْيٍ ؟ " قَالَ لَا . فَأَشْرَكَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي هَدْيِهِ وَثَبَتَ عَلَى إحْرَامِهِ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى فَرَغَا مِنْ الْحَجّ وَنَحَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْهَدْيَ عَنْهُمَا
شَكَا عَلِيّا جُنْدُهُ إلَى الرّسُولِ لِانْتِزَاعِهِ عَنْهُمْ حُلَلًا مِنْ بَزّ الْيَمَنِ
[ ص 383 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ يَزِيدَ بْنِ رُكَانَةَ قَالَ لَمّا أَقْبَلَ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مِنْ الْيَمَنِ لِيَلْقَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَكّةَ تَعَجّلَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاسْتَخْلَفَ عَلَى جُنْدِهِ الّذِينَ مَعَهُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ فَعَمَدَ ذَلِكَ الرّجُلُ فَكَسَا كُلّ رَجُلٍ مِنْ الْقَوْمِ حُلّةً مِنْ الْبَزّ الّذِي كَانَ مَعَ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ . فَلَمّا دَنَا جَيْشُهُ خَرَجَ لِيَلْقَاهُمْ فَإِذَا عَلَيْهِمْ الْحُلَلُ قَالَ وَيْلَك مَا هَذَا ؟ قَالَ كَسَوْت الْقَوْمَ لِيَتَجَمّلُوا بِهِ إذَا قَدِمُوا فِي النّاسِ قَالَ وَيْلَك انْزِعْ قَبْلَ أَنْ تَنْتَهِيَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ فَانْتَزَعَ الْحُلَلَ مِنْ النّاسِ فَرَدّهَا فِي الْبَزّ قَالَ وَأَظْهَرَ الْجَيْشُ شَكْوَاهُ لِمَا صَنَعَ بِهِمْ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ مَعْمَرِ بْنِ حَزْمٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ عَنْ عَمّتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ كَعْبٍ وَكَانَتْ عِنْدَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ اشْتَكَى النّاسُ عَلِيّا رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِينَا خَطِيبًا ، فَسَمِعْته يَقُولُ أَيّهَا النّاسُ لَا تَشْكُوا عَلِيّا ، فَوَاَللّهِ إنّهُ لَأَخْشَنُ فِي ذَاتِ اللّهِ أَوْ فِي سَبِيلِ اللّهِ مِنْ أَنْ يُشْكَى

خُطْبَةُ الرّسُولِ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ مَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى حَجّهِ فَأَرَى النّاسَ مَنَاسِكَهُمْ وَأَعْلَمَهُمْ سُنَنَ حَجّهِمْ وَخَطَبَ النّاسَ خُطْبَتَهُ الّتِي بَيّنَ فِيهَا مَا بَيّنَ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمّ قَالَ [ ص 384 ] أَيّهَا النّاسُ اسْمَعُوا قَوْلِي ، فَإِنّي لَا أَدْرِي لَعَلّي لَا أَلْقَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا بِهَذَا الْمَوْقِفِ أَبَدًا ، أَيّهَا النّاسُ إنّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ إلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبّكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا ، وَكَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذَا ، وَإِنّكُمْ سَتَلْقَوْنَ رَبّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ وَقَدْ بَلّغْت ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلْيُؤَدّهَا إلَى مَنْ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا ، وَإِنّ كُلّ رِبًا مَوْضُوعٌ وَلَكِنْ لَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ . قَضَى اللّهُ أَنّهُ لَا رِبَا ، وَإِنّ رِبَا عَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ مَوْضُوعٌ كُلّهُ وَأَنّ كُلّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيّةِ مَوْضُوعٌ وَإِنّ أَوّلَ دِمَائِكُمْ أَضَعُ دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَكَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي لَيْثٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ فَهُوَ أَوّلُ مَا أَبْدَأُ بِهِ مِنْ دِمَاءِ الْجَاهِلِيّةِ . أَمّا بَعْدُ أَيّهَا النّاسُ فَإِنّ الشّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ مِنْ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ هَذِهِ أَبَدًا ، وَلَكِنّهُ إنْ يُطَعْ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَقَدْ رَضِيَ بِهِ بِمَا تُحَقّرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ فَاحْذَرُوهُ عَلَى دِينِكُمْ أَيّهَا النّاسُ إنّ النّسِيءَ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا ، يُحِلّونَهُ عَامًا وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا ، لِيُوَاطِئُوا عِدّةَ مَا حَرّمَ اللّهُ فَيُحِلّوا مَا حَرّمَ اللّهُ وَيُحَرّمُوا مَا أَحَلّ اللّهُ . إنّ الزّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَإِنّ عِدّةَ الشّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا ، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثَلَاثَةٌ مُتَوَالِيَةٌ وَرَجَبُ مُضَرَ ، الّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ . أَمّا بَعْدُ أَيّهَا النّاس ، فَإِنّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقّا ، وَلَهُنّ عَلَيْكُمْ حَقّا ، لَكُمْ عَلَيْهِنّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ وَعَلَيْهِنّ أَنْ لَا يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيّنَةٍ فَإِنْ فَعَلْنَ فَإِنّ اللّهَ قَدْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تَهْجُرُوهُنّ فِي الْمَضَاجِعِ وَتَضْرِبُوهُنّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرّحٍ فَإِنْ انْتَهَيْنَ فَلَهُنّ رِزْقُهُنّ وَكُسْوَتُهُنّ بِالْمَعْرُوفِ وَاسْتَوْصُوا بِالنّسَاءِ خَيْرًا ، فَإِنّهُنّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ لَا يَمْلِكْنَ لِأَنْفُسِهِنّ شَيْئًا ، وَإِنّكُمْ إنّمَا أَخَذْتُمُوهُنّ بِأَمَانَةِ اللّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنّ بِكَلِمَاتِ اللّهِ فَاعْقِلُوا أَيّهَا النّاسُ قَوْلِي ، فَإِنّي قَدْ بَلّغْت ، وَقَدْ تَرَكْت فِيكُمْ مَا إنْ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ فَلَنْ تَضِلّوا أَبَدًا ، أَمْرًا بَيّنًا ، كِتَابَ اللّهِ وَسُنّةَ نَبِيّهِ . أَيّهَا النّاسُ اسْمَعُوا قَوْلِي وَاعْقِلُوهُ تَعَلّمُنّ أَنّ كُلّ مُسْلِمٍ أَخٌ لِلْمُسْلِمِ وَأَنّ الْمُسْلِمِينَ إخْوَةٌ فَلَا يَحِلّ لِامْرِئٍ مِنْ أَخِيهِ إلّا مَا أَعْطَاهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ فَلَا تَظْلِمُنّ أَنْفُسَكُمْ اللّهُمّ هَلْ بَلّغْت ؟ فَذُكِرَ لِي أَنّ النّاسَ قَالُوا : اللّهُمّ نَعَمْ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " اللّهُمّ ا شْهَدْ
اسْمُ الصّارِخِ بِكَلَامِ الرّسُولِ وَمَا كَانَ يُرَدّدُهُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ أَبِيهِ عَبّادٍ قَالَ كَانَ الرّجُلُ الّذِي يَصْرُخُ فِي النّاسِ بِقَوْلِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ بِعَرَفَةَ رَبِيعَةَ بْنَ أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ . قَالَ يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 385 ] قُلْ يَا أَيّهَا النّاسُ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ هَلّا تَدْرُونَ أَيّ شَهْرٍ هَذَا ؟ " فَيَقُولُ لَهُمْ فَيَقُولُونَ الشّهْرُ الْحَرَامُ فَيَقُولُ قُلْ لَهُمْ " إنّ اللّهَ قَدْ حَرّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ إلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبّكُمْ كَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذَا " ؛ ثُمّ يَقُولُ قُلْ " يَا أَيّهَا النّاسُ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ هَلْ تَدْرُونَ أَيّ بَلَدٍ هَذَا ؟ " قَالَ فَيَصْرُخُ بِهِ قَالَ فَيَقُولُونَ الْبَلَدُ الْحَرَامُ ، قَالَ فَيَقُولُ قُلْ لَهُمْ " إنّ اللّهَ قَدْ حَرّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ إلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبّكُمْ كَحُرْمَةِ بَلَدِكُمْ هَذَا " . قَالَ ثُمّ يَقُولُ قُلْ " يَا أَيّهَا النّاسُ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ هَلْ تَدْرُونَ أَيّ يَوْمٍ هَذَا ؟ قَالَ فَيَقُولُهُ لَهُمْ . فَيَقُولُونَ يَوْمُ الْحَجّ الْأَكْبَرِ قَالَ فَيَقُولُ قُلْ لَهُمْ إنّ اللّهَ قَدْ حَرّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ إلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبّكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا .
رِوَايَةُ ابْنِ خَارِجَةَ عَمّا سَمِعَهُ مِنْ الرّسُولِ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي لَيْثُ بْنُ أَبَى سُلَيْمٍ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ الْأَشْعَرِيّ عَنْ عَمْرِو بْنِ خَارِجَةَ قَالَ بَعَثَنِي عَتّابُ بْنُ أُسَيْدٍ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي حَاجَةٍ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ فَبَلَغْته ، ثُمّ وَقَفْت تَحْتَ نَاقَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِنّ لُغَامَهَا لَيَقَعُ عَلَى رَأْسِي ، فَسَمِعْته وَهُوَ يَقُولُ أَيّهَا النّاسُ إنّ اللّهَ قَدْ أَدّى إلَى كُلّ ذِي حَقّ حَقّهُ وَإِنّهُ لَا تَجُوزُ وَصِيّةٌ لِوَارِثٍ وَالْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ ، وَمَنْ ادّعَى إلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوْ تَوَلّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا
بَعْضُ تَعْلِيمِ الرّسُولِ فِي الْحَجّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَالَ هَذَا الْمَوْقِفُ لِلْجَبَلِ الّذِي هُوَ عَلَيْهِ وَكُلّ عَرَفَةَ مَوْقِفٌ وَقَالَ حِينَ وَقَفَ عَلَى قُزَحَ صَبِيحَةَ الْمُزْدَلِفَةِ : هَذَا الْمَوْقِفُ وَكُلّ الْمُزْدَلِفَةِ مَوْقِفٌ ثُمّ لَمّا نَحَرَ بِالْمَنْحَرِ بِمِنًى قَالَ هَذَا الْمَنْحَرُ وَكُلّ مِنًى مَنْحَرٌ فَقَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْحَجّ وَقَدْ أَرَاهُمْ مَنَاسِكَهُمْ وَأَعْلَمَهُمْ مَا فَرَضَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَجّهِمْ مِنْ الْمَوْقِفِ وَرَمْيِ الْجِمَارِ وَطَوَافٍ بِالْبَيْتِ وَمَا أُحِلّ لَهُمْ مِنْ حَجّهِمْ وَمَا حُرّمَ عَلَيْهِمْ فَكَانَتْ حَجّةَ الْبَلَاغِ وَحَجّةَ الْوَدَاعِ وَذَلِكَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَحُجّ بَعْدَهَا .
S[ ص 383 ] وَرَجَبُ مُضَرَ الّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ إنّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنّ رَبِيعَةَ كَانَتْ تُحْرِمُ فِي رَمَضَانَ وَتُسَمّيهِ رَجَبًا مِنْ رَجِبْت الرّجُلَ وَرَجّبْتُهُ إذَا عَظّمْته ، وَرَجَبْت النّخْلَةَ إذَا دَعّمْتهَا ، فَبَيّنَ عَلَيْهِ السّلَامُ أَنّهُ رَجَبُ مُضَرَ لَا رَجَبُ رَبِيعَةَ ، وَأَنّهُ [ ص 384 ] إنّ الزّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ وَتَقَدّمَ اسْمُ ابْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمُسْتَرْضَعِ فِي هُذَيْلٍ ، وَأَنّ اسْمَهُ آدَمُ وَقِيلَ تَمّامٌ وَكَانَ سَبَبَ قَتْلِهِ حَرْبٌ كَانَتْ بَيْنَ قَبَائِلِ هُذَيْلٍ تَقَاذَفُوا فِيهَا بِالْحِجَارَةِ فَأَصَابَ الطّفْلَ حَجَرٌ وَهُوَ يَحْبُو بَيْنَ الْبُيُوتِ كَذَلِكَ ذَكَرَ الزّبَيْرُ .

بَعْثُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ إلَى أَرْضِ فِلَسْطِينَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ قَفَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ بَقِيّةَ ذِي الْحِجّةِ وَالْمُحَرّمَ وَصَفَرَ وَضَرَبَ عَلَى النّاسِ بَعْثًا إلَى الشّامِ ، وَأَمّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ مَوْلَاهُ [ ص 386 ] وَأَمَرَهُ أَنْ يُوطِئَ الْخَيْلَ تُخُومَ الْبَلْقَاءِ وَالدّارُومِ مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ ، فَتَجَهّزَ النّاسُ وَأَوْعَبَ مَعَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ الْمُهَاجِرُونَ الْأَوّلُونَ .
Sبَعْثُ أُسَامَةَ
[ ص 385 ] وَأَمّرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أُسَامَةَ عَلَى جَيْشٍ كَثِيفٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يُغِيرَ عَلَى أُبْنَى صَبَاحًا ، وَأَنْ يُحَرّفَ . وَأُبْنَا ، هِيَ الْقَرْيَةُ الّتِي عِنْدَ مُؤْتَةَ حَيْثُ قُتِلَ أَبُوهُ زَيْدٌ وَلِذَلِكَ أَمّرَهُ عَلَى حَدَاثَةِ سِنّهِ [ ص 386 ] لِيُدْرِكَ ثَأْرَهُ وَطَعَنَ فِي إمَارَتِهِ أَهْلُ الرّيْبِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاَيْمُ اللّهِ إنّهُ لَخَلِيقٌ بِالْإِمَارَةِ وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ لَخَلِيقًا بِهَا وَإِنّمَا طَعَنُوا فِي إمْرَتِهِ لِأَنّهُ مَوْلًى مَعَ حَدَاثَةِ سِنّهِ لِأَنّهُ كَانَ إذْ ذَاكَ ابْنَ ثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً وَكَانَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَسْوَدَ الْجِلْدَةِ وَكَانَ أَبُوهُ أَبْيَضَ صَافِيَ الْبَيَاضِ ، نَزَعَ فِي اللّوْنِ إلَى أُمّهِ بَرَكَةَ وَهِيَ أُمّ أَيْمَنَ وَقَدْ تَقَدّمَ حَدِيثُهَا ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُحِبّهُ وَيَمْسَحُ خَشْمَهُ وَهُوَ صَغِيرٌ بِثَوْبِهِ وَعَثَرَ يَوْمًا فَأَصَابَهُ جُرْحٌ فِي رَأْسِهِ فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَمُصّ دَمَهُ وَيَمُجّهُ وَيَقُولُ لَوْ كَانَ أُسَامَةُ جَارِيَةً لَحَلّيْنَاهَا ، حَتّى يُرْغَبَ فِيهَا وَكَانَ يُسَمّى الْحِبّ مِنْ الْحُبّ .

إِرْسَالُ رَسُولِ اللّهِ إلَى الْمُلُوكِ
تَذْكِيرُ الرّسُولِ قَوْمَهُ بِمَا حَدَثَ لِلْحَوَارِيّينَ حِينَ اخْتَلَفُوا عَلَى عِيسَى
