Translate

الجمعة، 20 مايو 2022

ج4. الروض الأنف للسهيلي -الْوَلِيدُ وَأَبُو أُزَيْهِرٍ

 

ج4. الروض الأنف الْوَلِيدُ وَأَبُو أُزَيْهِرٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا حَضَرَتْ الْوَلِيدَ الْوَفَاةُ دَعَا بَنِيهِ وَكَانُوا ثَلَاثَةً هِشَامَ بْنَ الْوَلِيدِ وَالْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ ، وَخَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ ، فَقَالَ لَهُمْ أَيْ بَنِيّ أُوصِيكُمْ بِثَلَاثِ فَلَا تُضَيّعُوا فِيهِنّ دَمِي فِي خُزَاعَةَ ، فَلَا تَطُلّنّهُ وَاَللّهِ إنّي لَأَعْلَمُ أَنّهُمْ مِنْهُ بُرَآءُ وَلَكِنّي أَخْشَى أَنْ تُسَبّوا بِهِ بَعْدَ الْيَوْمِ وَرِبَايَ فِي ثَقِيفٍ ، فَلَا تَدَعُوهُ حَتّى تَأْخُذُوهُ وَعُقْرِى عِنْدَ أَبِي أُزَيْهِر ٍ فَلَا يَفُوتَنّكُمْ بِهِ . وَكَانَ أَبُو أُزَيْهِر ٍ قَدْ زَوّجَهُ بِنْتًا ، ثُمّ أَمْسَكَهَا عَنْهُ فَلَمْ يُدْخِلْهَا عَلَيْهِ حَتّى مَاتَ . فَلَمّا هَلَكَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ، وَثَبَتْ بَنُو مَخْزُومٍ عَلَى خُزَاعَةَ يَطْلُبُونَ مِنْهُمْ عَقْلَ الْوَلِيدِ وَقَالُوا : إنّمَا قَتَلَهُ سَهْمُ صَاحِبِكُمْ - وَكَانَ لِبَنِي كَعْبٍ حِلْفٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ - فَأَبَتْ عَلَيْهِمْ خُزَاعَةُ ذَلِكَ حَتّى تَقَاوَلُوا أَشْعَارًا ، وَغَلُظَ بَيْنَهُمْ [ ص 217 ] وَكَانَ الّذِي أَصَابَ الْوَلِيدَ سَهْمُهُ رَجُلًا مِنْ بَنِي كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو مِنْ خُزَاعَةَ - فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ :
إنّي زَعِيمٌ أَنْ تَسِيرُوا ، فَتَهْرُبُوا ... وَأَنْ تَتْرُكُوا الظّهْرَانَ تَعْوِي ثَعَالِبُهْ
وَأَنْ تَتْرُكُوا مَاءً بِجِزْعَةِ أَطْرِقَا ... وَأَنْ تَسْأَلُوا : أَيّ الْأَرَاكِ أَطَايِبُهْ ؟
فَإِنّا أُنَاسٌ لَا تُطَلّ دِمَاؤُنَا ... وَلَا يَتَعَالَى صَاعِدًا مَنْ نُحَارِبُهْ
وَكَانَتْ الظّهْرَانُ وَالْأَرَاكُ مَنَازِلَ بَنِي كَعْبٍ مِنْ خُزَاعَةَ . فَأَجَابَهُ الْجَوْنُ بْنُ أَبِي الْجَوْنِ أَخُو بَنِي كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو الْخُزَاعِيّ ، فَقَالَ
وَاَللّهِ لَا نُؤْتِي الْوَلِيدَ ظُلَامَةً ... وَلَمّا قَرّوا يَوْمًا تَزُولُ كَوَاكِبُهْ
وَيُصْرَعُ مِنْكُمْ مُسْمِنٌ بَعْدَ مُسْمِنٍ ... وَتُفْتَحُ بَعْدَ الْمَوْتِ قَسْرًا مَشَارِبُهْ
إذَا مَا أَكَلْتُمْ خُبْزَكُمْ وَخَزِيرَكُمْ ... فَكُلّكُمْ بَاكِي الْوَلِيدِ وَنَادِبُهْ
ثُمّ إنّ النّاس تَرَادّوا وَعَرَفُوا أَنّمَا يَخْشَى الْقَوْمُ السّبّةَ فَأَعْطَتْهُمْ خُزَاعَةُ بَعْضَ الْعَقْلِ وَانْصَرَفُوا عَنْ بَعْضٍ . فَلَمّا اصْطَلَحَ الْقَوْمُ قَالَ الْجَوْنُ بْنُ أَبِي الْجَوْنِ [ ص 218 ]
وَقَائِلَةٍ لَمّا اصْطَلَحْنَا تَعَجّبًا ... لِمَا قَدْ حَمَلْنَا لِلْوَلِيدِ وَقَائِلِ
أَلَمْ تُقْسِمُوا تُؤْتُوا الْوَلِيدَ ظُلَامَةً ... وَلَمّا تَرَوْا يَوْمًا كَثِيرَ الْبَلَابِلِ
فَنَحْنُ خَلَطْنَا الْحَرْبَ بِالسّلْمِ فَاسْتَوَتْ ... فَأَمّ هَوَاهُ آمِنًا كُلّ رَاحِلِ
ثُمّ لَمْ يَنْتَهِ الْجَوْنُ بْنُ أَبِي الْجَوْنِ حَتّى افْتَخَرَ بِقَتْلِ الْوَلِيدِ وَذَكَرَ أَنّهُمْ أَصَابُوهُ وَكَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا . فَلَحِقَ بِالْوَلِيدِ وَبِوَلَدِهِ وَقَوْمِهِ مِنْ ذَلِكَ مَا حَذّرَهُ . فَقَالَ الْجَوْنُ بْنُ أَبِي الْجَوْنِ [ ص 219 ]
أَلَا زَعَمَ الْمُغِيرَةُ أَنّ كَعْبًا ... بِمَكّةَ مِنْهُمْ قَدْرٌ كَثِيرُ
فَلَا تَفْخَرْ مُغِيرَةُ أَنْ تَرَاهَا ... بِهَا يَمْشِي الْمُعَلْهَجُ وَالْمَهِيرُ
بِهَا آبَاؤُنَا ، وَبِهَا وُلِدْنَا ... كَمَا أَرْسَى بِمَثْبَتِهِ ثَبِيرُ
وَمَا قَالَ الْمُغِيرَةُ ذَلِكَ إلّا ... لِيَعْلَمَ شَأْنَنَا أَوْ يَسْتَثِيرُ
فَإِنّ دَمَ الْوَلِيدِ يُطَلّ إنّا ... نَطُلّ دِمَاءً أَنْتَ بِهَا خَبِيرُ
كَسَاهُ الْفَاتِكُ الْمَيْمُونُ سَمّهِمَا ... زُعَافًا وَهْوَ مُمْتَلِئٌ بَهِيرُ
فَخَرّ بِبَطْنِ مَكّةَ مُسْلَحِبّا ... كَأَنّهُ عِنْدَ وَجْبَتِهِ بَعِيرُ
سَيَكْفِينِي مِطَالَ أَبِي هِشَامٍ ... صِغَارٌ جَعْدَةُ الْأَوْبَارِ خُورُ
[ ص 220 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : تَرَكْنَا مِنْهَا بَيْتًا وَاحِدًا أَقْذَعَ فِيهِ .
ثَوْرَةٌ لِمَقْتَلِ أَبِي أُزَيْهِرٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ عَدَا هِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى أَبِي أُزَيْهِرٍ وَهُوَ بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ وَكَانَ عِنْدَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْب ٍ بِنْتُ أُزَيْهِرٍ وَكَانَ أَبُو أُزَيْهِر ٍ رَجُلًا شَرِيفًا فِي قَوْمِهِ - فَقَتَلَهُ بِعُقْرِ الْوَلِيدِ الّذِي كَانَ عِنْدَهُ لِوَصِيّةِ أَبِيهِ إيّاهُ وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ هَاجَرَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى الْمَدِينَةِ وَمَضَى بَدْرٌ ، وَأُصِيبَ بِهِ مَنْ أُصِيبَ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَخَرَجَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ فَجَمَعَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَأَبُو سُفْيَانَ بِذِي الْمَجَازِ فَقَالَ النّاسُ أُخْفِرَ أَبُو سُفْيَانَ فِي صِهْرِهِ فَهُوَ ثَائِرٌ بِهِ ، فَلَمّا سَمِعَ أَبُو سُفْيَانَ بِاَلّذِي صَنَعَ ابْنُهُ يَزِيدُ - وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ رَجُلًا حَلِيمًا مُنْكَرًا ، يُحِبّ قَوْمَهُ حُبّا شَدِيدًا - انْحَطّ سَرِيعًا إلَى مَكّةَ ، وَخَشِيَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ قُرَيْشٍ حَدَثٌ فِي أَبِي أُزَيْهِرٍ فَأَتَى ابْنَهُ وَهُوَ فِي الْحَدِيدِ فِي قَوْمِهِ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَالْمُطَيّبِينَ فَأَخَذَ الرّمْحَ مِنْ يَدِهِ ثُمّ ضَرَبَ بِهِ عَلَى رَأْسِهِ ضَرْبَةً هَدّهُ مِنْهَا ، ثُمّ قَالَ لَهُ قَبّحَك اللّهُ أَتُرِيدُ أَنْ تَضْرِبَ قُرَيْشًا بَعْضَهُمْ بِبَعْضِ فِي رَجُلٍ مِنْ دَوْسٍ . سَنُؤْتِيهِمْ الْعَقْلَ إنْ قَبِلُوهُ وَأَطْفَأَ ذَلِكَ الْأَمْرَ . فَانْبَعَثَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يُحَرّضُ فِي دَمِ أَبِي أُزَيْهِرٍ وَيُعَيّرُ أَبَا سُفْيَانَ خُفْرَتَهُ وَيُجْبِنُهُ فَقَالَ
غَدَا أَهْلُ ضَوْجَيْ ذِي الْمَجَازِ كِلَيْهِمَا ... وَجَارُ ابْنِ حَرْبٍ بِالْمُغَمّسِ مَا يَغْدُو
وَلَمْ يَمْنَعْ الْعَيْرُ الضّرُوطُ ذِمَارَهُ ... وَمَا مَنَعَتْ مَخْزَاةَ وَالِدِهَا هِنْدُ
كَسَاك هِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ ثِيَابَهُ ... فَأَبْلِ وَأَخْلِفْ مِثْلَهَا جُدُدًا بَعْدُ
قَضَى وَطَرًا مِنْهُ فَأَصْبَحَ مَاجِدًا ... وَأَصْبَحْت رَخْوًا مَا تَخُبّ وَمَا تَعْدُو
فَلَوْ أَنّ أَشْيَاخًا بِبَدْرِ تَشَاهَدُوا ... لَبَلّ نِعَالَ الْقَوْمِ مُعْتَبِطٌ وَرْدُ
[ ص 221 ] أَبَا سُفْيَانَ قَوْلُ حَسّانَ قَالَ يُرِيدُ حَسّانُ أَنْ يَضْرِبَ بَعْضُنَا بِبَعْضِ فِي رَجُلٍ مِنْ دَوْسٍ بِئْسَ وَاَللّهِ مَا ظَنّ
آيَةُ الرّبَا مِنْ الْبَقَرَةِ
وَلَمّا أَسْلَمَ أَهْلُ الطّائِفِ كَلّمَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي رِبَا الْوَلِيدِ الّذِي كَانَ فِي ثَقِيفٍ ، لِمَا كَانَ أَبُوهُ أَوْصَاهُ بِهِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَذَكَرَ لِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ مِنْ تَحْرِيمِ مَا بَقِيَ مِنْ الرّبَا بِأَيْدِي النّاسِ نَزَلْنَ فِي ذَلِكَ مِنْ طَلَبِ خَالِدٍ الرّبَا : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [ الْبَقَرَةَ 278 ] إلَى آخِرِ الْقِصّةِ فِيهَا [ ص 222 ]
الْهَمّ بِأَخْذِ ثَأْرِ أَبِي أُزَيْهِرٍ
وَلَمْ يَكُنْ فِي أَبِي أُزَيْهِرٍ ثَأْرٌ نَعْلَمُهُ حَتّى حَجَزَ الْإِسْلَامُ بَيْنَ النّاسِ إلّا أَنّ ضِرَارَ بْنَ الْخَطّابِ بْنِ مِرْدَاسٍ الْفِهْرِيّ خَرَجَ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ إلَى أَرْضِ دَوْسٍ ، فَنَزَلُوا عَلَى امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا أُمّ غَيْلَانَ مَوْلَاةٍ لِدَوْسِ وَكَانَتْ تَمْشُطُ النّسَاءَ وَتُجَهّزُ الْعَرَائِسَ فَأَرَادَتْ دَوْسٌ قَتْلَهُمْ بِأَبِي أُزَيْهِرٍ فَقَامَتْ دُونَهُمْ أُمّ غَيْلَانَ وَنِسْوَةٌ مَعَهُمْ حَتّى مَنَعَتْهُمْ فَقَالَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ فِي ذَلِكَ
جَزَى اللّهُ عَنّا أُمّ غَيْلَانَ صَالِحًا ... وَنِسْوَتَهَا إذْ هُنّ شُعْثٌ عَوَاطِلُ
فَهُنّ دَفَعْنَ الْمَوْتَ بَعْدَ اقْتِرَابِهِ ... وَقَدْ بَرَزَتْ لِلثّائِرِينَ الْمَقَاتِلُ
دَعَتْ دَعْوَةً دَوْسًا فَسَالَتْ شِعَابُهَا ... بِعِزّ وَأَدّتْهَا الشّرَاجُ الْقَوَابِلُ
وَعَمْرًا جَزَاهُ اللّهُ خَيْرًا فَمَا وَنَى ... وَمَا بَرَدَتْ مِنْهُ لَدَيّ الْمَفَاصِلُ
فَجَرّدْت سَيْفِي ثُمّ قُمْت بِنَصْلِهِ ... وَعَنْ أَيّ نَفْسٍ بَعْدَ نَفْسِي أُقَاتِلُ
عَمَلُ أُمّ غَيْلَانَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ أَنّ الّتِي قَامَتْ دُونَ ضِرَارٍ أُمّ جَمِيلٍ وَيُقَالُ أُمّ غَيْلَانَ قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أُمّ غَيْلَانَ قَامَتْ مَعَ أُمّ جَمِيلٍ فِيمَنْ قَامَ دُونَهُ . فَلَمّا قَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ أَتَتْهُ أُمّ جَمِيلٍ وَهِيَ تَرَى أَنّهُ أَخُوهُ فَلَمّا انْتَسَبَتْ لَهُ عَرَفَ الْقِصّةَ فَقَالَ إنّي لَسْت بِأَخِيهِ إلّا فِي الْإِسْلَامِ ، وَهُوَ غَازٍ وَقَدْ عَرَفْت مِنّتَك عَلَيْهِ فَأَعْطَاهَا عَلَى أَنّهَا ابْنَةُ سَبِيلٍ . [ ص 223 ] قَالَ الرّاوِي : قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَكَانَ ضِرَارٌ لَحِقَ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ يَوْمَ أُحُدٍ ، فَجَعَلَ يَضْرِبُهُ بِعَرْضِ الرّمْحِ وَيَقُولُ اُنْجُ يَا بْنَ الْخَطّابِ لَا أَقْتُلُك ، فَكَانَ عُمَرُ يَعْرِفُهَا لَهُ بَعْدَ إسْلَامِهِ [ ص 216 ]
Sحَدِيثُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ وَفَاةَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَقَوْلَهُ لِبَنِيهِ وَعُقْرِى عِنْدَ أَبِي أُزَيْهِرٍ الدّوْسِيّ لَا تَدَعُوهُ . الْعُقْرُ دِيَةُ الْفَرْجِ الْمَغْصُوبِ وَأَصْلُهُ فِي الْبِكْرِ مِنْ أَجْلِ التّدْمِيَةِ وَمِنْهُ عَقَرَ السّرْجُ الْفَرَسَ : إذَا أَدْمَاهُ وَبَيْضَةُ الْعُقْرِ مِنْهُ لِأَنّهُمْ كَانُوا يَقِيسُونَ الْبِكْرَ بِالْبَيْضَةِ لِيَعْرِفُوا بُكُورَتَهَا ، وَقِيلَ عُقْرٌ بِضَمّ الْعَيْنِ لِأَنّهُ بِمَعْنَى بُضْعٍ .
عَنْ مَقْتَلِ أَبِي أُزَيْهِرٍ وَمَوْقِفِ دَوْسٍ
وَذَكَرَ قَتْلَ هِشَامِ بْنِ الْوَلِيدِ لِأَبِي أُزَيْهِرٍ وَخَبَرَ أُمّ غَيْلَانَ مَعَ ضِرَارٍ حِينَ أَجَارَتْهُ وَمِنْ تَمَامِ الْخَبَرِ : أَنّ دَوْسًا لَمّا بَلَغَهَا مَقْتَلُ أَبِي أُزَيْهِرٍ الدّوْسِيّ وَثَبَتْ عَلَى رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا عِنْدَهُمْ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ بُجَيْرَ بْنَ الْعَوّامِ أَخَا الزّبَيْرِ وَأَرَادُوا قَتْلَ ضِرَارِ بْنِ الْخَطّابِ ، فَأَجَارَتْهُ أُمّ غَيْلَانَ وَابْنُهَا عَوْفٌ قَالَ ضِرَارٌ : لَقَدْ أَدْخَلَتْنِي بَيْنَ دِرْعِهَا وَبَدَنِهَا ، حَتّى إنّي لَأَجِدُ تَسْبِيدَ رُكَبِهَا ، وَالتّسْبِيدُ مَوْضِعُ الْحَلْقِ مِنْ الشّعْرِ وَكَانَ الّذِي قَتَلَ بُجَيْرًا صَبِيحُ بْنُ سَعْدٍ أَوْ مَلِيحُ بْنُ سَعْدٍ جَدّ أَبِي هُرَيْرَةَ لِأُمّهِ لِأَنّ أُمّهُ أُمَيْمَةُ بِنْتُ مَلِيحٍ أَوْ صَبِيحٍ . فَصْلٌ وَذَكَرَ [ ص 217 ] عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَفِيهِ وَأَنْ تَتْرُكُوا مَاءً بِجِزْعَةِ أَطْرِقَا
وَالْجِزْعَةُ وَالْجَزْعُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ وَهُوَ مُعْظَمُ الْوَادِي ، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيّ : هُوَ مَا انْثَنَى مِنْهُ وَأَطْرِقَا اسْمُ عَلَمٍ لِمَوْضِعِ سُمّيَ بِفِعْلِ الْأَمْرِ لِلِاثْنَيْنِ فَهُوَ مَحْكِيّ لَا يُعْرَبُ وَقِيلَ إنّ أَصْلَ تَسْمِيَتِهِ بِذَلِكَ أَنّ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ مَرّوا بِهَا خَائِفِينَ فَسَمِعَ أَحَدُهُمْ صَوْتًا ، فَقَالَ لِصَاحِبَيْهِ أَطْرِقَا ، أَيْ أَنْصِتَا ، حَتّى نَرَى مَا هَذَا الصّوْتُ فَسُمّيَ الْمَكَانُ بِأَطْرِقَا ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَذَكَرَ شِعْرَ الْجَوْنِ بْنِ أَبِي الْجَوْنِ وَفِيهِ [ ص 218 ] أَلَمْ تُقْسِمُوا تُؤْتُوا الْوَلِيدَ ظُلَامَةً
أَرَادَ أَنْ تُؤْتُوا ، وَمَعْنَاهُ أَنْ لَا تُؤْتُوا كَمَا جَاءَ فِي التّنْزِيلِ { يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلّوا } [ النّسَاءَ : 176 ] فِي قَوْلِ طَائِفَةٍ وَمَعْنَاهُ عِنْدِي : كَرِهَ لَكُمْ أَنْ تَضِلّوا ، وَقَدْ قَدّمْنَا فِي الْجُزْءِ قَبْلَ هَذَا كَلَامًا عَلَى أَنْ وَمُقْتَضَاهَا وَشَيْئًا مِنْ أَسْرَارِهَا فِيهِ غُنْيَةٌ وَإِذَا كَانَ الْكَلَامُ مَحْمُولًا عَلَى مَعْنَاهُ فَالنّصْبُ جَائِزٌ وَالرّفْعُ جَائِزٌ أَيْضًا ، كَمَا أَنْشَدُوا : أَلَا أَيّهَذَا الزّاجِرِي أَحْضُرَ الْوَغَى
بِنَصْبِ أَحْضُرَ وَرَفْعِهِ وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : وَنَهْنَهَتْ نَفْسِي بَعْدَمَا كِدْت أَفْعَلَهُ
يُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَهُ وَإِذَا رَفَعْت فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَمْ يُذْهِبْ الرّفْعُ مَعْنَى أَنْ فَقَدْ حَكَى سِيبَوَيْهِ : مُرْهُ يَحْفِرُهَا ، وَقَدّرَهُ تَقْدِيرَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنْ يُرِيدَ الْحَالَ أَيْ مُرْهُ حَافِرًا لَهَا ، وَالثّانِي : أَنْ يُرِيدَ مُرْهُ أَنْ يَحْفِرَهَا ، وَارْتَفَعَ الْفِعْلُ لَمّا ذَهَبَتْ أَنْ مِنْ اللّفْظِ وَبَيّنَ ابْنُ جِنّيّ الْفَرْقَ بَيْنَ التّقْدِيرَيْنِ وَقَالَ إذَا نَوَيْت أَنْ فَالْفِعْلُ مُسْتَقْبَلٌ وَإِذَا لَمْ تَنْوِهَا فَالْفِعْلُ حَاضِرٌ وَهَاهُنَا مَسْأَلَةٌ مِنْ الْعَرَبِ ذَكَرَهَا الطّبَرِيّ ، قَالَ الْعَرَبُ تَقُولُ لِمَنْ تَوَجّهَ فِي أَمْرٍ تَصْنَعُ مَاذَا وَتَفْعَلُ مَاذَا ؟ عَلَى تَقْدِيرِ تُرِيدُ أَنْ تَصْنَعَ مَاذَا ، فَإِذَا قَالُوا : تُرِيدُ مَاذَا لَمْ يَكُنْ إلّا رَفْعًا ، لِأَنّ الْمَعْنَى الّذِي يَجْلِبُ مَعْنَى أَنْ النّاصِبَةِ لَيْسَ فِي قَوْلِهِ تُرِيدُ إذْ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ تَقُولَ تُرِيدُ أَنْ تُرِيدَ مَاذَا ، يَعْنِي : أَنّ الْإِرَادَةَ لَا تُرَادُ .
شِعْرُ الْجَوْنِ
وَذَكَرَ [ ص 219 ] بِهَا يَمْشِي الْمُعَلْهَجُ وَالْمَهِيرُ
الْمَهِيرُ ابْنُ الْمَهُورَةِ الْحُرّةِ وَالْمُعَلْهَجُ الْمُتَرَدّدُ فِي الْإِمَاءِ كَأَنّهُ مَنْحُوتٌ مِنْ أَصْلَيْنِ مِنْ الْعِلْجِ لِأَنّ الْأَمَةَ عِلْجَةٌ وَمِنْ اللّهَجِ كَأَنّ وَاطِئَ الْأَمَةِ قَدْ لَهِجَ بِهَا ، فَنَحَتَ لَفْظَ الْمُعَلْهَجِ مِنْ هَذَيْنِ اللّفْظَيْنِ . وَفِيهِ كَمَا أَرْسَى بِمَثْبَتِهِ ثَبِيرُ
كَذَا صَحّتْ الرّوَايَةُ فِي أَرْسَى بِالتّخْفِيفِ وَهُوَ زِحَافٌ دَاخِلٌ عَلَى زِحَافٍ لِأَنّ تَسْكِينَ اللّامِ مِنْ مُفَاعَلَتَنْ فِي الْوَافِرِ زِحَافٌ وَلَكِنّهُ حَسَنٌ كَثِيرٌ فَلَمّا كَثُرَ شَبّهَهُ هَذَا الشّاعِرُ بِمَفَاعِيلَ لِأَنّهُ عَلَى وَزْنِهِ وَمَفَاعِيلُنْ يَحْسُنُ حَذْفُ الْيَاءِ مِنْهَا فِي الطّوِيلِ فَيَصِيرُ فَعُولُنْ مَفَاعِلُنْ فَلِذَلِكَ أَدْخَلَ هَذَا الشّاعِرُ الزّحَافَ عَلَى مُفَاعَلْتُنْ لِأَنّهُ بَعْدَ السّكُونِ فِي وَزْنِ مَفَاعِيلُنْ الّتِي تُحْذَفُ يَاؤُهَا حَذْفًا مُسْتَحْسَنًا ، فَتَدَبّرْهُ فَإِنّهُ مَلِيحٌ فِي عِلْمِ الْعَرُوضِ [ ص 220 ]
مِنْ أَسْوَاقِ الْعَرَبِ
فَصْلٌ وَأَنْشَدَ لِحَسّانَ بْنِ ثَابِتٍ غَدَا أَهْلُ ضَوْجَيْ ذِي الْمَجَازِ بِسُحْرَةِ
ضَوْجُ الْوَادِي : جَانِبُهُ وَذُو الْمَجَازِ : سُوقٌ عِنْدَ عَرَفَةَ كَانَتْ الْعَرَبُ إذَا حَجّتْ أَقَامَتْ بِسُوقِ عُكَاظٍ شَهْرَ شَوّالٍ ثُمّ تَنْتَقِلُ إلَى سُوقِ مِجَنّةَ فَتُقِيمُ فِيهِ عِشْرِينَ يَوْمًا مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ ثُمّ تَنْتَقِلُ إلَى سُوقِ ذِي الْمَجَازِ فَتُقِيمُ فِيهِ إلَى أَيّامِ الْحَجّ وَكَانُوا يَتَفَاخَرُونَ فِي سُوقِ عُكَاظٍ [ ص 221 ] وَيُقَالُ عَكَظَ الرّجُلُ صَاحِبَهُ إذَا فَاخَرَهُ وَغَلَبَهُ بِالْمُفَاخَرَةِ فَسُمّيَتْ عُكَاظٌ لِذَلِكَ . وَذَكَرَ لَبَلّ نِعَالَ الْقَوْمِ مُعْتَبِطٌ وَرْدُ
يَعْنِي : الدّمَ الْعَبِيطَ .
مَا أَنْزَلَ اللّهُ فِي الرّبَا
فَصْلٌ وَذَكَرَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ فِي الرّبَا الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَقَدْ قَدّمْنَا فِي حَدِيثِ بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ لَا تُنْفِقُوا فِيهَا رِبَا وَلَا مَهْرَ بَغِيّ وَأَنّ فِي ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى قِدَمِ تَحْرِيمِهِ عَلَيْهِمْ فِي شَرْحِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ أَوْ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ وَذَلِكَ أَنّهُ مِنْ أَقْبَحِ الْأَعْمَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ هَدْمِ جَانِبِ الْمُرُوءَةِ وَإِيثَارِ الْحِرْصِ مَعَ بُعْدِ الْأَمَلِ وَنِسْيَانِ بَغْتَةِ الْأَجَلِ وَتَرْكِ التّوْسِعَةِ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ وَمَنْ تَأَمّلَ أَبْوَابَ الرّبَا لَاحَ لَهُ شَرّ التّحْرِيمِ مِنْ جِهَةِ الْجَشَعِ الْمَانِعِ مِنْ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ وَالذّرِيعَةِ إلَى تَرْكِ الْقَرْضِ وَمَا فِيهِ وَفِي التّوْسِعَةِ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَلِذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَهُ { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ } [ الْبَقَرَةَ 279 ] [ ص 222 ] قَالَتْ عَائِشَةُ لِأَمّ مَحَبّةَ مَوْلَاةِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ أَبْلِغِي زَيْدًا تَعْنِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنْ قَدْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ ذَكَرَتْ لَهَا عَنْهُ مَسْأَلَةً مِنْ الْبُيُوعِ تُشْبِهُ الرّبَا ، فَقَالَتْ أَبْطَلَ جِهَادَهُ وَلَمْ تَقُلْ صَلَاتَهُ وَلَا صِيَامَهُ لِأَنّ السّيّئَاتِ لَا تُحْبِطُ الْحَسَنَاتِ وَلَكِنْ خَصّتْ الْجِهَادَ بِالْإِبْطَالِ لِأَنّهُ حَرْبٌ لِأَعْدَاءِ اللّهِ وَآكِلُ الرّبَا قَدْ أُذِنَ بِحَرْبِ مِنْ اللّهِ فَهُوَ ضِدّهُ وَلَا يَجْتَمِعُ الضّدّانِ وَهَذَا مَعْنَى ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بَطّالٍ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ وَتِلْكَ الْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ فِي الْمُدَوّنَةِ لَكِنّ إسْنَادَهَا إلَى عَائِشَةَ ضَعِيفٌ [ ص 223 ]

مَا عَانَاهُ الرّسُولُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدَ وَفَاةِ أَبِي طَالِبٍ وَخَدِيجَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ وَأَبَا طَالِبٍ هَلَكَا فِي عَامٍ وَاحِدٍ فَتَتَابَعَتْ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَصَائِبُ بِهُلْكِ خَدِيجَةَ وَكَانَتْ لَهُ وَزِيرَ صِدْقٍ عَلَى الْإِسْلَامِ يَشْكُو إلَيْهَا ، وَبِهُلْكِ عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ وَكَانَ لَهُ عَضُدًا وَحِرْزًا فِي أَمْرِهِ وَمَنَعَةً وَنَاصِرًا عَلَى قَوْمِهِ وَذَلِكَ قَبْلَ مُهَاجَرِهِ إلَى الْمَدِينَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ . فَلَمّا هَلَكَ أَبُو طَالِبٍ نَالَتْ قُرَيْشٌ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْأَذَى مَا لَمْ تَكُنْ تَطْمَعُ بِهِ فِي حَيَاةِ أَبِي طَالِبٍ حَتّى اعْتَرَضَهُ سَفِيهٌ مِنْ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ ، فَنَثَرَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ [ ص 224 ] عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، قَالَ لَمّا نَثَرَ ذَلِكَ السّفِيهُ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ذَلِكَ التّرَابَ دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْتَهُ وَالتّرَابُ عَلَى رَأْسِهِ فَقَامَتْ إلَيْهِ إحْدَى بَنَاتِهِ فَجَعَلَتْ تَغْسِلُ عَنْهُ التّرَابَ وَهِيَ تَبْكِي ، وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ لَهَا : لَا تَبْكِي يَا بُنَيّةُ فَإِنّ اللّهَ مَانِعُ أَبَاك قَالَ وَيَقُولُ بَيْنَ ذَلِكَ مَا نَالَتْ مِنّي قُرَيْشٌ شَيْئًا أَكْرَهُهُ حَتّى مَاتَ أَبُو طَالِبٍ
مَا حَدَثَ بَيْنَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَ أَبِي طَالِبٍ وَالْمُشْرِكِينَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا اشْتَكَى أَبُو طَالِبٍ وَبَلَغَ قُرَيْشًا ثِقَلُهُ قَالَتْ قُرَيْشٌ بَعْضُهَا لِبَعْضِ إنّ حَمْزَةَ وَعُمَرَ قَدْ أَسْلَمَا وَقَدْ فَشَا أَمْرُ مُحَمّدٍ فِي قَبَائِلِ قُرَيْشٍ كُلّهَا ، فَانْطَلِقُوا بِنَا إلَى أَبِي طَالِبٍ فَلْيَأْخُذْ لَنَا عَلَى ابْنِ أَخِيهِ وَلْيُعْطِهِ مِنّا ، وَاَللّهِ مَا نَأْمَنُ أَنْ يَبْتَزّونَا أَمْرَنَا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَعْبَدٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ مَشَوْا إلَى أَبِي طَالِبٍ فَكَلّمُوهُ وَهُمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَأُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فِي رِجَالٍ مِنْ أَشْرَافِهِمْ فَقَالُوا : يَا أَبَا طَالِبٍ إنّك مِنّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْت ، وَقَدْ حَضَرَك مَا تَرَى ، وَتَخَوّفْنَا عَلَيْك ، وَقَدْ عَلِمْت الّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَ ابْنِ أَخِيك ، فَادْعُهُ فَخُذْ لَهُ مِنّا ، وَخُذْ لَنَا مِنْهُ لِيَكُفّ عَنّا ، وَنَكُفّ عَنْهُ وَلِيَدَعَنَا وَدِينَنَا ، وَنَدَعَهُ وَدِينَهُ فَبَعَثَ إلَيْهِ أَبُو طَالِبٍ فَجَاءَهُ فَقَالَ يَا ابْنَ أَخِي : هَؤُلَاءِ أَشْرَافُ قَوْمِك ، قَدْ اجْتَمَعُوا لَك ، لِيُعْطُوك ، وَلِيَأْخُذُوا مِنْك . قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَعَمْ كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ تُعْطُونِيهَا تَمْلِكُونَ بِهَا الْعَرَبَ ، وَتَدِينُ لَكُمْ بِهَا الْعَجَمُ . قَالَ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ نَعَمْ وَأَبِيك ، وَعَشْرَ كَلِمَاتٍ قَالَ تَقُولُونَ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَتَخْلَعُونَ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ . قَالَ فَصَفّقُوا بِأَيْدِيهِمْ ثُمّ قَالُوا : أَتُرِيدُ يَا مُحَمّدُ أَنْ تَجْعَلَ الْإِلَهَةَ إلَهًا وَاحِدًا . إنّ أَمْرَك لَعَجَبٌ ثُمّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ إنّهُ وَاَللّهِ مَا هَذَا الرّجُلُ بِمُعْطِيكُمْ شَيْئًا مِمّا تُرِيدُونَ فَانْطَلِقُوا ، وَامْضُوا عَلَى دِينِ آبَائِكُمْ حَتّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ . قَالَ ثُمّ تَفَرّقُوا .
الرّسُولُ يَرْجُو أَنْ يُسْلِمَ أَبُو طَالِبٍ
فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاَللّهِ يَا ابْنَ أَخِي ، مَا رَأَيْتُك سَأَلْتهمْ شَطَطًا ؛ فَلَمّا قَالَهَا أَبُو طَالِبٍ طَمِعَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي إسْلَامِهِ فَجَعَلَ يَقُولُ لَهُ أَيْ عَمّ فَأَنْتَ فَقُلْهَا ، أَسَتَحِلّ لَك بِهَا الشّفَاعَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . قَالَ فَلَمّا رَأَى حِرْصَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ [ ص 225 ] أَخِي ، وَاَللّهِ لَوْلَا مَخَافَةُ السّبّةِ عَلَيْك ، وَعَلَى بَنِي أَبِيك مِنْ بَعْدِي ، وَأَنْ تَظُنّ قُرَيْشٌ أَنّي قُلْتهَا جَزَعًا مِنْ الْمَوْتِ لَقُلْتهَا ، لَا أَقُولُهَا إلّا لِأَسُرّك بِهَا . قَالَ فَلَمّا تَقَارَبَ مِنْ أَبِي طَالِبٍ الْمَوْتُ قَالَ نَظَرَ الْعَبّاسُ إلَيْهِ يُحَرّكُ شَفَتَيْهِ قَالَ فَأَصْغَى إلَيْهِ بِأُذُنِهِ قَالَ فَقَالَ يَا ابْنَ أَخِي ، وَاَللّهِ لَقَدْ قَالَ أَخِي الْكَلِمَةَ الّتِي أَمَرْته أَنْ يَقُولَهَا ، قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ أَسْمَعْ [ ص 226 ]
Sوَفَاةُ أَبِي طَالِبٍ وَوَصِيّتُهُ
[ ص 224 ] ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ وَفَاةَ أَبِي طَالِبٍ إلَى آخِرِ الْقِصّةِ وَفِيهَا [ ص 225 ] قَالَ الْعَبّاسُ وَاَللّهِ لَقَدْ قَالَ أَخِي الْكَلِمَةَ الّتِي أَمَرْته بِهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَمْ أَسْمَعْ قَالَ الْمُؤَلّفُ شَهَادَةُ الْعَبّاسِ لِأَبِي طَالِبٍ لَوْ أَدّاهَا بَعْدَمَا أَسْلَمَ ، لَكَانَتْ مَقْبُولَةً وَلَمْ يُرَدّ بِقَوْلِهِ لَمْ أَسْمَعْ لِأَنّ الشّاهِدَ الْعَدْلَ إذَا قَالَ سَمِعْت ، وَقَالَ مَنْ هُوَ أَعْدَلُ مِنْهُ لَمْ أَسْمَعْ أُخِذَ بِقَوْلِ مَنْ أَثْبَتَ السّمَاعَ لِأَنّ عَدَمَ السّمَاعِ يَحْتَمِلُ أَسْبَابًا مَنَعَتْ الشّاهِدَ مِنْ السّمْعِ وَلَكِنّ الْعَبّاسَ شَهِدَ بِذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ مَعَ أَنّ الصّحِيحَ مِنْ الْأَثَرِ قَدْ أَثْبَتَ لِأَبِي طَالِبٍ الْوَفَاةَ عَلَى الْكُفْرِ وَالشّرْكِ وَأَثْبَتَ نُزُولَ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِ { مَا كَانَ لِلنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } [ التّوْبَةَ 113 ] وَثَبَتَ فِي الصّحِيحِ أَيْضًا أَنّ الْعَبّاسَ قَالَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ أَبَا طَالِبٍ كَانَ يَحُوطُك وَيَنْصُرُك ، وَيَغْضَبُ لَك ، فَهَلْ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ ؟ قَالَ نَعَمْ وَجَدْته فِي غَمَرَاتٍ مِنْ النّارِ فَأَخْرَجْته إلَى ضَحْضَاحٍ وَفِي الصّحِيحِ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ أَنّهُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - قَالَ لَعَلّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ النّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى : كَمَا يَغْلِي الْمِرْجَلُ بِالْقُمْقُمِ وَهِيَ مُشْكِلَةٌ وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ الْقُمْقُمُ هُوَ الْبُسْرُ الْأَخْضَرُ يُطْبَخُ فِي الْمِرْجَلِ اسْتِعْجَالًا لِنُضْجِهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَهْلُ الْحَاجَةِ وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ زِيَادَةٌ وَهِيَ أَنّهُ قَالَ يَغْلِي مِنْهَا دِمَاغُهُ حَتّى يَسِيلَ عَلَى قَدَمَيْهِ وَمِنْ بَابِ النّظَرِ فِي حِكْمَةِ اللّهِ وَمُشَاكَلَةِ الْجَزَاءِ لِلْعَمَلِ أَنّ أَبَا طَالِبٍ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ بِجُمْلَتِهِ مُتَحَزّيًا لَهُ إلّا أَنّهُ مُثَبّتٌ لِقَدَمَيْهِ عَلَى مِلّةِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، حَتّى قَالَ عِنْدَ الْمَوْتِ أَنَا عَلَى مِلّةِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، فَسُلّطَ الْعَذَابُ عَلَى قَدَمَيْهِ خَاصّةً لِتَثْبِيتِهِ إيّاهُمَا عَلَى مِلّةِ آبَائِهِ ثَبّتَنَا اللّهُ عَلَى الصّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ . وَذَكَرَ قَوْلَ اللّهِ تَعَالَى : { مَا كَانَ لِلنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ } [ التّوْبَةَ 113 ] وَقَدْ اسْتَغْفَرَ عَلَيْهِ السّلَامُ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ اللّهُمّ اغْفِرْ لِقَوْمِي ، فَإِنّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [ ص 226 ] عَمّهُ . وَكَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِهِ وَلَا يَصِحّ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي عَمّهِ نَاسِخَةً لِاسْتِغْفَارِهِ يَوْمَ أُحُدٍ ، لِأَنّ وَفَاةَ عَمّهِ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ بِمَكّةَ وَلَا يَنْسَخُ الْمُتَقَدّمُ الْمُتَأَخّرَ وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ هَذَا السّؤَالِ بِأَجْوِبَةِ أَنْ قِيلَ اسْتِغْفَارُهُ لِقَوْمِهِ مَشْرُوطٌ بِتَوْبَتِهِمْ مِنْ الشّرْكِ كَأَنّهُ أَرَادَ الدّعَاءَ لَهُمْ بِالتّوْبَةِ حَتّى يُغْفَرَ لَهُمْ وَيُقَوّي هَذَا الْقَوْلَ رِوَايَةُ مَنْ رَوَى : اللّهُمّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَقَدْ ذَكَرَهَا ابْنُ إسْحَاقَ ، رَوَاهَا عَنْهُ بَعْضُ رُوَاةِ الْكِتَابِ بِهَذَا اللّفْظِ وَقِيلَ مَغْفِرَةً تَصْرِفُ عَنْهُمْ عُقُوبَةَ الدّنْيَا فِي الْمَسْخِ وَالْخَسْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَوَجْهٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ تَأَخّرَ نُزُولُهَا ، فَنَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ نَاسِخَةً لِلِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ فَيَكُونُ سَبَبُ نُزُولِهَا مُتَقَدّمًا ، وَنُزُولُهَا مُتَأَخّرًا لَا سِيّمَا ، وَهِيَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ وَبَرَاءَةُ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ فَتَكُونُ عَلَى هَذَا نَاسِخَةً للاستغفارين جَمِيعًا ، وَفِي الصّحِيحِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - دَخَلَ عَلَى أَبِي طَالِبٍ عِنْدَ مَوْتِهِ وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ ، فَقَالَ يَا عَمّ قُلْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ كَلِمَةً أَشْهَدُ لَك بِهَا عِنْدَ اللّهِ فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ وَابْنُ أَبِي أُمَيّةَ أَتَرْغَبُ عَنْ مِلّةِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، فَقَالَ أَنَا عَلَى مِلّةِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ مَاتَ عَلَى الشّرْكِ وَوَجَدْت فِي بَعْضِ كُتُبِ الْمَسْعُودِيّ اخْتِلَافًا فِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَأَنّهُ قَدْ قَالَ فِيهِ مَاتَ مُسْلِمًا لِمَا رَأَى مِنْ الدّلَائِلِ عَلَى نُبُوّةِ مُحَمّدٍ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَعَلِمَ أَنّهُ لَا يُبْعَثُ إلّا بِالتّوْحِيدِ فَاَللّهُ أَعْلَمُ غَيْرَ أَنّ فِي مُسْنَدِ الْبَزّارِ ، وَفِي كِتَابِ النّسَوِيّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لِفَاطِمَةَ وَقَدْ عَزّتْ قَوْمًا مِنْ الْأَنْصَارِ عَنْ مَيّتِهِمْ لَعَلّك بَلَغْت مَعَهُمْ الْكُدَى ، وَيُرْوَى الْكُرَى بِالرّاءِ يَعْنِي : الْقُبُورَ فَقَالَتْ لَا ، فَقَالَ لَوْ كُنْت مَعَهُمْ الْكُدَى أَوْ كَمَا قَالَ مَا رَأَيْت الْجَنّةَ حَتّى يَرَاهَا جَدّ أَبِيك وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ حَتّى يَدْخُلَهَا جَدّ أَبِيك ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مَا دَخَلْت الْجَنّةَ وَفِي قَوْلِهِ جَدّ أَبِيك ، وَلَمْ يَقُلْ جَدّك يَعْنِي : أَبَاهُ تَوْطِئَةً لِلْحَدِيثِ الضّعِيفِ الّذِي قَدّمْنَا ذِكْرَهُ أَنّ اللّهَ أَحْيَا أُمّهُ وَأَبَاهُ وَآمَنَا بِهِ فَاَللّهُ أَعْلَمُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ تَخْوِيفَهَا بِقَوْلِهِ حَتّى يَدْخُلَهَا جَدّ أَبِيك فَتَتَوَهّمُ أَنّهُ الْجَدّ الْكَافِرُ وَمِنْ جُدُودِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ إسْمَاعِيلُ وَإِبْرَاهِيمُ لِأَنّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ حَقّ ، وَبُلُوغُهَا مَعَهُمْ الْكُدَى لَا يُوجِبُ خُلُودًا فِي النّارِ فَهَذَا مِنْ لَطِيفِ الْكِنَايَةِ فَافْهَمْهُ وَحُكِيَ عَنْ هِشَامِ بْنِ السّائِبِ أَوْ ابْنِهِ أَنّهُ قَالَ لَمّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَمَعَ إلَيْهِ وُجُوهَ قُرَيْشٍ ، فَأَوْصَاهُمْ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، أَنْتُمْ صَفْوَةُ اللّهِ مِنْ [ ص 227 ] الْعَرَبِ ، فِيكُمْ السّيّدُ الْمُطَاعُ وَفِيكُمْ الْمُقَدّمُ الشّجَاعُ وَالْوَاسِعُ الْبَاعِ وَاعْلَمُوا أَنّكُمْ لَمْ تَتْرُكُوا لِلْعَرَبِ فِي الْمَآثِرِ نَصِيبًا إلّا أَحْرَزْتُمُوهُ وَلَا شَرَفًا إلّا أَدْرَكْتُمُوهُ فَلَكُمْ بِذَلِكُمْ عَلَى النّاسِ الْفَضِيلَةُ وَلَهُمْ بِهِ إلَيْكُمْ الْوَسِيلَةُ وَالنّاسُ لَكُمْ حِزْبٌ وَعَلَى حَرْبِكُمْ أَلْبٌ وَإِنّي أُوصِيكُمْ بِتَعْظِيمِ هَذِهِ الْبَنِيّةِ فَإِنّ فِيهَا مَرْضَاةً لِلرّبّ وَقِوَامًا لِلْمَعَاشِ وَثَبَاتًا لِلْوَطْأَةِ صِلُوا أَرْحَامَكُمْ وَلَا تَقْطَعُوهَا ، فَإِنّ فِي صِلَةِ الرّحِمِ مَنْسَأَةً فِي الْأَجَلِ وَسَعَةً فِي الْعَدَدِ وَاتْرُكُوا الْبَغْيَ وَالْعُقُوقَ فَفِيهِمَا هَلَكَةُ الْقُرُونِ قَبْلَكُمْ أَجِيبُوا الدّاعِيَ وَأَعْطُوا السّائِلَ فَإِنّ فِيهِمَا شَرَفَ الْحَيَاةِ وَالْمَمَاتِ عَلَيْكُمْ بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ فَإِنّ فِيهِمَا مَحَبّةً فِي الْخَاصّ وَمَكْرُمَةً فِي الْعَامّ وَإِنّي أُوصِيكُمْ بِمُحَمّدِ خَيْرًا ، فَإِنّهُ الْأَمِينُ فِي قُرَيْشٍ ، وَالصّدّيقُ فِي الْعَرَبِ ، وَهُوَ الْجَامِعُ لِكُلّ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ وَقَدْ جَاءَ بِأَمْرِ قَبِلَهُ الْجَنَانُ وَأَنْكَرَهُ اللّسَانُ مَخَافَةَ الشّنَآنِ وَأَيْمُ اللّهِ كَأَنّي أَنْظُرُ إلَى صَعَالِيكِ الْعَرَبِ ، وَأَهْلِ الْبِرّ فِي الْأَطْرَافِ والمستضعفين مِنْ النّاسِ قَدْ أَجَابُوا دَعْوَتَهُ وَصَدّقُوا كَلِمَتَهُ وَعَظّمُوا أَمْرَهُ فَخَاضَ بِهِمْ غَمَرَاتِ الْمَوْتِ فَصَارَتْ رُؤَسَاءُ قُرَيْشٍ وَصَنَادِيدُهَا أَذْنَابًا وَدُورُهَا خَرَابًا ، وَضُعَفَاؤُهَا أَرْبَابًا ، وَإِذَا أَعْظَمُهُمْ عَلَيْهِ أَحْوَجُهُمْ إلَيْهِ وَأَبْعَدُهُمْ مِنْهُ أَحْظَاهُمْ عِنْدَهُ قَدْ مَحَضَتْهُ الْعَرَبُ وِدَادَهَا ، وَأَصْفَتْ لَهُ فُؤَادَهَا ، وَأَعْطَتْهُ قِيَادَهَا ، دُونَكُمْ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ابْنَ أَبِيكُمْ كُونُوا لَهُ وُلَاةً وَلِحِزْبِهِ حُمَاةً وَاَللّهِ لَا يَسْلُكُ أَحَدٌ مِنْكُمْ سَبِيلَهُ إلّا رَشَدَ وَلَا يَأْخُذُ أَحَدٌ بِهَدْيِهِ إلّا سَعِدَ وَلَوْ كَانَ لِنَفْسِي مُدّةٌ وَلِأَجَلِي تَأْخِيرٌ لَكَفَفْت عَنْهُ الْهَزَاهِزَ وَلَدَافَعْت عَنْهُ الدّوَاهِيَ ثُمّ هَلَكَ .

مَا نَزَلَ فِيمَنْ طَلَبُوا الْعَهْدَ عَلَى الرّسُولِ عِنْدَ أَبِي طَالِبٍ
[ ص 227 ] قَالَ وَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي الرّهْطِ الّذِينَ كَانُوا اجْتَمَعُوا إلَيْهِ وَقَالَ لَهُمْ مَا قَالَ وَرَدّوا عَلَيْهِ مَا رَدّوا : { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذّكْرِ بَلِ الّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزّةٍ وَشِقَاقٍ } [ ص : 1 ، 2 ] . . إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : [ ص 228 ] { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلّةِ الْآخِرَةِ } يَعْنُونَ النّصَارَى ، لِقَوْلِهِمْ { إِنّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ } - { إِنْ هَذَا إِلّا اخْتِلَاقٌ } [ ص : 7 ] ثُمّ هَلَكَ أَبُو طَالِبٍ -
Sتَفْسِيرُ الْمَشْيِ فِي سُورَةِ ص
فَصْلٌ وَذَكَرَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِمْ { أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ } وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ التّفْسِيرِ أَنّ قَوْلَهُمْ امْشُوا مِنْ الْمَشَاءِ لَا مِنْ الْمَشْيِ وَالْمَشَاءُ نَمَاءُ الْمَالِ وَزِيَادَتُهُ [ ص 228 ] يُقَالُ مَشَى الرّجُلُ وَأَمْشَى : إذَا نَمَا مَالُهُ قَالَ الشّاعِرُ
وَكُلّ فَتَى وَإِنْ أَمْشَى وَأَثْرَى
سَتَخْلِجُهُ عَنْ الدّنْيَا مَنُونُ
وَقَالَ الرّاجِزُ
وَالشّاةُ لَا تَمْشِي عَلَى الْهَمَلّعِ
أَيْ لَا تَكْثُرُ وَالْهَمَلّعُ الذّئْبُ وَقَالَهُ الْخَطّابِيّ فِي مَعْنَى الْآيَةِ كَأَنّهُمْ أَرَادُوا أَنّ الْمَشَاءَ وَالْبَرَكَةَ فِي صَبْرِهِمْ عَلَى آلِهَتِهِمْ وَحَمْلِهَا عَلَى الْمَشْيِ أَظْهَرُ فِي اللّغَةِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
تَتَابُعُ الْمَصَائِبِ بِمَوْتِ خَدِيجَةَ
وَذَكَرَ تَتَابُعَ الْمَصَائِبِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِمَوْتِ خَدِيجَةَ ثُمّ بِمَوْتِ عَمّهِ وَذَكَرَ الزّبَيْرُ فِي حَدِيثٍ أَسْنَدَهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ وَهِيَ فِي الْمَوْتِ فَقَالَ تَكْرَهِينَ مَا أَرَى مِنْك يَا خَدِيجَةُ وَقَدْ يَجْعَلُ اللّهُ فِي الْكُرْهِ خَيْرًا شَعَرْت أَنّ اللّهَ قَدْ أَعْلَمَنِي أَنّهُ سَيُزَوّجُنِي مَعَك فِي الْجَنّةِ مَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ وَكُلْثُومَ أُخْتَ مُوسَى ، وَآسِيَةَ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ ، فَقَالَتْ اللّهُ أَعْلَمَك بِهَذَا يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ فَقَالَ نَعَمْ فَقَالَتْ بِالرّفَاءِ وَالْبَنِينَ وَذُكِرَ أَيْضًا فِي الْحَدِيثِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَطْعَمَ خَدِيجَةَ مِنْ عِنَبِ الْجَنّةِ

الرّسُولُ يَسْعَى إلَى الطّائِفِ
[ ص 229 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا هَلَكَ أَبُو طَالِبٍ نَالَتْ قُرَيْشٌ مِنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ الْأَذَى مَا لَمْ تَكُنْ تَنَالُ مِنْهُ فِي حَيَاةِ عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الطّائِفِ ، يَلْتَمِسُ النّصْرَةَ مِنْ ثَقِيفٍ ، وَالْمَنَعَةَ بِهِمْ مِنْ قَوْمِهِ وَرَجَاءَ أَنْ يَقْبَلُوا مِنْهُ مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ اللّهِ عَزّ وَجَلّ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ وَحْدَهُ .
مَوْقِفُ ثَقِيفٍ مِنْ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ ، قَالَ لَمّا انْتَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الطّائِفِ ، عَمَدَ إلَى نَفَرٍ مِنْ ثَقِيفٍ ، هُمْ يَوْمَئِذٍ سَادَةُ ثَقِيفٍ وَأَشْرَافُهُمْ وَهُمْ إخْوَةٌ ثَلَاثَةٌ عَبْدُ يَالِيلَ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ ، وَمَسْعُودُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ ، وَحَبِيبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُقْدَةَ بْنِ غِيَرَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ ثَقِيفٍ ، وَعِنْدَ أَحَدِهِمْ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي جُمَحَ فَجَلَسَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَدَعَاهُمْ إلَى اللّهِ وَكَلّمَهُمْ بِمَا جَاءَهُمْ لَهُ مِنْ نُصْرَتِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْقِيَامِ مَعَهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ مِنْ قَوْمِهِ [ ص 230 ] فَقَالَ لَهُ أَحَدُهُمْ هُوَ يَمْرُطُ ثِيَابَ الْكَعْبَةِ إنْ كَانَ اللّهُ أَرْسَلَك ؛ وَقَالَ الْآخَرُ أَمَا وَجَدَ اللّهُ أَحَدًا يُرْسِلُهُ غَيْرَك وَقَالَ الثّالِثُ وَاَللّهِ لَا أُكَلّمُك أَبَدًا . لَئِنْ كُنْت رَسُولًا مِنْ اللّهِ كَمَا تَقُولُ لَأَنْتَ أَعْظَمُ خَطَرًا مِنْ أَنْ أَرُدّ عَلَيْك الْكَلَامَ وَلَئِنْ كُنْت تَكْذِبُ عَلَى اللّهِ مَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أُكَلّمَك . فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ عِنْدِهِمْ وَقَدْ يَئِسَ مِنْ خَيْرِ ثَقِيفٍ ، وَقَدْ قَالَ لَهُمْ - فِيمَا ذُكِرَ لِي - إذَا فَعَلْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ فَاكْتُمُوا عَنّي ، وَكَرِهَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَبْلُغَ قَوْمَهُ عَنْهُ فَيُذْئِرَهُمْ ذَلِكَ عَلَيْهِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَالَ عَبِيدُ بْنُ الْأَبْرَصِ :
وَلَقَدْ أَتَانِي عَنْ تَمِيمٍ أَنّهُمْ
ذَئِرُوا لِقَتْلَى عَامِرٍ وَتَعَصّبُوا
فَلَمْ يَفْعَلُوا ، وَأَغْرَوْا بِهِ سُفَهَاءَهُمْ وَعَبِيدَهُمْ يَسُبّونَهُ وَيَصِيحُونَ بِهِ حَتّى اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النّاسُ وَأَلْجَئُوهُ إلَى حَائِطٍ لِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، وَهُمَا فِيهِ وَرَجَعَ عَنْهُ مِنْ سُفَهَاءِ ثَقِيفٍ مَنْ كَانَ يَتْبَعُهُ فَعَمَدَ إلَى ظِلّ حَبَلَةٍ مِنْ عِنَبٍ فَجَلَسَ فِيهِ . وَابْنَا رَبِيعَةَ يَنْظُرَانِ [ ص 231 ] وَيَرَيَانِ مَا لَقِيَ مِنْ سُفَهَاءِ أَهْلِ الطّائِفِ ، وَقَدْ لَقِيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيمَا ذُكِرَ لِي - الْمَرْأَةَ الّتِي مِنْ بَنِي جُمَحَ فَقَالَ لَهَا : مَاذَا لَقِينَا مِنْ أَحْمَائِك ؟
Sخُرُوجُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الطّائِفِ
[ ص 229 ] بِالطّائِفِ وَأَنّ الدّمّونَ رَجُلٌ مِنْ الصّدِفِ مِنْ حَضْرَمَوْتَ نَزَلَهَا ، فَقَالَ لِأَهْلِهَا : أَلَا أَبْنِي لَكُمْ حَائِطًا يُطِيفُ بِبَلْدَتِكُمْ فَبَنَاهُ فَسُمّيَتْ الطّائِفَ ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمّا سَنَذْكُرُهُ . [ ص 230 ] ابْنُ هِشَامٍ ، وَأَنْشَدَ
ذَئِرُوا لِقَتْلَى عَامِرٍ وَتَعَصّبُوا
وَفِي الْحَدِيثِ لَمّا نَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ ضَرْبِ النّسَاءِ قَالَ ذَئِرَ النّسَاءُ عَلَى أَزْوَاجِهِنّ وَفَسّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ بِالنّشُوزِ عَلَى الْأَزْوَاجِ وَأَنْشَدَ الْبَيْتَ الّذِي أَنْشَدَهُ ابْنُ هِشَامٍ ، وَمَعْنَى كَلَامِهِمَا وَاحِدٌ . وَذَكَرَ مَا لَقِيَ مِنْ أَشْرَافِ ثَقِيفٍ ، وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ زِيَادَةً فِي الْحَدِيثِ حِينَ أَغْرَوْا بِهِ سُفَهَاءَهُمْ قَالَ وَكَانَ يَمْشِي بَيْنَ سِمَاطَيْنِ مِنْهُمْ فَكُلّمَا نَقَلُوا قَدَمًا ، رَجَمُوا عَرَاقِيبَهُ بِالْحِجَارَةِ حَتّى اخْتَضَبَ نَعْلَاهُ بِالدّمَاءِ وَذَكَرَ التّيْمِيّ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ عُقْبَةَ وَزَادَ قَالَ كَانَ إذَا أَذْلَقَتْهُ الْحِجَارَةُ قَعَدَ إلَى الْأَرْضِ فَيَأْخُذُونَ بِعَضُدَيْهِ فَيُقِيمُونَهُ فَإِذَا مَشَى رَجَمُوهُ وَهُمْ يَضْحَكُونَ حَتّى انْتَهَى إلَى الْمَوْضِعِ الّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ مِنْ حَائِطِ عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَجَلَسَ إلَى ظِلّ حَبَلَةٍ وَالْحَبَلَةُ الْكَرْمَةُ اُشْتُقّ اسْمُهَا مِنْ الْحَبَلِ لِأَنّهَا تَحْمِلُ بِالْعِنَبِ وَلِذَلِكَ فُتِحَ حَمْلُ الشّجَرَةِ وَالنّخْلَةِ فَقِيلَ حَمْلٌ بِفَتْحِ الْحَاءِ تَشْبِيهًا بِحَمْلِ الْمَرْأَةِ وَقَدْ يُقَالُ فِيهِ حَمْلٌ بِالْكَسْرِ تَشْبِيهًا بِالْحَمْلِ الّذِي عَلَى الظّهْرِ وَمَنْ قَالَ فِي الْكَرْمَةِ حَبْلَةً بِسُكُونِ الْبَاءِ فَلَيْسَ بِالْمَعْرُوفِ وَقَدْ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ كَيْسَانَ فِي " نَهْيِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْحَبَلَةِ إنّهُ بَيْعُ الْعِنَبِ قَبْلَ أَنْ يَطِيبَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ [ ص 231 ] أَحَدٌ فِي تَأْوِيلِ الْحَدِيثِ وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ فِي الْأَرَضِينَ الّتِي اُفْتُتِحَتْ فِي زَمَانِهِ - وَقَدْ قِيلَ لَهُ قَسّمْهَا عَلَى الّذِينَ افْتَتَحُوهَا - فَقَالَ وَاَللّهِ لَأَدَعَنّهَا حَتّى يُجَاهِدَ بِهَا حَبَلُ الْحَبَلَةِ يُرِيدُ أَوْلَادَهَا فِي الْبُطُونِ . ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ وَالْقَوْلُ الّذِي ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ فِي حَبَلِ الْحَبَلَةِ وَقَعَ فِي كِتَابِ الْأَلْفَاظِ لِيَعْقُوبَ وَإِنّمَا أَشْكَلَ عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ دُخُولُ الْهَاءِ فِي الْحَبَلَةِ حَتّى قَالُوا فِيهِ أَقْوَالًا كُلّهَا هَبَاءٌ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إنّمَا قَالَ الْحَبَلَةَ لِأَنّهَا بَهِيمَةٌ أَوْ جَنِينَةٌ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ دَخَلَتْ لِلْجَمَاعَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لِلْمُبَالَغَةِ وَهَذَا كُلّهُ يَنْعَكِسُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ حَبَلَ الْحَبَلَةِ فَإِنّهُ لَمْ تَدْخُلْ التّاءُ إلّا فِي أَحَدِ اللّفْظَيْنِ دُونَ الثّانِي ، وَتَبْطُلُ أَيْضًا عَلَى مَنْ قَالَ أَرَادَ مَعْنَى الْبَهِيمَةِ بِحَدِيثِ عُمَرَ الْمُتَقَدّمِ وَإِنّمَا النّكْتَةُ فِي ذَلِكَ أَنّ الْحَبَلَ مَا دَامَ حَبَلًا لَا يُدْرَى : أَذَكَرٌ هُوَ أَمْ أُنْثَى ، لَمْ يُسَمّ حَبَلًا ، فَإِذَا كَانَتْ أُنْثَى ، وَبَلَغَتْ حَدّ الْحَمْلِ فَحَبَلَتْ فَذَاكَ الْحَبَلُ هُوَ الّذِي نَهَى عَنْ بَيْعِهِ وَالْأَوّلُ قَدْ عُلِمَتْ أُنُوثَتُهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَعَبّرَ عَنْهُ بِالْحَبَلَةِ وَصَارَ مَعْنَى الْكَلَامِ أَنّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الْجَنِينَةِ الّتِي كَانَتْ حَبَلًا لَا يُعْرَفُ مَا هِيَ ثُمّ عُرِفَ بَعْدَ الْوَضْعِ وَكَذَلِكَ فِي الْآدَمِيّينَ فَإِذًا لَا يُقَالُ لَهَا : حَبَلَةٌ إلّا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِأَنّهَا أُنْثَى ، وَعِنْدَ ذِكْرِ الْحَبَلِ الثّانِي لِأَنّ هَذِهِ الْأُنْثَى قَبْلَ أَنْ تَحْبَلَ وَهِيَ صَغِيرَةٌ رِخْلَى ، وَتُسَمّى أَيْضًا حَائِلًا وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ وَقَدْ زَالَ عَنْهَا اسْمُ الْحَبَلِ فَإِذَا حَبَلَتْ وَذَكّرَ حَبَلَهَا وَازْدَوَجَ ذَكّرَهُ مَعَ الْحَالَةِ الْأُولَى الّتِي كَانَتْ فِيهَا حَبَلًا فَرّقَ بَيْنَ اللّفْظَيْنِ بِتَاءِ التّأْنِيثِ وَخُصّ اللّفْظُ الّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْأُنْثَى بِالتّاءِ دُونَ اللّفْظ الّذِي لَا يُدْرَى مَا هُوَ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى ، وَقَدْ كَانَ الْمَعْنَى قَرِيبًا وَالْمَأْخَذُ سَهْلًا لَا يَحْتَاجُ إلَى هَذِهِ الْإِطَالَةِ لَوْلَا مَا قَدّمْنَاهُ مِنْ تَخْلِيطِهِمْ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْكَلَامِ الْفَصِيحِ الْبَلِيغِ الّذِي لَا يَقْدِرُ قَدْرَهُ فِي الْبَلَاغَةِ إلّا عَالِمٌ بِجَوْهَرِ الْكَلَامِ .

[ ص 232 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ فِيمَا ذُكِرَ لِي : [ ص 233 ] اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي ، وَقِلّةَ حِيلَتِي ، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي ، إلَى مَنْ تَكِلُنِي ؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي ؟ أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْته أَمْرِي ؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي ، وَلَكِنْ عَافِيَتُك هِيَ أَوْسَعُ لِي ، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَك ، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سُخْطُك ، لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِك . [ ص 234 ] قَالَ فَلَمّا رَآهُ ابْنَا رَبِيعَةَ ، عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ وَمَا لَقِيَ تَحَرّكَتْ لَهُ رَحِمُهُمَا فَدَعَوْا غُلَامًا لَهُمَا نَصْرَانِيّا ، يُقَالُ لَهُ عَدّاسٌ فَقَالَا لَهُ خُذْ قِطْفًا مِنْ الْعِنَبِ فَضَعْهُ فِي هَذَا الطّبَقِ ثُمّ اذْهَبْ بِهِ إلَى ذَلِكَ الرّجُلِ فَقُلْ لَهُ يَأْكُلُ مِنْهُ . فَفَعَلَ عَدّاسٌ ، ثُمّ أَقْبَلَ بِهِ حَتّى وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ثُمّ قَالَ لَهُ كُلْ فَلَمّا وَضَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيهِ يَدَهُ قَالَ بِاسْمِ اللّهِ ثُمّ أَكَلَ فَنَظَرَ عَدّاسٌ فِي وَجْهِهِ ثُمّ قَالَ وَاَللّهِ إنّ هَذَا الْكَلَامَ مَا يَقُولُهُ أَهْلُ هَذِهِ الْبِلَادِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمِنْ أَهْلِ أَيّ الْبِلَادِ أَنْتَ يَا عَدّاسُ ، وَمَا دِينُك ؟ قَالَ نَصْرَانِيّ ، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نِينَوَى . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ قَرْيَةِ الرّجُلِ الصّالِحِ يُونُسَ بْنِ مَتّى ؟ فَقَالَ لَهُ عَدّاسٌ : وَمَا يُدْرِيك مَا يُونُسُ بْنُ مَتّى ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَاكَ أَخِي ، كَانَ نَبِيّا وَأَنَا نَبِيّ ، فَأَكَبّ عَدّاسٌ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُقَبّلُ رَأْسَهُ وَيَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ [ ص 235 ] قَالَ يَقُولُ ابْنَا رَبِيعَةَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ أَمّا غُلَامُك فَقَدْ أَفْسَدَهُ عَلَيْك . فَلَمّا جَاءَهُمَا عَدّاسٌ ، قَالَا لَهُ وَيْلَك يَا عَدّاسُ مَا لَك تُقَبّلُ رَأْسَ هَذَا الرّجُلِ وَيَدَيْهِ وَقَدَمَيْهِ ؟ قَالَ يَا سَيّدِي مَا فِي الْأَرْضِ شَيْءٌ خَيْرٌ مِنْ هَذَا ، لَقَدْ أَخْبَرَنِي بِأَمْرِ مَا يَعْلَمُهُ إلّا نَبِيّ ، قَالَا لَهُ وَيْحَك يَا عَدّاسُ ، لَا يَصْرِفَنّك عَنْ دِينِك ، فَإِنّ دِينَك خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ .Sنُورُ اللّهِ وَوَجْهُهُ
[ ص 232 ] وَذَكَرَ دُعَاءَهُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - عِنْدَ الشّدّةِ وَقَوْلُهُ اللّهُمّ إنّي أَشْكُو إلَيْك ضَعْفَ قُوّتِي وَقِلّةَ حِيلَتِي إلَى آخِرِ الدّعَاءِ وَفِيهِ أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الْكَرِيمِ الّذِي أَشْرَقَتْ بِهِ الظّلُمَاتُ وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيُسْأَلُ عَنْ النّورِ هُنَا ، وَمَعْنَى الْوَجْهِ وَإِشْرَاقِ الظّلُمَاتِ أَمَا الْوَجْهُ إذَا جَاءَ ذِكْرُهُ فِي الْكِتَابِ وَالسّنّةِ فَهُوَ يَنْقَسِمُ فِي الذّكْرِ إلَى مَوْطِنَيْنِ مَوْطِنِ تَقَرّبٍ وَاسْتِرْضَاءٍ بِعَمَلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } وَكَقَوْلِهِ { إِلّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبّهِ الْأَعْلَى } فَالْمَطْلُوبُ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ رِضَاهُ وَقَبُولُهُ لِلْعَمَلِ وَإِقْبَالُهُ عَلَى الْعَبْدِ الْعَامِلِ وَأَصْلُهُ أَنّ مَنْ رَضِيَ عَنْك ، أَقْبَلَ عَلَيْك ، وَمَنْ غَضِبَ عَلَيْك أَعْرَضَ عَنْك ، وَلَمْ يُرِك وَجْهَهُ فَأَفَادَ قَوْلُهُ بِوَجْهِك هَاهُنَا مَعْنَى الرّضَى وَالْقَبُولِ وَالْإِقْبَالِ وَلَيْسَ بِصِلَةِ فِي الْكَلَامِ كَمَا قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِأَنّ قَوْلَهُ ذَلِكَ هُرَاءٌ مِنْ الْقَوْلِ وَمَعْنَى الصّلَةِ عِنْدَهُ أَنّهَا كَلِمَةٌ لَا تُفِيدُ إلّا تَأْكِيدًا لِلْكَلَامِ وَهَذَا قَوْلُ مَنْ غَلُظَ طَبْعُهُ وَبَعُدَ بِالْعُجْمَةِ عَنْ فَهْمِ الْبَلَاغَةِ قَلْبُهُ وَكَذَلِكَ قَالَ هُوَ وَمَنْ قَلّدَهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ } [ الرّحْمَنَ 27 ] أَيْ يَبْقَى رَبّك ، وَكُلّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلّا وَجْهَهُ أَيْ إلّا إيّاهُ فَعَلَى هَذَا قَدْ خَلَا ذِكْرُ الْوَجْهِ مِنْ حِكْمَةٍ وَكَيْفَ تَخْلُو كَلِمَةٌ مِنْهُ مِنْ الْحِكْمَةِ وَهُوَ الْكِتَابُ الْحَكِيمُ وَلَكِنّ هَذَا هُوَ الْمَوْطِنُ الثّانِي مِنْ مَوَاطِنِ ذِكْرِ الْوَجْهِ وَالْمَعْنَى بِهِ مَا ظَهَرَ إلَى الْقُلُوبِ وَالْبَصَائِرِ مِنْ أَوْصَافِ جَلَالِهِ وَمَجْدِهِ وَالْوَجْهُ لُغَةً مَا ظَهَرَ مِنْ [ ص 233 ] كَانَ أَوْ مَحْسُوسًا ، تَقُولُ هَذَا وَجْهُ الْمَسْأَلَةِ وَوَجْهُ الْحَدِيثِ أَيْ الظّاهِرُ إلَى رَأْيِك مِنْهُ وَكَذَلِكَ الثّوْبُ مَا ظَهَرَ إلَى بَصَرِك مِنْهُ وَالْبَصَائِرُ لَا تُحِيطُ بِأَوْصَافِ جَلَالِهِ وَمَا يَظْهَرُ لَهَا مِنْ ذَلِكَ أَقَلّ مِمّا يَغِيبُ عَنْهَا ، وَهُوَ الظّاهِرُ وَالْبَاطِنُ - تَعَالَى وَجَلّ - وَكَذَلِكَ فِي الْجَنّةِ نَظَرُ أَهْلِهَا إلَى وَجْهِهِ سُبْحَانَهُ إنّمَا هُوَ نَظَرٌ إلَى مَا يَرَوْنَ مِنْ ظَاهِرِ جَلَالِهِ إلَيْهِمْ عِنْدَ تَجَلّيهِ وَرَفْعِ الْحِجَابِ دُونَهُمْ وَمَا لَا يُدْرِكُونَ مِنْ ذَلِكَ الْجَلَالِ أَكْثَرُ مِمّا أَدْرَكُوا . وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ { كُلّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ } [ الرّحْمَنَ 26 ، 27 ] لَمّا كَانَتْ السّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ قَدْ أَظَهَرَتْ مِنْ قُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ مَا أَظَهَرَتْ أَخْبَرَ تَعَالَى أَنّ فَنَاءَهَا لَا يُغَيّرُ مَا عُلِمَ مِنْ سُلْطَانِهِ وَظَهَرَ إلَى الْبَصَائِرِ مِنْ جَلَالِهِ فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ الْجَلَالُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهَا ، وَهُوَ بَاقٍ بَعْدَ فَنَائِهَا كَمَا كَانَ فِي الْقِدَمِ فَهُوَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ قَالَ الْحَسَنُ مَعْنَاهُ تَجَلّلَ بِالْبَهَاءِ وَأَكْرَمَ مَنْ شَاءَ بِالنّظَرِ إلَى وَجْهِهِ أَمّا الْأَشْعَرِيّ فَذَهَبَ فِي مَعْنَى الْوَجْهِ إلَى مَا ذَهَبَ فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْعَيْنِ وَالْيَدِ وَأَنّهَا صِفَاتٌ لِلّهِ تَعَالَى لَمْ تُعْلَمْ مِنْ جِهَةِ الْعُقُولِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الشّرْعِ الْمَنْقُولِ وَهَذِهِ عُجْمَةٌ أَيْضًا فَإِنّهُ نَزَلَ بِلِسَانِ عَرَبِيّ مُبِينٍ فَقَدْ فَهِمَتْهُ الْعَرَبُ لَمّا نَزَلَ بِلِسَانِهَا ، وَلَيْسَ فِي لُغَتِهَا أَنّ الْوَجْهَ صِفَةٌ وَلَا إشْكَالَ عَلَى الْمُؤْمِنِ مِنْهُمْ وَلَا عَلَى الْكَافِرِ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيِ الّتِي اُحْتِيجَ آخِرَ الزّمَانِ إلَى الْكَلَامِ فِيهِ مَعَ الْعُجْمَانِ لِأَنّ الْمُؤْمِنَ لَمْ يَخْشَ عَلَى عَقِيدَتِهِ شَكّا وَلَا تَشْبِيهًا ، فَلَمْ يَسْتَفْسِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ رَسُولَ اللّهِ عَلَيْهِ السّلَامُ وَلَا سَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ الّتِي هِيَ الْيَوْمَ مُشْكِلَةٌ عِنْدَ عَوَامّ النّاسِ وَلَا الْكَافِرُ فِي ذَلِكَ الزّمَانِ لَمْ يَتَعَلّقْ بِهَا فِي مَعْرِضِ الْمُنَاقَضَةِ وَالْمُجَادَلَةِ كَمَا فَعَلُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { إِنّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنّمَ } [ الْأَنْبِيَاءَ 98 ] وَلَا قَالَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يَزْعُمُ مُحَمّدٌ أَنّ اللّهَ مَا يُشْبِهُهُ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ ثُمّ يُثْبِتُ لَهُ وَجْهًا وَيَدَيْنِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَدَلّ عَلَى أَنّهُمْ لَمْ يَرَوْا فِي الْآيَةِ إشْكَالًا ، وَتَلَقّوْا مَعَانِيَهَا عَلَى غَيْرِ التّشْبِيهِ وَعَرَفُوا مِنْ سَمَانَةِ الْكَلَامِ وَمَلَاحَةِ الِاسْتِعَارَةِ أَنّهُ مُعْجِزٌ فَلَمْ يَتَعَاطَوْا لَهُ مُعَارَضَةً وَلَا تَوَهّمُوا فِيهِ مُنَاقَضَةً وَقَدْ أَمْلَيْنَا فِي مَعْنَى الْيَدَيْنِ وَالْعَيْنِ مَسْأَلَةً بَدِيعَةً جِدّا ، فَلْتُنْظَرْ هُنَالِكَ . وَأَمّا النّورُ فَعِبَارَةٌ عَنْ الظّهُورِ وَانْكِشَافِ الْحَقَائِقِ الْإِلَهِيّةِ وَبِهِ أَشْرَقَتْ الظّلُمَاتُ أَيْ أَشْرَقَتْ مَحَالّهَا وَهِيَ الْقُلُوبُ الّتِي كَانَتْ فِيهَا ظُلُمَاتُ الْجَهَالَةِ وَالشّكُوكِ فَاسْتَنَارَتْ الْقُلُوبُ [ ص 234 ] قَالَ الْمُفَسّرُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { مَثَلُ نُورِهِ } أَيْ مَثَلُ نُورِهِ فِي قَلْبٍ فِي الْمُؤْمِنِ كَمِشْكَاةِ فَهُوَ إذًا نُورُ الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ الْمُجْلِي لِكُلّ ظُلْمَةٍ وَشَكّ قَالَ كَعْبٌ الْمِشْكَاةُ مَثَلٌ لِفَهْمِهِ وَالْمِصْبَاحُ مَثَلٌ لِلِسَانِهِ وَالزّجَاجَةُ مَثَلٌ لِصَدْرِهِ أَوْ لِقَلْبِهِ أَيْ قَلْبِ مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك وَلَوْ قَالَ بِنُورِك لَحَسُنَ وَلَكِنْ تَوَسّلَ إلَيْهِ بِمَا أَوْدَعَ قَلْبَهُ مِنْ نُورِهِ فَتَوَسّلَ إلَى نِعْمَتِهِ بِنِعْمَتِهِ وَإِلَى فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَقَدْ تَكُونُ الظّلُمَاتُ هَاهُنَا أَيْضًا الظّلُمَاتِ الْمَحْسُوسَةَ وَإِشْرَاقُهَا جَلَالَتُهَا عَلَى خَالِقِهَا ، وَكَذَلِكَ الْأَنْوَارُ الْمَحْسُوسَةُ الْكُلّ دَالّ عَلَيْهِ فَهُوَ نُورُ النّورِ أَيْ مَظْهَرُهُ مُنَوّرُ الظّلُمَاتِ أَيْ جَاعِلُهَا نُورًا فِي حُكْمِ الدّلَالَةِ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
خَبَرُ عَدّاسٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ خَبَرَ عَدّاسٍ غُلَامِ عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ حِينَ جَاءَ بِالْقِطْفِ مِنْ عِنْدِهِمَا إلَى آخِرِ الْقِصّةِ وَفِيهِ قَبُولُ هَدِيّةِ الْمُشْرِكِ وَأَنْ لَا يَتَوَرّعَ عَنْ طَعَامِهِ وَسَيَأْتِي اسْتِقْصَاءُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى ، وَزَادَ التّيْمِيّ فِيهَا أَنّ عَدّاسًا حِينَ سَمِعَهُ يَذْكُرُ يُونُسَ بْنَ مَتّى قَالَ وَاَللّهِ لَقَدْ خَرَجْت مِنْهَا يَعْنِي : نِينَوَى ، وَمَا فِيهَا عَشَرَةٌ يَعْرِفُونَ مَا مَتّى ، فَمِنْ أَيْنَ عَرَفْت أَنْتَ مَتّى ، وَأَنْتَ أُمّيّ ، وَفِي أُمّةٍ أُمّيّةٍ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - هُوَ أَخِي ، كَانَ نَبِيّا ، وَأَنَا نَبِيّ وَذَكَرُوا أَيْضًا أَنّ عَدّاسًا لَمّا أَرَادَ سَيّدَاهُ الْخُرُوجَ إلَى بَدْرٍ أَمَرَاهُ بِالْخُرُوجِ مَعَهُمَا فَقَالَ لَهُمَا : أَقِتَالَ ذَلِكَ الرّجُلِ الّذِي رَأَيْته بِحَائِطِكُمَا تُرِيدَانِ وَاَللّهِ مَا تَقُومُ لَهُ الْجِبَالُ فَقَالَا لَهُ وَيْحَك يَا عَدّاسُ : قَدْ [ ص 235 ] سَحَرَك بِلِسَانِهِ وَعِنْدَمَا لَقِيَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ أَهْلِ الطّائِفِ ، مَا لَقِيَ وَدَعَا بِالدّعَاءِ الْمُتَقَدّمِ نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ وَمَعَهُ مَلَكُ الْجِبَالِ كَمَا رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ يُوسُفَ ، عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ حَدّثَنِي عُرْوَةُ أَنّ عَائِشَةَ زَوْجَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَدّثَتْهُ أَنّهَا قَالَتْ لِلنّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ هَلْ أَتَى عَلَيْك يَوْمٌ كَانَ أَشَدّ عَلَيْك مِنْ أُحُدٍ ؟ فَقَالَ لَقَدْ لَقِيت مِنْ قَوْمِك ، وَكَانَ أَشَدّ مَا لَقِيت مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إذْ عَرَضْت نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إلَى مَا أَرَدْت ، فَانْطَلَقْت عَلَى وَجْهِي ، وَأَنَا مَهْمُومٌ فَلَمْ أَسْتَفِقْ إلّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثّعَالِبِ فَرَفَعْت رَأْسِي ، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةِ قَدْ أَظَلّتْنِي ، فَنَظَرْت فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ إنّ اللّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِك لَك ، وَمَا رَدّوا عَلَيْك ، وَقَدْ بَعَثَ إلَيْك مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْت فِيهِمْ فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلّمَ عَلَيّ فَقَالَ يَا مُحَمّدُ ذَلِكَ لَك ، إنْ شِئْت أَطْبَقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ وَحْدَهُ وَلَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا . هَكَذَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ ابْنُ عَبْدِ كُلَالٍ وَهُوَ خِلَافُ مَا نَسَبَهُ ابْنُ إسْحَاقَ .

أَمْرُ جِنّ نَصِيبِينَ
قَالَ ثُمّ إنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - انْصَرَفَ مِنْ الطّائِفِ رَاجِعًا إلَى مَكّةَ ، حِينَ يَئِسَ مِنْ خَيْرِ ثَقِيفٍ ، حَتّى إذَا كَانَ بِنَخْلَةَ قَامَ مِنْ جَوْفِ اللّيْلِ يُصَلّي ، فَمَرّ بِهِ النّفَرُ مِنْ الْجِنّ الّذِينَ [ ص 236 ] ذَكَرَهُمْ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، وَهُمْ - فِيمَا ذُكِرَ لِي - سَبْعَةُ نَفَرٍ مِنْ جِنّ أَهْلِ نَصِيبِينَ فَاسْتَمَعُوا لَهُ فَلَمّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ وَلّوْا إلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَدْ آمَنُوا وَأَجَابُوا إلَى مَا سَمِعُوا . فَقَصّ اللّهُ خَبَرَهُمْ عَلَيْهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ } إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيّ أَنّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنّ } إلَى آخِرِ الْقِصّةِ مِنْ خَبَرِهِمْ فِي هَذِهِ السّورَةِ .
Sجِنّ نَصِيبِينَ
فَصْلٌ وَذَكَرَ حَدِيثَ وَفْدِ جِنّ نَصِيبِينَ وَمَا أَنْزَلَ اللّهُ فِيهِمْ وَقَدْ أَمْلَيْنَا أَوّلَ الْمَبْعَثَيْنِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ طَرَفًا مِنْ أَخْبَارِهِمْ وَبَيّنّا هُنَالِكَ أَسَمَاءَهُمْ وَنَصِيبِينُ مَدِينَةٌ بِالشّامِ أَثْنَى عَلَيْهَا رَسُولُ [ ص 236 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . رُوِيَ أَنّهُ قَالَ رُفِعَتْ إلَيّ نَصِيبِينُ حَتّى رَأَيْتهَا فَدَعَوْت اللّهَ أَنْ يَعْذُبَ نَهْرُهَا ، وَيَنْضُرَ شَجَرُهَا ، وَيَطِيبَ ثَمَرُهَا أَوْ قَالَ وَيَكْثُرَ ثَمَرُهَا وَتَقَدّمَ فِي أَسْمَائِهِمْ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ دُرَيْدٍ . قَالَ هُمْ مُنَشّي وَمَاشِي وَشَاصِر وَمَاصِر وَالْأَحْقَب ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى تَسْمِيَةِ هَؤُلَاءِ وَقَدْ ذَكَرْنَا تَمَامَ أَسْمَائِهِمْ فِيمَا تَقَدّمَ وَفِي الصّحِيحِ أَنّ الّذِي أَذِنَ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِالْجِنّ لَيْلَةَ الْجِنّ شَجَرَةٌ وَأَنّهُمْ سَأَلُوهُ الزّادَ فَقَالَ كُلّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ يَقَعُ فِي يَدِ أَحَدِهِمْ . أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا ، وَكُلّ بَعْرٍ عَلَفٌ لِدَوَابّهِمْ . زَادَ ابْنُ سَلَامٍ فِي تَفْسِيرِهِ أَنّ الْبَعْرَ يَعُودُ خَضِرًا لِدَوَابّهِمْ ثُمّ نَهَى رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنْ يُسْتَنْجَى بِالْعَظْمِ وَالرّوْثِ وَقَالَ إنّهُ زَادُ إخْوَانِكُمْ مِنْ الْجِنّ وَلَفْظُ الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ كَمَا قَدّمْنَاهُ كُلّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَلَفْظُهُ فِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ كُلّ عَظْمٍ لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَأَكْثَرُ الْأَحَادِيثِ تَدُلّ عَلَى مَعْنَى رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ فِي الْجِنّ الْمُؤْمِنِينَ وَالرّوَايَةُ الْأُخْرَى فِي حَقّ الشّيَاطِينِ مِنْهُمْ وَهَذَا قَوْلٌ صَحِيحٌ تُعَضّدُهُ الْأَحَادِيثُ إلّا أَنّا نَكْرَهُ الْإِطَالَةَ وَفِي هَذَا رَدّ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنّ الْجِنّ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَتَأَوّلُوا قَوْلَهُ - عَلَيْهِ السّلَامُ إنّ الشّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ ، وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ وَهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ صِنْفٌ عَلَى صُوَرِ الْحَيّاتِ وَصِنْفٌ عَلَى صُوَرِ الْكِلَابِ سُودٌ وَصِنْفٌ رِيحٌ طَيّارَةٌ أَوْ قَالَ هَفّافَةٌ ذَوُو أَجْنِحَةٍ وَزَادَ بَعْضُ الرّوَاةِ فِي الْحَدِيثِ وَصِنْفٌ يَخْلُونَ وَيَظْعَنُونَ وَهُمْ السّعَالِي ، وَلَعَلّ هَذَا الصّنْفَ الطّيّارَ هُوَ الّذِي لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ إنْ صَحّ الْقَوْلُ الْمُتَقَدّمُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَرَوَيْنَا فِي حَدِيثٍ سَمِعْته يُقْرَأُ عَلَى الشّيْخِ الْحَافِظِ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيّ بِسَنَدِهِ إلَى جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ، قَالَ بَيْنَا أَنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَمْشِي إذْ جَاءَتْ حَيّةٌ فَقَامَتْ إلَى جَنْبِهِ وَأَدْنَتْ فَاهَا مِنْ أُذُنِهِ وَكَانَتْ تُنَاجِيهِ أَوْ نَحْوَ هَذَا ، فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَعَمْ فَانْصَرَفَتْ قَالَ جَابِرٌ فَسَأَلْته ، فَأَخْبَرَنِي أَنّهُ رَجُلٌ مِنْ الْجِنّ ، وَأَنّهُ قَالَ لَهُ مُرْ أُمّتَك لَا يَسْتَنْجُوا بِالرّوْثِ وَلَا بِالرّمّةِ فَإِنّ اللّهَ جَعَلَ لَنَا فِي ذَلِكَ رِزْقًا

عَرْضُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَفْسَهُ عَلَى الْقَبَائِلِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 237 ] ثُمّ قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ ، وَقَوْمُهُ أَشَدّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِهِ وَفِرَاقِ دِينِهِ إلّا قَلِيلًا مُسْتَضْعَفِينَ مِمّنْ آمَنَ بِهِ . فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ فِي الْمَوَاسِمِ إذَا كَانَتْ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ يَدْعُوهُمْ إلَى اللّهِ وَيُخْبِرُهُمْ أَنّهُ نَبِيّ مُرْسَلٌ وَيَسْأَلُهُمْ أَنْ يُصَدّقُوهُ وَيَمْنَعُوهُ حَتّى يُبَيّنَ عَنْ اللّهِ مَا بَعَثَهُ بِهِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي مِنْ أَصْحَابِنَا ، مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبّادٍ الدّيلِيّ أَوْ مَنْ حَدّثَهُ أَبُو الزّنَادِ عَنْهُ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : رَبِيعَةُ بْنُ عَبّادٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ سَمِعْت رَبِيعَةَ بْنَ عَبّادٍ يُحَدّثُهُ أَبِي ، قَالَ إنّي لَغُلَامٌ شَابّ مَعَ أَبِي بِمِنَى ، وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقِفُ عَلَى مَنَازِلِ الْقَبَائِلِ مِنْ الْعَرَبِ ، فَيَقُولُ يَا بَنِي فُلَانٍ إنّي رَسُولُ اللّهِ إلَيْكُمْ ، يَأْمُرُكُمْ أَنْ [ ص 238 ] قَالَ وَخَلْفَهُ رَجُلٌ أَحْوَلُ وَضِيءٌ لَهُ غَدِيرَتَانِ عَلَيْهِ حُلّةٌ عَدَنِيّةٌ فَإِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَمَا دَعَا إلَيْهِ قَالَ ذَلِكَ الرّجُلُ يَا بَنِي فُلَانٍ إنّ هَذَا إنّمَا يَدْعُوكُمْ أَنْ تَسْلُخُوا اللّاتَ وَالْعُزّى مِنْ أَعْنَاقِكُمْ وَحُلَفَاءَكُمْ مِنْ الْجِنّ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ أُقَيْشٍ إلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الْبِدْعَةِ وَالضّلَالَةِ فَلَا تُطِيعُوهُ وَلَا تَسْمَعُوا مِنْهُ . قَالَ فَقُلْت لِأَبِي : يَا أَبَتْ مَنْ هَذَا الّذِي يَتْبَعُهُ وَيَرُدّ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ ؟ قَالَ هَذَا عَمّهُ عَبْدُ الْعُزّى بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، أَبُو لَهَبٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَالَ النّابِغَةُ
كَأَنّك مِنْ جِمَالِ بَنِي أُقَيْشٍ
يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ الزّهْرِيّ : أَنّهُ أَتَى كِنْدَةَ فِي مَنَازِلِهِمْ وَفِيهِمْ سَيّدٌ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ مُلَيْحٌ فَدَعَاهُمْ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ فَأَبَوْا عَلَيْهِ .
S[ ص 237 ] فَصْلٌ وَذَكَرَ عَرْضَهُ نَفْسَهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَلَى الْقَبَائِلِ لِيُؤْمِنُوا بِهِ وَلِيَنْصُرُوهُ قَبِيلَةً قَبِيلَةً فَذَكَرَ بَنِي حَنِيفَةَ وَاسْمُ حَنِيفَةَ أُثَالُ بْنُ لُجَيْمٍ وَلُجَيْمٌ تَصْغِيرُ اللّجَمِ وَهِيَ دُوَيْبّةٌ قَالَ قُطْرُبٌ وَأَنْشَدَ
لَهَا ذَنَبٌ مِثْلُ ذَيْلِ الْعَرْو
س إلَى سَبّةٍ مِثْلُ جُحْرِ اللّجَمْ
ابْنُ صَعْبِ بْنِ عَلِيّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ ، وَسُمّيَ حَنِيفَةَ لِحَنَفِ كَانَ فِي رِجْلَيْهِ وَقِيلَ بَلْ حَنِيفَةُ أُمّهُمْ وَهِيَ بِنْتُ كَاهِلِ بْنِ أَسَدٍ عُرِفُوا بِهَا ، وَهُمْ أَهْلُ الْيَمَامَةِ ، وَأَصْحَابُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذّابِ ، وَقَدْ أَمْلَيْنَا فِي أَوّلِ الْكِتَابِ سَبَبَ نُزُولِهِمْ الْيَمَامَةَ وَأَوّلَ مَنْ نَزَلَهَا مِنْهُمْ . وَذَكَرَ بَيْحَرَةَ بْنَ فِرَاسٍ الْعَامِرِيّ وَقَوْلَهُ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَفَنُهْدِفُ نُحُورَنَا ، لِلْعَرَبِ دُونَك . نُهْدِفُ أَيْ نَجْعَلُهَا هَدَفًا لِسِهَامِهِمْ وَالْهَدَفُ الْغَرَضُ . وَذَكَرَ قَوْلَ الشّيْخِ هَلْ لَهَا مِنْ تَلَافٍ أَيْ تَدَارُكٍ وَهُوَ تَفَاعُلٌ مِنْ تَلَافَيْتُهُمْ وَهَلْ لِذُنَابَاهَا مِنْ مُطّلَبٍ مَثَلٌ ضُرِبَ لِمَا فَاتَهُ مِنْهَا ، وَأَصْلُهُ مِنْ ذُنَابَيْ الطّائِرِ إذَا أَفْلَتَ مِنْ الْحِبَالَةِ فَطَلَبْت الْأَخْذَ بِذُنَابَاهُ وَقَالَ مَا تَقَوّلَهَا إسْمَاعِيلِيّ قَطّ أَيْ مَا ادّعَى النّبُوّةَ كَاذِبًا أَحَدٌ مِنْ بَنِي إسْمَاعِيلَ .

