Translate

الجمعة، 11 فبراير 2022

تفسير ابن كثير من 1--11 ومن 12-22.و من الآيات: 23 ــ 30.. والآيات: 31 ــ 37 -و الآيات: 38 ــ 43 .

 

1. سورة الأعراف - الآيات: 1 ــ 11

المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)

الأعراف - تفسير ابن كثير


المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)
تفسير سورة الأعراف

بسم الله الرحمن الرحيم
{ المص (1) كِتَابٌ أُنزلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ (3) }
قد تقدم الكلام في أول "سورة البقرة" على ما يتعلق بالحروف وبسطه، واختلاف الناس فيه.
وقال ابن جرير: حدثنا سفيان بن وَكِيع، حدثنا أبي، عن شَرِيك، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضُّحَى، عن ابن عباس: { المص } أنا الله أفصل وكذا قال سعيد بن جُبَير.
[قوله] (1) { كِتَابٌ أُنزلَ إِلَيْكَ } أي: هذا كتاب أنزل إليك، أي: من ربك، { فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ } قال مجاهد، [وعطاء] (2) وقتادة والسُّدِّي: شَكٌّ منه.


وقيل: لا تتحرج به في إبلاغه والإنذار به [واصبر] (3) كما صبر أولو العزم من الرسل؛ ولهذا قال: { لِتُنْذِرَ بِهِ } أي: أنزل إليك لتنذر به الكافرين، { وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } .
ثم قال تعالى مخاطبًا للعالم: { اتَّبِعُوا مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } أي: اقتفوا آثار النبي الأمي الذي جاءكم بكتاب أنزل إليكم من رب كلّ شيء ومليكه، { وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } أي: لا تخرجوا عما جاءكم به الرسول إلى غيره، فتكونوا قد عدلتم عن حكم الله إلى حكم غيره.
{ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ } كقوله: { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] . وقوله: { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } [ الأنعام : 116 ] وقوله: { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [ يوسف : 106 ] .


{ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) }
يقول تعالى: { وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } أي: بمخالفة رسلنا وتكذيبهم، فأعقبهم ذلك خِزْيُ الدنيا موصولا بذُلِّ الآخرة، كما قال تعالى: { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ الأنعام : 10 ] . وقال تعالى: { فَكَأَيِّنْ (4) مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ
} [ الحج: 45 ] .
__________
(1) زيادة من د.
(2) زيادة من م.
(3) زيادة من ك، م، أ.
(4) في أ: "وكأين".
(3/387)
وقال تعالى: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ } [ القصص : 58 ].


وقوله: { فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } أي: فكان منهم من جاءه أمر الله وبأسه ونقمته { بَيَاتًا } أي: ليلا { أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } من القيلولة، وهي: الاستراحة وسط النهار. وكلا الوقتين وقت غَفْلة ولَهْو (1) كما قال [تعالى] (2) { أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُون * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ } [ الأعراف : 97، 98 ]. وقال: { أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِين * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ النحل : 45-47 ] .


وقوله: { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } أي: فما كان قولهم عند مجيء العذاب إلا أن اعترفوا بذنوبهم، وأنهم حقيقون بهذا. كما قال تعالى: { وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً [ وَأَنْشَأَْ بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ. قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا- خَامِدِين } (3) [ الأنبياء : 11-15 ] .


وقال ابن جرير: في هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: "ما هلك قوم حتى يُعْذِروا من أنفسهم"، حدثنا بذلك ابن حُمَيْد، حدثنا جرير، عن أبي سِنان، عن عبد الملك بن مَيْسَرة الزرّاد قال: قال عبد الله بن مسعود [رضي الله عنه] (4) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما هلك قوم حتى يُعْذِروا من أنفسهم". قال: قلت لعبد الملك: كيف يكون ذاك؟ قال: فقرأ هذه الآية: { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } (5) .


وقوله: { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ } الآية، كقوله [تعالى] (6) { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } [ القصص: 65 ]

 

= وقوله: { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ } [ المائدة : 109 ]

 

 

= فالرَّبُّ تبارك وتعالى يوم القيامة يسأل الأمم عما أجابوا رسله فيما أرسلهم به، ويسأل الرسل أيضا عن إبلاغ (7) رسالاته؛ ولهذا قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، في تفسير هذه الآية: { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } قال: يسأل الله الناس عما أجابوا المرسلين، ويسأل المرسلين عما بلغوا.


وقال ابن مَرْدُويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن، حدثنا أبو سعيد الكنْدي، حدثنا المحاربي، عن لَيْث، عن نافع، عن ابن عمر [رضي الله عنهما] (8) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلكم رَاعٍ وكلكم مسئول عن رَعِيَّتِهِ، فالإمام يُسْأل عن الرجل (9)
__________
(1) في ك: "لهو وغفلة".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من ك، د، أ، وفي هـ "إلى قوله".
(4) زيادة من أ.
(5) تفسير الطبري (12/304).
(6) زيادة من ك، م، أ.
(7) في ك، م: "بلاغ".
(8) زيادة من أ.
(9) في ك: "عن رعيته".  (3/388)
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)


والرجل يسأل عن أهله (1) والمرأة تسأل عن بيت زوجها، والعبد يسأل عن مال سيده". قال الليث: وحدثني ابن طاوس، مثله، ثم قرأ: { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } (2) .


وهذا الحديث مُخَرَّجٌ في الصحيحين بدون هذه الزيادة (3)  وقال ابن عباس: { فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ } يوضع الكتاب يوم القيامة، فيتكلم بما كانوا يعملون، { وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ }

 

-- يعني: أنه تعالى يخبر عباده يوم القيامة بما قالوا وبما عملوا، من قليل وكثير، وجليل وحَقِير؛ لأنه تعالى شهيد على كل شيء، لا يغيب عنه شيء، ولا يغفل عن شيء، بل هو العالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، { وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ الأنعام: 59 ] .


{ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9) }


يقول [تبارك و] (4) تعالى: { وَالْوَزْن } أي: للأعمال (5) يوم القيامة { الْحَق } أي: لا يظلم تعالى أحدا،

 

= كما قال تعالى: { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } [ الأنبياء: 47 ] وقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } [ النساء : 40 ]

 

= وقال تعالى: { فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ } [ القارعة : 6-11 ]

 

=وقال تعالى: { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } [ المؤمنون : 101 -103 ] .


فصل:
والذي يوضع في الميزان يوم القيامة (6) قيل: الأعمال وإن كانت أعراضًا، إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساما.


قال البغوي: يروى هذا عن ابن عباس (7) كما جاء في الصحيح من أن "البقرة" و "آل عمران" يأتيان (8) يوم القيامة كأنهما غمامتان -أو: غيَايَتان -أو فِرْقَان من طير صَوَافّ. من ذلك في الصحيح قصة القرآن وأنه يأتي صاحبه في صورة شاب شاحب اللَّون، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا القرآن الذي
__________
(1) في أ: "أهل بيته".
(2) وفي إسناده عبد الرحمن بن محمد المحاربي، قال ابن معين: يروى المناكير عن المجهولين، ولكن روي من وجه آخر عن نافع عن ابن عمر وفي الصحيحين.
(3) صحيح البخاري برقم (5188) وصحيح مسلم برقم (1829).
(4) زيادة من أ.
(5) في ك: "الأعمال".
(6) في ك: "يوم القيامة في الميزان".
(7) معالم التنزيل للبغوي (3/215).
(8) في أ: "تأتيان". ---(3/389)


وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)

 


أسهرت ليلك وأظمأت نهارك (1) وفي حديث البراء، في قصة سؤال القبر: "فيأتي المؤمن شابٌّ حسن اللون طيّب الريح، فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح" (2) وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق.


وقيل: يوزن كتاب الأعمال، كما جاء في حديث البطاقة، في الرجل الذي يؤتى به ويوضع له في كِفَّة تسعة وتسعون سجلا كل سِجِلّ مَدّ البصر، ثم يؤتى بتلك البطاقة فيها: "لا إله إلا الله" فيقول: يا رب، وما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول الله تعالى: إنك لا تُظلَم. فتوضع تلك البطاقة في كفة الميزان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فَطاشَت السجلات، وثَقُلَتِ البطاقة".



حديث البطاقة

https://thelowofalhak.blogspot.com/2018/06/557-5161.html

رواه الترمذي بنحو من هذا (3) وصححه.
وقيل: يوزن صاحب العمل، كما في الحديث: "يُؤتَى يوم القيامة بالرجل السَّمِين، فلا يَزِن عند الله جَنَاح بَعُوضَة" (4) ثم قرأ: { فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } [ الكهف : 105 ] .


وفي مناقب عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى عليه وسلم قال: "أتعجبون من دِقَّة ساقَيْهِ، فوالذي (5) نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من أُحُدٍ" (6)
وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار بأن يكون ذلك كله صحيحا، فتارة (7) توزن الأعمال، وتارة توزن محالها، وتارة يوزن فاعلها، والله أعلم.

 

قلت المدون هذه الاحتمالات في خواطرنا نحن لكن عند الله بموازين ثابتة لا تضطرب


{ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ (10) }
يقول تعالى ممتنا على عبيده (8) فيما مكن لهم من أنه جَعَل الأرض قرارًا، وجعل لها رواسي وأنهارًا، وجعل لهم فيها منازل وبيوتًا، وأباح منافعها، وسَخَّر لهم السحاب لإخراج أرزاقهم منها، وجعل لهم فيها معايش، أي: مكاسب وأسبابًا يتجرون فيها، ويتسببون أنواع الأسباب، وأكثرهم مع هذا قليل الشكر على ذلك، كما قال تعالى: { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [ إبراهيم : 34 ] .