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعَثَ إلَى الْمُلُوكِ رُسُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ وَكَتَبَ مَعَهُمْ إلَيْهِمْ يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ . [ ص 387 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيّ قَالَ بَلَغَنِي أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَرَجَ عَلَى أَصْحَابِهِ ذَاتَ يَوْمٍ بَعْدَ عُمْرَتِهِ الّتِي صُدّ عَنْهَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ ، فَقَالَ أ َيّهَا النّاسُ إنّ اللّهَ قَدْ بَعَثَنِي رَحْمَةً وَكَافّةً فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيّ كَمَا اخْتَلَفَ الْحَوَارِيّونَ عَلَى عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ . فَقَالَ أَصْحَابُهُ وَكَيْف اخْتَلَفَ الْحَوَارِيّونَ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ دَعَاهُمْ إلَى الّذِي دَعَوْتُكُمْ إلَيْهِ فَأَمّا مَنْ بَعَثَهُ مَبْعَثًا قَرِيبًا فَرَضِيَ وَسَلّمَ وَأَمّا مَنْ بَعَثَهُ مَبْعَثًا بَعِيدًا فَكَرِهَ وَجْهَهُ وَتَثَاقَلَ فَشَكَا ذَلِكَ عِيسَى إلَى اللّهِ فَأَصْبَحَ الْمُتَثَاقِلُونَ وَكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَتَكَلّمُ بِلُغَةِ الْأُمّةِ الّتِي بُعِثَ إلَيْهَا
Sإرْسَالُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْمُلُوكِ
الْحَوَارِيّونَ
[ ص 388 ] ذَكَرَ فِيهِ إرْسَالَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ الْحَوَارِيّينَ وَأَصَحّ مَا قِيلَ فِي مَعْنَى الْحَوَارِيّينَ أَنّ [ ص 387 ] الصّافِي مِنْ كُلّ شَيْءٍ وَمِنْهُ الْحَوَارِيّ ، وَالْحُورُ وَقَوْلُ الْمُفَسّرِينَ هُوَ الْخُلْصَانُ كَلِمَةٌ فَصَيْحَةٌ أَنْشَدَ أَبُو حَنِيفَةَ
خَلِيلَيّ خُلْصَانَيّ لَمْ يَبْقَ حِسّهَا ... مِنْ الْقَلْبِ إلّا عُوّذًا سَبَبًا
لَهَا قَالَ وَالْعُوّذُ مَا لَمْ تُدْرِكْهُ الْمَاشِيَةُ لِارْتِفَاعِهِ أَوْ لِأَنّهُ بِأَهْدَافٍ فَكَأَنّهُ قَدْ عَاذَ مِنْهَا .
مَعْنَى الْمَسِيحِ وَنِهَايَتُهُ
وَأَصَحّ مَا قِيلَ فِي مَعْنَى الْمَسِيحِ عَلَى كَثْرَةِ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ أَنّهُ الصّدّيقُ بِلُغَتِهِمْ ثُمّ عَرّبَتْهُ الْعَرَبُ . وَكَانَ إرْسَالُ الْمَسِيحِ لِلْحَوَارِيّينَ بَعْدَ مَا رُفِعَ وَصُلِبَ الّذِي شُبّهَ بِهِ فَجَاءَتْ مَرْيَمُ الصّدّيقَةُ وَالْمَرْأَةُ الّتِي كَانَتْ مَجْنُونَةً فَأَبْرَأَهَا الْمَسِيحُ وَقَعَدَتَا عِنْدَ الْجِذْعِ تَبْكِيَانِ وَقَدْ أَصَابَ أُمّهُ مِنْ الْحُزْنِ عَلَيْهِ مَا لَا يَعْلَمُ عِلْمَهُ إلّا اللّهُ فَأُهْبِطَ إلَيْهِمَا ، وَقَالَ عَلَامَ تَبْكِيَانِ ؟ فَقَالَتَا : عَلَيْك ، فَقَالَ إنّي لَمْ أُقْتَلْ وَلَمْ أُصْلَبْ وَلَكِنّ اللّهَ رَفَعَنِي وَكَرّمَنِي ، وَشُبّهَ عَلَيْهِمْ فِي أَمْرِي ، أَبْلِغَا عَنّي الْحَوَارِيّينَ أَمْرِي ، أَنْ يَلْقَوْنِي فِي مَوْضِعِ كَذَا لَيْلًا ، فَجَاءَ الْحَوَارِيّونَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ فَإِذَا الْجَبَلُ قَدْ اشْتَعَلَ نُورًا لِنُزُولِهِ بِهِ ثُمّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَدْعُوا النّاسَ إلَى دِينِهِ وَعِبَادَةِ رَبّهِمْ فَوَجّهَهُمْ إلَى الْأُمَمِ الّتِي ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ وَغَيْرُهُ ثُمّ كُسِيَ كُسْوَةَ الْمَلَائِكَةِ فَعَرَجَ مَعَهُمْ فَصَارَ مَلَكِيّا إنْسِيّا سَمَائِيّا أَرْضِيّا . [ ص 388 ] وَذَكَرَ فِي الْأُمَمِ الْأُمّةَ الّذِينَ يَأْكُلُونَ النّاسَ وَهُمْ مِنْ الْأَسَاوِدَةِ فِيمَا ذَكَرَهُ الطّبَرِيّ . أُسْطُورَةُ زُرَيْبٍ وَذَكَرَ فِي الْحَوَارِيّينَ زُرَيْبَ بْنَ بَرْثُمْلِي وَهُوَ الّذِي عَاشَ إلَى زَمَنِ عُمَرَ وَسَمِعَ نَضْلَةَ بْنَ مُعَاوِيَةَ أَذَانَهُ فِي الْجَبَلِ فَكَلّمَهُ فَإِذَا رَجُلٌ عَظِيمُ الْخَلْقِ رَأْسُهُ كَدُورِ الرّحَى ، فَسَأَلَ نَضْلَةَ وَالْجَيْشَ الّذِينَ كَانُوا مَعَهُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالُوا : قُبِضَ وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ فَقَالُوا : قُبِضَ ثُمّ سَأَلَهُمْ عَنْ عُمَرَ فَقَالُوا : هُوَ حَيّ ، وَنَحْنُ جَيْشُهُ فَقَالَ لَهُمْ " أَقْرِئُوهُ مِنّي السّلَامَ ثُمّ أَمَرَهُمْ أَنْ يُبَلّغُوا عَنْهُ وَصَايَا كَثِيرَةً وَأَنْ يُحَذّرَ النّاسَ مِنْ خِصَالٍ إذَا ظَهَرَتْ فِي أُمّةِ مُحَمّدٍ فَقَدْ قَرُبَ الْأَمْرُ وَمِنْهَا لُبْسُ الْحَرِيرِ وَشُرْبُ الْخَمْرِ وَأَنْ يَكْتَفِيَ الرّجَالُ بِالرّجَالِ وَالنّسَاءُ بِالنّسَاءِ " . وَذَكَرَ فِيهَا أَيْضًا الْمَعَازِفَ وَالْقِيَانَ وَأَشْيَاءَ غَيْرَ هَذِهِ فَقَالُوا لَهُ مَنْ أَنْتَ يَرْحَمُك اللّهُ ؟ فَقَالَ زُرَيْبُ بْنُ بَرْثُمْلِي حَوَارِيّ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السّلَامُ دَعَوْت اللّهَ أَنْ يُحْيِيَنِي ، حَتّى أَرَى أُمّةَ مُحَمّدٍ أَوْ نَحْوَ هَذَا الْكَلَامِ وَقَدْ أَرَدْت الْخُلُوصَ إلَى أُمّةِ مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمْ أَسْتَطِعْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ الْكُفّارُ . وَذَكَرَ الدّارَقُطْنِيّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ طَرِيقِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ مَرْفُوعًا أَنّ عُمَرَ قَالَ لِنَضْلَةَ إنْ لَقِيته فَأَقْرِئْهُ مِنّي السّلَامَ فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ إنّ بِذَلِكَ الْجَبَلِ وَصِيّا مِنْ أَوْصِيَاءِ عِيسَى عَلَيْهِ السّلَامُ وَالْخَبَرُ بِهَذَا مَشْهُورٌ عَنْهُ " ، وَفِيهِ طُولٌ فَاخْتَصَرْنَاهُ وَيُقَالُ إنّهُ الْآنَ حَيّ . وَمَنْ قَالَ إنّ الْخَضِرَ وَإِلْيَاسَ قَدْ مَاتَا ، فَمِنْ أَصْلِهِ أَيْضًا أَنّ زُرَيْبًا قَدْ مَاتَ لِأَنّهُمْ يَحْتَجّونَ بِالْحَدِيثِ الصّحِيحِ إلَى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ لَا يَبْقَى عَلَى الْأَرْضِ مِمّنْ هُوَ عَلَيْهَا أَحَدٌ .