الْعَرْضُ عَلَى بَنِي كَلْبٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ حُصَيْنٍ أَنّهُ أَتَى كَلْبًا فِي مَنَازِلِهِمْ إلَى بَطْنٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَبْدِ اللّهِ فَدَعَاهُمْ إلَى اللّهِ وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ حَتّى إنّهُ لَيَقُولُ لَهُمْ يَا بَنِي عَبْدِ اللّهِ إنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ قَدْ أَحْسَنَ اسْمَ أَبِيكُمْ فَلَمْ يَقْبَلُوا مِنْهُ مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ [ ص 239 ]
الْعَرْضُ عَلَى بَنِي حَنِيفَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَتَى بَنِي حَنِيفَةَ فِي مَنَازِلِهِمْ فَدَعَاهُمْ إلَى اللّهِ وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ الْعَرَبِ أَقْبَحَ عَلَيْهِ رَدّا مِنْهُمْ .
الْعَرْضُ عَلَى بَنِي عَامِرٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي الزّهْرِيّ أَنّهُ أَتَى بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ فَدَعَاهُمْ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ - يُقَالُ لَهُ بَيْحَرَةُ بْنُ فِرَاسٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فِرَاسُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ قُشَيْرِ بْنِ كَعْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَاَللّهِ لَوْ أَنّي أَخَذْت هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ ، لَأَكَلْت بِهِ الْعَرَبَ ، ثُمّ قَالَ أَرَأَيْت إنْ نَحْنُ تَابَعْنَاك عَلَى أَمْرِك ، ثُمّ أَظْهَرَك اللّهُ عَلَى مَنْ خَالَفَك ، أَيَكُونُ لَنَا الْأَمْرُ مِنْ بَعْدِك ؟ قَالَ الْأَمْرُ إلَى اللّهِ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ قَالَ فَقَالَ لَهُ أَفَنُهْدِفُ نُحُورَنَا لِلْعَرَبِ دُونَك ، فَإِذَا أَظْهَرَك اللّهُ كَانَ الْأَمْرُ لِغَيْرِنَا لَا حَاجَةَ لَنَا بِأَمْرِك ، فَأَبَوْا عَلَيْهِ [ ص 240 ] فَلَمّا صَدَرَ النّاسُ رَجَعَتْ بَنُو عَامِرٍ إلَى شَيْخٍ لَهُمْ قَدْ كَانَتْ أَدْرَكَتْهُ السّنّ ، حَتّى لَا يَقْدِرَ أَنْ يُوَافِيَ مَعَهُمْ الْمَوَاسِمَ فَكَانُوا إذَا رَجَعُوا إلَيْهِ حَدّثُوهُ بِمَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْمَوْسِمِ فَلَمّا قَدِمُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ الْعَامَ سَأَلَهُمْ عَمّا كَانَ فِي مَوْسِمِهِمْ فَقَالُوا : جَاءَنَا فَتَى مِنْ قُرَيْشٍ ، ثُمّ أَحَدُ بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، يَزْعُمُ أَنّهُ نَبِيّ ، يَدْعُونَا إلَى أَنْ نَمْنَعَهُ وَنَقُومَ مَعَهُ وَنَخْرُجَ بِهِ إلَى بِلَادِنَا . قَالَ فَوَضَعَ الشّيْخُ يَدَيْهِ عَلَى رَأْسِهِ ثُمّ قَالَ يَا بَنِي عَامِرٍ هَلْ لَهَا مِنْ تَلَافٍ هَلْ لِذُنَابَاهَا مِنْ مُطّلَبٍ وَاَلّذِي نَفْسُ فُلَانٍ بِيَدِهِ مَا تَقَوّلَهَا إسْمَاعِيلِيّ قَطّ ، وَإِنّهَا لَحَقّ ، فَأَيْنَ رَأْيُكُمْ كَانَ عَنْكُمْ [ ص 241 ]
عَرَضَ عَلَى الْعَرَبِ فِي الْمَوَاسِمِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ كُلّمَا اجْتَمَعَ لَهُ النّاسُ بِالْمَوْسِمِ أَتَاهُمْ يَدْعُو الْقَبَائِلَ إلَى اللّهِ وَإِلَى الْإِسْلَامِ وَيَعْرِضُ عَلَيْهِمْ نَفْسَهُ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ اللّهِ مِنْ الْهُدَى وَالرّحْمَةِ وَهُوَ لَا يَسْمَعُ بِقَادِمِ يَقْدَمُ مَكّةَ مِنْ الْعَرَبِ لَهُ اسْمٌ وَشَرَفٌ إلّا تَصَدّى لَهُ فَدَعَاهُ إلَى اللّهِ وَعَرَضَ عَلَيْهِ مَا عِنْدَهُ .
Sعَرْضُ نَفْسِهِ عَلَى كِنْدَةَ
[ ص 238 ] وَذَكَرَ عَرْضَهُ نَفْسَهُ عَلَى كِنْدَةَ ، وَهُمْ بَنُو ثَوْرِ بْنِ مُرّةَ بْنِ أُدَدَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ميسع بْنِ عَمْرِو بْنِ عَرِيبِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كُهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ بَيْنَ النّسّابِينَ فِي كِنْدَةَ ، وَسُمّيَ كِنْدَةَ لِأَنّهُ كَنَدَ أَبَاهُ أَيْ عَقّهُ وَسَمّى ابْنَهُ مُرْتِعًا لِأَنّهُ كَانَ يَجْعَلُ لِمَنْ أَتَاهُ مِنْ قَوْمِهِ مَرْتَعًا ، فَهْم بَنُو مُرْتِعِ بْنِ ثَوْرٍ وَقَدْ قِيلَ إنّ ثَوْرًا هُوَ مُرْتِعٌ وَكِنْدَةُ أَبُوهُ .
فِي هَذَا الْكِتَابِ تَتِمّةٌ لِفَائِدَتِهِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ مَا لَمْ يَذْكُرْ ابْنُ إسْحَاقَ مِمّا رَأَيْت إمْلَاءَ بَعْضِهِ فِي هَذَا الْكِتَابِ تَتِمّةً لِفَائِدَتِهِ . ذَكَرَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ وَالْخَطّابِيّ عَرْضَهُ نَفْسَهُ عَلَى بَنِي ذُهْلِ بْنِ ثَعْلَبَةَ ثُمّ [ ص 239 ] بَنِي شَيْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ فَذَكَرَ الْخَطّابِيّ وَقَاسِمٌ جَمِيعًا مَا كَانَ مِنْ كَلَامِ أَبِي بَكْرٍ مَعَ دَغْفَلِ بْنِ حَنْظَلَةَ الذّهْلِيّ زَادَ قَاسِمٌ تَكْمِلَةَ الْحَدِيثِ فَرَأَيْنَا أَنْ نَذْكُرَ زِيَادَةَ قَاسِمٍ فَإِنّهَا مِمّا تَلِيقُ بِهَذَا الْكِتَابِ قَالَ ثُمّ دَفَعْنَا إلَى مَجْلِسٍ آخَرَ عَلَيْهِمْ السّكِينَةُ وَالْوَقَارُ فَتَقَدّمَ أَبُو بَكْرٍ فَسَلّمَ قَالَ عَلِيّ : وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ مُقَدّمًا فِي كُلّ خَيْرٍ فَقَالَ مِمّنْ الْقَوْمُ فَقَالُوا : مِنْ شَيْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ فَالْتَفَتَ أَبُو بَكْرٍ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي ، هَؤُلَاءِ غُرَرٌ فِي قَوْمِهِمْ وَفِيهِمْ مَفْرُوقُ بْنُ عَمْرٍو وَهَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ ، وَمُثَنّى بْنُ حَارِثَةَ وَالنّعْمَانُ بْنُ شَرِيكٍ وَكَانَ مَفْرُوقُ بْنُ عَمْرٍو قَدْ غَلَبَهُمْ جَمَالًا وَلِسَانًا وَكَانَتْ لَهُ غَدِيرَتَانِ تَسْقُطَانِ عَلَى تَرِيبَتَيْهِ وَكَانَ أَدْنَى الْقَوْمِ مَجْلِسًا مِنْ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ كَيْفَ الْعَدَدُ فِيكُمْ ؟ قَالَ لَهُ مَفْرُوقٌ إنّا لَنَزِيدُ عَلَى الْأَلْفِ وَلَنْ تُغْلَبَ أَلْفٌ مِنْ قِلّة فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ كَيْفَ الْمَنَعَةُ فِيكُمْ ؟ فَقَالَ مَفْرُوقٌ عَلَيْنَا الْجَهْدُ وَلِكُلّ قَوْمٍ جِدّ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ كَيْفَ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ عَدُوّكُمْ ؟ فَقَالَ مَفْرُوقٌ إنّا لَأَشَدّ مَا نَكُون غَضَبًا لَحِينَ نَلْقَى ، وَإِنّا لَأَشَدّ مَا نَكُونُ لِقَاءً حِينَ نَغْضَبُ وَإِنّا لَنُؤْثِرُ الْجِيَادَ عَلَى الْأَوْلَادِ وَالسّلَاحَ عَلَى اللّقَاحِ وَالنّصْرُ مِنْ عِنْدِ اللّهِ يُدِيلُنَا مَرّةً وَيُدِيلُ عَلَيْنَا ، لَعَلّك أَخُو قُرَيْشٍ ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَوَقَدْ بَلَغَكُمْ أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ فَهَا هُوَ ذَا ، فَقَالَ مَفْرُوقٌ قَدْ بَلَغَنَا أَنّهُ [ ص 240 ] أَخَا قُرَيْشٍ ؟ فَتَقَدّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ أَدْعُو إلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنّي رَسُولُ اللّهِ وَإِلَى أَنْ تُؤْوُونِي ، وَتَنْصُرُونِي ، فَإِنّ قُرَيْشًا قَدْ ظَاهَرَتْ عَلَى أَمْرِ اللّهِ وَكَذّبَتْ رَسُولَهُ وَاسْتَغْنَتْ بِالْبَاطِلِ عَنْ الْحَقّ وَاَللّهُ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ فَقَالَ مَفْرُوقٌ وَإِلَى مَ تَدْعُو أَيْضًا يَا أَخَا قُرَيْشٍ ؟ فَتَلَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرّمَ رَبّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ إِلّا بِالْحَقّ ذَلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ الْأَنْعَامَ 151 ] فَقَالَ مَفْرُوقٌ وَإِلَى مَ تَدْعُو أَيْضًا يَا أَخَا قُرَيْشٍ ؟ فَتَلَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - { إِنّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلّكُمْ تَذَكّرُونَ } [ النّحْلَ 90 ] فَقَالَ مَفْرُوقٌ دَعَوْت وَاَللّهِ يَا أَخَا قُرَيْشٍ إلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَحَاسِنِ الْأَعْمَالِ وَاَللّهِ لَقَدْ أَفِكَ قَوْمٌ كَذّبُوك ، وَظَاهَرُوا عَلَيْك ، وَكَأَنّهُ أَرَادَ أَنْ يَشْرَكَهُ فِي الْكَلَامِ هَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ ، فَقَالَ وَهَذَا هَانِئُ بْنُ قَبِيصَةَ شَيْخُنَا ، وَصَاحِبُ دِينِنَا ، فَقَالَ هَانِئٌ قَدْ سَمِعْت مَقَالَتَك يَا أَخَا قُرَيْشٍ ، وَإِنّي أَرَى أَنّ تَرْكَنَا دِينَنَا وَاتّبَاعَنَا إيّاكَ عَلَى دِينِك لِمَجْلِسِ جَلَسْته إلَيْنَا لَيْسَ لَهُ أَوّلٌ وَلَا آخِرُ زَلّةٌ فِي الرّأْيِ وَقِلّةُ نَظَرٍ فِي الْعَاقِبَةِ وَإِنّمَا تَكُونُ الزّلّةُ مَعَ الْعَجَلَةِ وَمِنْ وَرَائِنَا قَوْمٌ نَكْرَهُ أَنْ نَعْقِدَ عَلَيْهِمْ عَقْدًا ، وَلَكِنْ تَرْجِعُ وَنَرْجِعُ وَتَنْظُرُ وَنَنْظُرُ وَكَأَنّهُ أَحَبّ أَنْ يَشْرَكَهُ فِي الْكَلَامِ الْمُثَنّى ، فَقَالَ وَهَذَا الْمُثَنّى بْنُ حَارِثَةَ شَيْخُنَا وَصَاحِبُ حَرْبِنَا ، فَقَالَ الْمُثَنّى : قَدْ سَمِعْت مَقَالَتَك يَا أَخَا قُرَيْشٍ ، وَالْجَوَابُ هُوَ جَوَابُ هَانِئِ بْنِ قَبِيصَةَ فِي تَرْكِنَا دِينَنَا ، وَاتّبَاعِنَا إيّاكَ لِمَجْلِسِ جَلَسْته إلَيْنَا لَيْسَ لَهُ أَوّلٌ وَلَا آخِرُ وَإِنّا إنّمَا نَزَلْنَا بَيْنَ صَرَيَانِ الْيَمَامَةِ وَالسّمَاوَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَا هَذَانِ الصّرَيَانِ ؟ فَقَالَ أَنْهَارُ كِسْرَى ، وَمِيَاهُ الْعَرَبِ ، فَأَمّا مَا كَانَ مِنْ أَنْهَارِ كِسْرَى ، فَذَنْبُ صَاحِبَيْهِ غَيْرُ مَغْفُورٍ وَعُذْرُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ وَأَمّا مَا كَانَ مِنْ مِيَاهِ الْعَرَبِ ، فَذَنْبُهُ مَغْفُورٌ وَعُذْرُهُ مَقْبُولٌ وَإِنّمَا نَزَلْنَا عَلَى عَهْدٍ أَخَذَهُ عَلَيْنَا كِسْرَى أَنْ لَا نُحْدِثَ حَدَثًا وَلَا نُؤْوِيَ مُحْدِثًا ، وَإِنّي أَرَى هَذَا الْأَمْرَ الّذِي تَدْعُونَا إلَيْهِ هُوَ مِمّا تَكْرَهُهُ الْمُلُوكُ فَإِنْ أَحْبَبْت أَنْ نُؤْوِيَك وَنَنْصُرَك مِمّا يَلِي مِيَاهَ الْعَرَبِ ، فَعَلْنَا فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَا أَسَأْتُمْ فِي الرّدّ إذْ أَفْصَحْتُمْ بِالصّدْقِ [ ص 241 ] دِينَ اللّهِ لَنْ يَنْصُرَهُ إلّا مَنْ حَاطَهُ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِهِ أَرَأَيْتُمْ إنْ لَمْ تَلْبَثُوا إلّا قَلِيلًا حَتّى يُورِثَكُمْ اللّهُ أَرْضَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَيُفْرِشَكُمْ نِسَاءَهُمْ أَتُسَبّحُونَ اللّهَ وَتُقَدّسُونَهُ فَقَالَ النّعْمَانُ بْنُ شَرِيكٍ اللّهُمّ لَك ذَا ، فَتَلَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ { إِنّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى اللّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا } [ الْأَحْزَابَ : 46 ] ثُمّ نَهَضَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَأَخَذَ بِيَدَيّ فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ يَا أَبَا حُسْنٍ أَيّةُ أَخْلَاقٍ فِي الْجَاهِلِيّةِ مَا أَشْرَفَهَا بِهَا يَدْفَعُ اللّهُ بَأْسَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ وَبِهَا يَتَحَاجَزُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ قَالَ ثُمّ دَفَعْنَا إلَى مَجْلِسِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ، فَمَا نَهَضْنَا حَتّى بَايَعُوا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانُوا صُدَقَاءَ صُبَرَاءَ وَرَوَى فِي حَدِيثٍ مُسْنَدٍ إلَى طَارِقٍ قَالَ رَأَيْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَرّتَيْنِ رَأَيْته بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى الْقَبَائِلِ يَقُولُ يَا أَيّهَا النّاسُ قُولُوا : لَا إلَهَ إلّا اللّهُ تُفْلِحُوا وَخَلْفَهُ رَجُلٌ لَهُ غَدِيرَتَانِ يَرْجُمُهُ بِالْحِجَارَةِ حَتّى أَدْمَى كَعْبَيْهِ يَقُولُ يَا أَيّهَا النّاسُ لَا تَسْمَعُوا مِنْهُ فَإِنّهُ كَذّابٌ فَسَأَلْت عَنْهُ فَقِيلَ هُوَ غُلَامُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، قُلْت : وَمَنْ الرّجُلُ يَرْجُمُهُ ؟ فَقِيلَ لِي : هُوَ عَمّهُ عَبْدُ الْعُزّى أَبُو لَهَبٍ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ . خَرّجَهُ الدّارَقُطْنِيّ ، وَوَقَعَ أَيْضًا فِي السّيرَةِ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ .

حَدِيثُ سُوَيْدِ بْنِ صَامِتٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيّ ، ثُمّ الظّفَرِيّ عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ قَالُوا : قَدِمَ سُوَيْدُ بْنُ صَامِتٍ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مَكّةَ حَاجّا أَوْ مُعْتَمِرًا ، [ ص 242 ] وَكَانَ سُوَيْدٌ إنّمَا يُسَمّيهِ قَوْمُهُ فِيهِمْ الْكَامِلَ لِجَلَدِهِ وَشِعْرِهِ وَشَرَفِهِ وَنَسَبِهِ وَهُوَ الّذِي يَقُولُ
أَلَا رُبّ مَنْ تَدْعُو صَدِيقًا وَلَوْ تَرَى
مَقَالَتَهُ بِالْغَيْبِ سَاءَك مَا يَفْرِي
مَقَالَتُهُ كَالشّهْدِ مَا كَانَ شَاهِدًا
وَبِالْغَيْبِ مَأْثُورٌ عَلَى ثُغْرَةِ النّحْرِ
يَسُرّك بَادِيهِ وَتَحْتَ أَدِيمِه
نَمِيمَةُ غِشّ تَبْتَرِي عَقِبَ الظّهْرِ
تُبِينُ لَك الْعَيْنَانِ مَا هُوَ كَاتِمٌ
مِنْ الْغِلّ وَالْبَغْضَاءِ بِالنّظَرِ الشّزْرِ
فَرِشْنِي بِخَيْرِ طَالَمَا قَدْ بَرَيْتنِي
وَخَيْرُ الْمَوَالِي مَنْ يَرِيشُ وَلَا يَبْرِي
وَهُوَ الّذِي يَقُولُ وَنَافَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ ثُمّ أَحَدِ بَنِي زَعْبِ بْنِ مَالِكٍ مِائَةَ نَاقَةٍ إلَى كَاهِنَةٍ مِنْ كُهّانِ الْعَرَبِ ، فَقَضَتْ لَهُ . فَانْصَرَفَ عَنْهَا هُوَ وَالسّلَمِيّ لَيْسَ مَعَهُمَا غَيْرُهُمَا ، فَلَمّا فَرّقَتْ بَيْنَهُمَا الطّرِيقُ قَالَ مَا لِي ، يَا أَخَا بَنِي سُلَيْمٍ قَالَ أَبْعَثُ إلَيْك بِهِ قَالَ فَمَنْ لِي بِذَلِكَ إذَا فُتّنِي بِهِ ؟ قَالَ أَنَا ، قَالَ كَلّا ، وَاَلّذِي نَفْسُ سُوَيْدٍ بِيَدِهِ لَا تُفَارِقُنِي حَتّى أُوتَى [ ص 243 ] بِمَالِ فَاِتّخَذَا فَضَرَبَ بِهِ الْأَرْضَ ثُمّ أَوْثَقَهُ رِبَاطًا ثُمّ انْطَلَقَ بِهِ إلَى دَارِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ حَتّى بَعَثَتْ إلَيْهِ سُلَيْمٌ بِاَلّذِي لَهُ فَقَالَ فِي ذَلِكَ
ل َا تَحْسَبَنّي يَا بْنَ زَعْبِ بْنِ مَالِك ٍ
كَمَنْ كُنْت تُرْدِي بِالْغُيُوبِ وَتَخْتِلُ
تَحَوّلْت قَرْنًا إذْ صُرِعْت بِعِزّةِ
كَذَلِكَ إنّ الْحَازِمَ الْمُتَحَوّلُ
ضَرَبْت بِهِ إبْطَ الشّمَالِ فَلَمْ يَزَلْ
عَلَى كُلّ حَالٍ خَدّهُ هُوَ أَسْفَلُ
فِي أَشْعَارٍ كَثِيرَةٍ كَانَ يَقُولُهَا : فَتَصَدّى لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ سَمِعَ بِهِ فَدَعَاهُ إلَى اللّهِ وَإِلَى الْإِسْلَامِ فَقَالَ لَهُ سُوَيْدٌ : فَلَعَلّ الّذِي مَعَك مِثْلُ الّذِي مَعِي ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَا الّذِي مَعَك " ؟ قَالَ مَجَلّةُ لُقْمَانَ - يَعْنِي حِكْمَةَ لُقْمَانَ . فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اعْرِضْهَا عَلَي فَعَرَضَهَا عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ إنّ هَذَا الْكَلَامَ حَسَنٌ وَاَلّذِي مَعِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا ، قُرْآنٌ أَنْزَلَهُ اللّهُ تَعَالَى عَلَيّ هُوَ هُدَى وَنُورٌ . فَتَلَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْقُرْآنَ وَدَعَاهُ إلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ وَقَالَ إنّ هَذَا لَقَوْلٌ حَسَنٌ . ثُمّ انْصَرَفَ عَنْهُ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ عَلَى قَوْمِهِ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ قَتَلَتْهُ الْخَزْرَجُ ، فَإِنْ كَانَ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ لَيَقُولُونَ إنّا لَنَرَاهُ قَدْ قُتِلَ وَهُوَ مُسْلِمٌ . وَكَانَ قَتْلُهُ قَبْلَ يَوْمِ بُعَاثٍ حَدِيثُ سُوَيْدِ بْنِ صَامِتٍ
Sفَصْلٌ ذَكَرَ حَدِيثَ سُوَيْدِ بْنِ صَامِتٍ وَشِعْرَهُ .
[ ص 242 ] وَبِالْغَيْبِ مَأْثُورٌ عَلَى ثُغْرَةِ النّحْر ِ
يَعْنِي السّيْفَ وَمَأْثُورٌ مِنْ الْأَثْرِ وَهُوَ فِرِنْدُ السّيْفِ وَيُقَالُ فِيهِ أَثْرٌ وَإِثْرٌ . قَالَ الشّاعِرُ
جَلَاهَا الصّيْعَلُونَ فَأَخْلَصُوهَا
خِفَاقًا كُلّهَا يَتْقِي بِأَثْرِ
أَرَادَ يَتّقِي ، وَسُوَيْدٌ : هُوَ الْكَامِلُ وَهُوَ ابْنُ الصّلْتِ بْنِ حَوْطِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ وَأُمّهُ لَيْلَى بِنْتُ عَمْرٍو النّجّارِيّةُ أُخْتُ سَلْمَى بِنْتِ عَمْرِو [ بْنِ زَيْدِ بْنِ لَبِيَدِ بْنِ خِدَاشِ بْنِ عَامِرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَدِيّ بْنِ النّجّارِ [ تَيْمِ اللّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْخَزْرَجِ ] أُمّ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ ، فَسُوَيْدٌ هَذَا ابْنُ خَالَةِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَبِنْتُ سُوَيْدٍ هِيَ أُمّ عَاتِكَةَ أُخْتُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ امْرَأَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ ، فَهُوَ جَدّهَا لِأُمّهَا وَاسْمُ أُمّهَا : زَيْنَبُ وَقِيلَ جَلِيسَةُ بِنْتُ سُوَيْدٍ ، هَكَذَا ذَكَرَهُ الزّبَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ .
ذِكْرُ مَجَلّةِ لُقْمَانَ
[ ص 243 ] وَذَكَرَ مَجَلّةَ لُقْمَانَ وَهِيَ الصّحِيفَةُ وَكَأَنّهَا مَفْعَلَةٌ مِنْ الْجَلَالِ وَالْجَلَالَةِ أَمّا الْجَلَالَةُ فَمِنْ صِفَةِ الْمَخْلُوقِ وَالْجَلَالُ مِنْ صِفَةِ اللّهِ تَعَالَى ، وَقَدْ أَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُقَالَ فِي الْمَخْلُوقِ جَلَالٌ وَجَلَالَةٌ وَأَنْشَدَ
فَلَا ذَا جَلَالٍ هِبْنَهُ لِجَلَالَة ِ
وَلَا ذَا ضَيَاعٍ هُنّ يَتْرُكْنَ لِلْفَقْرِ
وَلُقْمَانُ كَانَ نُوبِيّا مِنْ أَهْلِ أَيْلَةَ وَهُوَ لُقْمَانُ بْنُ عَنْقَاءَ بْنِ سُرُور فِيمَا ذَكَرُوا وَابْنُهُ الّذِي ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ هُوَ ثَأْرَانُ فِيمَا ذَكَرَ الزّجّاجُ وَغَيْرُهُ وَقَدْ قِيلَ فِي اسْمِهِ غَيْرُ ذَلِكَ وَلَيْسَ بِلُقْمَانَ بْنِ عَادٍ الْحِمْيَرِيّ .

إسْلَامُ إيَاسِ بْنِ مُعَاذٍ وَقِصّةُ أَبِي الْحَيْسَرِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 244 ] وَحَدّثَنِي الْحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيَدٍ ، قَالَ لَمّا قَدِمَ أَبُو الْحَيْسَرِ أَنَسُ بْنُ رَافِعٍ ، مَكّةَ وَمَعَهُ فِتْيَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ فِيهِمْ إيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ ، يَلْتَمِسُونَ الْحِلْفَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى قَوْمِهِمْ مِنْ الْخَزْرَجِ ، سَمِعَ بِهِمْ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَأَتَاهُمْ فَجَلَسَ إلَيْهِمْ فَقَالَ لَهُمْ " هَلْ لَكُمْ فِي خَيْرٍ مِمّا جِئْتُمْ لَهُ " ؟ فَقَالُوا لَهُ وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ أَنَا رَسُولُ اللّهِ بَعَثَنِي إلَى الْعِبَادِ أَدْعُوهُمْ إلَى أَنْ يَعْبُدُوا اللّهَ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَأَنْزَلَ عَلَيّ الْكِتَابَ . قَالَ ثُمّ ذَكَرَ لَهُمْ الْإِسْلَامَ وَتَلَا عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ . قَالَ فَقَالَ إيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ ، وَكَانَ غُلَامًا حَدَثًا : أَيْ قَوْمُ هَذَا وَاَللّهِ خَيْرٌ مِمّا جِئْتُمْ لَهُ . قَالَ فَيَأْخُذُ أَبُو الْحَيْسَرِ أَنَسُ بْنُ رَافِعٍ ، حَفْنَةً مِنْ تُرَابِ الْبَطْحَاءِ ، فَضَرَبَ بِهَا وَجْهَ إيَاسِ بْنِ مُعَاذٍ ، وَقَالَ دَعْنَا مِنْك ، فَلَعَمْرِي لَقَدْ جِئْنَا لِغَيْرِ هَذَا . قَالَ فَصَمَتَ إيَاسٌ وَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْهُمْ وَانْصَرَفُوا إلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَتْ وَقْعَةُ بُعَاثٍ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ . قَالَ ثُمّ لَمْ يَلْبَثْ إيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ أَنْ هَلَكَ . قَالَ مَحْمُودُ بْنُ لَبِيَدٍ : فَأَخْبَرَنِي مَنْ حَضَرَهُ مِنْ قَوْمِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ أَنّهُمْ لَمْ يَزَالُوا يَسْمَعُونَهُ يُهَلّلُ اللّهَ تَعَالَى وَيُكَبّرُهُ وَيَحْمَدُهُ وَيُسَبّحُهُ حَتّى مَاتَ فَمَا كَانُوا يَشُكّونَ أَنْ قَدْ مَاتَ مُسْلِمًا ، لَقَدْ كَانَ اسْتَشْعَرَ الْإِسْلَامَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ حِينَ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا سَمِعَ .
Sذِكْرُ قُدُومِ أَبِي الْحَيْسَرِ
[ ص 244 ] وَذَكَرَ قُدُومَ أَبِي الْحَيْسَرِ أَنَسِ بْنِ رَافِعٍ يَطْلُبُ الْحِلْفَ وَذَلِكَ بِسَبَبِ الْحَرْبِ الّتِي كَانَتْ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ، وَهِيَ حَرْبُ بُعَاثٍ الْمَذْكُورَةُ وَلَهُمْ فِيهَا أَيّامٌ مَشْهُورَةٌ هَلَكَ فِيهَا كَثِيرٌ مِنْ صَنَادِيدِهِمْ وَأَشْرَافِهِمْ وَبُعَاثٌ اسْمُ أَرْضٍ بِهَا عُرِفَتْ .

الرّسُولُ مَعَ نَفَرٍ مِنْ الْخَزْرَجِ عِنْدَ الْعَقَبَةِ
[ ص 245 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا أَرَادَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ إظْهَارَ دِينِهِ وَإِعْزَازَ نَبِيّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِنْجَازَ مَوْعِدِهِ لَهُ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمَوْسِمِ الّذِي لَقِيَهُ فِيهِ النّفَرُ مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَعَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ ، كَمَا كَانَ صَنَعَ فِي كُلّ مَوْسِمٍ . فَبَيْنَمَا هُوَ عِنْدَ الْعَقَبَةِ لَقِيَ رَهْطًا مِنْ الْخَزْرَجِ أَرَادَ اللّهُ بِهِمْ خَيْرًا [ ص 246 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ قَالُوا : لَمّا لَقِيَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَهُمْ مَنْ أَنْتُمْ ؟ قَالُوا : نَفَرٌ مِنْ الْخَزْرَجِ ، قَالَ أَمِنْ مَوَالِي يَهُودَ ؟ قَالُوا : نَعَمْ قَالَ أَفَلَا تَجْلِسُونَ أُكَلّمُكُمْ ؟ قَالُوا : بَلَى . فَجَلَسُوا مَعَهُ فَدَعَاهُمْ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ الْإِسْلَامَ وَتَلَا عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ . وَكَانَ مِمّا صَنَعَ اللّهُ لَهُمْ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ أَنّ يَهُودَ كَانُوا مَعَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ وَكَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَعِلْمٍ وَكَانُوا هُمْ أَهْلَ شِرْكٍ وَأَصْحَابَ أَوْثَانٍ وَكَانُوا قَدْ عَزّوهُمْ بِبِلَادِهِمْ فَكَانُوا إذَا كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ قَالُوا لَهُمْ إنّ نَبِيّا مَبْعُوثٌ الْآنَ قَدْ أَظَلّ زَمَانُهُ نَتّبِعُهُ فَنَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ . فَلَمّا كَلّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أُولَئِكَ النّفَرَ وَدَعَاهُمْ إلَى اللّهِ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ يَا قَوْمُ تَعْلَمُوا وَاَللّهِ إنّهُ لَلنّبِيّ الّذِي تَوَعّدَكُمْ بِهِ يَهُودُ فَلَا تَسْبِقَنّكُمْ إلَيْهِ . فَأَجَابُوهُ فِيمَا دَعَاهُمْ إلَيْهِ بِأَنْ صَدّقُوهُ وَقَبِلُوا مِنْهُ مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْإِسْلَامِ وَقَالُوا : إنّا قَدْ تَرَكْنَا قَوْمَنَا ، وَلَا قَوْمَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْعَدَاوَةِ وَالشّرّ مَا بَيْنَهُمْ فَرُوِيَ أَنْ يَجْمَعَهُمْ اللّهُ بِك ، فَسَنَقْدَمُ عَلَيْهِمْ فَنَدْعُوهُمْ إلَى أَمْرِك ، وَتَعْرِضُ عَلَيْهِمْ الّذِي أَجَبْنَاك إلَيْهِ مِنْ هَذَا الدّينِ فَإِنْ يَجْمَعْهُمْ اللّهُ عَلَيْهِ فَلَا رَجُلَ أَعَزّ مِنْك [ ص 247 ]
أَسْمَاءُ الْخَزْرَجِيّينَ الّذِينَ الْتَقَوْا بِالرّسُولِ عِنْدَ الْعَقَبَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَهُمْ - فِيمَا ذُكِرَ لِي : سِتّةُ نَفَرٍ مِنْ الْخَزْرَجِ ، مِنْهُمْ مِنْ بَنِي النّجّارِ - وَهُوَ تَيْمُ اللّهِ - ثُمّ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ النّجّارِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ : أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ بْنِ عُدَسَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ وَهُوَ أَبُو أُمَامَةَ وَعَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ سَوَادِ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ وَهُوَ ابْنُ عَفْرَاءَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَعَفْرَاءُ بِنْتُ عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمِنْ بَنِي زُرَيْقِ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقِ بْنِ عَبْدِ حَارِثَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَضْبِ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ : رَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ عَامِرُ بْنُ الْأَزْرَقِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمِنْ بَنِي سَلِمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ سَارِدَةَ بْنِ تَزِيدَ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ ، ثُمّ مِنْ بَنِي سَوَادِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ قُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ سَوَادٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : عَمْرُو بْنُ سَوَادٍ ، وَلَيْسَ لِسَوَادِ ابْنٌ يُقَالُ لَهُ غَنْمٌ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمِنْ بَنِي حَرَامِ بْنِ كَعْبِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَابِي بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامٍ . وَمِنْ بَنِي عُبَيْدِ بْنِ عَدِيّ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ رِئَابِ بْنِ النّعْمَانِ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدٍ . فَلَمّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ إلَى قَوْمِهِمْ ذَكَرُوا لَهُمْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَدَعَوْهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ حَتّى فَشَا فِيهِمْ فَلَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إلّا وَفِيهَا ذِكْرٌ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
Sبَدْءُ إسْلَامِ الْأَنْصَارِ
[ ص 245 ] الْأَنْصَارُ اسْمًا لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيّةِ حَتّى سَمّاهُمْ اللّهُ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ وَهُمْ بَنُو الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ، وَالْخَزْرَجُ : الرّيحُ الْبَارِدَةُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ وَهِيَ الْجَنُوبُ خَاصّةً وَدُخُولُ الْأَلِفِ وَاللّامِ فِي الْأَوْسِ عَلَى حَدّ دُخُولِهَا فِي التّيْمِ جَمْعُ : تَيْمِيّ وَهُوَ مِنْ بَابِ رُومِيّ وَرُومٍ لِأَنّ الْأَوْسَ هِيَ الْعَطِيّةُ أَوْ الْعِوَضُ وَمِثْلُ هَذَا إذَا كَانَ عَلَمًا لَا يَدْخُلُهُ الْأَلِفُ وَاللّامُ أَلَا تَرَى أَنّ كُلّ أَوْسٍ فِي الْعَرَبِ غَيْرُ هَذَا ، فَإِنّهُ بِغَيْرِ أَلِفٍ وَلَامٍ كَأَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ الطّائِيّ وَغَيْرِهِ وَكَذَلِكَ أَوْسٌ وَأُوَيْسٌ الذّئْبُ قَالَ الرّاجِزُ
يَا لَيْتَ شِعْرِي عَنْهُ وَالْأَمْرُ عَمَمْ
مَا فَعَلَ الْيَوْمَ أَوَيْسٌ بِالْغَنَمْ
وَأَبُوهُمْ حَارِثَةُ بْنُ ثَعْلَبَةَ [ بْنِ عَمْرِو مُزَيْقِيَاءَ بْنِ عَامِرٍ مَاءِ السّمَاءِ بْنِ حَارِثَةَ الْغِطْرِيفِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ الْأَزْدِيّ ] ، وَهُوَ أَيْضًا : وَالِدُ خُزَاعَةَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَأُمّهُمْ قَيْلَةُ بِنْتُ كَاهِلِ بْنِ عُذْرَةَ قُضَاعِيّةٌ وَيُقَالُ هِيَ بِنْتُ جَفْنَةَ وَاسْمُهُ عُلْبَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ، وَقِيلَ بِنْتُ سَيْعِ بْنِ الْهَوْنِ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ قَالَهُ الزّبَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي كِتَابِ أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ . [ ص 246 ] وَالْأَنْصَارُ : جَمْعُ نَاصِرٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ فِي جَمْعِ فَاعِلٍ وَلَكِنْ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْأَلِفِ مِنْ نَاصِرٍ لِأَنّهَا زَائِدَةٌ فَالِاسْمُ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِهَا : ثُلَاثِيّ وَالثّلَاثِيّ يُجْمَعُ عَلَى أَفْعَالٍ وَقَدْ قَالُوا فِي نَحْوِهِ صَاحِبٌ وَأَصْحَابٌ وَشَاهِدٌ وَأَشْهَادٌ . وَذَكَرَ قَوْلَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِلنّفَرِ مِنْ الْأَنْصَارِ : أَمِنْ مَوَالِي يَهُودَ أَنْتُمْ " ؟ أَيْ مِنْ حُلَفَائِهِمْ وَالْمَوْلَى يَجْمَعُ الْحَلِيفَ وَابْنَ الْعَمّ وَالْمُعْتَقَ وَالْمُعْتِقَ لِأَنّهُ مَفْعَلٌ مِنْ الْوِلَايَةِ وَجَاءَ عَلَى وَزْنِ مَفْعَلٍ لِأَنّهُ مَفْزَعٌ وَمَلْجَأٌ لِوَلِيّهِ فَجَاءَ عَلَى وَزْنِ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ . وَذَكَرَ النّفَرَ الْقَادِمِينَ فِي الْعَامِ الثّانِي الّذِينَ بَايَعُوهُ بَيْعَةَ النّسَاءِ وَقَدْ ذَكَرَ اللّهُ تَعَالَى بَيْعَةَ النّسَاءِ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ { يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللّهِ شَيْئًا } [ الْمُمْتَحِنَةَ 12 ] الْآيَةَ فَأَرَادَ بِبَيْعَةِ النّسَاءِ أَنّهُمْ لَمْ يُبَايِعُوهُ عَلَى الْقِتَالِ وَكَانَتْ مُبَايَعَتُهُ لِلنّسَاءِ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهِنّ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ فَإِذَا أَقْرَرْنَ بِأَلْسِنَتِهِنّ قَالَ قَدْ بَايَعْتُكُنّ وَمَا مَسّتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ فِي مُبَايَعَةٍ كَذَلِكَ قَالَتْ عَائِشَةُ وَقَدْ رُوِيَ أَنّهُنّ كُنّ يَأْخُذْنَ بِيَدِهِ فِي الْبَيْعَةِ مِنْ فَوْقِ ثَوْبٍ وَهُوَ قَوْلُ عَامِرٍ الشّعْبِيّ ، ذَكَرَهُ عَنْهُ ابْنُ سَلَامٍ فِي تَفْسِيرِهِ وَالْأَوّلُ أَصَحّ وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمُقْرِي النّقّاشُ فِي صِفَةِ بَيْعَةِ النّسَاءِ وَجْهًا ثَالِثًا أَوْرَدَ فِيهِ آثَارًا ، وَهُوَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَانَ يَغْمِسُ يَدَهُ فِي إنَاءٍ وَتَغْمِسُ الْمَرْأَةُ يَدَهَا فِيهِ عِنْدَ الْمُبَايَعَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَقْدًا لِلْبَيْعَةِ وَلَيْسَ هَذَا [ ص 247 ] ابْنَ إسْحَاقَ أَيْضًا قَدْ ذَكَرَهُ فِي رِوَايَةٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ أَبَانَ بْنِ أَبِي صَالِحٍ وَذَكَرَ أَنْسَابَ الّذِينَ بَايَعُوهُ وَسَنُعِيدُهُ فِي بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ وَغَزَاةِ بَدْرٍ وَهُنَاكَ يَقَعُ التّنْبِيهُ عَلَى مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ بِعَوْنِ اللّهِ .

بَيْعَةُ الْعَقَبَةِ الْأُولَى
[ ص 248 ] كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ وَافَى الْمَوْسِمَ مِنْ الْأَنْصَارِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا ، فَلَقُوهُ بِالْعَقَبَةِ وَهِيَ الْعَقَبَةُ الْأُولَى ، فَبَايَعُوا رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَلَى بَيْعَةِ النّسَاءِ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْتَرَضَ عَلَيْهِمْ الْحَرْبُ . مِنْهُمْ مِنْ بَنِي النّجّارِ ثُمّ بَنِي مَالِكِ بْنِ النّجّارِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ بْنِ عُدَسَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ وَهُوَ أَبُو أُمَامَةَ وَعَوْفٌ وَمُعَاذٌ ابْنَا الْحَارِثِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ سَوَادِ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ وَهُمَا ابْنَا عَفْرَاءَ [ ص 249 ] بَنِي زُرَيْقِ بْنِ عَامِرٍ رَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقٍ وَذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قَيْسِ بْنِ خَلَدَةَ بْنِ مَخْلَدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : ذَكْوَانُ ، مُهَاجِرِيّ أَنْصَارِيّ . وَمِنْ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، ثُمّ مِنْ بَنِي غَنْمِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، وَهُمْ الْقَوَاقِلُ عُبَادَةُ بْنُ الصّامِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ أَصْرَمَ بْنِ فِهْرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمٍ ؛ وَأَبُو عَبْدِ الرّحْمَنِ وَهُوَ يَزِيدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ خَزْمَةَ بْنِ أَصْرَمَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَارَةَ ، مِنْ بَنِي غُصَيْنَةَ مِنْ بَلِيّ ، حَلِيفٌ لَهُمْ . [ ص 250 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَإِنّمَا قِيلَ لَهُمْ الْقَوَاقِلُ لِأَنّهُمْ كَانُوا إذَا اسْتَجَارَ بِهِمْ الرّجُلُ دَفَعُوا لَهُ سَهْمًا ، وَقَالُوا لَهُ قَوْقِلْ بِهِ بِيَثْرِبَ حَيْثُ شِئْت . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْقَوْقَلَةُ ضَرْبٌ مِنْ الْمَشْيِ . وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمِنْ بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْخَزْرَجِ ، ثُمّ مِنْ بَنِي الْعَجْلَانِ بْنِ زَيْدِ بْنِ غَنْمِ بْنِ سَالِمٍ الْعَبّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ . وَمِنْ بَنِي سَلِمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَسَدِ بْنِ سَارِدَةَ بْنِ تَزِيدَ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ ، ثُمّ مِنْ بَنِي حَرَامِ بْنِ كَعْبِ بْنِ غَنْمِ بْنِ سَلَمَةَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ نَابِي بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامٍ . وَمِنْ بَنِي سَوَادِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ قُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ سَوَادٍ .
رِجَالُ الْعَقَبَةِ مِنْ الْأَوْسِ
وَشَهِدَهَا مِنْ الْأَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ثُمّ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ : أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التّيّهَانِ ، وَاسْمُهُ مَالِكٌ [ ص 251 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : التّيّهَانُ يُخَفّفُ وَيُثَقّلُ كَقَوْلِهِ مَيْثٌ وَمَيّتٌ .
رِجَالُ الْعَقَبَةِ الْأُولَى مِنْ بَنِي عَمْرٍو
وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ : عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ .
S[ ص 248 ] وَذَكَرَ فِي أَنْسَابِ الْمُبَايِعِينَ لَهُ فِي الْعَقَبَةِ الْأُولَى فِي بَنِي سَلِمَةَ مِنْهُمْ سَادِرَةُ بْنُ تَزِيدَ بْنِ جُشَمَ وَتَزِيدُ بِتَاءِ مَنْقُوطَةٍ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ فَوْقُ وَلَا يُعْرَفُ فِي الْعَرَبِ تَزِيدُ إلّا هَذَا ، وَتَزِيدُ بْنُ الْحَافّ بْنِ قُضَاعَةَ ، وَهُمْ الّذِينَ تُنْسَبُ إلَيْهِمْ الثّيَابُ التّزِيدِيّةُ وَأَمّا سَلِمَةُ بِكَسْرِ اللّامِ فَهُمْ مِنْ الْأَنْصَارِ سُمّيَ بِالسّلِمَةِ وَاحِدَةِ السّلَامِ وَهِيَ الْحِجَارَةُ قَالَ الشّاعِرُ
ذَاكَ خَلِيلِي وَذُو يُعَاتِبُنِي ... يَرْمِي وَرَائِي بِالسّهْمِ وَالسّلِمَةِ
وَفِي جُعْفِيّ سَلِمَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ دُهْلِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ جُعْفِيّ وَفِي جُهَيْنَةَ سَلِمَةُ بْنُ نَصْرِ بْنِ غَطَفَانَ قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ النّسّابَةُ فِي الصّحَابَةِ عَمْرُو بْنُ سَلِمَةَ أَبُو بُرَيْدَةَ الْجَرْمِيّ الّذِي أَمّ قَوْمَهُ وَهُوَ ابْنُ سِتّ سِنِينَ أَوْ سَبْعٍ وَفِي الرّوَاةِ عَبْدُ اللّهِ بْنُ سَلِمَةَ وَيُنْسَبُ إلَى بَنِي سَلِمَةَ هَؤُلَاءِ سَلَمِيّ بِالْفَتْحِ كَمَا يُنْسَبُ إلَى بَنِي سَلَمَةَ وَهُمْ بَطْنَانِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ يُقَالُ لَهُمْ السّلَمَاتُ يُقَالُ لِأَحَدِهِمْ سَلَمَةُ الْخَيْرِ وَلِلْآخَرِ سَلَمَةُ الشّرّ ابْنَا قَصِيرِ بْنِ كَعْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرٍ وَأَمّا بَنُو سَلِيمَةَ بِيَاءِ فَفِي دَوْسٍ ، وَهُمْ بَنُو سَلِيمَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ فَهْمِ بْنِ غَنْمِ بْنِ دَوْسٍ ، وَسَلِيمَةُ هَذَا هُوَ أَخُو جَذِيمَةَ الْأَبْرَشِ وَهُوَ الّذِي قَتَلَ أَخَاهُ مَالِكًا بِسَهْمِ قَتْلَ خَطَأٍ وَيُقَالُ فِي النّسَبِ إلَيْهِ سَلَمِيّ أَيْضًا وَهُوَ الْقِيَاسُ وَقَدْ قِيلَ سُلَيْمِيّ كَمَا قِيلَ فِي عُمَيْرَةَ عُمَيْرِيّ . وَذَكَرَ بَنِي جِدَارَةَ مِنْ بَنِي النّجّارِ وَجِدَارَةُ وَخُدَارَةُ أَخَوَانِ وَغَيْرُهُ يَقُولُ فِي جِدَارَةَ خُدَارَةَ بِالْخَاءِ الْمَضْمُومَةِ وَهَكَذَا قَيّدَهُ أَبُو عَمْرٍو ، كَذَلِكَ ذَكَرَهُ ابْنُ دُرَيْدٍ فِي الِاشْتِقَاقِ وَهُوَ أَشْبَهُ بِالصّوَابِ لِأَنّهُ أَخُو خُدْرَةَ وَكَثِيرًا مَا يَجْعَلُونَ أَسْمَاءَ الْإِخْوَةِ مُشْتَقّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ . [ ص 249 ] وَذَكَرَ الْقَوَاقِلَ وَهُمْ بَنُو عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكٍ وَذَكَرَ تَسْمِيَتَهُمْ الْقَوَاقِلَ وَأَنّ ذَلِكَ لِقَوْلِهِمْ إذَا أَجَارُوا أَحَدًا : قَوْقِلْ حَيْثُ شِئْت ، وَفِي الْأَنْصَارِ : الْقَوَاقِلُ وَالْجَعَادِرُ وَهُمَا بَطْنَانِ مِنْ الْأَوْسِ ، وَسَبَبُ تَسْمِيَتِهِمَا : وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى ، أَمّا الْجَعَادِرُ فَكَانُوا إذَا أَجَارُوا أَحَدًا أَعْطَوْهُ سَهْمًا ، وَقَالُوا لَهُ جَعْدِرْ حَيْثُ شِئْت ، كَمَا كَانَتْ الْقَوَاقِلُ تَفْعَلُ وَهُمْ بَنُو زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ ضُبَيْعَةَ [ بْنِ زَيْدٍ ] يُقَالُ لَهُمْ كَسْرُ الذّهَبِ وَهُمَا جَمِيعًا مِنْ الْأَوْسِ . قَالَ الشّاعِرُ
فَإِنّ لَنَا بَيْن الْجَوَارِي وَلِيدَةً ... مُقَابَلَةً بَيْنَ الْجَعَادِرِ وَالْكَسْرِ
مَتَى تَدْعُ فِي الزّيْدَيْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكٍ ... وَزَيْدِ بْنِ عَمْرٍو تَأْتِهَا عِزّةُ الْخَفْرِ
وَذَكَرَ فِيهِمْ أَبَا الْهَيْثَمِ بْنَ التّيّهَانِ وَلَمْ يَنْسُبْهُ وَلَا نَسَبَهُ فِي أَهْلِ الْعَقَبَةِ الثّانِيَةِ وَلَا فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ وَهُوَ مَالِكُ بْنُ التّيّهَانِ وَاسْمُ التّيّهَانِ أَيْضًا مَالِكُ بْنُ عَتِيكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَمِ بْنِ عَامِرِ بْنِ زَعْوَنِ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ الْأَنْصَارِيّ حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ كَانَ أَحَدَ النّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ ، ثُمّ شَهِدَ بَدْرًا ، وَاخْتُلِفَ فِي وَقْتِ وَفَاتِهِ فَأَصَحّ مَا قِيلَ فِيهِ إنّهُ شَهِدَ مَعَ عَلِيّ صِفّينَ وَقُتِلَ فِيهَا رَحِمَهُ اللّهُ وَأَحْسَبُ ابْنَ إسْحَاقَ وَابْنَ هِشَامٍ تَرَكَا نَسَبَهُ عَلَى جَلَالَتِهِ فِي الْأَنْصَارِ وَشُهُودِهِ هَذِهِ الْمَشَاهِدَ كُلّهَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِاخْتِلَافِ فِيهِ فَقَدْ وَجَدْت فِي شِعْرِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ رَوَاحَةَ حِينَ أَضَافَ أَبُو الْهَيْثَمِ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي مَنْزِلِهِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَذَبَحَ لَهُمْ عَنَاقًا وَأَتَاهُمْ بِقِنْوِ مِنْ رُطَبٍ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ فَقَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ فِي ذَلِكَ
فَلَمْ أَرَ كَالْإِسْلَامِ عِزّا لِأَهْلِهِ ... وَلَا مِثْلَ أَضْيَافٍ لِأَرَاشِيّ مَعْشَرَا
[ ص 250 ] فَجَعَلَ إرَشِيّا كَمَا تَرَى ، وَالْإِرَاشِيّ مَنْسُوبٌ إلَى إرَاشَةَ فِي خُزَاعَةَ ، أَوْ إلَى إرَاشِ بْنِ لِحْيَانَ بْنِ الْغَوْثِ فَاَللّهُ أَعْلَمُ أَهُوَ أَنْصَارِيّ بِالْحِلْفِ أَمْ بِالنّسَبِ الْمَذْكُورِ قَبْلَ هَذَا ، وَنَقَلْته مِنْ قَوْلِ أَبِي عُمَرَ فِي الِاسْتِيعَابِ وَقَدْ قِيلَ إنّهُ بَلَوِيّ مِنْ بَنِي إرَاشَةَ بْنِ فَارَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ بَلِيّ ، وَالْهَيْثَمُ فِي اللّغَةِ فَرْخُ [ النّسْرِ أَوْ ] ، الْعُقَابِ وَالْهَيْثَمُ أَيْضًا ضَرْبٌ مِنْ الْعُشْبِ فِيمَا ذَكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ وَبِهِ سُمّيَ الرّجُلُ هَيْثَمًا أَوْ بِالْمَعْنَى الْأَوّلِ وَأَنْشَدَ
رَعَتْ بِقَرَانِ الْحَزْنِ رَوْضًا مُنَوّرًا ... عَمِيمًا مِنْ الظّلّاعِ وَالْهَيْثَمِ الْجَعْدِ

بَيْعَةُ الْعَقَبَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ ، عَنْ ( أَبِي ) مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ الْيَزَنِيّ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عُسَيْلَةَ الصّنَابِحِيّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ ، قَالَ كُنْت فِيمَنْ حَضَرَ الْعَقَبَةَ الْأُولَى ، وَكُنّا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا ، فَبَايَعْنَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى بَيْعَةِ النّسَاءِ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْتَرَضَ الْحَرْبُ عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاَللّهِ شَيْئًا ، وَلَا نَسْرِقَ وَلَا نَزْنِيَ وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا ، وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانِ نَفْتَرِيهِ مِنْ بَيْنِ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا ، وَلَا نَعْصِيَهُ فِي مَعْرُوفٍ . فَإِنْ وَفّيْتُمْ فَلَكُمْ الْجَنّةُ . وَإِنْ غَشِيتُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأَمْرُكُمْ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ إنْ شَاءَ عَذّبَ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ وَذَكَرَ ابْنُ شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، عَنْ عَائِذِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ الْخَوْلَانِيّ أَبِي إدْرِيسَ أَنّ عُبَادَةَ بْنَ الصّامِتِ حَدّثَهُ أَنّهُ قَالَ بَايَعْنَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ الْأُولَى عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاَللّهِ شَيْئًا ، وَلَا نَسْرِقَ وَلَا نَزْنِيَ وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا ، وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانِ نَفْتَرِيهِ مِنْ بَيْنِ أَيْدِينَا وَأَرْجُلِنَا ، وَلَا نَعْصِيَهُ فِي مَعْرُوفٍ فَإِنْ وَفَيْتُمْ فَلَكُمْ الْجَنّةُ وَإِنْ غَشِيتُمْ مِنْ ذَلِكَ فَأُخِذْتُمْ بِحَدّهِ فِي الدّنْيَا ، فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ وَإِنْ سُتِرْتُمْ عَلَيْهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَأَمْرُكُمْ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ إنْ شَاءَ عَذّبَ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ
Sذَكَرَ بَيْعَتَهُمْ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَلَى بَيْعَةِ النّسَاءِ أَلّا يَسْرِقُوا ، وَلَا يَزْنُوا إلَى آخِرِ الْآيَةِ وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ عَزّ وَجَلّ خَبَرًا عَنْ بَيْعَةِ النّسَاءِ { وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ } أَنّهُ الْوَلَدُ تَنْسُبُهُ إلَى بَعْلِهَا ، وَلَيْسَ مِنْهُ وَقِيلَ هُوَ الِاسْتِمْتَاعُ بِالْمَرْأَةِ فِيمَا دُونَ الْوَطْءِ كَالْقُبْلَةِ وَالْجَسّةِ وَنَحْوِهَا ، وَالْأَوّلُ يُشْبِهُ أَنْ يُبَايِعَ عَلَيْهِ الرّجَالُ وَكَذَلِكَ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } أَنّهُ [ ص 251 ] شَأْنِ الرّجَالِ فَدَلّ عَلَى ضَعْفِ قَوْلِ مَنْ خَصّهُ بِالنّوْحِ وَخَصّ الْبُهْتَانَ بِإِلْحَاقِ الْوَلَدِ بِالرّجُلِ وَلَيْسَ مِنْهُ وَقِيلَ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنّ يَعْنِي : الْكَذِبَ وَعَيْبَ النّاسِ بِمَا لَيْسَ فِيهِمْ وَأَرْجُلِهِنّ يَعْنِي : الْمَشْيَ فِي مَعْصِيَةٍ وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوفٍ أَيْ فِي خَيْرٍ تَأْمُرُهُنّ بِهِ وَالْمَعْرُوفُ اسْمٌ جَامِعٌ لِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَا عُرِفَ حُسْنُهُ وَلَمْ تُنْكِرْهُ الْقُلُوبُ وَهَذَا مَعْنَى يَعُمّ الرّجَالَ وَالنّسَاءَ وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ فِيمَا أَخَذَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ عَلَيْهِنّ أَنْ قَالَ وَلَا تَغْشُشْنَ أَزْوَاجَكُنّ قَالَتْ إحْدَاهُنّ وَمَا غِشّ أَزْوَاجِنَا فَقَالَ أَنْ تَأْخُذِي مِنْ مَالِهِ فَتُحَابِي بِهِ غَيْرَهُ

مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَوَفْدُ الْعَقَبَةِ
[ ص 252 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا انْصَرَفَ عَنْهُ الْقَوْمُ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَهُ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُقْرِئَهُمْ الْقُرْآنَ وَيُعَلّمَهُمْ الْإِسْلَامَ وَيُفَقّهَهُمْ فِي الدّينِ فَكَانَ يُسَمّى الْمُقْرِئُ بِالْمَدِينَةِ مُصْعَبًا وَكَانَ مَنْزَلُهُ عَلَى أَسْعَدِ بْنِ زُرَارَةَ بْنِ عُدَسَ أَبِي أُمَامَةَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ : أَنّهُ كَانَ يُصَلّي بِهِمْ وَذَلِكَ أَنّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ كَرِهَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَؤُمّهُ بَعْضٌ .
Sهِجْرَةُ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ
[ ص 252 ] وَذَكَرَ هِجْرَةَ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ وَهُوَ الْمُقْرِئُ وَهُوَ أَوّلُ مَنْ سُمّيَ بِهَذَا ، أَعْنِي الْمُقْرِئَ يُكَنّى أَبَا عَبْدِ اللّهِ كَانَ قَبْلَ إسْلَامِهِ مِنْ أَنْعَمِ قُرَيْشٍ عَيْشًا وَأَعْطَرِهِمْ وَكَانَتْ أُمّهُ شَدِيدَةَ الْكَلَفِ بِهِ وَكَانَ يَبِيتُ وَقَعْبُ الْحَيْسِ عِنْدَ رَأْسِهِ يَسْتَيْقِظُ فَيَأْكُلُ فَلَمّا أَسْلَمَ أَصَابَهُ مِنْ الشّدّةِ مَا غَيّرَ لَوْنَهُ وَأَذْهَبَ لَحْمَهُ وَنَهَكَتْ جِسْمَهُ حَتّى كَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَنْظُرُ إلَيْهِ وَعَلَيْهِ فَرْوَةٌ قَدْ رَفَعَهَا ، فَيَبْكِي لِمَا كَانَ يَعْرِفُ مِنْ نِعْمَتِهِ وَحَلَفَتْ أُمّهُ حِينَ أَسْلَمَ وَهَاجَرَ أَلّا تَأْكُلَ وَلَا تَشْرَبَ وَلَا تَسْتَظِلّ بِظِلّ حَتّى يَرْجِعَ إلَيْهَا ، فَكَانَتْ تَقِفُ لِلشّمْسِ حَتّى تَسْقُطَ مَغْشِيّا عَلَيْهَا ، وَكَانَ بَنُوهَا يَحْشُونَ فَاهَا بِشِجَارِ وَهُوَ عُودٌ فَيَصُبّونَ فِيهِ الْحَسَاءَ لِئَلّا تَمُوتَ وَسَنَذْكُرُ اسْمَهَا وَنَسَبَهَا عِنْدَ ذِكْرِهِ فِي الْبَدْرِيّينَ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَذْكُرُهُ فَيَقُولُ مَا رَأَيْت بِمَكّةَ أَحْسَنَ لَمّةً وَلَا أَرَقّ حُلّةً وَلَا أَنْعَمَ نِعْمَةً مِنْ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيّ . وَذَكَرَ أَيْضًا بِإِسْنَادِ لَهُ قَالَ كَانَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ فَتَى مَكّةَ شَبَابًا وَجَمَالًا وَسِنّا وَكَانَ أَبَوَاهُ يُحِبّانِهِ وَكَانَتْ أُمّهُ تَكْسُوهُ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنْ الثّيَابِ وَكَانَ أَعْطَرَ أَهْلِ مَكّةَ يَلْبَسُ الْحَضْرَمِيّ مِنْ النّعَالِ . وَذَكَرَ أَنّ مَنْزَلَهُ كَانَ عَلَى أَسْعَدِ بْنِ زُرَارَةَ مَنْزَلٌ بِفَتْحِ الزّايِ وَكَذَلِكَ كُلّ مَا وَقَعَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ مَنْزَلِ فُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ فَهُوَ بِالْفَتْحِ لِأَنّهُ أَرَادَ الْمَصْدَرَ وَلَمْ يُرِدْ الْمَكَانَ وَكَذَا قَيّدَهُ الشّيْخُ أَبُو بَحْرٍ بِفَتْحِ الزّايِ وَأَمّا أُمّ قَيْسِ بِنْتُ مُحْصِنٍ الْمَذْكُورَةُ فِي هِجْرَةِ بَنِي أَسَدٍ ، [ ص 253 ] فَاسْمُهَا آمِنَةُ وَهِيَ أُخْتُ عُكّاشَةَ وَهِيَ الّتِي ذُكِرَتْ فِي الْمُوَطّأِ وَأَنّهَا أَتَتْ بِابْنِ لَهَا صَغِيرٍ لَمْ يَأْكُلْ الطّعَامَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .

أَوّلُ جُمُعَةٍ أَقِيمَتْ بِالْمَدِينَةِ
[ ص 253 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ ، عَنْ أَبِيهِ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ كُنْت قَائِدَ أَبِي ، كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ، حِينَ ذَهَبَ بَصَرُهُ فَكُنْت إذَا خَرَجْت بِهِ إلَى الْجُمُعَةِ فَسَمِعَ الْأَذَانَ بِهَا صَلّى عَلَى أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ . قَالَ فَمَكَثَ حِينًا عَلَى ذَلِكَ لَا يَسْمَعُ الْأَذَانَ لِلْجُمُعَةِ إلّا صَلّى عَلَيْهِ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ . قَالَ فَقُلْت فِي نَفْسِي : وَاَللّهِ إنّ هَذَا بِي لَعَجْزٌ أَلّا أَسْأَلَهُ مَا لَهُ إذَا سَمِعَ الْأَذَانَ لِلْجُمُعَةِ صَلّى عَلَى أَبِي أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ ؟ قَالَ فَخَرَجْت بِهِ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ كَمَا كُنْت أَخْرُجُ فَلَمّا سَمِعَ الْأَذَانَ لِلْجُمُعَةِ صَلّى عَلَيْهِ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ . قَالَ فَقُلْت لَهُ يَا أَبَتْ [ ص 254 ] صَلّيْت عَلَى أَبِي أُمَامَةَ ؟ قَالَ أَيْ بُنَيّ كَانَ أَوّلَ مَنْ جَمّعَ بِنَا بِالْمَدِينَةِ فِي هَزْمِ النّبِيتِ ، مِنْ حَرّةِ بَنِي بَيَاضَةَ ، يُقَالُ لَهُ نَقِيعُ الْخَضِمَاتِ ، قَالَ قُلْت : وَكَمْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ أَرْبَعُونَ رَجُلًا [ ص 255 ] [ ص 256 ] [ ص 257 ]
Sأَوّلَ جُمُعَةٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ أَوّلَ مَنْ جَمّعَ بِالْمَدِينَةِ وَهُوَ أَبُو أُمَامَةَ وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنّ أَوّلَ مَنْ جَمّعَ بِهِمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ ، لِأَنّهُ أَوّلُ مَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ ثُمّ قَدِمَ بَعْدَهُ ابْنُ أُمّ مَكْتُومٍ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوّلِ الْكِتَابِ مَنْ جَمّعَ فِي الْجَاهِلِيّةِ بِمَكّةَ فَخَطَبَ وَذَكَرَ وَبَشّرَ بِمَبْعَثِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَحَضّ عَلَى اتّبَاعِهِ وَهُوَ كَعْبُ بْنُ لُؤَيّ وَيُقَالُ أَنّهُ أَوّلُ مَنْ سَمّى الْعَرُوبَةَ الْجُمُعَةَ وَمَعْنَى الْعَرُوبَةِ الرّحْمَةُ فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَجْتَمِعُ إلَيْهِ فِيهَا فِيمَا حَكَى الزّبَيْرُ بْنُ بَكّارٍ ، فَيَخْطُبُهُمْ فَيَقُولُ أَمّا بَعْدُ فَاعْلَمُوا وَتَعَلّمُوا إنّمَا الْأَرْضُ لِلّهِ مِهَادٌ وَالْجِبَالُ أَوْتَادٌ وَالسّمَاءُ بِنَاءٌ وَالنّجُومُ سَمَلٌ ثُمّ يَأْمُرُهُمْ بِصِلَةِ الرّحِمِ وَيُبَشّرُهُمْ بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَيَقُولُ حَرَمُكُمْ يَا قَوْمُ عَظّمُوهُ فَسَيَكُونُ لَهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ وَيَخْرُجُ مِنْهُ نَبِيّ كَرِيمٌ ثُمّ يَقُولُ فِي شِعْرٍ ذَكَرَهُ
عَلَى غَفْلَةٍ يَأْتِي النّبِيّ مُحَمّدٌ ... فَيُخْبِرُ أَخْبَارًا صَدُوقٌ خَبِيرُهَا
صُرُوفٌ رَأَيْنَاهَا تُقَلّبُ أَهْلَهَا ... لَهَا عَقْدٌ مَا يَسْتَحِيلُ مَرِيرُهَا
ثُمّ يَقُولُ
يَا لَيْتَنِي شَاهِدٌ فَحْوَاءَ دَعْوَتِهِ ... إذَا قُرَيْشٌ تَبْغِي الْحَقّ خِذْلَانَا
ظوَأَمّا أَوّلُ مَنْ جَمّعَ فِي الْإِسْلَامِ فَهُوَ مَنْ ذَكَرْنَا .
نَقِيعُ الْخَضِمَاتِ
[ ص 254 ] وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ أَنّهُ جَمّعَ بِهِمْ أَبُو أُمَامَةَ عِنْدَ هَزْمِ النّبِيتِ فِي بَقِيعٍ يُقَال لَهُ بَقِيعُ الْخَضِمَاتِ . بَقِيعٌ بِالْبَاءِ وَجَدْته فِي نُسْخَةِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ وَكَذَلِكَ وَجَدْته فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَذَكَرَهُ الْبَكْرِيّ فِي كِتَابِ مُعْجَمِ مَا اُسْتُعْجِمَ مِنْ أَسْمَاءِ الْبُقَعِ أَنّهُ نَقِيعٌ بِالنّونِ ذَكَرَهُ فِي بَابِ النّونِ وَالْقَافِ وَقَالَ هَزْمُ النّبِيتِ : جَبَلٌ عَلَى بَرِيدٍ مِنْ الْمَدِينَةِ ، وَفِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ حَمَى غَرَزَ النّقِيعِ قَالَ الْخَطّابِيّ : النّقِيعُ : الْقَاعُ وَالْغَرَزُ شِبْهُ الثّمَامِ وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهُ فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى ، وَمَعْنَى الْخَضِمَاتِ مِنْ الْخَضْمِ وَهُوَ الْأَكْلُ بِالْفَمِ كُلّهِ وَالْقَضْمُ بِأَطْرَافِ الْأَسْنَانِ وَيُقَالُ هُوَ أَكْلُ الْيَابِسِ وَالْخَضْمُ أَكْلُ الرّطَبِ فَكَأَنّهُ جَمْعُ خَضِمَةٍ وَهِيَ الْمَاشِيَةُ الّتِي تَخْضَمُ فَكَأَنّهُ سُمّيَ بِذَاكَ لِخَضْبِ كَانَ فِيهِ وَأَمّا الْبَقِيعُ بِالْبَاءِ فَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْمَدِينَةِ مِنْهُ بِكَثِيرِ وَأَمّا بَقِيعُ الْخَبْجَبَةِ بِخَاءِ وَجِيمٍ وَبَاءَيْنِ فَجَاءَ ذِكْرُهُ فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ : وَالْخَبْجَبَةُ شَجَرَةٌ عُرِفَ بِهَا .
الْجُمُعَةُ
فَصْلٌ وَتَجْمِيعُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الْجُمُعَةَ وَتَسْمِيَتُهُمْ إيّاهَا بِهَذَا الِاسْمِ وَكَانَتْ تُسَمّى الْعَرُوبَةَ - كَانَ عَنْ هِدَايَةٍ مِنْ اللّهِ تَعَالَى لَهُمْ قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرُوا بِهَا ، ثُمّ نَزَلَتْ سُورَةُ الْجُمُعَةِ بَعْدَ أَنْ هَاجَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْمَدِينَةِ ، فَاسْتَقَرّ فَرْضُهَا وَاسْتَمَرّ حُكْمُهَا ، وَلِذَلِكَ قَالَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ أَضَلّتْهُ الْيَهُودُ وَالنّصَارَى ، وَهَدَاكُمْ اللّهُ إلَيْهِ . ذَكَرَ الْكَشّيّ ، وَهُوَ عَبْدُ بْنِ حُمَيْدٍ قَالَ نا عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيّوبَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ جَمّعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الْمَدِينَةَ ، وَقَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْجُمُعَةُ وَهُمْ الّذِينَ سَمّوْا الْجُمُعَةَ قَالَ الْأَنْصَارُ : لِلْيَهُودِ يَوْمَ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ كُلّ سَبْعَةِ أَيّامٍ وَلِلنّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ فَهَلُمّ فَلْنَجْعَلْ يَوْمًا نَجْتَمِعُ فِيهِ وَنَذْكُرُ اللّهَ وَنُصَلّي وَنَشْكُرُ أَوْ كَمَا قَالُوا ، فَقَالُوا : يَوْمُ السّبْتِ لِلْيَهُودِ وَيَوْمُ الْأَحَدِ لِلنّصَارَى ، فَاجْعَلُوا يَوْمَ الْعَرُوبَةِ كَانُوا يُسَمّونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَوْمَ الْعَرُوبَةِ فَاجْتَمَعُوا إلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ فَصَلّى بِهِمْ يَوْمَئِذٍ رَكْعَتَيْنِ فَذَكّرَهُمْ [ ص 255 ] فَتَغَدّوْا وَتَعَشّوْا مِنْ شَاةٍ وَذَلِكَ لِقِلّتِهِمْ فَأَنْزَلَ اللّهُ - عَزّ وَجَلّ - فِي ذَلِكَ { إِذَا نُودِيَ لِلصّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللّهِ } [ الْجُمُعَةَ 9 ] . قَالَ الْمُؤَلّفُ وَمَعَ تَوْفِيقِ اللّهِ لَهُمْ إلَيْهِ فَيَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُمْ ذَلِكَ عَنْ غَيْرِ إذْنٍ مِنْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَهُمْ فَقَدْ رَوَى الدّارَقُطْنِيّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ السّمّاكِ قَالَ نا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ غَالِبِ الْبَاهِلِيّ ، قَالَ نا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ أَبُو زَيْدٍ الْمَدَنِيّ ، قَالَ نا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ ، قَالَ حَدّثَنِي مَالِكٌ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ أَذِنَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْجُمُعَةِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ وَلَمْ يَسْتَطِعْ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنْ يُجَمّعَ بِمَكّةَ وَلَا يُبْدِيَ لَهُمْ فَكَتَبَ إلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ : أَمّا بَعْدُ فَانْظُرْ الْيَوْمَ الّذِي تَجْهَرُ فِيهِ الْيَهُودُ بِالزّبُورِ لِسَبْتِهِمْ فَاجْمَعُوا نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ فَإِذَا مَالَ النّهَارُ عَنْ شَطْرِهِ عِنْدَ الزّوَالِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَتَقَرّبُوا إلَى اللّهِ بِرَكْعَتَيْنِ قَالَ فَأَوّلُ مَنْ جَمّعَ : مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ ، حَتّى قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الْمَدِينَةَ ، فَجَمّعَ عِنْدَ الزّوَالِ مِنْ الظّهْرِ وَأَظْهَرَ ذَلِكَ وَمَعْنَى قَوْلِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَضَلّتْهُ الْيَهُودُ وَالنّصَارَى ، وَهَدَاكُمْ اللّهُ إلَيْهِ فِيمَا ذَكَرَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنّ الْيَهُودَ أُمِرُوا بِيَوْمِ مِنْ الْأُسْبُوعِ يُعَظّمُونَ اللّهَ فِيهِ وَيَتَفَرّغُونَ لِعِبَادَتِهِ فَاخْتَارُوا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ السّبْتَ فَأُلْزِمُوهُ فِي شَرْعِهِمْ كَذَلِكَ النّصَارَى أُمِرُوا عَلَى لِسَانِ عِيسَى بِيَوْمِ مِنْ الْأُسْبُوعِ فَاخْتَارُوا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ الْأَحَدَ فَأُلْزِمُوهُ شَرْعًا لَهُمْ . قَالَ الْمُؤَلّفُ وَكَانَ الْيَهُودُ إنّمَا اخْتَارُوا السّبْتَ لِأَنّهُمْ اعْتَقَدُوهُ الْيَوْمَ السّابِعَ ثُمّ زَادُوا لِكُفْرِهِمْ أَنّ اللّهَ اسْتَرَاحَ فِيهِ تَعَالَى اللّهُ عَنْ قَوْلِهِمْ لِأَنّ بَدْءَ الْخَلْقِ عِنْدَهُمْ الْأَحَدُ وَآخِرَ السّتّةِ الْأَيّامِ الّتِي خَلَقَ اللّهُ فِيهَا الْخَلْقَ الْجُمُعَةُ وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ النّصَارَى ، فَاخْتَارُوا الْأَحَدَ لِأَنّهُ أَوّلُ الْأَيّامِ فِي زَعْمِهِمْ وَقَدْ شَهِدَ الرّسُولُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِلْفَرِيقَيْنِ بِإِضْلَالِ الْيَوْمِ وَقَالَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ : إنّ اللّهَ خَلَقَ التّرْبَةَ يَوْمَ السّبْتِ فَبَيّنَ أَنّ أَوّلَ الْأَيّامِ الّتِي خَلَقَ اللّهُ فِيهَا الْخَلْقَ السّبْتَ وَآخِرَ الْأَيّامِ السّتّةِ إذًا الْخَمِيسُ وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فِيمَا ذَكَرَ عَنْهُ الطّبَرِيّ ، وَفِي الْأَثَرِ أَنّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ سُمّيَ الْجُمُعَةَ لِأَنّهُ جَمَعَ فِيهِ خَلْقَ آدَمَ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَلْمَانَ وَغَيْرِهِ وَقَدْ قَدّمْنَا فِي حَدِيثِ الْكَشّيّ أَنّ الْأَنْصَارَ سَمّوْهُ جُمُعَةً لِاجْتِمَاعِهِمْ فِيهِ فَهَدَاهُمْ اللّهُ إلَى [ ص 256 ] وَمُوَافَقَةُ الْحِكْمَةِ أَنّ اللّهَ تَعَالَى لَمّا بَدَأَ فِيهِ خَلْقَ أَبِينَا آدَمَ وَجَعَلَ فِيهِ بَدْءَ هَذَا الْجِنْسِ وَهُوَ الْبَشَرُ وَجَعَلَ فِيهِ أَيْضًا فَنَاءَهُمْ وَانْقِضَاءَهُمْ إذْ فِيهِ تَقُومُ السّاعَةُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ ذِكْرٍ وَعِبَادَةٍ لِأَنّهُ تَذْكِرَةٌ بِالْمَبْدَأِ وَتَذْكِرَةٌ بِالْمَعَادِ وَانْظُرْ إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } [ الْجُمُعَةَ 9 ] وَخَصّ الْبَيْعَ لِأَنّهُ يَوْمٌ يُذْكَرُ بِالْيَوْمِ الّذِي لَا بَيْعَ فِيهِ وَلَا خُلّةَ مَعَ أَنّهُ وِتْرٌ لِلْأَيّامِ الّتِي قَبْلَهُ فِي الْأَصَحّ مِنْ الْقَوْلِ وَاَللّهُ يُحِبّ الْوِتْرَ لِأَنّهُ مِنْ أَسْمَائِهِ فَكَانَ مِنْ هُدَى اللّهِ لِهَذِهِ الْأُمّةِ أَنْ أُلْهِمُوا إلَيْهِ ثُمّ أُقِرّوا عَلَيْهِ لِمَا وَافَقُوا الْحِكْمَةَ فِيهِ فَهُمْ الْآخِرُونَ السّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ كَمَا أَنّ الْيَوْمَ الّذِي اخْتَارُوهُ سَابِقٌ لِمَا اخْتَارَتْهُ الْيَهُودُ وَالنّصَارَى ، وَمُتَقَدّمٌ عَلَيْهِ وَلِذَلِكَ كَانَ يَقْرَأُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سُورَةَ السّجْدَةِ فِي صُبْحِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ الْبَطِينُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ كِلَاهُمَا عَنْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَرَوَاهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَيْضًا عُرْوَةُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ ذَكَرَهُ الْبَزّارُ ، وَرَوَاهُ التّرْمِذِيّ فِي كِتَابِ الْعِلَلِ لَهُ عَنْ الْأَحْوَصِ وَرَوَاهُ أَيْضًا عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ وَعَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِمَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ السّتّةِ الْأَيّامِ وَاتّبَاعِهَا بِذِكْرِ خَلْقِ آدَمَ مِنْ طِينٍ وَذَلِكَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ تَنْبِيهًا مِنْهُ عَلَيْهِ السّلَامُ عَلَى الْحِكْمَةِ وَتَذْكِرَةً لِلْقُلُوبِ بِهَذِهِ الْمَوْعِظَةِ . وَأَمّا قِرَاءَتُهُ { هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدّهْرِ } فِي الرّكْعَةِ الثّانِيَةِ فَلِمَا فِيهَا مِنْ ذِكْرِ السّعْيِ وَشُكْرِ اللّهِ لَهُمْ عَلَيْهِ يَقُولُ { وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا } مَعَ مَا فِي أَوّلِهَا مِنْ ذِكْرِ بَدْءِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ وَأَنّهُ لَمْ يَكُنْ قَبْلُ شَيْئًا مَذْكُورًا ، وَقَدْ قَالَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ { فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللّهِ } فَنَبّهَ بِقِرَاءَتِهِ إيّاهَا عَلَى التّأَهّبِ لِلسّعْيِ الْمَشْكُورِ عَلَيْهِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ أَلَا تَرَى أَنّهُ كَانَ كَثِيرًا مَا يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ أَيْضًا بِهَلْ أَتَاك حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ وَذَلِكَ أَنّ فِيهَا : { لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ } كَمَا فِي سُورَةِ الْجُمُعَةِ { فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللّهِ } فَاسْتَحَبّ عَلَيْهِ السّلَامُ أَنْ يَقْرَأَ فِي الثّانِيَةِ مَا فِيهِ رِضَاهُمْ بِسَعْيِهِمْ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي السّورَةِ الْأُولَى .
لَفْظُ الْجُمُعَةِ
وَلَفْظُ الْجُمُعَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ الِاجْتِمَاعِ كَمَا قَدّمْنَا وَكَانَ عَلَى وَزْنِ فُعْلَةٍ وَفُعُلَةٍ لِأَنّهُ فِي مَعْنَى قُرْبَةٍ وَقُرُبَةٍ وَالْعَرَبُ تَأْتِي بِلَفْظِ الْكَلِمَةِ عَلَى وَزْنِ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهَا ، وَقَالُوا : عُمْرَةٌ فَاشْتَقّوا اسْمَهَا مِنْ عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَبَنَوْهُ عَلَى فُعْلَةٍ لِأَنّهَا وُصْلَةٌ وَقُرْبَةٌ إلَى اللّهِ وَلِهَذَا الْأَصْلِ فُرُوعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ، وَنَظَائِرُ لِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ يُفِيتُنَا تَتَبّعُهُ عَمّا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ وَفِيمَا قَدّمْنَاهُ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ لَمْحَةٍ دَالّةٍ وَقَالُوا فِي الْجُمُعَةِ جَمّعَ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ كَمَا قَالُوا عَيّدَ إذَا شَهِدَ الْعِيدَ [ ص 257 ] يُقَالُ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ إلّا جَمَعَ بِالتّخْفِيفِ وَفِي الْبُخَارِيّ : أَوّلُ مَنْ عَرّفَ بِالْبَصْرَةِ ابْنُ عَبّاسٍ ، وَالتّعْرِيفُ إنّمَا هُوَ بِعَرَفَاتِ فَكَيْفَ بِالْبَصْرَةِ وَلَكِنْ مَعْنَاهُ أَنّهُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ إذَا صَلّى الْعَصْرَ يَوْمَ عَرَفَةَ أَخَذَ فِي الدّعَاءِ وَالذّكْرِ وَالضّرَاعَةِ إلَى اللّهِ تَعَالَى إلَى غُرُوبِ الشّمْسِ كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ عَرَفَةَ .
أَيّامَ الْأُسْبُوعِ
وَلَيْسَ فِي تَسْمِيَتِهِ هَذِهِ الْأَيّامَ وَالِاثْنَيْنِ إلَى الْخَمِيسِ مَا يَشُدّ قَوْلَ مَنْ قَالَ إنّ أَوّلَ الْأُسْبُوعِ الْأَحَدُ وَسَابِعَهَا السّبْتُ كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ لِأَنّهَا تَسْمِيَةٌ طَارِئَةٌ وَإِنّمَا كَانَتْ أَسَمَاؤُهَا فِي اللّغَةِ الْقَدِيمَةِ شِيَارَ وَأَوّلَ وَأَهْوَنَ وَجُبَارَ وَدُبَارَ وَمُؤْنِسَ وَالْعَرُوبَةَ وَأَسْمَاؤُهَا بالسريانية قَبْلَ هَذَا أَبُو جَادّ هَوّزَ حَطّي إلَى آخِرِهَا ، وَلَوْ كَانَ اللّهُ تَعَالَى ذَكَرَهَا فِي الْقُرْآنِ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَقّةِ مِنْ الْعَدَدِ لَقُلْنَا : هِيَ تَسْمِيَةٌ صَادِقَةٌ عَلَى الْمُسَمّى بِهَا ، وَلَكِنّهُ لَمْ يُذْكَرْ مِنْهَا إلّا الْجُمُعَةُ وَالسّبْتُ وَلَيْسَا مِنْ الْمُشْتَقّةِ مِنْ الْعَدَدِ وَلَمْ يُسَمّهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِالْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ إلَى سَائِرِهَا إلّا حَاكِيًا لِلُغَةِ قَوْمِهِ لَا مُبْتَدِئًا لِتَسْمِيَتِهَا ، وَلَعَلّ قَوْمَهُ أَنْ يَكُونُوا أَخَذُوا مَعَانِيَ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُجَاوِرِينَ لَهُمْ فَأَلْقَوْا عَلَيْهَا هَذِهِ الْأَسْمَاءَ اتّبَاعًا لَهُمْ وَإِلّا فَقَدْ قَدّمْنَا مَا وَرَدَ فِي الصّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ إنّ اللّهَ خَلَقَ التّرْبَةَ يَوْمَ السّبْتِ وَالْجِبَالَ يَوْمَ الْأَحَدِ الْحَدِيثَ وَالْعَجَبُ مِنْ الطّبَرِيّ عَلَى تَبَحّرِهِ فِي الْعِلْمِ كَيْفَ خَالَفَ مُقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثِ وَأَعْنَفَ فِي الرّدّ عَلَى ابْنِ إسْحَاقَ وَغَيْرِهِ وَمَالَ إلَى قَوْلِ الْيَهُودِ فِي أَنّ الْأَحَدَ هُوَ الْأَوّلُ وَيَوْمُ الْجُمُعَةِ سَادِسٌ لَا وِتْرٌ وَإِنّمَا الْوِتْرُ فِي قَوْلِهِمْ يَوْمُ السّبْتِ مَعَ مَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ أَضَلّتْهُ الْيَهُودُ وَالنّصَارَى ، وَهَدَاكُمْ اللّهُ إلَيْهِ وَمَا احْتَجّ بِهِ الطّبَرِيّ مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ فَلَيْسَ فِي الصّحّةِ كَاَلّذِي قَدّمْنَاهُ وَقَدْ يُمْكِنُ فِيهِ التّأْوِيلُ أَيْضًا ، فَقِفْ بِقَلْبِك عَلَى حِكْمَةِ اللّهِ تَعَالَى فِي تَعَبّدِ الْخَلْقِ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ التّذْكِرَةِ بِإِنْشَاءِ هَذَا الْجِنْسِ وَمَبْدَئِهِ كَمَا قَدّمْنَا ، وَلِمَا فِيهِ أَيْضًا مِنْ التّذْكِرَةِ بِأَحَدِيّةِ اللّهِ سُبْحَانَهُ وَانْفِرَادِهِ قَبْلَ الْخَلْقِ بِنَفْسِهِ فَإِنّك إذَا كُنْت فِي الْجُمُعَةِ وَتَفَكّرْت فِي كُلّ جُمُعَةٍ قَبْلَهُ حَتّى يَتَرَقّى وَهْمُك إلَى الْجُمُعَةِ الّتِي خُلِقَ فِيهَا أَبُوك آدَمُ ثُمّ فَكّرْت فِي الْأَيّامِ السّتّةِ الّتِي قَبْلَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَجَدْت فِي كُلّ يَوْمٍ مِنْهَا جِنْسًا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ مَوْجُودًا إلَى السّبْتِ ثُمّ انْقَطَعَ وَهْمُك فَلَمْ تَجِدْ فِي الْجُمُعَةِ الّتِي تَلِي ذَلِكَ السّبْتَ وُجُودًا إلّا لِلْوَاحِدِ الصّمَدِ الْوِتْرِ فَقَدْ ذَكّرَتْ الْجُمُعَةُ مَنْ تَفَكّرَ بِوَحْدَانِيّةِ اللّهِ وَأَوّلِيّتِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُؤَكّدَ فِي هَذَا الْيَوْمِ تَوْحِيدُ الْقَلْبِ لِلرّبّ بِالذّكْرِ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } الْجُمُعَةَ . وَأَنْ يَتَأَكّدَ ذَلِكَ الذّكْرُ بِالْعَمَلِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مُشَاكِلًا لِمَعْنَى التّوْحِيدِ فَيَكُونَ الِاجْتِمَاعُ فِي مَسْجِدٍ وَاحِدٍ مِنْ الْمَسَاجِدِ وَإِلَى إمَامٍ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمّةِ [ ص 258 ] وَبِلِقَائِهِ فَيُشَاكِلُ الْفِعْلُ الْقَوْلَ وَالْقَوْلُ الْمُعْتَقَدَ فَتَأَمّلْ هَذِهِ الْأَغْرَاضَ بِقَلْبِك ، فَإِنّهَا تَذْكِرَةٌ بِالْحَقّ وَقَدْ زِدْنَا عَلَى مَا شَرَطْنَا فِي أَوّلِ الْكِتَابِ مَعَانِيَ لَمْ تَكُنْ هُنَالِكَ وَعُدْنَا بِهَا ، وَلَكِنّ الْكَلَامَ يَفْتَحُ بَعْضُهُ بَابَ بَعْضٍ وَيَحْدُو الْمُتَكَلّمَ قَصْدَ الْبَيَانِ إلَى الْإِطَالَةِ وَلَا بَأْسَ بِالزّيَادَةِ مِنْ الْخَيْرِ وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ .

إسْلَامُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ
[ ص 258 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ مُعَيْقِبٍ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ : أَنّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ خَرَجَ بِمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ يُرِيدُ بِهِ دَارَ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ ، وَدَارَ بَنِي ظَفَرٍ ، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذِ بْنِ النّعْمَانِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ ابْنَ خَالَةِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ فَدَخَلَ بِهِ حَائِطًا مِنْ حَوَائِطِ بَنِي ظَفَرٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاسْمُ ظَفَرٍ كَعْبُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ - قَالَا : عَلَى بِئْرٍ يُقَالُ لَهَا : بِئْرُ مَرَقٍ ، فَجَلَسَا فِي الْحَائِطِ ، وَاجْتَمَعَ إلَيْهِمَا رِجَالٌ مِمّنْ أَسْلَمَ ، وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ ، وأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ يَوْمَئِذٍ سَيّدَا قَوْمِهِمَا مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ وَكِلَاهُمَا مُشْرِكٌ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ فَلَمّا سَمِعَا بِهِ قَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ لِأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ لَا أَبَالَك لَك ، انْطَلِقْ إلَى هَذَيْنِ الرّجُلَيْنِ اللّذَيْنِ قَدْ أَتَيَا دَارَيْنَا لِيُسَفّهَا ضُعَفَاءَنَا [ ص 259 ] دَارَيْنَا ، فَإِنّهُ لَوْلَا أَنّ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ مِنّي حَيْثُ قَدْ عَلِمْت كَفَيْتُك ذَلِكَ هُوَ ابْنُ خَالَتِي ، وَلَا أَجِدُ عَلَيْهِ مُقَدّمًا ، قَالَ فَأَخَذَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ حَرْبَتَهُ ثُمّ أَقْبَلَ إلَيْهِمَا ، فَلَمّا رَآهُ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ قَالَ لِمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ هَذَا سَيّدُ قَوْمِهِ قَدْ جَاءَك ، فَاصْدُقْ اللّهَ فِيهِ قَالَ مُصْعَبٌ إنْ يَجْلِسْ أُكَلّمْهُ . قَالَ فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا مُتَشَتّمًا ، فَقَالَ مَا جَاءَ بِكُمَا إلَيْنَا تُسَفّهَانِ ضُعَفَاءَنَا ؟ اعْتَزِلَانَا إنْ كَانَتْ لَكُمَا بِأَنْفُسِكُمَا حَاجَةٌ فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ أوَ تَجْلِسُ فَتَسْمَعُ فَإِنْ رَضِيت أَمْرًا قَبِلْته ، وَإِنْ كَرِهْته كُفّ عَنْك مَا تَكْرَهُ ؟ قَالَ أَنْصَفْت ، ثُمّ رَكَزَ حَرْبَتَهُ وَجَلَسَ إلَيْهِمَا ، فَكَلّمَهُ مُصْعَبٌ بِالْإِسْلَامِ وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ فَقَالَا : فِيمَا يُذْكَرُ عَنْهُمَا : وَاَللّهِ لَعَرَفْنَا فِي وَجْهِهِ الْإِسْلَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلّمَ فِي إشْرَاقِهِ وَتَسَهّلِهِ ثُمّ قَالَ مَا أَحْسَنَ هَذَا الْكَلَامَ وَأَجْمَلَهُ كَيْفَ تَصْنَعُونَ إذَا أَرَدْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا فِي هَذَا الدّينِ ؟ قَالَا لَهُ تَغْتَسِلُ فَتَطّهّرُ وَتُطَهّرُ ثَوْبَيْك ، ثُمّ تَشْهَدُ شَهَادَةَ الْحَقّ ثُمّ تُصَلّي . فَقَامَ فَاغْتَسَلَ وَطَهّرَ ثَوْبَيْهِ وَتَشَهّدَ شَهَادَةَ الْحَقّ ثُمّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمّ قَالَ لَهُمَا : إنّ وَرَائِي رَجُلًا إنْ اتّبَعَكُمَا لَمْ يَتَخَلّفْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ قَوْمِهِ وَسَأُرْسِلُهُ إلَيْكُمَا الْآنَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ [ ص 260 ] أَخَذَ حَرْبَتَهُ وَانْصَرَفَ إلَى سَعْدٍ وَقَوْمِهِ وَهُمْ جُلُوسٌ فِي نَادِيهِمْ فَلَمّا نَظَرَ إلَيْهِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مُقْبِلًا ، قَالَ أَحْلِفُ بِاَللّهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ أُسَيْدٌ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الّذِي ذَهَبَ بِهِ مِنْ عِنْدِكُمْ فَلَمّا ، وَقَفَ عَلَى النّادِي قَالَ لَهُ سَعْدٌ مَا فَعَلْت ؟ قَالَ كَلّمْت الرّجُلَيْنِ فَوَاَللّهِ مَا رَأَيْت بِهِمَا بَأْسًا ، وَقَدْ نَهَيْتهمَا فَقَالَا : نَفْعَلُ مَا أَحْبَبْت ، وَقَدْ حُدّثْت أَنّ بَنِي حَارِثَةَ قَدْ خَرَجُوا إلَى أَسْعَدِ بْنِ زُرَارَةَ لِيَقْتُلُوهُ وَذَلِكَ أَنّهُمْ قَدْ عَرَفُوا أَنّهُ ابْنُ خَالَتِك ، لِيُخْفِرُوكَ قَالَ فَقَامَ سَعْدٌ مُغْضَبًا مُبَادِرًا ، تَخَوّفًا لِلّذِي ذُكِرَ لَهُ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ فَأَخَذَ الْحَرْبَةَ مِنْ يَدِهِ ثُمّ قَالَ وَاَللّهِ مَا أَرَاك أَغْنَيْت شَيْئًا ، ثُمّ خَرَجَ إلَيْهِمَا ، فَلَمّا رَآهُمَا سَعْدٌ مُطْمَئِنّيْنِ عَرَفَ سَعْدٌ أَنّ أُسَيْدًا إنّمَا أَرَادَ مِنْهُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُمَا ، فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا مُتَشَتّمًا ، ثُمّ قَالَ لِأَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ يَا أَبَا أُمَامَةَ لَوْلَا مَا بَيْنِي وَبَيْنَك مِنْ الْقَرَابَةِ مَا رُمْت هَذَا مِنّي ، أَتَغْشَانَا فِي دَارَيْنَا بِمَا نَكْرَهُ - وَقَدْ قَالَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ لِمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ أَيْ مُصْعَبُ جَاءَك وَاَللّهِ سَيّدُ مَنْ وَرَائِهِ مِنْ قَوْمِهِ إنْ يَتّبِعْك لَا يَتَخَلّفْ عَنْك مِنْهُمْ اثْنَانِ - قَالَ فَقَالَ لَهُ مُصْعَبٌ أوَ تَقْعُدُ فَتَسْمَعُ فَإِنْ رَضِيت أَمْرًا وَرَغِبْت فِيهِ قَبِلْته ، وَإِنْ كَرِهْته عَزَلْنَا عَنْك مَا تَكْرَهُ ؟ قَالَ سَعْدٌ أَنْصَفْت ثُمّ رَكَزَ الْحَرْبَةَ وَجَلَسَ فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ قَالَا : فَعَرَفْنَا وَاَللّهِ فِي وَجْهِهِ الْإِسْلَامَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلّمَ لِإِشْرَاقِهِ وَتَسَهّلِهِ ثُمّ قَالَ لَهُمَا : كَيْفَ تَصْنَعُونَ إذَا أَنْتُمْ أَسْلَمْتُمْ وَدَخَلْتُمْ فِي هَذَا الدّينِ ؟ قَالَا : تَغْتَسِلُ فَتَطّهّرُ وَتُطَهّرُ ثَوْبَيْك ، ثُمّ تَشْهَدُ شَهَادَةَ الْحَقّ ثُمّ تُصَلّي رَكْعَتَيْنِ قَالَ فَقَامَ فَاغْتَسَلَ وَطَهّرَ ثَوْبَيْهِ وَتَشَهّدَ شَهَادَةَ الْحَقّ ثُمّ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ ثُمّ أَخَذَ حَرْبَتَهُ فَأَقْبَلَ عَامِدًا إلَى نَادِي قَوْمِهِ وَمَعَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ . قَالَ فَلَمّا رَآهُ قَوْمُهُ مُقْبِلًا ، قَالُوا : نَحْلِفُ بِاَللّهِ لَقَدْ رَجَعَ إلَيْكُمْ سَعْدٌ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الّذِي ذَهَبَ بِهِ مِنْ عِنْدِكُمْ فَلَمّا وَقَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ يَا بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ كَيْفَ تَعْلَمُونَ أَمْرِي فِيكُمْ ؟ قَالُوا : سَيّدُنَا وَأَفْضَلُنَا رَأْيًا ، وَأَيْمَنُنَا نَقِيبَةً قَالَ فَإِنّ كَلَامَ رِجَالِكُمْ وَنِسَائِكُمْ عَلَيّ حَرَامٌ حَتّى تُؤْمِنُوا بِاَللّهِ وَبِرَسُولِهِ . قَالَا : فَوَاَللّهِ مَا أَمْسَى فِي دَارِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ رَجُلٌ وَلَا امْرَأَةٌ إلّا مُسْلِمًا وَمُسْلِمَةً وَرَجَعَ أَسْعَدُ وَمُصْعَبٌ إلَى مَنْزِلِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ فَأَقَامَ عِنْدَهُ يَدْعُو النّاسَ إلَى الْإِسْلَامِ حَتّى لَمْ تَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إلّا وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ مُسْلِمُونَ إلّا مَا كَانَ مِنْ دَارِ بَنِي [ ص 261 ] وَخَطْمَةَ وَوَائِلٍ وَوَاقِفٍ وَتِلْكَ أَوْسُ اللّهِ وَهُمْ مِنْ الْأَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ فِيهِمْ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ وَهُوَ صَيْفِيّ ، وَكَانَ شَاعِرًا لَهُمْ قَائِدًا يَسْتَمِعُونَ مِنْهُ وَيُطِيعُونَ فَوَقَفَ بِهِمْ عَنْ الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتّى هَاجَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْمَدِينَةِ ، وَمَضَى بَدْرٌ وَأُحُدٌ وَالْخَنْدَقُ ، وَقَالَ فِيمَا رَأَى مِنْ الْإِسْلَامِ وَمَا اخْتَلَفَ النّاسُ فِيهِ مِنْ أَمْرِهِ
أَرَبّ النّاسِ أَشْيَاءُ أَلَمّتْ
يُلَفّ الصّعْبُ مِنْهَا بِالذّلُولِ
أَرَبّ النّاسِ أَمّا إذْ ضَلَلْنَا
فَيَسّرْنَا لِمَعْرُوفِ السّبِيلِ
فَلَوْلَا رَبّنَا كُنّا يَهُودًا
وَمَا دِينُ الْيَهُودِ بِذِي شُكُولِ
وَلَوْلَا رَبّنَا كُنّا نَصَارَى
مَعَ الرّهْبَانِ فِي جَبَلِ الْجَلِيلِ
وَلَكِنّا خُلِقْنَا إذْ خُلِقْنَا
حَنِيفًا دِينُنَا عَنْ كُلّ جِيلِ
نَسُوقُ الْهَدْيَ تَرْسُفُ مُذْعِنَات
مُكَشّفَةَ الْمَنَاكِبِ فِي الْجُلُول
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي قَوْلَهُ فَلَوْلَا رَبّنَا ، وَقَوْلُهُ لَوْلَا رَبّنَا ، وَقَوْلُهُ مُكَشّفَةَ الْمَنَاكِبِ فِي الْجُلُولِ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ ، أَوْ مِنْ خُزَاعَةَ .
Sإسْلَامُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ
وَسَمِعَ أَهْلُ مَكّةَ هَاتِفًا يَهْتِفُ وَيَقُولُ قَبْلَ إسْلَامِ سَعْدٍ
فَإِنْ يُسْلِمْ السّعْدَانِ يُصْبِحْ مُحَمّدٌ ... بِمَكّةَ لَا يَخْشَى خِلَافَ الْمُخَالِفِ
فَحَسِبُوا أَنّهُ يُرِيدُ بِالسّعْدَيْنِ الْقَبِيلَتَيْنِ سَعْدَ هُذَيْمٍ مِنْ قُضَاعَةَ ، وَسَعْدَ بْنَ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ ، حَتّى سَمِعُوهُ يَقُولُ
فَيَا سَعْدَ سَعْدَ الْأَوْسِ كُنْ أَنْتَ نَاصِرًا ... وَيَا سَعْدَ سَعْدَ الْخَزْرَجِينَ الْغَطَارِفِ
أَجِيبَا إلَى دَاعِي الْهُدَى وَتَمَنّيَا ... عَلَى اللّهِ فِي الْفِرْدَوْسِ مُنْيَةَ عَارِفِ
فَعَلِمُوا حِينَئِذٍ أَنّهُ يُرِيدُ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَسَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ .
هَلْ يَغْتَسِلُ الْكَافِرُ إذَا أَسْلَمَ ؟
[ ص 259 ] وَذَكَرَ فِيهِ اغْتِسَالَهُمَا حِينَ أَسْلَمَا بِأَمْرِ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ لَهُمَا بِذَلِكَ فَذَلِكَ السّنّةُ فِي كُلّ كَافِرٍ يُسْلِمُ ثُمّ اُخْتُلِفَ فِي نِيّةِ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ بِاغْتِسَالِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ يَنْوِي بِهِ رَفْعَ الْجَنَابَةِ عَنْ نَفْسِهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَنْوِي التّعَبّدَ وَلَا حُكْمَ لِلْجَنَابَةِ فِي حَقّهِ لِأَنّ مَعْنَى الْأَمْرِ بِهِ اسْتِبَاحَةُ الصّلَاةِ وَالْكَافِرُ لَا يُصَلّي ، وَإِنْ كَانَ مُخَاطَبًا فِي أَصَحّ الْقَوْلَيْنِ وَلَكِنّهُ أَمْرٌ مَشْرُوطٌ بِالْإِيمَانِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْإِيمَانُ - وَهُوَ الشّرْطُ الْأَوّلُ - فَأَجْدِرْ بِأَنْ يَكُونَ - الشّرْطُ الثّانِي - وَهُوَ الْغُسْلُ مِنْ الْجَنَابَةِ غَيْرَ مُقَيّدٍ بِشَيْءِ فَإِذَا أَسْلَمَ هَدَمَ الْإِسْلَامُ مَا كَانَ قَبْلَهُ فَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ إعَادَةُ صَلَاةٍ مَضَتْ وَإِذَا سَقَطَتْ الصّلَوَاتُ سَقَطَتْ عَنْهَا شُرُوطُهَا ، وَاسْتَأْنَفَ الْأَحْكَامَ الشّرْعِيّةَ فَتَجِبُ عَلَيْهِ الصّلَوَاتُ مِنْ حِينِ يُسْلِمُ بِشُرُوطِ أَدَائِهَا مِنْ وُضُوءٍ وَغُسْلٍ مِنْ جَنَابَةٍ إذَا أَجْنَبَ بَعْدَ إسْلَامِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ شُرُوطِ صِحّةِ الصّلَاةِ وَرَأَيْت لِبَعْضِ الْمُتَأَخّرِينَ أَنّ اغْتِسَالَهُ سُنّةٌ لَا فَرِيضَةٌ وَلَيْسَ عِنْدِي بِالْبَيّنِ لِأَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ { إِنّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } [ التّوْبَةَ 28 ] وَحُكْمُ النّجَاسَةِ إنّمَا يُرْفَعُ بِالطّهَارَةِ وَلَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِمْ بِالتّنْجِيسِ لِمَوْضِعِ الْجَنَابَةِ لِأَنّهُ قَدْ عَلّقَ الْحُكْمَ بِصِفَةِ الشّرْكِ . وَالْحُكْمُ الْمُعَلّلُ بِالصّفَةِ مُرْتَبِطٌ بِهَا فَإِذَا ارْتَفَعَ حُكْمُ الشّرْكِ بِالْإِيمَانِ لَمْ يَبْقَ لِلْجَنَابَةِ حُكْمٌ كَمَا إذَا كَانَ الْمُسْلِمُ جُنُبًا ، ثُمّ بَالَ فَالطّهُورُ مِنْ الْجَنَابَةِ يَرْفَعُ عَنْهُ حُكْمَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ وَهُوَ حَدَثُ الْوُضُوءِ لِأَنّ الطّهَارَةَ الصّغْرَى دَاخِلَةٌ فِي الْكُبْرَى ، وَتَطَهّرُهُ مِنْ تَنْجِيسِ الشّرْكِ بِإِيمَانِهِ هُوَ أَيْضًا بِالْإِضَافَةِ إلَى الطّهْرِ مِنْ الْجَنَابَةِ الطّهَارَةُ الْكُبْرَى ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مُغْنِيَةً عَنْهَا ، كَمَا كَانَتْ الطّهَارَةُ مِنْ الْجَنَابَةِ مُغْنِيَةً عَنْ الطّهَارَةِ مِنْ الْحَدَثِ إذ [ ص 260 ] وَاحِدَةً مِنْ هَذِهِ الطّهَارَاتِ مُزِيلَةً لِعَيْنِ نَجَاسَةٍ فِيهَا ، فَيَنْبَغِي بَعْدَ هَذَا أَنّ أَمْرَهُ بِالِاغْتِسَالِ تَعَبّدٌ وَالْحُكْمُ بِأَنّهُ غَيْرُ فَرْضٍ تَحَكّمٌ وَاَللّهُ أَعْلَمُ غَيْرَ أَنّ التّرْمِذِيّ خَرّجَ حَدِيثَ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ حِينَ أَسْلَمَ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَغْتَسِلَ . قَالَ التّرْمِذِيّ : وَعَلَى هَذَا الْعَمَلُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ يَسْتَحِبّونَ لِلْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيَغْسِلَ ثِيَابَهُ فَقَالَ يَسْتَحِبّونَ وَجَعَلَهَا مَسْأَلَةَ اسْتِحْبَابٍ .
مِنْ شَرْحِ شِعْرِ ابْنِ الْأَسْلَتِ
[ ص 261 ] وَذَكَرَ شِعْرَ أَبِي قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ وَفِيهِ قَوْلُهُ
وَلَوْلَا رَبّنَا كُنّا يَهُودًا
وَمَا دِينُ الْيَهُودِ بِذِي شُكُول
أَرَادَ جَمْعَ : شَكْلٍ وَشَكْلُ الشّيْءِ - بِالْفَتْحِ - هُوَ مِثْلُهُ وَالشّكْلُ بِالْكَسْرِ الدّلّ وَالْحُسْنُ فَكَأَنّهُ أَرَادَ أَنّ دِينَ الْيَهُودِ بِدْعٌ فَلَيْسَ لَهُ شُكُولُ أَيْ لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ فِي الْحَقَائِقِ وَلَا مَثِيلَ يَعْضُدُهُ مِنْ الْأَمْرِ الْمَعْرُوفِ الْمَقْبُولِ وَقَدْ قَالَ الطّائِيّ : وَقُلْت :
أَخِي . قَالُوا : أَخٌ مِنْ قَرَابَةٍ
فَقُلْت لَهُمْ إنّ الشّكُولَ أَقَارِبُ
قَرِيبِي فِي رَأْيِي وَدِينِي وَمَذْهَبِي
وَإِنْ بَاعَدَتْنَا فِي الْخُطُوبِ الْمَنَاسِبُ
وَقَالَ فِيهِ
مَعَ الرّهْبَانِ فِي جَبَلِ الْجَلِيلِ الْجَلِيلُ
بِالْجِيمِ الثّمَامُ وَهَذَا الْجَبَلُ مِنْ جِبَالِ الشّامِ مَعْرُوفٌ بِهَذَا الِاسْمِ .

أَمْرُ الْعَقَبَةِ الثّانِيَةِ
[ ص 262 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ رَجَعَ إلَى مَكّةَ ، وَخَرَجَ مَنْ خَرَجَ مِنْ الْأَنْصَارِ الْمُسْلِمِينَ إلَى الْمَوْسِمِ مَعَ حُجّاجِ قَوْمِهِمْ مِنْ أَهْلِ الشّرْكِ حَتّى قَدِمُوا مَكّةَ ، فَوَاعَدُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَقَبَةَ ، مِنْ أَوْسَطِ أَيّامِ التّشْرِيقِ حِين أَرَادَ اللّهُ بِهِمْ مَا أَرَادَ مِنْ كَرَامَتِهِ وَالنّصْرِ لِنَبِيّهِ وَإِعْزَازِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ وَإِذْلَالِ الشّرْكِ وَأَهْلِهِ .
الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ وَصَلَاةُ الْكَعْبَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَبِي كَعْبِ بْنِ الْقَيْنِ أَخُو بَنِي سَلِمَةَ أَنّ أَخَاهُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ كَعْبٍ وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ الْأَنْصَارِ ، حَدّثَهُ أَنّ أَبَاهُ كَعْبًا حَدّثَهُ وَكَانَ كَعْبٌ مِمّنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ وَبَايَعَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِهَا ، قَالَ خَرَجْنَا فِي حُجّاجِ قَوْمِنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ صَلّيْنَا وَفَقِهْنَا ، وَمَعَنَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ ، سَيّدُنَا وَكَبِيرُنَا ، فَلَمّا وَجّهْنَا لِسَفَرِنَا ، وَخَرَجْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ ، قَالَ الْبَرَاءُ لَنَا : يَا هَؤُلَاءِ إنّي قَدْ رَأَيْت رَأْيًا ، فَوَاَللّهِ مَا أَدْرِي ، أَتُوَافِقُونَنِي عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ قَالَ قُلْنَا : وَمَا ذَاكَ ؟ قَدْ رَأَيْت أَنْ لَا أَدَعَ هَذِهِ الْبَنِيّةَ مِنّي بِظَهْرِ يَعْنِي : الْكَعْبَةَ ، وَأَنْ أُصَلّيَ إلَيْهَا . قَالَ فَقُلْنَا ، وَاَللّهِ مَا بَلَغَنَا أَنّ نَبِيّنَا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُصَلّي إلّا إلَى الشّامِ ، وَمَا نُرِيدُ أَنْ نُخَالِفَهُ . قَالَ فَقَالَ إنّي لَمُصَلّ إلَيْهَا قَالَ فَقُلْنَا لَهُ لَكِنّا لَا نَفْعَلُ . قَالَ فَكُنّا إذَا حَضَرَتْ الصّلَاةُ صَلّيْنَا إلَى الشّامِ ، وَصَلّى إلَى الْكَعْبَةِ ، حَتّى قَدِمْنَا مَكّةَ . قَالَ وَقَدْ كُنّا عِبْنَا عَلَيْهِ مَا صَنَعَ وَأَبَى إلّا الْإِقَامَةَ عَلَى ذَلِكَ فَلَمّا قَدِمْنَا مَكّةَ قَالَ لِي : يَا ابْنَ أَخِي ، انْطَلِقْ بِنَا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى نَسْأَلَهُ عَمّا صَنَعْت فِي سَفَرِي هَذَا ، فَإِنّهُ وَاَللّهِ لَقَدْ وَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْهُ شَيْءٌ لِمَا رَأَيْت مِنْ خِلَافِكُمْ إيّايَ فِيهِ . قَالَ فَخَرَجْنَا نَسْأَلُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكُنّا لَا نَعْرِفُهُ وَلَمْ نَرَهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَلَقِينَا رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكّةَ ، فَسَأَلْنَاهُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ هَلْ تَعْرِفَانِهِ ؟ فَقُلْنَا : لَا ؛ قَالَ فَهَلْ تَعْرِفَانِ الْعَبّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ عَمّهُ ؟ قَالَ قُلْنَا : نَعَمْ - قَالَ وَقَدْ كُنّا نَعْرِفُ الْعَبّاسَ كَانَ لَا يَزَالُ يَقْدَمُ [ ص 263 ] قَالَ فَإِذَا دَخَلْتُمَا الْمَسْجِدَ فَهُوَ الرّجُلُ الْجَالِسُ مَعَ الْعَبّاسِ . قَالَ فَدَخَلْنَا الْمَسْجِدَ فَإِذَا الْعَبّاسُ جَالِسٌ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَالِسٌ مَعَهُ فَسَلّمْنَا ثُمّ جَلَسْنَا إلَيْهِ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِلْعَبّاسِ هَلْ تَعْرِفُ هَذَيْنِ الرّجُلَيْنِ يَا أَبَا الْفَضْلِ " ؟ قَالَ نَعَمْ هَذَا الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ ، سَيّدُ قَوْمِهِ وَهَذَا كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ . قَالَ فَوَاَللّهِ مَا أَنْسَى قَوْلَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الشّاعِرُ ؟ قَالَ نَعَمْ . فَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ : يَا نَبِيّ اللّهِ إنّي خَرَجْت فِي سَفَرِي هَذَا ، وَقَدْ هَدَانِي اللّهُ لِلْإِسْلَامِ فَرَأَيْت أَنْ لَا أَجْعَلَ هَذِهِ الْبَنِيّةَ مِنّي بِظَهْرِ فَصَلّيْت إلَيْهَا ، وَقَدْ خَالَفَنِي أَصْحَابِي فِي ذَلِكَ حَتّى وَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فَمَاذَا تَرَى يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ " قَدْ كُنْت عَلَى قِبْلَةٍ لَوْ صَبَرْت عَلَيْهَا . قَالَ فَرَجَعَ الْبَرَاءُ إلَى قِبْلَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَصَلّى مَعَنَا إلَى الشّامِ . قَالَ وَأَهْلُهُ يَزْعُمُونَ أَنّهُ صَلّى إلَى الْكَعْبَةِ حَتّى مَاتَ وَلَيْسَ ذَلِكَ كَمَا قَالُوا ، نَحْنُ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُمْ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَ عَوْنُ بْنُ أَيّوبَ الْأَنْصَارِيّ :
وَمِنّا الْمُصَلّي أَوّلَ النّاسِ مُقْبِلًا ... عَلَى كَعْبَةِ الرّحْمَنِ بَيْنَ الْمَشَاعِرِ
يَعْنِي الْبَرَاءَ بْنَ مَعْرُورٍ . وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ .
Sذِكْرُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ ، وَصَلَاتِهِ إلَى الْقِبْلَةِ
[ ص 262 ] ذَكَرَ حَدِيثَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ حِينَ حَجّ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ مَعَ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ ، فَكَانُوا يُصَلّونَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَكَانَ الْبَرَاءُ يُصَلّي إلَى الْكَعْبَةِ الْحَدِيثَ - إلَى قَوْلِ رَسُولِ [ ص 263 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَدْ كُنْت عَلَى قِبْلَةٍ لَوْ صَبَرْت عَلَيْهَا فِقْهُ قَوْلِهِ لَوْ صَبَرْت عَلَيْهَا : أَنّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِإِعَادَةِ مَا قَدْ صَلّى ؛ لِأَنّهُ كَانَ مُتَأَوّلًا . قِبْلَةُ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يُصَلّي بِمَكّةَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مَا صَلّى إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ إلّا مُذْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سِتّةَ عَشَرَ شَهْرًا ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ فِي الْقِبْلَةِ نَسْخَانِ نَسْخُ سُنّةٍ بِسُنّةِ وَنَسْخُ سُنّةٍ بِقُرْآنِ وَقَدْ بَيّنَ حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ مَنْشَأَ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَرُوِيَ عَنْهُ مِنْ طُرُقٍ صِحَاحٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ إذَا صَلّى بِمَكّةَ اسْتَقْبَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ ، وَجَعَلَ الْكَعْبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، فَلَمّا كَانَ عَلَيْهِ السّلَامُ يَتَحَرّى الْقِبْلَتَيْنِ جَمِيعًا لَمْ يَبِنْ تَوَجّهُهُ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِلنّاسِ حَتّى خَرَجَ مِنْ مَكّةَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . قَالَ اللّهُ تَعَالَى لَهُ فِي الْآيَةِ النّاسِخَةِ { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } [ الْبَقَرَةَ 150 ] أَيْ مِنْ أَيّ جِهَةٍ جِئْت إلَى الصّلَاةِ وَخَرَجْت إلَيْهَا فَاسْتَقْبِلْ الْكَعْبَةَ كُنْت مُسْتَدْبِرًا لِبَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ لَمْ تَكُنْ لِأَنّهُ كَانَ بِمَكّةَ يَتَحَرّى فِي اسْتِقْبَالِهِ بَيْتَ الْمَقْدِسِ أَنْ تَكُونَ الْكَعْبَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَدَبّرْ قَوْلَهُ تَعَالَى : { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ } [ ص 264 ] لِأُمّتِهِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَلَمْ يَقُلْ حَيْثُمَا خَرَجْتُمْ وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ عَلَيْهِ السّلَامُ إمَامَ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ يَخْرُجُ إلَيْهِمْ إلَى كُلّ صَلَاةٍ لِيُصَلّيَ بِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهِ إذْ كَانَ الْإِمَامُ الْمُقْتَدَى بِهِ فَأَفَادَ ذِكْرُ الْخُرُوجِ فِي خَاصّتِهِ فِي هَذَا الْمَعْنَى ، وَلَمْ يَكُنْ حُكْمُ غَيْرِهِ هَكَذَا ، يَقْتَضِي الْخُرُوجَ وَلَا سِيّمَا النّسَاءُ وَمَنْ لَا جَمَاعَةَ عَلَيْهِ وَكَرّرَ الْبَارِي تَعَالَى الْأَمْرَ بِالتّوَجّهِ إلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ فِي ثَلَاثِ آيَاتٍ لِأَنّ الْمُنْكِرِينَ لِتَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ كَانُوا ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ مِنْ النّاسِ الْيَهُودُ ، لِأَنّهُمْ لَا يَقُولُونَ بِالنّسْخِ فِي أَصْلِ مَذْهَبِهِمْ وَأَهْلُ الرّيْبِ وَالنّفَاقِ اشْتَدّ إنْكَارُهُمْ لَهُ أَنّهُ كَانَ أَوّلَ نَسْخٍ نَزَلَ وَكُفّارُ قُرَيْشٍ قَالُوا : نَدِمَ مُحَمّدٌ عَلَى فِرَاقِ دِينِنَا فَسَيَرْجِعُ إلَيْهِ كَمَا رَجّعَ إلَيْهِ قِبْلَتَنَا ، وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَحْتَجّونَ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ يَزْعُمُ مُحَمّدٌ أَنّهُ يَدْعُونَا إلَى مِلّةِ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَقَدْ فَارَقَ قِبْلَةَ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَآثَرَ عَلَيْهَا قِبْلَةَ الْيَهُودِ ، فَقَالَ اللّهُ لَهُ حِينَ أَمَرَهُ بِالصّلَاةِ إلَى الْكَعْبَةِ { لِئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجّةٌ إِلّا الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } [ الْبَقَرَةَ 150 ] عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ أَيْ لَكِنْ الّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ لَا يَرْجِعُونَ وَلَا يَهْتَدُونَ وَقَالَ سُبْحَانَهُ { الْحَقّ مِنْ رَبّكَ فَلَا تَكُونَنّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [ الْبَقَرَةَ 147 ] أَيْ مِنْ الّذِينَ شَكّوا وَامْتَرَوْا ، وَمَعْنَى : الْحَقّ مِنْ رَبّك أَيْ الّذِي أَمَرْتُك بِهِ مِنْ التّوَجّهِ إلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ ، هُوَ الْحَقّ الّذِي كَانَ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَك فَلَا تَمْتَرِ فِي ذَلِكَ وَقَالَ { وَإِنّ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنّهُ الْحَقّ } [ الْبَقَرَةَ 144 ] وَقَالَ { وَإِنّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [ الْبَقَرَةَ 146 ] أَيْ يَكْتُمُونَ مَا عَلِمُوا مِنْ أَنّ الْكَعْبَةَ هِيَ قِبْلَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ السّنْجَرِيّ فِي كِتَابِ النّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ لَهُ وَهُوَ فِي رِوَايَتِنَا عَنْهُ بِسَنَدِ رَفِيعٍ حَدّثَنَا الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيّ قَالَ أَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَيّوبَ الْبَزّارُ ، قَالَ أَنَا أَبُو عَلِيّ بْنُ شَاذَانَ قَالَ أَنَا أَبُو بَكْرٍ الْفَقِيهُ النّجّارُ أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْهُ قَالَ نا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ ، قَالَ نا عَنْبَسَةُ بْنُ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ كَانَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ لَا يُعَظّمُ إيلِيَاءَ كَمَا يُعَظّمُهَا أَهْلُ بَيْتِهِ قَالَ فَسِرْت مَعَهُ وَهُوَ وَلِيّ عَهْدٍ قَالَ وَمَعَهُ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ قَالَ سُلَيْمَانُ وَهُوَ جَالِسٌ فِيهِ وَاَللّهِ إنّ فِي هَذِهِ الْقِبْلَةِ الّتِي صَلّى إلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ وَالنّصَارَى لَعَجَبًا ، قَالَ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ أَمَا وَاَللّهِ إنّي [ ص 265 ] لَأَقْرَأُ الْكِتَابَ الّذِي أَنْزَلَهُ اللّهُ عَلَى مُحَمّدٍ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأَقْرَأُ التّوْرَاةَ ، فَلَمْ يَجِدْهَا الْيَهُودُ فِي الْكِتَابِ الّذِي أَنْزَلَهُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَلَكِنْ تَابُوتُ السّكِينَةِ كَانَ عَلَى الصّخْرَةِ فَلَمّا غَضِبَ اللّهُ تَعَالَى عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ رَفَعَهُ فَكَانَتْ صَلَاتُهُمْ إلَى الصّخْرَةِ عَنْ مُشَاوَرَةٍ مِنْهُمْ " ، وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا أَنّ يَهُودِيّا خَاصَمَ أَبَا الْعَالِيَةِ فِي الْقِبْلَةِ فَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : إنّ مُوسَى عَلَيْهِ السّلَامُ كَانَ يُصَلّي عِنْدَ الصّخْرَةِ وَيَسْتَقْبِلُ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ، فَكَانَتْ الْكَعْبَةُ قِبْلَةً وَكَانَتْ الصّخْرَةُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَالَ الْيَهُودِيّ : بَيْنِي وَبَيْنَك مَسْجِدُ صَالِحٍ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ : فَإِنّي صَلّيْت فِي مَسْجِدِ صَالِحٍ وَقِبْلَتُهُ الْكَعْبَةُ ، وَأَخْبَرَ أَبُو الْعَالِيَةِ أَنّهُ رَأَى مَسْجِدَ ذِي الْقَرْنَيْنِ وَقِبْلَتُهُ الْكَعْبَةُ ، وَرُوِيَ أَيْضًا أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَقُولُ لِجِبْرِيلَ وَدِدْت أَنّ اللّهَ حَوّلَنِي عَنْ قِبْلَةِ الْيَهُودِ ، فَيَقُولُ لَهُ جِبْرِيلُ إنّمَا أَنَا عَبْدٌ مَأْمُورٌ وَرَوَى غَيْرُهُ أَنّهُ كَانَ يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ إذَا عَرَجَ إلَى السّمَاءِ حِرْصًا عَلَى أَنْ يَأْمُرَهُ بِالتّوَجّهِ إلَى الْكَعْبَةِ ، فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : { قَدْ نَرَى تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّمَاءِ } [ الْبَقَرَةَ 144 ] .

إسْلَامُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ
[ ص 264 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ كَعْبٍ أَنّ أَخَاهُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ كَعْبٍ حَدّثَهُ أَنّ أَبَاهُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ حَدّثَهُ قَالَ كَعْبٌ ثُمّ خَرَجْنَا إلَى الْحَجّ وَوَاعَدْنَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْعَقَبَةِ مِنْ أَوْسَطِ أَيّامِ التّشْرِيقِ . قَالَ فَلَمّا فَرَغْنَا مِنْ الْحَجّ وَكَانَتْ اللّيْلَةُ الّتِي وَاعَدْنَا رَسُولَ [ ص 265 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهَا ، وَمَعَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ أَبُو جَابِرٍ سَيّدٌ مِنْ سَادَاتِنَا ، وَشَرِيفٌ مِنْ أَشْرَافِنَا ، أَخَذْنَاهُ مَعَنَا ، وَكُنّا نَكْتُمُ مَنْ مَعَنَا مِنْ قَوْمِنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ أَمْرَنَا ، فَكَلّمْنَاهُ وَقُلْنَا لَهُ يَا أَبَا جَابِرٍ إنّك سَيّدٌ مِنْ سَادَاتِنَا ، وَشَرِيفٌ مِنْ أَشْرَافِنَا ، وَإِنّا نَرْغَبُ بِك عَمّا أَنْتَ فِيهِ أَنْ تَكُونَ حَطَبًا لِلنّارِ غَدًا ، ثُمّ دَعَوْنَاهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبَرْنَاهُ بِمِيعَادِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إيّانَا الْعَقَبَةَ . قَالَ فَأَسْلَمَ وَشَهِدَ مَعَنَا الْعَقَبَةَ ، وَكَانَ نَقِيبًا .
امْرَأَتَانِ فِي الْبَيْعَةِ
قَالَ فَنِمْنَا تِلْكَ اللّيْلَةَ مَعَ قَوْمِنَا فِي رِحَالِنَا ، حَتّى إذَا مَضَى ثُلُثُ اللّيْلِ خَرَجْنَا مِنْ رِحَالِنَا لِمَعَادِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَتَسَلّلُ تَسَلّلَ الْقَطَا مُسْتَخْفِينَ حَتّى اجْتَمَعْنَا فِي الشّعْبِ عِنْدَ الْعَقَبَةِ ، وَنَحْنُ ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ رَجُلًا وَمَعَنَا امْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِنَا نُسَيْبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ أُمّ عُمَارَةَ [ ص 266 ] نِسَاءِ بَنِي مَازِنِ بْنِ النّجّارِ وَأَسْمَاءُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَدِيّ بْنِ نَابِي ، إحْدَى نِسَاءِ بَنِي سَلِمَةَ وَهِيَ أُمّ مَنِيعٍ .
الْعَبّاسُ وَالْأَنْصَارُ
قَالَ فَاجْتَمَعْنَا فِي الشّعْبِ نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى جَاءَنَا وَمَعَهُ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ إلّا أَنّهُ أَحَبّ أَنْ يَحْضُرَ أَمْرَ ابْنِ أَخِيهِ وَيَتَوَثّقَ لَهُ . فَلَمّا جَلَسَ كَانَ أَوّلَ مُتَكَلّمٍ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ - قَالَ وَكَانَتْ الْعَرَبُ إنّمَا يُسَمّونَ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ ، الْخَزْرَجَ ، خَزْرَجَهَا وَأَوْسَهَا - إنّ مُحَمّدًا مِنّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ وَقَدْ مَنَعْنَاهُ مِنْ قَوْمِنَا ؛ مِمّنْ هُوَ عَلَى مِثْلِ رَأْيِنَا فِيهِ فَهُوَ فِي عِزّ مِنْ قَوْمِهِ وَمَنَعَةٍ فِي بَلَدِهِ وَإِنّهُ قَدْ أَبَى إلّا الِانْحِيَازَ إلَيْكُمْ وَاللّحُوقَ بِكُمْ فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ إنّكُمْ وَافُونَ لَهُ بِمَا دَعَوْتُمُوهُ إلَيْهِ وَمَانِعُوهُ مِمّنْ خَالَفَهُ فَأَنْتُمْ وَمَا تَحَمّلْتُمْ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنّكُمْ مُسْلِمُوهُ وَخَاذِلُوهُ بَعْدَ الْخُرُوجِ بِهِ إلَيْكُمْ فَمِنْ الْآنَ فَدَعُوهُ فَإِنّهُ فِي عِزّ وَمَنَعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ وَبَلَدِهِ . قَالَ فَقُلْنَا لَهُ قَدْ سَمِعْنَا مَا قُلْت ، فَتَكَلّمْ يَا رَسُولَ اللّهِ فَخُذْ لِنَفْسِك وَلِرَبّك مَا أَحْبَبْت .
عَهْدُ الرّسُولِ عَلَيْهِ الصّلَاةُ وَالسّلَامُ عَلَى الْأَنْصَارِ
قَالَ فَتَكَلّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَتَلَا الْقُرْآنَ وَدَعَا إلَى اللّهِ وَرَغّبَ فِي الْإِسْلَامِ ثُمّ قَالَ أُبَايِعُكُمْ عَلَى أَنْ تَمْنَعُونِي مِمّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ قَالَ فَأَخَذَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ بِيَدِهِ ثُمّ قَالَ [ ص 267 ] قَالَ فَاعْتَرَضَ الْقَوْلَ وَالْبَرَاءُ يُكَلّمُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التّيّهَانِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الرّجَالِ حِبَالًا ، وَإِنّا قَاطِعُوهَا - يَعْنِي الْيَهُودَ - فَهَلْ عَسَيْت إنْ نَحْنُ فَعَلْنَا [ ص 268 ] أَظْهَرَك اللّهُ أَنْ تَرْجِعَ إلَى قَوْمِك وَتَدَعَنَا ؟ قَالَ فَتَبَسّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ قَالَ بَلْ الدّمَ الدّمَ وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ ، أَنَا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مِنّي ، أُحَارِبُ مِنْ حَارَبْتُمْ وَأُسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمْ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ الْهَدْمَ الْهَدْمَ : أَيْ ذِمّتِي ذِمّتُكُمْ وَحُرْمَتِي حُرْمَتُكُمْ . قَالَ كَعْبٌ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخْرِجُوا إلَيّ مِنْكُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ، لِيَكُونُوا عَلَى قَوْمِهِمْ بِمَا فِيهِمْ فَأَخْرَجُوا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ، تِسْعَةً مِنْ الْخَزْرَجِ ، وَثَلَاثَةً مِنْ الْأَوْسِ .
Sأُمّ عُمَارَةَ وَأُمّ مَنِيعٍ فِي بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ الْأُخْرَى
وَذَكَرَ بَيْعَةَ الْعَقَبَةِ ، وَذَكَرَ عِدّةَ أَصْحَابِ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ ، وَأَنّهُمْ كَانُوا ثَلَاثَةً وَسَبْعِينَ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ وَهُمَا : أُمّ عُمَارَةَ وَهِيَ نُسَيْبَةُ بِنْتُ كَعْبٍ امْرَأَةُ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ شَهِدَتْ بَيْعَةَ الْعَقَبَةِ وَبَيْعَةَ الرّضْوَانِ ، وَشَهِدَتْ يَوْمَ الْيَمَامَةِ ، وَبَاشَرَتْ الْقِتَالَ بِنَفْسِهَا ، وَشَارَكَتْ ابْنَهَا عَبْدَ اللّهِ فِي قَتْلِ مُسَيْلِمَةَ فَقُطِعَتْ يَدُهَا ، وَجُرِحَتْ اثْنَيْ عَشَرَ جُرْحًا ، ثُمّ عَاشَتْ بَعْدَ ذَلِكَ دَهْرًا ، وَكَانَ [ ص 266 ] يَأْتُونَهَا بِمَرْضَاهُمْ لِتَسْتَشْفِي لَهُمْ فَتَمْسَحُ بِيَدِهَا الشّلّاءِ عَلَى الْعَلِيلِ وَتَدْعُو لَهُ فَقَلّ مَا مَسَحَتْ بِيَدِهَا ذَا عَاهَةٍ إلّا بَرِئَ . وَالْأُخْرَى : أَسْمَاءُ بِنْتُ عَمْرٍو أُمّ مَنِيعٍ وَقَدْ رَفَعَ فِي نَسَبِهَا وَنَسَبِ الْأُخْرَى ابْنُ إسْحَاقَ ، وَيُرْوَى أَنّ أُمّ عُمَارَةَ قَالَتْ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَا أَرَى كُلّ شَيْءٍ إلّا لِلرّجَالِ وَمَا أَرَى لِلنّسَاءِ شَيْئًا ، فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : { إِنّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ } [ الْأَحْزَابَ : 35 ] الْآيَةَ . قَوْلُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ : وَذَكَرَ قَوْلَ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ ، وَهُوَ أَوّلُ مَنْ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى يَدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْبَيْعَةِ عَلَى اخْتِلَافٍ فِي ذَلِكَ قَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ ، فَقَالَ نُبَايِعُك عَلَى أَنْ نَمْنَعَك مِمّا نَمْنَعُ مِنْهُ [ ص 267 ] أَرَادَ نِسَاءَنَا ، وَالْعَرَبُ تُكَنّي عَنْ الْمَرْأَةِ بِالْإِزَارِ وَتُكَنّي أَيْضًا بِالْإِزَارِ عَنْ النّفْسِ وَتَجْعَلُ الثّوْبَ عِبَارَةً عَنْ لَابِسِهِ كَمَا قَالَ
رَمَوْهَا بِأَثْوَابِ خِفَافٍ فَلَا تَرَى ... لَهَا شَبَهًا إلّا النّعَامَ الْمُنَفّرَا
أَيْ بِأَبْدَانِ خِفَافٍ فَقَوْلُهُ مِمّا نَمْنَعُ أُزُرَنَا يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ، وَقَدْ قَالَ الْفَارِسِيّ فِي قَوْلِ الرّجُلِ الّذِي كَتَبَ إلَى عُمَرَ مِنْ الْغَزْوِ يُذَكّرُهُ بِأَهْلِهِ
أَلَا أَبْلِغْ أَبَا حَفْصٍ رَسُولًا ... فِدَى لَك مِنْ أَخِي ثِقَةٍ إزَارِي
قَالَ الْإِزَارُ كِنَايَةٌ عَنْ الْأَهْلِ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالْإِغْرَاءِ أَيْ احْفَظْ إزَارِي ، وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : الْإِزَارُ فِي هَذَا الْبَيْتِ كِنَايَةٌ عَنْ نَفْسِهِ وَمَعْنَاهُ فِدَا لَك نَفْسِي ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمَرْضِيّ فِي الْعَرَبِيّةِ وَاَلّذِي قَالَهُ الْفَارِسِيّ بَعِيدٌ عَنْ الصّوَابِ لِأَنّهُ أَضْمَرَ الْمُبْتَدَأَ وَأَضْمَرَ الْفِعْلَ النّاصِبَ لِلْإِزَارِ وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ لِبُعْدِهِ عَنْهُ وَبُعْدُ الْبَيْتِ مَا يَدُلّ عَلَى صِحّةِ الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ وَهُوَ
قَلَائِصَنَا هَدَاك اللّهُ مَهْلًا ... شُغِلْنَا عَنْكُمْ زَمَنَ الْحِصَارِ
فَنَصَبَ قَلَائِصَنَا بِالْإِضْمَارِ الّذِي جَعَلَهُ الْفَارِسِيّ نَاصِبًا لِلْإِزَارِ . تَرْجَمَةُ الْبَرَاءِ وَالْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ يُكَنّى أَبَا بِشْرٍ بِابْنِهِ بِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ وَهُوَ الّذِي أَكَلَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ الشّاةِ الْمَسْمُومَةِ فَمَاتَ وَمَعْرُورٌ اسْمُ أَبِيهِ مَعْنَاهُ مَقْصُودٌ يُقَالُ عَرّهُ وَاعْتَرّهُ إذَا قَصَدَ وَالْبَرَاءُ هَذَا مِمّنْ صَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَلَى قَبْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَكَبّرَ أَرْبَعًا ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الصّلَاةُ عَلَى الْقَبْرِ وَقَدْ رُوِيَتْ مِنْ سِتّ طُرُقٍ عَنْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ، وَذَكَرَهَا كُلّهَا أَبُو عُمَرَ فِي التّمْهِيدِ وَزَادَ ثَلَاثَ طُرُقٍ لَمْ يَذْكُرْهَا ابْنُ حَنْبَلٍ فَهِيَ إذًا تُرْوَى مِنْ - تِسْعِ طُرُقٍ أَعْنِي أَنّ - تِسْعَةً مِنْ الصّحَابَةِ رَوَوْا صَلَاتَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ عَلَى الْقَبْرِ [ ص 268 ] ابْنُ عَبّاسٍ ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَبُرَيْدَةُ وَأَبُو هُرَيْرَةَ ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ وَأَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيّ ، وَسَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصّامِتِ ، وَحَدِيثُهُ مُرْسَلٌ وَأَصَحّهَا إسْنَادًا حَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ .
وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ
وَذَكَرَ قَوْلَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِلْمُبَايِعِينَ لَهُ " بَلْ الدّمَ الدّمَ وَالْهَدْمَ الْهَدْمَ وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْهَدَمَ بِفَتْحِ الدّالِ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : كَانَتْ الْعَرَبُ تَقُولُ عِنْدَ عَقْدِ الْحِلْفِ وَالْجِوَارِ دَمِي دَمُك وَهَدْمِي هَدْمُك ، أَيْ مَا هَدَمْت مِنْ الدّمَاءِ هَدَمْته أَنَا ، وَيُقَالُ أَيْضًا : بَلْ اللّدَمَ اللّدَمَ وَالْهَدَمَ الْهَدَمَ ، وَأَنْشَد : ثُمّ الْحَقِي بِهَدَمِي وَلَدَمِي
فَاللّدَمُ جَمْعُ لَادِمٍ وَهُمْ أَهْلُهُ الّذِينَ يَلْتَدِمُونَ عَلَيْهِ إذَا مَاتَ وَهُوَ مِنْ لَدَمْت صَدْرَهُ إذَا ضَرَبْته . وَالْهَدَمُ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْحُرْمَةُ وَإِنّمَا كَنّى عَنْ حُرْمَةِ الرّجُلِ وَأَهْلِهِ بِالْهَدَمِ لِأَنّهُمْ كَانُوا أَهْلَ نُجْعَةٍ وَارْتِحَالٍ وَلَهُمْ بُيُوتٌ يَسْتَخِفّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِهِمْ فَكُلّمَا ظَعَنُوا هَدَمُوهَا ، وَالْهَدَمُ بِمَعْنَى الْمَهْدُومِ كَالْقَبَضِ بِمَعْنَى الْمَقْبُوضِ ثُمّ جَعَلُوا الْهَدَمَ وَهُوَ الْبَيْتُ الْمَهْدُومُ عِبَارَةً عَمّا حَوَى ، ثُمّ قَالَ هَدَمِي هَدَمُك أَيْ رِحْلَتِي مَعَ رِحْلَتِك أَيْ لَا أَظْعَنُ وَأَدَعُك وَأَنْشَدَ يَعْقُوبُ
تَمْضِي إذَا زُجِرَتْ عَنْ سَوْأَةٍ قُدُمًا ... كَأَنّهَا هَدَمٌ فِي الْجَفْرِ مُنْقَاضُ

أَسْمَاءُ النّقَبَاءِ الِاثْنَيْ عَشَرَ وَتَمَامُ خَبَرِ الْعَقَبَةِ
النّقَبَاءُ مِنْ الْخَزْرَجِ
[ ص 269 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : مِنْ الْخَزْرَجِ - فِيمَا حَدّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَكّائِيّ ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ الْمُطّلِبِيّ - أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ بْنِ عُدَسَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ وَهُوَ تَيْمُ اللّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ عَمْرُو بْنُ الْخَزْرَجِ [ بْنِ حَارِثَةَ ] وَسَعْدُ بْنُ الرّبِيعِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أَبِي زُهَيْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ عَمْرِو بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ مَالِكِ [ الْأَغَرّ ] بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، وَرَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقِ بْنِ عَبْدِ حَارِثَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَضْبِ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ ؛ وَالْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورِ بْنِ صَخْرِ بْنِ خَنْسَاءَ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَدِيّ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَسَدِ بْنِ سَارِدَةَ بْنِ تَزِيدَ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ حَرَامِ بْنِ كَعْبِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَسَدِ بْنِ سَارِدَةَ بْنِ تَزِيدَ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ ، وَعُبَادَةُ بْنُ الصّامِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ أَصْرَمَ بْنِ فِهْرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ سَالِمِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هُوَ غَنْمُ بْنُ عَوْفٍ ، أَخُو سَالِمِ بْنُ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ دُلَيْمِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ أَبِي خُزَيْمَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ طَرِيفِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ سَاعِدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ [ ص 270 ] وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ خُنَيْسِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ لَوْذَان بْنِ عَبْدِ وَدّ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ سَاعِدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ ابْنُ خُنَيْشٍ .
النّقَبَاءُ مِنْ الْأَوْسِ
وَمِنْ الْأَوْسِ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرِ بْنِ سِمَاكِ بْنِ عَتِيكِ بْنِ رَافِعِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ [ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ وَسَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كَعْبِ بْنِ النّحّاطِ بْنِ كَعْبِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ السّلَمِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ [ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ ] بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ [ بْنِ حَارِثَةَ ] وَرِفَاعَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ بْنِ زُبَيْرِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ .
شِعْرُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النّقَبَاءِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَأَهْلُ الْعِلْمِ يَعُدّونَ فِيهِمْ أَبَا الْهَيْثَمِ بْنَ التّيّهَانِ وَلَا يَعُدّونَ رِفَاعَةَ . وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ يَذْكُرُهُمْ فِيمَا أَنْشَدَنِي أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيّ :
أَبْلِغْ أُبَيّا أَنّهُ قَالَ رَأْيَهُ ... وَحَانَ غَدَاةَ الشّعْبِ وَالْحَيْنُ وَاقِعُ
أَبَى اللّهُ مَا مَنّتْك نَفْسُك إنّهُ ... بِمِرْصَادِ أَمْرِ النّاسِ رَاءٍ وَسَامِعُ
وَأَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ أَنْ قَدْ بَدَا لَنَا ... بِأَحْمَدَ نُورٌ مِنْ هُدَى اللّهِ سَاطِعُ
فَلَا تَزْغَبَنْ فِي حَشْدِ أَمْرٍ تُرِيدُهُ ... وَأَلّبْ وَجَمّعْ كُلّ مَا أَنْتَ جَامِعُ
وَدُونَك فَاعْلَمْ أَنّ نَقْضَ عُهُودِنَا ... أَبَاهُ عَلَيْك الرّهْطُ حِينَ تَبَايَعُوا
أَبَاهُ الْبَرَاءُ وَابْنُ عَمْرٍو كِلَاهُمَا ... وَأَسْعَدُ يَأْبَاهُ عَلَيْك وَرَافِعُ
وَسَعْدٌ أَبَاهُ السّاعِدِيّ وَمُنْذِرٌ ... لِأَنْفِك إنْ حَاوَلْت ذَلِكَ جَادِعُ
وَمَا ابْنُ رَبِيعٍ إنْ تَنَاوَلْت عَهْدَهُ ... بِمُسْلِمِهِ لَا يَطْمَعَنْ ثَمّ طَامِعُ
وَأَيْضًا فَلَا يُعْطِيكَهُ ابْنُ رَوَاحَةَ ... وَإِخْفَارُهُ مِنْ دُونِهِ السّمّ نَاقِعُ
وَفَاءً بِهِ وَالْقَوْقَلِيّ بْنُ صَامِتٍ ... بِمَنْدُوحَةِ عَمّا تُحَاوِلُ يَافِعُ
أَبُو هَيْثَمٍ أَيْضًا وَفِيّ بِمِثْلِهَا ... وَفَاءً بِمَا أَعْطَى مِنْ الْعَهْدِ خَانِعُ
وَمَا ابْنُ حُضَيْرٍ إنْ أَرَدْت بِمَطْمَعِ ... فَهَلْ أَنْتَ عَنْ أُحْمُوقَةِ الْغَيّ نَازِعُ
وَسَعْدٌ أَخُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فَإِنّهُ ... ضَرُوحٌ لِمَا حَاوَلْت مِ الْأَمْرِ مَانِعُ
أُولَاكَ نُجُومٌ لَا يُغِبّك مِنْهُمْ ... عَلَيْك بِنَحْسِ فِي دُجَى اللّيْلِ طَالِعُ
[ ص 271 ] فَذَكَرَ كَعْبٌ فِيهِمْ أَبَا الْهَيْثَمِ بْنَ التّيّهَانِ وَلَمْ يَذْكُرْ رِفَاعَةَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِلنّقَبَاءِ أَنْتُمْ عَلَى قَوْمِكُمْ بِمَا فِيهِمْ كُفَلَاءُ كَكَفَالَةِ الْحَوَارِيّينَ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، وَأَنَا كَفِيلٌ عَلَى قَوْمِي - يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ - قَالُوا : نَعَمْ
Sمَنْ وَلِيّ النّقَبَاءِ
[ ص 269 ] وَذَكَرَ الِاثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا ، وَشِعْرَ كَعْبٍ فِيهِمْ إلَى آخِرِهِ وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُشْكِلُ وَإِنّمَا جَعَلَهُمْ عَلَيْهِ السّلَامُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا اقْتِدَاءً بِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي قَوْمِ مُوسَى : { وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا } [ الْمَائِدَةَ 12 ] وَقَدْ سَمّيْنَا أُولَئِكَ النّقَبَاءَ بِأَسْمَائِهِمْ فِي كِتَابِ التّعْرِيفِ وَالْإِعْلَامِ فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ . [ ص 270 ] الزّهْرِيّ أَنّهُ قَالَ قَالَ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ لِلْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ حِين قَدِمَ عَلَيْهِمْ النّقَبَاءُ : لَا يَغْضَبَنّ أَحَدُكُمْ فَإِنّي أَفْعَلُ مَا أُومَر وَجِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ إلَى جَنْبِهِ [ ص 271 ] الْمُعَيْطِيّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ أَنّهُ رَوَى حَدِيثَ النّقَبَاءِ عَنْ شَيْخٍ مِنْ الْأَنْصَارِ ، قَالَ مَالِكٌ وَكُنْت أَعْجَبُ كَيْفَ جَاءَ هَذَا رَجُلَانِ مِنْ قَبِيلَةٍ وَرَجُلٌ مِنْ أُخْرَى حَتّى حُدّثْت بِهَذَا الْحَدِيثِ وَأَنّ جِبْرِيلَ هُوَ الّذِي وَلّاهُمْ وَأَشَارَ عَنْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِهِمْ .

مَا قَالَهُ الْعَبّاسُ بْنُ عُبَادَةَ لِلْخَزْرَجِ قَبْلَ الْمُبَايَعَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عَمْرِو بْنِ قَتَادَةَ : أَنّ الْقَوْمَ لَمّا اجْتَمَعُوا لِبَيْعَةِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ الْعَبّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ الْأَنْصَارِيّ ، أَخُو بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ ، هَلْ تَدْرُونَ عَلَامَ تُبَايِعُونَ هَذَا الرّجُلَ ؟ قَالُوا : نَعَمْ قَالَ إنّكُمْ تُبَايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ مِنْ النّاسِ فَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنّكُمْ إذَا نُهِكَتْ أَمْوَالُكُمْ مُصِيبَةً وَأَشْرَافُكُمْ قَتْلًا أَسْلَمْتُمُوهُ فَمِنْ الْآنَ فَهُوَ وَاَللّهِ - إنْ فَعَلْتُمْ خِزْيُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَإِنْ كُنْتُمْ تَرَوْنَ أَنّكُمْ وَافُونَ لَهُ بِمَا دَعَوْتُمُوهُ إلَيْهِ عَلَى نَهْكَةِ الْأَمْوَالِ وَقَتْلِ الْأَشْرَافِ فَخُذُوهُ فَهُوَ وَاَللّهِ خَيْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَالُوا : فَإِنّا نَأْخُذُهُ عَلَى مُصِيبَةِ الْأَمْوَالِ وَقَتْلِ الْأَشْرَافِ فَمَا لَنَا بِذَلِكَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنْ نَحْنُ وَفّيْنَا ؟ قَالَ " الْجَنّةُ " . قَالُوا : اُبْسُطْ يَدَك ، فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعُوهُ . وَأَمّا عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ فَقَالَ وَاَللّهِ مَا قَالَ ذَلِكَ الْعَبّاسُ إلّا لِيَشُدّ الْعَقْدَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَعْنَاقِهِمْ . وَأَمّا عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ مَا قَالَ ذَلِكَ الْعَبّاسُ إلّا لِيُؤَخّرَ الْقَوْمَ تِلْكَ اللّيْلَةَ رَجَاءَ أَنْ يَحْضُرَهَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابْنِ سَلُولَ فَيَكُونَ أَقْوَى لِأَمْرِ الْقَوْمِ . فَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : سَلُولُ امْرَأَةٌ مِنْ خُزَاعَةَ ، وَهِيَ أُمّ أُبَيّ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ . أَوّلُ صَحَابِيّ ضَرَبَ عَلَى يَدِ الرّسُولِ فِي بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ الثّانِيَةِ [ ص 272 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَبَنُو النّجّارِ يَزْعُمُونَ أَنّ أَبَا أُمَامَةَ أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ كَانَ أَوّلَ مَنْ ضَرَبَ عَلَى يَدِهِ وَبَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ يَقُولُونَ بَلْ أَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التّيّهَانِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : قَالَ الزّهْرِيّ : حَدّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ، فَحَدّثَنِي فِي حَدِيثِهِ عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ كَعْبٍ عَنْ أَبِيهِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ كَانَ أَوّلَ مَنْ ضَرَبَ عَلَى يَدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ ، ثُمّ بَايَعَ بَعْدُ الْقَوْمُ .

الشّيْطَانُ وَبَيْعَةُ الْعَقَبَةِ
فَلَمّا بَايَعْنَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَرَخَ الشّيْطَانُ مِنْ رَأْسِ الْعَقَبَةِ بِأَنْفَذِ صَوْتٍ سَمِعْته قَطّ : " يَا أَهْلَ الْجَبَاجِبِ " - وَالْجَبَاجِبُ : الْمَنَازِلُ - هَلْ لَكُمْ فِي مُذَمّمٍ وَالصّبَاةِ مَعَهُ قَدْ اجْتَمَعُوا عَلَى حَرْبِكُمْ . قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَذَا أَزَبّ الْعَقَبَةِ هَذَا ابْنُ أَزْيَبَ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ ابْنُ أَزْيَبَ اسْتَمِعْ أَيْ عَدُوّ اللّهِ أَمَا وَاَللّهِ لَأَفْرُغَنّ لَك
الرّسُولُ لَا يَسْتَجِيبُ لِطَلَبِ الْحَرْبِ مِنْ الْأَنْصَارِ
[ ص 273 ] قَالَ ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ارْفَضّوا إلَى رِحَالِكُم . قَالَ فَقَالَ لَهُ الْعَبّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ : وَاَللّهِ الّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ إنْ شِئْت لَنَمِيلَنّ عَلَى أَهْلِ مِنَى غَدًا بِأَسْيَافِنَا ؟ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " لَمْ نُؤْمَرْ بِذَلِكَ وَلَكِنْ ارْجِعُوا إلَى رِحَالِكُمْ قَالَ فَرَجَعْنَا إلَى مَضَاجِعِنَا ، فَنِمْنَا عَلَيْهَا حَتّى أَصْبَحْنَا .
Sتَفْسِيرُ بَعْضِ مَا وَقَعَ فِي مَا وَجَدْته
[ ص 272 ] وَذَكَرَ أَنّ الشّيْطَانَ صَرَخَ مِنْ رَأْسِ الْعَقَبَةِ بِأَنْفَذِ صَوْتٍ . قَالَ الشّيْخُ أَبُو بَحْرٍ هَكَذَا وَقَعَ فِي الْأُمّهَاتِ وَأَصْلَحْنَاهُ عَنْ الْقَاضِي أَبِي الْوَلِيدِ بِأَبْعَدِ قَالَ الْمُؤَلّفُ وَلَا مَعْنَى لِهَذَا الْإِصْلَاحِ لِأَنّ وَصْفَ الصّوْتِ بِالنّفَاذِ صَحِيحٌ هُوَ أَفْصَحُ مِنْ وَصْفِهِ بِالْبُعْدِ وَقَدْ مَضَى فِي حَدِيثِ عُمَرَ مَعَ الْكَاهِنِ قَالَ لَقَدْ سَمِعْت مِنْ صَوْتِ الْعِجْلِ صَوْتًا مَا سَمِعْت أَنْفَذَ مِنْهُ وَفِي الصّحِيحِ أَنّ اللّهَ تَعَالَى يَحْشُرُ الْخَلْقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي صَرْدَحٍ وَاحِدٍ فَيَنْفُذُهُمْ الْبَصَرُ وَيُسْمِعُهُمْ الدّاعِي . وَكَذَلِكَ وَجَدْته فِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ : بِأَنْفَذِ صَوْتٍ كَمَا كَانَ فِي الْأَصْلِ . وَقَوْلُهُ " يَا أَهْلَ الْجَبَاجِبِ " ، يَعْنِي : مَنَازِلَ مِنَى ، وَأَصْلُهُ أَنّ الْأَوْعِيَةَ مِنْ الْأَدَمِ [ ص 273 ] وَنَحْوِهِ يُسَمّى : جَبْجَبَةً فَجُعِلَ الْخِيَامُ وَالْمَنَازِلُ لِأَهْلِهَا كَالْأَوْعِيَةِ وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ حِينَ صَرَخَ إبْلِيسُ " يَا أَهْلَ الْجَبَاجِبِ ، . هَذَا أَزَبّ الْعَقَبَةِ هَذَا ابْنُ أَزْيَبَ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ ابْنُ أَزْبَبَ كَذَا تَقَيّدَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَزَبّ الْعَقَبَةِ وَقَالَ ابْنُ مَاكُولَا : أُمّ كُرْزِ بِنْتُ الْأَزَبّ بْنِ عَمْرِو بْنِ بَكِيلٍ مِنْ هَمْدَانَ جَدّةُ الْعَبّاسِ أُمّ أُمّهِ سِيلَة ، وَقَالَ لَا يُعْرَفُ الْأَزَبّ فِي الْأَسْمَاءِ إلّا هَذَا ، وَأَزَبّ الْعَقَبَةِ ، وَهُوَ اسْمُ شَيْطَانٍ وَوَقَعَ فِي هَذِهِ النّسْخَةِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ إزْبُ الْعَقَبَةِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الزّايِ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ الزّبَيْرِ مَا يَشْهَدُ لَهُ حِينَ رَأَى رَجُلًا طُولُهُ شِبْرَانِ عَلَى بَرْدَعَةِ رَحْلِهِ [ فَأَخَذَ السّوْطَ فَأَتَاهُ فَقَالَ " مَا أَنْتَ " ؟ فَقَالَ أَزَبّ ، قَالَ " وَمَا أَزَبّ " ؟ قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْجِنّ ؛ فَضَرَبَهُ عَلَى رَأْسِهِ بِعُودِ السّوْطِ حَتّى بَاصَ أَيْ هَرَبَ وَقَالَ يَعْقُوبُ فِي الْأَلْفَاظِ الْأَزَبّ : الْقَصِيرُ . وَحَدِيثُ ابْنِ الزّبَيْرِ ذَكَرَهُ الْعُتْبِيّ فِي الْغَرِيبِ فَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ اللّفْظَيْنِ أَصَحّ ؟ وَابْنُ أَزْيَبَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعْيَلًا مِنْ الْإِزْبِ أَيْضًا ، وَالْأَزْيَبُ الْبَخِيلُ وَأَزْيَبُ اسْمُ رِيحٍ مِنْ الرّيَاحِ الْأَرْبَعِ وَالْأَزْيَبُ الْفَزَعُ أَيْضًا ، وَالْأَزْيَبُ الرّجُلُ الْمُتَقَارِبُ الْمَشْيِ وَهُوَ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ قَالَهُ صَاحِبُ الْعَيْنِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ أَزْيَبَ مِنْ هَذَا أَيْضًا ، وَأَمّا الْبَخِيلُ فَأَزْيَبُ عَلَى وَزْنِ فَعْيَلٍ لِأَنّ يَعْقُوبَ حَكَى فِي الْأَلْفَاظِ امْرَأَةٌ أَزْيَبَةٌ وَلَوْ كَانَ عَنْ وَزْنِ أَفْعَلَ فِي الْمُذَكّرِ لَقِيلَ فِي الْمُؤَنّثِ زَيْبَا إلّا أَنّ فَعْيَلًا فِي أَبْنِيَةِ الْأَسْمَاءِ عَزِيزٌ وَقَدْ قَالُوا فِي ضَهْيَاءَ وَهِيَ الّتِي لَا تَحِيضُ مِنْ النّسَاءِ فَعْلَى جَعَلُوا الْهَمْزَةَ زَائِدَةً وَهِيَ عِنْدِي فَعْيَلٌ لِأَنّ الْهَمْزَةَ فِي قِرَاءَةِ عَاصِمٍ لَامُ الْفِعْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : يُضَاهُونَ وَالضّهْيَأُ مِنْ هَذَا لِأَنّهَا تُضَاهِي الرّجُلَ أَيْ تُشْبِهُهُ وَيُقَالُ فِيهِ ضَهْيَاءُ بِالْمَدّ فَلَا إشْكَالَ فِيهَا أَنّهَا لِلتّأْنِيثِ عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ ضَاهَيْت بِالْيَاءِ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَزْيَبَ وَأَزْيَبَةُ مِثْلَ أَرْمَلَ وَأَرْمَلَةَ فَلَا - يَكُونَ فَعْيَلًا . وَرَوَى أَبُو الْأَشْهَبِ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ لَمّا بُويِعَ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِمِنَى صَرَخَ الشّيْطَانُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - هَذَا أَبُو لُبَيْنَى قَدْ أَنْذَرَ بِكُمْ فَتَفَرّقُوا

مُجَادَلَةُ جُلّةِ قُرَيْشٍ لِلْأَنْصَارِ فِي شَأْنِ الْبَيْعَةِ
[ ص 274 ] أَصْبَحْنَا غَدَتْ عَلَيْنَا جُلّةُ قُرَيْشٍ ، حَتّى جَاءُونَا فِي مَنَازِلِنَا ، فَقَالُوا : يَا مَعْشَرَ الْخَزْرَجِ ، إنّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنّكُمْ قَدْ جِئْتُمْ إلَى صَاحِبِنَا هَذَا تَسْتَخْرِجُونَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا ، وَتُبَايِعُونَهُ عَلَى حَرْبِنَا ، وَإِنّهُ وَاَللّهِ مَا مِنْ حَيّ مِنْ الْعَرَبِ أَبْغَضَ إلَيْنَا ، أَنْ تَنْشَبَ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مِنْكُمْ . قَالَ فَانْبَعَثَ مَنْ هُنَاكَ مِنْ مُشْرِكِي قَوْمِنَا يَحْلِفُونَ بِاَللّهِ مَا كَانَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ وَمَا عَلِمْنَاهُ . قَالَ وَقَدْ صَدَقُوا ، لَمْ يَعْلَمُوهُ . قَالَ وَبَعْضُنَا يَنْظُرُ إلَى بَعْضٍ . قَالَ ثُمّ قَامَ الْقَوْمُ وَفِيهِمْ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيّ ، وَعَلَيْهِ نَعْلَانِ لَهُ جَدِيدَانِ . قَالَ فَقُلْت لَهُ كَلِمَةً - كَأَنّي أُرِيدُ أَنْ أَشْرَكَ الْقَوْمَ بِهَا فِيمَا قَالُوا - يَا أَبَا جَابِرٍ أَمَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تَتّخِذَ وَأَنْتَ سَيّدٌ مِنْ سَادَاتِنَا ، مِثْلَ نَعْلَيْ هَذَا الْفَتَى مِنْ قُرَيْشٍ ؟ قَالَ فَسَمِعَهَا الْحَارِثُ فَخَلَعَهُمَا مِنْ رِجْلَيْهِ ثُمّ رَمَى بِهِمَا إلَيّ وَقَالَ وَاَللّهِ لَتَنْتَعِلَنهُمَا . قَالَ يَقُولُ أَبُو جَابِرٍ مَهْ أَحْفَظْتَ وَاَللّهِ الْفَتَى ، فَارْدُدْ إلَيْهِ نَعْلَيْهِ . قَالَ قُلْت : لَا وَاَللّهِ لَا أَرُدّهُمَا ، فَأْلٌ وَاَللّهِ صَالِحٌ لَئِنْ صَدَقَ الْفَأْلُ لَأَسْلُبَنّهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ : أَنّهُمْ أَتَوْا عَبْدَ اللّهِ بْنَ أُبَيّ ابْنِ سَلُولَ فَقَالُوا لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ كَعْبٌ مِنْ الْقَوْلِ فَقَالَ لَهُمْ إنّ هَذَا الْأَمْرَ جَسِيمٌ ، مَا كَانَ قَوْمِي لِيَتَفَوّتُوا عَلَيّ بِمِثْلِ هَذَا ، وَمَا عَلِمْته كَانَ قَالَ فَانْصَرَفُوا عَنْهُ .
Sتَذْكِيرُ فَعِيلٍ وَتَأْنِيثُهَا
[ ص 274 ] وَذَكَرَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ حِينَ رَمَى بِنَعْلَيْهِ إلَى جَابِرٍ قَالَ وَكَانَ عَلَيْهِ نَعْلَانِ جَدِيدَانِ وَالنّعْلُ مُؤَنّثَةٌ وَلَكِنْ لَا يُقَالُ جَدِيدَةٌ فِي الْفَصِيحِ مِنْ الْكَلَامِ وَإِنّمَا يُقَالُ مِلْحَفَةٌ جَدِيدٌ لِأَنّهَا فِي مَعْنَى مُجَدّدَةٍ أَيْ مَقْطُوعَةٍ فَهِيَ مِنْ بَابِ كَفّ خَضِيبٌ وَامْرَأَةٌ قَتِيلٌ قَالَ سِيبَوَيْهِ : وَمَنْ قَالَ جَدِيدَةً فَإِنّمَا أَرَادَ مَعْنَى حَدِيثَةٍ أَرَادَ سِيبَوَيْهِ أَنّ حَدِيثَةً بِمَعْنَى حَادِثَةٍ وَكُلّ فَعِيلٍ بِمَعْنَى فَاعِلٍ يَدْخُلُهُ التّاءُ فِي الْمُؤَنّثِ .

قُرَيْشٌ تَطْلُبُ الْأَنْصَارَ وَتَأْسِرُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ
[ ص 275 ] قَالَ وَنَفَرَ النّاسُ مِنْ مِنَى ، فَتَنَطّسَ الْقَوْمُ الْخَبَرَ ، فَوَجَدُوهُ قَدْ كَانَ وَخَرَجُوا فِي طَلَبِ الْقَوْمِ فَأَدْرَكُوا سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ بِأَذَاخِرَ وَالْمُنْذِرَ بْنَ عَمْرٍو ، أَخَا بَنِي سَاعِدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، وَكِلَاهُمَا كَانَ نَقِيبًا . فَأَمّا الْمُنْذِرُ فَأَعْجَزَ الْقَوْمَ وَأَمّا سَعْدٌ فَأَخَذُوهُ فَرَبَطُوا يَدَيْهِ إلَى عُنُقِهِ بِنِسْعِ رَحْلِهِ ثُمّ أَقْبَلُوا بِهِ حَتّى أَدْخَلُوهُ مَكّةَ يَضْرِبُونَهُ وَيَجْذِبُونَهُ بِجُمّتِهِ وَكَانَ ذَا شَعْرٍ كَثِيرٍ . خَلَاصُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ
قَالَ سَعْدٌ فَوَاَللّهِ إنّي لَفِي أَيْدِيهِمْ إذْ طَلَعَ عَلَيّ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ ، فِيهِمْ رَجُلٌ وَضِيءٌ أَبْيَضُ شَعْشَاعٌ حُلْوٌ مِنْ الرّجَالِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الطّوِيلُ الْحَسَنُ قَالَ رُؤْبَةُ يَمْطُوهُ مِنْ شَعْشَاعِ غَيْرِ مُودَنٍ . يَعْنِي عُنُقُ الْبَعِيرِ غَيْرُ قَصِيرٍ يَقُولُ مُودَنَ الْيَدِ أَيْ نَاقِصَ الْيَدِ يَمْطُوهُ مِنْ السّيْرِ شَعْشَاعٌ حُلْوٌ مِنْ الرّجَالِ . قَالَ قُلْت فِي نَفْسِي : إنْ يَكُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْقَوْمِ خَيْرٌ فَعِنْدَ هَذَا ، قَالَ فَلَمّا دَنَا مِنّي رَفَعَ يَدَهُ فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً . قَالَ قُلْت فِي نَفْسِي : لَا وَاَللّهِ مَا عِنْدَهُمْ بَعْدَ هَذَا مِنْ خَيْرٍ . قَالَ فَوَاَللّهِ إنّي لَفِي أَيْدِيهِمْ يَسْحَبُونَنِي إذْ أَوَى لِي رَجُلٌ مِمّنْ كَانَ مَعَهُمْ فَقَالَ وَيْحَك أَمَا بَيْنَك وَبَيْنَ أَحَدٍ مِنْ قُرَيْشٍ جِوَارٌ وَلَا عَهْدٌ ؟ قَالَ قُلْت : بَلَى ، وَاَللّهِ لَقَدْ كُنْت أُجِيرُ لِجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمِ بْنِ عَدِيّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ تِجَارَةً وَأَمْنَعُهُمْ مِمّنْ أَرَادَ ظُلْمَهُمْ بِبِلَادِي ، وَلِلْحَارِثِ بْنِ حَرْبِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ قَالَ وَيْحَك فَاهْتِفْ . بِاسْمِ الرّجُلَيْنِ وَاذْكُرْ مَا بَيْنَك وَبَيْنَهُمَا . قَالَ فَفَعَلْت ، وَخَرَجَ ذَلِكَ الرّجُلُ إلَيْهِمَا ، فَوَجَدَهُمَا فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ ، فَقَالَ لَهُمَا : إنّ رَجُلًا مِنْ الْخَزْرَجِ الْآنَ يُضْرَبُ بِالْأَبْطَحِ لَيَهْتِفُ بِكُمَا ، وَيَذْكُرُ أَنّ بَيْنَهُ وَبَيْنَكُمَا جِوَارًا ، قَالَا : مَنْ هُوَ ؟ قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ . قَالَا : صَدَقَ وَاَللّهِ إنْ كَانَ لَيُجِيرُ لَنَا تِجَارَنَا ، وَيَمْنَعُهُمْ أَنْ يُظْلَمُوا بِبَلَدِهِ قَالَ فَجَاءَا فَخَلّصَا سَعْدًا مِنْ أَيْدِيهِمْ فَانْطَلَقَ . وَكَانَ الّذِي لَكَمَ سَعْدًا ، سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو ، أَخُو بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ [ ص 276 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَكَانَ الرّجُلُ الّذِي أَوَى إلَيْهِ أَبَا الْبَخْتَرِيّ بْنَ هِشَامٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ أَوّلُ شِعْرٍ قِيلَ فِي الْهِجْرَةِ بَيْتَيْنِ قَالَهُمَا ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ بْنِ مِرْدَاسٍ ، أَخُو بَنِي مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ :
تَدَارَكْت سَعْدًا عَنْوَةً فَأَخَذْته ... وَكَانَ شِفَاءً لَوْ تَدَارَكْت مُنْذِرًا
وَلَوْ نِلْته طُلّتْ هُنَاكَ جِرَاحُهُ ... وَكَانَتْ حَرِيّا أَنْ يُهَانَ وَيُهْدَرَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُرْوَى : وَكَانَ حَقِيقًا أَنْ يُهَانَ وَيُهْدَرَا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَجَابَهُ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِيهِمَا فَقَالَ [ ص 277 ]
لَسْت إلَى سَعْدٍ وَلَا الْمَرْءِ مُنْذِرٍ ... إذَا مَا مَطَايَا الْقَوْمِ أَصْبَحْنَ ضُمّرَا
فَلَوْلَا أَبُو وَهْبٍ لَمَرّتْ قَصَائِدٌ ... عَلَى شَرَفِ الْبَرْقَاءِ يَهْوِينَ حُسّرَا
أَتَفْخَرُ بِالْكَتّانِ لَمّا لَبِسْته ... وَقَدْ تَلْبَسُ الْأَنْبَاطُ رَيْطًا مُقَصّرَا
فَلَا تَكُ كَالْوَسْنَانِ يَحْلَمُ أَنّهُ ... بِقَرْيَةِ كِسْرَى أَوْ بِقَرْيَةِ قَيْصَرَ
وَلَا تَكُ كَالثّكْلَى وَكَانَتْ بِمَعْزِلِ ... عَنْ الثّكْلِ لَوْ كَانَ الْفُؤَادُ تَفَكّرَا
وَلَا تَكُ كَالشّاةِ الّتِي كَانَ حَتْفُهَا ... بِحَفْرِ ذِرَاعَيْهَا فَلَمْ تَرْضَ مُحْفَرَا
وَلَا تَكُ كَالْعَاوِي فَأَقْبَلَ نَخْرَهُ ... وَلَمْ يَخْشَهُ سَهْمًا مِنْ النّبْلِ مُضْمَرَا
فَإِنّا وَمَنْ يُهْدِي الْقَصَائِدَ نَحْوَنَا ... كَمُسْتَبْضِعِ تَمْرًا إلَى أَهْلِ خَيْبَرَا
Sمِنْ أَلْقَابِ الطّوِيلِ
[ ص 275 ] وَذَكَرَ قَوْلَ سَعْدٍ حِينَ أَسَرَتْهُ قُرَيْشٌ : فَأَتَانِي رَجُلٌ وَضِيءٌ شَعْشَاعٌ . وَالشّعْشَعُ وَالشّعْشَعَانِيّ وَالشّعْشَعَانُ الطّوِيلُ مِنْ الرّجَالِ وَكَذَلِكَ السّلْهَبُ وَالصّعْقَبُ وَالشّوْقَبُ وَ [ الشّرْعَبُ ] وَالشّرْجَبُ وَالْخِبَقّ وَالشّوْذَبُ الطّوِيلُ مَعَ رِقّةٍ فِي أَسْمَاءٍ كَثِيرَةٍ . مَعَانِي الْكَلِمَاتِ [ ص 276 ] رَقّ لَهُ يُقَالُ أَوَى إيّهْ [ وَأَوْيَةً ] مَأْوِيَةً . وَقَوْلُهُ فَتَنَطّسَ الْقَوْمُ الْخَبَرَ أَيْ أَكْثَرُوا الْبَحْثَ عَنْهُ وَالتّنَطّسُ تَدْقِيقُ النّظَرِ . قَالَ الرّاجِزُ [ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ ]
وَقَدْ أَكُونُ عِنْدَهَا نِقْرِيسًا ... طِبّا بِأَدْوَاءِ النّسَا نِطّيسًا
وَذَكَرَ قَوْلَ ضِرَارِ بْنِ الْخَطّابِ : وَكَانَ شِفَاءً لَوْ تَدَارَكْت مُنْذِرًا
وَضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ : وَضِرَارٌ كَانَ شَاعِرَ قُرَيْشٍ وَفَارِسَهَا ، وَلَمْ يَكُنْ فِي قُرَيْشٍ أَشْعَرَ مِنْهُ [ عَبْدُ اللّهِ ] ثُمّ ابْنُ الزّبَعْرَى بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ ، وَكَانَ جَدّهُ مِرْدَاسٌ رَئِيسَ بَنِي مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ فِي الْجَاهِلِيّةِ يَسِيرُ فِيهِمْ بِالْمِرْبَاعِ وَهُوَ رُبُعُ الْغَنِيمَةِ وَكَانَ أَبُوهُ أَيّامَ الْفُجّارِ رَئِيسَ بَنِي مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ أَسْلَمَ ضِرَارٌ عَامَ الْفَتْحِ . حَوْلَ قَصِيدَةِ حَسّانَ وَذَكَرَ قَوْلَ حَسّانَ يُجِيبُهُ
لَسْت إلَى عَمْرٍو وَلَا الْمَرْءِ مُنْذِرٍ ... إذَ مَا مَطَايَا الْقَوْمِ أَصْبَحْنَ ضُمّرَا
[ ص 277 ] خُنَيْسٍ وَالِدَ الْمُنْذِرِ . يَقُولُ لَسْت إلَيْهِ وَلَا إلَى ابْنِهِ الْمُنْذِرِ أَيْ أَنْتَ أَقَلّ مِنْ ذَلِكَ وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو هَذَا يُقَالُ لَهُ أَعْنَقَ لِيَمُوتَ هُوَ أَحَدُ النّقَبَاءِ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي الْمُؤَاخَاةِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - آخَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي ذَرّ الْغِفَارِيّ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْوَاقِدِيّ مُحَمّدُ بْنُ عُمَرَ وَقَالَ إنّمَا آخَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ طُلَيْبِ بْنِ عَمْرٍو . قَالَ وَكَيْفَ يُوَاخِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِي ذَرّ وَالْمُوَاخَاةُ كَانَتْ قَبْلَ بَدْرٍ وَأَبُو ذَرّ كَانَ إذْ ذَاكَ غَائِبًا عَنْ الْمَدِينَةِ ، وَلَمْ يَقْدَمْ إلّا بَعْدَ بَدْرٍ وَقَدْ قَطَعَتْ بَدْرٌ الْمُوَاخَاةَ وَنَسَخَهَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنّ اللّهَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ الْأَنْفَالَ 175 ] وَلِلْمُنْذِرِ بْنِ عَمْرٍو حَدِيثٌ وَاحِدٌ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ يَرْوِيهِ عَبْدُ الْمُهَيْمِنِ بْنُ عَبّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ عَنْ الْمُنْذِرِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَجَدَ عَنْ السّهْوِ قَبْلَ التّسْلِيمِ وَعَبْدُ الْمُهَيْمِنِ ضَعِيفٌ . وَقَوْلُ حَسّانَ
وَلَا تَكُ كَالشّاةِ الّتِي كَانَ حَتْفُهَا ... بِحَفْرِ ذِرَاعَيْهَا ، لَمْ تَرْضَ مُحْفَرَا
تَقُولُهُ الْعَرَبُ فِي مَثَلٍ قَدِيمٍ فِيمَنْ أَثَارَ عَلَى نَفْسِهِ شَرّا كَالْبَاحِثِ عَنْ الْمُدْيَةِ وَأَنْشَدَ أَبُو عُثْمَانَ [ الْجَاحِظُ ] عَمْرُو بْنُ بَحْرٍ . [ لِلْفَرَزْدَقِ ] :
وَكَانَ يُجِيرُ النّاسَ مِنْ سَيْفِ مَالِكٍ ... فَأَصْبَحَ يَبْغِي نَفْسَهُ مَنْ يُجِيرُهَا
وَكَانَ كَعَنْزِ السّوءِ قَامَتْ بِظِلْفِهَا ... إلَى مُدْيَةٍ تَحْتَ التّرَابِ تُثِيرُهَا

قِصّةُ صَنَمِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ
[ ص 278 ] الْمَدِينَةَ أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ بِهَا ، وَفِي قَوْمِهِمْ بَقَايَا مِنْ شُيُوخٍ لَهُمْ عَلَى دِينِهِمْ مِنْ الشّرْكِ مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامِ بْنِ كَعْبِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ وَكَانَ ابْنُهُ مُعَاذُ بْنُ عَمْرٍو شَهِدَ الْعَقَبَةَ ، وَبَايَعَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِهَا ، وَكَانَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ سَيّدًا مِنْ سَادَاتِ بَنِي سَلِمَةَ وَشَرِيفًا مِنْ أَشْرَافِهِمْ وَكَانَ قَدْ اتّخَذَ فِي دَارِهِ صَنَمًا مِنْ خَشَبٍ يُقَالُ لَهُ مَنَاةُ كَمَا كَانَتْ الْأَشْرَافُ يَصْنَعُونَ تَتّخِذُهُ إلَهًا تُعَظّمُهُ وَتُطَهّرُهُ فَلَمّا أَسْلَمَ فِتْيَانُ بَنِي سَلِمَةَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَابْنُهُ مُعَاذُ بْنُ عَمْرٍو ، فِي فِتْيَانٍ مِنْهُمْ مِمّنْ أَسْلَمَ وَشَهِدَ الْعَقَبَةَ ، كَانُوا يُدْلِجُونَ بِاللّيْلِ عَلَى صَنَمِ عَمْرٍو ذَلِكَ فَيَحْمِلُونَهُ فَيَطْرَحُونَهُ فِي بَعْضِ حُفَرِ بَنِي سَلِمَةَ وَفِيهَا عِذَرُ النّاسِ مُنَكّسًا عَلَى رَأْسِهِ فَإِذَا أَصْبَحَ عَمْرٌو ، قَالَ وَيْلَكُمْ مَنْ عَدَا عَلَى آلِهَتِنَا هَذِهِ اللّيْلَةَ ؟ قَالَ . ثُمّ يَغْدُو يَلْتَمِسُهُ حَتّى إذَا وَجَدَهُ غَسَلَهُ وَطَهّرَهُ وَطَيّبَهُ ، ثُمّ قَالَ أَمَا وَاَللّهِ لَوْ أَعْلَمُ مَنْ فَعَلَ هَذَا بِك لَأُخْزِيَنّهُ . فَإِذَا أَمْسَى وَنَامَ عَمْرٌو ، عَدَوْا عَلَيْهِ فَفَعَلُوا بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ فَيَغْدُو فَيَجِدُهُ فِي مِثْلِ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ الْأَذَى ، فَيَغْسِلُهُ وَيُطَهّرُهُ وَيُطَيّبُهُ ثُمّ يَغْدُونَ عَلَيْهِ إذَا أَمْسَى ، فَيَفْعَلُونَ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ . فَلَمّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ اسْتَخْرَجَهُ مِنْ حَيْثُ أَلْقَوْهُ يَوْمًا ، فَغَسَلَهُ وَطَهّرَهُ وَطَيّبَهُ ، ثُمّ جَاءَ بِسَيْفِهِ فَعَلّقَهُ عَلَيْهِ ثُمّ قَالَ إنّي وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُ مَنْ يَصْنَعُ بِك مَا تَرَى ، فَإِنْ كَانَ فِيك خَيْرٌ فَامْتَنِعْ فَهَذَا السّيْفُ مَعَك . فَلَمّا أَمْسَى وَنَامَ عَمْرٌو ، غَدَوْا عَلَيْهِ فَأَخَذُوا السّيْفَ مِنْ عُنُقِهِ ثُمّ أَخَذُوا كَلْبًا مَيّتًا فَقَرَنُوهُ بِهِ بِحَبْلِ ثُمّ أَلْقَوْهُ فِي بِئْرٍ مِنْ آبَارِ سَلِمَةَ فِيهَا عِذَرٌ مِنْ عِذَرِ النّاسِ ثُمّ غَدَا عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ فَلَمْ يَجِدْهُ فِي مَكَانِهِ الّذِي كَانَ بِهِ
إسْلَامُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ
فَخَرَجَ يَتْبَعُهُ حَتّى وَجَدَهُ فِي تِلْكَ الْبِئْرِ مُنَكّسًا مَقْرُونًا بِكَلْبِ مَيّتٍ فَلَمّا رَآهُ وَأَبْصَرَ شَأْنَهُ وَكَلّمَهُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ فَأَسْلَمَ بِرَحْمَةِ اللّهِ وَحَسُنَ إسْلَامُهُ . فَقَالَ حِينَ أَسْلَمَ ، [ ص 279 ] وَعَرَفَ مِنْ اللّهِ مَا عَرَفَ وَهُوَ يَذْكُرُ صَنَمَهُ ذَلِكَ وَمَا أَبْصَرَ مِنْ أَمْرِهِ وَيَشْكُرُ اللّهَ تَعَالَى الّذِي أَنْقَذَهُ مِمّا كَانَ فِيهِ مِنْ الْعَمَى وَالضّلَالَةِ
وَاَللّهِ لَوْ كُنْت إلَهًا لَمْ تَكُنْ ... أَنْتَ وَكَلْبٌ وَسْطَ بِئْرٍ فِي قَرَنْ
أُفّ لِمَلْقَاك إلَهًا مُسْتَدَنْ ... الْآنَ فَتّشْنَاك عَنْ سُوءِ الْغَبَنْ
الْحَمْدُ لِلّهِ الْعَلِيّ ذِي الْمِنَنْ ... الْوَاهِبِ الرّزّاقِ دَيّانِ الدّيَنْ
هُوَ الّذِي أَنْقَذَنِي مِنْ قَبْلِ أَنْ ... أَكُونَ فِي ظُلْمَةِ قَبْرٍ مُرْتَهَنْ
بِأَحْمَدَ الْمَهْدِيّ النّبِيّ الْمُرْتَهِنْ
Sإسْلَامُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَصَنَمُهُ
[ ص 278 ] عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ ، وَذَكَرَ صَنَمَهُ الّذِي كَانَ يَعْبُدُهُ وَاسْمُهُ مَنَاةُ وَزْنُهُ فَعْلَةٌ مِنْ مَنَيْت الدّمَ وَغَيْرَهُ إذَا صَبَبْته ، لِأَنّ الدّمَاءَ كَانَتْ تُمْنَى عِنْدَهُ تَقَرّبًا إلَيْهِ وَمِنْهُ سُمّيَتْ [ ص 279 ] أَرَى بِمَا تَقُولُ بَأْسًا ، وَكَذَلِكَ مَنَاةُ الطّاغِيَةُ الّتِي كَانُوا يُهِلّونَ إلَيْهَا بِقُدَيْدٍ وَالْحَظّ مِنْ هَذَا الْمَطْلَعِ مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنَاةَ الثّالِثَةَ الْأُخْرَى } النّجْمَ مِنْ الْفَائِدَةِ جَعَلَهَا ثَالِثَةً لِلّاتِ وَالْعُزّى ، وَأُخْرَى بِالْإِضَافَةِ إلَى مَنَاةَ الّتِي كَانَ يَعْبُدُهَا عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ وَغَيْرُهُ مِنْ قَوْمِهِ فَهُمَا مَنَاتَانِ وَإِحْدَاهُمَا عَنْ الْأُخْرَى بِالْإِضَافَةِ إلَى صَاحِبَتِهَا . وَقَوْلُهُ الْآنَ فَتّشْنَاك عَنْ سُوءِ الْغَبَنْ
الْغَبَنُ فِي الرّأْيِ يُقَالُ غَبِنَ رَأْيَهُ كَمَا يُقَالُ سَفِهَ نَفْسَهُ فَنَصَبُوا ، لِأَنّ الْمَعْنَى : خَسِرَ نَفْسَهُ وَأَوْبَقَهَا وَأَفْسَدَ رَأْيَهُ وَنَحْوُ هَذَا . وَقَوْلُهُ إلَهًا مُسْتَدَنْ مِنْ السّدَانَةِ وَهِيَ خِدْمَةُ الْبَيْتِ وَتَعْظِيمُهُ . وَقَوْلُهُ دَيّانُ الدّيَنْ الدّيَنُ جَمْعُ دِينَةٍ وَهِيَ الْعَادَةُ وَيُقَالُ لَهَا دِينٌ أَيْضًا ، وَقَالَ ابْنُ الطّثَرِيّةِ وَاسْمُهُ يَزِيد :
أَرَى سَبْعَةً يَسْعَوْنَ لِلْوَصْلِ كُلّهُمْ ... لَهُ عِنْدَ لَيْلَى دِينَةٌ يَسْتَدِينُهَا
فَأَلْقَيْت سَهْمِي بَيْنَهُمْ حِينَ أَوْخَشُوا ... فَمَا صَارَ لِي فِي الْقَسْمِ إلّا ثَنِينُهَا
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالدّينِ الْأَدْيَانَ أَيْ هُوَ دَيّانُ أَهْلِ الْأَدْيَانِ وَلَكِنْ جَمَعَهَا عَلَى الدّيَنِ لِأَنّهَا مِلَلٌ وَنِحَلٌ كَمَا قَالُوا فِي جَمْعِ : الْحُرّةِ : حَرَائِرَ لِأَنّهُنّ فِي مَعْنَى الْكَرَائِمِ وَالْعَقَائِلِ وَكَذَلِكَ مَرَائِرُ الشّجَرِ وَإِنْ كَانَتْ الْوَاحِدَةُ مُرّةً وَلَكِنّهَا فِي مَعْنَى فَعِيلَةٍ لِأَنّهَا عَسِيرَةٌ فِي الذّوْقِ وَشَدِيدَةٌ عَلَى الْأَكْلِ وَكَرِيهَةٌ إلَيْهِ .