وقد قرأ الجميع: { مَعَايِش } بلا همز، إلا عبد الرحمن بن هُرْمُز الأعرج فإنه همزها. والصواب الذي عليه الأكثرون بلا همز؛ لأن معايش جمع معيشة، من عاش يعيش عيشا، ومعيشة أصلها "مَعْيِشَة" فاستثقلت الكسرة على الياء، فنقلت إلى العين فصارت مَعِيشة، فلما جمعت رجعت الحركة إلى الياء لزوال الاستثقال، فقيل: معايش. ووزنه مفاعل؛ لأن الياء أصلية في الكلمة. بخلاف مدائن
__________
(1) ورواه أحمد في مسنده (5/348) وابن ماجه في السنن برقم (3781) من طريق بشير بن المهاجر، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه بريدة بن الحصيب، رضي الله عنه، مرفوعا
(2) رواه أحمد في مسنده (5/287).
(3) سنن الترمذي برقم (2639) ورواه ابن ماجة في السنن برقم (2639) والحاكم في المستدرك (1/529) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، وقال الحاكم: "صحيح الإسناد على شرطهما ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي،
(4) رواه البخاري في صحيحه برقم (4729) بنحوه من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(5) في د، م: "والذي".
(6) رواه أحمد في مسنده (1/420).
(7) في ك: "وتارة".
(8) في م: "عباده".  (3/390)


وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)


وصحائف وبصائر، جمع مدينة وصحيفة وبصيرة من: مدن وصحف وأبصر، فإن الياء فيها زائدة، ولهذا تجمع على فعائل، وتهمز لذلك، والله أعلم.


{ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) }
ينبه تعالى بني آدم في هذا المقام على شرف أبيهم آدم، ويبين لهم عداوة عدوهم إبليس، وما هو مُنْطَوٍ عليه من الحسد لهم ولأبيهم آدم، ليحذروه ولا يتبعوا طرائقه، فقال تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ [ فَسَجَدُوا ] } (1) وهذا كقوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ ] } (2) الآية [ الحجر : 28 -30 ] ، وذلك أنه تعالى لما خلق آدم، عليه السلام، بيده من طين لازب، وصوره بشرًا [سويا] (3) ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة بالسجود له تعظيما لشأن الرب تعالى وجلاله، فسمعوا كلهم وأطاعوا، إلا إبليس لم يكن من الساجدين. وقد تقدم الكلام على إبليس في أول تفسير "سورة البقرة".


وهذا الذي قررناه هو اختيار ابن جرير: أن المراد بذلك كله آدم، عليه السلام.


وقال سفيان الثوري، عن الأعمش، عن المِنْهَال بن عمرو، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس: { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ } قال: خُلِقوا في أصلاب الرجال، وصُوِّروا في أرحام النساء. رواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه (4)


ونقله ابن جرير عن بعض السلف أيضا: أن المراد بخلقناكم ثم صورناكم: الذرية.


وقال الربيع بن أنس، والسُّدي، وقتادة، والضحاك في هذه الآية: { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ } أي: خلقنا آدم ثم صورنا الذرية.


وهذا فيه نظر؛ لأنه قال بعده: { ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ } فدل على أن المراد بذلك آدم، وإنما قيل ذلك بالجمع لأنه أبو البشر، كما يقول الله تعالى لبني إسرائيل الذين كانوا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم: { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى } [ البقرة : 57 ]

 

= والمراد: آباؤهم الذين كانوا في زمن موسى [عليه السلام] (5) ولكن لما كان ذلك مِنَّةً على الآباء الذين هم أصلٌ صار كأنه واقع على الأبناء.

 

1= وهذا بخلاف قوله تعالى: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ] } (6) [ المؤمنون : 12 -13 ] فإن المراد منه آدم المخلوق من السلالة (7) وذريته مخلوقون من
__________
(1) زيادة من ك.
(2) زيادة من م.
(3) زيادة من ك، م، أ.
(4) المستدرك (2/319).
(5) زيادة من أ.
(6) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
(7) في ك، م: "من سلالة من طين".  (3/391)
نطفة، وصح هذا لأن المراد من (1) خلقنا الإنسان الجنس، لا معينا، والله أعلم.
__________
(1) في ك، م، أ: "في".  (3/392
--------------

-----------

------------

------------


2. سورة الأعراف - الآيات: 12 ــ 22
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22
الأعراف - تفسير ابن كثير

 
قَالَ ابن كثير {{ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)
{ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) }
قال بعض النحاة في توجيه قوله تعالى: { مَا [مَنَعَكَ] (1) أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ } لا هاهنا زائدة.
وقال بعضهم: زيدت لتأكيد الجحد، كقول الشاعر:
ما إن رأيتُ ولا سمعتُ بمثله
فأدخل "إن" وهي للنفي، على "ما" النافية؛ لتأكيد النفي، قالوا: وكذلك هاهنا: { مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ } مع تقدم قوله: { لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ }
حكاهما ابن جرير (2) وردهما، واختار أن "منعك" تضمن معنى فعل آخر تقديره: ما أحوجك وألزمك واضطرك ألا تسجد إذ أمرتك، ونحو ذلك. وهذا القول قوي حسن، والله أعلم.
وقول إبليس لعنه الله: { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ } من العذر الذي هو أكبر من الذنب، كأنه امتنع من الطاعة لأنه لا يؤمر الفاضل بالسجود للمفضول، يعني لعنه الله: وأنا خير منه، فكيف تأمرني بالسجود له؟ ثم بين أنه خير منه، بأنه خلق من نار، والنار أشرف مما خلقته منه، وهو الطين، فنظر اللعين إلى أصل العنصر، ولم ينظر إلى التشريف العظيم، وهو أن الله تعالى خلق آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وقاس قياسًا فاسدًا في مقابلة نص قوله تعالى: { فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } [ ص :72 ]

 

= فشذ من بين الملائكة بتَرْك السجود؛ فلهذا (3) أبلس من الرحمة، أي: أيس من الرحمة، فأخطأ قَبَّحه الله في قياسه ودعواه أن النار أشرف من الطين أيضًا، فإن الطين من شأنه الرزانة والحلم والأناة والتثبت، والطين محل النبات والنمو والزيادة والإصلاح. والنار من شأنها الإحراق والطيش والسرعة؛ ولهذا خان إبليس عنصره، ونفع آدم عنصره في الرجوع والإنابة والاستكانة والانقياد والاستسلام لأمر الله، والاعتراف وطلب التوبة والمغفرة.


وفي صحيح مسلم، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خُلِقَت الملائكة من نور، وخُلقَ إبليس من مارج من نار، وخلق آدم مما وُصِفَ لكم" هكذا رواه مسلم (4) .


وقال ابن مَرْدُوَيه: حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا إسماعيل، عن عبد الله بن مسعود، حدثنا نُعَيم ابن حماد، حدثنا عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن الزهري، عن عُرْوَة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلق الله الملائكة من نور العرش، وخلق الجان من [مارج من] (5) نار، وخلق آدم
__________
(1) زيادة من أ.
(2) تفسير الطبري (12/324).
(3) في م: "ولهذا".
(4) صحيح مسلم برقم (2996).
(5) زيادة من أ.  (3/392)


قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)


مما وُصِفَ لكم". قلت لنعيم بن حماد: أين سمعت هذا من عبد الرزاق؟ قال: باليمن (1) وفي بعض ألفاظ هذا الحديث في غير الصحيح: "وخلقت الحور العين من الزعفران" (2) .


وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا محمد بن كثير، عن ابن شَوْذَب، عن مطر الوَرَّاق، عن الحسن في قوله: { خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } قال: قاس إبليس، وهو أول من قاس. إسناده صحيح.
وقال: حدثني عمرو بن مالك، حدثنى يحيى بن سليم الطائفي (3) عن هشام، عن ابن سيرين قال: أول من قاس إبليس، وما عُبِدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس (4) إسناد صحيح أيضا.
{ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) }
يقول تعالى مخاطبًا لإبليس بأمر قدري كوني: { فَاهْبِطْ مِنْهَا } أي: بسبب عصيانك لأمري، وخروجك عن طاعتي، فما يكون لك أن تتكبر فيها.
قال كثير من المفسرين: الضمير عائد إلى الجنة، ويحتمل أن يكون عائدًا إلى المنزلة التي هو فيها في الملكوت الأعلى.
{ فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ } أي: الذليلين الحقيرين، معاملة له بنقيض قصده، مكافأة لمراده بضده، فعند ذلك استدرك اللعين وسأل النظرة إلى يوم الدين، قال: { أَنْظِرْنِي (5) إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِين } أجابه تعالى إلى ما سأل، لما له في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة التي لا تخالف ولا تمانع، ولا مُعَقِّبَ لحكمه، وهو سريع الحساب.
{ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) }


يخبر تعالى أنه لما أنظر إبليس { إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } (6) واستوثق إبليس بذلك، أخذ في المعاندة والتمرد، فقال: { فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } أي: كما أغويتني.
قال ابن عباس: كما أضللتني. وقال غيره: كما أهلكتني لأقعدن لعبادك -الذين تخلقهم من
__________
(1) رواه عبد الرزاق في المصنف برقم (20904).
(2) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (8/237) من طريق عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، رضي الله عنه، وفي إسناده عبيد الله بن زحر، قال ابن حبان في المجروحين: "يروى الموضوعات عن الأثبات، وإذا روى عن علي بن يزيد أتى بالطامات، وإذا اجتمع في إسناد خبر عبيد الله، وعلي بن يزيد، والقاسم أبو عبد الرحمن، لم يكن ذلك الخبر إلا مما عملته أيديهم".
(3) في أ: "الطائي".
(4) تفسير الطبري (12/328).
(5) في ك، م: "فأنظرني" وهو خطأ.
(6) في م: "الدين" وهو خطأ.  (3/393)