أَسْمَاءُ الرّسُلِ وَمَنْ أُرْسِلُوا إلَيْهِمْ
[ ص 389 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رُسُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ وَكَتَبَ مَعَهُمْ كُتُبًا إلَى الْمُلُوكِ يَدْعُوهُمْ فِيهَا إلَى الْإِسْلَامِ . فَبَعَثَ دِحْيَةَ بْنَ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيّ إلَى قَيْصَرَ مَلِكِ الرّومِ . وَبَعَثَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ حُذَافَةَ السّهْمِيّ إلَى كِسْرَى ، مَلِكِ فَارِسَ ، وَبَعَثَ عَمْرَو بْنَ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ إلَى النّجَاشِيّ ، مَلِكِ الْحَبَشَةِ
Sرَسُولُهُ إلَى النّجَاشِيّ وَقَيْصَرَ
[ ص 389 ] وَذَكَرَ إرْسَالَ عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ إلَى النّجَاشِيّ ، وَقَدْ قَدّمْنَا ذِكْرَ مَا قَالَ وَمَا قِيلَ لَهُ وَكَذَلِكَ ذَكَرْنَا خَبَرَ سَلِيطٍ مَعَ هَوْذَةَ وَمَا قَالَ لَهُ وَخَبَرَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ حُذَافَةَ مَعَ كِسْرَى ، وَكَلَامَهُ مَعَهُ وَنَذْكُرُ هُنَا بَقِيّةَ الْإِرْسَالِ وَكَلَامَهُمْ فَمِنْهُمْ دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيّ ، فَقَدِمَ دِحْيَةُ عَلَى قَيْصَرَ وَقَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَى هَذَا الِاسْمِ أَعْنِي اسْمَ دِحْيَةَ وَاسْمَ قَيْصَرَ فِيمَا مَضَى مِنْ الْكِتَابِ فَلَمّا قَدِمَ دِحْيَةُ عَلَى قَيْصَرَ قَالَ لَهُ " يَا قَيْصَرُ أَرْسَلَنِي إلَيْك مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْك ، وَاَلّذِي أَرْسَلَهُ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ وَمِنْك ، فَاسْمَعْ بِذُلّ ثُمّ أَجِبْ بِنُصْحٍ فَإِنّك إنْ لَمْ تَذْلِلْ لَمْ تَفْهَمْ وَإِنْ لَمْ تَنْصَحْ لَمْ تُنْصِفْ قَالَ هَاتِ قَالَ هَلْ تَعْلَمُ أَكَانَ الْمَسِيحُ يُصَلّي ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَإِنّي أَدْعُوك إلَى مَنْ كَانَ الْمَسِيحُ يُصَلّي لَهُ وَأَدْعُوك إلَى مَنْ دَبّرَ خَلْقَ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْمَسِيحُ فِي بَطْنِ أُمّهِ وَأَدْعُوك إلَى هَذَا النّبِيّ الْأُمّيّ الّذِي بَشّرَ بِهِ مُوسَى ، وَبَشّرَ بِهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ بَعْدَهُ وَعِنْدَك مِنْ ذَلِكَ أَثَارَةٌ مِنْ عِلْمٍ تَكْفِي مِنْ الْعِيَانِ وَتَشْفِي مِنْ الْخَبَرِ ، فَإِنْ أَجَبْت [ ص 390 ] كَانَتْ لَك الدّنْيَا وَالْآخِرَةُ وَإِلّا ذَهَبَتْ عَنْك الْآخِرَةُ وَشُورِكْت فِي الدّنْيَا ، وَاعْلَمْ أَنّ لَك رَبّا يَقْصِمُ الْجَبَابِرَةَ وَيُغَيّرُ النّعَمَ " ، فَأَخَذَ قَيْصَرُ الْكِتَابَ فَوَضَعَهُ عَلَى عَيْنَيْهِ وَرَأْسِهِ وَقَبّلَهُ ثُمّ قَالَ أَمَا وَاَللّهِ مَا تَرَكْت كِتَابًا إلّا وَقَرَأْته ، وَلَا عَالِمًا إلّا سَأَلْته ، فَمَا رَأَيْت إلّا خَيْرًا ، فَأَمْهِلْنِي حَتّى أَنْظُرَ مَنْ كَانَ الْمَسِيحُ يُصَلّي لَهُ فَإِنّي أَكْرَهُ أَنْ أُجِيبَك الْيَوْمَ بِأَمْرٍ أَرَى غَدًا مَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْهُ فَأَرْجِعَ عَنْهُ فَيَضُرّنِي ذَلِكَ وَلَا يَنْفَعَنِي ، أَقِمْ حَتّى أَنْظُرَ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ أَتَاهُ وَفَاةُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَفِي غَزْوَةِ تَبُوكَ بَقِيّةُ حَدِيثِ قَيْصَرَ فَانْظُرْهُ هُنَالِكَ .

=========

البرص و العميان-أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ

البرص و العميان-أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ  المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله عليه محمد وسلم وهب الله لك حسن الاستماع وأشعر ...