شُرُوطُ الْبَيْعَةِ قِي الْعَقَبَةِ الْأَخِيرَةِ
[ ص 280 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ فِي بَيْعَةِ الْحَرْبِ حِينَ أَذِنَ اللّهُ لِرَسُولِهِ فِي الْقِتَالِ شُرُوطًا سِوَى شَرْطِهِ عَلَيْهِمْ فِي الْعَقَبَةِ الْأُولَى ، كَانَتْ الْأُولَى عَلَى بَيْعَةِ النّسَاءِ وَذَلِكَ أَنّ اللّهَ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْحَرْبِ فَلَمّا أَذِنَ اللّهُ لَهُ فِيهَا ، وَبَايَعَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْعَقَبَةِ الْأَخِيرَةِ عَلَى حَرْبِ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ أَخَذَ لِنَفْسِهِ وَاشْتَرَطَ عَلَى الْقَوْمِ لِرَبّهِ وَجَعَلَ لَهُمْ عَلَى الْوَفَاءِ بِذَلِكَ الْجَنّةَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عُبَادَةُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ ، عَنْ أَبِيهِ الْوَلِيدِ عَنْ جَدّهِ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ ، وَكَانَ أَحَدَ النّقَبَاءِ ، قَالَ بَايَعْنَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْعَةَ الْحَرْبِ - وَكَانَ عُبَادَةُ مِنْ الِاثْنَيْ عَشَرَ الّذِينَ بَايَعُوهُ فِي الْعَقَبَةِ الْأُولَى عَلَى بَيْعَةِ النّسَاءِ - عَلَى السّمْعِ وَالطّاعَةِ فِي عُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَمَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا ، وَأَثَرَةً عَلَيْنَا ، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ وَأَنْ نَقُولَ بِالْحَقّ أَيْنَمَا كُنّا ، لَا نَخَافُ فِي اللّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ .

أَسْمَاءُ مَنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَهَذِهِ تَسْمِيَةُ مَنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ ، وَبَايَعَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِهَا مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ، وَكَانُوا ثَلَاثَةً وَسَبْعِينَ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ . شَهِدَهَا مِنْ الْأَوْسِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ، ثُمّ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرِ بْنِ سِمَاكِ بْنِ عَتِيكِ بْنِ رَافِعِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ نَقِيبٌ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا . وَأَبُو الْهَيْثَمِ بْنُ التّيّهَانِ ، وَاسْمُهُ مَالِكٌ شَهِدَ بَدْرًا . وَسَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشِ بْنِ زُغْبَةَ بْنِ زَعُورَاءَ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ شَهِدَ بَدْرًا ، ثَلَاثَةُ نَفَرٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَال : ابْنُ زَعَوْرَاءَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ . [ ص 281 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمِنْ بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ : ظُهَيْرُ بْنُ رَافِعِ بْنِ عَدِيّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُشَمَ بْنِ حَارِثَةَ وَأَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ وَاسْمُهُ هَانِئُ بْنُ نِيَارِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُبَيْدِ بْنِ كِلَابِ بْنِ دُهْمَانَ بْنِ غَنْمِ بْنِ ذُبْيَانَ بْنِ هُمَيْمِ بْنِ كَاهِلِ بْنِ ذُهْلِ بْنِ دهني بْنِ بَلِيّ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَافّ بْنِ قُضَاعَةَ ، حَلِيفٌ لَهُمْ شَهِدَ بَدْرًا وَنُهَيْرُ [ أَبُو بُهَيْرِ ] بْنُ الْهَيْثَمِ مِنْ بَنِي نَابِي بْنِ مَجْدَعَةَ بْنِ حَارِثَةَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ . وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ : سَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كَعْبِ بْنِ النّحّاطِ بْنِ كَعْبِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ السّلَمِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ ، نَقِيبٌ شَهِدَ بَدْرًا ، فَقُتِلَ بِهِ مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - شَهِيدًا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَنَسَبَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَهُوَ مِنْ بَنِي غَنْمِ بْنِ السّلَمِ لِأَنّهُ رُبّمَا كَانَتْ دَعْوَةُ الرّجُلِ فِي الْقَوْمِ وَيَكُونُ فِيهِمْ فَيُنْسَبُ إلَيْهِمْ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَرِفَاعَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ بْنِ زَنْبَر بْنِ زَيْدِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرٍو ، نَقِيبٌ شَهِدَ بَدْرًا . وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ النّعْمَانِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ الْبُرَكِ - وَاسْمُ الْبُرَكِ امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرٍو شَهِدَ بَدْرًا ، وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا أَمِيرًا لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى الرّمَاةِ وَيُقَالُ أُمَيّةُ بْنُ الْبَرْكِ ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمَعْنُ بْنُ عَدِيّ بْنِ الْجَدّ بْنِ الْعَجْلَانِ بْنِ [ حَارِثَةَ ] بْنِ ضُبَيْعَةَ [ بْنِ حَرَامٍ ] لَهُمْ مِنْ بَلِيّ ، شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَق َ ، وَمَشَاهِدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كُلّهَا ، قُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شَهِيدًا فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ . وَعُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَق َ خَمْسَةُ نَفَرٍ . فَجَمِيعُ مَنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ مِنْ الْأَوْسِ أَحَد َ عَشَرَ رَجُلًا . وَشَهِدَهَا مِنْ الْخَزْرَجِ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ، ثُمّ مِنْ بَنِي النّجّارِ وَهُوَ تَيْمُ اللّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْخَزْرَجِ : أَبُو أَيّوبَ وَهُوَ خَالِدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ كُلَيْبِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ ، وَالْمَشَاهِدَ كُلّهَا ، مَاتَ بِأَرْضِ الرّومِ غَازِيًا فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ . وَمُعَاذُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ سَوَادِ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ ، وَالْمَشَاهِدَ كُلّهَا ، وَهُوَ ابْنُ عَفْرَاءَ ، وَأَخُوهُ عَوْفُ بْنُ الْحَارِثِ ، شَهِدَ بَدْرًا وَقُتِلَ بِهِ شَهِيدًا ، وَهُوَ الّذِي قَتَلَ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَهُوَ لِعَفْرَاءَ - وَيُقَالُ رِفَاعَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ سَوَادٍ فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ - وَعُمَارَةُ بْنُ حَزْمِ بْنِ زَيْدِ بْنِ لَوْذَان بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ عَوْفٍ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ . شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ ، وَالْمَشَاهِدَ كُلّهَا ، [ ص 282 ] الْيَمَامَةِ شَهِيدًا فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَأَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ بْنِ عُدَسَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ نَقِيبٌ مَاتَ قَبْلَ بَدْرٍ وَمَسْجِدُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُبْنَى ، وَهُوَ أَبُو أُمَامَةَ . سِتّةُ نَفَرٍ . وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ مَبْذُولٍ - وَمَبْذُولٌ عَامِرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ : سَهْلُ بْنُ عَتِيكِ بْنِ نُعْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَتِيكِ بْنِ عَمْرٍو ، شَهِدَ بَدْرًا . رَجُلٌ . وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ وَهُمْ بَنُو حُدَيْلَةَ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حُدَيْلَةُ بِنْتُ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ حَارِثَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَضْبِ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ - أَوْسُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ حَرَامِ بْنِ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ عَدِيّ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ ، شَهِدَ بَدْرًا . وَأَبُو طَلْحَةَ وَهُوَ زَيْدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ حَرَامِ بْنِ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ عَدِيّ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكٍ ، شَهِدَ بَدْرًا . رَجُلَانِ . وَمِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ النّجّارِ قَيْسُ بْنُ أَبِي صَعْصَعَةَ ، وَاسْمُ أَبِي صَعْصَعَةَ عَمْرُو بْنُ زَيْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ مَبْذُولِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ مَازِنٍ شَهِدَ بَدْرًا ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَعَلَهُ عَلَى السّاقَةِ يَوْمَئِذٍ . وَعَمْرُو بْنُ غُزَيّةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ خَنْسَاءَ بْنِ مَبْذُولِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ مَازِنٍ . رَجُلَانِ . فَجَمِيعُ مَنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ مِنْ بَنِي النّجّارِ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : عَمْرُو بْنُ غُزَيّةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ خَنْسَاءَ هَذَا الّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ ، إنّمَا هُوَ غُزَيّةُ بْنُ عَطِيّةَ بْنِ خَنْسَاءَ .
مَنْ شَهِدَهَا مِنْ بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمِنْ بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ : سَعْدُ بْنُ الرّبِيعِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أَبِي زُهَيْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ مَالِكٍ [ الْأَغَرّ ] بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ نَقِيبٌ شَهِدَ بَدْرًا وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا . وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ مَالِكٍ [ الْأَغَرّ ] بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ شَهِدَ بَدْرًا وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ [ بْنِ ثَعْلَبَةَ ] بْنِ امْرِىءِ الْقَيْسِ بْنِ عَمْرِو بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ مَالِكٍ الْأَغَرّ ] بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ [ ص 283 ] وَالْخَنْدَقَ وَمَشَاهِدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كُلّهَا ، إلّا الْفَتْحَ وَمَا بَعْدَهُ وَقُتِلَ يَوْمَ مُؤْتَةَ شَهِيدًا أَمِيرًا لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَبَشِيرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْجُلَاسِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ [ الْأَغَرّ ] بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ أَبُو النّعْمَانِ بْنُ بَشِيرٍ شَهِدَ بَدْرًا . وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ رَبّهِ بْنِ زَيْدِ [ مَنَاةَ ] بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ [ بْنِ حَارِثَةَ ] شَهِدَ بَدْرًا ، وَهُوَ الّذِي أُرِيَ النّدَاءَ لِلصّلَاةِ فَجَاءَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَأَمَرَ بِهِ . وَخَلّادُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَارِثَةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْن مَالِكِ [ الْأَغَرّ ] بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ [ بْنِ الْخَزْرَجِ ] شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ وَقُتِلَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ شَهِيدًا ، طُرِحَتْ عَلَيْهِ رَحَى مِنْ أُطْمٍ مِنْ آطَامِهَا فَشَدَخَتْهُ شَدْخًا شَدِيدًا ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيمَا يَذْكُرُونَ - إنّ لَهُ لَأَجْرَ شَهِيدَيْنِ وَعُقْبَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ أُسَيْرَةَ بْنِ عُسَيْرَةَ بْنِ جَدَارَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ الْحَارِثِ [ بْنِ الْخَزْرَجِ ] وَهُوَ أَبُو مَسْعُودٍ وَكَانَ أَحْدَثَ مَنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ سِنّا ، مَاتَ فِي أَيّامِ مُعَاوِيَةَ لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا سَبْعَةُ نَفَرٍ . وَمِنْ بَنِي بَيَاضَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقِ بْنِ عَبْدِ حَارِثَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَضْبِ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ : زِيَادُ بْنُ لَبِيَدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ سِنَانِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَدِيّ بْنِ أُمَيّة بْنِ بَيَاضَةَ شَهِدَ بَدْرًا . وَفَرْوَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ وَذَفَةَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ بَيَاضَةَ شَهِدَ بَدْرًا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ وَدْفَةُ [ ص 284 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَخَالِدُ بْنُ قَيْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ بْنِ عَامِرِ بْنِ بَيَاضَةَ شَهِدَ بَدْرًا . ثَلَاثَةُ نَفَرٍ . وَمِنْ بَنِي زُرَيْقِ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقِ بْنِ عَبْدِ حَارِثَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَضْبِ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ : رَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقٍ نَقِيبٌ . وَذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قَيْسِ بْنِ خَلْدَةَ بْنِ مَخْلَدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقِ [ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقِ بْنِ عَبْدِ حَارِثَةَ ] ، وَكَانَ خَرَجَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَ مَعَهُ بِمَكّةَ وَهَاجَرَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْمَدِينَةِ ، فَكَانَ يُقَالُ لَهُ مُهَاجِرِيّ أَنْصَارِيّ ، شَهِدَ بَدْرًا وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا . وَعَبّادُ بْنُ قَيْسِ بْنِ عَامِرِ بْنِ خَلْدَةَ بْنِ مَخْلَدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقٍ ، شَهِدَ بَدْرًا . وَالْحَارِثُ بْنُ قَيْسِ بْنِ خَالِدِ بْنِ مَخْلَدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقٍ ، وَهُوَ أَبُو خَالِدٍ شَهِدَ بَدْرًا . أَرْبَعَةُ نَفَرٍ .
Sتَفْسِيرُ بَعْضِ الْأَنْسَابِ
[ ص 280 ] وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ تَسْمِيَةَ مَنْ حَضَرَ الْعَقَبَةَ ، وَذَكَرَ أَنْسَابَهُمْ إلّا أَبَا الْهَيْثَمِ بْنَ التّيّهَانِ وَقَدْ ذَكَرْنَا اسْمَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ وَمَا قِيلَ فِي نَسَبِهِ فِي ذِكْرِ الْعَقَبَةِ الْأُولَى . [ ص 281 ] وَذَكَرَ قُطْبَةَ بْنَ عَامِرٍ ، وَالْقُطْبَةُ فِيمَا ذَكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ وَاحِدَةُ الْقُطَبِ وَهِيَ شَوْكَةٌ مُدَحْرَجَةٌ فِيهَا ثَلَاثُ شُوَيْكَاتٍ وَهِيَ تُشْبِهُ حَسَكَ السّعْدَانِ وَقَدْ بَانَ بِنَعْتِ أَبِي حَنِيفَةَ لَهُ أَنّهُ الّذِي نُسَمّيهِ بِبِلَادِنَا حِمّصَ الْأَمِيرِ . وَالْقُطْبَةُ طَرَفُ النّصْلِ . [ ص 282 ] وَذَكَرَ ذَكْوَانَ بْنَ عَبْدِ قَيْسٍ ، وَنَسَبَهُ إلَى عَامِرِ بْنِ زُرَيْقِ بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقِ بْنِ رَوَاحَةَ بْنِ غَضْبِ بْنِ جُشَمَ وَالْغَضْبُ فِي اللّغَةِ الشّدِيدُ الْحُمْرَةِ وَجُشَمُ مَعْدُولٌ عَنْ جَاشِمٍ وَهُوَ مِنْ جَشِمْت الْأَمْرَ [ تَكَلّفْته عَلَى مَشَقّةٍ ] كَمَا عَدَلُوا عُمَرَ عَنْ عَامِرٍ وَقَدْ أَمْلَيْنَا جُزْءًا فِي أَسْرَارِ مَا [ ص 283 ] فَائِدَةَ الْعَدْلِ عَنْ فَاعِلٍ إلَى فُعَلَ وَمَا حَقِيقَةُ الْعَدْلِ وَالْمَقْصُودُ بِهِ وَلِمَ لَمْ يُعْدَلْ عَنْ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ وَلِمَ لَمْ يَكُنْ إلّا فِي الصّفَاتِ وَلِمَ لَمْ يَكُنْ مِنْ الصّفَاتِ إلّا فِي مِثْلِ عَامِرٍ وَزَافِرٍ وَقَاثِمٍ وَلَمْ يَكُنْ فِي مَالِكٍ وَصَالِحٍ وَسَالِمٍ وَلِمَ خُصّ فُعَلُ هَذَا الْبِنَاءُ بِالْعَدْلِ إلَيْهِ وَهَلْ عُدِلَ إلَى بِنَاءٍ غَيْرِهِ أَمْ لَا وَلَمْ مُنِعَ الْخَفْضُ وَالتّنْوِينُ إذَا كَانَ مَعْدُولًا إلَى هَذَا الْبِنَاءِ فَمَنْ اشْتَاقَ إلَى مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْأَسْرَارِ فَلْيَنْظُرْهَا هُنَالِكَ فَإِنّ ابْنَ جِنّيّ قَدْ حَامَ فِي كِتَابِ الْخَصَائِصِ عَلَى بَعْضِهَا ، فَمَا وَرَدَ وَصَأْصَأَ فَمَا فَقّحَ . وَذَكَرَ فِي بَنِي بَيَاضَةَ عَمْرَو بْنَ وَذَقَةَ بِذَالِ مُعْجَمَةٍ وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَذَفَةَ بِدَالِ مُهْمَلَةٍ وَهُوَ الْأَصَحّ ، وَالْوَدْفَةُ الرّوْضَةُ النّاعِمَةُ سُمّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنّهَا تَقْطُرُ مَاءً مِنْ نِعْمَتِهَا ، وَالْأُدَافُ الذّكَرُ وَأَصْلُهُ وُدَافٌ سُمّيَ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ قَطْرُ الْمَاءِ وَالْمَنِيّ مِنْهُ وَيُقَالُ لِلرّوْضَةِ النّاعِمَةِ الدّقَرَى ، وَعَمْرُو بْنُ وَدْفَةَ هَذَا هُوَ الْبَيَاضِيّ الّذِي رَوَى عَنْهُ مَالِكٌ فِي كِتَابِ الصّلَاةِ وَلَمْ يُسَمّهِ وَفِي الْأَنْصَارِ [ مِنْ قَبَائِلِ الْخَزْرَجِ ] بَنُو النّجّارِ ، وَهُمْ تَيْمُ اللّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ ، سُمّيَ النّجّارَ فِيمَا ذَكَرُوا لِأَنّهُ نَجَرَ وَجْهَ رَجُلٍ بِقَدُومِ وَقِيلَ كَانَ نَجّارًا ، وَثَعْلَبَةُ فِي الْعَرَبِ كَثِيرٌ فِي الرّجَالِ وَقَلّ مَا يُسَمّونَ بِثَعْلَبِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْقِيَاسَ كَمَا يُسَمّونَ بِنَمِرِ وَسَبُعٍ وَذِئْبٍ وَلَكِنْ [ ص 284 ] يُقَالُ ثَعْلَبُ الرّمْحِ وَثَعْلَبُ الْحَوْضِ وَهُوَ مَخْرَجُ الْمَاءِ مِنْهُ وَفِي الْحَدِيثِ حَتّى قَامَ أَبُو لُبَابَةَ يَسُدّ ثَعْلَبَ مِرْبَدِهِ بِرِدَائِهِ فَكَأَنّهُمْ عَدَلُوا عَنْ التّسْمِيَةِ بِثَعْلَبِ لِهَذَا الِاشْتِرَاكِ مَعَ أَنّ الثّعْلَبَةَ أَحْمَى لِأَدْرَاصِهَا وَأَغْيَرُ عَلَى أَجْرَائِهَا مِنْ الثّعْلَبِ .

وَمِنْ بَنِي سَلِمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَسَدِ بْنِ سَارِدَةَ بْنِ تَزِيدَ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ ؛ ثُمّ مِنْ بَنِي عُبَيْدِ بْنِ عَدِيّ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورِ بْنِ صَخْرِ بْنِ خَنْسَاءَ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَدِيّ بْنِ غَنْمِ نَقِيبٌ وَهُوَ الّذِي تَزْعُمُ بَنُو سَلِمَةَ أَنّهُ كَانَ [ ص 285 ] أَوّلَ مَنْ ضَرَبَ عَلَى يَدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَشَرَطَ لَهُ وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ ثُمّ تُوُفّيَ قَبْلَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ . وَابْنُهُ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ ، شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا وَالْخَنْدَقَ ، وَمَاتَ بِخَيْبَرِ مِنْ أَكْلَةٍ أَكَلَهَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الشّاةِ الّتِي سُمّ فِيهَا - وَهُوَ الّذِي قَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ سَأَلَ بَنِي سَلِمَةَ مَنْ سَيّدُكُمْ يَا بَنِي سَلِمَةَ ؟ فَقَالُوا : الْجَدّ بْنُ قَيْسٍ ، عَلَى بُخْلِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَيّ دَاءٍ أَكْبَرُ مِنْ الْبُخْلِ سَيّدُ بَنِي سَلِمَةَ الْأَبْيَضُ الْجَعْدُ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ وَسِنَانُ بْنُ صَيْفِيّ بْنِ صَخْرِ بْنِ خَنْسَاءَ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدٍ ، شَهِدَ بَدْرًا ، وَالطّفَيْلُ بْنُ النّعْمَانِ بْنِ خَنْسَاءَ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدٍ ، شَهِدَ بَدْرًا ، وَقُتِلَ يَوْمَ الْخَنْدَق ِ شَهِيدًا . وَمَعْقِلُ بْن الْمُنْذِرِ بْنِ سَرْحِ بْنِ خُنَاسِ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدٍ ، شَهِدَ بَدْرًا . وَيَزِيدُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ سَرْحِ بْنِ خُنَاسِ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدٍ شَهِدَ بَدْرًا . وَمَسْعُودُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ سُبَيْعِ بْنِ خَنْسَاءَ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدٍ . وَالضّحّاكُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُبَيْدٍ ، شَهِدَ بَدْرًا ، وَيَزِيدُ بْنُ خِدَامِ أَوْ [ ابْنِ حَرَامِ أَوْ خُدَارَةَ ] بْنِ سُبَيْعِ بْنِ خَنْسَاءَ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدِ . وَجُبَارُ بْنُ صَخْرِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ خَنْسَاءَ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدِ [ بْنِ عَدِيّ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلِمَةَ ] ، شَهِدَ بَدْرًا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ جَبّارُ بْنُ صَخْرِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ خُنَاسٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَالطّفَيْلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ خَنْسَاءَ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدٍ [ وَهُوَ ابْنُ عَمّ الطّفَيْلِ بْنِ النّعْمَانِ بْنِ خَنْسَاءَ بْنِ سِنَانٍ ] ، شَهِدَ بَدْرًا . أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا . وَمِنْ بَنِي سَوَادِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلِمَةَ ثُمّ مِنْ بَنِي كَعْبِ بْنِ سَوَادٍ كَعْبُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي كَعْبِ بْنِ الْقَيْنِ بْنِ كَعْبٍ . رَجُلٌ . وَمِنْ بَنِي غَنْمِ بْنِ سَوَادِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلِمَةَ سُلَيْمُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَدِيدَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمٍ ، شَهِدَ بَدْرًا . وَقُطْبَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمٍ شَهِدَ بَدْرًا . وَيَزِيدُ بْنُ عَامِرِ بْنِ حَدِيدَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمٍ وَهُوَ أَبُو الْمُنْذِرِ شَهِدَ بَدْرًا . وَأَبُو الْيَسَرِ وَاسْمُهُ كَعْبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبّادِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ [ بْنِ سَوَادِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ [ ص 286 ] وَصَيْفِيّ بْنُ سَوَادِ بْنِ عَبّادِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمٍ . خَمْسَةُ نَفَرٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : صَيْفِيّ بْنُ أَسْوَدَ بْنِ عَبّادِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ سَوَادٍ وَلَيْسَ لِسَوَادِ ابْنٌ يُقَالُ لَهُ غَنْمٌ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمِنْ بَنِي نَابِي بْنِ عَمْرِو بْنِ سَوَادِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلِمَةَ ثَعْلَبَةُ بْنُ غَنَمَةَ بْنِ عَدِيّ بْنِ نَابِي ، شَهِدَ بَدْرًا ، وَقُتِلَ بِالْخَنْدَق ِ شَهِيدًا . وَعَمْرُو بْنُ غَنَمَةَ بْنِ عَدِيّ بْنِ نَابِي ، وَعَبْسُ بْنُ عَامِرِ بْنِ عَدِيّ بْنِ نَابِي ، شَهِدَ بَدْرًا . وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أُنَيْسٍ ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ قُضَاعَةَ . وَخَالِدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَدِيّ بْنِ نَابِي . خَمْسَةُ نَفَرٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمِنْ بَنِي حَرَامِ بْنِ كَعْبِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلِمَةَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ حَرَامٍ نَقِيبٌ شَهِدَ بَدْرًا ، وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا ، وَابْنُهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ . وَمُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامٍ ، شَهِدَ بَدْرًا . وَثَابِتُ بْنُ الْجِذْعِ - وَالْجِذْعُ ثَعْلَبَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ حَرَامٍ - شَهِدَ بَدْرًا ، وَقُتِلَ بِالطّائِفِ شَهِيدًا . وَعُمَيْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ حَرَامٍ شَهِدَ بَدْرًا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : عُمَيْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ لَبْدَة بْنِ ثَعْلَبَةَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَخَدِيجُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ أَوْسِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْفُرَافِرِ [ أَوْ الْقُرَاقِرِ ] حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَلِيّ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أَوْسِ بْنِ عَائِذِ بْنِ عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُدَيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَسَدٍ ، يُقَالُ أَسَدُ بْنُ سَارِدَةَ بْنِ تَزِيدَ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ ، وَكَانَ فِي بَنِي سَلِمَةَ شَهِدَ بَدْرًا ، وَالْمَشَاهِدَ كُلّهَا وَمَاتَ بِعَمْوَاسٍ عَامَ الطّاعُونِ بِالشّامِ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَإِنّمَا ادّعَتْهُ بَنُو سَلِمَةَ أَنّهُ كَانَ أَخَا سَهْلِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ الْجَدّ بْنِ قَيْسِ بْنِ صَخْرِ بْنِ خَنْسَاءَ بْنِ سِنَانِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَدِيّ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلِمَةَ . لِأُمّهِ . سَبْعَةُ نَفَرٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَوْسُ ابْنُ عَبّادِ بْنِ عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُدَيّ بْنِ سَعْدٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمِنْ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، ثُمّ مِنْ بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ : عُبَادَةُ بْنُ الصّامِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ أَصْرَمَ بْنِ فِهْرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ نَقِيبٌ شَهِدَ بَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ كُلّهَا [ ص 287 ] ابْنُ هِشَامٍ : هُوَ غَنْمُ بْنُ عَوْفٍ ، أَخُو سَالِمِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَالْعَبّاسُ بْن عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ بْنِ زَيْدِ بْنِ غَنْمِ بْنِ سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ ، وَكَانَ مِمّنْ خَرَجَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ بِمَكّةَ فَأَقَامَ مَعَهُ بِهَا فَكَانَ يُقَالُ لَهُ مُهَاجِرِيّ أَنْصَارِيّ وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُد ٍ شَهِيدًا . وَأَبُو عَبْدِ الرّحْمَنِ يَزِيدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ خَزْمَةَ بْنِ أَصْرَمَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَارَةَ ، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَنِي غُصَيْنَةَ مِنْ بَلِيّ . وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ بْنِ لَبْدَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَةَ : أَرْبَعَةُ نَفَرٍ وَهُمْ الْقَوَاقِلُ . وَمِنْ بَنِي سَالِمِ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، وَهُمْ بَنُو الْحُبْلَى - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْحُبْلَى : سَالِمُ بْنُ غَنْمِ بْنِ عَوْفٍ ، وَإِنّمَا سُمّيَ الْحُبْلَى - لِعِظَمِ بَطْنِهِ رِفَاعَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ سَالِمِ بْنِ غَنْمٍ ، شَهِدَ بَدْرًا ، وَهُوَ أَبُو الْوَلِيدِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ رِفَاعَةُ ابْنُ مَالِكٍ وَمَالِكٌ ابْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ جُشَمَ بْنِ مَالِكِ بْنِ سَالِمٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَعُقْبَةُ بْنُ وَهْبِ بْنِ كَلَدَةَ بْنِ الْجَعْدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَدِيّ بْنِ جُشَمَ بْنِ عَوْفِ بْنِ بُهْثَةَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ غَطَفَانَ بْنِ سَعْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ ، حَلِيفٌ لَهُمْ شَهِدَ بَدْرًا ، وَكَانَ مِمّنْ خَرَجَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُهَاجِرًا مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكّةَ ، فَكَانَ يُقَالُ لَهُ مُهَاجِرِيّ أَنْصَارِيّ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : رَجُلَانِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمِنْ بَنِي سَاعِدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ : سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ دُلَيْمِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ أَبِي خُزَيْمَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ طَرِيفِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ سَاعِدَةَ نَقِيبٌ وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ خُنَيْسِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ لَوْذَان بْنِ عَبْدِ وَدّ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ سَاعِدَةَ ، نَقِيبٌ شَهِدَ بَدْرًا وَأُحُدًا ، وَقُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ أَمِيرًا لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ الّذِي كَانَ يُقَالُ لَهُ أَعْنَقَ لِيَمُوتَ . رَجُلَانِ [ ص 288 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَجَمِيعُ مَنْ شَهِدَ الْعَقَبَةَ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ رَجُلًا وَامْرَأَتَانِ مِنْهُمْ يَزْعُمُونَ أَنّهُمَا قَدْ بَايَعَتَا ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يُصَافِحُ النّسَاءَ إنّمَا كَانَ يَأْخُذُ عَلَيْهِنّ فَإِنْ أَقْرَرْنَ قَالَ اذْهَبْنَ فَقَدْ بَايَعْتُكُنّ وَمِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ النّجّارِ نُسَيْبَةُ بِنْتُ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَبْذُولِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ مَازِنِ [ بْنِ النّجّارِ ] ، وَهِيَ أُمّ عُمَارَةَ كَانَتْ شَهِدَتْ الْحَرْبَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَشَهِدَتْ مَعَهَا أُخْتُهَا . وَزَوْجُهَا زَيْدُ بْنُ عَاصِمِ بْنِ كَعْبٍ . وَابْنَاهَا : حَبِيبُ بْنُ زَيْدٍ ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ زَيْدٍ ، وَابْنُهَا حَبِيبٌ الّذِي أَخَذَهُ مُسَيْلِمَةُ الْكَذّابُ الْحَنَفِيّ ، صَاحِبُ الْيَمَامَةِ ، فَجَعَلَ يَقُولُ لَهُ أَتَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيَقُولُ أَفَتَشْهَدُ أَنّي رَسُولُ اللّهِ ؟ فَيَقُول : لَا أَسْمَعُ فَجَعَلَ يَقْطَعُهُ عُضْوًا عُضْوًا حَتّى مَاتَ فِي يَدِهِ لَا يَزِيدُهُ عَلَى ذَلِكَ إذَا ذُكِرَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ آمَنَ بِهِ وَصَلّى عَلَيْهِ وَإِذَا ذُكِرَ لَهُ مُسَيْلِمَةُ قَالَ لَا أَسْمَعُ - فَخَرَجَتْ إلَى الْيَمَامَةِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَبَاشَرَتْ الْحَرْبَ بِنَفْسِهَا ، حَتّى قَتَلَ اللّهُ مُسَيْلِمَةَ وَرَجَعَتْ وَبِهَا اثْنَا عَشَرَ جُرْحًا ، مِنْ بَيْنِ طَعْنَةٍ وَضَرْبَةٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي هَذَا الْحَدِيثَ عَنْهَا مُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبّانَ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ ومن بني سلمة: أم منيع؛ واسمها: أسماء بنت عمروبن عدي بن نابي بن عمرو بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمةSوَذَكَرَ قَوْلَ رَسُولِ اللّه - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِبَنِي سَلِمَةَ مَنْ سَيّدُكُمْ ؟ فَقَالُوا جَدّ بْنُ قَيْسٍ عَلَى بُخْلٍ فِيهِ فَقَالَ وَأَيّ دَاءٍ أَكْبَرُ مِنْ الْبُخْلِ ؟ بَلْ سَيّدُكُمْ الْأَبْيَضُ الْجَعْدُ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاء وَرُوِيَ عَنْ الزّهْرِيّ وَعَامِرٍ الشّعْبِيّ أَنّهُمَا قَالَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ بَلْ سَيّدُكُمْ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوح وَقَالَ شَاعِرُ الْأَنْصَارِ فِي ذَلِكَ
وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ وَالْحَقّ قَوْلُهُ ... لِمَنْ قَالَ مِنّا مَنْ تَعُدّونَ سَيّدَا
فَقَالُوا لَهُ جَدّ بْنُ قَيْسٍ عَلَى الّتِي ... نُبَخّلُهُ فِيهَا ، وَمَا كَانَ أَسْوَدَا
فَسَوّدَ عَمْرَو بْنَ الْجَمُوحِ لِجُودِهِ ... وَحُقّ لِعَمْرِو وَعِنْدَنَا أَنْ يُسَوّدَا
[ ص 285 ] ذَكَرَ خَدِيجَ بْنَ سَلَامَةَ الْبَلَوِيّ فَصْلٌ وَذَكَرَ خَدِيجَ بْنَ سَلَامَةَ الْبَلَوِيّ وَهُوَ خَدِيجٌ بِخَاءِ مَنْقُوطَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَدَالٍ مَكْسُورَةٍ كَذَا ذَكَرَهُ الدّارَقُطْنِيّ وَغَيْرُهُ وَذَكَرَهُ الطّبَرِيّ ، وَقَالَ شَهِدَ الْعَقَبَةَ ، وَلَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا ، وَقَالَ يُكَنّى أَبَا رَشِيدٍ [ ص 286 ] وَذَكَرَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ وَنَسَبَهُ إلَى أُدَيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَلِيّ أَخِي سَلِمَةَ وَقَدْ انْفَرَضَ عَقِبُ أُدَيّ وَآخِرُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ ، وَقَدْ يُقَالُ فِي أُدَيّ أَيْضًا : أُذُنٌ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ وَابْنِ هِشَامٍ . [ ص 287 ] وَذَكَرَ أَنّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ مَاتَ فِي طَاعُونِ عَمْوَاسٍ ، هَكَذَا تَقَيّدَ فِي النّسْخَةِ عَمْوَاسٌ بِسُكُونِ الْمِيمِ وَقَالَ فِيهِ الْبَكْرِيّ فِي كِتَابِ الْمُعْجَمِ مِنْ أَسْمَاءِ الْبُقَعِ عَمَوَاسٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْعَيْنِ وَهِيَ قَرْيَةٌ بِالشّامِ عُرِفَ الطّاعُونُ بِهَا لِأَنّهُ مِنْهَا بَدَأَ وَقِيلَ إنّمَا سُمّيَ طَاعُونَ عَمْوَاسٍ لِأَنّهُ عَمّ وَآسَى أَيْ جَعَلَ بَعْضَ النّاسِ أُسْوَةَ بَعْضٍ . [ ص 288 ] وَذَكَرَ يَزِيدَ بْنَ ثَعْلَبَةَ بْنِ خَزْمَةَ بِسُكُونِ الزّايِ كَذَا قَالَ فِيهِ ابْنُ إسْحَاقَ وَابْنُ الْكَلْبِيّ وَقَالَ الطّبَرِيّ فِيهِ خَزَمَةَ بِتَحْرِيكِ الزّايِ وَهُوَ بَلَوِيّ مِنْ بَنِي عَمّارَةَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَلَا يُعْرَفُ عَمّارَةُ فِي الْعَرَبِ إلّا هَذَا ، كَمَا لَا يُعْرَفُ عِمَارَةُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ إلّا أُبَيّ بْنُ عِمَارَةَ الّذِي يَرْوِي حَدِيثًا فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفّيْنِ وَقَدْ قِيلَ فِيهِ عُمَارَةُ بِضَمّ الْعَيْنِ وَأَمّا سِوَى هَذَيْنِ فَعُمَارَةُ بِالضّمّ غَيْرَ أَنّ الدّارَقُطْنِيّ ذَكَرَ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ ابْنِ الْكَلْبِيّ فِي نَسَبِ قُضَاعَةَ : قَالَ مُدْرِكُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْقَمْقَامُ بْنِ عِمَارَةَ بْنِ ذُوَيْدِ بْنِ مَالِكٍ . وَفِي النّسَاءِ عُمَارَةُ بِنْتُ نَافِعٍ وَهِيَ أُمّ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ الرّزّاقِ ، وَفِي الْأَنْصَارِ خَزَمَةُ سِوَى هَذَا الْمَذْكُورِ بِفَتْحِ الزّايِ كَثِيرٌ . [ ص 289 ] وَذَكَرَ بَنِي الْحُبْلَى وَالنّسَبُ إلَيْهِ حُبُلِيّ بِضَمّ الْحَاءِ وَالْبَاءِ قَالَهُ سِيبَوَيْهِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسِ النّسَبِ وَتَوَهّمَ بَعْضُ مَنْ أَلّفَ فِي الْعَرَبِيّةِ أَنّ سِيبَوَيْهِ قَالَ فِيهِ حُبَلِيّ بِفَتْحِ الْبَاءِ لِمَا ذَكَرَهُ مَعَ جُذَمِيّ فِي النّسَبِ إلَى جَذِيمَةَ وَلَمْ يَذْكُرْهُ سِيبَوَيْهِ مَعَهُ لِأَنّهُ عَلَى وَزْنِهِ وَلَكِنْ لِأَنّهُ شَاذّ مِثْلُهُ فِي الْقِيَاسِ الّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ سِيبَوَيْهِ مِنْ تَقْيِيدِهِ بِالضّمّ ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيّ الْقَالِي فِي الْبَارِعِ وَقَالَ هَكَذَا تَقَيّدَ فِي النّسَخِ الصّحِيحَةِ مِنْ سِيبَوَيْهِ ، وَحَسْبُك مِنْ هَذَا أَنّ جَمِيعَ الْمُحَدّثِينَ يَقُولُونَ أَبُو عَبْدِ الرّحْمَنِ الْحُبُلِيّ بِضَمّتَيْنِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ فَدَلّ هَذَا كُلّهُ عَلَى غَلَطِ مَنْ نَسَبَ إلَى سِيبَوَيْهِ أَنّهُ فَتَحَ الْبَاءَ .

نُزُولُ الْأَمْرِ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْقِتَالِ
بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ . قَالَ حَدّثَنَا أَبُو مُحَمّدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ قَالَ حَدّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَكّائِيّ ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ الْمُطّلِبِيّ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فِي الْحَرْبِ وَلَمْ تُحَلّلْ لَهُ الدّمَاءُ إنّمَا يُؤْمَرُ بِالدّعَاءِ إلَى اللّهِ وَالصّبْرِ [ ص 289 ] وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ اضْطَهَدَتْ مَنْ اتّبَعَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ حَتّى فَتَنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَنَفَوْهُمْ مِنْ بِلَادِهِمْ فَهُمْ مِنْ بَيْنِ مَفْتُونٍ فِي دِينِهِ وَمِنْ بَيْنِ مُعَذّبٍ فِي أَيْدِيهِمْ وَبَيْنِ هَارِبٍ فِي الْبِلَادِ فِرَارًا مِنْهُمْ مِنْهُمْ مَنْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ بِالْمَدِينَةِ وَفِي كُلّ وَجْهٍ فَلَمّا عَتَتْ قُرَيْشٌ عَلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَرَدّوا عَلَيْهِ مَا أَرَادَهُمْ بِهِ مِنْ الْكَرَامَةِ وَكَذّبُوا نَبِيّهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَذّبُوا وَنَفَوْا مَنْ عَبَدَهُ وَوَحّدَهُ وَصَدّقَ نَبِيّهُ وَاعْتَصَمَ بِدِينِهِ أَذِنَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ لِرَسُولِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْقِتَالِ وَالِانْتِصَارِ مِمّنْ ظَلَمَهُمْ وَبَغَى عَلَيْهِمْ فَكَانَتْ أَوّلَ آيَةٍ أُنْزِلَتْ فِي إذْنِهِ لَهُ فِي الْحَرْبِ وَإِحْلَالِهِ لَهُ الدّمَاءَ وَالْقِتَالَ لِمَنْ بَغَى عَلَيْهِمْ فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ قَوْلُ اللّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { أُذِنَ لِلّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنّ اللّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الذين أخرجوا من ديارهم بِغَيْرِ حَقّ إِلّا أَنْ يَقُولُوا رَبّنَا اللّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللّهِ النّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنّ اللّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنّ اللّهَ لَقَوِيّ عَزِيزٌ الّذِينَ إِنْ مَكّنّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصّلَاةَ وَآتَوُا الزّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } أَيْ أَنّي ، إنّمَا أَحْلَلْت لَهُمْ الْقِتَالَ لِأَنّهُمْ ظُلِمُوا ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَنْبٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النّاسِ إلّا أَنْ يَعْبُدُوا اللّهَ وَأَنّهُمْ إذَا ظَهَرُوا أَقَامُوا الصّلَاةَ وَآتَوْا الزّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ يَعْنِي النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأَصْحَابَهُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ ثُمّ أَنْزَلَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَيْهِ { وَقَاتِلُوهُمْ حَتّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ } أَيْ حَتّى لَا يُفْتَنَ مُؤْمِنٌ عَنْ دِينِهِ { وَيَكُونَ الدّينُ لِلّهِ } أَيْ حَتّى يُعْبَدَ اللّهُ لَا يُعْبَدُ مَعَهُ غَيْرُهُ

الْإِذْنُ لِمُسْلِمِي مَكّةَ بِالْهِجْرَةِ
[ ص 290 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا أَذِنَ اللّهُ تَعَالَى لَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْحَرْبِ وَبَايَعَهُ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالنّصْرَةِ لَهُ وَلِمَنْ اتّبَعَهُ وَأَوَى إلَيْهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَصْحَابَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قَوْمِهِ وَمَنْ مَعَهُ بِمَكّةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِالْخُرُوجِ إلَى الْمَدِينَةِ وَالْهِجْرَةِ إلَيْهَا ، وَاللّحُوقِ بِإِخْوَانِهِمْ مِنْ الْأَنْصَارِ ، وَقَالَ إنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ قَدْ جَعَلَ لَكُمْ إخْوَانًا وَدَارًا تَأْمَنُونَ بِهَا . فَخَرَجُوا أَرْسَالًا ، وَأَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَكّةَ يَنْتَظِرُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ رَبّهُ فِي الْخُرُوجِ مِنْ مَكّةَ ، وَالْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِينَةِ .

الْمُهَاجِرُونَ إلَى الْمَدِينَةِ
هِجْرَةُ أَبِي سَلَمَةَ وَزَوْجِهِ وَحَدِيثُهَا عَمّا لَقِيَا
فَكَانَ أَوّلَ مَنْ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ ، مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللّهِ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ بَيْعَةِ أَصْحَابِ الْعَقَبَةِ بِسَنَةِ وَكَانَ قَدِمَ [ ص 291 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَلَمّا آذَتْهُ قُرَيْشٌ وَبَلَغَهُ إسْلَامُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْأَنْصَارِ ، خَرَجَ إلَى الْمَدِينَةِ مُهَاجِرًا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي أَبِي إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَدّتِهِ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَتْ لَمّا أَجْمَعَ أَبُو سَلَمَةَ الْخُرُوجَ إلَى الْمَدِينَةِ رَحّلَ إلَيّ بَعِيرَهُ ثُمّ حَمَلَنِي عَلَيْهِ وَحَمَلَ مَعِي ابْنِي سَلَمَةَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ فِي حِجْرِي ، ثُمّ خَرَجَ بِي يَقُودُ بِي بَعِيرَهُ فَلَمّا رَأَتْهُ رِجَالُ بَنِي الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ قَامُوا إلَيْهِ فَقَالُوا هَذِهِ نَفْسُك غَلَبْتنَا عَلَيْهَا ، أَرَأَيْت صَاحِبَتَك هَذِهِ ؟ عَلَامَ نَتْرُكُك تَسِيرُ بِهَا فِي الْبِلَادِ ؟ قَالَتْ فَنَزَعُوا خِطَامَ الْبَعِيرِ مِنْ يَدِهِ فَأَخَذُونِي مِنْهُ . قَالَتْ وَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ بَنُو عَبْدِ الْأَسَدِ ، رَهْطُ أَبِي سَلَمَةَ فَقَالُوا : لَا وَاَللّهِ لَا نَتْرُكُ ابْنَنَا عِنْدَهَا إذَا نَزَعْتُمُوهَا مِنْ صَاحِبِنَا . قَالَتْ فَتَجَاذَبُوا بُنَيّ سَلَمَةَ بَيْنَهُمْ حَتّى خَلَعُوا يَدَهُ وَانْطَلَقَ بِهِ بَنُو عَبْدِ الْأَسَدِ ، وَحَبَسَنِي بَنُو الْمُغِيرَةِ عِنْدَهُمْ وَانْطَلَقَ زَوْجِي أَبُو سَلَمَةَ إلَى الْمَدِينَةِ . قَالَتْ فَفُرّقَ بَيْنِي وَبَيْنَ زَوْجِي وَبَيْنَ ابْنِي . قَالَتْ فَكُنْت أَخْرُجُ كُلّ غَدَاةٍ فَأَجْلِسُ بِالْأَبْطَحِ فَمَا أَزَالُ أَبْكِي ، حَتّى أُمْسِي سَنَةً أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا حَتّى مَرّ بِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمّي ، أَحَدُ بَنِي الْمُغِيرَةِ فَرَأَى مَا بِي فَرَحِمَنِي فَقَالَ لِبَنِي الْمُغِيرَةِ أَلَا تُخْرِجُونَ هَذِهِ الْمِسْكِينَةَ فَرّقْتُمْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا قَالَتْ فَقَالُوا لِي : الْحَقِي بِزَوْجِك إنْ شِئْت . قَالَتْ وَرَدّ بَنُو عَبْدِ الْأَسَدِ إلَيّ عِنْدَ ذَلِكَ ابْنِي . قَالَتْ فَارْتَحَلْت بَعِيرِي ثُمّ أَخَذْت ابْنِي فَوَضَعْته فِي حِجْرِي ، ثُمّ خَرَجْت أُرِيدُ زَوْجِي بِالْمَدِينَةِ . قَالَتْ وَمَا مَعِي أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللّهِ . قَالَتْ فَقُلْت : أَتَبَلّغُ بِمَنْ لَقِيت حَتّى أَقْدَمَ عَلَى زَوْجِي ، حَتّى إذَا كُنْت بِالتّنْعِيمِ لَقِيت عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَخَا بَنِي عَبْدِ الدّارِ فَقَالَ لِي : إلَى أَيْنَ يَا بِنْتَ أَبِي أُمَيّةَ ؟ قَالَتْ فَقُلْت : أُرِيدُ زَوْجِي بِالْمَدِينَةِ . قَالَ أوَ مَا مَعَك أَحَدٌ ؟ قَالَتْ فَقُلْت : لَا وَاَللّهِ إلّا اللّهَ وَبُنَيّ هَذَا . قَالَ وَاَللّهِ مَا لَك مِنْ مَتْرَكٍ فَأَخَذَ بِخِطَامِ الْبَعِيرِ فَانْطَلَقَ مَعِي يَهْوِي بِي ، فَوَاَللّهِ مَا صَحِبْت رَجُلًا مِنْ الْعَرَبِ قَطّ ، أَرَى أَنّهُ كَانَ أَكْرَمَ مِنْهُ كَانَ إذَا بَلَغَ الْمَنْزِلَ أَنَاخَ بِي ، ثُمّ اسْتَأْخَرَ عَنّي ، حَتّى إذَا نَزَلْت اسْتَأْخَرَ بِبَعِيرِي ، فَحَطّ عَنْهُ ثُمّ قَيّدَهُ فِي الشّجَرَةِ ، ثُمّ تَنَحّى إلَى شَجَرَةٍ فَاضْطَجَعَ تَحْتَهَا ، فَإِذَا دَنَا الرّوَاحُ قَامَ إلَى بَعِيرِي فَقَدّمَهُ فَرَحّلَهُ ثُمّ اسْتَأْخَرَ عَنّي ، وَقَالَ ارْكَبِي . فَإِذَا رَكِبْت وَاسْتَوَيْت عَلَى بَعِيرِي أَتَى فَأَخَذَ بِخِطَامِهِ فَقَادَهُ حَتّى [ ص 292 ] الْمَدِينَةَ ، فَلَمّا نَظَرَ إلَى قَرْيَةِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِقُبَاءَ قَالَ زَوْجُك فِي هَذِهِ الْقَرْيَةِ - وَكَانَ أَبُو سَلَمَةَ بِهَا نَازِلًا - فَادْخُلِيهَا عَلَى بَرَكَةِ اللّهِ ثُمّ انْصَرَفَ رَاجِعًا إلَى مَكّةَ . قَالَ فَكَانَتْ تَقُولُ وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُ أَهْلَ بَيْتٍ فِي الْإِسْلَامِ أَصَابَهُمْ مَا أَصَابَ آلَ أَبِي سَلَمَةَ ، وَمَا رَأَيْت صَاحِبًا قَطّ كَانَ أَكْرَمَ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ .
Sمَتَى أَسْلَمَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ
[ ص 290 ] وَذَكَرَ هِجْرَةَ أُمّ سَلَمَةَ وَصُحْبَةَ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ لَهَا ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَلَى كُفْرِهِ وَإِنّمَا أَسْلَمَ عُثْمَانُ فِي هُدْنَةِ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَهَاجَرَ قَبْلَ الْفَتْحِ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ، وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ إخْوَتُهُ مُسَافِعٌ وَكِلَابٌ وَالْحَارِثُ وَأَبُوهُمْ وَعَمّهُ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ قُتِلَ أَيْضًا يَوْمَ أُحُدٍ [ ص 291 ] كَانَتْ مَفَاتِيحُ الْكَعْبَةِ وَدَفَعَهَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَامَ الْفَتْحِ إلَى عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ وَإِلَى ابْنِ عَمّهِ شَيْبَةَ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، وَهُوَ جَدّ بَنِي شَيْبَةَ حَجَبَةِ الْكَعْبَةِ ، وَاسْمُ أَبِي طَلْحَةَ جَدّهِمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى ، وَقُتِلَ عُثْمَانُ رَحِمَهُ اللّهُ شَهِيدًا بِأَجْنَادِينَ فِي أَوّلِ خِلَافَةِ عُمَرَ .

هِجْرَةُ عَامِرٍ وَزَوْجِهِ وَهِجْرَةُ بَنِي جَحْشٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ كَانَ أَوّلَ مَنْ قَدِمَهَا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ بَعْدَ أَبِي سَلَمَةَ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ ، حَلِيفُ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ لَيْلَى بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ بْنِ غَانِمِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ . ثُمّ عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابِ بْنِ يَعْمَرَ بْنِ صَبْرَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ دُودَانَ بْنِ أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ ، حَلِيفُ بَنِي [ ص 293 ] عَبْدِ شَمْسٍ ، احْتَمَلَ بِأَهْلِهِ وَبِأَخِيهِ عَبْدِ بْنِ جَحْشٍ وَهُوَ أَبُو أَحْمَدَ - وَكَانَ أَبُو أَحْمَدَ رَجُلًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ وَكَانَ يَطُوفُ مَكّةَ ، أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا ، بِغَيْرِ قَائِدٍ وَكَانَ شَاعِرًا ، وَكَانَتْ عِنْدَهُ الْفَرْعَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَكَانَتْ أُمّهُ أُمَيْمَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ - فَغُلّقَتْ دَارُ بَنِي جَحْشٍ هِجْرَةً فَمَرّ بِهَا عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ . وَالْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَهِيَ دَارُ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ الْيَوْمَ الّتِي بِالرّدْمِ وَهُمْ مُصْعِدُونَ إلَى أَعْلَى مَكّةَ ، فَنَظَرَ إلَيْهَا عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ تَخْفِقُ أَبْوَابُهَا يَبَابًا لَيْسَ فِيهَا سَاكِنٌ فَلَمّا رَآهَا كَذَلِكَ تَنَفّسَ الصّعَدَاءَ ثُمّ قَالَ
وَكُلّ دَارٍ وَإِنْ طَالَتْ سَلَامَتُهَا
يَوْمًا سَتُدْرِكُهَا النّكْبَاءُ وَالْحُوبُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذَا الْبَيْتُ لِأَبِي دُؤَادٍ الْإِيَادِيّ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَالْحُوبُ التّوَجّعُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ قَالَ عُتْبَةُ أَصْبَحَتْ دَارُ بَنِي جَحْشٍ خَلَاءً مِنْ أَهْلِهَا فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَمَا تَبْكِي عَلَيْهِ مِنْ قُلّ بْنِ قُلّ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْقُلّ : الْوَاحِدُ . قَالَ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ :
كُلّ بَنِي حُرّةٍ مَصِيرُهُم ْ
قُلّ وَإِنْ أَكْثَرَتْ مِنْ الْعَدَدِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ قَالَ هَذَا عَمَلُ ابْنِ أَخِي هَذَا ، فَرّقَ جَمَاعَتَنَا ، وَشَتّتْ أَمْرَنَا وَقَطَعَ بَيْنَنَا فَكَانَ مَنْزَلُ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ وَعَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ ، وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ جَحْشٍ ، وَأَخِيهِ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ جَحْشٍ عَلَى مُبَشّرِ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ بْنِ نَبْرٍ بِقُبَاءَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ثُمّ قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ أَرْسَالًا ، وَكَانَ بَنُو غَنْمِ بْنِ دُودَانَ أَهْلَ إسْلَامٍ قَدْ [ ص 294 ] الْمَدِينَةِ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هِجْرَةً رِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشٍ ، وَأَخُوهُ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ جَحْشٍ ، وَعُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ وَشُجَاعٌ وَعُقْبَةُ ابْنَا وَهْبٍ وَأَرْبَدُ بْنُ جُمَيْرَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ ابْنُ حُمَيْرَةَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمُنْقِذُ بْنُ نَبَاتَةَ وَسَعِيدُ بْنُ رُقَيْشٍ وَمُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ وَيَزِيدُ بْنُ رُقَيْشٍ ، وَقَيْسُ بْنُ جَابِرٍ ، وَعَمْرُو بْنُ مِحْصَنٍ وَمَالِكُ بْنُ عَمْرٍو ، وَصَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو ، وَثَقْفُ بْنُ عَمْرٍو ، وَرَبِيعَةُ بْنُ أَكْثَمَ وَالزّبَيْرُ بْنُ عُبَيْدٍ ، وَتَمّامُ بْنُ عُبَيْدَةَ وَسَخْبَرَةُ بْنُ عُبَيْدَةَ وَمُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَحْشٍ . وَمِنْ نِسَائِهِمْ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ ، وَأُمّ حَبِيبِ بِنْتُ جَحْشٍ وَجُذَامَةُ بِنْتُ جَنْدَلٍ وَأُمّ قَيْسِ بِنْتُ مِحْصَنٍ وَأُمّ حَبِيبِ بِنْتُ ثُمَامَةَ وَآمِنَةُ [ أَوْ أُمَيْمَةُ ] بِنْتُ رُقَيْشٍ وَسَخْبَرَةُ بِنْتُ تَمِيمٍ وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ .
Sهِجْرَةُ بَنِي جَحْشٍ
[ ص 292 ] وَذَكَرَ هِجْرَةَ بَنِي جَحْشٍ وَهُمْ عَبْدُ اللّهِ وَأَبُو أَحْمَدَ وَاسْمُهُ عَبْدٌ وَقَدْ كَانَ أَخُوهُمْ عُبَيْدُ اللّهِ أَسْلَمَ ثُمّ تَنَصّرَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ الّتِي كَانَتْ عِنْدَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَنَزَلَتْ فِيهَا : { فَلَمّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوّجْنَاكَهَا } [ الْأَحْزَابَ : 37 ] وَأُمّ حَبِيبِ بِنْتُ جَحْشٍ الّتِي كَانَتْ تُسْتَحَاضُ وَكَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ الّتِي كَانَتْ تَحْتَ مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ ، وَكَانَتْ تُسْتَحَاضُ أَيْضًا ، وَقَدْ رُوِيَ أَنّ زَيْنَبَ اُسْتُحِيضَتْ أَيْضًا ، وَوَقَعَ فِي الْمُوَطّأِ أَنّ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ الّتِي كَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، وَكَانَتْ تُسْتَحَاضُ وَلَمْ تَكُ قَطّ زَيْنَبُ عِنْدَ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، وَلَا قَالَهُ أَحَدٌ وَالْغَلَطُ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ بَشَرٌ وَإِنّمَا كَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ الرّحْمَنِ أُخْتُهَا أُمّ حَبِيبٍ وَيُقَالُ فِيهَا أُمّ حَبِيبَةَ غَيْرَ أَنّ شَيْخَنَا أَبَا عَبْدِ اللّهِ مُحَمّدَ بْنَ نَجَاحٍ أَخْبَرَنِي أَنّ أُمّ حَبِيبٍ كَانَ اسْمُهَا : زَيْنَبَ فَهُمَا زَيْنَبَانِ غَلَبَتْ عَلَى إحْدَاهُمَا الْكُنْيَةُ فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ فِي حَدِيثِ الْمُوَطّأِ وَهْمٌ وَلَا غَلَطٌ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَكَانَ اسْمُ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ : بَرّةَ فَسَمّاهَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - زَيْنَبَ وَكَذَلِكَ زَيْنَبُ بِنْتُ أُمّ سَلَمَةَ رَبِيبَتُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ كَانَ اسْمُهَا بَرّةَ فَسَمّاهَا زَيْنَبَ كَأَنّهُ كَرِهَ أَنْ تُزَكّيَ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا بِهَذَا الِاسْمِ وَكَانَ اسْمُ جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ بُرّةَ بِضَمّ الْبَاءِ فَقَالَتْ زَيْنَبُ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا رَسُولَ اللّهِ لَوْ غَيّرْت اسْمَ أَبِي ، فَإِنّ الْبُرّةَ صَغِيرَةٌ فَقِيلَ إنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لَهَا : لَوْ أَبُوك مُسْلِمًا لَسَمّيْته بِاسْمِ مِنْ أَسْمَائِنَا أَهْلِ الْبَيْتِ ، وَلَكِنّي قَدْ سَمّيْته جَحْشًا . وَالْجَحْشُ أَكْبَرُ مِنْ الْبُرّةِ . ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ مُسْنَدًا فِي كِتَابِ الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ أَبُو الْحَسَنِ الدّارَقُطْنِيّ [ ص 293 ] فَصْلٌ ذَكَرَ الْبَيْتَ الّذِي تَمَثّلَ بِهِ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ مَرّ بِدَارِ بَنِي جَحْشٍ تَخْفِقُ أَبْوَابُهَا ، وَهُوَ قَوْلُهُ
وَكُلّ بَيْتٍ وَإِنْ طَالَتْ سَلَامَتُهُ
يَوْمًا سَتُدْرِكُهُ النّكْبَاءُ وَالْحُوبُ
كُلّ امْرِئِ بِلِقَاءِ الْمَوْتِ مُرْتَهَنٌ
كَأَنّهُ غَرَضٌ لِلْمَوْتِ مَنْصُوبُ
وَالشّعْرُ لِأَبِي دُؤَادٍ الْإِيَادِيّ وَاسْمُهُ حَنْظَلَةُ بْنُ شَرْقِيّ وَقِيلَ جَارِيَةُ بْنُ الْحَجّاجِ ذَكَرَ دَارَ بَنِي جحادة ، وَأَنّهَا عِنْدَ دَارِ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ بِالرّدْمِ وَالرّدْمُ حَفْرٌ بِالْقَتْلَى فِي الْجَاهِلِيّةِ فَسُمّيَ الرّدْمَ ، وَذَلِكَ فِي حَرْبٍ كَانَتْ بَيْنَ بَنِي جُمَحَ وَبَيْنَ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ ، وَكَانَتْ الدّبَرَةُ فِيهَا عَلَى بَنِي الْحَارِثِ وَلِذَلِكَ قَلّ عَدَدُهُمْ فَهُمْ أَقَلّ قُرَيْشٍ عَدَدًا .

وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ وَهُوَ يَذْكُرُ هِجْرَةَ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ قَوْمِهِ إلَى اللّهِ تَعَالَى وَإِلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِيعَابُهُمْ فِي ذَلِكَ حِينَ دُعُوا إلَى الْهِجْرَةِ
وَلَوْ حَلَفَتْ بَيْنَ الصّفَا أُمّ أَحْمَدَ
وَمَرْوَتُهَا بِاَللّهِ بَرّتْ يَمِينُهَا
لَنَحْنُ الْأُلَى كُنّا بِهَا ، ثُمّ لَمْ نَزَلْ
بِمَكّةَ حَتّى عَادَ غَثّا سَمِينُهَا
بِهَا خَيّمَتْ غَنْمُ بْنُ دُودَانَ وَابْتَنَتْ
وَمَا إنْ غَدَتْ غَنْمٌ وَخَفّ قَطِينُهَا
إلَى اللّهِ تَغْدُو بَيْنَ مَثْنَى وَوَاحِد
وَدِينِ رَسُولِ اللّهِ بِالْحَقّ دِينُهَا
وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ جَحْشٍ أَيْضًا :
لَمّا رَأَتْنِي أُمّ أَحْمَدَ غَادِيًا
بِذِمّةِ مَنْ أَخْشَى بِغَيْبِ وَأَرْهَبُ
تَقُولُ فَإِمّا كُنْت لَا بُدّ فَاعِلًا
فَيَمّمْ بِنَا الْبُلْدَانَ وَلِتَنْأَ يَثْرِبُ
فَقُلْت لَهَا : بَلْ يَثْرِبُ الْيَوْمَ وَجْهُنَا
وَمَا يَشَإِ الرّحْمَنُ فَالْعَبْدُ يَرْكَبُ
إلَى اللّهِ وَجْهِي وَالرّسُولِ وَمَنْ يُقِمْ
إلَى اللّهِ يَوْمًا وَجْهَهُ لَا يُخَيّبُ
فَكَمْ قَدْ تَرَكْنَا مِنْ حَمِيمٍ مُنَاصِحٍ
وَنَاصِحَةٍ تَبْكِي بِدَمْعِ وَتَنْدُبُ
تَرَى أَنّ وِتْرًا نَأْيُنَا عَنْ بِلَادِنَا
وَنَحْنُ نَرَى أَنّ الرّغَائِبَ نَطْلُبُ
دَعَوْت بَنِي غَنْمٍ لِحَقْنِ دِمَائِهِمْ
وَلِلْحَقّ لَمّا لَاحَ لِلنّاسِ مَلْحَبُ
أَجَابُوا بِحَمْدِ اللّهِ لَمّا دَعَاهُمْ
إلَى الْحَقّ دَاعٍ وَالنّجَاحِ فَأَوْعَبُوا
وَكُنّا وَأَصْحَابًا لَنَا فَارَقُوا الْهُدَى
أَعَانُوا عَلَيْنَا بِالسّلَاحِ وَأَجْلَبُوا
كَفَوْجَيْنِ أَمّا مِنْهُمَا فَمُوَفّقٌ
عَلَى الْحَقّ مَهْدِيّ ، وَفَوْجٌ مُعَذّبُ
طَغَوْا وَتَمَنّوْا كِذْبَةً وَأَزَلّهُمْ
عَنْ الْحَقّ إبْلِيسُ فَخَابُوا وَخَيّبُوا
وَرُعْنَا إلَى قَوْلِ النّبِيّ مُحَمّدٍ
فَطَابَ وُلَاةُ الْحَقّ مِنّا وَطَيّبُوا
نَمُتّ بِأَرْحَامِ إلَيْهِمْ قَرِيبَةٍ
وَلَا قُرْبَ بِالْأَرْحَامِ إذْ لَا نُقَرّبُ
فَأَيّ ابْنِ أُخْتٍ بَعْدَنَا يَأْمَنَنّكُم
وَأَيّةُ صِهْرٍ بَعْدَ صِهْرِي تُرْقَبُ
سَتَعْلَمُ يَوْمًا أَيّنَا إذْ تَزَايَلُوا
وَزُيّلَ أَمْرُ النّاسِ لِلْحَقّ أَصْوَبُ
[ ص 295 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْله : " وَلِتَنْأَ يَثْرِبُ " ، وَقَوْلُهُ " إذْ لَا نُقَرّبُ " ، عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : يُرِيدُ بِقَوْلِهِ " إذْ " إذَا ، كَقَوْلِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ { إِذِ الظّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبّهِمْ } قَالَ أَبُو النّجْمِ الْعِجْلِيّ : ثُمّ جَزَاهُ اللّهُ عَنّا إذْ جَزَى جَنّاتِ عَدْنٍ فِي الْعَلَالِيّ وَالْعُلَا . [ ص 296 ] [ ص 297 ]
S[ ص 294 ] وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ شِعْرَ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ جَحْشٍ وَفِيهِ
إ لَى اللّهِ وَجْهِي وَالرّسُولِ وَمَنْ يُقِمْ
إلَى اللّهِ يَوْمًا وَجْهَهُ لَا يُخَيّبْ
[ ص 295 ] سِيبَوَيْهِ : يَجُوزُ أَيْضًا لَا عَلَى إضْمَارِ الْفَاءِ وَلَكِنْ عَلَى نِيّةِ التّقْدِيمِ لِلْفِعْلِ عَلَى الشّرْطِ كَمَا أَنْشَدُوا : إنّك إنْ يُصْرَعْ أَخُوك تُصْرَعُ
وَهُوَ مَعَ إنْ أَحْسَنُ لِأَنّ التّقْدِيرَ إنّك تُصْرَعُ إنْ يُصْرَعْ أَخُوك ، وَأَنْشَدُوا أَيْضًا : مَنْ يَفْعَلْ الْحَسَنَاتِ اللّهُ يَشْكُرُهُ
عَلَى هَذَا التّقْدِيرِ وَفِي الشّعْرِ أَيْضًا : وَلَا قُرْبَ بِالْأَرْحَامِ إذْ لَا تُقَرّبُ
وَتَأَوّلَ ابْنُ هِشَامٍ إذْ هُنَا بِمَعْنَى : إذَا وَهُوَ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنّ الْفِعْلَ الْمُضَارِعَ لَا يَحْسُنُ بَعْدَ إذَا مَعَ حَرْفِ النّفْيِ وَإِنّمَا يَحْسُنُ بَعْدَ إذْ كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ إذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ [ الْأَنْفَالَ 49 ] وَلَوْ قُلْت : سَآتِيك إذَا تَقُولُ كَذَا ، كَانَ قَبِيحًا إذَا أَخّرْتهَا ، أَوْ قَدّمْت [ ص 296 ] الْمَاضِي ، تَقُولُ سَآتِيك إنْ قَامَ زَيْدٌ وَإِذَا قَامَ زَيْدٌ وَيَقْبُحُ سَآتِيك إنْ يَقُمْ زَيْدٌ لِأَنّ حَرْفَ الشّرْطِ إذَا أُخّرَ أُلْغِيَ وَإِذَا أُلْغِيَ لَمْ يَقَعْ الْفِعْلُ الْمُعْرَبُ بَعْدَهُ غَيْرَ أَنّهُ حَسُنَ فِي كَيْفَ نَحْوُ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } [ الْمَائِدَةَ 64 ] و { فَيَبْسُطُهُ فِي السّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ } [ الرّومَ : 48 ] لِسِرّ بَدِيعٍ لَعَلّنَا نَذْكُرُهُ إنْ وَجَدْنَا لِشَفْرَتِنَا مَحَزّا ، وَيَحْسُنُ الْفِعْلُ الْمُسْتَقْبَلُ مَعَ إذَا بَعْدَ الْقَسَمِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاللّيْلِ إِذَا يَسْرِ } [ الْفَجْرَ 4 ] لِانْعِدَامِ مَعْنَى الشّرْطِ فِيهِ فَهَذَا وَجْهٌ وَالْوَجْهُ الثّانِي : أَنّ إذْ بِمَعْنَى إذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي الْكَلَامِ وَلَا حَكَاهُ ثَبْتٌ وَمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ مِنْ قَوْلِ رُؤْبَةَ لَيْسَ عَلَى مَا ظَنّ إنّمَا مَعْنَاهُ ثُمّ جَزَاهُ اللّهُ رَبّي إنْ جَزَى ، أَيْ مِنْ أَجْلِ أَنْ نَفَعَنِي وَجَزَى عَنّي ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا } [ الْبَقَرَةَ 48 ] جَزَى : مُضْمَرٌ عَائِدٌ عَلَى الرّجُلِ الْمَمْدُوحِ وَإِذْ بِمَعْنَى أَنْ الْمَفْتُوحَةِ كَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي سَوَادِ الْكِتَابِ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ { بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [ آلَ عِمْرَانَ : 80 ] وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ { وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ } [ الزّخْرُفَ 39 ] وَغَفَلَ النّسَوِيّ عَمّا فِي الْكِتَابِ مِنْ هَذَا ، وَجَعَلَ الْفِعْلَ الْمُسْتَقْبَلَ الّذِي بَعْدَ لَنْ عَامِلًا فِي الظّرْفِ الْمَاضِي ، فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ سَآتِيك الْيَوْمَ أَمْسِ وَهَذَا هُرَاءٌ مِنْ الْقَوْلِ وَغَفْلَةٌ عَمّا فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ ، وَلَيْتَ شِعْرِي مَا يَقُولُ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ } [ الْأَحْقَافَ : 11 ] فَإِنْ جَوّزَ وُقُوعَ الْمُسْتَقْبَلِ فِي الظّرْفِ الْمَاضِي عَلَى أَصْلِهِ الْفَاسِدِ فَكَيْفَ يَعْمَلُ مَا بَعْدَ الْفَاءِ فِيمَا قَبْلَهَا لَا سِيّمَا مَعَ السّينِ وَهُوَ قَبِيحٌ أَنْ تَقُولَ غَدًا سَآتِيك ، فإن قُلْت : غَدًا فَسَآتِيك ، فَكَيْفَ إنْ زِدْت عَلَى هَذَا وَقُلْت : أَمْسِ فَسَآتِيك ، وَإِذْ عَلَى أَصْلِهِ بِمَنْزِلَةِ أَمْسِ فَهَذِهِ فَضَائِحُ لَا غِطَاءَ عَلَيْهَا . فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَكَيْفَ الْوَجْهُ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا } [ الْأَنْعَامَ 30ْ ] وَكَذَلِكَ { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ } [ السّجْدَةَ 12 ] أَلَيْسَ هَذَا كَمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ بِمَعْنَى إذَا الّتِي تُعْطِي الِاسْتِقْبَالَ ؟ قِيلَ لَهُ وَكَيْفَ تَكُونُ بِمَعْنَى إذَا ، وَإِذَا لَا يَقَعُ بَعْدَهَا الِابْتِدَاءُ وَالْخَبَرُ ، وَقَدْ قَالَ سُبْحَانَهُ { إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ } وَإِنّمَا التّقْدِيرُ وَلَوْ تَرَى نَدَمَهُمْ وَحُزْنَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بَعْدَ وُقُوفِهِمْ عَلَى النّارِ فَإِذْ ظَرْفٌ مَاضٍ عَلَى أَصْلِهِ وَلَكِنْ بِالْإِضَافَةِ إلَى حُزْنِهِمْ وَنَدَامَتِهِمْ فَالْحُزْنُ وَالنّدَامَةُ وَاقِعَانِ بَعْدَ الْمُعَايَنَةِ وَالتّوْقِيفِ فَقَدْ صَارَ وَقْتُ التّوْقِيفِ مَاضِيًا بِالْإِضَافَةِ إلَى مَا بَعْدَهُ وَاَلّذِي بَعْدَهُ هُوَ مَفْعُولُ تَرَى ، وَهَذَا نَحْوٌ مِمّا يُتَوَهّمُ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { فَانْطَلَقَا حَتّى إِذَا رَكِبَا فِي السّفِينَةِ خَرَقَهَا } [ الْكَهْفَ : 71 ] فَيُتَوَهّمُ أَنّ إذَا [ ص 297 ] جَازَ أَنْ يُقَالَ إلّا انْطَلَقَا إذْ رَكِبَا ، وَلَكِنّ مَعْنَى الْغَايَةِ فِي حَتّى دَلّ عَلَى أَنّ الرّكُوبَ كَانَ بَعْدَ الِانْطِلَاقِ وَإِذَا كَانَ بَعْدَهُ فَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ مَسْأَلَتُنَا الْحُزْنُ وَسُوءُ الْحَالِ الّذِي هُوَ مَفْعُولٌ لِتَرَى ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَذْكُورٍ فِي اللّفْظِ فَهُوَ بَعْدَ وَقْتِ الْوُقُوفِ فَوَقَفَ الْوُقُوفُ مَاضٍ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَكُنْ بُدّ مِنْ حَذْفٍ فَكَذَلِكَ نُقَدّرُ حَذْفًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ } [ الْأَحْقَافَ : 11 ] وَنَحْوِهِ لِأَنّهَا وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى أَنْ فَلَا بُدّ لَهَا مِنْ تَعَلّقٍ كَأَنّهُ قَالَ جُزِيتُمْ بِهَذَا مِنْ أَجْلِ أَنْ ظَلَمْتُمْ أَوْ مِنْ أَجْلِ أَنْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ ضَلّوا . وَذَكَرَ فِي نِسَاءِ بَنِي جَحْشٍ جُذَامَةَ بِنْتَ جَنْدَلٍ وَأَحْسَبُهُ أَرَادَ جُذَامَةَ بِنْتَ وَهْبِ بْنِ مِحْصَنٍ وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي حَدِيثِ الرّضَاعِ فِي الْمُوَطّأِ وَقَالَ فِيهَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ الْبَزّارُ : جُذَامَةُ بِالذّالِ الْمَنْقُوطَةِ هَكَذَا ذَكَرَ عَنْهُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجّاجِ ، وَالْمَعْرُوفُ جُدَامَةُ بِالدّالِ وَقَدْ يُقَالُ فِيهَا جُدّامَةُ بِالتّشْدِيدِ وَالْجُدَامَةُ قَصَبُ الزّرْعِ وَأَمْلَى عَلَيْنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَافِظُ وَكَتَبْت عَنْهُ بِخَطّ يَدِي قَالَ الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبّارِ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ الْبَرْمَكِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ زَكَرِيّا بْنِ حِبَوَيْهِ عَنْ أَبِي عُمَرَ الزّاهِدِ الْمُطَرّزِ قَالَ الْجُدّامَةُ بِتَشْدِيدِ الدّالِ طَرَفُ السّعَفَةِ وَبِهِ سُمّيَتْ الْمَرْأَةُ وَكَانَتْ جُدَامَةُ بِنْتُ وَهْبٍ تَحْتَ أُنَيْسِ بْنِ قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيّ وَأَمّا جُدَامَةُ بِنْتُ جَنْدَلٍ فَلَا تُعْرَفُ فِي آلِ جَحْشٍ الْأَسَدِيّينَ وَلَا فِي غَيْرِهِمْ وَلَعَلّهُ وَهْمٌ وَقَعَ فِي الْكِتَابِ وَأَنّهَا بِنْتُ وَهْبِ بْنِ مِحْصَنٍ بِنْتُ أَخِي عُكّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ كَمَا قَدّمْنَا وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَذَكَرَ فِي بَنِي أَسَدٍ ثَقْفَ بْنَ عَمْرٍو ، وَيُقَالُ فِيهِ ثِقَافٌ شَهِدَ هُوَ وَأَخُوهُ مِدْلَاجٌ [ أَوْ مُدْلِجٌ ] بَدْرًا وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قُتِلَ يَوْمَ خَيْبَرَ قَتَلَهُ أُسَيْرُ [ بْنُ رِزَامٍ ] الْيَهُودِيّ . وَذَكَرَ فِيهِمْ أُمّ حَبِيبِ بِنْتَ ثُمَامَةَ وَهِيَ مِمّا أَغْفَلَهُ أَبُو عُمَرَ فِي كِتَابِهِ وَأَغْفَلَ أَيْضًا ذِكْرَ ثُمَامِ بْنِ عُبَيْدَةَ وَهُوَ مِمّنْ ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمَذْكُورِينَ مِنْ بَنِي أَسَدٍ . وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ أَرْبَدَ بْنَ جُمَيْرَةَ الْأَسَدِيّ بِالْجِيمِ وَقَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ : حُمَيْرَةُ بِالْحَاءِ وَرَوَاهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ بِخِلَافِ مَا رَوَاهُ الْبَكّائِيّ وَابْنُ هِشَامٍ ، فَقَالَ فِيهِ ابْنُ حُمَيّرٍ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ كَأَنّهُ تَصْغِيرُ حِمَارٍ . وَذَكَرَ فِيهِمْ مُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ وَلَمْ يَرْفَعْ نَسَبَهُ وَهُوَ ابْنُ نَضْلَةَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُرّةَ بْنِ [ ص 298 ] دُودَانَ بْنِ أَسَدِ [ بْنِ خُزَيْمَةَ ] قُتِلَ فِي غَزْوَةِ ذِي قَرَدٍ شَهِيدًا ، وَكَانَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا ، وَكَانَ يُعْرَفُ بِالْأَخْرَمِ وَيُلَقّبُ فُهَيْرَةَ وَقَالَ فِيهِ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ بْنِ مُحْرِزِ بْنِ وَهْبٍ وَلَمْ يَقُلْ ابْنَ نَضْلَةَ . وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ أَيْضًا يَزِيدَ بْنَ رُقَيْشٍ ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ فِيهِ أَرْبَدُ وَلَا يَصِحّ ، وَهُوَ ابْنُ رُقَيْشِ بْنِ رِئَابِ بْنِ يَعْمَرَ بْنِ كُبَيْرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ دُودَانَ وَذَكَرَ فِيهِمْ رَبِيعَةَ بْنَ أَكْثَمَ وَلَمْ يَنْسُبْهُ وَهُوَ ابْنُ أَكْثَمَ بْنِ سَخْبَرَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْرِ بْنِ عَامِرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ دُودَانَ بْنِ أَسَدٍ يُكَنّى : أَبَا يَزِيدَ وَكَانَ قَصِيرًا دَحْدَحًا قُتِلَ يَوْمَ خَيْبَرَ بِالنّطَاةِ قَتَلَهُ الْحَارِثُ الْيَهُودِيّ .

هِجْرَةُ عُمَرَ وَقِصّةُ عَيّاشٍ مَعَهُ
[ ص 298 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 299 ] ثُمّ خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ ، وَعَيّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيّ حَتّى قَدِمَا الْمَدِينَةَ . فَحَدّثَنِي نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ أَبِيهِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ ، قَالَ اتّعَدْت ، لَمّا أَرَدْنَا الْهِجْرَةَ إلَى الْمَدِينَةِ ، أَنَا وَعَيّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ [ وَاسْمُهُ عَمْرٌو وَيُلَقّبُ ذَا الرّمْحَيْنِ ] ، وَهِشَامُ بْنُ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ السّهْمِيّ التّنَاضِبَ مِنْ أَضَاةِ بَنِي غِفَارٍ ، فَوْقَ سَرِفَ ، وَقُلْنَا : أَيّنَا لَمْ يُصْبِحْ عِنْدَهَا فَقَدْ حُبِسَ فَلْيَمْضِ صَاحِبَاهُ . قَالَ فَأَصْبَحْت أَنَا وَعَيّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ عِنْدَ التّنَاضِبِ ، وَحُبِسَ عَنّا هِشَامٌ وَفُتِنَ فَافْتُتِنَ . فَلَمّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ نَزَلْنَا فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِقُبَاءَ وَخَرَجَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ إلَى عَيّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ ، وَكَانَ ابْنَ عَمّهِمَا وَأَخَاهُمَا لِأُمّهِمَا ، حَتّى قَدِمَا عَلَيْنَا الْمَدِينَةَ ، وَرَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَكّةَ فَكَلّمَاهُ وَقَالَا : إنّ أُمّك قَدْ نَدَرَتْ أَنْ لَا يَمَسّ رَأْسَهَا مُشْطٌ حَتّى تَرَاك ، وَلَا تَسْتَظِلّ مِنْ شَمْسٍ حَتّى تَرَاك ، فَرَقّ لَهَا ، فَقُلْت لَهُ يَا عَيّاشُ إنّهُ وَاَللّهِ إنْ يُرِيدُك الْقَوْمُ إلّا لِيَفْتِنُوك عَنْ دِينِك فَاحْذَرْهُمْ فَوَاَللّهِ لَوْ قَدْ آذَى أُمّك الْقَمْلُ لَامْتَشَطَتْ وَلَوْ قَدْ اشْتَدّ عَلَيْهَا حَرّ مَكّةَ لَاسْتَظَلّتْ . قَالَ فَقَالَ أُبِرّ قَسَمَ أُمّي ، وَلِي هُنَالِكَ مَالٌ فَآخُذُهُ قَالَ فَقُلْت : وَاَللّهِ إنّك لَتَعْلَمُ أَنّي لَمِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالًا ، فَلَك نِصْفُ مَالِي وَلَا تَذْهَبْ مَعَهُمَا . قَالَ فَأَبَى عَلَيّ إلّا أَنْ يَخْرُجَ مَعَهُمَا ؛ فَلَمّا أَبَى إلّا ذَلِكَ قَالَ قُلْت لَهُ أَمّا إذْ قَدْ فَعَلْت مَا فَعَلْت ، فَخُذْ نَاقَتِي هَذِهِ فَإِنّهُ نَاقَةٌ نَجِيبَةٌ ذَلُولٌ فَالْزَمْ ظَهْرَهَا ، فَإِنْ رَابَك مِنْ الْقَوْمِ رَيْبٌ فَانْجُ عَلَيْهَا : فَخَرَجَ عَلَيْهَا مَعَهُمَا ، حَتّى إذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطّرِيقِ قَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ يَا ابْنَ أَخِي ، وَاَللّهِ لَقَدْ اسْتَغْلَظْت بَعِيرِي هَذَا ، أَفَلَا تُعْقِبُنِي عَلَى نَاقَتِك هَذِهِ ؟ قَالَ بَلَى . قَالَ فَأَنَاخَ وَأَنَاخَا لِيَتَحَوّلَ عَلَيْهَا ، فَلَمّا اسْتَوَوْا بِالْأَرْضِ عَدَوْا عَلَيْهِ فَأَوْثَقَاهُ وَرَبَطَاهُ ثُمّ دَخَلَا بِهِ مَكّةَ ، وَفَتَنَاهُ فَافْتُتِنَ [ ص 300 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي بِهِ بَعْضُ آلِ عَيّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ : أَنّهُمَا حِينَ دَخَلَا بِهِ مَكّةَ دَخَلَا بِهِ نَهَارًا مُوثَقًا ، ثُمّ قَالَا : يَا أَهْلَ مَكّةَ ، هَكَذَا فَافْعَلُوا بِسُفَهَائِكُمْ كَمَا فَعَلْنَا بِسَفِيهِنَا هَذَا
Sهِجْرَةُ عُمَرَ وَعَيّاشٍ
ذَكَرَ فِيهَا تَوَاعُدَهُمْ التّنَاضِبَ بِكَسْرِ الضّادِ كَأَنّهُ جَمْعُ تَنْضُبٍ [ وَاحِدَتُهُ تَنْضُبَةٌ ] وَهُوَ ضَرْبٌ مِنْ الشّجَرِ تَأْلَفُهُ الْحِرْبَاءُ . قَالَ الشّاعِرُ
إنّي أُتِيحَ لَهُ حِرْبَاءُ تَنْضُبَةٍ ... لَا يُرْسِلُ السّاقَ إلّا مُمْسِكًا سَاقَا
وَيُقَالُ لِثَمَرِهِ الْمُمَتّعُ وَهُوَ فُنَعْلِلٌ أُدْغِمَتْ النّونُ فِي الْمِيمِ وَظَاهِرُ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ : أَنّهُ فَعْلُلٌ وَأَنّهُ مِمّا لَحِقَتْهُ الزّيَادَةُ بِالتّضْعِيفِ وَالْقَوْلُ الْأَوّلُ يُقَوّيهِ أَنّ مِثْلَهُ الْهُنْدَلِعُ وَهُوَ نَبْتٌ وَتُتّخَذُ مِنْ هَذَا الشّجَرِ الْقِسِيّ كَمَا تُتّخَذُ مِنْ النّبْعِ وَالشّوْطِ وَالشّرْيَانِ وَالسّرَاءِ وَالْأَشْكَلِ وَدُخَانِ التّنْضُبِ ذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي النّبَاتِ . وَقَالَ الْجَعْدِيّ :
كَأَنّ الْغُبَارَ الّذِي غَادَرَتْ ... ضُحَيّا دَوَاخِنُ مِنْ تَنْضُبِ
شَبّهَ الْغُبَارَ بِدُخَانِ التّنْضُبِ لِبَيَاضِهِ . وَقَالَ آخَرُ [ عُقَيْلُ بْنُ عُلْقَةَ الْمُرّيّ ] :
وَهَلْ أَشْهَدَنْ خَيْلًا كَأَنّ غُبَارَهَا ... بِأَسْفَلَ عَلْكَدّ دَوَاخِنُ تَنْضُبِ
[ ص 299 ] وَأَضَاةُ بَنِي غِفَارٍ عَلَى عَشَرَةِ أَمْيَالٍ مِنْ مَكّةَ ، وَالْأَضَاةُ الْغَدِيرُ ، كَأَنّهَا مَقْلُوبٌ مِنْ وَضْأَةٍ عَلَى وَزْنِ فَعْلَةٍ وَاشْتِقَاقُهُ مِنْ الْوَضَاءَةِ بِالْمَدّ وَهِيَ النّظَافَةُ لِأَنّ الْمَاءَ يُنَظّفُ وَجَمْعُ الْأَضَاةِ إضَاءٌ وَقَالَ النّابِغَةُ [ فِي صِفَةِ الدّرُوعِ ] :
عُلِينَ بِكَدْيَوْنٍ وَأُبْطِنّ كُرّةً ... وَهُنّ إضَاءٌ صَافِيَاتُ الْغَلَائِلِ
[ وَأَضَيَاتٌ وَأَضَوَاتٌ وَأَضًا وَإِضُونَ ] . وَهَذَا الْجَمْعُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَقْلُوبٍ فَتَكُونَ الْهَمْزَةُ بَدَلًا مِنْ الْوَاوِ الْمَكْسُورَةِ فِي وِضَاءٍ وَقِيَاسُ الْوَاوِ الْمَكْسُورَةِ تَقْتَضِي الْهَمْزَ عَلَى أَصْلِ الِاشْتِقَاقِ وَيَكُونُ الْوَاحِدُ مَقْلُوبًا لِأَنّ الْوَاوَ الْمَفْتُوحَةَ لَا تُهْمَزُ مَعَ أَنّ لَامَ الْفِعْلِ غَيْرُ هَمْزَةٍ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ مَحْمُولًا عَلَى الْوَاحِدِ فَيَكُونَ مَقْلُوبًا مِثْلَهُ وَيُقَالُ أَضَاءَةٌ بِالْمَدّ وَقَدْ يُجْمَعُ أَضَاةٌ عَلَى إضِينَ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَنْشَدَ مَحَافِرُ كَأَسْرِيَةِ الْإِضِينَا الْأَسْرِيَةُ جَمْعُ سَرِيّ وَهُوَ الْجَدْوَلُ وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا : السّعِيدُ .