ذرية هذا الذي أبعدتني بسببه -على { صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } أي: طريق الحق وسبيل النجاة، ولأضلنهم (1) عنها لئلا يعبدوك ولا يوحدوك بسبب إضلالك إياي.
وقال بعض النحاة: الباء هاهنا قسمية، كأنه يقول: فبأغوائك إياي لأقعدن لهم صراطك المستقيم.
قال مجاهد: { صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } يعني: الحق.
وقال محمد (2) بن سوقة، عن عون بن عبد الله: يعني طريق مكة.
قال ابن جرير: والصحيح أن الصراط المستقيم أعم من ذلك [كله] (3) .
قلت: لما روى الإمام أحمد: حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا أبو عَقِيل-يعني الثقفي عبد الله بن عقيل -حدثنا موسى بن المسيب، أخبرني سالم بن أبي الجَعْد عن سَبْرَة بن أبي فَاكِه قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الشيطان قعد لابن آدم بطرقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك؟". قال: "فعصاه وأسلم". قال: "وقعد له بطريق (4) الهجرة فقال: أتهاجر وتدع (5) أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطّوَل؟ فعصاه وهاجر، ثم قعد له بطريق (6) الجهاد، وهو جهاد النفس والمال، فقال: تقاتل فتقتل، فتنكح المرأة ويقسم المال؟". قال: "فعصاه، فجاهد". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فمن فعل ذلك منهم (7) فمات، كان حقًا على الله أن يدخله الجنة، أو قتل كان (8) حقا على الله، عز وجل، أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة، أو (9) وَقَصته دابة كان حقا على الله أن يدخله الجنة" (10) .


وقوله: { ثمَُ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ [وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وِعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ] } (11)

قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } أشككهم في آخرتهم، { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } أرغبهم في دنياهم { وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ } أشبَه عليهم أمر دينهم { وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ } أشهي لهم المعاصي.
وقال [علي] (12) بن طلحة -في رواية -والعَوْفي، كلاهما عن ابن عباس: أما { مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } فمن قبل دنياهم، وأما { مِنْ خَلْفِهِمْ } فأمر آخرتهم، وأما { عَنْ أَيْمَانِهِمْ } فمن قِبَل حسناتهم، وأما { عَنْ شَمَائِلِهِمْ } فمن قبل سيئاتهم.
وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة: أتاهم { مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } فأخبرهم أنه (13) لا بعث ولا
__________
(1) في أ: "أفلأضلنهم".
(2) في أ: "مجاهد".
(3) زيادة من ك.
(4) في د: "في طريق".
(5) في د، ك، م، أ: "وتذر".
(6) في د: "في طريق".
(7) في د: "منهم ذلك".
(8) في ك: "وإن قتل كان"، وفي م: "وإن كان قتل".
(9) في م: "وإن".
(10) المسند (3/483).
(11) زيادة من أ، وفي هـ: "الآية".
(12) زيادة من أ.
(13) في ك: "أن".  (3/394)


جنة ولا نار { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } من أمر الدنيا فزيَّنها لهم ودعاهم إليها و { عَنْ أَيْمَانِهِم } من قبل حسناتهم بَطَّاهم (1) عنها { وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ } زين لهم السيئات والمعاصي، ودعاهم إليها، وأمرهم بها. آتاك يا ابن آدم من كل وجه، غير أنه لم يأتك من فوقك، لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله.


وكذا رُوي عن إبراهيم النَّخَعي، والحكم بن عتيبة (2) والسدي، وابن جرير (3) إلا أنهم قالوا: { مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } الدنيا { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } الآخرة.
وقال مجاهد: "من بين أيديهم وعن أيمانهم": حيث يبصرون، "ومن خلفهم وعن شمائلهم": حيث لا يبصرون .
واختار ابن جرير أن المراد جميع طرق الخير والشر، فالخير يصدهم عنه، والشر يُحببه (4) لهم.
وقال الحكم بن أبان، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس في قوله: { ثمَُ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وِعَنْ شَمَائِلِهِمْ } ولم يقل: من فوقهم؛ لأن الرحمة تنزل من فوقهم.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } قال: موحدين.


وقول إبليس هذا إنما هو ظن منه وتوهم، وقد وافق في هذا الواقع، كما قال تعالى: { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } [ سبأ: 20 ، 21 ] .
ولهذا ورد في الحديث الاستعاذة من تسلط الشيطان على الإنسان من جهاته كلها،

 

= كما قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده: حدثنا نَصْر بن علي، حدثنا عمرو بن مُجَمِّع، عن يونس بن خَبَّاب، عن ابن جُبَيْر بن مُطْعِم -يعني نافع بن جبير -عن ابن عباس -وحدثنا عمر بن الخطاب -يعني السجستاني -حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أُنَيْسَةَ، عن يونس بن خباب -عن ابن جبير بن مطعم -عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي، وأهلي ومالي، اللهم استر عَوْرَتي، وآمن رَوْعَتِي (5) واحفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بك (6) اللهم أن أُغْتَال مِنْ تَحْتِي". تفرد به البزار (7) وحسنه.

 


وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، حدثنا عبادة بن مسلم الفزاري، حدثني جُبَير بن أبي سليمان
__________
(1) في أ: "بطأهم".
(2) في م، أ: "عيينة".
(3) في د، ك، م: "جريج".
(4) في د، ك، م، أ:"يحسنه".
(5) في د، ك: "اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي".
(6) في د: "بعظمتك".
(7) مسند البزار برقم (3196) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (10/175): "فيه يونس بن خباب وهو ضعيف"  (3/395)


قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)


ابن جبير بن مطعم، سمعت عبد الله بن عمر يقول: لم يكن رسول الله يدع هؤلاء الدعوات حين يصبح وحين يمسي: "اللهم إني أسألك العافية (1) في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن رَوْعاتي، اللهم احفظني من بين يديّ ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فَوْقِي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي". قال وكيع: يعني الخسف.


ورواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن حِبَّان، والحاكم من حديث عبادة بن مسلم، به (2) وقال الحاكم: صحيح الإسناد.


{ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) }
أكد تعالى عليه اللعنة (3) والطرد والإبعاد والنفي عن محل الملأ الأعلى بقوله: { اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا }
قال ابن جرير: أما "المذؤوُم" فهو المعيب، والذّأم غير مشدَّد: العيب. يقال: "ذأمه يذأمه ذأما فهو مذءوم". ويتركون الهمز فيقولون: "ذمْته أذيمه ذيما وذَاما، والذام والذيم أبلغ في العيب من الذم".
قال: "والمدحور" : المُقْصَى. وهو المبعد المطرود.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ما نعرف (4) المذءوم" و "المذموم" إلا واحدًا.
وقال سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس: { اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا } قال: مقيتا.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: صغيرا مقيتا. وقال السدي: مقيتا مطرودا. وقال قتادة: لعينا مقيتا. وقال مجاهد: منفيًا مطرودًا. وقال الربيع بن أنس: مذؤوما: منفيا، والمدحور: المصغر (5) .
وقوله تعالى: { لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ } كقوله { قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا } [ الإسراء : 63 -65 ] .
__________
(1) في أ: "أسألك العفو والعافية".
(2) المسند (2/25) وسنن أبي داود برقم (5074) وسنن النسائي (8/282) وسنن ابن ماجة برقم (3871) وصحيح ابن حبان (2/155) "الإحسان" والمستدرك (1/517).
(3) في د، ك، م، أ: "أكد تعالى عليه اللعنة".
(4) في ك: "ما يعرف".
(5) في د: "الصغير".  (3/396)

 

 

وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)

 

 

== { وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) }


يذكر تعالى أنه أباح لآدم، عليه السلام، ولزوجته [حواء] (1) الجنة أن يأكلا منها من جميع ثمارها إلا شجرة واحدة. وقد تقدم الكلام على ذلك في "سورة البقرة"، فعند ذلك حسدهما الشيطان، وسعى في المكر والخديعة والوسوسة ليُسلبا (2) ما هما فيه من النعمة واللباس الحسن، وقال كذبا وافتراء: ما نهاكما ربكما عن أكل (3) الشجرة إلا لتكونا ملكين أي: لئلا تكونا ملكين، أو خالدين هاهنا ولو أنكما أكلتما منها لحصل لكما ذلكما (4) كقوله: { قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى } [ طه: 120 ] أي: لئلا تكونا ملكين، كقوله: { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا } [ النساء : 176 ] أي: لئلا تضلوا، { وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ } [ النحل: 15 ] أي: لئلا تميد بكم.
وكان ابن عباس ويحيى بن أبي كثير يقرآن: { إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ } بكسر اللام. وقرأه الجمهور بفتحها.
{ وَقَاسَمَهُمَا } أي: حلف لهما بالله: { إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } فإني من قَبْلكما هاهنا، وأعلم بهذا المكان، وهذا من باب المفاعلة والمراد أحد الطرفين، كما قال خالد بن زهير، ابن عم أبي ذؤيب:
وقاسَمَها بالله جَهْدا لأنتمُ ... ألذّ من السلوى إذ ما نشورها (5)
أي: حلف لهما بالله [على ذلك] (6) حتى خدعهما، وقد يخدع المؤمن بالله، فقال: إني خُلقت قبلكما، وأنا أعلم منكما، فاتبعاني أرشدكما. وكان بعض أهل العلم يقول: "من خادعنا بالله خُدعنا له".
{ فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) }
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في د: "ليسلبهما".
(3) في د، ك: "هذه".
(4) في أ: "ذلك".
(5) البيت في تفسير الطبري (12/350) وعزاه المحقق لأشعار الهذليين (1/158).
(6) زيادة من د، ك، م، أ
(3/397) 
-------------------------------
3.
سورة الأعراف - الآيات: 23 ــ 30 .

قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)


الأعراف - تفسير ابن كثير


قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
{ قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) }

قال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي بن كعب، رضي الله عنه، قال: كان آدم رجلا طُوَالا كأنه نخلة سَحُوق، كثير شعر الرأس. فلما وقع بما وقع به من الخطيئة، بَدَتْ له (3/397)


عورته عند ذلك، وكان لا يراها. فانطلق هاربا في الجنة فتعلقت برأسه شجرة من شجر الجنة، فقال لها: أرسليني. فقالت: إني غير مرسلتك. فناداه ربه، عز وجل: يا آدم، أمنّي تفر؟ قال: رب إني استحييتك. (1)


وقد رواه ابن جرير، وابن مَرْدُويه من طُرُق، عن الحسن، عن أبيّ بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم، والموقوف أصحّ إسنادا. (2)


وقال عبد الرزاق: أنبأنا سفيان بن عيينة وابن المبارك، عن الحسن بن عمارة، عن المِنْهَال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كانت الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته، السنبلة. فلما أكلا منها بدت لهما سوآتهما، وكان الذي وارى عنهما من سوآتهما أظفارهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وَرقَ التين، يلزقان بعضه إلى بعض. فانطلق آدم، عليه السلام، موليا في الجنة، فعلقت برأسه شجرة من الجنة، فناداه: يا آدم، أمني تفر؟ قال: لا ولكني استحييتك يا رب. قال: أما كان لك فيما منحتك من الجنة وأبحتك منها مندوحة، عما حرمت عليك. قال: بلى يا رب، ولكن وعزتك ما حسبت أن أحدًا يحلف بك كاذبًا. ==

== قال: وهو قوله، عز وجل (3) { وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } قال: فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض، ثم لا تنال العيش إلا كَدا. قال: فأهبط من الجنة، وكانا يأكلان منها رَغَدًا، فأهبط إلى غير رغد من طعام وشراب، فعُلّم صنعة الحديد، وأمر بالحرث، فحرث وزرع ثم سقى، حتى إذا بلغ حصد، ثم داسه، ثم ذَرّاه، ثم طحنه، ثم عجنه، ثم خبزه، ثم أكله، فلم يبلغه حتى بلغ منه ما شاء الله أن يبلغ (4) وقال الثوري، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ } قال: ورق التين. صحيح إليه.
وقال مجاهد: جعلا يخصفان عليهما من ورق الجنة كهيئة الثوب.
وقال وَهْب بن مُنَبِّه في قوله: { يَنزعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا } قال: كان لباس آدم وحواء نورا على فروجهما، لا يرى هذا عورة هذه، ولا هذه عورة هذا.

 

= فلما أكلا من الشجرة بدت لهما سوآتهما. رواه ابن جرير بإسناد صحيح إليه.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن قتادة قال: قال آدم: أي رب، أرأيت إن تبت واستغفرت؟ قال: إذًا أدخلك الجنة. وأما إبليس فلم يسأله التوبة، وسأله النظرة، فأعطي كل واحد منهما الذي سأله.
__________
(1) تفسير الطبري (12/354).
(2) تفسير الطبري (12/352) ورواه الحاكم في المستدرك (1/345) من طريق يزيد بن الهاد، عن الحسن، عن أبي بن كعب بنحوه، وقال: "هذا لا يعلل حديث يونس بن عبيد، فإنه أعرف بحديث الحسن من أهل المدينة ومصر، والله أعلم" يقصد الحاكم ما أخرجه في المستدرك (1/344) من طريق يونس بن عبيد، عن الحسن، عن عتي، عن أبي بن كعب بنحوه، فإنه قد علله في آخره بأنه قد روى عن الحسن، عن أبي دون ذكر عتي. ورواه عبد الرزاق في المصنف (3/400)، عن ابن جريج حدثت عن أبي بن كعب، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره بنحوه
(3) في د، م: "قول الله"، وفي ك: "قوله تعالى".
(4) ورواه الطبري في تفسيره (12/352) من طريق عبد الرزاق به.   (3/398)


قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
وقال ابن جرير: حدثنا القاسم، حدثنا الحسين، حدثنا عَبَّاد بن العَوَّام، عن سفيان بن حسين، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما أكل آدم من الشجرة قيل له: لم أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها. قال: حواء. أمرتني. قال : فإني قد أعقبتها أن لا تحمل إلا كَرْها، ولا تضع إلا كَرْها. قال: فرنَّت عند ذلك حواء. فقيل لها: الرنة عليك وعلى ولدك (1)


وقال الضحاك بن مُزَاحِم في قوله: { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه [عز وجل] (2)
{ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) }


قيل: المراد بالخطاب في { اهْبِطُوا } آدم، وحواء، وإبليس، والحية. ومنهم من لم يذكر الحية، والله أعلم.
والعمدة في العداوة آدم وإبليس؛ ولهذا قال تعالى في سورة "طه" قال: { اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا } [ الآية : 123 ] وحواء تبع لآدم. والحية -إن كان ذكرها صحيحا -فهي تبع لإبليس.

 


وقد ذكر المفسرون الأماكن التي هبط فيها كل منهم، ويرجع حاصل تلك الأخبار إلى الإسرائيليات، والله أعلم بصحتها. ولو كان في تعيين تلك البقاع فائدة تعود على المكلفين في أمر دينهم، أو دنياهم، لذكرها الله تعالى في كتابه أو رسوله (3) صلى الله عليه وسلم.

 


وقوله: { وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } أي: قرار وأعمار مضروبة إلى آجال معلومة، قد جرى بها القلم، وأحصاها القدر، وسطرت في الكتاب الأول. وقال ابن عباس: { مُسْتَقَرٌّ } القبور. وعنه: وجه الأرض وتحتها. رواهما ابن أبي حاتم.


وقوله: { قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } كقوله تعالى: { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } [ طه : 55 ] يخبر تعالى أنه يجعل (4) الأرض دارًا لبني آدم مدة الحياة الدنيا، فيها محياهم وفيها مماتهم وقبورهم، ومنها نشورهم ليوم القيامة (5) الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين، ويجازي كلا بعمله.
{ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) }
يمتن تبارك وتعالى على عباده بما جعل لهم من اللباس والريش فاللباس (6) المذكور هاهنا لستر
__________
(1) تفسير الطبري (12/356).
(2) زيادة من أ.
(3) في ك: "ورسوله".
(4) في ك، م: "جعل".
(5) في ك، م، أ: "المعاد".
(6) في ك: "واللباس".  (3/399)


العورات -وهي السوآت (1) والرياش والريش: هو ما يتجمل به ظاهرًا، فالأول من الضروريات، والريش من التكملات والزيادات.
قال ابن جرير: "الرياش" في كلام العرب: الأثاث، وما ظهر من الثياب.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس -وحكاه البخاري -عنه: الرياش: المال. وكذا قال مجاهد، وعُرْوَة بن الزبير، والسُّدِّي والضحاك (2)
وقال العَوْفي، عن ابن عباس: "الرياش" اللباس، والعيش، والنعيم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: "الرياش": الجمال.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا أصْبَغُ، عن أبي العلاء الشامي قال: لبس أبو أمامة ثوبًا جديدًا، فلما بلغ تَرْقُوَتَه قال: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمل به في حياتي. ثم قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استجد ثوبًا فلبسه (3) فقال حين يبلغ ترقوته: الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي، وأتجمل به في حياتي (4) ثم عمد إلى الثوب الذي خَلُقَ أو: ألقى فتصدق به، كان في ذمة الله، وفي جوار الله، وفي كنف الله حيا وميتا، [حيا وميتا، حيا وميتا] " (5) .
ورواه الترمذي، وابن ماجه، من رواية يزيد بن هارون، عن أصبغ -هو ابن زيد الجهني (6) -وقد وثقه يحيى بن مَعِين وغيره، وشيخه "أبو العلاء الشامي" لا يعرف إلا بهذا الحديث، ولكن لم يخرجه أحد، والله أعلم.
وقال الإمام أحمد أيضا: حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا مختار بن نافع التمار، عن أبي مطر؛ أنه رأى عليا، رضي الله عنه، أتى غلامًا حدثًا، فاشترى منه قميصًا بثلاثة دراهم، ولبسه إلى ما بين الرسغين إلى الكعبين، يقول ولبسه: الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس، وأواري به عورتي. فقيل: هذا شيء ترويه عن نفسك أو عن نبي الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هذا شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند الكسوة: "الحمد لله الذي رزقني (7) من الرياش (8) ما أتجمل به في الناس، وأواري به عورتي " (9)
وقوله تعالى: { وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ } قرأ بعضهم: "ولباسَ التقوى"، بالنصب. وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء، { ذَلِكَ خَيْرٌ } خبره.
واختلف المفسرون في معناه، فقال عكرمة: يقال: هو ما يلبسه المتقون يوم القيامة. رواه ابن أبي حاتم.
__________
(1) في ك: "الشهوات".
(2) في ك، م، أ: "والضحاك: الرياش: المال".
(3) في م: "يلبسه".
(4) في أ: "في الناس".
(5) زيادة من أ.
(6) المسند (1/44) وسنن الترمذي برقم (3560) وسنن ابن ماجة برقم (3557).
(7) في أ: "كساني".
(8) في م: "من اللباس".
(9) المسند (1/157) قال الهيثمي في المجمع (5/119): "فيه مختار بن نافع وهو ضعيف". (3/400)