كِتَابُ عُمَرَ إلَى هِشَامِ بْنِ الْعَاصِي
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي نَافِعٌ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ عُمَرَ فِي حَدِيثِهِ قَالَ فَكُنّا نَقُولُ مَا اللّهُ بِقَابِلِ مِمّنْ اُفْتُتِنَ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا وَلَا تَوْبَةً قَوْمٌ عَرَفُوا اللّهَ ثُمّ رَجَعُوا إلَى الْكُفْرِ لِبَلَاءِ أَصَابَهُمْ قَالَ وَكَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ . فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ ، أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِمْ وَفِي قَوْلِنَا وَقَوْلِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ { قُلْ يَا عِبَادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ إِنّ اللّهَ يَغْفِرُ الذّنُوبَ جَمِيعًا إِنّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمّ لَا تُنْصَرُونَ وَاتّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ } [ الزّمَرَ 53 - 55 ] . قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ : فَكَتَبْتهَا بِيَدِي فِي صَحِيفَةٍ وَبَعَثْت بِهَا إلَى هِشَامِ بْنِ الْعَاصِي قَالَ فَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِي : فَلَمّا أَتَتْنِي جَعَلْت أَقْرَؤُهَا بِذِي طُوًى ، أُصَعّدُ بِهَا فِيهِ وَأُصَوّبُ وَلَا أَفْهَمُهَا ، حَتّى قُلْت اللّهُمّ فَهّمْنِيهَا . قَالَ فَأَلْقَى اللّهُ تَعَالَى فِي قَلْبِي أَنّهَا إنّمَا أُنْزِلَتْ فِينَا ، وَفِيمَا كُنّا نَقُولُ فِي أَنْفُسِنَا وَيُقَالُ فِينَا . قَالَ فَرَجَعْت إلَى بَعِيرِي ، فَجَلَسْت عَلَيْهِ فَلَحِقْت بِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ [ ص 301 ]
الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعَيّاشٌ وَهِشَامٌ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَحَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ " مَنْ لِي بِعَيّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ ، وَهِشَامِ بْنِ الْعَاصِي " ؟ فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ : أَنَا لَك يَا رَسُولَ اللّهِ بِهِمَا ، فَخَرَجَ إلَى مَكّةَ ، فَقَدِمَهَا مُسْتَخْفِيًا ، فَلَقِيَ امْرَأَةً تَحْمِلُ طَعَامًا ، فَقَالَ لَهَا : أَيْنَ تُرِيدِينَ يَا أَمَةَ اللّهِ ؟ قَالَتْ أُرِيدُ هَذَيْنِ الْمَحْبُوسَيْنِ - تَعْنِيهِمَا - فَتَبِعَهَا حَتّى عَرَفَ مَوْضِعَهُمَا ، وَكَانَا مَحْبُوسَيْنِ فِي بَيْتٍ لَا سَقْفَ لَهُ فَلَمّا أَمْسَى تَسَوّرَ عَلَيْهِمَا ، ثُمّ أَخَذَ مَرْوَة . فَوَضَعَهَا تَحْتَ قَيْدَيْهِمَا ، ثُمّ ضَرَبَهُمَا بِسَيْفِهِ فَقَطَعَهُمَا فَكَانَ يُقَالُ لِسَيْفِهِ " ذُو الْمَرْوَةِ " . لِذَلِكَ ثُمّ حَمَلَهُمَا عَلَى بَعِيرِهِ وَسَاقَ بِهِمَا ، فَعَثَرَ فَدَمِيَتْ أُصْبُعُهُ فَقَالَ
وَفِي سَبِيلِ اللّهِ مَا لَقِيت ... هل أنت إلا أصبع دميت
ثُمّ قَدِمَ بِهِمَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ
Sقَوْلُ هِشَامِ بْنِ الْعَاصِ
فَصْلٌ [ ص 300 ] { قُلْ يَا عِبَادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللّهِ } [ الزّمَرَ 53 ] الْآيَةُ فِي الْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكّةَ وَقَوْلُ هِشَامِ بْنِ الْعَاصِ فَفَاجَأَتْنِي وَأَنَا بِذِي طُوَى . طُوَى : مَقْصُورٌ مَوْضِعٌ بِأَسْفَلَ مَكّةَ ، ذُكِرَ أَنّ آدَمَ لَمّا أُهْبِطَ إلَى الْهِنْدِ ، وَمَشَى إلَى مَكّةَ ، وَجَعَلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْتَظِرُهُ بِذِي طُوَى ، وَأَنّهُمْ قَالُوا لَهُ يَا آدَمُ مَا زِلْنَا نَنْتَظِرُك هَاهُنَا مُنْذُ أَلْفَيْ سَنَةٍ وَرُوِيَ أَنّ آدَمَ كَانَ إذَا أَتَى الْبَيْتَ خَلَعَ نَعْلَيْهِ بِذِي طُوَى ، وَأَمّا ذُو طُوَاءٍ بِالْمَدّ فَمَوْضِعٌ آخَرُ بَيْنَ مَكّةَ وَالطّائِفِ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْبَكْرِيّ ، وَأَمّا طُوَى بِضَمّ الطّاءِ وَالْقَصْرِ الْمَذْكُورُ فِي التّنْزِيلِ فَهُوَ بِالشّامِ اسْمٌ لِلْوَادِي الْمُقَدّسِ وَقَدْ قِيلَ لَيْسَ بِاسْمِ لَهُ وَإِنّمَا هُوَ مِنْ صِفَةِ التّقْدِيسِ أَيْ الْمُقَدّسِ مَرّتَيْنِ .

مَنَازِلُ الْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَنَزَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ ، وَمَنْ لَحِقَ بِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَقَوْمِهِ وَأَخُوهُ زَيْدُ بْنُ الْخَطّابِ ، وَعَمْرٌو وَعَبْدُ اللّهِ ابْنَا سُرَاقَةَ بْنِ الْمُعْتَمِرِ وَخُنَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ السّهْمِيّ - وَكَانَ صِهْرَهُ عَلَى ابْنَتِهِ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ فَخَلّفَ عَلَيْهَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدَهُ - وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ ، وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ التّمِيمِيّ ، حَلِيفٌ لَهُمْ وَخَوْلِيّ بْنُ أَبِي خَوْلِيّ وَمَالِكُ بْنُ أَبِي خَوْلِيّ حَلِيفَانِ لَهُمْ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَبُو خَوْلِيّ مِنْ بَنِي عِجْلِ بْنِ لُجَيْم بْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَبَنُو الْبُكَيْرِ أَرْبَعَةٌ هُمْ إيَاسُ بْنُ الْبُكَيْرِ ، وَعَاقِلُ بْنُ الْبُكَيْرِ ، وَعَامِرُ بْنُ الْبُكَيْرِ ، وَخَالِدُ بْنُ الْبُكَيْرِ وَحَلْفَاؤُهُمْ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ عَلَى رِفَاعَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ بْنِ زَنْبَرٍ ، فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْف ٍ بِقُبَاءَ وَقَدْ كَانَ مَنْزِلُ عَيّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ مَعَهُ عَلَيْهِ حِينَ قَدِمَا الْمَدِينَةَ . ثُمّ تَتَابَعَ الْمُهَاجِرُونَ ، فَنَزَلَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عُثْمَانَ ، وَصُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ عَلَى خُبَيْبِ بْنِ إسَافٍ أَخِي بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بِالسّنْحِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ يَسَافٌ فِيمَا [ ص 302 ] ابْنُ إسْحَاقَ . وَيُقَالُ بَلْ نَزَلَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ عَلَى أَسْعَدِ بْنِ زُرَارَةَ أَخِي بَنِي النّجّارِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَذُكِرَ لِي عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النّهْدِيّ أَنّهُ قَالَ بَلَغَنِي أَنّ صُهَيْبًا حِينَ أَرَادَ الْهِجْرَةَ قَالَ لَهُ كُفّارُ قُرَيْشٍ : أَتَيْتنَا صُعْلُوكًا حَقِيرًا ، فَكَثُرَ مَالُك عِنْدَنَا ، وَبَلَغْت الّذِي بَلَغْت ، ثُمّ تُرِيدُ أَنْ تَخْرُجَ بِمَالِك وَنَفْسِك ، وَاَللّهِ لَا يَكُونُ ذَلِك ، فَقَالَ لَهُمْ صُهَيْبٌ أَرَأَيْتُمْ إنْ جَعَلْت لَكُمْ مَالِي أَتُخَلّونَ سَبِيلِي ؟ قَالُوا : نَعَمْ . قَالَ فَإِنّي جَعَلْت لَكُمْ مَالِي . قَالَ فَبَلَغَ ذَلِك رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ " رَبِحَ صُهَيْبٌ رَبِحَ صُهَيْبٌ " .
Sنُزُولُ طَلْحَةَ وَصُهَيْبٍ عَلَى خُبَيْبِ بْنِ إسَافٍ
فَصْلٌ [ ص 301 ] وَذَكَرَ نُزُولَ طَلْحَةَ وَصُهَيْبٍ عَلَى خُبَيْبِ بْنِ إسَافٍ وَيُقَالُ فِيهِ يَسَافٌ بِيَاءِ مَفْتُوحَةٍ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْكِتَابِ وَهُوَ إسَافُ بْنُ عِنَبَةَ وَلَمْ يَكُنْ حِينَ نُزُولِ الْمُهَاجِرِينَ عَلَيْهِ مُسْلِمًا فِي [ ص 302 ] الْوَاقِدِيّ بَلْ تَأَخّرَ إسْلَامُهُ حَتّى خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى بَدْرٍ قَالَ خُبَيْبٌ فَخَرَجْت مَعَهُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنْ قَوْمِي ، وَقُلْنَا لَهُ نَكْرَهُ أَنْ يَشْهَدَ قَوْمُنَا مَشْهَدًا لَا نَشْهَدُهُ مَعَهُمْ فَقَالَ أَسْلَمْتُمَا ؟ فَقُلْنَا : لَا ، فَقَالَ ارْجِعَا ، فَإِنّا لَا نَسْتَعِينُ بِمُشْرِكِ وَخُبَيْبٌ هُوَ الّذِي خُلّفَ عَلَى بِنْتِ خَارِجَةَ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ وَاسْمُهَا : حَبِيبَةُ وَهِيَ الّتِي يَقُولُ فِيهَا أَبُو بَكْرٍ عِنْدَ وَفَاتِهِ ذُو بَطْنٍ بِنْتُ خَارِجَةَ أَرَاهَا جَارِيَةً وَهِيَ بِنْتُ خَارِجَةَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ وَالْجَارِيَةُ أُمّ كُلْثُومٍ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ مَاتَ خُبَيْبٌ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ وَهُوَ جَدّ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ الّذِي يَرْوِي عَنْهُ مَالِكٌ فِي مُوَطّئِهِ .

مَنْزِلُ حَمْزَةَ وَزَيْدٍ وَأَبِي مَرْثَدٍ وَابْنِهِ وَأَنَسَةَ وَأَبِي كَبْشَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَنَزَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ ، وَأَبُو مَرْثَدٍ كَنّازُ بْنُ حِصْنٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ ابْنُ حُصَيْنٍ - وَابْنُهُ مَرْثَدٌ الْغَنَوِيّانِ حَلِيفَا حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَأَنَسَةُ وَأَبُو كَبْشَةَ ، مَوْلَيَا رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى كُلْثُومِ بْنِ هِدْمٍ أَخِي بَنِي [ ص 303 ] بِقُبَاءَ وَيُقَالُ بَلْ نَزَلُوا عَلَى سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ ؛ وَيُقَالُ بَلْ نَزَلَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ عَلَى أَسْعَدِ بْنِ زُرَارَةَ أَخِي بَنِي النّجّارِ . كُلّ ذَلِكَ يُقَالُ وَنَزَلَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطّلِبِ ، وَأَخُوهُ الطّفَيْلُ بْنُ الْحَارِثِ ، وَالْحُصَيْنُ بْنُ الْحَارِثِ وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبّادِ بْنِ الْمُطّلِبِ وَسُوَيْبِطُ بْنُ سَعْدِ بْنِ حُرَيْمِلَةَ أَخُو بَنِي عَبْدِ الدّارِ وَطُلَيْبُ بْنُ عُمَيْرٍ أَخُو بَنِي عَبْدِ بْنِ قُصَيّ ، وَخَبّابٌ مَوْلَى عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ ، عَلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ سَلَمَةَ ، أَخِي بَلْعَجْلَانَ بِقُبَاءَ . وَنَزَلَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي رِجَالٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى سَعْدِ بْنِ الرّبِيعِ أَخِي بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، فِي دَارِ بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ . [ ص 304 ] وَنَزَلَ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ ، وَأَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى ، عَلَى مُنْذِرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ بِالْعَصَبَةِ دَارِ بَنِي جَحْجَبِىّ . وَنَزَلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمٍ ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الدّارِ عَلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ النّعْمَامِ أَخِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَل ِ فِي دَارِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ . وَنَزَلَ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، وَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ سَائِبَةً لِثُبَيْتَةَ [ أَوْ نُبَيْتَةَ ] بِنْتِ يَعَارِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ ، سَيّبَتْهُ فَانْقَطَعَ إلَى أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ فَتَبَنّاهُ فَقِيلَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ وَيُقَالُ كَانَتْ ثُبَيْتَةُ بِنْتُ يَعَارٍ تَحْتَ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ فَأَعْتَقَتْ سَالِمًا سَائِبَةً . فَقِيلَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ . [ ص 305 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَنَزَلَ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ بْنِ جَابِرٍ عَلَى عَبّادِ بْنِ بِشْرِ بْنِ وَقّشٍ أَخِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ فِي دَارِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ . وَنَزَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ عَلَى أَوْسِ بْنِ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ أَخِي حَسّانَ بْنِ ثَابِتٍ فِي دَارِ بَنِي النّجّارِ ، فَلِذَلِكَ كَانَ حَسّانُ يُحِبّ عُثْمَانَ وَيَبْكِيهِ حِينَ قُتِلَ . وَكَانَ يُقَالُ نَزَلَ الْأَعْزَابُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ ، وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ عَزَبًا ، فَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ .
Sأَبُو كَبْشَةَ
وَذَكَرَ أَنَسَةَ وَأَبَا كَبْشَةَ فِي الّذِينَ نَزَلُوا عَلَى كُلْثُومِ بْنِ الْهِدْمِ ، فَأَمّا أَنَسَةُ مَوْلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَهُوَ مِنْ مَوْلِدِي السّرَاةِ ، وَيُكَنّى : أَبَا مَسْرُوحٍ ، وَقِيلَ أَبَا مِشْرَحٍ شَهِدَ بَدْرًا ، وَالْمَشَاهِدَ كُلّهَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَمَاتَ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ ، وَأَبُو كَبْشَةَ اسْمُهُ سُلَيْمٌ يُقَالُ إنّهُ مِنْ فَارِسَ ، وَيُقَالُ مِنْ مَوْلِدِي أَرْضِ دَوْسٍ ، شَهِدَ بَدْرًا وَالْمَشَاهِدَ كُلّهَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَمَاتَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ فِي الْيَوْمِ الّذِي وُلِدَ فِيهِ عُرْوَةُ بْنُ الزّبَيْرِ ، وَأَمّا الّذِي كَانَتْ [ ص 303 ] قُرَيْشٍ تَذْكُرُهُ وَتَنْسُبُ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ إلَيْهِ وَتَقُولُ قَالَ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ وَفَعَلَ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ ، فَقِيلَ فِيهِ أَقْوَالٌ قِيلَ إنّهَا كُنْيَةُ أَبِيهِ لِأُمّهِ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ ، وَقِيلَ كُنْيَةُ أَبِيهِ مِنْ الرّضَاعَةِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى ، وَقِيلَ إنّ سَلْمَى أُخْتَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ كَانَ يُكَنّى أَبُوهَا أَبَا كَبْشَةَ ، وَهُوَ عَمْرُو بْنُ لَبِيَدٍ وَأَشْهَرُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ كُلّهَا عِنْدَ النّاسِ أَنّهُمْ شَبّهُوهُ بِرَجُلِ كَانَ يَعْبُدُ الشّعْرَى وَحْدَهُ دُونَ الْعَرَبِ ، فَنَسَبُوهُ إلَيْهِ لِخُرُوجِهِ عَنْ دِينِ قَوْمِهِ . وَذَكَرَ الدّارَقُطْنِيّ اسْمَ أَبِي كَبْشَةَ هَذَا فِي الْمُؤْتَلَفِ وَالْمُخْتَلَفِ فَقَالَ اسْمُهُ وَجْزُ بْنُ غَالِبٍ وَهُوَ خُزَاعِيّ ، وَهُوَ مِنْ بَنِي غُبْشَانَ . وَذَكَرَ نُزُولَهُمْ بِقُبَاءَ وَهُوَ مَسْكَنُ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَهُوَ عَلَى فَرْسَخٍ مِنْ الْمَدِينَةِ ، وَهُوَ يُمَدّ وَيُقْصَرُ وَيُؤَنّثُ وَيُذَكّرُ وَيُصْرَفُ وَلَا يُصْرَفُ وَأَنْشَدَ أَبُو حَاتِمٍ فِي صَرْفِهِ
وَلَأَبْغِيَنّكُمْ قُبًا [ وَ ] عَوَارِضًا ... وَلَأُقْبِلَنّ الْخَيْلَ لَابَةَ ضَرْغَدِ
وَكَذَلِكَ أَنْشَدَهُ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الدّلَائِلِ قُبًا بِضَمّ الْقَافِ و [ فَتْحِ ] الْبَاءِ وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيّةِ تَصْحِيفٌ مِنْهُمَا جَمِيعًا ، وَإِنّمَا هُوَ كَمَا أَنْشَدَهُ سِيبَوَيْهِ : قُنًا وَعَوَارِضَا ، لِأَنّ قُنًا جَبَلٌ عِنْدَ عَوَارِضَ يُقَالُ لَهُ وَلِجَبَلِ آخَرَ مَعَهُ قَنَوَانِ وَبَيْنَهُمَا وَبَيْنَ قُبَاءَ مَسَافَاتٌ وَبِلَادٌ فَلَا يَصِحّ أَنْ يُقْرَنَ قُبَاءٌ الّذِي عِنْدَ الْمَدِينَةِ مَعَ عَوَارِضَ وَقِنْوَيْنِ وَكَذَا قَالَ الْبَكْرِيّ فِي مُعْجَمِ مَا اُسْتُعْجِمَ وَأَنْشَدَ [ لِمَعْقِلِ بْنِ ضِرَارِ بْنِ سِنَانٍ الْمُلَقّبِ بِالشّمّاخِ ] .
كَأَنّهَا لَمّا بَدَا عُوَارِضُ ... وَاللّيْلُ بَيْنَ قَنَوَيْنِ رَابِضُ
وَقُبَاءُ : مَأْخُوذٌ مِنْ الْقَبْوِ وَهُوَ الضّمّ وَالْجَمْعُ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَقَالَ الْقَوَابِي : هُنّ اللّوَاتِي يَجْمَعْنَ الْعُصْفُرَ وَاحِدَتُهُنّ قَابِيَةٌ . قَالَ وَأَهْلُ الْعَرَبِيّةِ يُسَمّونَ الضّمّةَ مِنْ الْحَرَكَاتِ قَبْوًا ، وَأَمّا قَوْلُهُمْ لَا وَاَلّذِي أَخْرَجَ قُوبًا مِنْ قَابِيَةٍ يَعْنُونَ الْفَرْخَ مِنْ الْبَيْضَةِ فَمَنْ قَالَ فِيهِ [ ص 304 ] قَالَ فِيهِ قَابِيَةٌ فَهُوَ مِنْ لَفْظِ الْقُوبِ لِأَنّهَا تَتَقَوّبُ عَنْهُ أَيْ تَتَقَشّرُ قَالَ الْكُمَيْتُ يَصِفُ النّسَاءَ
لَهُنّ وَلِلْمَشِيبِ وَمَنْ عَلَاهُ ... مِنْ الْأَمْثَالِ قَابِيَةٌ وُقُوبٌ
وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ فَكَانَتْ قَابِيَةَ قُوبٍ عَامَهَا ، يَعْنِي : الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجّ وَقَدْ ذَكَرَ أَنّ قُبَاءَ اسْمُ بِئْرٍ عُرِفَتْ الْقَرْيَةُ بِهَا .
سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ
فَصْلٌ وَذَكَرَ سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ الّذِي كَانَ أَبُو حُذَيْفَةَ قَدْ تَبَنّاهُ كَمَا تَبَنّى رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - زَيْدًا ، وَكَانَ سَائِبَةً أَيْ لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ لِأَحَدِ وَذَكَرَ الْمَرْأَةَ الّتِي أَعْتَقَتْهُ سَائِبَةً وَهِيَ ثُبَيْتَةُ بِنْتُ يَعَارٍ وَقَدْ قِيلَ فِي اسْمِهَا بُثَيْنَةُ ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ وَذَكَرَ عَنْ الزّهْرِيّ أَنّهُ كَانَ يَقُولُ فِيهَا : بِنْتُ تَعَارٍ وَقَالَ ابْنُ شَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ اسْمُهَا سَلْمَى [ وَقَالَ ابْنُ حِبّانَ : يُقَالُ لَهَا : لَيْلَمَةُ ] وَيُقَالُ فِي اسْمِهَا أَيْضًا : عَمْرَةُ وَقَدْ أَبْطَلَ التّسْبِيبَ فِي الْعِتْقِ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَجَعَلُوا الْوَلَاءَ لِكُلّ مَنْ أَعْتَقَ أَخْذًا بِحَدِيثِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ذَلِكَ وَحَمْلًا لَهُ عَلَى الْعُمُومِ وَلِمَا رُوِيَ أَيْضًا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنّهُ قَالَ لَا سَائِبَةَ فِي الْإِسْلَامِ وَرَأَى مَالِكٌ مِيرَاثَ السّائِبَةِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَرَ وَلَاءَهُ لِمَنْ سَيّبَهُ فَكَانَ لِلتّسْيِيبِ وَالْعِتْقِ عِنْدَهُ حُكْمَانِ مُخْتَلِفَانِ وَسَالِمٌ هَذَا هُوَ الّذِي أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلٍ أَنْ تُرْضِعَهُ لِيَحْرُمَ عَلَيْهَا ، فَأَرْضَعَتْهُ وَهُوَ ذُو لِحْيَةٍ . [ ص 305 ] قِيلَ كَيْفَ جَازَ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى ثَدْيِهَا ، فَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ أَنّهَا حَلَبَتْ لَهُ فِي مِسْعَطٍ وَشَرِبَ اللّبَنَ ذَكَرَ ذَلِكَ مُحَمّدُ بْنُ حَبِيبٍ .

خَبَرُ النّدْوَةِ وَهِجْرَةِ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
[ ص 306 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَكّةَ بَعْدَ أَصْحَابِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ يَنْتَظِرُ أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي الْهِجْرَةِ وَلَمْ يَتَخَلّفْ مَعَهُ بِمَكّةَ أَحَدٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ إلّا مَنْ حُبِسَ أَوْ فُتِنَ إلّا عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ الصّدّيقُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ كَثِيرًا مَا يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْهِجْرَةِ فَيَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " لَا تَعْجَلْ لَعَلّ اللّهَ يَجْعَلُ لَك صَاحِبًا " ، فَيَطْمَعُ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَكُونَهُ .
الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ يَتَشَاوَرُونَ فِي أَمْرِ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَدْ صَارَتْ لَهُ شِيعَةٌ وَأَصْحَابٌ مِنْ غَيْرِهِمْ بِغَيْرِ بَلَدِهِمْ وَرَأَوْا خُرُوجَ أَصْحَابِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ إلَيْهِمْ عَرَفُوا أَنّهُمْ قَدْ نَزَلُوا دَارًا ، وَأَصَابُوا مِنْهُمْ مَنَعَةً فَحَذِرُوا خُرُوجَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَيْهِمْ وَعَرَفُوا أَنّهُمْ قَدْ أُجْمِعَ لِحَرْبِهِمْ . فَاجْتَمَعُوا لَهُ فِي دَارِ النّدْوَةِ - وَهِيَ دَارُ قُصَيّ بْنِ كِلَابٍ الّتِي كَانَتْ قُرَيْشٌ لَا تَقْضِي أَمْرًا إلّا فِيهَا - يَتَشَاوَرُونَ فِيهَا مَا يَصْنَعُونَ فِي أَمْرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ خَافُوهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ أَبِي الْحَجّاجِ وَغَيْرِهِ مِمّنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا قَالَ لَمّا أَجْمَعُوا لِذَلِكَ وَاتّعَدُوا أَنْ يَدْخُلُوا فِي دَارِ النّدْوَةِ لِيَتَشَاوَرُوا فِيهَا فِي أَمْرِ [ ص 307 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - غَدَوْا فِي الْيَوْمِ الّذِي اتّعَدُوا لَهُ وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمَ يُسَمّى يَوْمَ الرّحْمَةِ فَاعْتَرَضَهُمْ إبْلِيسُ فِي هَيْئَةِ شَيْخٍ جَلِيلٍ ، عَلَيْهِ بِتَلّةِ فَوَقَفَ عَلَى بَابِ الدّارِ فَلَمّا رَأَوْهُ وَاقِفًا عَلَى بَابِهَا ، قَالُوا : مَنْ الشّيْخُ ؟ قَالَ شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ سَمِعَ بِاَلّذِي اتّعَدْتُمْ لَهُ فَحَضَرَ مَعَكُمْ لِيَسْمَعَ مَا تَقُولُونَ وَعَسَى أَنْ لَا يَعْدَمَكُمْ مِنْهُ رَأْيًا وَنُصْحًا ، قَالُوا : أَجَلْ فَادْخُلْ فَدَخَلَ مَعَهُمْ وَقَدْ اجْتَمَعَ فِيهَا أَشْرَافُ قُرَيْشٍ ، مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ : عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ . وَمِنْ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَاف ٍ طُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيّ ، وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَارِمِ بْنِ نَوْفَلٍ وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ : النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ . وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى : أَبُو الْبَخْتَرِيّ بْنُ هِشَامٍ وَزَمَعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطّلِبِ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ . وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ : أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ . وَمِنْ بَنِي سَهْمٍ : نَبِيهٌ وَمُنَبّهٌ ابْنَا الْحَجّاجِ ، وَمِنْ بَنِي جُمَحٍ : أُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ وَغَيْرُهُمْ مِمّنْ لَا يُعَدّ مِنْ قُرَيْشٍ . [ ص 308 ] فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ إنّ هَذَا الرّجُلَ قَدْ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا قَدْ رَأَيْتُمْ فَإِنّا وَاَللّهِ مَا نَأْمَنُهُ عَلَى الْوُثُوبِ عَلَيْنَا فِيمَنْ قَدْ اتّبَعَهُ مِنْ غَيْرِنَا ، فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا . قَالَ فَتَشَاوَرُوا ثُمّ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ احْبِسُوهُ فِي الْحَدِيدِ وَأَغْلِقُوا عَلَيْهِ بَابًا ، ثُمّ تَرَبّصُوا بِهِ مَا أَصَابَ أَشْبَاهَهُ مِنْ الشّعَرَاءِ الّذِينَ كَانُوا قَبْلَهُ زُهَيْرًا وَالنّابِغَةَ وَمَنْ مَضَى مِنْهُمْ مِنْ هَذَا الْمَوْتِ حَتّى يُصِيبَهُ مَا أَصَابَهُمْ . فَقَالَ الشّيْخُ النّجْدِيّ : لَا وَاَللّهِ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيِ . وَاَللّهِ لَئِنْ حَبَسْتُمُوهُ كَمَا تَقُولُونَ لَيَخْرُجَنّ أَمْرُهُ مِنْ وَرَاءِ الْبَابِ الّذِي أَغْلَقْتُمْ دُونَهُ إلَى أَصْحَابِهِ فَلَأَوْشَكُوا أَنْ يَثِبُوا عَلَيْكُمْ فَيَنْزِعُوهُ مِنْ أَيْدِيكُمْ ثُمّ يُكَاثِرُوكُمْ بِهِ حَتّى يَغْلِبُوكُمْ عَلَى أَمْرِكُمْ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيِ فَانْظُرُوا فِي غَيْرِهِ فَتَشَاوَرُوا ، ثُمّ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ نُخْرِجُهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا ، فَنَنْفِيهِ مِنْ بِلَادِنَا ، فَإِذَا أُخْرِجَ عَنّا فَوَاَللّهِ مَا نُبَالِي أَيْنَ ذَهَبَ وَلَا حَيْثُ وَقَعَ إذَا غَابَ عَنّا وَفَرَغْنَا مِنْهُ فَأَصْلَحْنَا أَمْرَنَا وَأُلْفَتَنَا كَمَا كَانَتْ . فَقَالَ الشّيْخُ النّجْدِيّ : لَا وَاَللّهِ مَا هَذَا لَكُمْ بِرَأْيِ أَلَمْ تَرَوْا حُسْنَ حَدِيثِهِ وَحَلَاوَةَ مَنْطِقِهِ وَغَلَبَتَهُ عَلَى قُلُوبِ الرّجَالِ بِمَا يَأْتِي بِهِ وَاَللّهِ لَوْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ مَا أَمِنْتُمْ أَنْ يَحِلّ عَلَى حَيّ مِنْ الْعَرَبِ ، فَيَغْلِبُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ وَحَدِيثِهِ حَتّى يُتَابِعُوهُ عَلَيْهِ ثُمّ يَسِيرُ بِهِمْ إلَيْكُمْ حَتّى يَطَأَكُمْ بِهِمْ فِي بِلَادِكُمْ فَيَأْخُذُ أَمْرَكُمْ مِنْ أَيْدِيكُمْ ثُمّ يَفْعَلُ بِكُمْ مَا أَرَادَ دَبّرُوا فِيهِ رَأْيًا غَيْرَ هَذَا . قَالَ فَقَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَاَللّهِ إنّ لِي فِيهِ لَرَأْيًا مَا أَرَاكُمْ وَقَعْتُمْ عَلَيْهِ بَعْدُ قَالُوا : وَمَا هُوَ يَا أَبَا الْحَكَمِ ؟ قَالَ أَرَى أَنّ نَأْخُذَ مِنْ كُلّ قَبِيلَةٍ فَتًى شَابّا جَلِيدًا نَسِيبًا وَسِيطًا فَيْنًا ، ثُمّ نُعْطِي كُلّ فَتًى مِنْهُمْ سَيْفًا صَارِمًا ، ثُمّ يَعْمِدُوا إلَيْهِ فَيَضْرِبُوهُ بِهَا ضَرْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَيَقْتُلُوهُ فَنَسْتَرِيحُ مِنْهُ . فَإِنّهُمْ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ تَفَرّقَ دَمُهُ فِي الْقَبَائِلِ جَمِيعًا ، فَلَمْ يَقْدِرْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ عَلَى حَرْبِ قَوْمِهِمْ جَمِيعًا ، فَرَضُوا مِنّا بِالْعَقْلِ فَعَقَلْنَاهُ لَهُمْ . قَالَ فَقَالَ الشّيْخُ النّجْدِيّ : الْقَوْلُ مَا قَالَ الرّجُلُ هَذَا الرّأْيُ الّذِي لَا رَأْيَ غَيْرَهُ فَتَفَرّقَ الْقَوْمُ عَلَى ذَلِكَ وَهُمْ مُجْمِعُونَ لَهُ .
Sاجْتِمَاعُ قُرَيْشٍ لِلتّشَاوُرِ فِي أَمْرِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
[ ص 306 ] ذَكَرَ فِيهِ تَمَثّلَ إبْلِيسَ - حِينَ أَتَاهُمْ - فِي صُورَةِ شَيْخٍ جَلِيلٍ وَانْتِسَابِهِ إلَى أَهْلِ نَجْدٍ . [ ص 307 ] جَلِيلٍ يَقُولُ جَلّ الرّجُلُ وَجَلّتْ الْمَرْأَةُ إذَا أَسَنّتْ قَالَ الشّاعِرُ وَمَا حَظّهَا أَنْ قِيلَ عَزّتْ وَجَلّتْ وَيُقَالُ مِنْهُ جَلَلْت يَا رَجُلُ بِفَتْحِ اللّامِ وَقِيَاسُهُ جَلَلْت لِأَنّ اسْمَ الْفَاعِلِ مِنْهُ جَلِيلٌ ، وَلَكِنْ تَرَكُوا الضّمّ فِي الْمُضَاعَفِ كُلّهِ اسْتِثْقَالًا لَهُ مَعَ التّضْعِيفِ إلّا فِي لَبُبْت ، فَأَنْت لَبِيبٌ حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ بِالضّمّ عَلَى الْأَصْلِ . وَإِنّمَا قَالَ لَهُمْ إنّي مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ فِيمَا ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ السّيرَةِ لِأَنّهُمْ قَالُوا : لَا يَدْخُلَنّ مَعَكُمْ فِي الْمُشَاوَرَةِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ لِأَنّ هَوَاهُمْ مَعَ مُحَمّدٍ فَلِذَلِكَ تَمَثّلَ لَهُمْ فِي صُورَةِ شَيْخٍ نَجْدِيّ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي خَبَرِ بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ أَنّهُ تَمَثّلَ فِي صُورَةِ شَيْخٍ نَجْدِيّ أَيْضًا ، حِينَ حَكّمُوا رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي أَمْرِ الرّكْنِ مَنْ يَرْفَعُهُ " ، فَصَاحَ الشّيْخُ النّجْدِيّ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ : أَقَدْ رَضِيتُمْ أَنْ يَلِيَهُ هَذَا الْغُلَامُ دُونَ أَشْرَافِكُمْ وَذَوِي أَسْنَانِكُمْ فَإِنْ صَحّ هَذَا الْخَبَرُ فَلِمَعْنًى آخَرَ تَمَثّلَ نَجْدِيّا ، وَذَلِكَ أَنّ نَجْدًا مِنْهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشّيْطَانِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ قِيلَ لَهُ وَفِي نَجْدِنَا يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ " هُنَالِكَ الزّلَازِلُ وَالْفِتَنُ وَمِنْهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشّيْطَان " ، فَلَمْ يُبَارِكْ عَلَيْهَا ، كَمَا بَارَكَ عَلَى الْيَمَنِ وَالشّامِ وَغَيْرِهَا ، وَحَدِيثُهُ الْآخَرُ أَنّهُ نَظَرَ إلَى الْمَشْرِقِ فَقَالَ إنّ الْفِتْنَةَ هَاهُنَا مِنْ حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنُ الشّيْطَانِ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنّهُ حِينَ قَالَ هَذَا الْكَلَامَ وَوَقَفَ عِنْدَ بَابِ عَائِشَةَ وَنَظَرَ إلَى الْمَشْرِقِ فَقَالَهُ وَفِي [ ص 308 ] عَائِشَةَ نَاظِرًا إلَى الْمَشْرِقِ يُحَذّرُ مِنْ الْفِتَنِ وَفَكّرَ فِي خُرُوجِهَا إلَى الْمَشْرِقِ عِنْدَ وُقُوعِ الْفِتْنَةِ تُفْهَمُ مِنْ الْإِشَارَةِ وَاضْمُمْ إلَى هَذَا قَوْلَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ حِينَ ذَكَرَ نُزُولَ الْفِتَنِ أَيْقِظُوا صَوَاحِبَ الْحُجَرِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَذَكَرَ تَشَاوُرَهُمْ فِي أَمْرِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنّ بَعْضَهُمْ أَشَارَ بِأَنْ يُحْبَسَ فِي بَيْتٍ وَبَعْضَهُمْ بِإِخْرَاجِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ وَنَفْيِهِ وَلَمْ يُسِئْ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ وَقَالَ ابْنُ سَلَامٍ الّذِي أَشَارَ بِحَبْسِهِ هُوَ أَبُو الْبَخْتَرِيّ بْنُ هِشَامٍ وَاَلّذِي أَشَارَ بِإِخْرَاجِهِ وَنَفْيِهِ هُوَ أَبُو الْأَسْوَدِ رَبِيعَةُ بْنُ عَمْرٍو ، أَحَدُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ ، وَقَوْلُ أَبِي جَهْلٍ نَسِيبًا وَسِيطًا ، هُوَ مِنْ السّطَةِ فِي الْعَشِيرَةِ وَقَدْ تَقَدّمَ فِي بَابِ تَزْوِيجِهِ خَدِيجَةَ مَعْنَى الْوَسِيطِ وَأَيْنَ يَكُونُ مَدْحًا .

مِمّا يُقَالُ عَنْ لَيْلَةِ الْهِجْرَةِ
فَأَتَى [ ص 309 ] جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَا تَبِتْ هَذِهِ اللّيْلَةَ عَلَى فِرَاشِك الّذِي كُنْت تَبِيتُ عَلَيْهِ . قَالَ فَلَمّا كَانَتْ عَتَمَةٌ مِنْ اللّيْلِ اجْتَمَعُوا عَلَى بَابِهِ يَرْصُدُونَهُ مَتَى يَنَامُ فَيَثِبُونَ عَلَيْهِ فَلَمّا رَأَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكَانَهُمْ قَالَ لِعَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ " نَمْ عَلَى فِرَاشِي وَتَسَجّ بِبُرْدِي هَذَا الْحَضْرَمِيّ الْأَخْضَرَ ، فَنَمْ فِيهِ فَإِنّهُ لَنْ يَخْلُصَ إلَيْك شَيْءٌ تَكْرَهُهُ مِنْهُمْ " ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَنَامُ فِي بُرْدِهِ ذَلِكَ إذَا نَامَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ قَالَ لَمّا اجْتَمَعُوا لَهُ وَفِيهِمْ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فَقَالَ وَهُمْ عَلَى بَابِهِ إنّ مُحَمّدًا يَزْعُمُ أَنّكُمْ إنْ تَابَعْتُمُوهُ عَلَى أَمْرِهِ كُنْتُمْ مُلُوكَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ ، ثُمّ بُعِثْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ فَجُعِلَتْ لَكُمْ جِنَانٌ كَجِنَانِ الْأُرْدُنّ ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ لَهُ فِيكُمْ ذَبْحٌ ثُمّ بُعِثْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ ثُمّ جُعِلَتْ لَكُمْ نَارٌ تُحَرّقُونَ فِيهَا . قَالَ وَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخَذَ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ فِي يَدِهِ ثُمّ قَالَ " أَنَا أَقُولُ ذَلِكَ أَنْت أَحَدُهُمْ " ، وَأَخَذَ اللّهُ تَعَالَى عَلَى أَبْصَارِهِمْ عَنْهُ فَلَا يَرَوْنَهُ فَجَعَلَ يَنْثُرُ ذَلِكَ التّرَابَ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَهُوَ يَتْلُو هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ مِنْ يس : { يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرّحِيمِ } إلَى قَوْلِهِ { فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ } حَتّى فَرَغَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ رَجُلٌ إلّا وَقَدْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا ، ثُمّ انْصَرَفَ إلَى حَيْثُ أَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ فَأَتَاهُمْ آتٍ مِمّنْ لَمْ [ ص 310 ] مُحَمّدًا ، قَالَ خَيّبَكُمْ اللّهُ قَدْ وَاَللّهِ خَرَجَ عَلَيْكُمْ مُحَمّدٌ ، ثُمّ مَا تَرَكَ مِنْكُمْ رَجُلًا إلّا وَقَدْ وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا ، وَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ أَفَمَا تَرَوْنَ مَا بِكُمْ ؟ قَالَ فَوَضَعَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ فَإِذَا عَلَيْهِ تُرَابٌ ثُمّ جَعَلُوا يَتَطَلّعُونَ فَيَرَوْنَ عَلِيّا عَلَى الْفِرَاشِ مُتَسَجّيًا بِبُرْدِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَيَقُولُونَ وَاَللّهِ إنّ هَذَا لَمُحَمّدٌ نَائِمًا ، عَلَيْهِ بُرْدُهُ . فَلَمْ يَبْرَحُوا كَذَلِكَ حَتّى أَصْبَحُوا فَقَامَ عَلِيّ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - عَنْ الْفِرَاشِ فَقَالُوا : وَاَللّهِ لَقَدْ كَانَ صَدَقَنَا الّذِي حَدّثَنَا .
S[ ص 309 ] عَلِيّا وَعَلَيْهِ بُرْدُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَيَظُنّونَهُ إيّاهُ فَلَمْ يَزَالُوا قِيَامًا حَتّى أَصْبَحُوا ، فَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ التّفْسِيرِ السّبَبَ الْمَانِعَ لَهُمْ مِنْ التّقَحّمِ عَلَيْهِ فِي الدّارِ مَعَ قِصَرِ الْجِدَارِ وَأَنّهُمْ إنّمَا جَاءُوا لِقَتْلِهِ فَذَكَرَ فِي الْخَبَرِ أَنّهُمْ هَمّوا بِالْوُلُوجِ عَلَيْهِ فَصَاحَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الدّارِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ وَاَللّهِ إنّهَا لَلسّبّةُ فِي الْعَرَبِ أَنْ يُتَحَدّثَ عَنّا أَنّا تَسَوّرْنَا الْحِيطَانَ عَلَى بَنَاتِ الْعَمّ وَهَتَكْنَا سِتْرَ حُرْمَتِنَا ، فَهَذَا هُوَ الّذِي أَقَامَهُمْ بِالْبَابِ حَتّى أَصْبَحُوا يَنْتَظِرُونَ خُرُوجَهُ ثُمّ طُمِسَتْ أَبْصَارُهُمْ عَنْهُ حِينَ خَرَجَ وَفِي قِرَاءَةِ الْآيَاتِ الْأُوَلِ مِنْ سُورَةِ يس مِنْ الْفِقْهِ التّذْكِرَةُ بِقِرَاءَةِ الْخَائِفِينَ لَهَا اقْتِدَاءً بِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ فَقَدْ رَوَى الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ذِكْرِ فَضْلِ يس أَنّهَا إنْ قَرَأَهَا خَائِفٌ أَمِنَ أَوْ جَائِعٌ شَبِعَ أَوْ عَارٍ كُسِيَ أَوْ عَاطِشٌ سُقِيَ حَتّى ذَكَرَ خِلَالًا كَثِيرَةً

الْآيَاتُ الّتِي نَزَلَتْ فِي تَرَبّصِ الْمُشْرِكِينَ بِالنّبِيّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ مِمّا أَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ مِنْ الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَمَا كَانُوا أَجْمَعُوا لَهُ { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [ الْأَنْفَالُ 30ْ ] ، وَقَوْلُ اللّهِ عَزّ وَجَلّ { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ قُلْ تَرَبّصُوا فَإِنّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبّصِينَ } [ الطّورُ : 30ْ ] . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْمَنُونُ الْمَوْتُ . وَرَيْبُ الْمَنُونِ مَا يُرِيبُ وَيَعْرِضُ مِنْهَا . قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيّ :
أَمِنْ الْمَنُونِ وَرَيْبِهَا تَتَوَجّعُ ... وَالدّهْرُ لَيْسَ بِمُعْتِبِ مَنْ يَجْزَعُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . [ ص 311 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَذِنَ اللّهُ تَعَالَى لِنَبِيّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِنْدَ ذَلِكَ فِي الْهِجْرَةِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ رَجُلًا ذَا مَالٍ فَكَانَ حِينَ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْهِجْرَةِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " لَا تَعْجَلْ لَعَلّ اللّهَ يَجِدُ لَك صَاحِبًا " ، قَدْ طَمِعَ بِأَنْ يَكُونَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّمَا يَعْنِي نَفْسَهُ حِينَ قَالَ لَهُ ذَلِكَ فَابْتَاعَ رَاحِلَتَيْنِ فَاحْتَبَسَهُمَا فِي دَارِهِ يَعْلِفُهُمَا إعْدَادًا لِذَلِك .
S[ ص 310 ] وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ فِي ذَلِكَ وَشَرَحَ ابْنُ هِشَامٍ رَيْبَ الْمَنُونِ وَأَنْشَدَ قَوْلَ أَبِي ذُؤَيْبٍ : أَمِنْ الْمَنُونِ وَرَيْبِهِ تَتَفَجّعُ وَالْمَنُونُ يُذَكّرُ وَيُؤَنّثُ فَمَنْ جَعَلَهَا عِبَارَةً عَنْ الْمَنِيّةِ أَوْ حَوَادِثِ الدّهْرِ أَنّثَ وَمَنْ جَعَلَهَا عِبَارَةً عَنْ الدّهْرِ ذَكّرَ وَرَيْبُ الْمَنُونِ مَا يَرِيبُك مِنْ تَغَيّرِ الْأَحْوَالِ فِيهِ سُمّيَتْ الْمَنُونَ لِنَزْعِهَا مِنَنَ الْأَشْيَاءِ أَيْ قُوَاهَا ، وَقِيلَ بَلْ سُمّيَتْ مَنُونًا لِقَطْعِهَا دُونَ الْآمَالِ مِنْ قَوْلِهِمْ جَبَلٌ مُنَيْنٌ أَيْ مَقْطُوعٌ وَفِي التّنْزِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى : { فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } [ التّينُ 6 ] أَيْ غَيْرُ مَقْطُوعٍ . [ ص 311 ]

الْهِجْرَةُ إلَى الْمَدِينَةِ
[ ص 312 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ عَائِشَةَ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ أَنّهَا قَالَتْ كَانَ لَا يُخْطِئُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَأْتِيَ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ أَحَدَ طَرَفَيْ النّهَارِ إمّا بُكْرَةً وَإِمّا عَشِيّةً حَتّى إذَا كَانَ الْيَوْمُ الّذِي أَذِنَ فِيهِ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْهِجْرَةِ وَالْخُرُوجِ مِنْ مَكّةَ مِنْ بَيْنِ ظَهْرَيْ قَوْمِهِ أَتَانَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْهَاجِرَةِ فِي سَاعَةٍ كَانَ لَا يَأْتِي فِيهَا . [ ص 313 ] قَالَتْ فَلَمّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ قَالَ مَا جَاءَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَذِهِ السّاعَةَ إلّا لِأَمْرِ حَدَثَ . قَالَتْ فَلَمّا دَخَلَ تَأَخّرَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ سَرِيرِهِ فَجَلَسَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَيْسَ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ إلّا أَنَا وَأُخْتِي أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخْرِجْ عَنّي مَنْ عِنْدَك ؛ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّمَا هُمَا ابْنَتَايَ وَمَا ذَاكَ ؟ فِدَاك أَبِي وَأُمّي فَقَالَ " إنّ اللّهَ قَدْ أَذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ وَالْهِجْرَةِ " . قَالَتْ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ " الصّحْبَةَ " . [ ص 314 ] قَالَتْ فَوَاَللّهِ مَا شَعَرْت قَطّ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَنّ أَحَدًا يَبْكِي مِنْ الْفَرَحِ حَتّى رَأَيْت أَبَا بَكْرٍ يَبْكِي يَوْمَئِذٍ ثُمّ قَالَ يَا نَبِيّ اللّهِ إنّ هَاتَيْنِ رَاحِلَتَانِ قَدْ كُنْت أَعْدَدْتهمَا لِهَذَا ، فَاسْتَأْجَرَا عَبْدَ اللّهِ بْنَ أَرْقَطَ - رَجُلًا مِنْ بَنِي الدّيلِ بْنِ بَكْرٍ [ وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ عَدِيّ - هَادِيًا خِرّيتًا - وَالْخِرّيتُ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ قَدْ غَمَسَ حِلْفًا فِي آلِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السّهْمِيّ - عَنْ الْبُخَارِيّ ] ، وَكَانَتْ أُمّهُ امْرَأَةً مِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرٍو ، وَكَانَ مُشْرِكًا - يَدُلّهُمَا عَلَى الطّرِيقِ فَدَفَعَا إلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا ، فَكَانَتَا عِنْدَهُ يَرْعَاهُمَا لِمِيعَادِهِمَا .
Sإذْنُ اللّهِ سُبْحَانَهُ لِنَبِيّهِ بِالْهِجْرَةِ
[ ص 312 ] ذَكَرَ فِيهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَتَى بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ فِي الظّهِيرَةِ قَالَتْ عَائِشَةُ وَفِي الْبَيْتِ أَنَا وَأُخْتِي أَسْمَاءُ فَقَالَ أَخْرِجْ مَنْ مَعَك ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ إنّمَا هُمَا بِنْتَايَ يَا رَسُولَ اللّهِ . وَقَالَ فِي جَامِعِ الْبُخَارِيّ : إنّمَا هُمْ أَهْلُك يَا رَسُولَ اللّهِ وَذَلِكَ أَنّ عَائِشَةَ قَدْ كَانَ أَبُوهَا أَنْكَحَهَا مِنْ قَبْلِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ أُمّهَا أُمّ رُومَانَ بِنْتِ عَامِرِ بْنِ عُوَيْمِرٍ وَيُقَالُ فِي اسْمِ أَبِيهَا : رَوْمَانُ بِفَتْحِ الرّاءِ أَيْضًا ، فَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ ثَابِتٍ اخْتَصَرْته : إنّ أَبَا بَكْرٍ حِينَ هَاجَرَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَلّفَ بَنَاتِهِ بِمَكّةَ فَلَمّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ أَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَأَبَا رَافِعٍ مَوْلَاهُ وَأَرْسَلَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدَ اللّه بْنَ أُرَيْقِطٍ [ الدّيلِيّ ] ، وَأَرْسَلَ مَعَهُمْ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَوْا بِهَا ظَفَرًا بِقُدَيْدٍ ثُمّ قَدِمُوا مَكّةَ فَخَرَجُوا بِسَوْدَةِ بِنْتِ زَمْعَةَ وَبِفَاطِمَةَ وَبِأُمّ كُلْثُومٍ . قَالَتْ عَائِشَةُ وَخَرَجَتْ أُمّي مَعَهُمْ وَمَعَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ مُصْطَحِبِينَ فَلَمّا كُنّا بِقُدَيْدٍ نَفَرَ الْبَعِيرُ الّذِي كُنْت عَلَيْهِ أَنَا وَأُمّي : أُمّ رُومَانَ فِي مِحَفّةٍ فَجَعَلَتْ أُمّي تُنَادِي : وَابُنَيّتَاهُ وَاعَرُوسَاه وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَفِيهِ قَالَتْ عَائِشَةُ فَسَمِعْت قَائِلًا يَقُولُ - وَلَا أَرَى أَحَدًا - أَلْقَى خِطَامَهُ فَأَلْقَيْته [ ص 313 ] يَدِي ، فَقَامَ الْبَعِيرُ يَسْتَدِيرُ بِهِ كَأَنّ إنْسَانًا تَحْتَهُ يُمْسِكُهُ حَتّى هَبَطَ الْبَعِيرُ مِنْ الثّنِيّةِ ، فَسَلّمَ اللّهُ فَقَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ يَبْنِي الْمَسْجِدَ وَأَبْيَاتًا لَهُ فَنَزَلْت مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَنَزَلَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ فِي بَيْتِهَا ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَلَا تَبْنِي بِأَهْلِك يَا رَسُولَ اللّهِ فَقَالَ " لَوْلَا الصّدَاقُ " ، قَالَتْ فَدَفَعَ إلَيْهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيّةً وَنَشّا ، وَالنّشّ : عُشْرُونَ دِرْهَمًا وَذَكَرْت الْحَدِيثَ . وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي الزّنَادِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ .
لِمَ اشْتَرَيْت الرّاحِلَةَ ؟
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ أَبَا بَكْرٍ قَدْ أَعَدّ رَاحِلَتَيْنِ فَقَدّمَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاحِدَةً وَهِيَ أَفَضْلُهُمَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّي لَا أَرْكَبُ بَعِيرًا لَيْسَ لِي ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ هُوَ لَك يَا رَسُولَ اللّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " بِالثّمَنِ " ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ بِالثّمَنِ يَا رَسُولَ اللّهِ فَرَكِبَهَا فَسُئِلَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِمَ لَمْ يَقْبَلْهَا إلّا بِالثّمَنِ وَقَدْ أَنْفَقَ أَبُو بَكْرٍ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا فَقَبِلَ ؟ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ " لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ أَمَنّ عَلَيّ فِي أَهْلٍ وَمَالٍ مِنْ أَبِي بَكْرٍ " ، وَقَدْ دَفَعَ إلَيْهِ حِينَ بَنَى بِعَائِشَةَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيّةً وَنَشّا ، فَلَمْ يَأْبَ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ الْمَسْئُولُ إنّمَا ذَلِكَ لِتَكُونَ هِجْرَتُهُ إلَى اللّهِ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ رَغْبَةً مِنْهُ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي اسْتِكْمَالِ فَضْلِ الْهِجْرَةِ وَالْجِهَادِ عَلَى أَتَمّ أَحْوَالِهِمَا ، وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ حَدّثَنِي بِهَذَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ الْفَقِيهِ الزّاهِدِ أَبِي الْحَسَنِ بْنِ اللّوّانِ رَحِمَهُ اللّهُ . ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ :
ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ
أَنّ النّاقَةَ الّتِي ابْتَاعَهَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ أَبِي بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ هِيَ نَاقَتُهُ الّتِي تُسَمّى بِالْجَدْعَاءِ وَهِيَ غَيْرُ الْعَضْبَاءِ الّتِي جَاءَ فِيهَا الْحَدِيثُ حِينَ ذَكَرَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَاقَةَ صَالِحٍ وَأَنّهَا تُحْشَرُ مَعَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ وَأَنْتَ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْعَضْبَاءِ يَا رَسُولَ اللّهِ فَقَالَ " لَا . ابْنَتِي فَاطِمَةُ تُحْشَرُ عَلَى الْعَضْبَاءِ وَأُحْشَرُ أَنَا عَلَى الْبُرَاقِ وَيُحْشَرُ هَذَا عَلَى نَاقَةٍ مِنْ نُوقِ الْجَنّةِ " وَأَشَارَ إلَى بِلَالٍ . [ ص 314 ] وَذَكَرَ أَذَانَهُ فِي الْمَوْقِفِ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ يَرْوِيهِ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ وَعَبْدُ الْحَمِيدِ مَجْهُولٌ عِنْدَهُمْ . وَفِي مُسْنَدِ الْبَزّارِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ خَطَبَنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى الْعَضْبَاءِ وَلَيْسَتْ بِالْجَدْعَاءِ فَهَذَا مِنْ قَوْلِ أَنَسٍ إنّهَا غَيْرُ الْجَدْعَاءِ وَهُوَ الصّحِيحُ لِأَنّهَا غُنِمَتْ وَأُخِذَ صَاحِبُهَا الْعَقِيلِيّ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ بِمَ أَخَذْتنِي يَا مُحَمّدُ وَأَخَذْت سَابِقَةَ الْحَاجّ يَعْنِي : الْعَضْبَاءَ فَقَالَ أَخَذْتُك بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِك .
بُكَاءُ الْفَرَجِ مِنْ أَبِي بَكْرٍ
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي قَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - مَا كُنْت أَرَى أَحَدًا يَبْكِي مِنْ الْفَرَحِ حَتّى رَأَيْت أَبَا بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ يَبْكِي مِنْ الْفَرَحِ . قَالَتْ ذَلِكَ لِصِغَرِ سِنّهَا ، وَأَنّهَا لَمْ تَكُنْ عَلِمَتْ بِذَلِكَ قَبْلُ وَقَدْ تَطَرّقَتْ الشّعَرَاءُ لِهَذَا الْمَعْنَى ، فَأَخَذَتْهُ اسْتِحْسَانًا لَهُ فَقَالَ الطّائِيّ يَصِفُ السّحَابَ
دُهْمٌ إذَا وَكَفَتْ فِي رَوْضِهِ طَفِقَتْ ... عُيُونُ أَزْهَارِهَا تَبْكِي مِنْ الْفَرَحِ
وَقَالَ أَبُو الطّيّبِ وَزَادَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى :
فَلَا تُنْكِرْنَ لَهَا صَرْعَةً ... فَمِنْ فَرَحِ النّفْسِ مَا يَقْتُلُ
وَقَالَ بَعْضُ الْمُحَدّثِينَ
وَرَدَ الْكِتَابُ مِنْ الْحَبِيبِ بِأَنّهُ ... سَيَزُورُنِي فَاسْتَعْبَرَتْ أَجْفَانِي
غَلَبَ السّرُورُ عَلَيّ حَتّى إنّهُ ... مِنْ فَرْطِ مَا قَدْ سَرّنِي أَبْكَانِي
يَا عَيْنُ صَارَ الدّمْعُ عِنْدَك عَادَةً ... تَبْكِينَ فِي فَرَحٍ وَفِي أَحْزَانِ

الّذِينَ كَانُوا يَعْلَمُونَ بِالْهِجْرَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 315 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَحَدٌ ، حِينَ خَرَجَ إلّا عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَأَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ ، وَآلُ أَبِي بَكْرٍ . أَمّا عَلِيّ فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيمَا بَلَغَنِي - أَخْبَرَهُ بِخُرُوجِهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَخَلّفَ بَعْدَهُ بِمَكّةَ حَتّى يُؤَدّيَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْوَدَائِعَ الّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ لِلنّاسِ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَيْسَ بِمَكّةَ أَحَدٌ عِنْدَهُ شَيْءٌ يَخْشَى عَلَيْهِ إلّا وَضَعَهُ عِنْدَهُ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ صِدْقِهِ وَأَمَانَتِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
Sمَكّةُ وَالْمَدِينَةُ
فَصْلٌ [ ص 315 ] خَرَجَ مِنْ مَكّةَ ، وَوَقَفَ عَلَى الْحَزْوَرَةِ ، وَنَظَرَ إلَى الْبَيْتِ فَقَالَ " وَاَللّهِ إنّك لَأَحَبّ أَرْضِ اللّهِ إلَيّ وَإِنّك لَأَحَبّ أَرْضِ اللّهِ إلَى اللّهِ وَلَوْلَا أَنّ أَهْلَك أَخْرَجُونِي مِنْك مَا خَرَجْت " . يَرْوِيهِ الزّهْرِيّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَدِيّ بْنِ الْحَمْرَاءِ يَرْفَعُهُ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ فِيهِ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ مِنْ أَصَحّ مَا يُحْتَجّ بِهِ فِي تَفْضِيلِ مَكّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ مَرْفُوعًا : " إنّ صَلَاةً فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ " فَإِذَا كَانَتْ الْأَعْمَالُ تَبَعًا لِلصّلَاةِ فَكُلّ حَسَنَةٍ تُعْمَلُ فِي الْحَرَمِ ، فَهِيَ بِمِائَةِ أَلْفِ حَسَنَةٍ وَقَدْ جَاءَ هَذَا مَنْصُوصًا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ " مَنْ حَجّ مَاشِيًا كُتِبَ لَهُ بِكُلّ خُطْوَةٍ سَبْعُمِائَةِ حَسَنَةٍ مِنْ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ " ، قِيلَ وَمَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ ؟ قَالَ " الْحَسَنَةُ فِيهِ بِمِائَةِ أَلْفِ حَسَنَةٍ " [ قَالَ عَطَاءٌ وَلَا أَحْسَبُ السّيّئَةَ إلّا مِثْلَهَا ] أَسْنَدَهُ الْبَزّارُ .

الرّسُولُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبُو بَكْرٍ فِي الْغَارِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 316 ] فَلَمّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْخُرُوجَ أَتَى أَبَا بَكْرِ بْنَ أَبِي قُحَافَةَ فَخَرَجَا مِنْ خَوْخَةٍ لِأَبِي بَكْرٍ فِي ظَهْرِ بَيْتِهِ ثُمّ عَمَدَا إلَى غَارٍ بِثَوْرِ - جَبَلٌ بِأَسْفَلِ مَكّةَ فَدَخَلَاهُ وَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ ابْنَهُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَتَسَمّعَ لَهُمَا مَا يَقُولُ النّاسُ فِيهِمَا نَهَارَهُ ثُمّ يَأْتِيهِمَا إذَا أَمْسَى بِمَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنْ الْخَبَرِ ، وَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ مَوْلَاهُ أَنْ يَرْعَى غَنَمَهُ نَهَارَهُ ثُمّ يُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا ، يَأْتِيهِمَا إذَا أَمْسَى فِي الْغَارِ . وَكَانَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ تَأْتِيهِمَا مِنْ الطّعَامِ إذَا أَمْسَتْ بِمَا يُصْلِحُهُمَا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ الْحَسَنَ بْنَ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيّ قَالَ انْتَهَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبُو بَكْرٍ إلَى الْغَارِ لَيْلًا ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَبْلَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَتَلَمّسَ الْغَارَ لِيَنْظُرَ أَفِيهِ سَبُعٌ أَوْ حَيّةٌ يَقِي رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِنَفْسِهِ [ ص 317 ]
الّذِينَ قَامُوا بِشُؤُونِ الرّسُولِ فِي الْغَارِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْغَارِ ثَلَاثًا وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ فِيهِ حِينَ فَقَدُوهُ مِائَةَ نَاقَةٍ لِمَنْ يَرُدّهُ عَلَيْهِمْ . وَكَانَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ يَكُونُ فِي قُرَيْشٍ نَهَارَهُ مَعَهُمْ يَسْمَعُ مَا يَأْتَمِرُونَ بِهِ وَمَا يَقُولُونَ فِي شَأْنِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبِي بَكْرٍ ثُمّ يَأْتِيهِمَا إذَا أَمْسَى فَيُخْبِرُهُمَا الْخَبَرَ . وَكَانَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَرْعَى فِي رِعْيَانِ أَهْلِ مَكّةَ ، فَإِذَا أَمْسَى أَرَاحَ عَلَيْهِمَا غَنَمَ أَبِي بَكْرٍ فَاحْتَلَبَا وَذَبَحَا ، فَإِذَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ غَدَا مِنْ عِنْدِهِمَا إلَى مَكّةَ ، اتّبَعَ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ أَثَرَهُ بِالْغَنَمِ حَتّى يُعْفِيَ عَلَيْهِ حَتّى إذَا مَضَتْ الثّلَاثُ وَسَكَنَ عَنْهُمَا النّاسُ أَتَاهُمَا صَاحِبُهُمَا الّذِي اسْتَأْجَرَاهُ بِبَعِيرَيْهِمَا وَبَعِيرٍ لَهُ وَأَتَتْهُمَا أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا بِسُفْرَتِهِمَا ، وَنَسِيَتْ أَنْ تَجْعَلَ لَهَا عِصَامًا فَلَمّا ارْتَحَلَا ذَهَبَتْ لِتُعَلّقَ السّفْرَةَ فَإِذَا لَيْسَ لَهَا عِصَامٌ فَتَحِلّ نِطَاقَهَا فَتَجْعَلُهُ عِصَامًا ، ثُمّ عَلّقَتْهَا بِهِ [ ص 318 ]
لِمَ سُمّيَتْ أَسْمَاءُ بِذَاتِ النّطَاقَيْنِ
فَكَانَ يُقَالُ لِأَسْمَاءِ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ ذَاتُ النّطَاقِ لِذَلِكَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَسَمِعْت غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ ذَاتُ النّطَاقَيْنِ . وَتَفْسِيرُهُ أَنّهَا لَمّا أَرَادَتْ أَنْ تُعَلّقَ السّفْرَةَ شَقّتْ نِطَاقَهَا بِاثْنَيْنِ فَعَلّقَتْ السّفْرَةَ بِوَاحِدِ وَانْتَطَقَتْ بِالْآخَرِ . [ ص 319 ]
رَاحِلَةُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا قَرّبَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ الرّاحِلَتَيْنِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدّمَ لَهُ أَفْضَلَهُمَا ، ثُمّ قَالَ ارْكَبْ فِدَاك أَبِي وَأُمّي ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " إنّي لَا أَرْكَبُ بَعِيرًا لَيْسَ لِي " . قَالَ فَهِيَ لَك يَا رَسُولَ اللّهِ بِأَبِي أَنْت وَأُمّي ، قَالَ " لَا ، وَلَكِنْ مَا الثّمَنُ الّذِي ابْتَعْتهَا بِهِ " ؟ قَالَ كَذَا وَكَذَا ، قَالَ " قَدْ أَخَذْتهَا بِهِ " ، قَالَ هِيَ لَك يَا رَسُولَ اللّهِ . فَرَكِبَا وَانْطَلَقَا . وَأَرْدَفَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَامِرَ بْنَ فُهَيْرَةَ مَوْلَاهُ خَلْفَهُ لِيَخْدُمَهُمَا فِي الطّرِيقِ .
Sحَدِيثُ الْغَارِ
وَهُوَ غَارٌ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ ، وَهُوَ الْجَبَلُ الّذِي ذَكَرَهُ فِي تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ ، وَأَنّهَا حَرَامٌ مَا بَيْنَ [ ص 316 ] جِبَالِ مَكّةَ ، وَإِنّمَا لَفْظُ الْحَدِيثِ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إلَى كَذَا ، كَانَ الْمُحَدّثُ قَدْ نَسِيَ اسْمَ الْمَكَانِ فَكَنّى عَنْهُ بِكَذَا . وَذَكَرَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الدّلَائِلِ فِيمَا شَرَحَ مِنْ الْحَدِيثِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَمّا دَخَلَهُ وَأَبُو بَكْرٍ مَعَهُ أَنْبَتَ اللّهُ عَلَى بَابِهِ الرّاءَةَ قَالَ قَاسِمٌ وَهِيَ شَجَرَةٌ مَعْرُوفَةٌ فَحَجَبَتْ عَنْ الْغَارِ أَعْيُنَ الْكُفّارِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الرّاءَةُ مِنْ أَغْلَاثِ الشّجَرِ وَتَكُونُ مِثْلَ قَامَةِ الْإِنْسَانِ وَلَهَا خِيطَانٌ وَزَهْرٌ أَبْيَضُ تُحْشَى بِهِ الْمَخَادّ ، فَيَكُونُ كَالرّيشِ لِخِفّتِهِ وَلِينِهِ لِأَنّهُ كَالْقُطْنِ أَنْشَدَ
تَرَى وَدَكَ الشّرِيفِ عَلَى لِحَاهُمْ ... كَمِثْلِ الرّاءِ لَبّدَهُ الصّقِيعُ
وَفِي مُسْنَدِ الْبَزّارِ : أَنّ اللّهَ تَعَالَى أَمَرَ الْعَنْكَبُوتَ فَنَسَجَتْ عَلَى وَجْهِ الْغَارِ وَأَرْسَلَ حَمَامَتَيْنِ وَخْشِيّتَيْنِ فَوَقَعَتَا عَلَى وَجْهِ الْغَارِ وَأَنّ ذَلِكَ مِمّا صَدّ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُ وَأَنّ حَمَامَ الْحَرَمِ مِنْ نَسْلِ تَيْنِك الْحَمَامَتَيْنِ وَرُوِيَ أَنّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ حِينَ دَخَلَهُ وَتَقَدّمَ إلَى دُخُولِهِ - قَبْلَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِيَقِيَهُ بِنَفْسِهِ رَأَى فِيهِ جُحْرًا فَأَلْقَمَهُ عَقِبَهُ لِئَلّا يَخْرُجَ مِنْهُ مَا يُؤْذِي رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفِي الصّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُمَا فِي الْغَارِ لَوْ أَنّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إلَى قَدَمِهِ لَرَآنَا ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " مَا ظَنّك بِاثْنَيْنِ اللّهُ ثَالِثُهُما [ ص 317 ] عَمِيَ عَلَيْهِمْ الْأَثَرُ جَاءُوا بِالْقَافَةِ فَجَعَلُوا يَقْفُونَ الْأَثَرَ حَتّى انْتَهَوْا إلَى بَابِ الْغَارِ وَقَدْ أَنْبَتَ اللّهُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْحَدِيثِ قَبْلَ هَذَا ، فَعِنْدَمَا رَأَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ الْقَافَةَ اشْتَدّ حُزْنُهُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَقَالَ إنْ قُتِلْت فَإِنّمَا ، أَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ وَإِنْ قُتِلْت أَنْت هَلَكَتْ الْأُمّةُ فَعِنْدَهَا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " لَا تَحْزَنْ إنّ اللّهَ مَعَنَا " ، أَلَا تَرَى كَيْفَ قَالَ لَا تَحْزَنْ وَلَمْ يَقُلْ لَا تَخَفْ ؟ لِأَنّ حُزْنَهُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَغَلَهُ عَنْ خَوْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَلِأَنّهُ أَيْضًا رَأَى مَا نَزَلَ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ النّصَبِ وَكَوْنَهُ فِي ضِيقَةِ الْغَارِ مَعَ فُرْقَةِ الْأَهْلِ وَوَحْشَةِ الْغُرْبَةِ وَكَانَ أَرَقّ النّاسِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَشْفَقَهُمْ عَلَيْهِ فَحَزِنَ لِذَلِكَ وَقَدْ رُوِيَ أَنّهُ قَالَ نَظَرْت إلَى قَدَمَيْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْغَارِ وَقَدْ تَفَطّرَتَا دَمًا ، فَاسْتَبْكَيْت ، وَعَلِمْت أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لَمْ يَكُنْ تَعَوّدَ الْحِفَاءَ وَالْجَفْوَةَ وَأَمّا الْخَوْفُ فَقَدْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ الْيَقِينِ بِوَعْدِ اللّهِ بِالنّصْرِ لِنَبِيّهِ . مَا يُسَكّنُ خَوْفَهُ وَقَوْلُ اللّهِ تَعَالَى : فَأَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ قَالَ أَكْثَرُ أَهْلِ التّفْسِيرِ يُرِيدُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَأَمّا الرّسُولُ فَقَدْ كَانَتْ السّكِينَةُ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ { وَأَيّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا } الْهَاءُ فِي أَيّدَهُ رَاجِعَةٌ عَلَى النّبِيّ وَالْجُنُودُ الْمَلَائِكَةُ أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ فِي الْغَارِ فَبَشّرُوهُ بِالنّصْرِ عَلَى أَعْدَائِهِ فَأَيّدَهُ ذَلِكَ وَقَوّاهُ عَلَى الصّبْرِ [ و ] قِيلَ أَيّدَهُ بِجُنُودِ لَمْ تَرَوْهَا ، يَعْنِي : يَوْمَ بَدْرٍ وَحُنَيْنٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ مَشَاهِدِهِ وَقَدْ قِيلَ الْهَاءُ رَاجِعَةٌ عَلَى النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا وَأَبُو بَكْرٍ تَبَعٌ [ ص 318 ] فَدَخَلَ فِي حُكْمِ السّكِينَةِ بِالْمَعْنَى ، وَكَانَ فِي مُصْحَفِ حَفْصَةَ فَأَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِمَا ، وَقِيلَ إنّ حُزْنَ أَبِي بَكْرٍ كَانَ عِنْدَمَا رَأَى بَعْضَ الْكُفّارِ يَبُولُ عِنْدَ الْغَارِ فَأَشْفَقَ أَنْ يَكُونُوا قَدْ رَأَوْهُمَا ، فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " لَا تَحْزَنْ فَإِنّهُمْ لَوْ رَأَوْنَا لَمْ يَسْتَقْبِلُونَا بِفُرُوجِهِمْ عِنْدَ الْبَوْلِ وَلَا تَشَاغَلُوا بِشَيْءِ عَنْ أَخْذِنَا " ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
الرّدّ عَلَى الرّافِضَةِ فِيمَا بَهَتُوا بِهِ أَبَا بَكْرٍ
فَصْلٌ وَزَعَمَتْ الرّافِضَةُ أَنّ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ لِأَبِي بَكْرٍ لَا تَحْزَنْ غَضّا مِنْ أَبِي بَكْرٍ وَذَمّا لَهُ فَإِنّ حُزْنَهُ ذَلِكَ إنْ كَانَ طَاعَةً فَالرّسُولُ عَلَيْهِ السّلَامُ لَا يَنْهَى عَنْ الطّاعَةِ فَلَمْ يَبْقَ إلّا أَنّهُ مَعْصِيَةٌ فَيُقَالُ لَهُمْ عَلَى جِهَةِ الْجَدَلِ قَدْ قَالَ اللّهُ لِمُحَمّدِ عَلَيْهِ السّلَامُ فَلَا يَحْزُنْك قَوْلُهُمْ [ يس : 76 ] وَقَالَ { وَلَا يَحْزُنْكَ الّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ } [ آلُ عِمْرَانَ : 176 ] وَقَالَ لِمُوسَى : { خُذْهَا وَلَا تَخَفْ } [ طَه : 21 ] وَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ لِلُوطِ لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ فَإِنْ زَعَمْتُمْ أَنّ الْأَنْبِيَاءَ حِينَ قِيلَ لَهُمْ هَذَا كَانُوا فِي حَالِ مَعْصِيَةٍ فَقَدْ كَفَرْتُمْ وَنَقَضْتُمْ أَصْلَكُمْ فِي وُجُوبِ الْعِصْمَةِ لِلْإِمَامِ الْمَعْصُومِ فِي زَعْمِكُمْ فَإِنّ الْأَنْبِيَاءَ هُمْ الْأَئِمّةُ الْمَعْصُومُونَ بِإِجْمَاعِ وَإِنّمَا قَوْلُهُ لَا تَحْزَنْ وَقَوْلُ اللّهِ لِمُحَمّدِ لَا يَحْزُنْك ، وَقَوْلُهُ لِأَنْبِيَائِهِ مِثْلَ هَذَا تَسْكِينٌ لِجَأْشِهِمْ وَتَبْشِيرٌ لَهُمْ وَتَأْنِيسٌ عَلَى جِهَةِ النّهْيِ الّذِي زَعَمُوا ، وَلَكِنْ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ { تَتَنَزّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا } [ فُصّلَتْ 30ْ ] وَهَذَا الْقَوْلُ إنّمَا يُقَالُ لَهُمْ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ وَلَيْسَ إذْ ذَاكَ أَمْرٌ بِطَاعَةِ وَلَا نَهْيٌ عَنْ مَعْصِيَةٍ . [ ص 319 ] نَهَى اللّهُ نَبِيّهُ عَنْ أَشْيَاءَ وَنَهَى عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمْ يَقْتَضِ ذَلِكَ أَنّهُمْ كَانُوا فَاعِلِينَ لِتِلْكَ الْأَشْيَاءِ فِي حَالِ النّهْيِ لِأَنّ فِعْلَ النّهْيِ فِعْلٌ مُسْتَقْبَلٌ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِأَبِي بَكْرٍ لَا تَحْزَنْ لَوْ كَانَ الْحُزْنُ كَمَا زَعَمُوا لَمْ يَكُنْ فِيهِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - مَا ادّعَوْا مِنْ الْغَضّ وَأَمّا مَا ذَكَرْنَاهُ نَحْنُ مِنْ حُزْنِهِ عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِنْ كَانَ طَاعَةً فَلَمْ يَنْهَهُ عَنْهُ الرّسُولُ عَلَيْهِ السّلَامُ إلّا رِفْقًا بِهِ وَتَبْشِيرًا لَهُ لَا كَرَاهِيَةً لِعَمَلِ وَإِذَا نَظَرْت الْمَعَانِيَ بِعَيْنِ الْإِنْصَافِ لَا بِعَيْنِ الشّهْوَةِ وَالتّعَصّبِ لِلْمَذَاهِبِ لَاحَتْ الْحَقَائِقُ وَاتّضَحَتْ الطّرَائِقُ وَاَللّهُ الْمُوَفّقُ لِلصّوَابِ .
مَعِيّةُ اللّهِ مَعَ رَسُولِهِ وَصَاحِبِهِ
وَانْتَبِهْ أَيّهَا الْعَبْدُ الْمَأْمُورُ بِتَدَبّرِ كِتَابِ اللّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ { إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنّ اللّهَ مَعَنَا } [ التّوْبَةُ 40 ] كَيْفَ كَانَ مَعَهُمَا بِالْمَعْنَى ، وَبِاللّفْظِ أَمّا الْمَعْنَى فَكَانَ مَعَهُمَا بِالنّصْرِ وَالْإِرْفَادِ وَالْهِدَايَةِ وَالْإِرْشَادِ وَأَمّا اللّفْظُ فَإِنّ اسْمَ اللّهِ تَعَالَى كَانَ يُذْكَرُ إذَا ذُكِرَ رَسُولُهُ وَإِذَا [ ص 320 ] فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَوْ فَعَلَ رَسُولُ اللّهِ ثُمّ كَانَ لِصَاحِبِهِ كَذَلِكَ يُقَالُ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللّهِ وَفَعَلَ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللّهِ فَكَانَ يَذْكُرُ مَعَهُمَا ، بِالرّسَالَةِ وَبِالْخِلَافَةِ ثُمّ ارْتَفَعَ ذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ مِنْ الْخُلَفَاءِ وَلَا يَكُونُ .

أَبُو جَهْلٍ يَضْرِبُ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ
[ ص 320 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحُدّثْت عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنّهَا قَالَتْ لَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَتَانَا نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ ، فِيهِمْ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ ، فَوَقَفُوا عَلَى بَابِ أَبِي بَكْرٍ فَخَرَجْت إلَيْهِمْ فَقَالُوا : أَيْنَ أَبُوك يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ ؟ قَالَتْ قُلْت : لَا أَدْرِي وَاَللّهِ أَيْنَ أَبِي . قَالَتْ فَرَفَعَ أَبُو جَهْلٍ يَدَهُ وَكَانَ فَاحِشًا خَبِيثًا ، فَلَطَمَ خَدّي لَطْمَةً طُرِحَ مِنْهَا قُرْطِي .

خَبَرُ الْجِنّيّ الّذِي تَغَنّى بِمَقْدَمِ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَالَتْ ثُمّ انْصَرَفُوا . فَمَكَثْنَا ثَلَاثَ لَيَالٍ وَمَا نَدْرِي أَيْ وَجْهُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ الْجِنّ مِنْ أَسْفَلِ مَكّةَ ، يَتَغَنّى بِأَبْيَاتِ مِنْ شِعْرٍ غِنَاءَ الْعَرَبِ ، وَإِنّ النّاسَ لَيَتّبِعُونَهُ يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ وَمَا يَرَوْنَهُ حَتّى خَرَجَ مِنْ أَعْلَى مَكّةَ وَهُوَ يَقُولُ
جَزَى اللّهُ رَبّ النّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ ... رَفِيقَيْنِ حَلّا خَيْمَتَيْ أُمّ مَعْبَدِ
هُمَا نَزَلَا بِالْبِرّ ثُمّ تَرَوّحَا ... فَأَفْلَحَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمّدِ
لِيَهْنِ بَنِي كَعْبٍ مَكَانَ فَتَاتِهِمْ ... وَمَقْعَدُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَرْصَدِ
نَسَبُ أُمّ مَعْبَدٍ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أُمّ مَعْبَدٍ بِنْتُ كَعْبٍ ، امْرَأَةُ مِنْ بَنِي كَعْبٍ ، مِنْ خُزَاعَةَ . وَقَوْلُهُ " حَلّا خَيْمَتَيْ " وَ " هُمَا نَزَلَا بِالْبِرّ ثُمّ تَرَوّحَا " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : قَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا : فَلَمّا سَمِعْنَا قَوْلَهُ عَرَفْنَا حَيْثُ وَجّهَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنّ وَجْهَهُ إلَى الْمَدِينَةِ وَكَانُوا أَرْبَعَةً رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أَرْقَطَ دَلِيلُهُمَا . [ ص 321 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُرَيْقِط ٍ .

آلُ أَبِي بَكْرٍ بَعْدَ هِجْرَتِهِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ أَنّ أَبَاهُ عَبّادًا حَدّثَهُ عَنْ جَدّتِهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ ، قَالَتْ لَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مَعَهُ احْتَمَلَ أَبُو بَكْرٍ مَالَهُ كُلّهُ وَمَعَهُ خَمْسَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْ سِتّةُ آلَافٍ فَانْطَلَقَ بِهَا مَعَهُ . قَالَتْ فَدَخَلَ عَلَيْنَا جَدّي أَبُو قُحَافَةَ وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ فَقَالَ وَاَللّهِ إنّي لَأَرَاهُ قَدْ فَجَعَكُمْ بِمَالِهِ مَعَ نَفْسِهِ . قَالَتْ قُلْت : كَلّا يَا أَبَتِ إنّهُ قَدْ تَرَكَ لَنَا خَيْرًا كَثِيرًا . قَالَتْ فَأَخَذْت أَحْجَارًا فَوَضَعْتهَا فِي كُوّةٍ فِي الْبَيْتِ الّذِي كَانَ أَبِي يَضَعُ مَالَهُ فِيهَا ، ثُمّ وَضَعْت عَلَيْهَا ثَوْبًا ، ثُمّ أَخَذْت بِيَدِهِ فَقُلْت : يَا أَبَتِ ضَعْ يَدَك عَلَى هَذَا الْمَالِ . قَالَتْ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ لَا بَأْسَ إذَا كَانَ تَرَكَ لَكُمْ هَذَا فَقَدْ أَحْسَنَ وَفِي هَذَا بَلَاغٌ لَكُمْ . وَلَا وَاَللّهِ مَا تَرَكَ لَنَا شَيْئًا وَلَكِنّي أَرَدْت أَنْ أُسْكِنَ الشّيْخَ بِذَلِكَ .

خَبَرُ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي الزّهْرِيّ أَنّ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ حَدّثَهُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمّهِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ ، قَالَ لَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ مَكّةَ مُهَاجِرًا إلَى الْمَدِينَةِ ، جَعَلَتْ قُرَيْشٌ فِيهِ مِائَةَ نَاقَةٍ لِمَنْ رَدّهُ عَلَيْهِمْ . قَالَ فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ فِي نَادِي قَوْمِي إذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنّا ، حَتّى وَقَفَ عَلَيْنَا ، فَقَالَ وَاَللّهِ لَقَدْ رَأَيْت رَكَبَةً ثَلَاثَةً مَرّوا عَلَيّ آنِفًا ، إنّي لَأَرَاهُمْ مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ قَالَ فَأَوْمَأْت إلَيْهِ بِعَيْنِي : أَنْ اُسْكُتْ ثُمّ قُلْت : قَلِيلًا ، إنّمَا هُمْ بَنُو فُلَانٍ يَبْتَغُونَ ضَالّةً لَهُمْ قَالَ لَعَلّهُ ثُمّ سَكَتَ . قَالَ ثُمّ مَكَثْت ثُمّ قُمْت فَدَخَلْت بَيْتِي ، ثُمّ أَمَرْت بِفَرَسِي ، فَقِيدَ لِي إلَى بَطْنِ الْوَادِي ، وَأَمَرْت بِسِلَاحِي ، فَأُخْرِجَ لِي مِنْ دُبُرِ حُجْرَتِي ، ثُمّ أَخَذْت قِدَاحِي الّتِي أَسْتَقْسِمُ بِهَا ، ثُمّ انْطَلَقْت ، فَلَبِسْت لَامَتِي ثُمّ [ ص 322 ] فَخَرَجَ السّهْمُ الّذِي أَكْرَهُ " لَا يَضُرّهُ " قَالَ وَكُنْت أَرْجُو أَنْ أَرُدّهُ عَلَى قُرَيْشٍ ، فَآخُذَ الْمِائَةَ النّاقَةَ . قَالَ فَرَكِبْت عَلَى أَثَرِهِ فَبَيْنَمَا فَرَسِي يَشْتَدّ بِي عَثَرَ بِي ، فَسَقَطْت عَنْهُ . قَالَ فَقُلْت : مَا هَذَا ؟ قَالَ ثُمّ أَخْرَجْت قِدَاحِي فَاسْتَقْسَمْت بِهَا فَخَرَجَ السّهْمُ الّذِي أَكْرَهُ " لَا يَضُرّهُ " . قَالَ فَأَبَيْت إلّا أَنْ أَتّبِعَهُ . قَالَ فَرَكِبْت فِي أَثَرِهِ فَبَيْنَا فَرَسِي يَشْتَدّ بِي ، عَثَرَ بِي ، فَسَقَطْت عَنْهُ . قَالَ فَقُلْت : مَا هَذَا ؟ ، قَالَ ثُمّ أَخْرَجْت قِدَاحِي فَاسْتَقْسَمْت بِهَا فَخَرَجَ السّهْمُ الّذِي أَكْرَهُ " لَا يَضُرّهُ " قَالَ فَأَبَيْت إلّا أَنْ أَتّبِعَهُ فَرَكِبْت فِي أَثَرِهِ . فَلَمّا بَدَا لِي الْقَوْمُ وَرَأَيْتهمْ عَثَرَ بِي فَرَسِي ، فَذَهَبَتْ يَدَاهُ فِي الْأَرْضِ وَسَقَطْت عَنْهُ ثُمّ انْتَزَعَ يَدَيْهِ مِنْ الْأَرْضِ وَتَبِعَهُمَا دُخَانٌ كَالْإِعْصَارِ . قَالَ فَعَرَفْت حِينَ رَأَيْت ذَلِكَ أَنّهُ قَدْ مُنِعَ مِنّي ، وَأَنّهُ ظَاهِرٌ . قَالَ فَنَادَيْت الْقَوْمَ فَقُلْت : أَنَا سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ : أَنْظِرُونِي أُكَلّمْكُمْ فَوَاَللّهِ لَا أُرِيبُكُمْ وَلَا يَأْتِيكُمْ مَعِي شَيْءٌ تَكْرَهُونَهُ . قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأَبِي بَكْرٍ : قُلْ لَهُ وَمَا تَبْتَغِي مِنّا ؟ قَالَ فَقَالَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ ، قَالَ قُلْت : تَكْتُبُ لِي كِتَابًا يَكُونُ آيَةً بَيْنِي وَبَيْنَك . قَالَ اُكْتُبْ لَهُ يَا أَبَا بَكْرٍ فَكَتَبَ لِي كِتَابًا فِي عَظْمٍ أَوْ فِي رُقْعَةٍ أَوْ فِي خَزَفَةٍ ثُمّ أَلْقَاهُ إلَيّ فَأَخَذْته ، فَجَعَلْته فِي كِنَانَتِي ، ثُمّ رَجَعْت ، فَسَكَتّ فَلَمْ أَذْكُرْ شَيْئًا مِمّا كَانَ حَتّى إذَا فُتِحَتْ مَكّةُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفَرَغَ مِنْ حُنَيْنٍ وَالطّائِفِ ، خَرَجْت وَمَعِي الْكِتَابُ لِأَلْقَاهُ فَلَقِيته بِالْجِعْرَانَةِ . قَالَ فَدَخَلْت فِي كَتِيبَةٍ مِنْ خَيْلِ الْأَنْصَارِ . قَالَ فَجَعَلُوا يَقْرَعُونَنِي بِالرّمَاحِ وَيَقُولُونَ إلَيْك إلَيْك ، مَاذَا تُرِيدُ ؟ قَالَ فَدَنَوْت مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ وَاَللّهِ لَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى سَاقِهِ فِي غَرْزِهِ كَأَنّهَا جُمّارَةٌ . قَالَ فَرَفَعْت يَدِي بِالْكِتَابِ ثُمّ قُلْت [ ص 323 ] قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمُ وَفَاءٍ وَبِرّ اُدْنُهُ قَالَ فَدَنَوْت مِنْهُ فَأَسْلَمَ . ثُمّ تَذَكّرْت شَيْئًا أَسْأَلُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَمَا أَذْكُرُهُ إلّا أَنّي قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ الضّالّةُ مِنْ الْإِبِلِ تَغْشَى حِيَاضِي ، وَقَدْ مَلَأْتهَا لِإِبِلِي ، هَلْ لِي مِنْ أَجْرٍ فِي أَنْ أُسْقِيَهَا ؟ قَالَ نَعَمْ فِي كُلّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ . قَالَ ثُمّ رَجَعْت إلَى قَوْمِي ، فَسُقْت إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَدَقَتِي . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ . [ ص 324 ]
Sحَدِيثُ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ الْكِنَانِي ّ
[ ص 321 ] أَحَدِ بَنِي مُدْلِجِ بْنِ مُرّةَ بْنِ تَمِيمِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ . وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ حَدِيثَهُ حِينَ بَذَلَتْ قُرَيْشٌ مِائَةَ نَاقَةٍ لِمَنْ رَدّ عَلَيْهِمْ مُحَمّدًا عَلَيْهِ السّلَامُ وَأَنّ سُرَاقَةَ اسْتَقْسَمَ بِالْأَزْلَامِ فَخَرَجَ السّهْمُ الّذِي يَكْرَهُ وَهُوَ الّذِي كَانَ فِيهِ مَكْتُوبًا لَا تَضُرّهُ إلَى آخِرِ [ ص 322 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - سَاخَتْ فِي الْأَرْضِ وَتَبِعَهَا عُثَانٌ وَهُوَ الدّخَانُ وَجَمْعُهُ عَوَاثِنُ . وَذَكَرَ غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ أَبَا جَهْلٍ لَامَهُ حِينَ رَجَعَ بِلَا شَيْءٍ فَقَالَ وَكَانَ شَاعِرًا [ ص 323 ]
أَبَا حَكَمٍ وَاَللّهِ لَوْ كُنْت شَاهِدًا ... لِأَمْرِ جَوَادِي إذْ تَسُوخُ قَوَائِمُهْ
عَلِمْت وَلَمْ تَشْكُكْ بِأَنّ مُحَمّدًا ... رَسُولٌ بِبُرْهَانِ فَمَنْ ذَا يُقَاوِمُهْ ؟
عَلَيْك بِكَفّ الْقَوْمِ عَنْهُ فَإِنّنِي ... أَرَى أَمْرَهُ يَوْمًا سَتَبْدُو مَعَالِمُهْ
بِأَمْرِ يَوَدّ النّاسُ فِيهِ بِأَسْرِهِمْ
بِأَنّ جَمِيعَ النّاسِ طَرّا يُسَالِمُهْ
وَقَدْ قَدّمْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ عِنْدَ ذِكْرِ كِسْرَى مَا فَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ حِينَ أُتِيَ بِتَاجِ كِسْرَى ، وَسِوَارَيْهِ وَمِنْطَقَتِهِ وَأَنّهُ دَعَا بِسُرَاقَةَ ، وَكَانَ أَزَبّ الذّرَاعَيْنِ فَحَلّاهُ حِلْيَةَ كِسْرَى ، وَقَالَ لَهُ ارْفَعْ يَدَيْك ، وَقُلْ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي سَلَبَ هَذَا كِسْرَى الْمَلِكَ الّذِي كَانَ يَزْعُمُ أَنّهُ رَبّ النّاسِ وَكَسَاهَا أَعْرَابِيّا مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ . فَقَالَ ذَلِكَ سُرَاقَةُ وَإِنّمَا فَعَلَهَا عُمَرُ لِأَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَانَ قَدْ بَشّرَ بِهَا سُرَاقَةَ حِينَ أَسْلَمَ ، وَأَخْبَرَهُ أَنّ اللّهَ سَيَفْتَحُ عَلَيْهِ بِلَادَ فَارِسٍ ، وَيُغَنّمُهُ مُلْكَ كِسْرَى ، فَاسْتَبْعَدَ ذَلِكَ سُرَاقَةُ فِي نَفْسِهِ وَقَالَ أَكِسْرَى مَلِكُ الْمُلُوكِ ؟ فَأَخْبَرَهُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنّ حِلْيَتَهُ سَتُجْعَلُ عَلَيْهِ تَحْقِيقًا لِلْوَعْدِ وَإِنْ كَانَ أَعْرَابِيّا بَوّالًا عَلَى عَقِبَيْهِ وَلَكِنّ اللّهَ يُعِزّ بِالْإِسْلَامِ أَهْلَهُ وَيُسْبِغُ عَلَى مُحَمّدٍ وَأُمّتِهِ نِعْمَتَهُ وَفَضْلَهُ .