------------
وقال زيد بن علي، والسُّدِّي، وقتادة، وابن جُريْج: { وَلِبَاسُ التَّقْوَى } الإيمان.
وقال العَوْفي، عن ابن عباس [رضي الله عنه: { وَلِبَاسُ التَّقْوَى } ] (1) العمل الصالح.
وقال زياد (2) بن عمرو، عن ابن عباس: هو السمت الحسن في الوجه.
وعن عُرْوَة بن الزبير: { لِبَاسُ التَّقْوَى } خشية الله.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: { لِبَاسُ التَّقْوَى } يتقي الله، فيواري عورته، فذاك لباس التقوى.
وكل هذه متقاربة، ويؤيد ذلك الحديث الذي رواه ابن جرير حيث قال:


حدثني المثنى، حدثنا إسحاق بن الحجاج، حدثنا إسحاق بن إسماعيل، عن سليمان بن أرقم، عن الحسن قال: رأيت عثمان بن عفان، رضي الله عنه، على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه قميص قُوهي محلول الزرّ، وسمعته يأمر بقتل الكلاب، وينهى عن اللعب بالحمام. ثم قال: يا أيها الناس، اتقوا الله في هذه السرائر، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "والذي نفس محمد بيده، ما عمل أحد قط سرا إلا ألبسه الله رداء علانية، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر". ثم تلا هذه الآية: "ورياشًا" ولم يقرأ: وريشًا -{ وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ } قال: "السمت الحسن".
هكذا رواه ابن جرير من رواية سليمان بن أرقم (3) وفيه ضعف. وقد روى الأئمة: الشافعي، وأحمد، والبخاري في كتاب "الأدب" من طرق صحيحة، عن الحسن البصري؛ أنه سمع أمير المؤمنين عثمان بن عفان يأمر بقتل الكلاب وذبح الحمام، يوم الجمعة على المنبر.
وأما المرفوع منه (4) فقد روى الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير له شاهدًا (5) من وجه آخر، حيث قال: حدثنا.... (6)

__________
(1) زيادة من ك، أ.
(2) في أ: "الديال".
(3) تفسير الطبري (12/367)
(4) في م: "عنه".
(5) في ك، م: شاهدا آخر".

(6) [محمود بن محمد المروزي، حدثنا حامد بن آدم المروزي، حدثنا الفضل بن موسى، عن محمد بن عبيد الله العرزمى، عن سلمة ابن كهيل، عن جندب بن سفيان البجلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله رداءها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر"].
المعجم الكبير (2/171) وقال الهيثمي في المجمع (10/225): "فيه حامد بن آدم وهو كذاب" والعرزمي تركه الأئمة.
تنبيه: في جميع النسخ لم يذكر هذا الحديث الذي سقته ها هنا، وموضعه بياض عدة أسطر، وقد تعرفت على أن هذا الحديث هو مقصود الحافظ ابن كثير، أني رأيته ساق أثر عثمان السابق ثم ساق بعده هذا الحديث بإسناد الطبراني، كما سيأتي في سورة الفتح آية: 29، فرأيت إثباته في الحاشية.
(3/401)
يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
{ يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) }
يقول تعالى محذرًا بني آدم من إبليس وقبيله، ومبينًا لهم عداوته القديمة لأبي البشر آدم، عليه السلام، في سعيه في إخراجه من الجنة التي هي دار النعيم، إلى دار التعب والعناء، والتسبب في هتك عورته بعدما كانت مستورة عنه، وما هذا إلا عن عداوة أكيدة، وهذا كقوله تعالى: { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا } [ الكهف : 50 ]
{ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) }
قال مجاهد: كان المشركون يطوفون بالبيت عراة، يقولون: نطوف كما ولدتنا أمهاتنا. فتضع المرأة على فرجها النسعة، أو الشيء وتقول:
اليوم يبدُو بعضُه أو كلّه ... وما بَدا منه فلا أحلّهُ ...
فأنزل الله [تعالى] (1) { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } الآية. (2)
قلت: كانت العرب -ما عدا قريشًا -لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها، يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها، وكانت قريش -وهم الحُمْس -يطوفون في ثيابهم، ومن أعاره أحمسي ثوبًا طاف فيه، ومن معه ثوب جديد طاف فيه ثم يلقيه فلا يتملكه أحد، فمن لم يجد ثوبًا جديدًا ولا أعاره أحمسي ثوبًا، طاف عريانًا. وربما كانت امرأة فتطوف عريانة، فتجعل على فرجها شيئًا يستره بعض الشيء وتقول:
اليوم يبدُو بعضُه أو كلّه ... وما بدَا منه فلا أحلّهُ ...
(3)
وأكثر ما كان النساء يطفن [عراة] (4) بالليل، وكان هذا شيئًا قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم، واتبعوا فيه آباءهم ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرع، فأنكر الله تعالى عليهم ذلك، فقال: { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } فقال تعالى ردًا عليهم: { قُلْ } أي: قل يا محمد لمن ادعى ذلك: { إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } أي: هذا الذي تصنعونه فاحشة منكرة، والله لا يأمر بمثل ذلك { أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } أي: أتسندون إلى الله من الأقوال ما لا تعلمون صحته.
وقوله: { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ } أي: بالعدل والاستقامة، { وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }
__________
(1) زيادة من ك.
(2) تفسير الطبري (12/377).
(3) البيت منسوب لضباعة بنت عامر بن قرط، وله قصة ذكرها ابن حبيب البغدادي في المنمق (ص270)
(4) زيادة من ك، م.
(3/402)
أي: أمركم بالاستقامة في عبادته في محالها، وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات فيما أخبروا به عن الله [تعالى] (1) وما جاءوا به [عنه] (2) من الشرائع، وبالإخلاص له في عبادته، فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين: أن يكون صوابًا موافقًا للشريعة، وأن يكون خالصًا من الشرك.
وقوله تعالى: { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُون. [فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ] (3) الضَّلالَة } (4) -اختلف في معنى [قوله تعالى]{ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } فقال ابن أبي نَجِيح، عن مجاهد: { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } يحييكم بعد موتكم.
وقال الحسن البصري: كما بدأكم في الدنيا، كذلك تعودون يوم القيامة أحياء.
وقال قتادة: { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } قال: بدأ فخلقهم ولم يكونوا شيئًا، ثم ذهبوا، ثم يعيدهم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كما بدأكم أولا كذلك يعيدكم آخرًا.
واختار هذا القول أبو جعفر بن جرير، وأيده بما رواه من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج، كلاهما عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: "يا أيها الناس، إنكم تحشرون (5) إلى الله حُفَاة عُرَاة غُرْلا { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } [ الأنبياء : 104 ] .
وهذا الحديث مُخَرَّجٌ في الصحيحين، من حديث شعبة، وفي حديث البخاري -أيضا -من حديث الثوري به. (6)
وقال وقَاء بن إياس أبو يزيد، عن مجاهد: { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } قال: يبعث المسلم مسلمًا، والكافر كافرًا.
وقال أبو العالية: { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } رُدُّوا إلى علمه فيهم.
وقال سعيد بن جبير: { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } كما كتب عليكم تكونون -وفي رواية: كما كنتم تكونون عليه تكونون.
وقال محمد بن كعب القُرَظِي في قوله تعالى: { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } من ابتدأ الله خلقه على الشقاوة صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه، وإن عمل بأعمال أهل السعادة، كما أن إبليس عمل بأعمال أهل السعادة، ثم صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه. ومن ابتُدئ خلقه على السعادة، صار إلى ما ابتدئ خلقه عليه، إن عمل بأعمال أهل الشقاء، كما أن السحرة عملت (7) بأعمال أهل الشقاء، ثم صاروا إلى ما ابتدئوا عليه.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من ك.
(3) زيادة من ك، أ وفي هـ: "إلى قوله".
(4) زيادة من أ.
(5) في أ: "محشورون".
(6) تفسير الطبري (12/386) وصحيح البخاري برقم (4625) وصحيح مسلم برقم (2860).
(7) في أ: "عملوا".
(3/403)
وقال السُّدِّي: { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ. فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ } يقول: { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } كما خلقناكم، فريق مهتدون وفريق ضلال، كذلك تعودون وتخرجون من بطون أمهاتكم.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ } قال: إن الله تعالى بدأ خلق ابن آدم مؤمنًا وكافرًا، كما قال [تعالى] (1) { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ } [ التغابن : 2 ] ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأهم (2) مؤمنًا وكافرًا.
قلت: ويتأيد هذا القول بحديث ابن مسعود في صحيح البخاري " فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع -أو: ذراع -فيسبق (3) عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع -أو: ذراع -فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة، فيدخل الجنة" (4)
وقال أبو القاسم البَغَوي: حدثنا علي بن الجَعْد، حدثنا أبو غَسَّان، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن العبد ليعمل -فيما يرى الناس -بعمل أهل الجنة، وإنه من أهل النار. وإنه ليعمل -فيما يرى الناس -بعمل أهل النار، وإنه من أهل الجنة، وإنما الأعمال بالخواتيم" (5)
هذا قطعة من حديث رواه البخاري من حديث أبي غسان محمد بن مُطَرَّف المدني، في قصة "قُزْمان" يوم أحد (6)
وقال ابن جرير: حدثنا ابن بشار، حدثنا عبد الرحمن، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تُبْعَثُ كل نَفْسٍ على ما كانت عليه".
وهذا الحديث رواه مسلم وابن ماجه من غير وجه، عن الأعمش، به. ولفظه: "يبعث كل عبد على ما مات عليه" (7)


قلت: ولا بد من الجمع بين هذا القول -إن كان هو المراد من الآية -وبين قوله تعالى: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } [ الروم : 30 ]

 

وما جاء في الصحيحين، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسانه" (8) وفي صحيح مسلم، عن عِياض بن حمَار (9) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: إني خلقت عبادي حُنَفَاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم" الحديث. ووجه
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ك، أ: "بدأ خلقهم".
(3) في ك: "ويسبق".
(4) صحيح البخاري برقم (3208).
(5) ورواه البغوي في تفسيره (3/224) من طريق عبد الرحمن بن أبي شريح، عن أبي القاسم البغوي به.
(6) صحيح البخاري برقم (6607 ، 6493).
(7) تفسير الطبري (12/384) وصحيح مسلم برقم (2878) وسنن ابن ماجة برقم (4230).
(8) صحيح البخاري برقم (1385) وصحيح مسلم برقم (2658).
(9) في أ: "حماد". (3/404)


الجمع على هذا أنه تعالى خلقهم ليكون منهم مؤمن وكافر، في ثاني الحال، وإن كان قد فطر الخلق كلهم على معرفته وتوحيده، والعلم بأنه لا إله غيره، كما أخذ عليهم بذلك الميثاق، وجعله في غرائزهم وفطرهم، ومع هذا قدر أن (1) منهم شقيًا ومنهم سعيدًا: { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ } [ التغابن : 2 ] وفي الحديث: "كل الناس يغدو، فبائع نفسه فمُعْتِقُهَا، أو مُوبِقها" (2) وقدر الله نافذ في بريته، فإنه هو { الَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } [ الأعلى : 3 ] و { الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [ طه : 50 ] وفي الصحيحين: "فأما من كان منكم من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة"؛ ولهذا قال تعالى: { فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ } ثم علل ذلك فقال: { إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ] } (3)
قال ابن جرير: وهذا من أبين الدلالة على خطأ من زعم أن الله لا يعذب أحدًا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها، فيركبها عنادًا منه لربه فيها؛ لأن ذلك لو كان كذلك، لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل وهو يحسب أنه هاد، وفريق الهدى، فرق. وقد فرق الله تعالى بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية [الكريمة] (4)
__________
(1) في ك: "أن يكون".
(2) قطعة من حديث رواه مسلم في صحيحه برقم (223) من حديث أبي مالك الأشعري.
(3) زيادة من د، ك، م، أ. وفي هـ: "الآية".
(4) زيادة من ك، أ.  (3/405)
------------------------
4. سورة الأعراف - الآيات: 31 ــ 37
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37الأعراف - تفسير ابن كثير

 
يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
{ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) }
هذه الآية الكريمة ردٌّ على المشركين فيما كانوا يعتمدونه من الطواف بالبيت عُراة، كما رواه مسلم والنسائي وابن جرير (1) -واللفظ له -من حديث شعبة، عن سلمة بن كُهَيْل، عن مسلم البَطِين، عن سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس قال: كانوا يطوفون بالبيت عراة، الرجال والنساء: الرجال بالنهار، والنساء بالليل. وكانت المرأة تقول:
اليومَ يبدُو بعضُه أو كُلّه ... وما بَدَا مِنْه فلا أحِلّهُ ...
فقال الله تعالى: { خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } (2)
وقال العَوْفي، عن ابن عباس في قوله [تعالى] (3) { خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } الآية، قال: كان رجال يطوفون بالبيت عراة، فأمرهم الله بالزينة -والزينة: اللباس، وهو ما يوارى السوأة، وما سوى ذلك من جَيّد البزِّ والمتاع -فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد.
وكذا قال مجاهد، وعطاء، وإبراهيم النَّخعي، وسعيد بن جُبَيْر، وقتادة، والسُّدِّي، والضحاك،
__________
(1) في أ: "ابن ماجة".
(2) صحيح مسلم برقم (3028) وسنن النسائي (5/233) وتفسير الطبري (12/390).
(3) زيادة من أ.
(3/405)
ومالك عن الزهري، وغير واحد من أئمة السلف في تفسيرها: أنها أنزلت في طوائف المشركين بالبيت عراة.
وقد روى الحافظ بن مَرْدُويه، من حديث سعيد بن بشير والأوزاعي، عن قتادة، عن أنس مرفوعا؛ أنها أنزلت (1) في الصلاة في النعال. ولكن في صحته نظر (2) والله أعلم.
ولهذه الآية، وما ورد في معناها من السنة، يستحب التجمل عند الصلاة، ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد، والطيب لأنه من الزينة، والسواك لأنه من تمام ذلك، ومن أفضل الثياب (3) البياض، كما قال الإمام أحمد:
حدثنا علي بن عاصم، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البسوا من ثيابكم البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكَفِّنوا فيها موتاكم، وإن خير أكحالكم الإثْمِد، فإنه يجلو البصر، وينبت الشعر".
هذا حديث جيد الإسناد، رجاله (4) على شرط مسلم. ورواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من حديث عبد الله بن عثمان بن خُثَيم، به (5) وقال الترمذي: حسن صحيح.
وللإمام أحمد أيضا، وأهل السنن بإسناد جيد، عن سَمُرَة بن جُنْدَب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالثياب البياض فالبسوها؛ فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيها موتاكم" (6)
وروى الطبراني بسند (7) صحيح، عن قتادة، عن محمد بن سيرين: أن تميما الداري اشترى رداءً بألف، فكان يصلي فيه.
وقوله تعالى: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ] } (8) الآية. قال بعض السلف: جمع الله الطب كله في نصف آية: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا }
وقال البخاري: قال ابن عباس: كل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان: سرَف ومَخِيلة.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الأعلى، حدثنا محمد بن ثَوْر، عن مَعْمَر، عن
ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: أحل الله الأكل والشرب، ما لم يكن سرَفًا أو مَخِيلة. إسناده
__________
(1) في أ: "نزلت".
(2) ورواه العقيلي في الضعفاء الكبير (3/143) من طريق عباد بن جويرية، عن الأوزاعي، عن قتادة به. وعباد بن جويرية قال فيه الإمام أحمد: "كذاب أفاك".
ورواه الخطيب في تاريخ بغداد (14/287) من طريق يعقوب، الدعاء عن يحيى بن عبد الله الدمشقي، عن الأوزاعي به.
ويعقوب وشيخه لا يعرفان.
(3) في د، ك، م، أ: "اللباس".
(4) في م: "رجاله كلهم ثقات".
(5) المسند (1/247) وسنن أبي داود برقم (4061) وسنن الترمذي برقم (944) وسنن ابن ماجة برقم (1472).
(6) المسند (5/7) وسنن النسائي (8/205).
(7) في م: "بإسناد".
(8) زيادة من ك، م، أ. وفي هـ: "الآية".
(3/406)  صحيح.


وقال الإمام أحمد: حدثنا بَهْز، حدثنا هَمّام، عن قتادة، عن عمرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا، في غير مَخِيلة ولا سرَف، فإن الله يحب أن يرى (1) نعمته على عبده" (2)
ورواه النسائي وابن ماجه، من حديث قتادة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مَخِيلة" (3)
وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو المغيرة، حدثنا سليمان بن سليم الكِناني، حدثنا يحيى بن جابر الطائي (4) سمعت المقدام بن معد يكرب الكندي (5) قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما ملأ آدمي وعاءً شرًا من بطنه، حَسْبُ ابن آدم أكلات يُقِمْنَ صُلبه، فإن كان فاعلا لا محالة، فثلث طعامٌ، وثلث شرابٌ، وثلث لنفسه".
ورواه النسائي والترمذي، من طرق، عن يحيى بن جابر، به (6) وقال الترمذي: حسن -وفي نسخة: حسن صحيح.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: حدثنا سُوَيْد بن عبد العزيز (7) حدثنا بَقِيَّة، عن يوسف ابن أبي كثير، عن نوح بن ذَكْوان، عن الحسن، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من السَّرف أن تأكل كل ما اشتهيت".
ورواه الدارقطني في الأفراد، وقال: هذا حديث غريب تفرد به بقية. (8)
وقال السُّدِّي: كان الذين يطوفون بالبيت عراة، يحرمون عليهم الودَكَ ما أقاموا في الموسم؛ فقال الله [تعالى] (9) لهم: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ] } (10) يقول: لا تسرفوا في التحريم.
وقال مجاهد: أمرهم أن يأكلوا ويشربوا مما رزقهم الله.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: { وَلا تُسْرِفُوا } يقول: ولا تأكلوا حرامًا، ذلك الإسراف.
وقال عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله: { وَكُلُوا (11) وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ }
__________
(1) في ك: "ترى".
(2) المسند (2/182).
(3) سنن النسائي (5/79) وسنن ابن ماجة برقم (3605).
(4) في أ: "الطائي قال".
(5) في ك: "العبدي".
(6) المسند (4/132) النسائي في السنن الكبرى برقم (6768) وسنن الترمذي برقم (2380).
(7) في جميع النسخ: "سويد بن عبد العزيز" وصوابه: "سويد بن سعيد" كما في مسند أبي يعلى وكتب الرجال.
(8) مسند أبي يعلى (5/154) وأطراف الغرائب والأفراد لابن القيسراني (ق72) ورواه ابن ماجة في السنن برقم (3352) من طريق سويد بن سعيد به. وقال البوصيري في الزوائد (3/95): "هذا إسناد ضعيف" وهو مسلسل بالعلل.
(9) زيادة من م.
(10) زيادة من ك، م، أ. وفي هـ "الآية".
(11) في م: "كلوا".
(3/407)
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)   في الطعام والشراب.