وَفِي السّيَرِ مِنْ رِوَايَةُ يُونُسَ شِعْرٌ لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فِي قِصّةِ الْغَارِ [ ص 324 ] [ ص 324 ]
قَالَ النّبِيّ وَلَمْ يَزَلْ يُوَقّرُنِي ... وَنَحْنُ فِي سَدَفٍ مِنْ ظُلْمَةِ الْغَارِ
لَا تَخْشَ شَيْئًا ؛ فَإِنّ اللّهَ ثَالِثُنَا ... وَقَدْ تَوَكّلَ لِي مِنْهُ بِإِظْهَارِ
وَإِنّمَا كَيْدُ مَنْ تَخْشَى بَوَادِرَهُ ... كَيْدُ الشّيَاطِينَ كَادَتْهُ لِكُفّارِ
وَاَللّهُ مُهْلِكُهُمْ طَرّا بِمَا كَسَبُوا ... وَجَاعِلُ الْمُنْتَهَى مِنْهُمْ إلَى النّارِ
وَأَنْتَ مُرْتَحِلٌ عَنْهُمْ وَتَارِكُهُمْ ... إمّا عَدُوّا وَإِمّا مُدْلِجٌ سَارِي
وَهَاجِرٌ أَرْضَهُمْ حَتّى يَكُونَ لَنَا ... قَوْمٌ عَلَيْهِمْ ذَوُو عِزّ وَأَنْصَارِ
حَتّى إذَا اللّيْلُ وَارَتْنَا جَوَانِبُهُ ... وَسَدّ مِنْ دُونِ مَنْ تَخْشَى بِأَسْتَارِ
سَارَ الْأُرَيْقِطُ يَهْدِينَا وَأَيْنُقُهُ ... يَنْعَبْنَ بِالْقَرْمِ نَعْبًا تَحْتَ أَكْوَارِ
يَعْسِفْنَ عَرْضَ الثّنَايَا بَعْدَ أَطْوُلِهَا ... وَكُلّ سَهْبٍ رِقَاقٍ التّرْبِ مَوّارِ
حَتّى إذَا قُلْت : قَدْ أَنْجَدْنَ عَارِضَهَا ... مِنْ مُدْلِجٍ فَارِسٍ فِي مَنْصِبٍ وَارِ
يُرْدِي بِهِ مُشْرِفَ الْأَقْطَارِ مُعْتَزَمٌ ... كَالسّيدِ ذِي اللّبْدَةِ الْمُسْتَأْسِدِ الضّارِي
فَقَالَ كُرّوا فَقُلْت : إنّ كَرّتَنَا ... مِنْ دُونِهَا لَك نَصْرُ الْخَالِقِ الْبَارِي
أَنْ يَخْسِفَ الْأَرْضَ بِالْأَحْوَى وَفَارِسِهِ ... فَانْظُرْ إلَى أَرْبُعٍ فِي الْأَرْضِ غُوّارِ
فَهِيلَ لَمّا رَأَى أَرْسَاغَ مَقْرَبِهِ ... قَدْ سُخْنَ فِي الْأَرْضِ لَمْ يَحْفِرْ بِمِحْفَارِ
فَقَالَ هَلْ لَكُمْ أَنْ تُطْلِقُوا فَرَسِي ... وَتَأْخُذُوا مَوْثِقِي فِي نُصْحِ أَسْرَارِ
وَأَصْرِفُ الْحَيّ عَنْكُمْ إنْ لَقِيتُهُمْ ... وَأَنْ أُعَوّرَ مِنْهُمْ عَيْنَ عُوّارِ
فَادْعُوَا الّذِي هُوَ عَنْكُمْ كَفّ عَوْرَتَنَا ... يُطْلِقْ جَوَادِي وَأَنْتُمْ خَيْرُ أَبْرَارِ
فَقَالَ قَوْلًا رَسُولُ اللّهِ مُبْتَهِلًا ... يَا رَبّ إنْ كَانَ مِنْهُ غَيْرُ إخْفَارِ
فَنَجّهِ سَالِمًا مِنْ شَرّ دَعْوَتِنَا ... وَمُهْرَهُ مُطْلَقًا مِنْ كَلْمِ آثَارِ
فَأَظْهَرَ اللّهُ إذْ يَدْعُو حَوَافِرَهُ ... وَفَازَ فَارِسُهُ مِنْ هَوْلِ أَخْطَارِ

حَدِيثُ أُمّ مَعْبَدٍ
وَذَكَرَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ [ ص 325 ] [ ص 326 ] خَفِيَ عَلَيْهَا ، وَعَلَى مَنْ مَعَهَا أَمْرُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَمْ يَدْرُوا أَيْنَ تَوَجّهَ حَتّى أَتَى رَجُلٌ مِنْ الْجِنّ يَسْمَعُونَ صَوْتَهُ وَلَا يَرَوْنَهُ فَمَرّ عَلَى مَكّةَ وَالنّاسُ يَتّبِعُونَهُ وَهُوَ يُنْشِدُ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ
جَزَى اللّهُ رَبّ النّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ ... رَفِيقَيْنِ حَلّا خَيْمَتَيْ أُمّ مَعْبَدِ
هُمَا نَزَلَا بِالْبِرّ ثُمّ تَرَحّلَا ... فَأَفْلَحَ مَنْ أَمْسَى رَفِيقَ مُحَمّدِ
لِيَهْنِ بَنِي كَعْبٍ مَقَامَ فَتَاتِهِمْ ... وَمَقْعَدُهَا لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَرْصَدِ
فَيَالَقُصِيّ مَا زَوَى اللّهُ عَنْكُمْ ... بِهِ مِنْ فِعَالٍ لَا يُجَازِي وَسُوْدُدِ
سَلُوا أُخْتَكُمْ عَنْ شَاتِهَا وَإِنَائِهَا ... فَإِنّكُمْ إنْ تَسْأَلُوا الشّاةَ تَشْهَدْ
دَعَاهَا بِشَاةِ حَائِلٍ فَتَحَلّبَتْ ... لَهُ بِصَرِيحِ ضَرّةُ الشّاةِ مُزْبِدِ
فَغَادَرَهَا رَهْنًا لَدَيْهَا بِحَالِبِ ... يُرَدّدُهَا فِي مَصْدَرٍ ثُمّ مَوْرِدِ
[ ص 325 ] حَسّانَ بْنَ ثَابِتٍ لَمّا بَلَغَهُ شِعْرُ الْجِنّيّ وَمَا هَتَفَ بِهِ فِي مَكّةَ قَالَ يُجِيبُهُ
لَقَدْ خَابَ قَوْمٌ عَنّهُمْ نَبِيّهُمْ ... وَقَدْ سُرّ مَنْ يَسْرِي إلَيْهِمْ وَيَغْتَدِي
تَرَحّلَ عَنْ قَوْمٍ فَضَلّتْ عُقُولُهُمْ ... وَحَلّ عَلَى قَوْمٍ بِنُورِ مُجَدّدِ
هَدَاهُمْ بِهِ بَعْدَ الضّلَالَةِ رَبّهُمْ ... وَأَرْشَدَهُمْ مَنْ يَتْبَعُ الْحَقّ يَرْشُدْ
وَهَلْ يَسْتَوِي ضُلّالُ قَوْمٍ تَسَفّهُوا ... عِمَايَتَهُمْ هَادٍ بِهَا كُلّ مُهْتَدِ
لَقَدْ نَزَلَتْ مِنْهُ إلَى أَهْلِ يَثْرِبِ ... رِكَابُ هُدًى حَلّتْ عَلَيْهِمْ بِأَسْعَدِ
نَبِيّ يَرَى مَا لَا يَرَى النّاسُ حَوْلَهُ ... وَيَتْلُو كِتَابَ اللّهِ فِي كُلّ مَشْهَدِ
وَإِنْ قَالَ فِي يَوْمٍ مَقَالَةَ غَائِبٍ ... فَتَصْدِيقُهُ فِي الْيَوْمِ أَوْ فِي ضُحَى الْغَدِ
لِيَهْنِ أَبَا بَكْرٍ سَعَادَةَ جَدّهِ ... بِصُحْبَتِهِ مَنْ يُسْعِدُ اللّهَ يَسْعَدْ
وَزَادَ يُونُسُ فِي رِوَايَتِهِ أَنّ قُرَيْشًا لَمّا سَمِعَتْ الْهَاتِفَ مِنْ الْجِنّ أَرْسَلُوا إلَى أُمّ مَعْبَدٍ وَهِيَ بِخَيْمَتِهَا ، فَقَالُوا : هَلْ مَرّ بِك مُحَمّدٌ الّذِي مِنْ حِلْيَتِهِ كَذَا ، فَقَالَتْ لَا أَدْرِي مَا تَقُولُونَ وَإِنّمَا ضَافَنِي حَالِبُ الشّاةِ الْحَائِلِ وَكَانُوا أَرْبَعَةً رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ ، وَقَدْ تَقَدّمَ التّعْرِيفُ بِهِ وَطَرَفٌ مِنْ ذِكْرِ فَضَائِلِهِ فِي هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ ، وَالرّابِعُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُرَيْقِطٍ اللّيْثِيّ وَلَمْ يَكُنْ إذْ ذَاكَ مُسْلِمًا ، وَلَا وَجَدْنَا مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ أَنّهُ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ أَنّهُمْ اسْتَأْجَرُوهُ وَكَانَ هَادِيًا خِرّيتًا ، وَالْخِرّيتُ الْمَاهِرُ بِالطّرِيقِ الّذِي يَهْتَدِي بِمِثْلِ خَرْتِ الْإِبْرَةِ وَيُقَالُ لَهُ الْخَوْتَعُ أَيْضًا قَالَ الرّاجِزُ يَضِلّ فِيهَا الْخَوْتَعُ الْمُشَهّرُ
نَسَبُ أُمّ مَعْبَدٍ وَزَوْجِهَا
وَأَمّا أُمّ مَعْبَدٍ الّتِي مَرّ بِخَيْمَتِهَا ، فَاسْمُهَا : عَاتِكَةُ بِنْتُ خَالِدٍ إحْدَى بَنِي كَعْبٍ مِنْ خُزَاعَةَ ، وَهِيَ أُخْتُ حُبَيْشِ بْنِ خَالِدٍ وَلَهُ صُحْبَةٌ وَرِوَايَةٌ وَيُقَالُ لَهُ الْأَشْعَرُ وَأَخُوهَا : حُبَيْشُ بْنُ خَالِدٍ سَيَأْتِي ذِكْرُهُ وَالْخِلَافُ فِي اسْمِهِ وَخَالِدٌ الْأَشْعَرُ أَبُوهُمَا ، هُوَ ابْنُ حُنَيْفِ بْنِ مُنْقِذِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَصْرَم بْنِ ضُبَيْسِ بْنِ حَرَامِ بْنِ حُبْشِيّةِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو وَهُوَ أَبُو خُزَاعَةَ . وَزَوْجُهَا أَبُو مَعْبَدٍ يُقَالُ إنّ لَهُ رِوَايَةً أَيْضًا عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - تُوُفّيَ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَا يُعْرَفُ اسْمُهُ وَكَانَ مَنْزِلُ أُمّ مَعْبَدٍ بِقُدَيْدٍ ، وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثُهَا بِأَلْفَاظِ مُخْتَلِفَةٍ مُتَقَارِبَةِ الْمَعَانِي ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ وَتَقَصّى شَرْحَ أَلْفَاظِهِ وَفِيهِ أَنّ [ ص 326 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِأُمّ مَعْبَدٍ وَكَانَ الْقَوْمُ مُرْمِلِينَ مُسْنِتِينَ فَطَلَبُوا لَبَنًا أَوْ لَحْمًا يَشْتَرُونَهُ فَلَمْ يَجِدُوا عِنْدَهَا شَيْئًا ، فَنَظَرَ إلَى شَاةٍ فِي كِسْرِ الْخَيْمَةِ خَلّفَهَا الْجَهْدُ عَنْ الْغَنَمِ فَسَأَلَهَا : هَلْ بِهَا مِنْ لَبَنٍ ؟ فَقَالَتْ هِيَ أَجْهَدُ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ أَتَأْذَنِينَ لِي أَنْ أَحْلِبَهَا ، فَقَالَتْ بِأَبِي أَنْت وَأُمّي ، إنْ رَأَيْت بِهَا حَلْبًا فَاحْلِبْهَا ، فَدَعَا بِالشّاةِ فَاعْتَقَلَهَا ، وَمَسَحَ ضَرْعَهَا ، فَتَفَاجّتْ وَدَرّتْ وَاجْتَرّتْ وَدَعَا بِإِنَاءِ يُرْبِضُ الرّهْطَ أَيْ يُشْبِعُ الْجَمَاعَةَ حَتّى يُرْبَضُوا فَحَلَبَ فِيهِ حَتّى مَلَأَهُ وَسَقَى الْقَوْمَ حَتّى رُوُوا ثُمّ شَرِبَ آخِرُهُمْ ثُمّ حَلَبَ فِيهِ مَرّةً أُخْرَى عَلَلًا بَعْدَ نَهْلٍ ثُمّ غَادَرَهُ عِنْدَهَا ، وَذَهَبُوا فَجَاءَ أَبُو مَعْبَدٍ وَكَانَ غَائِبًا فَلَمّا رَأَى اللّبَنَ قَالَ مَا هَذَا يَا أُمّ مَعْبَدٍ أَنّى لَك هَذَا وَالشّاءُ عَازِبٌ حِيَالٌ وَلَا حَلُوبَةَ بِالْبَيْتِ فَقَالَتْ لَا وَاَللّهِ إلّا أَنّهُ مَرّ بِنَا رَجُلٌ مُبَارَكٌ فَقَالَ صِفِيهِ يَا أُمّ مَعْبَدٍ فَوَصَفَتْهُ بِمَا ذَكَرَ الْقُتَبِيّ وَغَيْرُهُ فِي الْحَدِيثِ وَمِمّا ذَكَرَهُ الْقُتَبِيّ فَشَرِبُوا حَتّى أَرَاضُوا جَعَلَهُ الْقُتَبِيّ مِنْ اسْتَرَاضَ الْوَادِي : إذَا اسْتَنْقَعَ وَمِنْ الرّوْضَةِ وَهِيَ بَقِيّةُ الْمَاءِ فِي الْحَوْضِ وَأَنْشَدَ وَرَوْضَةٍ سَقَيْت فِيهِ نِضْوِي
وَرَوَاهُ الْهَرَوِيّ حَتّى آرَضُوا عَلَى وَزْنِ آمَنُوا ، أَيْ ضَرَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ إلَى الْأَرْضِ مِنْ الرّيّ ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنّ آلَ أَبِي مَعْبَدٍ كَانُوا يُؤَرّخُونَ بِذَلِكَ الْيَوْمَ وَيُسَمّونَهُ يَوْمَ الرّجُلِ الْمُبَارَكِ يَقُولُونَ فَعَلْنَا كَيْتُ وَكَيْتُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَنَا الرّجُلُ الْمُبَارَكُ أَوْ بَعْدَمَا جَاءَ الرّجُلُ الْمُبَارَكُ ثُمّ إنّهَا أَتَتْ الْمَدِينَةَ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَا شَاءَ اللّهُ وَمَعَهَا ابْنٌ صَغِيرٌ قَدْ بَلَغَ السّعْيَ فَمَرّ بِالْمَدِينَةِ عَلَى مَسْجِدِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ يُكَلّمُ النّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَانْطَلَقَ إلَى أُمّهِ يَشْتَدّ ، فَقَالَ لَهَا : يَا أُمّتَاهُ إنّي رَأَيْت الْيَوْمَ الرّجُلَ الْمُبَارَكَ فَقَالَتْ لَهُ يَا بُنَيّ وَيْحَك هُوَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَمِمّا يُسْأَلُ عَنْهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يُقَالَ هَلْ اسْتَمَرّتْ تِلْكَ الْبَرَكَةُ فِي شَاةِ أُمّ مَعْبَدٍ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَمْ عَادَتْ إلَى حَالِهَا ؟ وَفِي الْخَبَرِ عَنْ هِشَامِ بْنِ حُبَيْشٍ الْكَعْبِيّ قَالَ أَنَا رَأَيْت تِلْكَ الشّاةَ وَإِنّهَا لَتَأْدِمُ أُمّ مَعْبَدٍ وَجَمِيعَ صِرْمِهَا ، أَيْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَاءِ وَفِي الْحَدِيثِ [ ص 327 ] قَالَ مَا كَانَ فِيهَا بُصْرَةٌ وَهِيَ النّقَطُ مِنْ اللّبَنِ تُبْصَرُ بِالْعَيْنِ .

طَرِيقُ الْهِجْرَةِ
[ ص 327 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا خَرَجَ بِهِمَا دَلِيلُهُمَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَرْقَطَ ، سَلَكَ بِهِمَا أَسْفَلَ مَكّةَ ، ثُمّ مَضَى بِهِمَا عَلَى السّاحِلِ ، حَتّى عَارَضَ الطّرِيقَ أَسْفَلَ مِنْ عُسْفَانَ ، ثُمّ سَلَكَ بِهِمَا عَلَى أَسْفَلِ أَمَجَ ، ثُمّ اسْتَجَازَ بِهِمَا ، حَتّى عَارَضَ بِهِمَا الطّرِيقَ بَعْدَ أَنْ أَجَازَ قُدَيْدًا ، ثُمّ أَجَازَ بِهِمَا مِنْ مَكَانِهِ ذَلِكَ فَسَلَكَ بِهِمَا الْخَرّارَ ، ثُمّ سَلَكَ بِهِمَا ثَنِيّةَ الْمُرّةِ ، ثُمّ سَلَكَ بِهِمَا لِقْفًا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ لَفْتًا . قَالَ مَعْقِلُ بْنُ خُوَيْلِدٍ الْهُذَلِيّ328 -
نَزِيعًا مُحْلِبًا مِنْ أَهْلِ لَفْتٍ ... لَحَيّ بَيْنَ أَثْلَةَ وَالنّجَامِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ أَجَازَ بِهِمَا مَدْلَجَةَ لَقْفٍ ثُمّ اسْتَبْطَنَ بِهِمَا مَدْلَجَةَ مَحَاجٍ - وَيُقَالُ مُجَاحٌ ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ - ثُمّ سَلَكَ بِهِمَا مَرْجِحَ مُجَاحٍ ، ثُمّ تَبَطّنَ بِهِمَا مَرْجِحَ مِنْ ذِي الْغَضَوَيْن ِ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ الْعَضَوَيْنِ - ثُمّ بَطْنَ ذِي كَشْرٍ ، ثُمّ أَخَذَ بِهِمَا عَلَى الْجَدَاجِدِ ، ثُمّ عَلَى الْأَجْرَدِ ، ثُمّ سَلَكَ بِهِمَا ذَا سَلَمٍ مِنْ بَطْنِ أَعْدَاءٍ [ ص 329 ] تِعْهِنَ ، ثُمّ عَلَى الْعَبَابِيدِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ الْعَبَابِيبُ وَيُقَالُ الْعِثْيَانَةُ . يُرِيدُ الْعَبَابِيبَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ أَجَازَ بِهِمَا الْفَاجّةَ ، وَيُقَالُ الْقَاحّةَ ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ .
Sبِلَادٌ فِي طَرِيقِ الْهِجْرَةِ
وَذَكَرَ أَنّ دَلِيلَهُمَا سَلَكَ بِهِمَا عُسْفَانَ . قَالَ الْمُؤَلّفُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ كَثِيرٍ أَنّهُ قَالَ سُمّيَ عُسْفَانَ لِتَعَسّفِ السّيُولِ فِيهِ وَسُئِلَ عَنْ الْأَبْوَاءِ الّذِي فِيهِ قَبْرُ آمِنَةَ أُمّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ : لِمَ سُمّيَ الْأَبْوَاءَ ؟ فَقَالَ لِأَنّ السّيُولَ تَتَبَوّأُهُ أَيْ تَحِلّ بِهِ وَبِعُسْفَانَ فِيمَا رُوِيَ كَانَ مَسْكَنُ الْجُذَمَاءِ وَرَأَيْت فِي بَعْضِ الْمُسْنَدَاتِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَرّ بِعْسْفَانَ وَبِهِ الْجُذَمَاءُ فَأَسْرَعَ الْمَشْيَ وَلَمْ يَنْظُرْ الْيَهَم ، وَقَالَ إنْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ الْعِلَلِ يُعْدِي فَهُوَ هَذَا وَهَذَا الْحَدِيثُ هُوَ مِنْ رِوَايَتِي ، لِأَنّهُ فِي مُسْنَدِ الْحَارِثِ بْن أَبِي أُسَامَةَ ، وَقَدْ تَقَدّمَ اتّصَالُ سَنَدِي بِهِ وَكُنْت رَأَيْته قَبْلُ فِي مُسْنَدِ وَكِيعِ بْنِ الْجَرّاحِ وَلَيْسَ فِيهِ إسْنَادٌ .
فَصْلٌ
وَذَكَرَ أَنّ دَلِيلَهُمْ سَلَكَ بِهِمْ أَمَجَ ثُمّ ثَنِيّةَ الْمُرّةِ ، كَذَا وَجَدْته مُخَفّفَ الرّاءِ مُقَيّدًا ، كَأَنّهُ مُسَهّلُ الْهَمْزَةِ مِنْ الْمَرْأَةِ . وَذَكَرَ لَقْفًا بِفَتْحِ اللّامِ مُقَيّدًا فِي قَوْلِ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ : لَفْتًا ، وَاسْتَشْهَدَ ابْنُ هِشَامٍ بِقَوْلِ مَعْقِلِ [ بْنِ خُوَيْلِدٍ ] الْهُذَلِيّ
نَزِيعًا مُحْلَبًا مِنْ أَهْلِ لَفْتٍ ... لِحَيّ بَيْنَ أَثْلَةَ فَالنّجَامِ
وَأَلْفَيْت فِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ عَلَى هَذَا الْمَوْضِعِ قَالَ لِفْتٌ بِكَسْرِ اللّامِ أَلْفَيْته فِي شِعْرِ مَعْقِلٍ هَذَا فِي أَشْعَارِ هُذَيْلٍ فِي نُسْخَتِي ، وَهِيَ نُسْخَةٌ صَحِيحَةٌ جِدّا ، وَكَذَلِكَ أَلْفَاهُ مَنْ وَثِقْته وَكَلّفْته [ ص 328 ] هُذَيْلٍ مَكْسُورُ اللّامِ فِي نُسْخَةِ أَبِي عَلِيّ الْقَالِيّ الْمَقْرُوءَةِ عَلَى الزّيَادِيّ ثُمّ عَلَى الْأَحْوَلِ ثُمّ قَرَأْتهَا عَلَى ابْنِ دُرَيْدٍ رَحِمَهُ اللّهُ وَفِيهَا صَرِيحًا مُحْلِبًا ، وَكَذَلِكَ كَانَ الضّبْطُ فِي هَذَا الْكِتَابِ قَدِيمًا ، حَتّى ضَبَطَهُ بِالْفَتْحِ عَنْ الْقَاضِي ، وَعَلَى مَا وَقَعَ فِي غَيْرِهَا . انْتَهَى كَلَامُ أَبِي بَحْرٍ . وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيّ : لَفْتًا ، فَقَيّدَهُ بِكَسْرِ اللّامِ كَمَا ذَكَرَ أَبُو بَحْرٍ وَأَنْشَدَ قَبْلَهُ
لَعَمْرُك مَا خَشِيت ، وَقَدْ بَلَغْنَا ... جِبَالَ الْجَوْزِ مِنْ بَلَدٍ تَهَامِ
صَرِيحًا مُحْلِبًا الْبَيْتُ . وَذَكَرَ الْمَوَاضِعَ الّتِي سَلَكَ عَلَيْهَا ، وَذَكَرَ فِيهَا مِجَاجًا بِكَسْرِ الْمِيمِ وَجِيمَيْنِ وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ فِيهَا : مَجَاجٌ بِالْفَتْحِ وَقَدْ أَلْفَيْت شَاهِدًا لِرِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ فِي لِقْفٍ ، وَفِيهِ ذَكَرَ مِجَاحًا بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَ الْجِيمِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمّدِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ :
لَعَنَ اللّهُ بَطْنَ لِقْفٍ مَسِيلًا ... وَجَاحًا وَمَا أُحِبّ مَجَاحًا
لَقِيت نَاقَتِي بِهِ وَبِلِقْفٍ ... بَلَدًا مُجْدِبًا وَأَرْضًا شَحَاحًا
هَكَذَا ذَكَرَهُ الزّبَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَلِقْفٌ آخَرُ غَيْرُ لَفْتٍ فِيمَا قَالَ الْبَكْرِيّ . وَذَكَرَ مُرَجّحَ الْجِيمِ عَلَى الْحَاءِ وَذَكَرَ مُدْلِجَةَ تِعْهِنَ بِكَسْرِ التّاءِ وَالْهَاءِ وَالتّاءُ فِيهِ أَصْلِيّةٌ عَلَى قِيَاسِ النّحْوِ فَوَزْنُهُ فِعْلِلٌ إلّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ مِنْ اشْتِقَاقٍ عَلَى زِيَادَةِ التّاءِ أَوْ تَصِحّ رِوَايَةُ مَنْ رَوَاهُ تُعْهِنُ بِضَمّ التّاءِ فَإِنْ صَحّتْ فَالتّاءُ زَائِدَةٌ كُسِرَتْ أَوْ ضُمّتْ وَبِتِعْهِنَ صَخْرَةٌ يُقَالُ لَهَا : أُمّ عِقْيٍ عُرِفَتْ بِامْرَأَةِ كَانَتْ تَسْكُنُ هُنَاكَ فَمَرّ بِهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاسْتَسْقَاهَا فَلَمْ تَسْقِهِ فَدَعَا عَلَيْهَا فَمُسِخَتْ صَخْرَةً فَهِيَ تِلْكَ الصّخْرَةُ فِيمَا يَذْكُرُونَ . وَذَكَرَ الْجَدَاجِدَ بِجِيمَيْنِ وَدَالَيْنِ كَأَنّهَا جَمْعُ جُدْجُدٍ وَأَحْسَبُهَا آبَارًا فَفِي الْحَدِيثِ أَتَيْنَا عَلَى بِئْرِ جُدْجُدٍ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : الصّوَابُ بِئْرٌ جُدّ أَيْ قَدِيمَةٌ وَقَالَ الْهَرَوِيّ عَنْ الْيَزِيدِيّ وَقَدْ يُقَالُ بِئْرٌ جُدْجُدٍ قَالَ وَهُوَ كَمَا يُقَالُ فِي الْكُمّ كُمْكُمٌ وَفِي الرّفّ رَفْرَفٌ . [ ص 329 ] وَذَكَرَ الْعَبَابِيدَ كَأَنّهُ جَمْعُ عَبّادٍ وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هِيَ الْعَبَابِيبُ كَأَنّهَا جَمْعُ : عُبَابٍ مِنْ عَبَبْت الْمَاءَ عَبّا ، فَكَأَنّهَا - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - مِيَاهٌ تُعَبّ عُبَابًا أَوْ تُعَبّ عَبّا . وَذَكَرَ الْفَاجّةَ بِفَاءِ وَجِيمٍ وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هِيَ الْقَاحّةُ بِالْقَافِ وَالِحَاءِ .

قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : ثُمّ هَبَطَ بِهِمَا الْعَرْجَ ، وَقَدْ أَبْطَأَ عَلَيْهِمَا بَعْضُ ظُهْرِهِمْ فَحَمَلَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ ، يُقَالُ لَهُ أَوْسُ بْنُ حُجْرٍ عَلَى جَمَلٍ لَهُ - يُقَالُ لَهُ ابْنُ الرّدَاءِ - إلَى الْمَدِينَةِ ، وَبَعَثَ مَعَهُ غُلَامًا لَهُ يُقَالُ لَهُ مَسْعُودُ بْنُ هُنَيْدَةَ ثُمّ خَرَجَ بِهِمَا دَلِيلُهُمَا مِنْ الْعَرْجِ ، فَسَلَكَ بِهِمَا ثَنِيّةَ الْعَائِرِ ، عَنْ يَمِينِ رَكُوبَةَ - وَيُقَالُ ثَنِيّةُ الْغَائِرِ ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ [ ص 330 ] رِئْمٍ ، ثُمّ قَدِمَ بِهِمَا قُبَاءً ، عَلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ، لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ حِينَ اشْتَدّ الضّحَاءُ وَكَادَتْ الشّمْسُ تَعْتَدِلُ .Sقِصّةُ أَوْسِ بْنِ حَجَرٍ
وَذَكَرَ قُدُومَهُمْ عَلَى أَوْسِ بْنِ حَجَرٍ وَهُوَ أَوْسُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ حَجَرٍ الْأَسْلَمِيّ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ وَهُوَ قَوْلُ الدّارَقُطْنِيّ ، وَالْمَعْرُوفُ ابْنُ حُجْرٍ بِضَمّ الْحَاءِ وَقَدْ تَقَدّمَ فِي الْمَبْعَثِ ذِكْرُ مَنْ اسْمُهُ حُجْرٌ فِي أَنْسَابِ قُرَيْشٍ ، وَمَنْ يُسَمّى : حُجْرًا مِنْ غَيْرِهِمْ بِسُكُونِ الْجِيمِ وَمَنْ يُسَمّى الْحِجْرَ بِكَسْرِ الْحَاءِ فَانْظُرْهُ هُنَالِكَ عِنْدَ ذِكْرِ خَدِيجَةَ وَأُمّهَا ، وَلَا يُخْتَلَفُ فِي أَوْسِ بْنِ حُجْرٍ أَنّهُ بِفَتْحَتَيْنِ . وَذَكَرَ أَنّ أَوْسًا حَمَلَ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَلَى جَمَلٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الرّدّاءِ وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرِ بْنِ إسْحَاقَ يُقَالُ لَهُ الرّدّاحُ وَفِي الْخَطّابِيّ أَنّهُ قَالَ لِغُلَامِهِ مَسْعُودٍ وَهُوَ مَسْعُودُ بْنُ هُنَيْدَةَ اُسْلُكْ بِهِمْ الْمَخَارِقَ بِالْقَافِ قَالَ وَالصّحِيحُ الْمَخَارِمَ يَعْنِي : مَخَارِمَ الطّرِيقِ وَفِي النّسَوِيّ أَنّ مَسْعُودًا هَذَا قَالَ فَكُنْت آخُذُ بِهِمْ أَخْفَاءَ الطّرِيقِ . وَفِقْهُ هَذَا أَنّهُمْ كَانُوا خَائِفِينَ فَلِذَلِكَ كَانَ يَأْخُذُ بِهِمْ أَخْفَاءَ الطّرِيقِ وَمَخَارِقَهُ وَذَكَرَ النّسَوِيّ فِي حَدِيثِ مَسْعُودٍ هَذَا : أَنّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لَهُ ائْتِ أَبَا تَمِيمٍ فَقُلْ لَهُ يَحْمِلُنِي عَلَى بَعِيرٍ وَيَبْعَثُ إلَيْنَا بِزَادِ وَدَلِيلٍ يَدُلّنَا ، فَفِي هَذَا أَنّ أَوْسًا كَانَ يُكَنّى أَبَا تَمِيمٍ وَأَنّ مَسْعُودًا هَذَا قَدْ رَوَى عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَحَفِظَ عَنْهُ حَدِيثًا فِي الْخَمْسِ وَحَدِيثًا فِي صَلَاةِ الْإِمَامِ بِالْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ ذَكَرَهُ النّسَوِيّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ غَيْرَ أَنّهُ قَالَ فِي مَسْعُودٍ هَذَا : غُلَامُ فَرْوَةَ الْأَسْلَمِيّ . وَقَالَ أَبُو عُمَرَ قَدْ قِيلَ فِي أَوْسٍ هَذَا إنّ اسْمَهُ تَمِيمٌ وَيُكَنّى أَبَا أَوْسٍ فَاَللّهُ أَعْلَمُ . [ ص 330 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لِمَسْعُودِ حِينَ انْصَرَفَ إلَى سَيّدِهِ مُرْ سَيّدَك أَنْ يَسِمَ الْإِبِلَ فِي أَعْنَاقِهَا قَيْدَ الْفَرَسِ فَلَمْ تَزَلْ تِلْكَ سِمَتُهُمْ فِي إبِلِهِمْ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي شَرْحِ قَصِيدَةِ أَبِي طَالِبٍ عِنْدَ قَوْلِهِ مُوَسّمَةُ الْأَعْضَادِ أَسْمَاءَ السّمَاتِ كَالْعِرَاضِ وَالْخِبَاطِ وَالْهِلَالِ وَذَكَرْنَا قَيْدَ الْفَرَسِ ، وَأَنّهُ سِمَةٌ فِي أَعْنَاقِهَا ، وَقَوْلِ الرّاجِزِ
كُومٌ عَلَى أَعْنَاقِهَا قَيْدُ الْفَرَسْ ... تَنْجُو إذَا اللّيْلُ تَدَانَى وَالْتَبَسْ

النّزُولَ بِقُبَاءٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عُوَيْمِرِ بْنِ سَاعِدَةَ قَالَ حَدّثَنِي رِجَالٌ مِنْ قَوْمِي مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالُوا : لَمّا سَمِعْنَا بِمَخْرَجِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ مَكّةَ ، وَتَوَكّفْنَا قُدُومَهُ كُنّا نَخْرُجُ إذَا صَلّيْنَا الصّبْحَ إلَى ظَاهِرِ حَرّتِنَا نَنْتَظِرُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَوَاَللّهِ مَا نَبْرَحُ حَتّى تَغْلِبَنَا الشّمْسُ عَلَى الظّلَالِ فَإِذَا لَمْ نَجِدْ ظِلّا دَخَلْنَا ، وَذَلِكَ فِي أَيّامٍ حَارّةٍ . حَتّى إذَا كَانَ الْيَوْمُ الّذِي قَدِمَ فِيهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَلَسْنَا كَمَا كُنّا نَجْلِسُ حَتّى إذَا لَمْ يَبْقَ ظِلّ دَخَلْنَا بُيُوتَنَا ، وَقَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ دَخَلْنَا الْبُيُوتَ فَكَانَ أَوّلَ مَنْ رَآهُ رَجُلٌ مِنْ الْيَهُودِ ، وَقَدْ رَأَى مَا كُنّا نَصْنَعُ وَأَنّا نَنْتَظِرُ قُدُومَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَلَيْنَا ، فَصَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا بَنِي قَيْبَلَةَ هَذَا جَدّكُمْ قَدْ جَاءَ . قَالَ فَخَرَجْنَا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ فِي ظِلّ نَخْلَةٍ ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فِي مِثْلِ سِنّهِ وَأَكْثَرُنَا لَمْ يَكُنْ رَأَى رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَبْلَ ذَلِكَ وَرَكِبَهُ النّاسُ وَمَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ أَبِي بَكْرٍ ، حَتّى زَالَ الظّلّ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فَأَظَلّهُ بِرِدَائِهِ فَعَرَفْنَاهُ عِنْدَ ذَلِكَ .
Sمَتَى قَدِمَ الرّسُولُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ ؟
كَانَ قُدُومُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوّلِ وَفِي شَهْرِ أَيْلُولَ مِنْ شُهُورِ الْعَجَمِ ، وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ قَدِمَهَا لِثَمَانِ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوّلِ وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيّ خَرَجَ مِنْ الْغَارِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ أَوّلَ يَوْمٍ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوّلِ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وَكَانَتْ بَيْعَةُ الْعَقَبَةِ أَوْسَطَ أَيّامِ التّشْرِيقِ .

الْمَنَازِلُ الّتِي نُزِلَتْ بِقُبَاءٍ
[ ص 331 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَنَزَلَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيمَا يَذْكُرُونَ - عَلَى كُلْثُومِ بْنِ هِدْم ٍ أَخِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ، ثُمّ أَحَدِ بَنِي عُبَيْدٍ : وَيُقَالُ بَلْ نَزَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ . وَيَقُولُ مَنْ يَذْكُرُ أَنّهُ نَزَلَ عَلَى كُلْثُومِ بْنِ هِدْمٍ : إنّمَا كَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِ كُلْثُومِ بْنِ هِدْمٍ جَلَسَ لِلنّاسِ فِي بَيْتِ سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ . وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ عَزَبًا لَا أَهْلَ لَهُ وَكَانَ مَنْزِلُ الْعُزّابِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ ، فَمِنْ هُنَالِكَ يُقَالُ نَزَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ ، وَكَانَ يُقَالُ لِبَيْتِ سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ : بَيْتُ الْعُزّابِ . فَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ كُلّا قَدْ سَمِعْنَا . وَنَزَلَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَلَى خُبَيْبِ بْنِ إسَافٍ ، أَحَدِ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بِالسّنْحِ . وَيَقُولُ قَائِلٌ كَانَ مَنْزِلُهُ عَلَى خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ أَخِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ . وَأَقَامَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ بِمَكّةَ ثَلَاثَ لَيَالٍ وَأَيّامَهَا ، حَتّى أَدّى عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْوَدَائِعَ الّتِي كَانَتْ عِنْدَهُ لِلنّاسِ حَتّى إذَا فَرَغَ مِنْهَا لَحِقَ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَنَزَلَ مَعَهُ عَلَى كُلْثُومِ بْنِ هِدْمٍ .
سُهَيْلُ بْنُ حُنَيْفٍ وَامْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ
فَكَانَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَإِنّمَا كَانَتْ إقَامَتُهُ بِقُبَاءٍ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ يَقُولُ كَانَتْ بِقُبَاءٍ امْرَأَةٌ لَا زَوْجَ لَهَا ، مُسْلِمَةٌ . قَالَ فَرَأَيْت إنْسَانًا يَأْتِيهَا مِنْ جَوْفِ اللّيْلِ فَيَضْرِبُ عَلَيْهَا [ ص 332 ] بَابَهَا ، فَتَخْرُجُ إلَيْهِ فَيُعْطِيهَا شَيْئًا مَعَهُ فَتَأْخُذُهُ . قَالَ فَاسْتَرَبْت بِشَأْنِهِ فَقُلْت لَهَا : يَا أَمَةَ اللّهِ مَنْ هَذَا الرّجُلُ الّذِي يَضْرِبُ عَلَيْك بَابَك كُلّ لَيْلَةٍ فَتَخْرُجِينَ إلَيْهِ فَيُعْطِيك شَيْئًا لَا أَدْرِي مَا هُوَ وَأَنْتِ امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ لَا زَوْجَ لَك ؟ قَالَتْ هَذَا سَهْلُ بْنُ حُنَيْفِ بْنِ وَاهِبٍ ، قَدْ عَرَفَ أَنّي امْرَأَةٌ لَا أَحَدَ لِي ، فَإِذَا أَمْسَى عَدَا عَلَى أَوْثَانِ قَوْمِهِ فَكَسّرَهَا ، ثُمّ جَاءَنِي بِهَا ، فَقَالَ احْتَطِبِي بِهَذَا ، فَكَانَ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَأْثُرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ ، حَتّى هَلَكَ عِنْدَهُ بِالْعِرَاقِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي هَذَا ، مِنْ حَدِيثِ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ هِنْدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ ، رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ .
Sكُلْثُومُ بْنُ الْهِدْمِ
فَصْلٌ
[ ص 331 ] وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ نُزُولَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَلَى كُلْثُومِ بْنِ الْهِدْمِ ، وَكُلْثُومٌ هَذَا كُنْيَتُهُ أَبُو قَيْسٍ ، وَهُوَ كُلْثُومُ بْنُ الْهِدْمِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا مَاتَ بَعْدَ قُدُومِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الْمَدِينَةَ بِيَسِيرِ هُوَ أَوّلُ مَنْ مَاتَ مِنْ الْأَنْصَارِ بَعْدَ قُدُومِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ مَاتَ بَعْدَهُ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ بِأَيّامِ وَسَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ ، وَأَنّهُ كَانَ يُقَالُ لِبَيْتِهِ بَيْتُ الْعُزّابِ هَكَذَا رُوِيَ وَصَوَابُهُ الْأَعْزَبُ لِأَنّهُ جَمْعُ عَزَبٍ يُقَالُ رَجُلٌ عَزَبٌ وَامْرَأَةٌ عَزَبّ ، وَقَدْ قِيلَ امْرَأَةٌ عَزَبَةٌ بِالتّاءِ .

بِنَاءُ مَسْجِدِ قُبَاءَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقُبَاءٍ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الثّلَاثَاءِ وَيَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ وَأَسّسَ مَسْجِدَهُ . ثُمّ أَخْرَجَهُ اللّهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ . وَبَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ يَزْعُمُونَ أَنّهُ مَكَثَ فِيهِمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ . فَأَدْرَكَتْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْجُمُعَةَ فِي بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ فَصَلّاهَا فِي الْمَسْجِدِ الّذِي فِي بَطْنِ الْوَادِي ، وَادِي رَانُونَاءَ ، فَكَانَتْ أَوّلَ جُمُعَةٍ صَلّاهَا بِالْمَدِينَةِ . [ ص 333 ]
Sتَأْسِيسُ مَسْجِدِ قُبَاءٍ
[ ص 332 ] وَذَكَرَ تَأْسِيسَ مَسْجِدِ قُبَاءٍ ، وَأَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَسّسَهُ لِبَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ثُمّ انْتَقَلَ إلَى الْمَدِينَةِ ، وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ أَسّسَهُ كَانَ هُوَ أَوّلَ مَنْ وَضَعَ حَجَرًا فِي قِبْلَتِهِ ثُمّ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِحَجَرِ فَوَضَعَهُ ثُمّ جَاءَ عُمَرُ بِحَجَرِ فَوَضَعَهُ إلَى حَجَرِ أَبِي بَكْرٍ ثُمّ أَخَذَ النّاسُ فِي الْبُنْيَانِ . فِي الْخَطّابِيّ عَنْ الشّمُوسِ بِنْتِ النّعْمَانِ [ بْنِ عَامِرِ بْنِ مُجْمِعٍ الْأَنْصَارِيّةِ ] قَالَتْ كَانَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ بَنَى مَسْجِدَ قُبَاءٍ يَأْتِي بِالْحَجَرِ قَدْ صَهَرَهُ إلَى بَطْنِهِ فَيَضَعُهُ فَيَأْتِي الرّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يُقِلّهُ فَلَا يَسْتَطِيعُ حَتّى يَأْمُرَهُ أَنْ يَدَعَهُ وَيَأْخُذَ غَيْرَهُ يُقَالُ صَهَرَهُ وَأَصْهَرَهُ إذَا أَلْصَقَهُ بِالشّيْءِ وَمِنْهُ اشْتِقَاقُ الصّهْرِ فِي الْقَرَابَةِ وَهَذَا الْمَسْجِدُ أَوّلُ مَسْجِدٍ بُنِيَ فِي الْإِسْلَامِ وَفِي أَهْلِهِ نَزَلَتْ { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبّونَ أَنْ يَتَطَهّرُوا } [ التّوْبَةُ 108 ] فَهُوَ عَلَى هَذَا الْمَسْجِدِ الّذِي أُسّسَ عَلَى التّقْوَى ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سُئِلَ عَنْ الْمَسْجِدِ الّذِي أُسّسَ عَلَى التّقْوَى ، فَقَالَ هُوَ مَسْجِدِي هَذَا وَفِي رِوَايَةٍ [ ص 333 ] قَالَ وَفِي الْآخَرِ خَيْرٌ كَثِيرٌ وَقَدْ قَالَ لِبَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ حِينَ نَزَلَتْ لَمَسْجِدٌ أُسّسَ عَلَى التّقْوَى ، مَا الطّهُورُ الّذِي أَثْنَى اللّهُ بِهِ عَلَيْكُمْ ؟ فَذَكَرُوا لَهُ الِاسْتِنْجَاءَ بِالْمَاءِ بَعْدَ الِاسْتِجْمَارِ بِالْحَجَرِ فَقَالَ هُوَ ذَاكُمْ فَعَلَيْكُمُوهُ وَلَيْسَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ تَعَارُضٌ كِلَاهُمَا أُسّسَ عَلَى التّقْوَى ، غَيْرَ أَنّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ { مِنْ أَوّلِ يَوْمٍ } يَقْتَضِي مَسْجِدَ قُبَاءٍ لِأَنّ تَأْسِيسَهُ كَانَ فِي أَوّلِ يَوْمٍ مِنْ حُلُولِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - دَارُ مُعْجِزَتِهِ وَالْبَلَدُ الّذِي هُوَ مُهَاجَرُهُ .
التّارِيخُ الْعَرَبِيّ
وَفِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { مِنْ أَوّلِ يَوْمٍ } وَقَدْ عُلِمَ أَنّهُ لَيْسَ أَوّلَ الْأَيّامِ كُلّهَا ، وَلَا أَضَافَهُ إلَى شَيْءٍ فِي اللّفْظِ الظّاهِرِ [ فَتَعَيّنَ أَنّهُ أُضِيفَ إلَى شَيْءٍ مُضْمَرٍ ] فِيهِ مِنْ الْفِقْهِ صِحّةُ مَا اتّفَقَ عَلَيْهِ الصّحَابَةُ مَعَ عُمَرَ حِينَ شَاوَرَهُمْ فِي التّارِيخِ فَاتّفَقَ رَأْيُهُمْ أَنْ يَكُونَ التّارِيخُ مِنْ عَامِ الْهِجْرَةِ لِأَنّهُ الْوَقْتُ الّذِي عَزّ فِيهِ الْإِسْلَامُ وَاَلّذِي أُمّرَ فِيهِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأَسّسَ الْمَسَاجِدَ . وَعَبَدَ اللّهَ آمِنًا كَمَا يُحِبّ ، فَوَافَقَ رَأْيَهُمْ هَذَا ظَاهِرُ التّنْزِيلِ وَفَهِمْنَا الْآنَ بِفِعْلِهِمْ أَنّ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ { مِنْ أَوّلِ يَوْمٍ } أَنّ ذَلِكَ الْيَوْمَ هُوَ أَوّلُ أَيّامِ التّارِيخِ الّذِي يُؤَرّخُ بِهِ الْآنَ فَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخَذُوا هَذَا مِنْ الْآيَةِ فَهُوَ الظّنّ بِأَفْهَامِهِمْ فَهُمْ أَعْلَمُ النّاسِ بِكِتَابِ اللّهِ وَتَأْوِيلِهِ وَأَفْهَمُهُمْ بِمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ إشَارَاتٍ وَإِفْصَاحٍ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَنْ رَأْيٍ وَاجْتِهَادٍ فَقَدْ عُلِمَ ذَلِكَ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَكُونُوا وَأَشَارَ إلَى صِحّتِهِ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَ إذْ لَا يُعْقَلُ قَوْلُ الْقَائِلِ فَعَلْته أَوّلَ يَوْمٍ إلّا بِإِضَافَةِ إلَى عَامٍ مَعْلُومٍ أَوْ شَهْرٍ مَعْلُومٍ أَوْ تَارِيخٍ مَعْلُومٍ وَلَيْسَ هَاهُنَا إضَافَةٌ فِي الْمَعْنَى إلّا إلَى هَذَا التّارِيخِ الْمَعْلُومِ لِعَدَمِ الْقَرَائِنِ الدّالّةِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ قَرِينَةِ لَفْظٍ أَوْ قَرِينَةِ حَالٍ فَتَدَبّرْهُ فَفِيهِ مُعْتَبَرٌ لِمَنْ اذّكّرَ وَعِلْمٌ لِمَنْ رَأَى بِعَيْنِ فُؤَادِهِ وَاسْتَبْصَرَ وَالْحَمْدُ لِلّهِ .
مِنْ وَدُخُولُهَا عَلَى الزّمَانِ
وَلَيْسَ يَحْتَاجُ فِي قَوْلِهِ مِنْ أَوّلِ يَوْمٍ إلَى إضْمَارٍ كَمَا قَرّرَهُ بَعْضُ النّحَاةِ مِنْ تَأْسِيسِ أَوّلِ يَوْمٍ فِرَارًا مِنْ دُخُولِ مِنْ عَلَى الزّمَانِ وَلَوْ لَفَظَ بِالتّأْسِيسِ لَكَانَ مَعْنَاهُ مِنْ وَقْتِ تَأْسِيسِ أَوّلِ يَوْمٍ فَإِضْمَارُهُ لِلتّأْسِيسِ لَا يُفِيدُ شَيْئًا ، وَمِنْ تَدْخُلُ عَلَى الزّمَانِ وَغَيْرِهِ فَفِي التّنْزِيلِ [ ص 334 ] { مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ } وَالْقَبْلُ وَالْبَعْدُ زَمَانٌ وَفِي الْحَدِيثِ مَا مِنْ دَابّةٍ إلّا وَهِيَ مُصِيخَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ حِينِ تَطْلُعُ الشّمْسُ إلَى أَنْ تَغْرُبَ وَفِي شِعْرِ النّابِغَةِ [ فِي وَصْفِ سُيُوفٍ ] :
تُوُرّثْنَ مِنْ أَزْمَانِ يَوْمِ حَلِيمَةَ
إلَى الْيَوْمِ قَدْ جَرّبْنَ كُلّ التّجَارِبِ
[ تَقُدّ السّلُوقِيّ الْمُضَاعَفَ نَسْجُهُ
وَيُوقِدْنَ بِالصّفّاحِ نَارَ الْحُبَاحِبِ ]
وَيُوقِدْنَ بِالصّفّاحِ نَارَ الْحُبَاحِبِ ] وَبَيْنَ مِنْ الدّاخِلَةِ عَلَى الزّمَانِ وَبَيْنَ مُنْذُ فَرْقٌ بَدِيعٌ قَدْ بَيّنّاهُ فِي شَرْحِ آيَةِ الْوَصِيّةِ .

الْقَبَائِلُ تَعْتَرِضُهُ لِيَنْزِلَ عِنْدَهَا
[ ص 334 ] فَأَتَاهُ عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ ، وَعَبّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ . أَقِمْ عِنْدَنَا فِي الْعَدَدِ وَالْعُدّةِ وَالْمَنَعَةِ قَالَ خَلّوا سَبِيلَهَا ، فَإِنّهَا مَأْمُورَةٌ ، لِنَاقَتِهِ فَخَلّوْا سَبِيلَهَا ، فَانْطَلَقَتْ حَتّى إذَا وَازَنَتْ دَارَ بَنِي بَيَاضَةَ ، تَلَقّاهُ زِيَادُ بْنُ لَبِيَدٍ ، وَفَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو ، فِي رِجَالٍ مِنْ بَنَى بَيَاضَةَ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ هَلُمّ إلَيْنَا ، إلَى الْعَدَدِ وَالْعُدّةِ وَالْمَنَعَةِ قَالَ خَلّوا سَبِيلَهَا ، فَإِنّهَا مَأْمُورَةٌ ، فَخَلّوْا سَبِيلَهَا . فَانْطَلَقَتْ حَتّى إذَا مَرّتْ بِدَارِ بَنِي سَاعِدَةَ اعْتَرَضَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ، وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو ، فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ هَلُمّ إلَيْنَا إلَى الْعَدَدِ وَالْعُدّةِ وَالْمَنَعَةِ قَالَ خَلّوا سَبِيلَهَا ، فَإِنّهَا مَأْمُورَةٌ ، فَخَلّوْا سَبِيلَهَا ، فَانْطَلَقَتْ حَتّى إذَا وَازَنَتْ دَارَ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، اعْتَرَضَهُ سَعْدُ بْنُ الرّبِيعِ ، وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ ، فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ هَلُمّ إلَيْنَا إلَى الْعَدَدِ وَالْعُدّةِ وَالْمَنَعَةِ قَالَ خَلّوا سَبِيلَهَا ، فَإِنّهَا مَأْمُورَةٌ ، فَخَلّوْا سَبِيلَهَا . فَانْطَلَقَتْ حَتّى إذَا مَرّتْ بِدَارِ بَنِي عَدِيّ بْنِ النّجّارِ وَهُمْ أَخْوَالُهُ دُنْيَا - أُمّ عَبْدِ الْمُطّلِبِ سَلْمَى بِنْتُ عَمْرٍو ، إحْدَى نِسَائِهِمْ - اعْتَرَضَهُ سَلِيطُ بْنُ قَيْسٍ ، وَأَبُو سَلِيطٍ أَسِيرَةُ بْنُ أَبِي خَارِجَةَ فِي رِجَالٍ مِنْ بَنِي [ ص 335 ] فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ هَلُمّ إلَى أَخْوَالِك ، إلَى الْعَدَدِ وَالْعُدّةِ وَالْمَنَعَةِ قَالَ خَلّوا سَبِيلَهَا ، فَإِنّهَا مَأْمُورَةٌ ، فَخَلّوْا سَبِيلَهَا ، فَانْطَلَقَتْ
مَبْرَكَ النّاقَةِ بِدَارِ بَنِي مَالِكِ بْنِ النّجّارِ
حَتّى إذَا أَتَتْ دَارَ بَنِي مَالِكِ بْنِ النّجّارِ ، بَرَكَتْ عَلَى بَابِ مَسْجِدِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مِرْبَدٌ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ مِنْ بَنِي النّجّارِ ثُمّ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ النّجّارِ وَهُمَا فِي حِجْرِ مُعَاذِ ابْنِ عَفْرَاءَ ، سَهْلٍ وَسُهَيْلٍ ابْنَيْ عَمْرٍو . فَلَمّا بَرَكَتْ - وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَيْهَا - لَمْ يَنْزِلْ وَثَبَتَ فَسَارَتْ غَيْرَ بَعِيدٍ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاضِعٌ لَهَا زِمَامَهَا لَا يُثْنِيهَا بِهِ ثُمّ الْتَفَتَتْ إلَى خَلْفِهَا فَرَجَعَتْ إلَى مَبْرَكِهَا أَوّلَ مَرّةٍ فَبَرَكَتْ فِيهِ ثُمّ تَحَلْحَلَتْ وَرَزَمَتْ وَوَضَعَتْ جِرَانَهَا ، فَنَزَلَ عَنْهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَاحْتَمَلَ أَبُو أَيّوبَ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ رَحْلَهُ فَوَضَعَهُ فِي بَيْتِهِ وَنَزَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسَأَلَ عَنْ الْمِرْبَدِ لِمَنْ هُوَ ؟ فَقَالَ لَهُ مُعَاذُ ابْنُ عَفْرَاءَ : [ ص 336 ] يَتِيمَانِ لِي ، وَسَأُرْضِيهِمَا مِنْهُ فَاِتّخَذَهُ مَسْجِدًا
Sتَحَلْحَلَ وَتَلَحْلَحَ
فَصْلٌ وَذَكَرَ لِقَاءَ كُلّ قَبِيلَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ لَهُ يَقُولُونَ هَلُمّ إلَيْنَا يَا رَسُولَ اللّهِ إلَى الْعَدَدِ وَالْعُدّةِ فَيَقُولُ خَلّوا سَبِيلَهَا فَإِنّهَا مَأْمُورَةٌ حَتّى بَرَكَتْ بِمَوْضِعِ مَسْجِدِهِ وَقَالَ [ ص 335 ] ابْنُ قُتَيْبَةَ عَلَى تَلَحْلَحَ أَيْ لَزِمَ مَكَانَهُ . وَلَمْ يَبْرَحْ وَأَنْشَدَ
أُنَاسٌ إذَا قِيلَ انْفِرُوا قَدْ أَتَيْتُمْ ... أَقَامُوا عَلَى أَثْقَالِهِمْ وَتَلَحْلَحُوا
قَالَ وَأَمّا تَحَلْحَلَ بِتَقْدِيمِ الْحَاءِ عَلَى اللّامِ فَمَعْنَاهُ زَالَ عَنْ مَوْضِعِهِ وَهَذَا الّذِي قَالَهُ قَوِيّ مِنْ جِهَةِ الِاشْتِقَاقِ فَإِنّ التّلَحْلُحَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ لَحِحَتْ عَيْنُهُ إذَا الْتَصَقَتْ وَهُوَ ابْنُ عَمّي لَحّا . وَأَمّا التّحَلْحُلُ فَاشْتِقَاقُهُ مِنْ الْحَلّ وَالِانْحِلَالِ بَيّنٌ لِأَنّهُ انْفِكَاكُ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنّ الرّوَايَةَ فِي سِيرَةِ ابْنِ إسْحَاقَ : تَحَلْحَلَتْ بِتَقْدِيمِ الْحَاءِ عَلَى اللّامِ وَهُوَ خِلَافُ الْمَعْنَى إلّا أَنْ يَكُونَ مَقْلُوبًا مِنْ تَلَحْلَحَتْ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ لُصِقَتْ بِمَوْضِعِهَا ، وَأَقَامَتْ عَلَى الْمَعْنَى الّذِي فَسّرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي تَلَحْلَحَتْ . وَأَمّا قَوْلُهُ وَرَزَمَتْ فَيُقَالُ رَزَمَتْ النّاقَةُ رُزُومًا إذَا أَقَامَتْ مِنْ الْكَلَالِ وَنُوقٌ رَزْمَى ، وَأَمّا أَرْزَمَتْ بِالْأَلِفِ فَمَعْنَاهُ رَغَتْ وَرَجَعَتْ فِي رُغَائِهَا ، وَيُقَالُ مِنْهُ أَرْزَمَ الرّعْدُ وَأَرْزَمْت الرّيحُ قَالَهُ صَاحِبُ الْعَيْنِ وَفِي غَيْرِ هَذِهِ السّيرَةِ أَنّهَا لَمّا أَلْقَتْ بِجِرَانِهَا فِي دَارِ بَنِي النّجّارِ جَعَلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ وَهُوَ جَبّارُ بْنُ صَخْرٍ يَنْخُسُهَا رَجَاءَ أَنْ تَقُومَ فَتَبْرُكَ فِي دَارِ بَنِي سَلِمَةَ ، فَلَمْ تَفْعَلْ .
الْمِرْبَدُ وَصَاحِبَاهُ
وَقَوْلُهُ كَانَ الْمَسْجِدُ مِرْبَدًا . الْمِرْبَدُ وَالْجَرِينُ [ وَالْجُرْنُ وَالْمِجْرَنُ ] وَالْمِسْطَحُ وَهُوَ [ ص 336 ] مِشْطَاحٌ وَالْجُوخَارُ وَالْبَيْدَرُ وَالْأَنْدَرُ لُغَاتٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ لِلْمَوْضِعِ الّذِي يُجْعَلُ فِيهِ الزّرْعُ وَالتّمْرُ لِلتّيْبِيسِ وَأَنْشَدَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْمِسْطَحِ [ لِتَمِيمِ بْنِ مُقْبِلٍ ] :
تَرَى الْأَمْعَزَ الْمَحْزُوّ فِيهِ كَأَنّهُ ... مِنْ الْحَرّ فِي نَحْرِ الظّهِيرَةِ مِسْطَحُ
قَالَ وَالْمَحْزُوّ مِنْ حَزَوْت الشّيْءَ إذَا أَظْهَرْته . وَالْمِسْطَحُ هُوَ بِالْفَارِسِيّةِ مِشْطَحٌ وَأَمّا الْمِسْطَحُ الّذِي ، هُوَ عُودُ الْخِبَاءِ فَعَرَبِيّةٌ . وَذَكَرَ أَنّ ذَلِكَ الْمِرْبَدَ كَانَ لِسَهْلِ وَسُهَيْلٍ ابْنَيْ عَمْرٍو يَتِيمَيْنِ فِي حِجْرِ مُعَاذِ ابْنِ عَفْرَاءَ وَلَمْ يَعْرِفْهُمَا بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا ، وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ : كَانَا يَتِيمَيْنِ فِي حِجْرِ أَسْعَدِ بْنِ زُرَارَةَ وَهُمَا ابْنَا رَافِعِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرِو بْنِ عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ شَهِدَ سُهَيْلٌ مِنْهُمَا بَدْرًا ، وَالْمَشَاهِدَ كُلّهَا ، وَمَاتَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ يَشْهَدُ سَهْلٌ بَدْرًا ، وَشَهِدَ غَيْرَهَا وَمَاتَ قَبْلَ أَخِيهِ سُهَيْلٍ .

الْمَسْجِدُ وَالْمَسْكَنُ
قَالَ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُبْنَى مَسْجِدًا ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى أَبِي أَيّوبَ حَتّى بَنَى مَسْجِدَهُ وَمَسَاكِنَهُ فَعَمِلَ فِيهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِيُرَغّبَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعَمَلِ فِيهِ فَعَمِلَ فِيهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ ، وَدَأَبُوا فِيهِ فَقَالَ قَائِلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
لَئِنْ قَعَدْنَا وَالنّبِيّ يَعْمَلُ ... لَذَاكَ مِنّا الْعَمَلُ الْمُضَلّلُ
[ ص 337 ]
لَا عَيْشَ إلّا عَيْشَ الْآخِرَهْ ... اللّهُمّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هَذَا كَلَامٌ وَلَيْسَ بِرَجَزِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَيَقُولُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا عَيْشَ إلّا عَيْشَ الْآخِرَةِ ، اللّهُمّ ارْحَمْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ
Sحَوْلَ بُنْيَانِ الْمَسْجِدِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ بُنْيَانَ الْمَسْجِدِ إلَى آخِرِ الْقِصّةِ وَفِي الصّحِيحِ أَنّهُ قَالَ يَا بَنِي النّجّارِ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ [ هَذَا ] حِينَ أَرَادَ أَنْ يَتّخِذَهُ مَسْجِدًا ، [ فَقَالُوا : لَا ، وَاَللّهِ لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إلّا إلَى اللّهِ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى فِي الصّحِيحِ أَيْضًا : ثُمّ دَعَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْغُلَامَيْنِ فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ لِيَتّخِذَهُ مَسْجِدًا ، فَقَالَا : بَلْ نَهَبُهُ لَك يَا رَسُولَ اللّهِ ثُمّ بَنَاهُ مَسْجِدًا وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيّ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِفِقْهِ وَهُوَ أَنّ الْبَائِعَ أَوْلَى بِتَسْمِيَةِ الثّمَنِ الّذِي يَطْلُبُهُ [ ص 337 ] قَالَ أَنَسٌ وَكَانَ فِي مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ نَخْلٌ وَخِرَبٌ وَمَقَابِرُ مُشْرِكِينَ فَأَمَرَ بِالْقُبُورِ فَنُبِشَتْ وَبِالْخِرَبِ فَسُوّيَتْ وَبِالنّخْلِ فَقُطِعَتْ وَيُرْوَى فِي هَذَا الْحَدِيثِ نَخْلٌ وَحَرْثٌ مَكَانَ قَوْلِهِ وَخِرَبٌ وَرُوِيَ عَنْ الشّفَاءِ بِنْتِ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْأَنْصَارِيّةِ قَالَتْ كَانَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ بَنَى الْمَسْجِدَ يَؤُمّهُ جِبْرِيلُ إلَى الْكَعْبَةِ وَيُقِيمُ لَهُ الْقِبْلَةَ

عَمّارٌ وَالْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ
قَالَ [ ص 338 ] فَدَخَلَ عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ ، وَقَدْ أَثْقَلُوهُ بِاللّبِنِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ قَتَلُونِي ، يَحْمِلُونَ عَلَيّ مَا لَا يَحْمِلُونَ . قَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرَأَيْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَنْفُضُ وَفْرَتَهُ بِيَدِهِ كَانَ رَجُلًا جَعْدًا ، وَهُوَ يَقُولُ وَيْحُ ابْنِ سُمَيّةَ ، لَيْسُوا بِاَلّذِينَ يَقْتُلُونَك ، إنّمَا تَقْتُلُك الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ
ارْتِجَازُ عَلِيّ
وَارْتَجَزَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ
لَا يَسْتَوِي مَنْ يَعْمُرُ الْمَسَاجِدَا ... يَدْأَبُ فِيهِ قَائِمًا وَقَاعِدَا
وَمَنْ يُرَى عَنْ الْغُبَارِ حَائِدَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : سَأَلْت غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ عَنْ هَذَا الرّجَزِ فَقَالُوا : بَلَغَنَا أَنّ عَلَيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ارْتَجَزَ بِهِ فَلَا يُدْرَى : أَهُوَ قَائِلُهُ أَمْ غَيْرُهُ .
مُشَادّةُ عَمّارٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَخَذَهَا عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ ، فَجَعَلَ يَرْتَجِزُ بِهَا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَلَمّا أَكْثَرَ ظَنّ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ إنّمَا يُعَرّضُ بِهِ فِيمَا حَدّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَكّائِيّ ، عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَقَدْ سَمّى ابْنُ إسْحَاقَ الرّجُلَ .
الرّسُولُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُوصِي بِعَمّارِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 339 ] فَقَالَ قَدْ سَمِعْت مَا تَقُولُ مُنْذُ الْيَوْمَ يَا ابْنَ سُمَيّةَ ، وَاَللّهِ إنّي لَأَرَانِي سَأَعْرِضُ هَذِهِ الْعَصَا لِأَنْفَكّ . قَالَ وَفِي يَدِهِ عَصًا . قَالَ فَغَضِبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ قَالَ " مَا لَهُمْ وَلِعَمّارِ يَدْعُوهُمْ إلَى الْجَنّةِ وَيَدْعُونَهُ إلَى النّارِ إنّ عَمّارًا جِلْدَةُ مَا بَيْنَ عَيْنِي وَأَنْفِي ، فَإِذَا بُلّ ذَلِكَ مِنْ الرّجُلِ فَلَمْ يُسْتَبَقْ فَاجْتَنِبُوهُ
Sوَذَكَرَ فِيهِ قَوْلَ الرّجُلِ لِعَمّارِ قَدْ سَمِعْت مَا تَقُولُ يَا ابْنَ سُمَيّةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَدْ سَمّى ابْنُ إسْحَاقَ الرّجُلَ وَكَرِهَ ابْنُ هِشَامٍ أَنّ يُسَمّيَهُ كَيْ لَا يُذْكَرَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِمَكْرُوهِ فَلَا يَنْبَغِي إذًا الْبَحْثُ عَلَى اسْمِهِ .
سُمَيّةُ أُمّ عَمّارٍ
وَسُمَيّةُ أُمّ عَمّارٍ وَقَدْ تَقَدّمَ التّعْرِيفُ بِهَا فِي الْهِجْرَةِ الْأُولَى وَنَبّهْنَا عَلَى غَلَطِ ابْنِ قُتَيْبَةَ فِيهَا فَإِنّهُ جَعَلَهَا وَسُمَيّةَ أُمّ زِيَادٍ وَاحِدَةً وَسُمَيّةُ أُمّ زِيَادٍ كَانَتْ لِلْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ الْمُتَطَبّبِ وَالْأُولَى : مَوْلَاةٌ لِبَنِي مَخْزُومٍ وَهِيَ سُمَيّةُ بِنْتُ خِبَاط ، كَمَا تَقَدّمَ وَكَانَ أَهْدَى سُمَيّةَ [ ص 338 ] مُلُوكِ الْيَمَنِ : يُقَالُ لَهُ أَبُو جَبْرٍ وَذَلِكَ أَنّهُ عَالَجَهُ مِنْ دَاءٍ كَانَ بِهِ فَبَرِئَ فَوَهَبَهَا لَهُ وَكَانَتْ قَبْلَ أَبِي جَبْرٍ لِمَلِكِ مِنْ مُلُوكِ الْفُرْسِ وَفَدَ عَلَيْهِ أَبُو جَبْرٍ فَأَهْدَاهَا إلَيْهِ الْمَلِكُ ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ ، وَفِي جَامِعِ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ أَنّ عَمّارًا كَانَ يَنْقُلُ فِي بُنْيَانِ الْمَسْجِدِ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَةً عَنْهُ وَلَبِنَةً عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَالنّاسُ يَنْقُلُونَ لَبِنَةً وَاحِدَةً فَقَالَ لَهُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِلنّاسِ أَجْرٌ وَلَك أَجْرَانِ وَآخِرُ زَادِك مِنْ الدّنْيَا شَرْبَةُ لَبَنٍ وَتَقْتُلُك الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ فَلَمّا قُتِلَ يَوْمَ صِفّينَ دَخَلَ عَمْرٌو عَلَى مُعَاوِيَةَ فَزِعًا ، فَقَالَ قُتِلَ عَمّارٌ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ فَمَاذَا ؟ فَقَالَ عَمْرٌو : سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَقُولُ تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ دُحِضْت فِي بَوْلِك ، أَنَحْنُ قَتَلْنَاهُ ؟ إنّمَا قَتَلَهُ مَنْ أَخْرَجَهُ ؟

إضَافَةُ بِنَاءِ أَوّلِ مَسْجِدٍ إلَى عَمّارٍ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَذَكَرَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ زَكَرِيّا ، عَنْ الشّعْبِيّ ، قَالَ إنّ أَوّلَ مَنْ بَنَى مَسْجِدًا عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ .
Sإضَافَةُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ إلَى عَمّارٍ
[ ص 339 ] وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِي عَمّارٍ وَهُوَ أَوّلُ مَنْ بَنَى لِلّهِ مَسْجِدًا عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ ، فَيُقَالُ كَيْفَ أَضَافَ إلَى عَمّارٍ بُنْيَانَ الْمَسْجِدِ وَقَدْ بَنَاهُ مَعَهُ النّاسُ ؟ فَيَقُولُ إنّمَا عَنَى بِهَذَا الْحَدِيثِ مَسْجِدَ قُبَاءٍ ، لِأَنّ عَمّارًا هُوَ الّذِي أَشَارَ عَلَى النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِبُنْيَانِهِ وَهُوَ جَمَعَ الْحِجَارَةَ لَهُ فَلَمّا أَسّسَهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اسْتَتَمّ بُنْيَانَهُ عَمّارٌ .
أَطْوَارُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ
كَذَلِكَ ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْهُ وَبُنِيَ مَسْجِدُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَسُقِفَ بِالْجَرِيدِ وَجُعِلَتْ قِبْلَتُهُ مِنْ اللّبِنِ وَيُقَالُ بَلْ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْضُودَةٍ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ وَجُعِلَتْ عُمُدُهُ مِنْ جُذُوعِ النّخْلِ فَنُخِرَتْ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ فَجَرّدَهَا ، فَلَمّا كَانَ عُثْمَانُ بَنَاهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ بِالْقَصّةِ وَسَقَفَهُ بِالسّاجِ وَجَعَلَ قِبْلَتَهُ مِنْ الْحِجَارَةِ فَلَمّا كَانَتْ أَيّامُ بَنِي الْعَبّاسِ بَنَاهُ مُحَمّدُ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ الْمُتَسَمّي بِالْمَهْدِيّ وَوَسّعَهُ وَزَادَ فِيهِ وَذَلِكَ فِي سَنَةِ سِتّينَ وَمِائَةٍ ثُمّ زَادَ فِيهِ الْمَأْمُونُ بْنُ الرّشِيدِ فِي سَنَةِ ثِنْتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ وَأَتْقَنَ بُنْيَانَهُ وَنَقَشَ فِيهِ هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللّهِ الْمَأْمُونُ فِي كَلَامٍ كَثِيرٍ كَرِهْت الْإِطَالَةَ بِذِكْرِهِ . ثُمّ لَمْ يَبْلُغْنَا أَنّ أَحَدًا غَيّرَ مِنْهُ شَيْئًا ، وَلَا أَحْدَثَ فِيهِ عَمَلًا .
بُيُوتُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَأَمّا بُيُوتُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ فَكَانَتْ تِسْعَةً بَعْضُهَا مِنْ جَرِيدٍ مُطَيّنٍ بِالطّينِ وَسَقْفُهَا جَرِيدٌ [ ص 340 ] وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ كُنْت أَدْخُلُ بُيُوتَ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ وَأَنَا غُلَامٌ مُرَاهِقٌ فَأَنَالُ السّقْفَ بِيَدِي ، وَكَانَتْ حُجَرُهُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - أَكْسِيَةٌ مِنْ شَعْرٍ مَرْبُوطَةٌ فِي خَشَبٍ عَرْعَرٍ وَفِي تَارِيخِ الْبُخَارِيّ أَنّ بَابَهُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - كَانَ يُقْرَعُ بِالْأَظَافِرِ أَيْ لَا حِلَقَ لَهُ وَلَمّا تُوُفّيَ أَزْوَاجُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ خُلِطَتْ الْبُيُوتُ وَالْحُجَرُ بِالْمَسْجِدِ وَذَلِكَ فِي زَمَنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَلَمّا وَرَدَ كِتَابُهُ بِذَلِكَ ضَجّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِالْبُكَاءِ كَيَوْمِ وَفَاتِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ وَكَانَ سَرِيرُهُ خَشَبَاتٌ مَشْدُودَةٌ بِاللّيفِ بِيعَتْ زَمَنَ بَنِي أُمَيّةَ فَاشْتَرَاهَا رَجُلٌ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ . وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّ بُيُوتَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ إذَا أُضِيفَتْ إلَيْهِ فَهِيَ إضَافَةُ مِلْكٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النّبِيّ } [ الْأَحْزَابُ : 53 ] وَإِذَا أُضِيفَتْ إلَى أَزْوَاجِهِ كَقَوْلِهِ { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنّ } [ الْأَحْزَابُ : 33 ] فَلَيْسَتْ بِإِضَافَةِ مِلْكٍ وَذَلِكَ أَنّ مَا كَانَ مِلْكًا لَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ فَلَيْسَ بِمَوْرُوثِ عَنْهُ .

الرّسُولُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي بَيْتِ أَبِي أَيّوبَ
[ ص 340 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي بَيْتِ أَبِي أَيّوبَ حَتّى بُنِيَ لَهُ مَسْجِدُهُ [ ص 341 ] أَبِي أَيّوبَ رَحْمَةُ اللّهِ عَلَيْهِ وَرِضْوَانُهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ ، عَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ الْيَزَنِيّ عَنْ أَبِي رُهْمٍ السّمّاعِيّ قَالَ حَدّثَنِي أَبُو أَيّوبَ قَالَ لَمّا نَزَلَ عَلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي بَيْتِي ، نَزَلَ فِي السّفْلِ وَأَنَا وَأُمّ أَيّوبَ فِي الْعُلُوّ فَقُلْت لَهُ يَا نَبِيّ اللّهِ بِأَبِي أَنْت وَأُمّي ، إنّي لَأَكْرَهُ وَأُعْظِمُ أَنْ أَكُونَ فَوْقَك ، وَتَكُونَ تَحْتِي ، فَاظْهَرْ أَنْتَ فَكُنْ فِي الْعُلُوّ وَنَنْزِلُ نَحْنُ فَنَكُونُ فِي السّفْلِ فَقَالَ يَا أَبَا أَيّوبَ إنّ أَرْفَقَ بِنَا وَبِمَنْ يَغْشَانَا ، أَنْ نَكُونَ فِي سُفْلِ الْبَيْتِ . قَالَ فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي سُفْلِهِ وَكُنّا فَوْقَهُ فِي الْمَسْكَنِ فَلَقَدْ انْكَسَرَ حُبّ لَنَا فِيهِ مَاءٌ فَقُمْت أَنَا وَأُمّ أَيّوبَ بِقَطِيفَةِ لَنَا ، مَا لَنَا لِحَافٌ غَيْرَهَا ، نُنَشّفُ بِهَا الْمَاءَ تَخَوّفًا أَنْ يَقْطُرَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْهُ شَيْءٌ فَيُؤْذِيهِ . قَالَ وَكُنّا نَصْنَعُ لَهُ الْعَشَاءَ ثُمّ نَبْعَثُ بِهِ إلَيْهِ فَإِذَا رَدّ عَلَيْنَا فَضْلَهُ تَيَمّمْت أَنَا وَأُمّ أَيّوبَ مَوْضِعَ يَدِهِ فَأَكَلْنَا مِنْهُ نَبْتَغِي بِذَلِكَ الْبَرَكَةَ ، حَتّى بَعَثْنَا إلَيْهِ لَيْلَةً بِعَشَائِهِ وَقَدْ جَعَلْنَا لَهُ بَصَلًا أَوْ ثُومًا ، فَرَدّهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَمْ أَرَ لِيَدِهِ فِيهِ أَثَرًا قَالَ فَجِئْته فَزِعًا ، فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي رَدَدْت عَشَاءَك وَلَمْ أَرَ فِيهِ مَوْضِعَ يَدِك ، وَكُنْت إذَا رَدَدْته عَلَيْنَا ، تَيَمّمْت أَنَا وَأُمّ أَيّوبَ مَوْضِعَ يَدِك ، نَبْتَغِي بِذَلِكَ الْبَرَكَةَ ؛ قَالَ إنّي وَجَدْت فِيهِ رِيحَ هَذِهِ الشّجَرَةِ ، وَأَنَا رَجُلٌ أُنَاجِي ، فَأَمّا أَنْتُمْ فَكُلُوهُ . قَالَ فَأَكَلْنَاهُ وَلَمْ نَصْنَعْ لَهُ تِلْكَ الشّجَرَةَ بَعْدُ
Sحُبّ حَبّابٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ حَدِيثَ أُمّ أَيّوبَ وَقَوْلَهَا : انْكَسَرَ حُبّ لَنَا . الْحُبّ جَرّةٌ كَبِيرَةٌ جَمْعُهُ [ أُحْبٌ وَحِبَابٌ ] حِبَبَةٌ مِثْلُ جُحْرٍ وَجِحَرَةٌ [ وَأَجْحَارٌ وَجُحْرٌ ] وَكَأَنّهُ أَخَذَ لَفْظَهُ مِنْ حِبَابِ الْمَاءِ أَوْ مِنْ حَبَبِهِ وَحَبَابِهِ بِالْأَلِفِ تَرَافُعُهُ . قَالَ الشّاعِرُ
كَأَنّ صَلَا جَهِيزَةَ حِينَ تَمْشِي ... حَبَابَ الْمَاءِ يَتّبِعُ الْحَبَابَا
وَالْحَبَبُ بِغَيْرِ أَلِفٍ نُفّاخَاتٌ بِيضٌ صِغَارٌ تَكُونُ عَلَى وَجْهِ الشّرَابِ قَالَهُ ابْنُ ثَابِتٍ .
الثّومُ
وَذَكَرَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لِأُمّ أَيّوبَ - حِينَ رَدّ عَلَيْهَا الثّرِيدَ مِنْ أَجْلِ الثّومِ أَنَا رَجُلٌ أُنَاجِي وَرَوَى غَيْرُهُ حَدِيثَ أُمّ أَيّوبَ وَقَالَ فِيهِ إنّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذّى بِمَا يَتَأَذّى بِهِ الْإِنْسُ وَرُوِيَ أَنّ خُصَيْفَ بْنَ الْحَارِثِ قَالَ رَأَيْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمَنَامِ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ الْحَدِيثُ الّذِي تَرْوِيهِ عَنْك أُمّ أَيّوبَ أَنّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذّى بِمَا يَتَأَذّى بِهِ الْإِنْسُ أَصَحِيحٌ هُوَ ؟ قَالَ نَعَمْ
مَصِيرُ مَنْزِلِ أَبِي أَيّوبَ
وَمَنْزِلُ أَبِي أَيّوبَ الّذِي نَزَلَ فِيهِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - تَصِيرُ بَعْدَهُ إلَى أَفْلَحَ مَوْلَى أَبِي أَيّوبَ [ ص 341 ] خَرِبَ وَتَثَلّمَتْ حِيطَانُهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ بَعْدَ حِيلَةٍ احْتَالَهَا عَلَيْهِ الْمُغِيرَةُ ذَكَرَهَا الزّبَيْرُ ثُمّ أَصْلَحَ الْمُغِيرَةُ مَا وَهَى مِنْهُ وَتَصَدّقَ بِهِ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ فُقَرَاءِ الْمَدِينَةِ ، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ ابْنُ أَفْلَحَ يَقُولُ لِلْمُغِيرَةِ خَدَعْتنِي ، فَيَقُولُ لَهُ الْمُغِيرَةُ لَا أَفْلَحَ مَنْ نَدِمَ . هَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ الزّبَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ .

تَلَاحُقُ الْمُهَاجِرِينَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَتَلَاحَقَ الْمُهَاجِرُونَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمْ يَبْقَ بِمَكّةَ مِنْهُمْ أَحَدٌ ، إلّا مَفْتُونٌ أَوْ مَحْبُوسٌ وَلَمْ يُوعِبْ أَهْلُ هِجْرَةٍ مِنْ مَكّةَ بِأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ إلَى اللّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَإِلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلّا أَهْلَ دُورٍ مُسَمّوْنَ بَنُو مَظْعُونٍ مِنْ جُمَحٍ [ ص 342 ] وَبَنُو جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ ، حُلَفَاءُ بَنِي أُمَيّةَ وَبَنُو الْبُكَيْرِ ، مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ حُلَفَاءُ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ ، فَإِنّ دُورَهُمْ غُلّقَتْ بِمَكّةَ هِجْرَةً لَيْسَ فِيهَا سَاكِنٌ .
قِصّةُ أَبِي سُفْيَانَ مَعَ بَنِي جَحْشٍ
وَلَمّا خَرَجَ بَنُو جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ مِنْ دَارِهِمْ عَدَا عَلَيْهَا أَبُو سُفْيَانَ بْن حَرْبٍ فَبَاعَهَا مِنْ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ أَخِي بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ ؛ فَلَمّا بَلَغَ بَنِي جَحْشٍ . مَا صَنَعَ أَبُو سُفْيَانَ بِدَارِهِمْ ذَكَرَ ذَلِكَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشٍ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلَا تَرْضَى يَا عَبْدَ اللّهِ أَنْ يُعْطِيَك اللّهُ بِهَا دَارًا خَيْرًا مِنْهَا فِي الْجَنّةِ ؟ قَالَ بَلَى ؛ قَالَ فَذَلِكَ لَك فَلَمّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ كَلّمَهُ أَبُو أَحْمَدَ فِي دَارِهِمْ فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ النّاسُ لِأَبِي أَحْمَدَ يَا أَبَا أَحْمَدَ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَكْرَهُ أَنْ تَرْجِعُوا فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِكُمْ أُصِيبَ مِنْكُمْ فِي اللّهِ عَزّ وَجَلّ فَأَمْسَكَ عَنْ كَلَامِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ لِأَبِي سُفْيَانَ
أَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنْ ... أَمْرٍ عَوَاقِبُهُ نَدَامَهْ
دَارُ ابْنِ عَمّك بِعْتهَا ... تَقْضِي بِهَا عَنْك الْغَرَامَهْ
وَحَلِيفُكُمْ بِاَللّهِ رَبّ ... النّاسِ مُجْتَهِدُ الْقَسَامَهْ
اذْهَبْ بِهَا ، اذْهَبْ بِهَا ... طُوّقْتَهَا طَوْقَ الْحَمَامَهْ
. [ ص 343 ]
انْتِشَارُ الْإِسْلَامِ وَمَنْ بَقِيَ عَلَى شِرْكِهِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْمَدِينَةِ إذْ قَدِمَهَا شَهْرَ رَبِيعٍ الْأَوّلِ إلَى صَفَرٍ مِنْ السّنَةِ الدّاخِلَةِ حَتّى بُنِيَ لَهُ فِيهَا مَسْجِدُهُ وَمَسَاكِنُهُ وَاسْتُجْمِعَ لَهُ إسْلَامُ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَلَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إلّا أَسْلَمَ أَهْلُهَا ، إلّا مَا كَانَ مِنْ خَطْمَةَ وَوَاقِفٍ وَوَائِلٍ وَأُمَيّةَ وَتِلْكَ أَوْسُ اللّهِ وَهُمْ حَيّ مِنْ الْأَوْسِ ، فَإِنّهُمْ أَقَامُوا عَلَى شِرْكِهِمْ .
Sمِنْ قِصّةِ أَبِي سُفْيَانَ مَعَ بَنِي جَحْشٍ
[ ص 342 ] وَذَكَرَ قَوْلَ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ جَحْشٍ لِأَبِي سُفْيَانَ
دَارُ ابْنِ عَمّك بِعْتهَا ... تَقْضِي بِهَا عَنْك الْغَرَامَهْ
اذْهَبْ بِهَا اذْهَبْ بِهَا ... طُوّقْتَهَا طَوْقَ الْحَمَامَهْ
أَبُو أَحْمَدَ هَذَا اسْمُهُ عَبْدٌ وَقِيلَ ثُمَامَةُ وَالْأَوّلُ أَصَحّ ، وَكَانَتْ عِنْدَهُ الْفَارِعَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ وَبِهَذَا السّبَبِ تَطَرّقَ أَبُو سُفْيَانَ إلَى بَيْعِ دَارِ بَنِي جَحْشٍ إذْ كَانَتْ بِنْتُهُ فِيهِمْ . مَاتَ أَبُو أَحْمَدَ بَعْدَ أُخْتِهِ زَيْنَبَ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ . وَقَوْلُهُ لِأَبِي سُفْيَانَ طُوّقْتَهَا طَوْقَ الْحَمَامَهْ مُنْتَزَعٌ مِنْ قَوْلِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ طُوّقَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ وَقَالَ طَوْقَ الْحَمَامَهْ لِأَنّ طَوْقَهَا لَا يُفَارِقُهَا [ ص 343 ] تُلْقِيهِ عَنْ نَفْسِهَا أَبَدًا ، كَمَا يَفْعَلُ مَنْ لَبِسَ طَوْقًا مِنْ الْآدَمِيّينَ فَفِي هَذَا الْبَيْتِ مِنْ السّمَانَةِ وَحَلَاوَةِ الْإِشَارَةِ وَمَلَاحَةِ الِاسْتِعَارَةِ مَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ وَفِي قَوْلِهِ طَوْقَ الْحَمَامَةِ رَدّ عَلَى مَنْ تَأَوّلَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ طُوّقَهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ أَنّهُ مِنْ الطّاقَةِ لَا مِنْ الطّوْقِ فِي الْعُنُقِ وَقَالَهُ الْخَطّابِيّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ مَعَ أَنّ الْبُخَارِيّ قَدْ رَوَاهُ فَقَالَ فِي بَعْضِ رِوَايَتِهِ لَهُ خُسِفَ بِهِ إلَى سَبْعِ أَرَضِينَ وَفِي مُسْنَدِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ : مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ جَاءَ بِهِ إسْطَامًا فِي عُنُقِهِ وَالْأَسْطَامُ كَالْحِلَقِ مِنْ الْحَدِيدِ وَسِطَامُ السّيْفِ حَدّهُ .

الْخُطْبَةُ الْأُولَى
وَكَانَتْ أَوّلُ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ - نَعُوذُ بِاَللّهِ أَنْ نَقُولَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا لَمْ يَقُلْ - أَنّهُ قَامَ فِيهِمْ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمّ قَالَ [ ص 344 ] أَمّا بَعْدُ أَيّهَا النّاسُ فَقَدّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ تَعَلّمُنّ وَاَللّهِ لَيُصْعَقَنّ أَحَدُكُمْ ثُمّ لَيَدَعَنّ غَنَمَهُ لَيْسَ لَهَا رَاعٍ . ثُمّ لَيَقُولَنّ لَهُ رَبّهُ وَلَيْسَ لَهُ تُرْجُمَانٌ وَلَا حَاجِبٌ يَحْجُبُهُ دُونَهُ أَلَمْ يَأْتِك رَسُولِي فَبَلّغَك ، وَآتَيْتُك مَالًا وَأُفْضِلْ عَلَيْك ؟ فَمَا قَدّمْت لِنَفْسِك ؟ فَلَيَنْظُرَنّ يَمِينًا وَشِمَالًا فَلَا يَرَى شَيْئًا ، ثُمّ لَيَنْظُرَنّ قُدّامَهُ فَلَا يَرَى غَيْرَ جَهَنّمَ فَمَن اسْتَطَاعَ أَنْ يَقِيَ وَجْهَهُ مِنْ النّارِ وَلَوْ بِشِقّ مِنْ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ وَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةِ طَيّبَةٍ ، فَإِنّ بِهَا تُجْزَى الْحَسَنَةُ عَشْرَ أَمْثَالِهَا ، إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَالسّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ
Sالْخُطْبَةُ
فَصْلٌ وَذَكَرَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَفِيهَا يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ لِعَبْدِهِ أَلَمْ أُوتِكَ مَالًا وَأُفْضِلْ عَلَيْك ، فَمَاذَا قَدّمْت وَفِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ زِيَادَةٌ وَهِيَ أَلَمْ أُوتِكَ مَالًا ، وَجَعَلْتُك تَرْبَعُ وَتَدْسَعُ ؟ وَفَسّرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيّ فَقَالَ هُوَ مَثَلٌ وَأَصْلُهُ أَنّ الرّئِيسَ مِنْ الْعَرَبِ كَانَ يَرْبَعُ قَوْمَهُ أَيْ يَأْخُذُ الْمِرْبَاعَ إذَا غَزَا وَيَدْسَعُ أَيْ يُعْطِي وَيَدْفَعُ مِنْ الْمَالِ لِمَنْ شَاءَ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فُلَانٌ ضَخْمُ الدّسِيعَةِ .

الْخُطْبَةُ الثّانِيَةُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ خَطَبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّاسَ مَرّةً أُخْرَى ، فَقَالَ إنّ الْحَمْدَ لِلّهِ أَحْمَدُهُ وَأَسْتَعِينُهُ ، نَعُوذُ بِاَللّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ، وَسَيّئَاتِ أَعْمَالِنَا ، مَنْ يَهْدِهِ اللّهُ فَلَا مُضِلّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ . إنّ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَيّنَهُ اللّهُ فِي قَلْبِهِ وَأَدْخَلَهُ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الْكُفْرِ وَاخْتَارَهُ عَلَى مَا سِوَاهُ مِنْ أَحَادِيثِ النّاسِ إنّهُ أَحْسَنُ الْحَدِيثِ وَأَبْلَغُهُ أَحِبّوا ، مَا أَحَبّ اللّهُ أَحِبّوا اللّهَ مِنْ كُلّ قُلُوبِكُمْ وَلَا تَمَلّوا كَلَامَ اللّهِ وَذِكْرَهُ وَلَا تَقْسُ عَنْهُ قُلُوبُكُمْ فَإِنّهُ مِنْ كُلّ مَا يَخْلُقُ اللّهُ يَخْتَارُ وَيَصْطَفِي ، قَدْ سَمّاهُ اللّهُ خِيرَتَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ وَمُصْطَفَاهُ مِنْ الْعِبَادِ الصّالِحَ الْحَدِيثَ وَمِنْ كُلّ مَا أُوتِيَ النّاسُ مِنْ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فَاعْبُدُوا اللّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وَاتّقُوهُ حَقّ تُقَاتِهِ وَاصْدُقُوا اللّهَ صَالِحَ مَا تَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ وَتَحَابّوا بِرُوحِ اللّهِ بَيْنَكُمْ إنّ اللّهَ يَغْضَبُ أَنْ يُنْكَثَ عَهْدُهُ وَالسّلَامُ عَلَيْكُمْ [ ص 345 ]
Sالْحُبّ
[ ص 344 ] وَذَكَرَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الثّانِيَةَ وَفِيهَا : أَحِبّوا اللّهَ مِنْ كُلّ قُلُوبِكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَغْرِقَ حُبّ اللّهِ جَمِيعَ أَجْزَاءِ الْقَلْبِ فَيَكُونُ ذِكْرُهُ وَعَمَلُهُ خَارِجًا مِنْ قَلْبِهِ خَالِصًا لِلّهِ وَإِضَافَةُ الْحُبّ إلَى اللّهِ تَعَالَى مِنْ عَبْدِهِ مَجَازٌ حَسَنٌ لِأَنّ حَقِيقَةَ الْمَحَبّةِ إرَادَةٌ يُقَارِنُهَا اسْتِدْعَاءٌ لِلْمَحْبُوبِ إمّا بِالطّبْعِ وَإِمّا بِالشّرْعِ وَقَدْ كَشَفْنَا مَعْنَاهَا بِغَايَةِ الْبَيَانِ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ إنّ اللّهَ [ تَعَالَى ] جَمِيلٌ يُحِبّ الْجَمَالَ وَنَبّهْنَا هُنَالِكَ عَلَى تَقْصِيرِ أَبِي الْمَعَالِي رَحِمَهُ اللّهُ فِي شَرْحِ الْمَحَبّةِ فِي كِتَابِ الْإِرَادَةِ مِنْ كِتَابِ الشّامِلِ فَلْتَنْظُرْ هُنَالِكَ .
مِنْ شَرْحِ الْخُطْبَةِ
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لَا تَمَلّوا كَلَامَ اللّهِ وَذِكْرَهُ فَإِنّهُ مِنْ كُلّ مَا يَخْلُقُ اللّهُ يَخْتَارُ وَيَصْطَفِي . الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ فَإِنّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَائِدَةً عَلَى كَلَامِ اللّهِ سُبْحَانَهُ وَلَكِنّهَا [ ص 345 ] قَالَ إنّ الْحَدِيثَ مِنْ كُلّ مَا يَخْلُقُ اللّهُ يَخْتَارُ فَالْأَعْمَالُ إذًا كُلّهَا مِنْ خَلْقِ اللّهِ قَدْ اخْتَارَ مِنْهَا مَا شَاءَ قَالَ سُبْحَانَهُ { وَرَبّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ } [ الْقَصَصُ 68 ] ، وَقَوْلُهُ قَدْ سَمّاهُ خِيرَتَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ يَعْنِي : الذّكْرَ وَتِلَاوَةَ الْقُرْآنِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { وَيَخْتَارُ } فَقَدْ اخْتَارَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ . وَقَوْلُهُ وَالْمُصْطَفَى مِنْ عِبَادِه أَيْ وَسُمّيَ الْمُصْطَفَى مِنْ عِبَادِهِ بِقَوْلِهِ { اللّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النّاسِ } [ الْحَجّ : 75 ] وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ الْمُصْطَفَى مِنْ عِبَادِهِ أَيْ الْعَمَلُ الّذِي اصْطَفَاهُ مِنْهُمْ وَاخْتَارَهُ مِنْ أَعْمَالِهِمْ فَلَا تَكُونُ مِنْ عَلَى هَذَا لِلتّبْعِيضِ إنّمَا تَكُونُ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ لِأَنّهُ عَمَلٌ اسْتَخْرَجَهُ مِنْهُمْ بِتَوْفِيقِهِ إيّاهُمْ . وَالتّأْوِيلُ الْأَوّلُ أَقْرَبُ مَأْخَذًا وَاَللّهُ أَعْلَمُ بِمَا أَرَادَ رَسُولَهُ . وَقَوْلُهُ فِي أَوّلِ الْخُطْبَةِ إنّ الْحَمْدَ لِلّهِ أَحْمَدُهُ هَكَذَا بِرَفْعِ الدّالِ مِنْ قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلّهِ وَجَدْته مُقَيّدًا مُصَحّحًا عَلَيْهِ وَإِعْرَابُهُ لَيْسَ عَلَى الْحِكَايَةِ وَلَكِنْ عَلَى إضْمَارِ الْأَمْرِ كَأَنّهُ قَالَ إنّ الْأَمْرَ الّذِي أَذْكُرُهُ وَحَذَفَ الْهَاءَ الْعَائِدَةَ عَلَى الْأَمْرِ كَيْ لَا يُقَدّمَ شَيْئًا فِي اللّفْظِ مِنْ الْأَسْمَاءِ عَلَى قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلّهِ وَلَيْسَ تَقْدِيمُ إنّ فِي اللّفْظِ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ الْأَسْمَاءِ لِأَنّهَا حَرْفٌ مُؤَكّدٌ لِمَا بَعْدَهُ مَعَ مَا فِي اللّفْظِ مِنْ التّحَرّي لِلَفْظِ الْقُرْآنِ وَالتّيَمّنِ بِهِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَكَانَتْ خُطْبَتُهُ فِي تِلْكَ الْأَيّامِ عَلَى جِذْعٍ فَلَمّا صُنِعَ لَهُ الْمِنْبَرُ مِنْ طَرْفَاءِ الْغَابَةِ ، وَصَنَعَهُ لَهُ عَبْدٌ لِامْرَأَةِ مِنْ الْأَنْصَارِ اسْمُهُ بَاقُومٌ خَارَ الْجِذْعُ خُوَارَ النّاقَةِ الْخَلُوجِ حَتّى نَزَلَ عَلَيْهِ السّلَامُ فَالْتَزَمَهُ وَقَالَ لَوْ لَمْ أَلْتَزِمْهُ مَا زَالَ يَخُورُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمّ دَفَنَهُ وَإِنّمَا دَفَنَهُ لِأَنّهُ قَدْ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُؤْمِنِ لَحُبّهِ وَحَنِينِهِ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهَذَا يُنْظَرُ إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { كَشَجَرَةٍ طَيّبَةٍ } [ إبْرَاهِيمُ 24 ] الْآيَةُ وَإِلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي النّخْلَةِ مَثَلُهَا كَمَثَلِ الْمُؤْمِنِ وَحَدِيثُ خُوَارِ الْجِذْعِ وَحَنِينِهِ مَنْقُولٌ نَقْلَ التّوَاتُرِ لِكَثْرَةِ مَنْ شَاهَدَ خُوَارَهُ مِنْ الْخَلْقِ وَكُلّهُمْ نَقَلَ ذَلِكَ أَوْ سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَلَمْ يُنْكِرْهُ .

كِتَابُ الْمُوَادَعَةِ لِلْيَهُودِ
[ ص 346 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَتَبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كِتَابًا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، وَادَعَ فِيهِ يَهُودَ وَعَاهَدَهُمْ وَأَقَرّهُمْ عَلَى دِينِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَشَرَطَ لَهُمْ وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمّدٍ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَثْرِبَ ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ فَلَحِقَ بِهِمْ وَجَاهَدَ مَعَهُمْ إنّهُمْ أُمّةٌ وَاحِدَةٌ [ ص 347 ] الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ بَيْنَهُمْ وَهُمْ يَفْدُونَ عَانِيهمْ بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَنُو عَوْفٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى ، كُلّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَنُو سَاعِدَةَ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ [ ص 348 ] الْأُولَى ، وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ نَفْدِي عَانِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وبنو الْحَارِثِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى ، وَكُلّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَنُو جُشَمٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى ، وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَنُو النّجّارِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى ، وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى ، وَكُلّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَنُو النّبِيتِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى ، وَكُلّ طَائِفَةٍ تَفْدِي عَانِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَبَنُو الْأَوْسِ عَلَى رِبْعَتِهِمْ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى ، وَكُلّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ تَفْدِي عَانِيهَا بِالْمَعْرُوفِ وَالْقِسْطِ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَتْرُكُونَ مُفْرَحًا بَيْنَهُمْ أَنْ يُعْطُوهُ بِالْمَعْرُوفِ فِي فِدَاءٍ أَوْ عَقْلٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْمُفْرَحُ الْمُثْقَلُ بِالدّيْنِ وَالْكَثِيرُ الْعِيَالِ . قَالَ الشّاعِرُ
إذا أَنْتَ لَمْ تَبْرَحْ تُؤَدّي أَمَانَةً
وَتَحْمِلُ أُخْرَى أَفْرَحَتْك الْوَدَائِعُ
وَأَنْ لَا يُحَالِفَ مُؤْمِنٌ مَوْلَى مُؤْمِنٍ دُونَهُ وَأَنّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتّقِينَ عَلَى مَنْ بَغَى مِنْهُمْ أَوْ ابْتَغَى دَسِيعَةَ ظُلْمٍ أَوْ إثْمٍ أَوْ عُدْوَانٍ ، أَوْ فَسَادٍ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنّ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِ جَمِيعًا ، وَلَوْ [ ص 349 ] كَانَ وَلَدَ أَحَدِهِمْ وَلَا يَقْتُلُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنًا فِي كَافِرٍ وَلَا يَنْصُرُ كَافِرًا عَلَى مُؤْمِنٍ وَإِنّ ذِمّةَ اللّهِ وَاحِدَةٌ يُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ مَوَالِي بَعْضٍ دُونَ النّاسِ وَإِنّهُ مَنْ تَبِعَنَا مِنْ يَهُودَ فَإِنّ لَهُ النّصْرَ وَالْأُسْوَةَ غَيْرَ مَظْلُومِينَ وَلَا مُتَنَاصِرِينَ عَلَيْهِمْ وَإِنّ سِلْمَ الْمُؤْمِنِينَ وَاحِدَةٌ لَا يُسَالَمُ مُؤْمِنٌ دُونَ مُؤْمِنٍ فِي قِتَالٍ . فِي سَبِيلِ اللّهِ إلّا عَلَى سَوَاءٍ وَعَدْلٍ بَيْنَهُمْ وَإِنّ كُلّ غَازِيَةٍ غَزَتْ مَعَنَا يَعْقُبُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ يُبِيءُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِمَا نَالَ دِمَاءَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتّقِينَ عَلَى أَحْسَنِ هَدْيٍ وَأَقْوَمِهِ وَإِنّهُ لَا يُجِيرُ مُشْرِكٌ مَالًا لِقُرَيْشِ وَلَا نَفْسًا ، وَلَا يَحُولُ دُونَهُ عَلَى مُؤْمِنٍ وَإِنّهُ مَنْ اعْتَبَطَ مُؤْمِنًا قَتْلًا عَنْ بَيّنَةٍ فَإِنّهُ قُوّدَ بِهِ إلّا أَنْ يَرْضَى وَلِيّ الْمَقْتُولِ وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ كَافّةً وَلَا يَحِلّ لَهُمْ إلّا قِيَامٌ عَلَيْهِ وَإِنّهُ لَا يَحِلّ لِمُؤْمِنِ أَقَرّ بِمَا فِي هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَآمَنَ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَنْصُرَ مُحْدِثًا ، وَلَا يُؤْوِيهِ وَأَنّهُ مَنْ نَصَرَهُ أَوْ آوَاهُ فَإِنّ عَلَيْهِ لَعْنَةَ اللّهِ وَغَضَبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلَا عَدْلٌ وَإِنّكُمْ مَهْمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَإِنّ مَرَدّهُ إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَإِلَى مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِنّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارَبِينَ وَإِنّ يَهُودَ بَنِي عَوْفٍ أُمّةٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ لِلْيَهُودِ دِينُهُمْ وَلِلْمُسْلِمِينَ دِينُهُمْ مَوَالِيهمْ وَأَنْفُسُهُمْ إلّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنّهُ لَا يُوتِغُ إلّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي النّجّارِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي الْحَارِثِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي سَاعِدَةَ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي جُشَمٍ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي الْأَوْسِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ وَإِنّ لِيَهُودِ بَنِي ثَعْلَبَةَ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ إلّا مَنْ ظَلَمَ وَأَثِمَ فَإِنّهُ لَا يُوتِغُ إلّا نَفْسَهُ وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَإِنّ جَفْنَةَ بَطْنٍ مِنْ ثَعْلَبَةَ كَأَنْفُسِهِمْ وَإِنّ لِبَنِي الشّطَيْبَةِ مِثْلَ مَا لِيَهُودِ بَنِي عَوْفٍ وَإِنّ الْبِرّ دُونَ الْإِثْمِ وَإِنّ مَوَالِيَ ثَعْلَبَةَ كَأَنْفُسِهِمْ وَإِنّ بِطَانَةَ يَهُودَ كَأَنْفُسِهِمْ وَإِنّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ إلّا بِإِذْنِ مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِنّهُ لَا يَنْحَجِزُ عَلَى ثَأْرِ جُرْحٍ وَإِنّهُ مَنْ فَتَكَ فَبِنَفْسِهِ فَتَكَ وَأَهْلِ بَيْتِهِ إلّا مَنْ ظَلَمَ وَإِنّ اللّهَ عَلَى أَبَرّ هَذَا ، وَإِنّ عَلَى الْيَهُودِ نَفَقَتَهُمْ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ نَفَقَتَهُمْ وَإِنّ بَيْنَهُمْ النّصْرَ عَلَى مَنْ حَارَبَ أَهْلَ هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَإِنّ بَيْنَهُمْ النّصْحَ وَالنّصِيحَةَ وَالْبِرّ دُونَ الْإِثْمِ وَإِنّهُ لَمْ يَأْثَمْ امْرِئِ بِحَلِيفِهِ وَإِنّ النّصْرَ لِلْمَظْلُومِ وَإِنّ الْيَهُودَ يُنْفِقُونَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مَا دَامُوا مُحَارِبِينَ وَإِنّ يَثْرِبَ حَرَامٌ جَوْفُهَا لِأَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَإِنّ الْجَارَ كَالنّفْسِ غَيْرُ مُضَارٍ وَلَا آثِمٌ وَإِنّهُ لَا يُجَارُ حُرْمَةٌ إلّا بِإِذْنِ أَهْلِهَا ، وَإِنّهُ مَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ مِنْ حَدَثٍ أَوْ اشْتِجَارٍ يُخَافُ فَسَادُهُ فَإِنّ مَرَدّهُ [ ص 350 ] عَزّ وَجَلّ وَإِلَى مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِنّ اللّهَ عَلَى أَتْقَى مَا فِي هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَأَبَرّهِ وَإِنّهُ لَا تُجَارُ قُرَيْشٌ وَلَا مَنْ نَصَرَهَا ، وَإِنّ بَيْنَهُمْ النّصْرَ عَلَى مَنْ دَهَمَ يَثْرِبَ ، وَإِذَا دُعُوا إلَى صُلْحٍ يُصَالِحُونَهُ وَيَلْبَسُونَهُ فَإِنّهُمْ يُصْلِحُونَهُ وَيَلْبَسُونَهُ وَإِنّهُمْ إذَا دُعُوا إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنّهُ لَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إلّا مَنْ حَارَبَ فِي الدّينِ عَلَى كُلّ أُنَاسٍ حِصّتُهُمْ مِنْ جَانِبِهِمْ الّذِي قَبْلَهُمْ وَإِنّ يَهُودَ الْأَوْسِ ، مَوَالِيهمْ وَأَنْفُسُهُمْ عَلَى مِثْلِ مَا لِأَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ مَعَ الْبِرّ الْمَحْضِ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ مَعَ الْبِرّ الْمُحَسّنِ مِنْ أَهْلِ هَذِهِ الصّحِيفَةِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وإَنّ الْبِرّ دُونَ الْإِثْمِ لَا يَكْسِبُ كَاسِبٌ إلّا عَلَى نَفْسِهِ وَإِنّ اللّهَ عَلَى أَصْدَقِ مَا فِي هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَأَبَرّهِ وَإِنّهُ لَا يَحُولُ هَذَا الْكِتَابُ دُونَ ظَالِمٍ وَآثِمٍ وَإِنّهُ مَنْ خَرَجَ آمِنٌ وَمَنْ قَعَدَ آمِنٌ بِالْمَدِينَةِ إلّا مَنْ ظَلَمَ أَوْ أَثِمَ وَإِنّ اللّهَ جَارٌ لِمَنْ بَرّ وَاتّقَى ، وَمُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
Sكِتَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْيَهُودِ
[ ص 346 ] شَرَطَ لَهُمْ فِيهِ وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ وَأَمّنَهُمْ فِيهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَكَانَتْ أَرْضُ يَثْرِبَ لَهُمْ قَبْلَ نُزُولِ الْأَنْصَارِ بِهَا ، فَلَمّا كَانَ سَيْلُ الْعَرِمِ ، وَتَفَرّقَتْ سَبَأٌ نَزَلَتْ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ بِأَمْرِ طَرِيفَةَ الْكَاهِنَةِ وَأَمْرِ عِمْرَانَ بْنِ عَامِرٍ فَإِنّهُ كَانَ كَاهِنًا أَيْضًا وَبِمَا سَجَعَتْ بِهِ لِكُلّ قَبِيلَةٍ مِنْ سَبَأٍ ، فَسَجَعَتْ لِبَنِي حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ . وَهُمْ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ أَنْ يَنْزِلُوا يَثْرِبَ ذَاتَ النّخْلِ فَنَزَلُوهَا عَلَى يَهُودَ وَحَالَفُوهُمْ وَأَقَامُوا مَعَهُمْ فَكَانَتْ الدّارُ وَاحِدَةً .
مَتَى دَخَلَ الْيَهُودُ يَثْرِبَ ؟
وَالسّبَبُ فِي كَوْنِ الْيَهُودِ بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ وَسَطَ أَرْضِ الْعَرَبِ مَعَ أَنّ الْيَهُودَ أَصْلُهُمْ مِنْ أَرْضِ كَنْعَانَ أَنّ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَتْ تُغِيرُ عَلَيْهِمْ الْعَمَالِيقُ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ ، وَكَانَتْ مَنَازِلُهُمْ يَثْرِبَ وَالْجُحْفَةَ إلَى مَكّةَ ، فَشَكَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ ذَلِكَ إلَى مُوسَى ، فَوَجّهَ إلَيْهِمْ جَيْشًا ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوهُمْ وَلَا يُبْقُوا مِنْهُمْ أَحَدًا ، فَفَعَلُوا وَتَرَكُوا مِنْهُمْ ابْنَ مَلِكٍ لَهُمْ كَانَ غُلَامًا حَسَنًا ، فَرَقّوا لَهُ وَيُقَالُ لِلْمَلِكِ الْأَرْقَمُ بْنُ أَبِي الْأَرْقَمِ فِيمَا ذَكَرَ الزّبَيْرُ ثُمّ رَجَعُوا إلَى الشّامِ وَمُوسَى قَدْ مَاتَ فَقَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ لَهُمْ قَدْ عَصَيْتُمْ وَخَالَفْتُمْ فَلَا نُئْوِيكُمْ فَقَالُوا : نَرْجِعُ إلَى الْبِلَادِ الّتِي غَلَبْنَا عَلَيْهَا فَنَكُونُ بِهَا ، فَرَجَعُوا إلَى يَثْرِبَ ، فَاسْتَوْطَنُوهَا وَتَنَاسَلُوا بِهَا إلَى أَنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ بَعْدَ سَيْلِ الْعَرِمِ . هَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابِهِ الْكَبِيرِ الْمَعْرُوفِ بِكِتَابِ الْأَغَانِي ، وَإِنْ كَانَ الزّبَيْرُ قَدْ ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي أَخْبَارِ الْمَدِينَةِ ، وَلَا أَحْسَبُ هَذَا صَحِيحًا لِبُعْدِ عُمْرِ مُوسَى عَلَيْهِ السّلَامُ وَاَلّذِي قَالَ غَيْرُهُ إنّ طَائِفَةً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ لَحِقَتْ بِأَرْضِ الْحِجَازِ حِينَ دَوّخَ بُخْتُ نَصّرَ الْبَابِلِيّ فِي بِلَادهمْ وَجَاسَ خِلَالَ دِيَارِهِمْ فَحِينَئِذٍ لَحِقَ مَنْ لَحِقَ مِنْهُمْ بِالْحِجَازِ كَقُرَيْظَةَ وَالنّضِيرِ وَسَكَنُوا خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةَ ، وَهَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرَ الطّبَرِيّ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
اسْمُ يَثْرِبَ
[ ص 347 ] يَثْرِبُ فَاسْمُ رَجُلٍ نَزَلَ بِهَا أَوّلَ مِنْ الْعَمَالِيقِ فَعُرِفَتْ بِاسْمِهِ وَهُوَ يَثْرِبُ بْنُ قاين بْن عِبِيلِ بْنِ مهلايل بْنِ عَوَصِ بْنِ عِمْلَاقِ بْنِ لَاوَذِ بْنِ إرَمَ ، وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ اخْتِلَافٌ وَبَنُو عِبِيلٍ هُمْ الّذِينَ سَكَنُوا الْجُحْفَةَ فَأَجْحَفَتْ بِهِمْ السّيُولُ وَبِذَلِكَ سُمّيَتْ الْجُحْفَةَ ، فَلَمّا احْتَلّهَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَرِهَ لَهَا هَذَا الِاسْمَ أَعْنِي : يَثْرِبَ لِمَا فِيهِ مِنْ لَفْظِ التّثْرِيبِ وَسَمّاهَا طِيبَةَ وَالْمَدِينَةَ . فَإِنْ قُلْت : وَكَيْفَ كَرِهَ اسْمًا ذَكَرَهَا اللّهُ فِي الْقُرْآنِ بِهِ وَهُوَ الْمُقْتَدِي بِكِتَابِ اللّهِ وَأَهْلٌ أَنْ لَا يَعْدِلَ عَنْ تَسْمِيَةِ اللّهِ ؟ قُلْنَا : إنّ اللّهَ - سُبْحَانَهُ - إنّمَا ذَكَرَهَا بِهَذَا الِاسْمِ حَاكِيًا عَنْ الْمُنَافِقِينَ إذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ { يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ } [ الْأَحْزَابُ : 13 ] فَنَبّهَهُ بِمَا حَكَى عَنْهُمْ أَنّهُمْ قَدْ رَغِبُوا عَنْ اسْمٍ سَمّاهَا اللّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ وَأَبَوْا إلّا مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي جَاهِلِيّتِهِمْ وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ سَمّاهَا : الْمَدِينَةَ ، فَقَالَ غَيْرَ حَاكٍ عَنْ أَحَدٍ : { مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ } [ التّوْبَةُ 120 ] ، وَفِي الْخَبَرِ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ إنّا نَجِدُ فِي التّوْرَاةِ يَقُولُ اللّهُ لِلْمَدِينَةِ يَا طَابَةُ يَا طَيْبَةُ يَا مِسْكِينَةُ لَا تَقْبَلِي الْكُنُوزَ أَرْفَعْ أَجَاجِيرَكِ عَلَى أَجَاجِيرِ الْقُرَى وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ يَرْفَعُهُ وَرُوِيَ أَيْضًا أَنّ لَهَا فِي التّوْرَاةِ أَحَدَ عَشَرَ اسْمًا : الْمَدِينَةُ وَطَابَةُ وَطِيبَةُ وَالْمِسْكِينَةُ وَالْجَابِرَةُ وَالْمُحِبّةُ وَالْمَحْبُوبَةُ وَالْقَاصِمَةُ وَالْمَجْبُورَةُ وَالْعَذْرَاءُ وَالْمَرْحُومَةُ وَرُوِيَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ { وَقُلْ رَبّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ } [ الْإِسْرَاءُ 80 ] أَنّهَا الْمَدِينَةُ ، وَأَنّ مُخْرَجَ صِدْقٍ مَكّةُ وَ { سُلْطَانًا نَصِيرًا } الْأَنْصَارُ .
تَفْسِيرُ عَلَى رِبْعَاتِهِمْ
وَفِي الْكِتَابِ بَنُو فُلَانٍ عَلَى رِبْعَاتِهِمْ . هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ ابْنِ بُكَيْرٍ عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ [ مِنْ عُقَيْلٍ الْأَبْلِيّ ] عَنْ الزّهْرِيّ وَرَوَاهُ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ صَالِحٍ بِهَذَا الْإِسْنَادِ فَقَالَ رِبَاعَتِهِمْ . الْأَلِفُ بَعْدَ الْبَاءِ ثُمّ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : يُقَالُ فُلَانٌ عَلَى رِبَاعِهِ قَوْمُهُ إذَا كَانَ نَقِيبَهُمْ وَوَافِدَهُمْ . [ ص 348 ] قَالَ الْمُؤَلّفُ وَكَسْرُ الرّاءِ فِيهِ الْقِيَاسُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى ، لِأَنّهَا وِلَايَةٌ وَإِنْ جَعَلَ الرّبَاعَةَ مَصْدَرًا فَالْقِيَاسُ فَتْحُ الرّاءِ أَيْ عَلَى شَأْنِهِمْ وَعَادَتِهِمْ مِنْ أَحْكَامِ الدّيَاتِ وَالدّمَاءِ يَتَعَاقَلُونَ مَعَاقِلَهُمْ الْأُولَى : جَمْعُ : مَعْقَلَةٍ وَمَعْقَلَةٌ مِنْ الْعَقْلِ وَهُوَ الدّيَةُ .
مِنْ كَلِمَاتِ الْكِتَابِ
وَقَالَ فِي الْكِتَابِ وَأَلّا يُتْرَكَ مُفْرَحٌ وَفَسّرَهُ ابْنُ هِشَامٍ كَمَا فَسّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ أَنّهُ الّذِي أَثْقَلَهُ الدّيْنُ وَأَنْشَدَ الْبَيْتَ الّذِي أَنْشَدَهُ أَبُو عُبَيْدٍ :
إذَا أَنْتَ لَمْ تَبْرَحْ تُؤَدّي أَمَانَةً
وَتَحْمِلُ أُخْرَى أَفْرَحَتْك الْوَدَائِعُ
أَيْ أَثْقَلَتْك يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَفْعَالِ السّلْبِ أَيْ سَلَبَتْك الْفَرَحَ كَمَا قِيلَ أَقْسَطَ الرّجُلُ إذَا عَدَلَ أَيْ أَزَالَ الْقِسْطَ وَهُوَ الِاعْوِجَاجُ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ مُبْدَلَةً مِنْ بَاءٍ فَيَكُونُ مِنْ الْبَرْحِ وَهُوَ الشّدّةُ تَقُولُ لَقِيت مِنْ فُلَانٍ بَرْحًا أَيْ شِدّةً وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ رِوَايَةً أُخْرَى مُفْرَجٌ بِالْجِيمِ وَذَكَرَ فِي مَعْنَاهُ أَقْوَالًا ، مِنْهَا أَنّهُ الّذِي لَا دِيوَانَ لَهُ وَمِنْهَا : أَنّهُ الْقَتِيلُ بَيْنَ الْقَرْيَتَيْنِ لَا يُدْرَى مَنْ قَتَلَهُ وَمِنْهَا أَنّهُ فِي مَعْنَى الْمُقْرَحِ بِالْحَاءِ أَيْ الّذِي لَا شَيْءَ لَهُ وَقَدْ أَثْقَلَهُ الدّيْنُ أَوْ نَحْوَ هَذَا فَيُقْضَى عَنْهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ . [ ص 349 ] يُقَالُ وَتِغَ الرّجُلُ وَأَوْتَغَهُ غَيْرُهُ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ . وَمَعْنَى قَوْلِهِ يُبِيءُ هُوَ مِنْ الْبَوَاءِ أَيْ الْمُسَاوَاةُ وَمِنْهُ قَوْلُ مُهَلْهَلٍ حِينَ قَتَلَ ابْنًا لِلْحَارِثِ بْنِ عَبّادٍ بُؤْبِشِسْعِ نَعْلِ كُلَيْبٍ . [ ص 350 ] إنّ الْبِرّ دُونَ الْإِثْمِ أَيْ إنّ الْبِرّ وَالْوَفَاءَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَاجِزًا عَنْ الْإِثْمِ . وَقَوْلُهُ وَإِنّ اللّهَ عَلَى أَتْقَى مَا فِي هَذِهِ الصّحِيفَةِ وَأَبَرّهِ أَيْ إنّ اللّهَ وَحِزْبَهُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الرّضَى بِهِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ إنّمَا كَتَبَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - هَذَا الْكِتَابَ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الْجِزْيَةُ وَإِذْ كَانَ الْإِسْلَامُ ضَعِيفًا . قَالَ وَكَانَ لِلْيَهُودِ إذْ ذَاكَ نَصِيبٌ فِي الْمَغْنَمِ إذَا قَاتَلُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا شَرَطَ عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الْكِتَابِ النّفَقَةَ مَعَهُمْ فِي الْحُرُوبِ .

الْمُؤَاخَاةُ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَآخَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ ، فَقَالَ - فِيمَا بَلَغَنَا ، وَنَعُوذُ بِاَللّهِ أَنْ نَقُولَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ تَآخَوْا فِي اللّهِ أَخَوَيْنِ أَخَوَيْنِ ثُمّ أَخَذَ بِيَدِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، فَقَالَ هَذَا أَخِي فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَيّدَ الْمُرْسَلِينَ وَإِمَامَ [ ص 351 ] وَعَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَخَوَيْنِ وَكَانَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، أَسَدُ اللّهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَمّ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ ، مَوْلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخَوَيْنِ وَإِلَيْهِ أَوْصَى حَمْزَةُ يَوْمَ أُحُد ٍ حِينَ حَضَرَهُ الْقِتَالُ إنْ حَدَثَ بِهِ حَادِثُ الْمَوْتِ وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ذُو الْجَنَاحَيْنِ الطّيّارُ فِي الْجَنّةِ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ أَخَوَيْنِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَكَانَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَئِذٍ غَائِبًا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ وَخَارِجَةُ بْنُ زُهَيْرٍ ، أَخُو بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، أَخَوَيْنِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَعِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ ، أَخُو بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ أَخَوَيْنِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْجَرّاحِ وَاسْمُهُ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذِ بْنِ النّعْمَانِ ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ ، أَخَوَيْنِ . وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، وَسَعْدُ بْنُ الرّبِيعِ ، أَخُو بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، أَخَوَيْنِ . وَالزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ ، وَسَلَامَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقّشٍ أَخُو بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ أَخَوَيْنِ . وَيُقَالُ بَلْ الزّبَيْرُ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ ، حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ أَخَوَيْنِ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ ، وَأَوْسُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ الْمُنْذِرِ أَخُو بَنِي النّجّارِ أَخَوَيْنِ [ ص 352 ] وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ ، وَكَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ، أَخُو بَنِي سَلَمَةَ ، أَخَوَيْنِ . وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ ، وَأُبَيّ بْنُ كَعْبٍ ، أَخُو بَنِي النّجّارِ : أَخَوَيْنِ وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمٍ ، وَأَبُو أَيّوبَ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ ، أَخُو بَنِي النّجّارِ أَخَوَيْنِ وَأَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنُ رَبِيعَةَ وَعَبّادُ بْنُ بِشْرِ بْنِ وَقّشٍ ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ أَخَوَيْنِ . وَعَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ ، حَلِيفُ بَنِي مَخْزُومٍ وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ ، أَخُو بَنِي عَبْدِ عَبْسٍ حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ أَخَوَيْنِ وَيُقَالُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الشّمّاسِ أَخُو بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، خَطِيبُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ : أَخَوَيْنِ . وَأَبُو ذَرّ وَهُوَ بُرَيْرُ بْنُ جُنَادَةَ الْغِفَارِيّ وَالْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو ، الْمُعْنِقُ لِيَمُوتَ أَخُو بَنِي سَاعِدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ : أَخَوَيْنِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَسَمِعْت غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ أَبُو ذَرّ جُنْدُبُ بْنُ جُنَادَةَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بُلْتُعَةَ ، حَلِيفَ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى وَعُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ أَخَوَيْنِ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيّ ، وَأَبُو الدّرْدَاءِ ، عُوَيْمِرُ بْنُ ثَعْلَبَةَ أَخُو بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، أَخَوَيْنِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : عُوَيْمِرُ بْنُ عَامِرٍ وَيُقَالُ عُوَيْمِرُ بْنُ زَيْدٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَبِلَالٌ ، مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا ، مُؤَذّنُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبُو رُوَيْحَةَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْخَثْعَمِيّ ، ثُمّ أَحَدُ الْفَزَعِ أَخَوَيْنِ . فَهَؤُلَاءِ مَنْ سُمّيَ لَنَا ، مِمّنْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ آخَى بَيْنَهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِ .
بِلَالٌ يُوصِي بِدِيوَانِهِ لِأَبِي رُوَيْحَةَ
فَلَمّا دَوّنَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ الدّوَاوِينَ بِالشّامِ وَكَانَ بِلَالٌ قَدْ خَرَجَ إلَى الشّامِ ، فَأَقَامَ بِهَا مُجَاهِدًا ، فَقَالَ عُمَرُ لِبِلَالِ إلَى مَنْ تَجْعَلُ دِيوَانَك يَا بِلَالُ ؟ قَالَ مَعَ أَبِي رُوَيْحَةَ لَا أُفَارِقُهُ أَبَدًا ، لِلْأُخُوّةِ الّتِي كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَقَدَ بَيْنَهُ وَبَيْنِي ، فَضُمّ إلَيْهِ وَضُمّ دِيوَانُ الْحَبَشَةِ إلَى خَثْعَمٍ ، لِمَكَانِ بِلَالٍ مِنْهُمْ فَهُوَ فِي خَثْعَمٍ إلَى هَذَا الْيَوْمِ بِالشّامِ . أَبُو أُمَامَةَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَهَلَكَ فِي تِلْكَ الْأَشْهُرِ أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ ، وَالْمَسْجِدُ يُبْنَى ، أَخَذَتْهُ الذّبْحَةُ أَوْ الشّهْقَةُ . [ ص 353 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ " بِئْسَ الْمَيّتُ أَبُو أُمَامَةَ لَيَهُودُ وَمُنَافِقُو الْعَرَبِ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ نَبِيّا لَمْ يَمُتْ صَاحِبُهُ وَلَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي وَلَا لِصَاحِبَيّ مِنْ اللّهِ شَيْئًا " . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيّ : أَنّهُ لَمّا مَاتَ أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ ، اجْتَمَعَتْ بَنُو النّجّارِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَ أَبُو أُمَامَةَ نَقِيبَهُمْ فَقَالُوا لَهُ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ هَذَا قَدْ كَانَ مِنّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْت ، فَاجْعَلْ مِنّا رَجُلًا مَكَانَهُ يُقِيمُ مِنْ أَمْرِنَا مَا كَانَ يُقِيمُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهُمْ " أَنْتُمْ أَخْوَالِي ، وَأَنَا بِمَا فِيكُمْ ، وَأَنَا نَقِيبُكُمْ " وَكَرِهَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَخُصّ بِهَا بَعْضَهُمْ دُونَ بَعْضٍ . فَكَانَ مِنْ فَضْلِ بَنِي النّجّارِ الّذِي يَعُدّونَ عَلَى قَوْمِهِمْ أَنْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَقِيبَهُمْ .
Sالْمُؤَاخَاةُ بَيْنَ الصّحَابَةِ
فَصْلٌ [ ص 354 ] الْمَدِينَةَ ، لِيُذْهِبَ عَنْهُمْ وَحْشَةَ الْغُرْبَةِ وَيُؤْنِسَهُمْ مِنْ مُفَارَقَةِ الْأَهْلِ وَالْعَشِيرَةِ وَيَشُدّ أَزْرَ بَعْضِهِمْ بِبَعْضِ [ ص 351 ] عَزّ الْإِسْلَامُ وَاجْتَمَعَ الشّمْلُ وَذَهَبَتْ الْوَحْشَةُ أَنْزَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ } [ الْأَنْفَالُ 75 ] أَعْنِي فِي الْمِيرَاثِ ثُمّ جَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ كُلّهُمْ إخْوَةً فَقَالَ { إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } يَعْنِي فِي التّوَادّ وَشُمُولِ الدّعْوَةِ . وَذَكَرَ مُؤَاخَاتَهُ بَيْنَ أَبِي ذَرّ وَالسّنْذِرِ بْنِ عَمْرٍو ، وَقَدْ ذَكَرْنَا إنْكَارَ الْوَاقِدِيّ لِذَلِكَ فِي آخِرِ حَدِيثِ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ .
نَسَبَ أَبِي الدّرْدَاءِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ مُؤَاخَاةَ سَلْمَانَ وَأَبِي الدّرْدَاءِ وَأَبُو الدّرْدَاءِ اسْمُهُ عُوَيْمِرُ بْنُ عَامِرٍ وَقِيلَ عُوَيْمِرُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ وَقِيلَ عُوَيْمِرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ قَيْسِ بْنِ أُمَيّةَ مِنْ بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، أُمّهُ تَحِبّةُ بِنْتُ وَقْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْإِطَنَابَةِ وَامْرَأَتُهُ أُمّ الدّرْدَاءِ اسْمُهَا : خَيْرَةُ بِنْتُ أَبِي حَدْرَدٍ وَأُمّ الدّرْدَاءِ الصّغْرَى ، اسْمُهَا : جُمَانَةُ مَاتَ أَبُو الدّرْدَاءِ بِدِمَشْقَ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَقِيلَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَثَلَاثِينَ . [ ص 352 ] [ ص 353 ]
نَسَبُ الْفَزَعِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ مُؤَاخَاةَ أَبِي رُوَيْحَةَ وَبِلَالٍ وَسَمّاهُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ ، وَقَالَ هُوَ أَحَدُ الْفَزَعِ لَمْ يُبَيّنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا ، وَالْفَزَعُ عِنْدَ أَهْلِ النّسَبِ هُوَ ابْنُ شَهْرَانَ بْنِ عِفْرِسِ بْنِ حُلْفِ بْنِ أَفْتَلَ وَأَفْتَلُ هُوَ خَثْعَمٌ . وَقَدْ تَقَدّمَ فِي أَوّلِ الْكِتَابِ لِمَ سُمّيَ خَثْعَمًا وَهُوَ ابْنُ أَنْمَارٍ ، وَقَدْ تَقَدّمَ خِلَافُ النّسّابِينَ فِيمَا بَعْدَ أَنْمَارٍ . وَالْفَزَعُ هَذَا بِفَتْحِ الزّايِ وَأَمّا الْفَزْعُ بِسُكُونِهَا ، فَهُوَ الْفَزْعُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ رَبِيعَةَ [ بْنِ جَنْدَلٍ ] ، وَكَذَلِكَ الْفَزْعُ فِي خُزَاعَةَ ، وَفِي كَلْبٍ هُمَا سَاكِنَانِ أَيْضًا قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ وَقَالَ الدّارَقُطْنِيّ : الْفَزَعُ بِفَتْحِ الزّايِ رَجُلٌ يَرْوِي عَنْ ابْنِ عُمَرَ . وَذُكِرَ آخَرُ فِي الرّوَاةِ أَيْضًا بِفَتْحِ الزّايِ يَرْوِي حَدِيثًا فِي الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَرْوِي أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَقَدَ لِأَبِي رُوَيْحَةَ الْخَثْعَمِيّ لِوَاءً عَامَ الْفَتْحِ وَأَمَرَهُ أَنْ يُنَادِيَ " مَنْ دَخَلَ تَحْتَ لِوَاءِ أَبِي رُوَيْحَةَ فَهُوَ آمِنٌ " .
مُؤَاخَاةُ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بُلْتُعَةَ
فَصْلٌ وَذَكَرَ مُؤَاخَاةَ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بُلْتُعَةَ وَعُوَيْمِ بْنِ سَاعِدَةَ وَقَالَ فِي حَاطِبٍ حَلِيفُ [ ص 354 ] بَنِي أَسَدٍ ، وَقَالَ غَيْرُهُ كَانَ عَبْدًا لِعُبَيْدِ اللّهِ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى ، وَقِيلَ كَانَ مِنْ مَذْحِجَ ، وَالْأَشْهَرُ أَنّهُ مِنْ لَخْمِ بْنِ عَدِيّ وَاسْمُ أَبِي بُلْتُعَةَ عَمْرُو بْنُ أَشَدّ بْنِ مُعَاذٍ . وَالْبُلْتُعَةُ مِنْ قَوْلِهِمْ تَبَلْتَعَ الرّجُلُ إذَا تَظَرّفَ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْغَرِيبِ الْمُصَنّفِ .

خَبَرُ الْأَذَانِ
قَالَ [ ص 355 ] ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا اطْمَأَنّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْمَدِينَةِ وَاجْتَمَعَ إلَيْهِ إخْوَانُهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَاجْتَمَعَ أَمْرُ الْأَنْصَارِ ، اسْتَحْكَمَ أَمْرُ الْإِسْلَامِ فَقَامَتْ الصّلَاةُ وَفُرِضَتْ الزّكَاةُ وَالصّيَامُ وَقَامَتْ الْحُدُودُ وَفُرِضَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَتَبَوّأَ الْإِسْلَامُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَكَانَ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ هُمْ الّذِينَ تَبَوّءُوا الدّارَ وَالْإِيمَانَ . وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ قَدِمَهَا إنّمَا يَجْتَمِعُ النّاسُ إلَيْهِ لِلصّلَاةِ لِحِينِ مَوَاقِيتِهَا ، بِغَيْرِ دَعْوَةٍ فَهَمّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ قَدِمَهَا أَنْ يَجْعَلَ بُوقًا كَبُوقِ يَهُودَ الّذِينَ يَدْعُونَ بِهِ لِصَلَاتِهِمْ ثُمّ كَرِهَهُ ثُمّ أَمَرَ بِالنّاقُوسِ فَنُحِتَ لِيُضْرَبَ بِهِ لِلْمُسْلِمِينَ لِلصّلَاةِ [ ص 356 ]
رُؤْيَا عَبْدِ اللّهِ بْنِ زَيْدٍ
فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إذْ رَأَى عَبْدُ اللّهِ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ رَبّهِ أَخُو بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، النّدَاءَ فَأَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَهُ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّهُ طَافَ بِي هَذِهِ اللّيْلَةَ طَائِفٌ مَرّ بِي رَجُلٌ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ أَخْضَرَانِ يَحْمِلُ نَاقُوسًا فِي يَدِهِ فَقُلْت لَهُ يَا عَبْدَ اللّهِ أَتَبِيعُ هَذَا النّاقُوسَ ؟ قَالَ وَمَا تَصْنَعُ بِهِ ؟ قَالَ قُلْت : نَدْعُو بِهِ إلَى الصّلَاةِ [ ص 357 ] قَالَ أَفَلَا أَدُلّك عَلَى خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ ؟ قَالَ قُلْت : وَمَا هُوَ ؟ قَالَ تَقُولُ اللّهُ أَكْبَرُ اللّهُ أَكْبَرُ ، اللّهُ أَكْبَرُ اللّهُ أَكْبَرُ ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ ، أَشْهَد أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ ، أَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ أَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ حَيّ عَلَى الصّلَاةِ حَيّ عَلَى الصّلَاةِ حَيّ عَلَى الْفَلَاحِ حَيّ عَلَى الْفَلَاحِ اللّهُ أَكْبَرُ اللّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ . [ ص 358 ] أَخْبَرَ بِهَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ إنّهَا لَرُؤْيَا حَقّ إنْ شَاءَ اللّهُ ، فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِهَا عَلَيْهِ فَلْيُؤَذّنْ بِهَا ، فَإِنّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْك . فَلَمّا أَذّنَ بِهَا بِلَالٌ سَمِعَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ ، وَهُوَ فِي بَيْتِهِ فَخَرَجَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ يَجُرّ رِدَاءَهُ وَهُوَ يَقُولُ يَا نَبِيّ اللّهِ وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ لَقَدْ رَأَيْت مِثْلَ الّذِي رَأَى ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " فَلِلّهِ الْحَمْدُ عَلَى ذَلِكَ " . [ ص 359 ]
رُؤْيَا عُمَرَ فِي الْأَذَانِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ مُحَمّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ رَبّهِ عَنْ أَبِيهِ [ ص 360 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَذَكَرَ ابْنُ جُرَيْجٍ ، قَالَ قَالَ لِي عَطَاءٌ سَمِعْت عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ اللّيْثِيّ يَقُولُ ائْتَمَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَصْحَابُهُ بِالنّاقُوسِ لِلِاجْتِمَاعِ لِلصّلَاةِ فَبَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ خَشَبَتَيْنِ لِلنّاقُوسِ إذْ رَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ فِي الْمَنَامِ لَا تَجْعَلُوا النّاقُوسَ بَلْ أَذّنُوا لِلصّلَاةِ . فَذَهَبَ عُمَرُ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِيُخْبِرَهُ بِاَلّذِي رَأَى ، وَقَدْ جَاءَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْوَحْيُ بِذَلِكَ فَمَا رَاعَ عُمَرَ إلّا بِلَالٌ يُؤَذّنُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ قَدْ سَبَقَك بِذَلِكَ الْوَحْيُ .
مَا كَانَ يَقُولُهُ بِلَالٌ فِي الْفَجْرِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي النّجّارِ قَالَتْ كَانَ بَيْتِي مِنْ أَطْوَلِ بَيْتٍ حَوْلَ الْمَسْجِدِ ، فَكَانَ بِلَالٌ يُؤَذّنُ عَلَيْهِ لِلْفَجْرِ كُلّ غَدَاةٍ فَيَأْتِي بِسَحَرِ فَيَجْلِسُ عَلَى الْبَيْتِ يَنْتَظِرُ الْفَجْرَ فَإِذَا رَآهُ تَمَطّى ، ثُمّ قَالَ اللّهُمّ إنّي أَحْمَدُك وَأَسْتَعِينُك عَلَى قُرَيْشٍ أَنْ يُقِيمُوا عَلَى دِينِك . قَالَتْ وَاَللّهِ مَا عَلِمْته كَانَ يَتْرُكُهَا لَيْلَةً وَاحِدَةً .
Sبَدْءُ الْأَذَانِ
ذِكْرُ [ ص 355 ] عَبْدِ اللّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ رَبّهِ ، هَكَذَا ذَكَرَهُ وَأَكْثَرُ النّسّابِ يَقُولُونَ زَيْدُ بْنُ عَبْدِ رَبّهِ وَثَعْلَبَةُ أَخُو زَيْدٍ ذَكَرَ حَدِيثَهُ عِنْدَمَا شَاوَرَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَصْحَابَهُ فِي الْأَذَانِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ نَاقُوسٌ كَنَاقُوسِ النّصَارَى ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بُوقٌ كَبُوقِ الْيَهُودِ ، وَفِي غَيْرِ السّيرَةِ أَنّهُمْ ذَكَرُوا الشّبّورَ وَهُوَ الْبُوقُ . قَالَ الْأَصْمَعِيّ لِلْمُفَضّلِ وَقَدْ نَازَعَهُ فِي مَعْنَى بَيْتٍ مِنْ الشّعْرِ فَرَفَعَ الْمُفَضّلُ صَوْتَهُ فَقَالَ الْأَصْمَعِيّ لَوْ نَفَخْت فِي الشّبّورِ مَا نَفَعَك ، تَكَلّمْ كَلَامَ النّمْلِ وَأَصِبْ [ ص 356 ] وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ تَصْحِيفٌ إنّمَا هُوَ الْقُبْعُ وَالْقُنْعُ أَوْلَى بِالصّوَابِ لِأَنّهُ مِنْ أَقْنَعَ صَوْتَهُ إذَا رَفَعَهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ نُوقِدُ نَارًا ، وَنَرْفَعُهَا ، فَإِذَا رَآهَا النّاسُ أَقْبَلُوا إلَى الصّلَاةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ نَبْعَثُ رَجُلًا يُنَادِي بِالصّلَاةِ فَبَيْنَمَا هُمْ فِي ذَلِكَ أُرِيَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ زَيْدٍ الرّوَيَا الّتِي ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ ، فَلَمّا أَخْبَرَ بِهَا رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأَمَرَهُ أَنْ يُلْقِيَهَا عَلَى بِلَالٍ ، قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَنَا رَأَيْتهَا ، وَأَنَا كُنْت أُحِبّهَا لِنَفْسِي ، فَقَالَ " لِيُؤَذّن بِلَالٌ " ، وَلِتُقِمْ أَنْتَ فَفِي هَذَا مِنْ الْفِقْهِ جَوَازُ أَنْ يُؤَذّنَ الرّجُلُ وَيُقِيمَ غَيْرُهُ وَهُوَ مُعَارِضٌ لِحَدِيثِ زِيَادِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ الصّدَئِيّ حِينَ قَالَ لَهُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " مَنْ أَذّنَ فَهُوَ أَحَقّ أَنْ يُقِيمَ " ، فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ إلّا أَنّهُ يَدُورُ عَلَى عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَنْعَمَ الْأَفْرِيقِيّ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَالْأَوّلُ أَصَحّ مِنْهُ . قَالَ أَبُو دَاوُدَ : وَتَزْعُمُ الْأَنْصَارُ أَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ زَيْدٍ حِينَ رَأَى النّدَاءَ كَانَ مَرِيضًا ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَمَرَهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِالْأَذَانِ وَقَدْ تَكَلّمَتْ الْعُلَمَاءُ فِي الْحِكْمَةِ الّتِي خَصّتْ الْأَذَانَ بِأَنْ رَآهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي نَوْمِهِ وَلَمْ يَكُنْ عَنْ وَحْيٍ مِنْ اللّهِ لِنَبِيّهِ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ وَالْأَحْكَامِ الشّرْعِيّةِ وَفِي قَوْلِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَهُ " إنّهَا لَرُؤْيَا حَقّ " ، ثُمّ بَنَى حُكْمَ الْأَذَانِ عَلَيْهَا ، وَهَلْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ وَحْيٍ مِنْ اللّهِ لَهُ أَمْ لَا ؟ وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّ قَوْلَهُ ذَلِكَ كَانَ عَنْ وَحْيٍ وَتَكَلّمُوا : لِمَ لَمْ يُؤَذّنْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ؟ وَهَلْ أَذّنَ قَطّ مَرّةً مِنْ عُمْرِهِ دَهْرَهُ أَمْ لَا ؟ . فَأَمّا الْحِكْمَةُ فِي تَخْصِيصِ الْأَذَانِ بِرُؤَى رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يَكُنْ عَنْ وَحْيٍ فَلِأَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ أُرِيَهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَأُسْمِعَهُ مُشَاهَدَةً فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتٍ وَهَذَا أَقْوَى مِنْ الْوَحْيِ فَلَمّا تَأَخّرَ فَرْضُ الْأَذَانِ إلَى الْمَدِينَةِ ، وَأَرَادُوا إعْلَامَ النّاسِ بِوَقْتِ الصّلَاةِ تَلَبّثَ الْوَحْيُ [ ص 357 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلِذَلِكَ قَالَ إنّهَا لَرُؤْيَا حَقّ إنْ شَاءَ اللّهُ ، وَعَلِمَ حِينَئِذٍ أَنّ مُرَادَ الْحَقّ بِمَا رَآهُ فِي السّمَاءِ أَنْ يَكُونَ سُنّةً فِي الْأَرْضِ وَقَوّى ذَلِكَ عِنْدَهُ مُوَافَقَةُ رُؤْيَا عُمَرَ لِلْأَنْصَارِيّ مَعَ أَنّ السّكِينَةَ تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَاقْتَضَتْ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيّةُ أَنْ يَكُونَ الْأَذَانُ عَلَى لِسَانِ غَيْرِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لِمَا فِيهِ مِنْ التّنْوِيهِ مِنْ اللّهِ لِعَبْدِهِ وَالرّفْعِ لِذِكْرِهِ فَلِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ لِسَانِهِ أَنْوَهُ بِهِ وَأَفْخَمُ لِشَأْنِهِ وَهَذَا مَعْنًى بَيّنٌ فَإِنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } [ الشّرْحُ 4 ] فَمِنْ رَفْعِ ذِكْرِهِ أَنْ أَشَادَ بِهِ عَلَى لِسَانِ غَيْرِهِ . فَإِنْ قِيلَ وَمَنْ رَوَى أَنّهُ أُرِيَ النّدَاءَ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ قُلْنَا : هُوَ فِي مُسْنَدِ أَبِي بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ الْخَالِقِ الْبَزّارُ . حَدّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمّدُ بْنُ طَاهِرٍ الْإِشْبِيلِيّ سَمَاعًا وَإِجَازَةً عَنْ أَبِي عَلِيّ الْغَسّانِيّ عَنْ أَبِي عُمَرَ النّمِرِيّ بِإِسْنَادِهِ إلَى الْبَزّارِ ، قَالَ الْبَزّارُ : نا مُحَمّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مَخْلَدٍ نا أَبِي عَنْ زِيَادِ بْنِ الْمُنْذِرِ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ عَنْ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - قَالَ لَمّا أَرَادَ اللّهُ أَنْ يُعَلّمَ رَسُولَهُ الْأَذَانَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِدَابّةِ يُقَالُ لَهَا الْبُرَاقُ فَذَهَبَ يَرْكَبُهَا ، فَاسْتُصْعِبَتْ فَقَالَ لَهَا جِبْرِيلُ : اُسْكُنِي فَوَاَللّهِ مَا رَكِبَك عَبْدٌ أَكْرَمَ عَلَى اللّهِ مِنْ مُحَمّدٍ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ فَرَكِبَهَا حَتّى انْتَهَى إلَى الْحِجَابِ الّذِي يَلِي الرّحْمَنَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - قَالَ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إذْ خَرَجَ مَلَكٌ مِنْ الْحِجَابِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - " يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَذَا " ؟ فَقَالَ وَاَلّذِي بَعَثَك بِالْحَقّ إنّي لَأَقْرَبُ الْخَلْقِ مَكَانًا ، وَإِنّ هَذَا الْمَلَكَ مَا رَأَيْته مُنْذُ خُلِقْت قَبْلَ سَاعَتِي هَذِهِ فَقَالَ " الْمَلَكُ اللّهُ أَكْبَرُ اللّهُ أَكْبَرُ " ، قَالَ فَقِيلَ لَهُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ صَدَقَ عَبْدِي أَنَا أَكْبَرُ أَنَا أَكْبَرُ ثُمّ قَالَ الْمَلَكُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ ، قَالَ فَقِيلَ لَهُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ صَدَقَ عَبْدِي أَنَا اللّهُ لَا إلَهَ إلّا أَنَا ، قَالَ فَقَالَ الْمَلَكُ أَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ . قَالَ فَقِيلَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ صَدَقَ عَبْدِي أَنَا أَرْسَلْت مُحَمّدًا ، قَالَ الْمَلَكُ حَيّ عَلَى الصّلَاةِ حَيّ عَلَى الْفَلَاحِ ثُمّ قَالَ الْمَلَكُ اللّهُ أَكْبَرُ اللّهُ أَكْبَرُ ، قَالَ فَقِيلَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ صَدَقَ عَبْدِي أَنَا أَكْبَرُ أَنَا أَكْبَرُ ثُمّ قَالَ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ قَالَ فَقِيلَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ صَدَقَ عَبْدِي أَنَا لَا إلَهَ إلّا أَنَا ، قَالَ ثُمّ أَخَذَ الْمَلَكُ بِيَدِ مُحَمّدٍ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَدّمَهُ فَأَمّ أَهْلَ السّمَاءِ فِيهِمْ آدَمُ وَنُوحٌ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمّدُ بْنُ عَلِيّ : يَوْمَئِذٍ أَكْمَلَ اللّهُ لِمُحَمّدِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الشّرَفَ عَلَى أَهْلِ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ . [ ص 358 ] قَالَ الْمُؤَلّفُ وَأَخْلَقُ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا لِمَا يُعَضّدُهُ وَيُشَاكِلُهُ مِنْ أَحَادِيثِ الْإِسْرَاءِ فَبِمَجْمُوعِهَا يَحْصُلُ أَنّ مَعَانِيَ الصّلَاةِ كُلّهَا وَأَكْثَرَهَا ، قَدْ جَمَعَهَا ذَلِكَ الْحَدِيثُ أَعْنِي الْإِسْرَاءَ لِأَنّ اللّهَ - سُبْحَانَهُ - رَفَعَ الصّلَاةَ الّتِي هِيَ مُنَاجَاةٌ عَنْ أَنْ تُفْرَضَ فِي الْأَرْضِ لَكِنْ بِالْحَضْرَةِ الْمُقَدّسَةِ الْمُطَهّرَةِ وَعِنْدَ الْكَعْبَةِ الْعُلْيَا ، وَهِيَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا طَرَفًا مِنْ هَذَا الْغَرَضِ وَنُبَذًا مِنْ هَذَا الْمَقْصِدِ فِي شَرْحِ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ وَيَنْضَافُ إلَيْهَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ ذِكْرُ الْأَذَانِ الّذِي تَضَمّنَهُ حَدِيثُ الْبَزّارِ مَعَ مَا رُوِيَ أَيْضًا أَنّهُ مَرّ وَهُوَ عَلَى الْبُرَاقِ بِمَلَائِكَةِ قِيَامٍ وَمَلَائِكَةٍ رُكُوعٍ وَمَلَائِكَةٍ سُجُودٍ وَمَلَائِكَةٍ جُلُوسٍ وَالْكُلّ يُصَلّونَ لِلّهِ فَجُمِعَتْ لَهُ هَذِهِ الْأَحْوَالُ فِي صَلَاتِهِ وَحِينَ مَثَلَ بِالْمَقَامِ الْأَعْلَى ، وَدَنَا فَتَدَلّى أُلْهِمَ أَنْ يَقُولَ التّحِيّاتُ لِلّهِ إلَى قَوْلِهِ الصّلَوَاتُ لِلّهِ فَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ السّلَامُ عَلَيْك أَيّهَا النّبِيّ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ فَقَالَ السّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللّهِ الصّالِحِينَ فَقَالَتْ الْمَلَائِكَةُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ ، وَأَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ فَجَمَعَ ذَلِكَ لَهُ فِي تَشَهّدِهِ . وَانْظُرْ بِقَلْبِك كَيْفَ شُرِعَ لَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ وَلِأُمّتِهِ أَنْ يَقُولُوا تِسْعَ مَرّاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللّيْلَةِ فِي تِسْعِ جَلَسَاتٍ فِي الصّلَوَاتِ الْخَمْسِ بَعْدَ ذِكْرِ التّحِيّاتِ السّلَامُ عَلَيْنَا ، وَعَلَى عِبَادِ اللّهِ الصّالِحِينَ فَيُحَيّونَ وَيُحَيّونَ تَحِيّةً مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُبَارَكَةً طَيّبَةً ، وَمِنْ قَوْلِهِ السّلَامُ عَلَيْنَا كَمَا قِيلَ لَهُمْ فَسَلّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيّةً مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَمِنْ ثَمّ قَالَ الطّيّبَاتُ الْمُبَارَكَاتُ كَمَا فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبّاسٍ فِي التّشَهّدِ اُنْظُرْ إلَى هَذَا كُلّهِ كَيْفَ حَيّا وَحُيّيَ تِسْعَ مَرّاتٍ حَيّتْهُ مَلَائِكَةُ كُلّ سَمَاءٍ وَحَيّاهُمْ ثُمّ مَلَائِكَةُ الْكُرْسِيّ ثُمّ مَلَائِكَةُ الْعَرْشِ فَهَذِهِ تِسْعٌ فَجُعِلَ التّشَهّدُ فِي الصّلَوَاتِ عَلَى عَدَدِ تِلْكَ الْمَرّاتِ الّتِي سَلّمَ فِيهَا وَسُلّمَ عَلَيْهِ وَكُلّهَا تَحِيّاتٌ لِلّهِ أَيْ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُبَارَكَةٌ طَيّبَةٌ ، هَذَا إلَى نُكَتٍ ذَكَرْنَاهَا فِي شَرْحِ سُبْحَانَ اللّهِ وَبِحَمْدِهِ فَإِذَا جَمَعْت بَعْضَ مَا ذَكَرْنَاهُ إلَى بَعْضٍ عَرَفْت جُمْلَةً مِنْ أَسْرَارِ الصّلَاةِ وَفَوَائِدِهَا الْجَلِيّةِ دُونَ الْخَفِيّةِ وَأَمّا بَقِيّةُ أَسْرَارِهَا وَمَا تَضَمّنَتْهُ أَحَادِيثُ الْإِسْرَاءِ مِنْ أَنْوَارِهَا ، وَمَا فِي الْأَذَانِ مِنْ [ ص 359 ] لَطَائِفُ الْمَعَانِي وَالْحِكَمِ فِي افْتِتَاحِهِ بِالتّكْبِيرِ وَخَتْمِهِ بِالتّكْبِيرِ مَعَ التّكْرَارِ وَقَوْلِ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ فِي آخِرِهِ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ فِي أَوّلِهِ وَمَا تَحْتَ هَذَا كُلّهِ مِنْ الْحِكَمِ الْإِلَهِيّةِ الّتِي تَمْلَأُ الصّدُورَ هَيْبَةً وَتُنَوّرُ الْقُلُوبَ بِنُورِ الْمَحَبّةِ وَكَذَلِكَ مَا تَضَمّنَتْهُ الصّلَاةُ فِي شَفْعِهَا وَوِتْرِهَا وَالتّكْبِيرِ فِي أَرْكَانِهَا ، وَرَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي افْتِتَاحِهَا ، وَتَخْصِيصِ الْبُقْعَةِ الْمُكَرّمَةِ بِالتّوَجّهِ إلَيْهَا ، مَعَ فَوَائِدِ الْوُضُوءِ مِنْ الْأَحْدَاثِ لَهَا ، فَإِنّ فِي ذَلِكَ كُلّهِ مِنْ فَوَائِدِ الْحِكْمَةِ وَلَطَائِفِ الْمَعْرِفَةِ مَا يَزِيدُ فِي ثَلْجِ الصّدُورِ وَيُكَحّلُ عَيْنَ الْبَصِيرَةِ بِالضّيَاءِ وَالنّورِ وَنَعُوذُ بِاَللّهِ أَنْ نَنْزِعَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزَعِ فَلْسَفِيّ أَوْ مَقَالَةِ بِدْعِيّ أَوْ رَأْيٍ مُجَرّدٍ مِنْ دَلِيلٍ شَرْعِيّ وَلَكِنْ بِتَلْوِيحَاتِ مِنْ الشّرِيعَةِ وَإِشَارَاتٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسّنّةِ يُعَضّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، وَيُنَادِي بَعْضُهَا بِتَصْدِيقِ بَعْضٍ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا [ النّسَاءُ 82 ] . لَكِنْ أَضْرَبْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ عَنْ بَثّ هَذِهِ الْأَسْرَارِ فَإِنّ ذَلِكَ يَخْرُجُ عَنْ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ وَيَشْغَلُ عَمّا صَمَدْنَا إلَيْهِ فِي أَوّلِ الْكِتَابِ وَوَعَدْنَا بِهِ النّاظِرَ فِيهِ مِنْ شَرْحِ لُغَاتٍ وَأَنْسَابٍ وَآدَابٍ وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ . وَقَدْ عَرَفْت رُؤْيَا عَبْدِ اللّهِ بْنِ زَيْدٍ وَكَيْفِيّتَهَا بِرِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ وَغَيْرِهِ وَلَمْ تُعْرَفْ كَيْفِيّةُ رُؤْيَا عُمَرَ حِينَ أُرِيَ النّدَاءَ وَقَدْ قَالَ قَدْ رَأَيْت مِثْلَ الّذِي رَأَى ، لَكِنْ فِي مُسْنَدِ الْحَارِثِ بَيَانٌ لَهَا . رَوَى الْحَارِثُ [ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ ] فِي مُسْنَدِهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ " أَوّلُ مَنْ أَذّنَ بِالصّلَاةِ جِبْرِيلُ أَذّنَ بِهَا فِي سَمَاءِ الدّنْيَا فَسَمِعَهُ عُمَرُ وَبِلَالٌ فَسَبَقَ عُمَرُ بِلَالًا إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِهَا ، فَقَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ لِبِلَالِ " سَبَقَك بِهَا [ ص 360 ] " ، وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ . وَظَاهِرُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنّ عُمَرَ سَمِعَ ذَلِكَ فِي الْيَقَظَةِ وَكَذَلِكَ رُؤْيَا عَبْدِ اللّهِ بْنِ زَيْدٍ فِي الْأَذَانِ رَآهَا ، وَهُوَ بَيْنَ النّائِمِ وَالْيَقْظَانِ قَالَ وَلَوْ شِئْت لَقُلْت : كُنْت يَقْظَانًا . فَصْلٌ وَأَمّا قَوْلُ السّائِلِ هَلْ أَذّنَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِنَفْسِهِ قَطّ ، فَقَدْ رَوَى التّرْمِذِيّ مِنْ طَرِيقٍ يَدُورُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الرّمّاحِ يَرْفَعُهُ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَذّنَ فِي سَفَرٍ وَصَلّى بِأَصْحَابِهِ وَهُمْ عَلَى رَوَاحِلِهِمْ السّمَاءُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَالْبِلّةُ مِنْ أَسْفَلِهِمْ فَنَزَعَ بَعْضُ النّاسِ بِهَذَا الْحَدِيثِ إلَى أَنّهُ أَذّنَ بِنَفْسِهِ وَأَسْنَدَهُ الدّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِ التّرْمِذِيّ إلّا أَنّهُ لَمْ يَذْكُرْ عُمَرَ بْنَ الرّمّاحِ ، وَوَافَقَهُ فِيمَا بَعْدَهُ مِنْ إسْنَادٍ وَمَتْنٍ لَكِنّهُ قَالَ فِيهِ فَقَامَ الْمُؤَذّنُ فَأَذّنَ وَلَمْ يَقُلْ أَذّنَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَالْمُتّصِلُ يَقْضِي عَلَى الْمُجْمَلِ الْمُحْتَمَلِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ [ ص 361 ] ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا اطْمَأَنّتْ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَارُهُ وَأَظْهَرَ اللّهُ بِهَا دِينَهُ وَسَرّهُ بِمَا جَمَعَ إلَيْهِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مِنْ أَهْلِ وِلَايَتِهِ قَالَ أَبُو قَيْسٍ صِرْمَةُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ ، أَخُو بَنِي عَدِيّ بْنِ النّجّارِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَبُو قَيْسٍ صِرْمَةُ بْنُ أَبِي أَنَسِ بْنِ صِرْمَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَدِيّ بْنِ عَامِرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَدِيّ بْنِ النّجّارِ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رَجُلًا قَدْ تَرَهّبَ فِي الْجَاهِلِيّةِ ، وَلَبِسَ الْمُسُوحَ وَفَارَقَ الْأَوْثَانَ وَاغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ وَتَطَهّرَ مِنْ الْحَائِضِ مِنْ النّسَاءِ وَهُمْ بالنصرانية ، ثُمّ أَمْسَكَ عَنْهَا ، وَدَخَلَ بَيْتًا لَهُ فَاِتّخَذَهُ مَسْجِدًا لَا تَدْخُلُهُ عَلَيْهِ فِيهِ طَامِثٌ وَلَا جُنُبٌ وَقَالَ أَعْبُدُ رَبّ إبْرَاهِيمَ حِينَ فَارَقَ الْأَوْثَانَ وَكَرِهَهَا ، حَتّى قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ ، فَأَسْلَمَ وَحَسُنَ إسْلَامُهُ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ وَكَانَ قَوّالًا لِلّهِ عَزّ وَجَلّ فِي جَاهِلِيّتِهِ يَقُولُ أَشْعَارًا فِي ذَلِكَ [ ص 362 ]
يَقُولُ أَبُو قَيْسٍ وَأَصْبَحَ غَادِيًا : ... أَلَا مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ وَصَاتِي فَافْعَلُوا
فَأُوصِيكُمْ بِاَللّهِ وَالْبِرّ وَالتّقَى ... وَأَعْرَاضِكُمْ وَالْبِرّ بِاَللّهِ أَوّلُ
وَإِنْ قَوْمُكُمْ سَادُوا فَلَا تَحْسُدُونَهُمْ ... وَإِنْ كُنْتُمْ أَهْلَ الرّيَاسَةِ فَاعْدِلُوا
وَإِنْ نَزَلَتْ إحْدَى الدّوَاهِي بِقَوْمِكُمْ ... فَأَنْفُسَكُمْ دُونَ الْعَشِيرَةِ فَاجْعَلُوا
وَإِنْ تَابَ غُرْمٌ فَادِحٌ فَارْفُقُوهُمْ ... وَمَا حَمّلُوكُمْ فِي الْمُلِمّاتِ فَاحْمِلُوا
وَإِنْ أَنْتُمْ أَمْعَرْتُمُ فَتَعَفّفُوا ... وَإِنْ كَانَ فَضْلُ الْخَيْرِ فِيكُمْ فَأَفْضِلُوا
[ ص 363 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُرْوَى : وَإِنْ نَابَ أَمْرٌ فَادِحٌ فَارْفِدُوهُمْ
Sحَدِيثُ صِرْمَةَ بْنِ أَبِي أَنَس
[ ص 361 ] وَاسْمُ أَبِي أَنَسٍ قَيْسُ بْنُ صِرْمَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَدِيّ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ عَدِيّ بْنِ النّجّارِ الْأَنْصَارِيّ وَهُوَ الّذِي أَنْزَلَ اللّهُ فِيهِ وَفِي عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا : { أُحِلّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصّيَامِ الرّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ } [الْبَقَرَةُ 187 ] إلَى قَوْلِهِ وَعَفَا عَنْكُمْ فَهَذِهِ فِي عُمَرَ ثُمّ قَالَ { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا } إلَى آخِرِ الْآيَةِ فَهَذِهِ فِي صِرْمَةَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ وَذَلِكَ أَنّ إتْيَانَ النّسَاءِ لَيْلًا فِي رَمَضَانَ كَانَ مُحَرّمًا عَلَيْهِمْ فِي أَوّلِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ النّوْمِ وَكَذَلِكَ الْأَكْلُ وَالشّرْبُ كَانَ مُحَرّمًا عَلَيْهِمْ بَعْدَ النّوْمِ فَأَمّا عُمَرُ فَأَرَادَ امْرَأَتَهُ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَتْ لَهُ إنّي قَدْ نِمْت ، فَقَالَ كَذَبْت ثُمّ وَقَعَ عَلَيْهَا ، وَأَمّا صِرْمَةُ فَإِنّهُ عَمِلَ فِي حَائِطِهِ وَهُوَ صَائِمٌ فَجَاءَ اللّيْلُ وَقَدْ جَهَدَهُ الْكَلَالُ فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ بِطَعَامِ كَانَتْ قَدْ صَنَعَتْهُ لَهُ فَوَجَدَتْهُ قَدْ نَامَ فَقَالَتْ لَهُ الْخَيْبَةُ لَك حُرّمَ عَلَيْك الطّعَامُ وَالشّرَابُ فَبَاتَ صَائِمًا ، وَأَصْبَحَ إلَى حَائِطِهِ يَعْمَلُ فِيهِ فَمَرّ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ طَلِيحٌ قَدْ جَهَدَهُ الْعَطَشُ مَعَ مَا بِهِ مِنْ الْجُوعِ وَالنّصَبِ فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِقِصّتِهِ فَرَقّ عَلَيْهِ السّلَامُ وَدَمَعَتْ عَيْنَاهُ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى الرّخْصَةَ وَجَاءَ بِالْفَرَجِ بَدَأَ بِقِصّةِ عُمَرَ لِفَضْلِهِ فَقَالَ { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنّ } ثُمّ بِصِرْمَةَ فَقَالَ { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا } قَالَ بَعْضُ أَشْيَاخِ الصّوفِيّةِ هَذِهِ الْعِنَايَةُ مِنْ اللّهِ أَخْطَأَ عُمَرُ خَطِيئَةً فَرُحِمَتْ الْأُمّةُ بِسَبَبِهَا . [ ص 362 ] مَنْ شَرَحَ شِعْرَهُ وَذَكَرَ مِنْ شِعْرِ صِرْمَةَ
فَأُوصِيكُمْ بِاَللّهِ وَالْبِرّ وَالتّقَى ... وَأَعْرَاضِكُمْ وَالْبِرّ بِاَللّهِ أَوّلُ
بِرَفْعِ الْبِرّ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَأَوّلُ خَبَرٌ لَهُ وَقَدْ يُحْتَمَلُ فِي الظّاهِرِ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا فِي مَوْضِعِ الْخَبَرِ ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الظّرُوفِ الْمَبْنِيّةِ عَلَى الضّمّ أَنْ تَكُونَ خَبَرَ الْمُبْتَدَإِ لَا تَقُولُ الصّلَاةُ قَبْلَ إلّا أَنْ تَقُولَ قَبْلَ كَذَا ، وَلَا الْخُرُوجُ بَعْدَ إلّا أَنْ تَقُولَ بَعْدَ كَذَا ، وَذَلِكَ لِسِرّ دَقِيقٍ قَدْ حَوّمَ عَلَيْهِمَا ابْنُ جِنّي فَلَمْ يُصِبْ الْمُفَصّلَ وَاَلّذِي مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ أَنّ هَذِهِ الْغَايَاتِ إنّمَا تَعْمَلُ فِيهَا الْأَفْعَالُ الْمَلْفُوظُ بِهَا لِأَنّهَا غَايَاتٌ لِأَفْعَالِ مُتَقَدّمَةٍ فَإِذَا لَمْ تَأْتِ بِفِعْلِ يَعْمَلُ فِيهَا ، لَمْ تَكُنْ غَايَةً لِشَيْءِ مَذْكُورٍ وَصَارَ الْعَامِلُ فِيهَا مَعْنَوِيّا ، وَهُوَ الِاسْتِقْرَارُ وَهِيَ مُضَافَةٌ فِي الْمَعْنَى إلَى شَيْءٍ وَالشّيْءُ الْمُضَافُ إلَيْهِ مَعْنَوِيّ ، لَا لَفْظِيّ ، فَلَا يَدُلّ الْعَامِلُ الْمَعْنَوِيّ عَلَى مَعْنَوِيّ آخَرَ إنّمَا يَدُلّ عَلَيْهِ الظّاهِرُ اللّفْظِيّ ، فَتَأَمّلْهُ فَالضّمّةُ فِي أَوّلُ عَلَى هَذَا حَرَكَةُ إعْرَابٍ لَا حَرَكَةُ بِنَاءٍ وَلَوْ قَالَ ابْدَأْ بِالْبِرّ أَوّلُ لَكَانَتْ حَرَكَةَ بِنَاءٍ لَكِنّ مَنْ رَوَاهُ وَالْبِرّ بِاَللّهِ أَوّلُ بِخَفْضِ الرّاءِ مِنْ الْبِرّ فَأَوّلُ حِينَئِذٍ ظَرْفٌ مَبْنِيّ عَلَى الضّمّ يَعْمَلُ فِيهِ أُوصِيكُمْ . وَفِيهِ وَإِنْ أَنْتُمْ أَمْعَرْتُمُ فَتَعَفّفُوا الْإِمْعَارُ الْفَقْرُ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ أَبُو قَيْسٍ صِرْمَةُ أَيْضًا [ ص 363 ]
سَبّحُوا اللّهَ شَرْقَ كُلّ صَبَاحٍ ... طَلَعَتْ شَمْسُهُ وَكُلّ هِلَالِ
عَالِمُ السّرّ وَالْبَيَانِ لَدَيْنَا ... لَيْسَ مَا قَالَ رَبّنَا بِضَلَالِ
وَلَهُ الطّيْرُ تَسْتَرِيدُ وَتَأْوِي ... فِي وُكُورٍ مِنْ آمِنَاتِ الْجِبَالِ
وَلَهُ الْوَحْشُ بِالْفَلَاةِ تَرَاهَا ... فِي حِقَافٍ وَفِي ظِلَالِ الرّمَالِ
وَلَهُ هُوّدَتْ يَهُودُ وَدَانَتْ ... كُلّ دِينٍ إذَا ذُكِرَتْ عُضَالُ
وَلَهُ شَمّسَ النّصَارَى وَقَامُوا ... كُلّ عِيدٍ لِرَبّهِمْ وَاحْتِفَالِ
وَلَهُ الرّاهِبُ الْحَبِيسُ تَرَاهُ ... رَهْنَ بُؤْسٍ وَكَانَ نَاعِمَ بَالِ
[ ص 364 ]
يَا بَنِي الْأَرْحَامَ لَا تَقْطَعُوهَا ... وَصِلُوهَا قَصِيرَةً مِنْ طِوَالِ
وَاتّقُوا اللّهَ فِي ضِعَافِ الْيَتَامَى ... رُبّمَا يُسْتَحَلّ غَيْرُ الْحَلَالِ
وَاعْلَمُوا أَنّ لِلْيَتِيمِ وَلِيّا ... عَالِمًا يَهْتَدِي بِغَيْرِ السّؤَالِ
ثُمّ مَالُ الْيَتِيمِ لَا تَأْكُلُوهُ ... إنّ مَالَ الْيَتِيمِ يَرْعَاهُ وَالِي
[ ص 365 ]
يَا بَنِيّ التّخُومُ لَا تَخْزِلُوهَا ... إنّ خَزْلَ التّخُومِ ذُو عُقّالِ
يَا بَنِيّ الْأَيّامُ لَا تَأْمَنُوهَا ... وَاحْذَرُوا مَكْرَهَا وَمُرّ اللّيَالِي
وَاعْلَمُوا أَنّ مُرّهَا لِنَفَادِ الْخَلْ ... قِ مَا كَانَ مِنْ جَدِيدٍ وَبَالِي
وَاجْمَعُوا أَمْرَكُمْ عَلَى الْبِرّ وَالتّقْ ... وَى وَتَرْكِ الْخَنَا وَأَخْذِ الْحَلَالِ
S[ ص 363 ]
سَبّحُوا اللّهَ شَرْقَ كُلّ صَبَاحٍ ... طَلَعَتْ شَمْسُهُ وَكُلّ هِلَالِ
الشّرْقُ طُلُوعُ الشّمْسِ وَهُوَ مِنْ أَسْمَائِهَا أَيْضًا ، وَكَذَلِكَ الشّرَقُ بِفَتْحِ الرّاءِ وَكُلّ هِلَالٍ بِالنّصْبِ عَلَى الظّرْفِ أَيْ وَقْتَ كُلّ هِلَالٍ وَلَوْ قُلْت فِي مِثْلِ هَذَا : وَكُلّ قَمَرٍ عَلَى الظّرْفِ لَمْ يَجُزْ لِأَنّ الْهِلَالَ قَدْ أُجْرِيَ مَجْرَى الْمَصَادِرِ فِي قَوْلِهِمْ اللّيْلَةُ الْهِلَالُ فَلِذَلِكَ صَحّ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِأَنّ الْمَصَادِرَ قَدْ تَكُونُ ظُرُوفًا لَمَعَانٍ وَأَسْرَارٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعًا لِذِكْرِهَا ، وَلَوْ خُفِضَتْ وَكُلّ هِلَالٍ عَطْفًا عَلَى صَبَاحٍ لَمْ يَجُزْ لِأَنّ الشّرْقَ لَا يُضَافُ إلَى الْهِلَالِ كَمَا يُضَافُ إلَى الصّبَاحِ . وَفِيهِ وَلَهُ شَمْسُ النّصَارَى ..... يَعْنِي دِينَ الشّمَامِسَةِ وَهُمْ الرّهْبَانُ لِأَنّهُمْ يُشَمّسُونَ أَنْفُسَهُمْ يُرِيدُونَ تَعْذِيبَ النّفُوسِ بِذَلِكَ فِي زَعْمِهِمْ [ ص 364 ] يَا بَنِي الْأَرْحَامَ لَا تَقْطَعُوهَا بِنَصْبِ الْأَرْحَامِ وَهُوَ أَجْوَدُ مِنْ الرّفْعِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِلنّهْيِ . وَقَوْلُهُ وَصِلُوهَا قَصِيرَةً مِنْ طِوَالِ وَقَدْ أَمْلَيْنَا فِيهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ مَا نُعِيدُهُ هَاهُنَا بِحَوْلِ اللّهِ وَأَمْلَيْنَا أَيْضًا فِي مَعْنَى الرّحِمِ وَاشْتِقَاقِ الْأُمّ لِإِضَافَةِ الرّحِمِ إلَيْهَا ، وَوَضْعِهَا فِيهِ عِنْدَ خَلْقِ آدَمَ وَحَوّاءَ ، وَكَوْنِ الْأُمّ أَعْظَمَ حَظّا فِي الْبِرّ مِنْ الْأَبِ مَعَ أَنّهَا فِي الْمِيرَاثِ دُونَهُ أَسْرَارًا بَدِيعَةً وَمَعَانِيَ لَطِيفَةً أَوْدَعْنَاهَا كِتَابَ الْفَرَائِضِ وَشَرْحَ آيَاتِ الْوَصِيّةِ فَلْتُنْظَرْ هُنَالِكَ . وَأَمّا قَوْلُهُ قَصِيرَةً مِنْ طِوَالِ فَيَحْتَمِلُ تَأْوِيلَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنْ يُرِيدَ صِلُوا قِصَرَهَا مِنْ طِوَلِكُمْ أَيْ كُونُوا أَنْتُمْ طِوَالًا بِالصّلَةِ وَالْبِرّ إنْ قَصُرَتْ هِيَ وَفِي الْحَدِيثِ أَنّهُ قَالَ لِأَزْوَاجِهِ أَسْرَعُكُنّ لُحُوقًا بِي : أَطْوَلُكُنّ يَدًا فَاجْتَمَعْنَ يَتَطَاوَلْنَ فَطَالَتْهُنّ سَوْدَةُ فَمَاتَتْ زَيْنَبُ أَوَلَهُنّ أَرَادَ الطّوْلَ بِالصّدَقَةِ وَالْبِرّ فَكَانَتْ تِلْكَ صِفَةَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ . وَالتّأْوِيلُ الْآخَرُ أَنْ يُرِيدَ مَدْحًا لِقَوْمِهِ بِأَنّ أَرْحَامَهُمْ قَصِيرَةُ النّسَبِ وَلَكِنّهَا مِنْ قَوْمٍ طِوَالٍ كَمَا قَالَ
أُحِبّ مِنْ النّسْوَانِ كُلّ طَوِيلَةٍ ... لَهَا نَسَبٌ فِي الصّالِحِينَ قَصِيرُ
وَقَالَ الطّائِيّ :
أَنْتُمْ بَنُو النّسَبِ الْقَصِيرِ وَطُولُكُمْ ... بَادٍ عَلَى الْكُبَرَاءِ وَالْأَشْرَافِ
وَالنّسَبُ الْقَصِيرُ أَنْ يَقُولَ أَنَا ابْنُ فُلَانٍ فَيُعْرَفُ وَتِلْكَ صِفَةُ الْأَشْرَافِ وَمَنْ لَيْسَ بِشَرِيفِ لَا يُعْرَفُ حَتّى يَأْتِيَ بِنِسْبَةِ طَوِيلَةٍ يَبْلُغُ بِهَا رَأْسَ الْقَبِيلَةِ . وَقَدْ قَالَ رُؤْبَةُ قَالَ لِي [ ص 365 ] النّسّابَةُ مَنْ أَنْتَ انْتَسِبْ فَقُلْت : رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ ، فَقَالَ قَصّرْت وَعُرِفْت . وَقَوْلُهُ إنّ خَزْلَ التّخُومِ ذُو عُقّالِ التّخُومُ جَمْعُ : تَخُومَةٍ وَمَنْ قَالَ تَخِمَ فِي الْوَاحِدِ قَالَ فِي الْجَمْعِ تُخُومٌ بِضَمّ التّاءِ وَأَرَادَ بِهَا الْأَرْفَ [ أَوْ الْأُرْثَ ] وَهِيَ الْحُدُودُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ التّخُومُ وَالتّخُومُ حُدُودُ الْبِلَادِ وَالْقُرَى ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي حُدُودِ الْأَحْقَالِ الْأَرْفَ . وَالْعُقّالُ . مَا يَمْنَعُ الرّجُلَ مِنْ الْمَشْيِ وَيَعْقِلُهَا يُرِيدُ أَنّ الظّلْمَ يَخْلُفُ صَاحِبَهُ وَيَعْقِلُهُ عَنْ السّبَاقِ وَيَحْبِسُهُ فِي مَضَايِقِ الِاحْتِقَاقِ .