وقال ابن جرير: وقوله: { إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } يقول الله: إن الله [تعالى] (1) لا يحب المتعدين (2) حَدَّه في حلال أو حرام، الغالين فيما أحل أو حَرّم، بإحلال الحرام وبتحريم الحلال، ولكنه يحب أن يحلل ما أحل، ويحرم ما حرم، وذلك العدل الذي أمر به.


{
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) }


يقول تعالى ردًا على من حَرَّم شيئًا من المآكل أو المشارب، والملابس، من تلقاء نفسه، من غير شرع من الله: { قُلْ } يا محمد، لهؤلاء المشركين الذين يحرمون ما يحرمون بآرائهم الفاسدة وابتداعهم: { مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ [ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ] } (3) الآية، أي: هي مخلوقة لمن آمن بالله وعبده في الحياة الدنيا، وإن شركهم فيها الكفار حسًا (4) في الدنيا، فهي لهم خاصة يوم القيامة، لا يَشْرَكهم فيها أحد من الكفار، فإن الجنة محرّمة على الكافرين.
قال أبو القاسم الطبراني: حدثنا أبو حُصَين محمد بن الحسين القاضي، حدثنا يحيى الحِمَّاني، حدثنا يعقوب القُمِّي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير،
عن ابن عباس قال: كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراة، يصفرون ويُصفِّقون. فأنزل الله: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ } فأمروا بالثياب. (5)
{
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (33) }


قال الإمام أحمد: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن شَقِيقٍ، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا أحد أغير من الله، فلذلك حَرَّم الفواحش ما ظَهَر منها وما بَطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله" .
أخرجاه في الصحيحين، من حديث سليمان بن مهْران الأعمش، عن شقيق عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود (6) وتقدم الكلام في سورة الأنعام على ما يتعلق بالفواحش ما ظهر منها وما بطن.
وقوله: { وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ } قال السُّدِّي: أما الإثم فالمعصية، والبغي أن تبغي على الناس بغير الحق.
__________
(1) زيادة من ك.
(2) في ك، م: "المعتدين".
(3) زيادة من ك، م، أ.
(4) في ك: "حبا".
(5) المعجم الكبير (12/13)، وقال الهيثمي في المجمع (7/23): "فيه يحيى الحماني وهو ضعيف".
(6) المسند (1/381)، وصحيح البخاري برقم (4634)، وصحيح مسلم برقم (2760).  (3/408)


وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)
وقال مجاهد:الإثم المعاصي كلها، وأخبر أن الباغي بغيه كائن على نفسه.
وحاصل ما فُسّر (1) به الإثم أنه الخطايا المتعلقة بالفاعل نفسه، والبغي هو التعدي إلى الناس، فحرم الله هذا وهذا.
وقوله: { وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } أي: تجعلوا له شريكا في عبادته، وأن تقولوا عليه (2) من الافتراء والكذب من دعوى أن له ولدًا ونحو ذلك، مما لا علم لكم به كما قال تعالى: { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ [وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ] } (3) الآية [ الحج : 30 ، 31 ].
{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) }
يقول تعالى: { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ } أي: قرن وجيل { أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ } أي: ميقاتهم المقدر لهم { لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً } عن ذلك (4) { وَلا يَسْتَقْدِمُونَ }
ثم أنذر تعالى بني آدم بأنه سيبعث إليهم رسلا يقصون عليهم آياته، وبَشر وحذر فقال: { فَمَن اتَّقَى وَأَصْلَحَ } أي: ترك المحرمات وفعل الطاعات { فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا } أي: كذبت بها قلوبهم، واستكبروا عن العمل بها { أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أي: ماكثون فيها مكثًا مخلدًا.
{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) }
يقول [تعالى] (5) { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ } أي: لا أحد أظلم ممن افترى الكذب على الله، أو كذب بآيات الله المنزلة.
{ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ } اختلف المفسرون في معناه، فقال العَوْفي عن ابن عباس: ينالهم ما كتب عليهم، وكتب لمن يفترى على الله أن وجهه مسود.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس يقول: نصيبهم من الأعمال، من عَمِل خيرًا جُزِي به،
__________
(1) في أ: "فسرا".
(2) في ك: "على الله".
(3) زيادة من ك، م، أ.
(4) في أ: "أي من ذلك".
(5) زيادة من أ.  (3/409)


ومن عمل شرًا جُزِي به. وقال مجاهد: ما وعدوا فيه من خير وشر.
وكذا قال قتادة، والضحاك، وغير واحد. واختاره ابن جرير.
وقال محمد بن كعب القرظي: { أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ } قال: عمله ورزقه وعمره.
وكذا قال الربيع بن أنس، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وهذا القول قوي في المعنى، والسياق يدل عليه، وهو قوله: { حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ } ويصير المعنى في هذه الآية كما في قوله [تعالى] (1) { إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ* مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } [ يونس : 69 ، 70 ]

 

وقوله { وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا [ ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ] } (2) [ لقمان : 23 ، 24 ] .


وقوله [تعالى] (3) {
حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ [ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ] } (4) الآية:

 

= يخبر تعالى أن الملائكة إذا توفت المشركين تفزعهم (5) عند الموت وقَبْض أرواحهم إلى النار، يقولون لهم (6) أين الذين كنتم تشركون بهم في الحياة الدنيا وتدعونهم وتعبدونهم من دون الله؟ ادعوهم يخلصوكم (7) مما أنتم فيه. قالوا: { ضَلُّوا عَنَّا } أي: ذهبوا عنا فلا نرجو نفعهم، ولا خيرهم. { وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ } أي: أقروا واعترفوا على أنفسهم { أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ } .
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من د، ك، م، أ.
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من أ.
(5) في أ: "تقرعهم".
(6) في د: "قائلين لهم".
(7) في أ: "يخلصونكم". (3/410)


-----------------------------
5. سورة الأعراف - الآيات: 38 ــ 43
قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) --
الأعراف - تفسير ابن كثير

 


قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)


{ قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) }
يقول تعالى مخبرًا عما يقوله لهؤلاء المشركين به، المفترين عليه المكذبين بآياته: { ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ } أي: من أشكالكم وعلى صفاتكم، { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ } أي: من الأمم السالفة الكافرة، { مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ فِي النَّارِ } يحتمل أن يكون بدلا من قوله: { فِي أُمَمٍ } ويحتمل أن يكون { فِي أُمَمٍ } أي: مع أمم.
وقوله: { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا } كما قال الخليل، عليه السلام: { ثُمّ (1) َ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ [ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ] } (2) الآية [ العنكبوت:25 ]. وقوله تعالى: { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } [ البقرة:166 ، 167 ].
__________
(1) في د، ك، م: "ويوم".
(2) زيادة من ك، م، أ.
(3/410)
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
وقوله [تعالى] (1) { حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا } أي: اجتمعوا فيها كلهم، { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأولاهُمْ } أي: أخراهم دخولا -وهم الأتباع -لأولاهم -وهم المتبوعون -لأنهم أشد جرمًا من أتباعهم، فدخلوا قبلهم، فيشكوهم (2) الأتباع إلى الله يوم القيامة؛ لأنهم هم الذين أضلوهم عن سواء السبيل، فيقولون: { رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ } أي: أضعف عليهم العقوبة، كما قال تعالى: { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ [ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (3) ] } [الأحزاب:66-68 ]
وقوله: { قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ } أي: قد فعلنا ذلك وجازينا كلا بحسبه، كما قال تعالى: { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا [ فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (4) ] } [ النحل:88 ] وقال تعالى: { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (5) ] } [ العنكبوت:13 ] وقال: { وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (6) ] } [ النحل:25 ]
{ وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأخْرَاهُمْ } أي: قال المتبوعون للأتباع: { فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ } قال السدي: فقد ضللتم كما ضللنا.
{ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ } وهذا الحال كما أخبر الله تعالى عنهم في حال محشرهم، في قوله تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ سبأ:31-33 ]
{ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) }
قوله: { لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ } قيل: المراد: لا يرفع لهم منها عمل صالح ولا دعاء.
__________
(1) زيادة من م.
(2) في أ: "فيشكونهم".
(3) زيادة من ك، م، أ. وفي هـ: "الآية".
(4) زيادة من ك، م، أ. وفي هـ: "الآية".
(5) زيادة من أ. وفي هـ: "الآية".
(6) زيادة من ك، م، أ. وفي هـ: "الآية".
(3/411)
قاله مجاهد، وسعيد بن جبير. ورواه العَوْفي وعلي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. وكذا رواه الثوري، عن ليْث، عن عطاء، عن ابن عباس.
وقيل: المراد: لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء.
رواه الضحاك، عن ابن عباس. وقاله السُّدِّي وغير واحد، ويؤيده ما قال ابن جرير: حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن المِنْهَال -هو ابن عمرو -عن زاذان، عن البراء؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قَبْض روح الفاجر، وأنه يُصْعَد بها إلى السماء، قال: "فيصعدون بها، فلا تمر على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان، بأقبح أسمائه التي كان يُدْعَى بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء، فيستفتحون بابها له فلا يفتح له". ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: { لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ [ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ] } (1) الآية.
هكذا رواه، وهو قطعة من حديث طويل رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، من طرق، عن المنهال بن عمرو، به (2) وقد رواه الإمام أحمد بطوله فقال:
حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن مِنْهَال بن عمرو، عن زاذان، عن البراء بن عازب [رضي الله عنه] (3) قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولَمَّا يُلْحَد. فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأن على رءوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به في الأرض، فرفع رأسه فقال: "استعيذوا بالله من عذاب القبر". مرتين أو ثلاثًا ثم قال: "إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال إلى الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحَنُوط من حَنُوط الجنة، حتى يجلسوا منه مدّ بصره. ثم يجيء ملك الموت، حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة (4) اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان".
قال: "فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها فإذا أخذها لم يَدَعوها (5) في يده طرفة عين، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط. ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض. فيصعدون بها فلا يمرون -يعني-بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة، فيقول الله، عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عِليِّين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى".
__________
(1) زيادة من ك، م، أ.
(2) تفسير الطبري (12/424)، وسنن أبي داود برقم (4753)، وسنن النسائي (4/78)، وسنن ابن ماجة برقم (1548).
(3) زيادة من ك، أ.
(4) في ك، م: "المطمئنة".
(5) في ك: "يدعها".  (3/412)


قال: "فتعاد روحه، فيأتيه مَلَكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله. فيقولان له ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت. فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة". "فيأتيه (1) من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مَدّ بصره".


قال: "ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسُرك، هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير. فيقول: أنا عملك الصالح. فيقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي".


قال: "وإن العبد الكافر، إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة (2) نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم (3) المسوح، فيجلسون منه مَدّ البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط الله وغضب". قال: "فَتُفَرّق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السَّفُّود من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يَدَعُوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض. فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان ابن فلان، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي به إلى السماء الدنيا، فيستفتح له، فلا يفتح (4) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: { لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ } فيقول الله، عز وجل: اكتبوا كتابه في سجّين في الأرض السفلى. فتطرح روحه طرحا". ثم قرأ: { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } [ الحج:31 ] "فتعاد روحه في جسده. ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه! لا أدري. فيقولان (5) ما دينك؟ فيقول: هاه هاه! لا أدري فيقولان (6) ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه ! لا أدري. فينادي مناد من السماء: أن كذب، فأفرشوه من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار. فيأتيه من حَرّها وسمومها، ويُضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك؛ هذا يومك الذي كنت توعد فيقول: من (7) أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر. فيقول: أنا عملك الخبيث. فيقول: رب لا تقم الساعة" (8)
__________
(1) في ك، م، أ: "قال: فيأتيه".
(2) في م: "إذا كان في انقطاع عن الآخرة وإقبال من الدنيا".
(3) في م: "معهم السياط".
(4) في م، أ: "فلا يفتح له".
(5) في م، أ: "فيقولان له".
(6) في م، أ: "فيقولان له".
(7) في م: "ومن".
(8) المسند (4/287).
(3/413)
وقال أحمد أيضا: حدثنا عبد الرزاق، حدثنا مَعْمَر، عن يونس بن خَبَّاب، عن المِنْهال بن عمرو، عن زاذان، عن البراء بن عازب قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة، فذكر نحوه.
وفيه: "حتى إذا خرج روحه صلى عليه كل ملك من السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وفتحت له أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله، عز وجل، أن يعرج بروحه من قبلهم".
وفي آخره: "ثم يقيض له أعمى أصم أبكم، في يده مَرْزَبَّة لو ضرب بها جبل كان ترابًا، فيضربه ضربة فيصير ترابًا، ثم يعيده الله، عز وجل، كما كان، فيضربه ضربة أخرى فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين". قال البراء: "ثم يفتح له باب من النار، ويمهد له فرش من النار" (1)
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجه وابن جرير -واللفظ له -من حديث محمد بن عمرو بن عطاء، عن سعيد بن يَسَار، عن أبي هريرة [رضي الله عنه] (2) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الميت تحضره الملائكة، فإذا كان الرجل الصالح قالوا: اخرجي أيتها النفس المطمئنة كانت في الجسد الطيب، اخرجي حَمِيدة، وأبشري برَوْح وريحان، ورب غير غضبان، فيقولون ذلك حتى يُعْرج بها إلى السماء، فيستفتح لها، فيقولون: من هذا؟ فيقولون: فلان. فيقال: مرحبًا بالنفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب، ادخلي حميدة، وأبشري برَوْح وريحان، ورب غير غضبان، فيقال لها ذلك حتى ينتهى به إلى السماء التي فيها الله، عز وجل. وإذا كان الرجل السَّوْء قالوا: اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، اخرجي ذميمة، وأبشري بحميم وغَسّاق، وآخر من شكله أزواج، فيقولون ذلك حتى تخرج، ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها، فيقال: من هذا؟ فيقولون: فلان. فيقولون: لا مرحبًا بالنفس الخبيثة التي كانت في الجسد الخبيث، ارجعي ذميمة، فإنه لم تفتح (3) لك أبواب السماء، فترسل بين السماء والأرض، فتصير إلى القبر" (4)
وقد قال ابن جُرَيج في قوله: { لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ } قال: لا تفتح لأعمالهم، ولا لأرواحهم.
وهذا فيه جمع بين القولين، والله أعلم.
وقوله: { وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ } هكذا قرأه (5) الجمهور، وفسروه بأنه البعير. قال ابن مسعود: هو الجمل ابن الناقة. وفي رواية: زوج الناقة. وقال الحسن البصري: حتى يدخل البعير في خُرْق الإبرة. وكذا قال أبو العالية، والضحاك. وكذا روى علي بن أبي طلحة، والعَوْفي عن ابن عباس.
__________
(1) المسند (4/295).
(2) زيادة من أ.
(3) في ك: "يفتح".
(4) المسند (2/364) وسنن النسائي الكبرى برقم (11442) وسنن ابن ماجة برقم (4262) وتفسير الطبري (12/424).
(5) في د، ك، م: "فسره".  (3/414)


وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
وقال مجاهد، وعكرمة، عن ابن عباس: أنه كان يقرؤها: "[حتى] (1) يلج الجُمَّل في سم الخياط" بضم الجيم، وتشديد الميم، يعني: الحبل الغليظ في خرم الإبرة.
وهذا اختيار سعيد بن جبير. وفي رواية أنه قرأ: "حتى يلج الجُمَّل" يعني: قُلُوس السفن، وهي الحبال الغلاظ.
وقوله: { لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ [ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ] } (2) قال محمد بن كعب القُرَظِي: { لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ } قال: الفرش، { وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } قال: اللحُفُ.
وكذا قال الضحاك بن مُزاحِم، والسُّدِّي، { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) }
لما ذكر تعالى حال الأشقياء (3) عطف بذكر حال السعداء، فقال: { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي: آمنت قلوبهم وعملوا الصالحات بجوارحهم، ضد أولئك الذين كفروا بآيات الله، واستكبروا عنها.
وينبه (4) تعالى على أن الإيمان والعمل به سهل؛ لأنه تعالى قال: { لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ . وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ } أي: من حسد وبغضاء، كما جاء في الصحيح للبخاري، من حديث قتادة، عن أبي المتوكِّل الناجي، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا خلص المؤمنون من النار حُبِسوا على قنطرة بين الجنة والنار، فاقتص لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هُذبوا ونقوا، أذن لهم في دخول الجنة؛ فوالذي نفسي بيده، إن أحدهم بمنزله في الجنة أدلّ منه بمسكنه كان في الدنيا" (5)
وقال السُّدِّي في قوله: { وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ } الآية: إن أهل الجنة إذا سبقوا إلى الجنة فبلغوا، وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان، فشربوا (6) من إحداهما، فينزع ما في صدورهم من غل، فهو "الشراب الطهور"، واغتسلوا من الأخرى، فجرت عليهم "نضرة النعيم" فلم يشعثوا ولم يشحبوا بعدها أبدًا.
__________
(1) زيادة من ك، م، أ.
(2) زيادة من، م ، أ.
(3) في أ: "ما للأشقياء".
(4) في م، أ: "ونبه".
(5) صحيح البخاري برقم (2440).
(6) في م: "فيشربون".  (3/415)


وقد روى أبو إسحاق، عن عاصم، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب نحوًا من ذلك (1) كما سيأتي في قوله تعالى: { وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا } [ الزمر : 73 ] إن شاء الله، وبه الثقة وعليه التكلان.
وقال قتادة: قال علي، رضي الله عنه: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم: { وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ } رواه ابن جرير.
وقال عبد الرزاق: أخبرنا ابن عيينة، عن إسرائيل قال: سمعت الحسن يقول: قال علي: فينا والله أهل بدر نزلت: { وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ } (2)
وروى النسائي وابن مَرْدُويه -واللفظ له -من حديث أبي بكر بن عياش، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول: لولا أن الله هداني، فيكون له شكرًا. وكل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول: لو أن الله هداني فيكون له حسرة" (3)
ولهذا لما أورثوا مقاعد أهل النار من الجنة نودوا: { أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي: بسبب أعمالكم نالتكم الرحمة فدخلتم الجنة، وتبوأتم منازلكم بحسب أعمالكم. وإنما وجب الحمل على هذا لما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "واعلموا أن أحدكم (4) لن يدخله عمله الجنة". قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا، إلا أن يَتَغَمَّدَنِي الله برحمة منه وفضل" (5)
__________
(1) في ك، م، أ: "هذا".
(2) تفسير عبد الرزاق (1/217).
(3) سنن النسائي الكبرى كما في تحفة الأشراف للمزي برقم (12492) ورواه أحمد في مسنده (2/512) والحاكم في المستدرك (2/435) من طريق أبي بكر بن عياش به، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
(4) في أ: "أحدا".
(5) صحيح البخاري برقم (6463) وصحيح مسلم برقم (2816) من حديث أبي هريرة، رضي الله عنه.
(3/416)

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

البرص و العميان-أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ

البرص و العميان-أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ  المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله عليه محمد وسلم وهب الله لك حسن الاستماع وأشعر ...