وَقَالَ أَبُو قَيْسٍ صِرْمَةُ أَيْضًا ، يَذْكُرُ مَا أَكْرَمَهُمْ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهِ مِنْ الْإِسْلَامِ وَمَا خَصّهُمْ اللّهُ بِهِ مِنْ نُزُولِ رَسُولِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَيْهِمْ
ثَوَى فِي قُرَيْشٍ بِضْعَ عَشْرَةَ حِجّةً ... يُذَكّرُ لَوْ يَلْقَى صَدِيقًا مُوَاتِيَا
وَيَعْرِضُ فِي أَهْلِ الْمَوَاسِمِ نَفْسَهُ ... فَلَمْ يَرَ مَنْ يُؤْوِي وَلَمْ يَرَ دَاعِيَا
فَلَمّا أَتَانَا أَظْهَرَ اللّهُ دِينَهُ ... فَأَصْبَحَ مَسْرُورًا بِطِيبَةَ رَاضِيًا
وَأَلْفَى صَدِيقًا وَاطْمَأَنّتْ بِهِ النّوَى ... وَكَانَ لَهُ عَوْنًا مِنْ اللّهِ بَادِيًا
يَقُصّ لَنَا مَا قَالَ نُوحٌ لِقَوْمِهِ ... وَمَا قَالَ مُوسَى إذْ أَجَابَ الْمُنَادِيَا
فَأَصْبَحَ لَا يَخْشَى مِنْ النّاسِ وَاحِدًا ... قَرِيبًا وَلَا يَخْشَى مِنْ النّاسِ نَائِيَا
بَذَلْنَا لَهُ الْأَمْوَالَ مِنْ حِلّ مَالِنَا ... وَأَنْفُسِنَا عِنْدَ الْوَغَى وَالتّآسِيَا
وَنَعْلَمُ أَنّ اللّهَ لَا شَيْءَ غَيْرَهُ ... وَنَعْلَمُ أَنّ اللّهَ أَفْضَلُ هَادِيَا
نُعَادِي الّذِي عَادَى مِنْ النّاسِ كُلّهِمْ ... جَمِيعًا وَإِنْ كَانَ الْحَبِيبَ الْمُصَافِيَا
أَقُولُ إذَا أَدْعُوك فِي كُلّ بَيْعَةٍ ... تَبَارَكْت قَدْ أَكْثَرْت لِاسْمِك دَاعِيَا
أَقُولُ إذَا جَاوَزْت أَرْضًا مَخُوفَةً ... حَنَانَيْكَ لَا تُظْهِرْ عَلَيّ الْأَعَادِيَا
[ ص 366 ]
فَطَأْ مُعْرِضًا إنّ الْحُتُوفَ كَثِيرَةٌ ... وَإِنّك لَا تُبْقِي لِنَفْسِك بَاقِيَا
فَوَاَللّهِ مَا يَدْرِي الْفَتَى كَيْفَ يَتّقِي ... إذَا هُوَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ اللّهُ وَاقِيَا
وَلَا تَحْفِلُ النّخْلُ الْمُعِيمَةُ رَبّهَا ... إذَا أَصْبَحَتْ رَبّا وَأَصْبَحَ ثَاوِيَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْبَيْتُ الّذِي أَوّلُهُ فَطَأْ مُعْرِضًا إنّ الْحُتُوفَ كَثِيرَةٌ وَالْبَيْتُ الّذِي يَلِيهِ فَوَاَللّهِ مَا يَدْرِي الْفَتَى كَيْفَ يَتّقِي [ ص 367 ] التّغْلِبِيّ وَهُوَ صُرَيْمُ بْنُ مَعْشَرٍ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ
S[ ص 366 ] وَذَكَرَ قَصِيدَتَهُ الْيَائِيّةَ وَقَالَ فِيهَا : فَطَأْ مُعْرِضًا . الْبَيْتُ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هُوَ لِأُفْنُونٍ التّغْلِبِيّ وَاسْمُهُ صُرَيْمُ بْنُ مَعْشَرِ [ بْنِ ذُهْلِ بْنِ تَيْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ تَغْلِبَ ] . قَالَ الْمُؤَلّفُ وَسُمّيَ أُفْنُونًا فِي قَوْلِ ابْنِ دُرَيْدٍ لِبَيْتِ قَالَهُ فِيهِ أَوْ نَحْوَ هَذَا اللّفْظِ . وَالْأُفْنُونُ الْغُصْنُ النّاعِمُ وَالْأُفْنُونُ أَيْضًا الْعَجُوزُ الْفَانِيَةُ وَأُفْنُونُ هُوَ الّذِي يَقُولُ
لَوْ أَنّنِي كُنْت مِنْ عَادٍ وَمِنْ إرَمٍ ... غَذِيّ بَهْمٍ وَلُقْمَانِ وَذِي جَدَنِ
لَمَا وَقَوْا بِأَخِيهِمْ مِنْ مُهَوّلَةٍ ... أَخَا السّكُونِ وَلَا جَارُوا عَنْ السّنَنِ
أَنّى جَزَوْا عَامِرًا سُوءَى بِفِعْلِهِمْ ... أَمْ كَيْفَ يَجْزُونَنِي السّوءَى مِنْ الْحَسَنِ
أَمْ كَيْفَ يَنْفَعُ مَا تُعْطِي الْعَلُوقُ بِهِ ... رِئْمَانُ أَنْفُ إذَا مَا ضَنّ بِاللّبَنِ
وَقَوْلُ ابْنِ هِشَامٍ فِي الْبَيْتَيْنِ فَطَأْ مُعْرِضًا وَاَلّذِي بَعْدَهُ أَنّهُمَا لِأُفْنُونٍ التّغْلِبِيّ مَذْكُورٌ عِنْدَ أَهْلِ الْأَخْبَارِ وَلَهَا سَبَبٌ ذَكَرُوا أَنّ أُفْنُونًا خَرَجَ فِي رَكْبٍ فَمَرّوا بِرَبْوَةِ تُعْرَفُ بِالْإِلَهَةِ وَكَانَ الْكَاهِنُ قَبْلَ ذَلِكَ قَدْ حَدّثَهُ أَنّهُ يَمُوتُ بِهَا ، فَمَرّ بِهَا فِي ذَلِكَ الرّكْبِ فَلَمّا أَشْرَفُوا عَلَيْهَا وَأُعْلِمَ بِاسْمِهَا ، كَرِهَ الْمُرُورَ بِهَا ، وَأَبَوْا أَصْحَابُهُ إلّا أَنْ يَمُرّوا بِهَا ، وَقَالُوا لَهُ لَا تَنْزِلْ عِنْدَهَا ، وَلَكِنْ نَجُوزُهَا سَعْيًا ، فَلَمّا دَنَا مِنْهَا بَرَكَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى حَيّةٍ فَنَزَلَ لِيَنْظُرَ فَنَهَشَتْهُ الْحَيّةُ فَمَاتَ فَقَبْرُهُ هُنَالِكَ وَقِيلَ فِي حَدِيثِهِ إنّهُ مَرّ بِهَا لَيْلًا ، فَلَمْ يَعْرِفْ بِهَا حَتّى رَبَضَ الْبَعِيرُ [ ص 367 ] كَانَ عَلَيْهِ وَعَلِمَ أَنّهُ عِنْدَ الْإِلَهَةِ فَجَزَعَ فَقِيلَ لَهُ لَا بَأْسَ عَلَيْك ، فَقَالَ فَلِمَ رَبَضَ الْبَعِيرُ فَأَرْسَلَهَا مَثَلًا . ذَكَرَهُ يَعْقُوبُ وَعِنْدَمَا أَحَسّ بِالْمَوْتِ قَالَ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ اللّذَيْنِ ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ وَبَعْدَهُمَا :
كَفَى حُزْنًا أَنْ يَرْحَلَ الرّكْبُ غَدْوَةً ... وَأُتْرَكُ فِي جَنْبِ الْإِلَهَةِ ثَاوِيًا

الْأَعْدَاءُ مِنْ يَهُودَ
قَالَ [ ص 368 ] ابْنُ إسْحَاقَ : وَنَصَبَتْ عِنْدَ ذَلِكَ أَحْبَارُ يَهُودَ . لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَدَاوَةَ بَغْيًا وَحَسَدًا وَضَغْنًا ، لِمَا خَصّ اللّهُ تَعَالَى بِهِ الْعَرَبَ مِنْ أَخْذِهِ رَسُولَهُ مِنْهُمْ وَانْضَافَ إلَيْهِمْ رِجَالٌ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ، مِمّنْ كَانَ عَلَى جَاهِلِيّتِهِ فَكَانُوا أَهْلَ نِفَاقٍ عَلَى دِينِ آبَائِهِمْ مِنْ الشّرْكِ وَالتّكْذِيبِ بِالْبَعْثِ إلّا أَنّ الْإِسْلَامَ قَهَرَهُمْ بِظُهُورِهِ وَاجْتِمَاعِ قَوْمِهِمْ عَلَيْهِ فَظَهَرُوا بِالْإِسْلَامِ وَاِتّخَذُوهُ جُنّةً مِنْ الْقَتْلِ وَنَافَقُوا فِي السّرّ ، وَكَانَ هَوَاهُمْ مَعَ يَهُودَ لِتَكْذِيبِهِمْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَجُحُودِهِمْ الْإِسْلَامَ . وَكَانَتْ أَحْبَارُ يَهُودِهِمْ الّذِينَ يَسْأَلُونَ - رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَيَتَعَنّتُونَهُ وَيَأْتُونَهُ بِاللّبْسِ لِيُلْبِسُوا الْحَقّ بِالْبَاطِلِ فَكَانَ الْقُرْآنُ يَنْزِلُ فِيهِمْ فِيمَا يَسْأَلُونَ عَنْهُ إلّا قَلِيلًا مِنْ الْمَسَائِلِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَسْأَلُونَ عَنْهَا . مِنْ يَهُودِ بَنِي النّضِيرِ مِنْهُمْ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ ، وَأَخَوَاهُ أَبُو يَاسِرِ بْنُ أَخْطَبَ ، وَجُدَيّ بْنُ أَخْطَبَ [ ص 369 ] وَسَلّامُ بْنُ مِشْكَمٍ ، وَكِنَانَةُ بْنُ الرّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ وَسَلّامُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ أَبُو رَافِعٍ الْأَعْوَرُ وَهُوَ الّذِي قَتَلَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِخَيْبَرِ - وَالرّبِيعُ بْنُ الرّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ وَعَمْرُو بْنُ جَحّاشٍ ، وَكَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَهُوَ مِنْ طَيّئٍ ثُمّ أَحَدُ بَنِي نَبْهَانَ وَأُمّهُ مِنْ بَنِي النّضِيرِ وَالْحَجّاجُ بْنُ عَمْرٍو ، حَلِيفُ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَكَرْدَمُ بْنُ قَيْسٍ ، حَلِيفُ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ فَهَؤُلَاءِ مِنْ بَنِي النّضِيرِ .
مِنْ يَهُودِ بَنِي ثَعْلَبَةَ
وَمِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ الْفِطْيَوْنِ عَبْدُ اللّهِ بْنُ صُورِيَا الْأَعْوَرُ وَلَمْ يَكُنْ بِالْحِجَازِ فِي زَمَانِهِ أَحَدٌ أَعْلَمُ بِالتّوْرَاةِ مِنْهُ وَابْنُ صَلُوبَا ، وَمُخَيْرِيقٌ ، وَكَانَ حَبْرُهُمْ أَسْلَمُ .
مِنْ يَهُودِ بَنِي قَيْنُقَاعِ
وَمِنْ بَنِي قَيْنُقَاعِ زَيْدُ بْنُ اللّصِيتِ - وَيُقَالُ ابْن اللّصَيْتِ - فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ - وَسَعْدُ بْنُ حُنَيْفٍ ، وَمَحْمُودُ بْنُ سَيْحَانَ ، وَعُزَيْرُ بْنُ أَبِي عُزَيْرَ ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ صَيْفٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ ابْن ضَيْفٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَسُوَيْدُ بْنُ الْحَارِثِ ، وَرِفَاعَةُ بْنُ قَيْسٍ ، وَفِنْحَاصُ وَأَشْيَعُ وَنُعْمَانُ بْنُ أَضَا ، وَبَحْرِيّ بْنُ عَمْرٍو ، وَشَأْسُ بْنُ عَدِيّ ، وَشَأْسُ بْنُ قَيْسٍ ، وَزَيْدُ بْنُ الْحَارِثِ وَنُعْمَانُ بْنُ عَمْرٍو ، وَسُكَيْنُ بْنُ أَبِي سُكَيْنٍ ، وَعَدِيّ بْنُ زَيْدٍ ، وَنُعْمَانُ بْنُ أَبِي أَوْفَى ، أَبُو أَنَسٍ وَمَحْمُودُ بْنُ دِحْيَةَ وَمَالِكُ بْنُ صَيْفٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ ابْنُ ضَيْفٍ . [ ص 370 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَعْبُ بْنُ رَاشِدٍ وَعَازِرٌ وَرَافِعُ بْنُ أَبِي رَافِعٍ ، وَخَالِدٌ وَأَزَارُ بْنُ أَبِي أَزَارٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ آزَرُ بْنُ آزَرَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَرَافِعُ بْنُ حَارِثَةَ ، وَرَافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ ، وَرَافِعُ بْنُ خَارِجَةَ ، وَمَالِكُ بْنُ عَوْفٍ وَرِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ التّابُوتِ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ سَلَامِ بْنِ الْحَارِثِ وَكَانَ حَبْرَهُمْ وَأَعْلَمَهُمْ وَكَانَ اسْمُهُ الْحُصَيْنُ فَلَمّا أَسْلَمَ سَمّاهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَبْدَ اللّهِ . فَهَؤُلَاءِ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعِ .
مِنْ يَهُودِ بَنِي قُرَيْظَةَ
وَمِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ : الزّبَيْرُ بْنُ بَاطَا بْنِ وَهْبٍ وَعَزّالُ بْنُ شَمْوِيلَ ، وَكَعْبُ بْنُ أَسَدٍ ، وَهُوَ صَاحِبُ عَقْدِ بَنِي قُرَيْظَةَ الّذِي نُقِضَ عَامَ الْأَحْزَابِ ، وَشَمْوِيلُ بْنُ زَيْدٍ ، وَجَبَلُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سُكَيْنَةَ ، وَالنّحّامُ بْنُ زَيْدٍ ، وَقَرْدَمُ بْنُ كَعْبٍ ، وَوَهْبُ بْنُ زَيْدٍ ، وَنَافِعُ بْنُ أَبِي نَافِعٍ ، وَأَبُو نَافِعٍ وَعَدِيّ بْنُ زَيْدٍ ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ ، وَكَرْدَمُ بْنُ زَيْدٍ وَأُسَامَةُ بْنُ حَبِيبٍ ، وَرَافِعُ بْنُ رُمَيْلَةَ وَجَبَلُ بْنُ أَبِي قُشَيْرٍ ، وَوَهْبُ بْنُ يَهُوذَا ، فَهَؤُلَاءِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ .
Sتَسْمِيَةُ الْيَهُودِ الّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ الْقُرْآنُ
ذُكِرَ [ ص 368 ] أَخْطَبَ بِالْجِيمِ وَهُوَ أَخُو حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ ، وَأَمّا حُدَيّ بِالْحَاءِ [ ص 369 ] فَذَكَرَهُ الدّارَقُطْنِيّ فِي نَسَبِ عُتَيْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ شِهَابِ بْنِ حُدَيّ التّمِيمِيّ فَارِسُ الْعَرَبِ . وَذَكَرَ عُزَيْرَ بْنَ أَبِي عُزَيْرَ وَأَلْفَيْت بِخَطّ الْحَافِظِ أَبِي بَحْرٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَقُولُ عُزَيْزُ بْنُ أَبِي عُزَيْزٍ بِزَايَيْنِ قَيّدْنَاهُ فِي الْجُزْءِ قَبْلُ . وَذَكَرَ ثَعْلَبَةَ بْنَ الْفِطْيَوْنِ وَالْفِطْيَوْنُ كَلِمَةٌ عِبْرَانِيّةٌ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ كُلّ مِنْ وَلِيّ أَمْرِ الْيَهُودِ ، وَمَلِكِهِمْ كَمَا أَنّ النّجَاشِيّ عِبَارَةٌ عَنْ كُلّ مِنْ مَلِكِ الْحَبَشَةِ ، وَخَاقَانَ مَلِكِ التّرْكِ ، وَقَدْ تَقَدّمَ مِنْ هَذَا الْبَابِ جُمْلَةٌ . وَذُكِرَ فِيهِمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ صُورِيَا الْأَعْوَرُ وَكَانَ أَعْلَمُهُمْ بِالتّوْرَاةِ ذَكَرَ النّقّاشُ أَنّهُ أَسْلَمَ لَمّا تَحَقّقَ مِنْ صِفَاتِ مُحَمّدٍ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي التّوْرَاةِ ، وَأَنّهُ هُوَ وَلَيْسَ فِي سِيرَةِ ابْنِ إسْحَاقَ ذِكْرُ إسْلَامِهِ .

مِنْ يَهُودِ بَنِي زُرَيْقٍ
وَمِنْ يَهُودِ بَنِي زُرَيْقٍ : لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ وَهُوَ الّذِي أَخَذَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ نِسَائِهِ . [ ص 371 ] [ ص 372 ]
مِنْ يَهُودِ بَنِي حَارِثَةَ
وَمِنْ يَهُودِ بَنِي حَارِثَةَ : كِنَانَةُ بْنُ صُورِيَا .
مِنْ يَهُودِ بَنِي عَمْرٍو
وَمِنْ يَهُودِ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ : قَرْدَمُ بْنُ عَمْرٍو .
مِنْ يَهُودِ بَنِي النّجّارِ
وَمِنْ يَهُودِ بَنِي النّجّارِ : سِلْسِلَةُ بْن بَرْهَامٍ . [ ص 373 ] الْيَهُودِ ، أَهْلُ الشّرُورِ وَالْعَدَاوَةِ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأَصْحَابِهِ وَأَصْحَابُ الْمَسْأَلَةِ وَالنّصْبِ لِأَمْرِ الْإِسْلَامِ الشّرُورَ لِيُطْفِئُوهُ إلّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سَلَامٍ وَمُخَيْرِيقٍ .
Sيَهُودُ الْمَدِينَةِ
فَصْلٌ
وَقَوْلُهُ [ ص 370 ] يَهُودِ بَنِي زُرَيْقٍ ، وَمِنْ يَهُودِ بَنِي حَارِثَةَ ، وَذَكَرَ قَبَائِلَ مِنْ الْأَنْصَارِ ، وَإِنّمَا الْيَهُودُ بَنُو إسْرَائِيلَ ، وَجُمْلَةُ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ بِالْمَدِينَةِ وَخَيْبَرَ إنّمَا هُمْ [ بَنُو ] قُرَيْظَةَ [ وَبَنُو ] النّضِيرِ وَبَنُو قَيْنُقَاعِ ، غَيْرَ أَنّ فِي الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ مَنْ قَدْ تَهَوّدَ وَكَانَ مِنْ نِسَائِهِمْ مَنْ تُنْذِرُ إذَا وَلَدَتْ إنْ عَاشَ وَلَدُهَا أَنْ تُهَوّدَهُ لِأَنّ الْيَهُودَ عِنْدَهُمْ كَانُوا أَهْلَ عِلْمٍ وَكِتَابٍ وَفِي هَؤُلَاءِ الْأَبْنَاءِ الّذِينَ تَهَوّدُوا نَزَلَتْ { لَا إِكْرَاهَ فِي الدّينِ } [ الْبَقَرَةُ 256 ] حِينَ أَرَادَ آبَاؤُهُمْ إكْرَاهَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ .
السّحْرُ الْمَنْسُوبُ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَأَمّا لَبِيدُ بْنُ الْأَعْصَمِ الّذِي ذَكَرَهُ مِنْ يَهُودِ بَنِي زُرَيْقٍ ، وَقَالَ هُوَ الّذِي أَخَذَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ نِسَائِهِ يَعْنِي مِنْ الْأُخْذَةِ وَهِيَ ضَرْبٌ مِنْ السّحْرِ . فِي الْخَبَرِ أَنّ [ ص 371 ] الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمّدِ ابْنِ الْحَنَفِيّةِ ، كَانَ مُؤْخَذًا عَنْ مَسْجِدِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَدْخُلَهُ وَكَانَ لَبِيدٌ هَذَا قَدْ سَحَرَ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجَعَلَ سِحْرَهُ فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ . وَرُوِيَ مُشَاقَةٍ بِالْقَافِ وَهِيَ مُشَاقَةُ الْكَتّانِ وَجُفّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ هِيَ فُحّالُ النّخْلِ وَهُوَ ذُكّارُهُ . وَالْجُفّ : غِلَافٌ لِلطّلْعَةِ وَيَكُونُ لِغَيْرِهَا ، وَيُقَالُ لِلْجُفّ الْقِيقَاءُ وَتُصْنَعُ مِنْهُ آنِيَةٌ يُقَالُ لَهَا : التّلَاتِلُ [ جَمْعُ : تَلْتَلَةٍ ] قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَدَفَنَهُ فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَقُولُونَ ذَوْرَانُ تَحْتَ رَاعُوفَةِ الْبِئْرِ [ أَوْ أُرْعُوفَتِهَا ] ، وَهِيَ صَخْرَةٌ فِي أَسْفَلِهِ يَقِفُ عَلَيْهَا الْمَائِحُ وَهَذَا الْحَدِيثُ مَشْهُورٌ عِنْدَ النّاسِ ثَابِتٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ غَيْرَ أَنّي لَمْ أَجِدْ فِي الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ كَمْ لَبِثَ - رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِذَلِكَ السّحْرِ حَتّى شُفِيَ مِنْهُ ثُمّ وَقَعْت عَلَى الْبَيَانِ فِي جَامِعِ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ . رَوَى مَعْمَرٌ عَنْ الزّهْرِيّ ، قَالَ سُحِرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَنَةً يُخَيّلُ إلَيْهِ أَنّهُ يَفْعَلُ الْفِعْلَ وَهُوَ لَا يَفْعَلُهُ وَقَدْ طَعَنَتْ الْمُعْتَزِلَةُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَطَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَقَالُوا : لَا يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يُسْحَرُوا ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يُسْحَرُوا ، لَجَازَ أَنْ يُجَنّوا . وَنَزَعَ بِقَوْلِهِ عَزّ وَجَلّ { وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ } [ الْمَائِدَةُ 67 ] وَالْحَدِيثُ ثَابِتٌ خَرّجَهُ أَهْلُ الصّحِيحِ وَلَا مَطْعَنَ فِيهِ مِنْ جِهَةِ النّقْلِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ لِأَنّ الْعِصْمَةَ إنّمَا وَجَبَتْ لَهُمْ فِي عُقُولِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ وَأَمّا أَبْدَانُهُمْ فَإِنّهُمْ يُبْتَلَوْنَ فِيهَا ، وَيُخْلَصُ إلَيْهِمْ بِالْجِرَاحَةِ وَالضّرْبِ وَالسّمُومِ وَالْقَتْلِ وَالْأُخْذَةُ الّتِي أُخِذَهَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ هَذَا الْفَنّ إنّمَا كَانَتْ فِي بَعْضِ جَوَارِحِهِ دُونَ بَعْضٍ . أَمّا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ { وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ } فَإِنّهُ قَدْ رُوِيَ أَنّهُ كَانَ يَحْرُسُ فِي الْغَزْوِ حَتّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَأَمَرَ حُرّاسَهُ أَنْ يَنْصَرِفُوا عَنْهُ وَقَالَ لَا حَاجَةَ لِي بِكُمْ فَقَدْ عَصَمَنِي اللّهُ مِنْ النّاسِ أَوْ كَمَا قَالَ [ ص 372 ]
فِقْهُ حَدِيثِ السّحْرِ
وَأَمّا مَا فِيهِ مِنْ الْفِقْهِ فَإِنّ عَائِشَةَ قَالَتْ لَهُ هَلّا تَنَشّرْت ، فَقَالَ أَمّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللّهُ وَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النّاسِ شَرّا وَهُوَ حَدِيثٌ مُشْكِلٌ فِي ظَاهِرِهِ وَإِنّمَا جَاءَ الْإِشْكَالُ فِيهِ مِنْ قِبَلِ الرّوَاةِ فَإِنّهُمْ جَعَلُوا جَوَابَيْنِ لِكَلَامَيْنِ كَلَامًا وَاحِدًا ، وَذَلِكَ أَنّ عَائِشَةَ قَالَتْ لَهُ أَيْضًا : هَلّا اسْتَخْرَجْته ، أَيْ هَلّا اسْتَخْرَجْت السّحْرَ مِنْ الْجُفّ وَالْمُشَاطَةِ حَتّى يُنْظَرَ إلَيْهِ فَلِذَلِكَ قَالَ وَأَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النّاسِ شَرّا ، قَالَ ابْنُ بَطّالٍ : كَرِهَ أَنْ يُخْرِجَهُ . فَيَتَعَلّمُ مِنْهُ بَعْضُ النّاسِ فَذَلِكَ هُوَ الشّرّ الّذِي كَرِهَهُ . قَالَ الْمُؤَلّفُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشّرّ غَيْرَ هَذَا ، وَذَلِكَ أَنّ السّاحِرَ كَانَ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ فَلَوْ أَظْهَرَ سِحْرَهُ لِلنّاسِ وَأَرَاهُمْ إيّاهُ لَأَوْشَكَ أَنْ يُرِيدَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَتْلَهُ وَيَتَعَصّبَ لَهُ آخَرُونَ مِنْ عَشِيرَتِهِ فَيَثُورُ شَرّ كَمَا ثَارَ فِي حَدِيثِ الْإِفْكِ مِنْ الشّرّ مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ . وَقَوْلُ عَائِشَةَ هَلّا اسْتَخْرَجْته هُوَ فِي حَدِيثَيْنِ رَوَاهُمَا الْبُخَارِيّ جَمِيعًا ، وَأَمّا جَوَابُهُ لَهَا فِي حَدِيثِ هَلّا تَنَشّرْت : بِقَوْلِهِ أَمّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللّهُ وَجَوَابُهُ لَهَا حِينَ قَالَتْ هَلّا اسْتَخْرَجْته بِأَنْ قَالَ أَكْرَهُ أَنْ أُثِيرَ عَلَى النّاسِ شَرّا ، فَلَمّا جَمَعَ الرّاوِي بَيْنَ الْجَوَابَيْنِ فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ اسْتَغْلَقَ الْكَلَامُ وَإِذَا نَظَرْت الْأَحَادِيثَ مُتَفَرّقَةً تَبَيّنْت ، وَعَلَى هَذَا النّحْوِ شَرَحَ هَذَا الْحَدِيثَ ابْنُ بَطّالٍ . وَأَمّا الْفِقْهُ الّذِي أَشَرْنَا إلَيْهِ فَهُوَ إبَاحَةُ النّشْرَةِ مِنْ قَوْلِ عَائِشَةَ هَلّا تَنَشّرْت ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا قَوْلَهَا . [ ص 373 ] وَذَكَرَ الْبُخَارِيّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ أَنّهُ سُئِلَ عَنْ النّشْرَةِ لِلّذِي يُؤْخَذُ عَنْ أَهْلِهِ فَقَالَ لَا بَأْسَ لَمْ يُنْهَ عَنْ الصّلَاحِ إنّمَا نُهِيَ عَنْ الْفَسَادِ وَمَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ وَمِنْ النّاسِ مَنْ كَرِهَ النّشْرَةَ عَلَى الْعُمُومِ وَنَزَعَ بِحَدِيثِ خَرّجَهُ أَبُو دَاوُدَ مَرْفُوعًا : أَنّ النّشْرَةَ مِنْ عَمَلِ الشّيْطَانِ وَهَذَا - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - فِي النّشْرَةِ الّتِي فِيهَا الْخَوَاتِمُ وَالْعَزَائِمُ وَمَا لَا يُفْهَمُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْعَجَمِيّةِ وَلَوْلَا الْإِطَالَةُ الْمُخْرِجَةُ لَنَا عَنْ غَرَضِنَا لَقَدّرْنَا الرّخْصَةَ بِالْآثَارِ وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ . وَكَانَتْ عُقَدُ السّحْرِ أَحَدَ عَشَرَ عُقْدَةً فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى الْمُعَوّذَتَيْنِ أَحَدَ عَشَرَ آيَةً فَانْحَلّتْ بِكُلّ آيَةٍ عُقْدَةٌ قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْ شَرّ النّفّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } وَلَمْ يَقُلْ النّفّاثِينَ وَإِنّمَا كَانَ الّذِي سَحَرَهُ رَجُلًا وَالْجَوَابُ أَنّ الْحَدِيثَ قَدْ رَوَاهُ إسْمَاعِيلُ الْقَاضِي ، وَزَادَ فِي رِوَايَتِهِ أَنّ زَيْنَبَ الْيَهُودِيّةَ أَعَانَتْ لَبِيدَ بْنَ الْأَعْصَمِ عَلَى ذَلِكَ السّحْرِ مَعَ أَنّ الْأُخْذَةَ فِي الْغَالِبِ مِنْ عَمَلِ النّسَاءِ وَكَيْدِهِنّ .

إسْلَامُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سَلَامٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سَلَامٍ ، كَمَا حَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِهِ عَنْهُ . وَعَنْ إسْلَامِهِ حِينَ أَسْلَمَ ، وَكَانَ حَبْرًا عَالِمًا ، قَالَ لَمّا سَمِعْت بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَرَفْت صِفَتَهُ وَاسْمَهُ وَزَمَانَهُ الّذِي كُنّا نَتَوَكّفُ لَهُ فَكُنْت مُسِرّا لِذَلِكَ صَامِتًا عَلَيْهِ حَتّى قَدِمَ [ ص 374 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ ، فَلَمّا نَزَلَ بِقُبَاءٍ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ ، أَقْبَلَ رَجُلٌ حَتّى أَخْبَرَ بِقُدُومِهِ وَأَنَا فِي رَأْسِ نَخْلَةٍ لِي أَعْمَلُ فِيهَا ، وَعَمّتِي خَالِدَةُ بْنَةُ الْحَارِثِ تَحْتِي جَالِسَةٌ فَلَمّا سَمِعْت الْخَبَرَ بِقُدُومِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَبّرْت ، فَقَالَتْ لِي عَمّتِي ، حِينَ سَمِعَتْ تَكْبِيرِي : خَيّبَك اللّهُ وَاَللّهِ لَوْ كُنْت سَمِعْت بِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ قَادِمًا مَا زِدْت ، قَالَ فَقُلْت لَهَا : أَيْ عَمّةَ هُوَ وَاَللّهِ أَخُو مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَعَلَى دِينِهِ بُعِثَ بِمَا بُعِثَ بِهِ . قَالَتْ أَيْ ابْنَ أَخِي ، أَهُوَ النّبِيّ الّذِي كُنّا نُخْبَرُ أَنّهُ يُبْعَثُ مَعَ نَفَسِ السّاعَةِ ؟ قَالَ فَقُلْت لَهَا : نَعَمْ . قَالَ فَقَالَتْ فَذَاكَ إذًا . قَالَ ثُمّ خَرَجْت إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَسْلَمْت ، ثُمّ رَجَعْت إلَى أَهْلِ بَيْتِي ، فَأَمَرْتهمْ فَأَسْلَمُوا . قَالَ وَكَتَمْت إسْلَامِي مِنْ يَهُودَ ثُمّ جِئْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقُلْت لَهُ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ يَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ وَإِنّي أُحِبّ أَنْ تُدْخِلَنِي فِي بَعْضِ بُيُوتِك ، وَتُغَيّبُنِي عَنْهُمْ ثُمّ تَسْأَلُهُمْ عَنّي ، حَتّى يُخْبِرُوك كَيْفَ أَنَا فِيهِمْ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي ، فَإِنّهُمْ إنْ عَلِمُوا بِهِ بَهَتُونِي وَعَابُونِي . قَالَ فَأَدْخَلَنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي بَعْضِ بُيُوتِهِ وَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَكَلّمُوهُ . [ ص 375 ] قَالَ لَهُمْ أَيّ رَجُلٍ الْحُصَيْنُ بْنُ سَلَامٍ فِيكُمْ ؟ قَالُوا : سَيّدُنَا وَابْنُ سَيّدِنَا ، وَحَبْرُنَا وَعَالِمُنَا . قَالَ فَلَمّا فَرَغُوا مِنْ قَوْلِهِمْ خَرَجْت عَلَيْهِمْ فَقُلْت لَهُمْ يَا مَعْشَرَ يَهُودَ اتّقُوا اللّهَ وَاقْبَلُوا مَا جَاءَكُمْ بِهِ فَوَاَللّهِ إنّكُمْ لَتَعْلَمُونَ إنّهُ لَرَسُولُ اللّهِ تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فِي التّوْرَاةِ بِاسْمِهِ وَصِفَتِهِ فَإِنّي أَشْهَدُ أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأُومِنُ بِهِ وَأُصَدّقُهُ وَأَعْرِفُهُ فَقَالُوا : كَذَبْت ثُمّ وَقَعُوا بِي ، قَالَ فَقُلْت لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلَمْ أُخْبِرْك يَا رَسُولَ اللّهِ أَنّهُمْ قَوْمٌ بُهُتٌ أَهْلُ غَدْرٍ وَكَذِبٍ وَفُجُورٍ قَالَ فَأَظْهَرْت إسْلَامِي وَإِسْلَامَ أَهْلِ بَيْتِي ، وَأَسْلَمَتْ عَمّتِي خَالِدَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ فَحَسُنَ إسْلَامُهَا .
Sإسْلَامُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سَلَامٍ
سَلَامٌ هُوَ بِتَخْفِيفِ اللّامِ وَلَا يُوجَدُ مَنْ اسْمُهُ سَلَامٌ بِالتّخْفِيفِ فِي الْمُسْلِمِينَ لِأَنّ السّلَامَ مِنْ أَسْمَاءِ اللّهِ فَيُقَالُ عَبْدُ السّلَامِ وَيُقَالُ سَلّامٌ بِالتّشْدِيدِ وَهُوَ كَثِيرٌ وَإِنّمَا سَلَامٌ بِالتّخْفِيفِ فِي الْيَهُودِ ، وَهُوَ وَالِدُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سَلَامٍ مِنْهُمْ . [ ص 374 ] ذَكَرَ فِيهِ قَوْلَ عَمّتِهِ خَالِدَةَ أَهُوَ النّبِيّ الّذِي كُنّا نُخْبَرُ أَنّهُ يُبْعَثُ مَعَ نَفَسِ السّاعَةِ وَهَذَا الْكَلَامُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ إنّي لَأَجِدُ نَفَسَ السّاعَةِ بَيْنَ كَتِفِي وَفِي مَعْنَى قَوْلِهِ { نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } [ سَبَأٌ : 46 ] وَمَنْ كَانَ بَيْنَ يَدَيْ طَالِبِهِ فَنَفَسُ الطّالِبِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَكَأَنّ النّفَسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ عِبَارَةٌ عَنْ الْفِتَنِ الْمُؤْذِنَةِ بِقِيَامِ السّاعَةِ وَكَانَ بَدْؤُهَا حِينَ وَلّى أُمّتَهُ ظَهْرَهُ خَارِجًا مِنْ بَيْنِ ظَهْرَانِيهِمْ إلَى اللّهِ تَعَالَى ، أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ وَأَنَا أَمَانٌ لِأُمّتِي ، فَإِذَا ذَهَبْت أَتَى أُمّتِي مَا يُوعَدُون فَكَانَتْ بَعْدَهُ الْفِتْنَةُ ثُمّ الْهَرْجُ الْمُتّصِلُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَنَحْوٌ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ " بُعِثْت أَنَا وَالسّاعَةُ كَهَاتَيْنِ " ، يَعْنِي السّبّابَةَ وَالْوُسْطَى ، وَهُوَ حَدِيثٌ يَرْوِيهِ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ ، وَابْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ ، وَجَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَسَهْلُ بْنُ سَعْدٍ كُلّهُمْ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَفِي حَدِيثِ سَهْلٍ سَبَقْتهَا بِمَا سَبَقَتْ هَذِهِ هَذِهِ يَعْنِي : الْوُسْطَى وَالسّبّابَةَ وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ إنْ كَادَتْ لَتَسْبِقُنِي . وَرَوَاهُ أَيْضًا : أَبُو جُبَيْرَةَ فَقَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " جِئْت أَنَا وَالسّاعَةُ كَهَاتَيْنِ سَبَقْتهَا كَمَا سَبَقَتْ هَذِهِ هَذِهِ فِي نَفَسٍ مِنْ السّاعَةِ أَوْ فِي نَفَسِ السّاعَةِ " ، خَرّجَهَا الطّبَرِيّ بِجَمِيعِ أَسَانِيدِهَا ، وَبَعْضُهَا فِي الصّحِيحَيْنِ وَفِي بَعْضِهَا زِيَادَةٌ عَلَى بَعْضٍ . [ ص 375 ] ذَكَرَ إسْلَامَهَا ، وَهِيَ مِمّا أَغْفَلَهُ أَبُو عُمَرَ فِي كِتَابِ الصّحَابَةِ وَقَدْ اسْتَدْرَكْنَاهَا عَلَيْهِ فِي جُمْلَةِ الِاسْتِدْرَاكَاتِ الّتِي أَلْحَقْنَاهَا بِكِتَابِهِ .

حَدِيثُ مُخَيْرِيقٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ مِنْ حَدِيثِ مُخَيْرِيقٍ ، وَكَانَ حَبْرًا عَالِمًا ، وَكَانَ رَجُلًا غَنِيّا كَثِيرَ الْأَمْوَالِ مِنْ النّخْلِ وَكَانَ يَعْرِفُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِصِفَتِهِ وَمَا يَجِدُ فِي عِلْمِهِ وَغَلَبَ عَلَيْهِ إلْفُ دِينِهِ فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ حَتّى إذَا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ ، وَكَانَ يَوْمُ أُحُدٍ يَوْمَ السّبْتِ ، قَالَ يَا مَعْشَرَ يَهُودَ وَاَللّهِ إنّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنّ نَصْرَ مُحَمّدٍ عَلَيْكُمْ لَحَقّ . قَالُوا : إنّ الْيَوْمَ يَوْمُ السّبْتِ قَالَ لَا سَبْتَ لَكُمْ . ثُمّ أَخَذَ سِلَاحَهُ فَخَرَجَ حَتّى أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأُحُدٍ وَعَهِدَ إلَى مَنْ وَرَاءَهُ مِنْ قَوْمِهِ إنْ قُتِلْت هَذَا الْيَوْمَ فَأَمْوَالِي لِمُحَمّدِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَصْنَعُ فِيهَا مَا أَرَاهُ اللّهُ . فَلَمّا [ ص 376 ] فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيمَا بَلَغَنِي - يَقُولُ " مُخَيْرِيقٌ خَيْرُ يَهُودَ " . وَقَبَضَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمْوَالَهُ فَعَامّةُ صَدَقَاتِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا
Sوَذَكَرَ حَدِيثَ مُخَيْرِيقٍ ، وَقَالَ فِيهِ مُخَيْرِيقٌ خَيْرُ يَهُودَ ، وَمُخَيْرِيقٌ مُسْلِمٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي مُسْلِمٍ هُوَ خَيْرُ النّصَارَى ، وَلَا خَيْرَ الْيَهُودِ ، لِأَنّ أَفْعَلَ مِنْ كَذَا إذَا أُضِيفَ فَهُوَ بَعْضِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ وَكَيْفَ جَازَ هَذَا ؟ قُلْنَا : لِأَنّهُ قَالَ خَيْرُ يَهُودَ وَلَمْ يَقُلْ خَيْرُ الْيَهُودِ ، وَيَهُودُ اسْمُ عَلَمٍ كَثَمُودَ يُقَالُ إنّهُمْ نَسَبُوا إلَى يَهُودَ بْنِ يَعْقُوبَ ثُمّ عُرّبَتْ الذّالُ دَالًا ، فَإِذَا قُلْت : الْيَهُودُ بِالْأَلِفِ وَاللّامِ احْتَمَلَ وَجْهَيْنِ النّسَبَ وَالدّينَ الّذِي هُوَ الْيَهُودِيّةُ أَمّا النّسَبُ فَعَلَى حَدّ قَوْلِهِمْ التّيْمُ فِي التّيْمِيّينَ ، وَأَمّا الدّينُ فَعَلَى حَدّ قَوْلِك : النّصَارَى وَالْمَجُوسُ أَعْنِي : أَنّهَا صِفَةٌ لَا أَنّهَا نَسَبٌ إلَى أَب . وَفِي الْقُرْآنِ لَفْظٌ ثَالِثٌ لَا يُتَصَوّرُ فِيهِ [ ص 376 ] دُونَ النّسَبِ وَهُوَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ { وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى } [ الْبَقَرَةُ 135 ] . بِحَذْفِ الْيَاءِ وَلَمْ يَقُلْ كُونُوا يَهُودَ لِأَنّهُ أَرَادَ التّهَوّدَ وَهُوَ التّدَيّنُ بِدِينِهِمْ وَلَوْ قَالَ كُونُوا يَهُودًا بِالتّدَيّنِ لَجَازَ أَيْضًا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدّمَيْنِ وَلَوْ قِيلَ لِقَوْمِ مِنْ الْعَرَبِ : كُونُوا يَهُودَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ . لَكَانَ مُحَالًا ، لِأَنّ تَبْدِيلَ النّسَبِ حَقِيقَةً مُحَالٌ وَقَدْ قِيلَ فِي هُودٍ : جَمْعُ هَائِدٍ وَهُوَ فِي مَعْنَى مَا قُلْنَاهُ فَلْتَعْرِفْ الْفَرَقَ بَيْنَ قَوْلِك هُودًا بِغَيْرِ يَاءٍ وَيَهُودًا بِالْيَاءِ وَالتّنْوِينِ وَيَهُودَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ فَإِنّهَا تَفْرِقَةٌ حَسَنَةٌ صَحِيحَةٌ وَاَللّهُ أَعْلَمُ وَلَمْ يُسْلِمْ مِنْ أَحْبَارِ يَهُودَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلّا اثْنَانِ . وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ لَوْ اتّبَعَنِي عَشْرَةٌ مِنْ الْيَهُودِ لَمْ يَبْقَ فِي الْأَرْضِ يَهُودِيّ إلّا اتّبَعَنِي رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ . وَسَمِعَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدّثُ فَقَالَ لَهُ إنّمَا الْحَدِيثُ اثْنَا عَشَرَ مِنْ الْيَهُودِ وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ { وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا } فَسَكَتَ أَبُو هُرَيْرَةَ . قَالَ ابْنُ سِيرِينَ : أَبُو هُرَيْرَةَ أَصْدَقُ مِنْ كَعْبٍ . قَالَ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ كِلَاهُمَا : ( صَدَقَ ) ؛ لِأَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّمَا أَرَادَ لَوْ اتّبَعَنِي عَشْرَةٌ مِنْ الْيَهُودِ بَعْدَ هَذَيْنِ اللّذَيْنِ قَدْ أَسْلَمَا .

شَهَادَةً عَنْ صَفِيّةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ قَالَ حُدّثْت عَنْ صَفِيّةَ بِنْتِ حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ أَنّهَا قَالَتْ كُنْت أَحَبّ وَلَدِ أَبِي إلَيْهِ وَإِلَى عَمّي أَبِي يَاسِرٍ لَمْ أَلْقَهُمَا قَطّ مَعَ وَلَدٍ لَهُمَا إلّا أَخَذَانِي دُونَهُ . قَالَتْ فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ ، وَنَزَلَ قُبَاءً ، فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ غَدَا عَلَيْهِ أَبِي ، حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ ، وَعَمّي : أَبُو يَاسِرِ بْنُ أَخْطَبَ ، مُغَلّسِينَ . قَالَتْ فَلَمْ يَرْجِعَا حَتّى كَانَا مَعَ غُرُوبِ الشّمْسِ . قَالَتْ فَأَتَيَا كَالّيْنِ كَسْلَانَيْنِ سَاقِطَيْنِ يَمْشِيَانِ الْهُوَيْنَى . قَالَتْ فَهَشَشْت إلَيْهِمَا كَمَا كُنْت أَصْنَعُ فَوَاَللّهِ مَا الْتَفَتَ إلَيّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ، مَعَ مَا بِهِمَا مِنْ الْغَمّ . قَالَتْ وَسَمِعْت عَمّي أَبَا يَاسِرٍ وَهُوَ يَقُولُ لِأَبِي : حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ : أَهُوَ هُوَ ؟ قَالَ نَعَمْ وَاَللّهِ قَالَ أَتَعْرِفُهُ وَتُثْبِتُهُ ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَمَا فِي نَفْسِك مِنْهُ ؟ قَالَ عَدَاوَتُهُ وَاَللّهِ مَا بَقِيت

مَنْ اجْتَمَعَ إلَى يَهُودَ مِنْ مُنَافِقِي الْأَنْصَارِ
مُنَافِقُو بَنِي عَمْرٍو
[ ص 377 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ مِمّنْ انْضَافَ إلَى يَهُودَ مِمّنْ سُمّيَ لَنَا مِنْ الْمُنَافِقِينَ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ . مِنْ الْأَوْسِ ، ثُمّ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ ؛ ثُمّ مِنْ بَنِي لَوْذَان بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ زُوَيّ بْنُ الْحَارِثِ .
مُنَافِقُو حَبِيبٍ
وَمِنْ بَنِي حَبِيبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ جُلَاسُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ الصّامِتِ ، وَأَخُوهُ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ .
مِنْ نِفَاقِ جُلَاسٍ
وَجُلَاسٌ الّذِي قَالَ - وَكَانَ مِمّنْ تَخَلّفَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ - لَئِنْ كَانَ هَذَا الرّجُلُ صَادِقًا لَنَحْنُ شَرّ مِنْ الْحُمُرِ . فَرُفِعَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ ، أَحَدُهُمْ وَكَانَ فِي حِجْرِ جُلَاسٍ خَلَفَ جُلَاسٌ عَلَى أُمّهِ بَعْدَ أَبِيهِ فَقَالَ لَهُ عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ : وَاَللّهِ يَا جُلَاسُ إنّك لَأَحَبّ النّاسِ إلَيّ وَأَحْسَنُهُمْ عِنْدِي يَدًا ، وَأَعَزّهُمْ عَلَيّ أَنْ يُصِيبَهُ شَيْءٌ يَكْرَهُهُ وَلَقَدْ قُلْت مَقَالَةً لَئِنْ رَفَعْتهَا عَلَيْك لَأَفْضَحَنّكَ وَلَئِنْ صَمَتّ عَلَيْهَا لَيَهْلِكَنّ دِينِي ، وَلَإِحْدَاهُمَا أَيْسَرُ عَلَيّ مِنْ الْأُخْرَى . ثُمّ مَشَى إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَذَكَرَ لَهُ مَا قَالَ جُلَاسٌ فَحَلَفَ جُلَاسٌ بِاَللّهِ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَقَدْ كَذَبَ عَلَيّ عُمَيْرٌ وَمَا قُلْت مَا قَالَ عُمَيْرُ بْنُ سَعْدٍ . فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِيهِ { يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلّوْا يُعَذّبْهُمُ اللّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيّ وَلَا نَصِيرٍ } [ التّوْبَةُ 74 ] . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْأَلِيمُ الْمُوجِعُ . قَالَ ذُو الرّمّةِ يَصِفُ إبِلًا :
وَتَرْفَعُ مِنْ صُدُورِ شَمَرْدَلَات
يَصُكّ وُجُوهَهَا وَهَجٌ أَلِيمُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . [ ص 378 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَزَعَمُوا أَنّهُ تَابَ فَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُ حَتّى عُرِفَ مِنْهُ الْخَيْرُ وَالْإِسْلَامُ .
ارْتِدَادُ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ وَغَدْرُهُ
وَأَخُوهُ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ ، الّذِي قَتَلَ الْمُجَذّرَ بْنَ ذِيَادٍ الْبَلَوِيّ وَقَيْسَ بْنَ زَيْدٍ أَحَدَ بَنِي ضُبَيْعَةَ يَوْمَ أُحُدٍ . خَرَجَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ مُنَافِقًا ، فَلَمّا الْتَقَى النّاسُ عَدَا عَلَيْهِمَا ، فَقَتَلَهُمَا ثُمّ لَحِقَ بِقُرَيْشِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَكَانَ الْمُجَذّرُ بْنُ ذِيَادٍ قَتَلَ سُوَيْدَ بْنَ صَامِتٍ فِي بَعْضِ الْحُرُوبِ الّتِي كَانَتْ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فَلَمّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ طَلَبَ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ غُرّةَ الْمُجَذّرِ بْنِ ذِيَادٍ لِيَقْتُلَهُ بِأَبِيهِ فَقَتَلَهُ وَحْدَهُ وَسَمِعْت غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ وَالدّلِيلُ عَلَى أَنّهُ لَمْ يَقْتُلْ قَيْسَ بْنَ زَيْدٍ أَنّ ابْنَ إسْحَاقَ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي قَتْلَى أُحُدٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : قَتَلَ سُوَيْدَ بْنَ صَامِتٍ مُعَاذُ ابْنُ عَفْرَاءَ غِيلَةً فِي غَيْرِ حَرْبٍ رَمَاهُ بِسَهْمِ فَقَتَلَهُ قَبْلَ يَوْمِ بُعَاثٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيمَا يَذْكُرُونَ - قَدْ أَمَرَ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ بِقَتْلِهِ إنْ هُوَ ظَفِرَ بِهِ فَفَاتَهُ فَكَانَ بِمَكّةَ ثُمّ بَعَثَ إلَى أَخِيهِ جُلَاسٍ يَطْلُبُ التّوْبَةَ لِيَرْجِعَ إلَى قَوْمِهِ . فَأَنْزَلَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهِ - فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ - { كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنّ الرّسُولَ حَقّ وَجَاءَهُمُ الْبَيّنَاتُ وَاللّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ } [ آلُ عِمْرَانَ : 86 ] إلَى آخِرِ الْقِصّةِ .
Sذَكَرَ الْمُنَافِقِينَ
فَصْلٌ
[ ص 377 ] وَذَكَرَ تَبْتَلًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ قَالَ وَكَانَ أَدْلَمَ وَالْأَدْلَمُ الْأَسْوَدُ الطّوِيلُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ . وَقِيلَ لِجَمَاعَةِ النّمْلِ دَيْلَمٌ لِسَوَادِهِمْ مِنْ كِتَابِ الْعَيْنِ . [ ص 378 ] وَذَكَرَ الْحَارِثَ بْنَ سُوَيْدٍ ، وَقَتْلَهُ لِلْمُجَذّرِ بْنِ ذِيَادٍ . وَاسْمُ الْمُجَذّرِ عَبْدُ اللّهِ وَالْمُجَذّرُ الْغَلِيظُ الْخُلُقِ . وَذَكَرَ أَنّ اللّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ فِي الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ وَارْتِدَادِهِ { كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } [ آلُ عِمْرَانَ : 86 ] فَقِيلَ إنّ هَذِهِ الْآيَةَ مَقْصُورَةٌ عَلَى سَبَبِهَا مَخْصُوصَةٌ بِمَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللّهِ أَنّهُ لَا يَهْدِيهِ مِنْ كُفْرِهِ وَلَا يَتُوبُ عَلَيْهِ مِنْ ظُلْمِهِ وَإِلّا فَالتّوْبَةُ مَفْرُوضَةٌ وَقَدْ تَابَ قَوْمٌ بَعْدَ ارْتِدَادِهِمْ فَقُبِلَتْ تَوْبَتُهُمْ . وَقِيلَ لَيْسَ فِيهَا نَفْيٌ لِقَبُولِ التّوْبَةِ فَإِنّهُ قَالَ كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ وَلَمْ يَقُلْ لَا يَهْدِي اللّهُ عَلَى أَنّهُ قَدْ قَالَ فِي آخِرِهَا : { وَاللّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ } وَذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى الْخُصُوصِ كَمَا قَدّمْنَا أَوْ إلَى مَعْنَى الْهِدَايَةِ فِي الظّلْمَةِ الّتِي [ ص 379 ] الْقِيَامَةِ فَإِنّ ذَلِكَ مُنْتَفٍ عَمّنْ مَاتَ غَيْرَ تَائِبٍ مِنْ كُفْرِهِ وَظُلْمِهِ . وَاَللّهُ أَعْلَمُ . [ ص 380 ]

مُنَافِقُو بَنِي ضُبَيْعَةَ
[ ص 379 ] بَنِي ضُبَيْعَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِجَادُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَامِرٍ .
مُنَافِقُو بَنِي لَوْذَان
وَمِنْ بَنِي لَوْذَان بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ نَبْتَلُ بْنُ الْحَارِثِ وَهُوَ الّذِي قَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيمَا بَلَغَنِي : مَنْ أَحَبّ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الشّيْطَانِ فَلْيَنْظُرْ إلَى نَبْتَلِ بْنِ الْحَارِثِ وَكَانَ رَجُلًا جَسِيمًا أَدْلَمَ ثَائِرَ شَعْرِ الرّأْسِ أَحْمَرَ الْعَيْنَيْنِ أَسْفَعَ الْخَدّيْنِ وَكَانَ يَأْتِي رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَتَحَدّثُ إلَيْهِ فَيَسْمَعُ مِنْهُ ثُمّ يَنْقُلُ حَدِيثَهُ إلَى الْمُنَافِقِينَ وَهُوَ الّذِي قَالَ إنّمَا مُحَمّدٌ أُذُنٌ مَنْ حَدّثَهُ شَيْئًا صَدّقَهُ . فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِيهِ { وَمِنْهُمُ الّذِينَ يُؤْذُونَ النّبِيّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قل أذن خير لكم يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ التّوْبَةُ 61 ] . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ رِجَالِ بَلْعَجْلَانَ أَنّهُ حُدّثَ أَنّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَهُ إنّهُ يَجْلِسُ إلَيْك رَجُلٌ أَدْلَمُ ثَائِرُ شَعْرِ الرّأْسِ أَسْفَعُ الْخَدّيْنِ أَحْمَرُ الْعَيْنَيْنِ كَأَنّهُمَا قِدْرَانِ مِنْ صُفْرٍ كَبِدُهُ أَغْلَظُ مِنْ كَبِدِ الْحِمَارِ يَنْقُلُ حَدِيثَك إلَى الْمُنَافِقِينَ فَاحْذَرْهُ . وَكَانَتْ تِلْكَ صِفَةَ نَبْتَلِ بْنِ الْحَارِثِ فِيمَا يَذْكُرُونَ .

مُنَافِقُو بَنِي ضُبَيْعَةَ
وَمِنْ بَنِي ضُبَيْعَةَ أَبُو حَبِيبَةَ بْنُ الْأَزْعَرِ وَكَانَ مِمّنْ بَنَى مَسْجِدَ الضّرَارِ ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ حَاطِبٍ ، وَمُعَتّبُ بْنُ قُشَيْرٍ ، وَهُمَا اللّذَانِ عَاهَدَا اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصّدّقَنّ وَلَنَكُونَنّ [ ص 380 ] قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ : لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا . فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ { وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقّ ظَنّ الْجَاهِلِيّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنّ الْأَمْرَ كُلّهُ لِلّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا } [ آلُ عِمْرَانَ : 154 ] إلَى آخِرِ الْقِصّةِ . وَهُوَ الّذِي قَالَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ : كَانَ مُحَمّدٌ يَعِدُنَا أَنْ نَأْكُلَ كُنُوزَ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَأَحَدُنَا لَا يَأْمَنُ أَنْ يَذْهَبَ إلَى الْغَائِطِ . فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِيهِ { وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ إِلّا غُرُورًا } وَالْحَارِثُ بْنُ حَاطِبٍ .
مُعَتّبٌ وَابْنَا حَاطِبٍ بَدْرِيّونَ وَلَيْسُوا مُنَافِقِينَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : مُعَتّبُ بْنُ قُشَيْرٍ ، وَثَعْلَبَةُ وَالْحَارِثُ ابْنَا حَاطِبٍ وَهُمْ مِنْ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ زَيْدٍ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ وَلَيْسُوا مِنْ الْمُنَافِقِينَ فِيمَا ذَكَرَ لِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَقَدْ نُسِبَ ابْنَا إسْحَاقَ ثَعْلَبَةُ وَالْحَارِثُ فِي بَنِي أُمَيّةَ بْنِ زَيْدٍ فِي أَسْمَاءِ أَهْلِ بَدْرٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَعَبّادُ بْنُ حُنَيْفٍ أَخُو سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ ؛ وَيُخَرّجُ وَهُمْ مِمّنْ كَانَ بَنَى مَسْجِدَ الضّرَارِ ، وَعَمْرُو بْن خِذَامٍ ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ نَبْتَلٍ . [ ص 381 ]

مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ
وَمِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ جَارِيَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ الْعَطّافِ وَابْنَاهُ زَيْدٌ وَمُجَمّعٌ ابْنَا جَارِيَةَ وَهُمْ مِمّنْ اتّخَذَ مَسْجِدَ الضّرَارِ . وَكَانَ مُجَمّعٌ غُلَامًا حَدَثًا قَدْ جَمَعَ مِنْ الْقُرْآنِ أَكْثَرَهُ وَكَانَ يُصَلّي بِهِمْ فِيهِ ثُمّ إنّهُ لَمّا أُخْرِبَ الْمَسْجِدُ وَذَهَبَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ كَانُوا يُصَلّونَ بِبَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ فِي مَسْجِدِهِمْ وَكَانَ زَمَانَ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ ، كُلّهُمْ فِي مُجَمّعٍ لِيُصَلّيَ بِهِمْ فَقَالَ لَا ، أَوَلَيْسَ بِإِمَامِ الْمُنَافِقِينَ فِي مَسْجِدِ الضّرَارِ ؟ فَقَالَ لِعُمَرِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَاَللّهِ الّذِي لَا إلَهَ إلّا هُوَ مَا عَلِمْت بِشَيْءِ مِنْ أَمْرِهِمْ وَلَكِنّي كُنْت غُلَامًا قَارِئًا لِلْقُرْآنِ وَكَانُوا لَا قُرْآنَ مَعَهُمْ فَقَدّمُونِي أُصَلّي بِهِمْ وَمَا أَرَى أَمْرَهُمْ إلّا عَلَى أَحْسَنِ مَا ذَكَرُوا فَزَعَمُوا أَنّ عُمَرَ تَرَكَهُ فَصَلّى بِقَوْمِهِ .
مِنْ بَنِي أُمَيّةَ
وَمِنْ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكٍ وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَهُوَ مِمّنْ بَنَى مَسْجِدَ الضّرَارِ ، [ ص 381 ] قَالَ إنّمَا كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ . فَأَنْزَلَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنّ إِنّمَا كُنّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ } [ الْمَائِدَةُ 65 ] . إلَى آخِرِ الْقِصّةِ .
مِنْ بَنِي عُبَيْدٍ
وَمِنْ بَنِي عُبَيْدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكٍ خِذَامُ بْنُ خَالِدٍ وَهُوَ الّذِي أَخْرَجَ مَسْجِدَ الضّرَارِ مِنْ دَارِهِ وَبِشْرٌ وَرَافِعٌ ابْنَا زَيْدٍ .
مِنْ بَنِي النّبِيتِ
وَمِنْ بَنِي النّبِيتِ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : النّبِيتُ عَمْرُو بْنُ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ - قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ : مِرْبَعُ بْنُ قَيْظِيّ ، وَهُوَ الّذِي قَالَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ أَجَازَ فِي حَائِطِهِ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَامِدٌ إلَى أُحُدٍ : لَا أُحِلّ لَك يَا مُحَمّدٌ إنْ كُنْت نَبِيّا ، أَنْ تَمُرّ فِي حَائِطِي ، وَأَخَذَ فِي يَدِهِ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ ثُمّ قَالَ وَاَللّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنّي لَا أُصِيبُ بِهَذَا التّرَابِ غَيْرَك لَرَمَيْتُك بِهِ فَابْتَدَرَهُ الْقَوْمُ لِيَقْتُلُوهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَعُوهُ فَهَذَا الْأَعْمَى ، أَعْمَى الْقَلْبِ ، أَعْمَى الْبَصِيرَةِ . فَضَرَبَهُ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ بِالْقَوْسِ فَشَجّهُ وَأَخُوهُ أَوْسُ بْنُ قَيْظِيّ وَهُوَ الّذِي قَالَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ، فَأْذَنْ لَنَا فَلْنَرْجِعْ إلَيْهَا . فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِ { يَقُولُونَ إِنّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلّا فِرَارًا } . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : عَوْرَةٌ أَيْ مُعْوَرَةٌ لِلْعَدُوّ وَضَائِعَةٌ وَجَمْعُهَا : عَوْرَاتٌ قَالَ النّابِغَةُ الذّبْيَانِيّ
مَتَى تَلْقَهُمْ لَا تَلْقَ لِلْبَيْتِ عَوْرَةً
وَلَا الْجَارَ مَحْرُومًا وَلَا الْأَمْرُ ضَائِعَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ . وَالْعَوْرَةُ ( أَيْضًا ) : عَوْرَةُ الرّجُلِ وَهِيَ حُرْمَتُهُ . وَالْعَوْرَةُ ( أَيْضًا ) السّوْأَةُ

[ ص 382 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمِنْ بَنِي ظَفَرٍ وَاسْمُ ظَفَرٍ كَعْبُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ حَاطِبُ بْنُ أُمَيّةَ بْنِ رَافِعٍ وَكَانَ شَيْخًا جَسِيمًا قَدْ عَسَا فِي جَاهِلِيّتِهِ وَكَانَ لَهُ ابْنٌ مِنْ خِيَارِ الْمُسْلِمِينَ يُقَالُ لَهُ يَزِيدُ بْنُ حَاطِبٍ أُصِيبَ يَوْمَ أُحُدٍ حَتّى أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَاتُ فَحُمِلَ إلَى دَارِ بَنِي ظَفَرٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ أَنّهُ اجْتَمَعَ إلَيْهِ مَنْ بِهَا مِنْ رِجَالِ الْمُسْلِمِينَ وَنِسَائِهِمْ وَهُوَ بِالْمَوْتِ فَجَعَلُوا يَقُولُونَ أَبْشِرْ يَا ابْنَ حَاطِبٍ بِالْجَنّةِ . قَالَ فَنَجَمَ نِفَاقُهُ حِينَئِذٍ فَجَعَلَ يَقُولُ أَبُوهُ أَجَلْ جَنّةٌ وَاَللّهِ مِنْ حَرْمَلٍ . غَرَرْتُمْ وَاَللّهِ هَذَا الْمِسْكِينَ مِنْ نَفْسِهِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَبَشِيرُ بْنُ أُبَيْرِقٍ وَهُوَ أَبُو طُعْمَةَ سَارِقُ الدّرْعَيْنِ الّذِي أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِ { وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنّ اللّهَ لَا يُحِبّ مَنْ كَانَ خَوّانًا أَثِيمًا } وَقُزْمَانُ : حَلِيفٌ لَهُمْ . [ ص 383 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَقُولُ إنّهُ لَمِنْ أَهْلِ النّارِ . فَلَمّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا حَتّى قَتَلَ بِضْعَةَ نَفَرٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَأَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَاتُ فَحُمِلَ إلَى دَارِ بَنِي ظَفَرٍ ، فَقَالَ لَهُ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَبْشِرْ يَا قُزْمَانُ ، فَقَدْ أَبْلَيْت الْيَوْمَ وَقَدْ أَصَابَك مَا تَرَى فِي اللّهِ قَالَ بِمَاذَا أَبْشِرُ فَوَاَللّهِ مَا قَاتَلْت إلّا حَمِيّةً عَنْ قَوْمِي ؛ فَلَمّا اشْتَدّتْ بِهِ جِرَاحَاتُهُ وَآذَتْهُ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ فَقَطَعَ بِهِ رَوَاهِشَ يَدِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ .Sذَكَرَ حَدِيثَ بَشِيرِ بْنِ أُبَيْرِقٍ سَارِقُ الدّرْعَيْنِ
[ ص 382 ] وَذَكَرَ أَنّ اللّهَ أَنْزَلَ فِيهِ { وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ } [ النّسَاءُ 107 ] الْآيَةُ وَكَانَ مِنْ قِصّةِ الدّرْعَيْنِ وَقِصّةِ بَشِيرٍ أَنّ بَنِي أُبَيْرِقٍ وَهُمْ ثَلَاثَةٌ بَشِيرٌ وَمُبَشّرٌ وَبِشْرٌ نَقَبُوا مَشْرُبَةً أَوْ نَقَبَهَا بَشِيرٌ وَحْدَهُ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ ، وَكَانَتْ الْمَشْرُبَةُ لِرِفَاعَةِ بْنِ زَيْدٍ وَسَرَقُوا أَدْرَاعًا لَهُ وَطَعَامًا فَعَثَرَ عَلَى ذَلِكَ فَجَاءَ ابْنُ أَخِيهِ قَتَادَةُ بْنُ النّعْمَانِ يَشْكُو بِهِمْ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَجَاءَ أُسَيْدُ بْنُ عُرْوَةَ بْنِ أُبَيْرِقٍ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ هَؤُلَاءِ عَمَدُوا إلَى أَهْلِ بَيْتٍ هُمْ أَهْلُ صَلَاحٍ وَدِينٍ فَأَبَنُوهُمْ بِالسّرِقَةِ وَرَمَوْهُمْ بِهَا مِنْ غَيْرِ بَيّنَةٍ وَجَعَلَ يُجَادِلُ عَنْهُمْ حَتّى غَضِبَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَلَى قَتَادَةَ وَرِفَاعَةَ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : { وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ } [ النّسَاءُ 107 ] الْآيَةُ وَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ { وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا } [ النّسَاءُ 112 ] وَكَانَ الْبَرِيءُ الّذِي رَمَوْهُ بِالسّرِقَةِ لَبِيدُ بْنُ سَهْلٍ : قَالُوا : مَا سَرَقْنَاهُ وَإِنّمَا سَرَقَهُ لَبِيدُ بْنُ سَهْلٍ ، فَبَرّأَهُ اللّهُ فَلَمّا أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِمْ مَا أَنْزَلَ هَرَبَ ابْنُ أُبَيْرِقٍ السّارِقُ إلَى مَكّةَ ، وَنَزَلَ عَلَى سُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدِ بْنِ شَهِيدٍ فَقَالَ فِيهَا حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ بَيْتًا ، يُعَرّضُ فِيهِ بِهَا ، فَقَالَتْ إنّمَا أَهْدَيْت لِي شِعْرَ حَسّانَ ، وَأَخَذَتْ رَحْلَهُ فَطَرَحَتْهُ خَارِجَ الْمَنْزِلِ وَقَالَتْ حَلَقْت وَسَلَقْت وَخَرَقْت إنْ بِتّ فِي مَنْزِلِي لَيْلَةً سَوْدَاءَ فَهَرَبَ إلَى خَيْبَرَ ، ثُمّ إنّهُ نَقَبَ بَيْتًا ذَاتَ لَيْلَةٍ فَسَقَطَ الْحَائِطُ عَلَيْهِ فَمَاتَ . ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ بِكَثِيرِ مِنْ أَلْفَاظِهِ التّرْمِذِيّ ، وَذَكَرَهُ الْكَشّيّ وَالطّبَرِيّ بِأَلْفَاظِ مُخْتَلِفَةٍ وَذَكَرَ قِصّةَ مَوْتِهِ يَحْيَى بْنُ سَلّامٍ فِي تَفْسِيرِهِ وَوَقَعَ اسْمُهُ فِي أَكْثَرِ التّفَاسِيرِ طُعْمَةُ بْنُ أُبَيْرِقٍ وَفِي [ ص 383 ] أُبَيْرِقٍ وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْهُ بَشِيرُ أَبُو طُعْمَةَ فَلَيْسَ طُعْمَةُ إذًا اسْمًا لَهُ وَإِنّمَا هُوَ أَبُو طُعْمَةَ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي هَذِهِ الرّوَايَةِ [ ص 384 ] أَعْلَمُ . وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ أَيْضًا أَنّ الْحَائِطَ الّذِي سَقَطَ عَلَيْهِ كَانَ بِالطّائِفِ لَا بِخَيْبَرِ كَمَا قَالَ ابْنُ سَلّامٍ وَأَنّ أَهْلَ الطّائِفِ قَالُوا حِينَئِذٍ مَا فَارَقَ مُحَمّدًا مِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ فِيهِ خَيْرٌ . وَالْأَبْيَاتُ الّتِي رَمَى بِهَا حَسّانُ الْمَرْأَةَ وَهِيَ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ وَقَدْ تَقَدّمَ اسْمُهَا :
َمَا سَارِقُ الدّرْعَيْنِ إذْ كُنْت ذَاكِرًا
بِذِي كَرَمٍ مِنْ الرّجَالِ أُوَادِعُهْ
وَقَدْ أَنَزَلَتْهُ بِنْتُ سَعْدٍ فَأَصْبَحَتْ
يُنَازِعُهَا جَارَاسْتِهَا وَتُنَازِعُهْ
ظَنَنْتُمْ بِأَنْ يَخْفَى الّذِي قَدْ صَنَعْتُمْ
وَفِيكُمْ نَبِيّ عِنْدَهُ الْوَحْيُ وَاضِعُهْ
[ ص 385 ] وَقَعَ هَذَا الْبَيْتُ فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ . وَذَكَرَ الشّعْرَ وَالْخَبَرَ بِطُولِهِ ابْنُ إسْحَاقَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْهُ . فَصْلٌ وَأَنْشَدَ ابْنُ هِشَامٍ : لَدَمُ الْوَلِيدِ وَرَاءَ الْغَيْبِ بِالْحَجَرِ
وَالْبَيْتُ لِتَمِيمِ بْنِ أُبَيّ بْنِ مُقْبِلٍ وَاللّدَمُ الضّرْبُ وَالْغَيْبُ الْعَائِرُ مِنْ الْأَرْضِ .

مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَل ِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمْ يَكُنْ فِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ مُنَافِقٌ وَلَا مُنَافِقَةٌ يُعْلَمُ إلّا أَنّ الضّحّاكَ بْنَ ثَابِتٍ ، أَحَدُ بَنِي كَعْبٍ رَهْطِ سَعْدِ بْنِ زَيْدٍ ، قَدْ كَانَ يُتّهَمُ بِالنّفَاقِ وَحُبّ يَهُودَ . قَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ : مَنْ مُبْلِغُ الضّحّاكَ أَنّ عُرُوقَهُ أَعْيَتْ عَلَى الْإِسْلَامِ أَنْ تَتَمَجّدَا
أَتُحِبّ يُهْدَانَ الْحِجَازِ وَدِينَهُمْ كِبْدَ الْحِمَارِ وَلَا تُحِبّ مُحَمّدَا
دِينًا لَعَمْرِي لَا يُوَافِقُ دِينَنَا مَا اسْتَنّ آلٌ فِي الْفَضَاءِ وَخَوّدَا
وَكَانَ جُلَاسُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ صَامِتٍ قَبْلَ تَوْبَتِهِ - فِيمَا بَلَغَنِي - وَمُعَتّبُ بْنُ قُشَيْرٍ ، وَرَافِعُ بْنُ زَيْدٍ ، وَبِشْرٌ وَكَانُوا يُدْعَوْنَ بِالْإِسْلَامِ فَدَعَاهُمْ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي خُصُومَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَدَعَوْهُمْ إلَى الْكُهّانِ حُكّامِ أَهْلِ الْجَاهِلِيّةِ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِيهِمْ { أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشّيْطَانُ أَنْ يُضِلّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا } [ النّسَاءُ 60 ] إلَى آخِرِ الْقِصّةِ .
مِنْ الْخَزْرَجِ
وَمِنْ الْخَزْرَجِ ، ثُمّ مِنْ بَنِي النّجّار ِ رَافِعُ بْنُ وَدِيعَةَ ، وَزَيْدُ بْنُ عَمْرٍو ، وَعَمْرُو بْنُ قَيْسٍ ، وَقَيْسُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَهْلٍ .
مِنْ بَنِي جُشَمٍ
[ ص 384 ] بَنِي جُشَمِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، ثُمّ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ : الْجَدّ بْنُ قَيْسٍ ، وَهُوَ الّذِي يَقُولُ يَا مُحَمّدُ ائْذَنْ لِي ، وَلَا تَفْتِنّي . فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِ { وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنّ جَهَنّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ } [ التّوْبَةُ 49 ] . إلَى آخِرِ الْقِصّةِ .
مِنْ بَنِي عَوْفٍ
وَمِنْ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ : عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابْنُ سَلُولَ وَكَانَ رَأْسَ الْمُنَافِقِينَ وَإِلَيْهِ يَجْتَمِعُونَ وَهُوَ الّذِي قَالَ { لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ } فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ . وَفِي قَوْلِهِ ذَلِكَ نَزَلَتْ سُورَةُ الْمُنَافِقِينَ بِأَسْرِهَا . وَفِيهِ وَفِي وَدِيعَةَ - رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَوْفٍ - وَمَالِكِ بْنِ أَبِي نَوْفَلٍ وَسُوَيْدٌ ، وَدَاعِسٌ وَهُمْ مِنْ رَهْطِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ ابْنُ سَلُولَ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابْنُ سَلُولَ . فَهَؤُلَاءِ النّفَرُ مِنْ قَوْمِهِ الّذِينَ كَانُوا يَدُسّونَ إلَى بَنِي النّضِيرِ حِينَ حَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ اُثْبُتُوا ، فَوَاَللّهِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا ، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنّكُمْ . فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِمْ { أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنّكُمْ وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ } ثُمّ الْقِصّةُ مِنْ السّورَةِ حَتّى انْتَهَى إلَى قَوْلِهِ { كَمَثَلِ الشّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمّا كَفَرَ قَالَ إِنّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنّي أَخَافُ اللّهَ رَبّ الْعَالَمِينَ } [ الْحَشْرُ 16 ] .

مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَحْبَارِ يَهُودَ نِفَاقًا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ مِمّنْ تَعَوّذَ بِالْإِسْلَامِ وَدَخَلَ فِيهِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَأَظْهَرَهُ وَهُوَ مُنَافِقٌ مِنْ أَحْبَارِ يَهُودَ .
مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعِ
[ ص 385 ] بَنِي قَيْنُقَاعِ : سَعْدُ بْنُ حُنَيْفٍ ، وَزَيْدُ بْنُ اللّصِيت ِ وَنُعْمَانُ بْنُ أَوْفَى بْنِ عَمْرٍو ، وَعُثْمَانُ بْنُ أَوْفَى ، وَزَيْدُ بْنُ اللّصِيتِ ، الّذِي قَاتَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ بِسُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعِ ، وَهُوَ الّذِي قَالَ حِينَ ضَلّتْ نَاقَةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَزْعُمُ مُحَمّدٌ أَنّهُ يَأْتِيهِ خَبَرُ السّمَاءِ وَهُوَ لَا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَجَاءَهُ الْخَبَرُ بِمَا قَالَ عَدُوّ اللّهِ فِي رَحْلِهِ وَدَلّ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رَسُولَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى نَاقَتِهِ إنّ قَائِلًا قَالَ يَزْعُمُ مُحَمّدٌ أَنّهُ يَأْتِيهِ خَبَرُ السّمَاءِ وَلَا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ ؟ وَإِنّي وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُ إلّا مَا عَلّمَنِي اللّهُ وَقَدْ دَلّنِي اللّهُ عَلَيْهَا ، فَهِيَ فِي هَذَا الشّعْبِ ، قَدْ حَبَسَتْهَا شَجَرَةٌ بِزِمَامِهَا فَذَهَبَ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَوَجَدُوهَا حَيْثُ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَمَا وَصَفَ " وَرَافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ ، وَهُوَ الّذِي قَالَ لَهُ الرّسُولُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيمَا بَلَغَنَا - حِينَ مَاتَ قَدْ مَاتَ الْيَوْمَ عَظِيمٌ مِنْ عُظَمَاءِ الْمُنَافِقِينَ وَرِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ التّابُوتِ وَهُوَ الّذِي قَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ هَبّتْ عَلَيْهِ الرّيحُ وَهُوَ قَافِلٌ مِنْ غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ ، فَاشْتَدّتْ عَلَيْهِ حَتّى أَشْفَقَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهَا ؛ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا تَخَافُوا ، فَإِنّمَا هَبّتْ لِمَوْتِ عَظِيمٍ مِنْ عُظَمَاءِ الْكُفّارِ فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ وَجَدَ رِفَاعَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ التّابُوتِ مَاتَ ذَلِكَ الْيَوْمَ الّذِي هَبّتْ فِيهِ الرّيحُ وَسِلْسِلَةُ بْنُ بَرْهَامٍ . وَكِنَانَةُ بْنُ صُورِيَا .

طَرْدُ الْمُنَافِقِينَ مِنْ مَسْجِدِ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَكَانَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ يَحْضُرُونَ الْمَسْجِدَ فَيَسْتَمِعُونَ أَحَادِيثَ الْمُسْلِمِينَ وَيَسْخَرُونَ [ ص 386 ] فَرَآهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَتَحَدّثُونَ بَيْنَهُمْ خَافِضِي أَصْوَاتِهِمْ قَدْ لُصِقَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ فَأَمَرَ بِهِمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأُخْرِجُوا مِنْ الْمَسْجِدِ إخْرَاجًا عَنِيفًا ، فَقَامَ أَبُو أَيّوبَ خَالِدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ كُلَيْبٍ ، إلَى عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ ، أَحَدُ بَنِي غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّار ِ - كَانَ صَاحِبَ آلِهَتِهِمْ فِي الْجَاهِلِيّةِ فَأَخَذَ بِرِجْلِهِ فَسَحَبَهُ حَتّى أَخْرَجَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ وَهُوَ يَقُولُ أَتُخْرِجُنِي يَا أَبَا أَيّوبَ مِنْ مِرْبَدِ بَنِي ثَعْلَبَةَ ثُمّ أَقْبَلَ أَبُو أَيّوبَ أَيْضًا إلَى رَافِعِ بْنِ وَدِيعَةَ ، أَحَدُ بَنِي النّجّارِ فَلَبّبَهُ بِرِدَائِهِ ثُمّ نَتَرَهُ نَتْرًا شَدِيدًا ، وَلَطَمَ وَجْهَهُ ثُمّ أَخْرَجَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ وَأَبُو أَيّوبَ يَقُولُ لَهُ أُفّ لَك مُنَافِقًا خَبِيثًا : أَدْرَاجَك يَا مُنَافِقُ مِنْ مَسْجِدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَيْ ارْجِعْ مِنْ الطّرِيقِ الّتِي جِئْت مِنْهَا . قَالَ الشّاعِرُ فَوَلّى وَأَدْبَرَ أَدْرَاجَهُ وَقَدْ بَاءَ بِالظّلْمِ مَنْ كَانَ ثَمّ
وَقَامَ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ إلَى زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو ، وَكَانَ رَجُلًا طَوِيلَ اللّحْيَةِ فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ فَقَادَهُ بِهَا قَوْدًا عَنِيفًا حَتّى أَخْرَجَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ ثُمّ جَمَعَ عُمَارَةُ يَدَيْهِ فَلَدَمَهُ بِهِمَا فِي صَدْرِهِ لَدْمَةً خَرّ مِنْهَا . قَالَ يَقُولُ خَدَشْتنِي يَا عُمَارَةُ قَالَ أَبْعَدَك اللّهُ يَا مُنَافِقُ فَمَا أَعَدّ اللّهُ لَك مِنْ الْعَذَابِ أَشَدّ مِنْ ذَلِكَ فَلَا تَقْرَبَنّ مَسْجِدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : اللّدَمُ الضّرْبُ بِبَطْنِ الْكَفّ . قَالَ تَمِيمُ بْنُ أَبِي بْن مُقْبِلٍ وَلِلْفُؤَادِ وَجِيبٌ تَحْتَ أَبْهَرِه لَدَمُ الْوَلِيدِ وَرَاءَ الْغَيْبِ بِالْحَجَر
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْغَيْبُ مَا انْخَفَضَ مِنْ الْأَرْضِ . وَالْأَبْهَرُ عِرْقُ الْقَلْبِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَامَ أَبُو مُحَمّدٍ رَجُلٌ مِنْ بَنِي النّجّارِ ، كَانَ بَدْرِيّا ، وَأَبُو مُحَمّدٍ مَسْعُودُ بْنُ أَوْسِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَصْرَمَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ إلَى قَيْسِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَهْلِ ، وَكَانَ قَيْسٌ غُلَامًا شَابّا ، وَكَانَ لَا يُعْلَمُ فِي الْمُنَافِقِينَ شَابّ غَيْرُهُ فَجَعَلَ يَدْفَعُ فِي قَفَاهُ حَتّى أَخْرَجَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ . [ ص 387 ] بَلْخُدْرَةَ بْنِ الْخَزْرَجِ ، رَهْطِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْحَارِثِ ، حِينَ أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِإِخْرَاجِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ الْمَسْجِدِ إلَى رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ الْحَارِثُ بْنُ عَمْرٍو ، وَكَانَ ذَا جُمّةٍ فَأَخَذَ بِجُمّتِهِ فَسَحَبَهُ بِهَا سَحْبًا عَنِيفًا ، عَلَى مَا مَرّ بِهِ مِنْ الْأَرْضِ حَتّى أَخْرَجَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ . قَالَ يَقُولُ الْمُنَافِقُ لَقَدْ أَغْلَظْت يَا ابْنَ الْحَارِثِ فَقَالَ لَهُ إنّك أَهْلٌ لِذَلِكَ أَيْ عَدُوّ اللّهِ لِمَا أَنْزَلَ اللّهُ فِيك ، فَلَا تَقْرَبَنّ مَسْجِدَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ، فَإِنّك نَجِسٌ . وَقَامَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْف ٍ إلَى أَخِيهِ زُوَيّ بْنُ الْحَارِثِ فَأَخْرَجَهُ مِنْ الْمَسْجِدِ إخْرَاجًا عَنِيفًا ، وَأَفّفَ مِنْهُ وَقَالَ غَلَبَ عَلَيْك الشّيْطَانُ وَأَمَرَهُ . فَهَؤُلَاءِ مَنْ حَضَرَ الْمَسْجِدَ يَوْمَئِذٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِإِخْرَاجِهِمْ .
Sبَابٌ إخْرَاجُ الْمُنَافِقِينَ
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي بَابِ إخْرَاجِ الْمُنَافِقِينَ مِنْ الْمَسْجِدِ أَبَا مُحَمّدٍ وَقَالَ هُوَ رَجُلٌ مِنْ [ ص 386 ] بَنِي النّجّارِ ، وَلَمْ يُعَرّفْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا ، وَهُوَ أَبُو مُحَمّدٍ مَسْعُودُ بْنُ أَوْسِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَصْرَمَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ يُعَدّ فِي الشّامِيّينَ وَهُوَ الّذِي زَعَمَ أَنّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ فَقَالَ عُبَادَةُ كَذَبَ أَبُو مُحَمّدٍ وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي الْبَدْرِيّينَ عِنْدَ الْوَاقِدِيّ وَطَائِفَةٍ وَلَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِيهِمْ .

مَا نَزَلَ مِنْ الْبَقَرَةِ فِي الْمُنَافِقِينَ وَيَهُودَ مَا نَزَلَ فِي الْأَحْبَارِ
فَفِي هَؤُلَاءِ مِنْ أَخْبَارِ يَهُودَ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ، نَزَلَ صَدْرُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ إلَى الْمِائَةِ مِنْهَا - فِيمَا بَلَغَنِي - وَاَللّهُ أَعْلَمُ . يَقُولُ اللّهُ سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ } أَيْ لَا شَكّ فِيهِ . قَالَ ابْنُ هَمّامٍ قَالَ سَاعِدَةُ بْنُ جُؤْيَةَ الْهُذَلِيّ فَقَالُوا عَهِدْنَا الْقَوْمَ قَدْ حَصَرُوا بِهِ فَلَا رَيْبَ أَنْ قَدْ كَانَ ثَمّ لَحِيمُ
[ ص 388 ] قَصِيدَةٍ لَهُ وَالرّيْبُ ( أَيْضًا ) : الرّيبَةُ . قَالَ خَالِدُ بْنُ زُهَيْرٍ الْهُذَلِيّ
كَأَنّنِي أُرِيبُهُ بِرَيْب
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِيهِ
كَأَنّنِي أَرَبْته بِرَيْبِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ . وَهُوَ ابْنُ أَخِي أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيّ . { هُدًى لِلْمُتّقِينَ } أَيْ الّذِينَ يَحْذَرُونَ مِنْ اللّهِ عُقُوبَتَهُ فِي تَرْكِ مَا يَعْرِفُونَ مِنْ الْهُدَى ، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ بِالتّصْدِيقِ بِمَا جَاءَهُمْ مِنْهُ { الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصّلَاةَ وَمِمّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } أَيْ يُقِيمُونَ الصّلَاةَ بِفَرْضِهَا ، وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ احْتِسَابًا لَهَا : { وَالّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ } أَيْ يُصَدّقُونَك بِمَا جِئْت بِهِ مِنْ اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَمَا جَاءَ بِهِ مَنْ قَبْلَك مِنْ الْمُرْسَلِينَ لَا يُفَرّقُونَ بَيْنَهُمْ وَلَا يَجْحَدُونَ مَا جَاءُوهُمْ بِهِ مِنْ رَبّهِمْ . { وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } أَيْ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَالْجَنّةِ وَالنّارِ وَالْحِسَابِ وَالْمِيزَانِ أَيْ هَؤُلَاءِ الّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنّهُمْ آمَنُوا بِمَا كَانَ مِنْ قَبْلِك ، وَبِمَا جَاءَك مِنْ رَبّك { أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبّهِمْ } أَيْ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبّهِمْ وَاسْتِقَامَةٍ عَلَى مَا جَاءَهُمْ { وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أَيْ الّذِينَ أَدْرَكُوا مَا طَلَبُوا وَنَجَوْا مِنْ شَرّ مَا مِنْهُ هَرَبُوا . [ ص 389 ] { إِنّ الّذِينَ كَفَرُوا } أَيْ بِمَا أُنْزِلَ إلَيْك ، وَإِنْ قَالُوا إنّا قَدْ آمَنّا بِمَا جَاءَنَا قَبْلَك { عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } أَيْ أَنّهُمْ قَدْ كَفَرُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ ذِكْرِك ، وَجَحَدُوا مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْمِيثَاقِ لَك ، فَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَك وَبِمَا عِنْدَهُمْ مِمّا جَاءَهُمْ بِهِ غَيْرُك ، فَكَيْفَ يَسْتَمِعُونَ مِنْك إنْذَارًا أَوْ تَحْذِيرًا ، وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ عِلْمِك . { خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } أَيْ عَنْ الْهُدَى أَنْ يُصِيبُوهُ أَبَدًا ، يَعْنِي بِمَا كَذَبُوك بِهِ مِنْ الْحَقّ الّذِي جَاءَك مِنْ رَبّك حَتّى يُؤْمِنُوا بِهِ وَإِنْ آمَنُوا بِكُلّ مَا كَانَ قَبْلَك ، وَلَهُمْ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِك عَذَابٌ عَظِيمٌ . فَهَذَا فِي الْأَحْبَارِ مِنْ يَهُودَ فِيمَا كَذّبُوا بِهِ مِنْ الْحَقّ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ .
Sذَكَرَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ فِي الْمُنَافِقِينَ
[ ص 387 ] وَذَكَرَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ فِي الْمُنَافِقِينَ وَالْأَحْبَارِ وَمِنْ يَهُودَ مِنْ صَدْرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [ ص 388 ] ابْنُ هِشَامٍ عَلَى الرّيْبِ بِمَعْنَى الرّيبَةِ بِقَوْلِ خَالِدِ بْنِ زُهَيْرِ ابْنِ أُخْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ ، وَاسْمُ أَبِي ذُؤَيْبٍ : خُوَيْلِدُ بْنُ خَالِدٍ وَالرّجَزُ الّذِي اسْتَشْهَدَ بِبَيْتِ مِنْهُ يَا قَوْمُ مَا لِي وَأَبَا ذُؤَيْب كُنْت إذَا أَتَيْته مِنْ غَيْبِ
يَشُمّ عَطْفِي وَيَمَسّ ثَوْبِي كَأَنّنِي أَرَبْته بِرَيْب
ِ وَكَانَ أَبُو ذُؤَيْبٍ قَدْ اتّهَمَهُ بِامْرَأَتِهِ فَلِذَلِكَ قَالَ هَذَا . وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَاَلّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلَاةَ وَأَغْفَلَ التّلَاوَةَ وَإِنّمَا هُوَ { الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصّلَاةَ } [ الْبَقَرَةُ 3 ] . وَكَذَلِكَ وَجَدْته مُنَبّهًا عَلَيْهِ فِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ وَفِي الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ أَقْوَالٌ مِنْهَا أَنّ الْغَيْبَ هَاهُنَا مَا بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ وَمَعَهَا : أَنّ الْغَيْبَ الْقَدَرُ وَمَعَهَا قَوْلُ مَنْ قَالَ إنّ الْغَيْبَ الْقَلْبُ أَيْ يُؤْمِنُونَ بِقُلُوبِهِمْ وَقِيلَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ أَيْ بِاَللّهِ عَزّ وَجَلّ وَأَحْسَنُ مَا فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ قَوْلُ الرّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ ، أَيْ يُؤْمِنُونَ بِظَهْرِ الْغَيْبِ أَيْ لَيْسُوا كَالْمُنَافِقِينَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ إذَا لَقُوا الّذِينَ آمَنُوا وَيَكْفُرُونَ إذَا غَابُوا عَنْهُمْ وَيَدُلّ عَلَى صِحّةِ هَذَا التّأْوِيلِ بِسِيَاقَةِ الْكَلَامُ مَعَ قَوْلِهِ عَزّ وَجَلّ { يَخْشَوْنَ رَبّهُمْ بِالْغَيْبِ } فَلَا يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ يَخْشَوْنَ رَبّهُمْ بِالْغَيْبِ إلّا تَأْوِيلًا وَاحِدًا ، فَإِلَيْهِ يُرَدّ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ . [ ص 389 ] قِيلَ هُوَ عَلَى الْخُصُوصِ فِي الْمُؤْمِنِينَ أَيْ لَا رَيْبَ فِيهِ عِنْدَ . قَالَ الْمُؤَلّفُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنّ التّبْرِئَةَ تُعْطِي الْعُمُومَ وَأَصَحّ مِنْهُ . أَنّ الْكَلَامَ ظَاهِرُهُ الْخَبَرُ ، وَمَعْنَاهُ النّهْيُ أَيْ لَا تَرْتَابُوا ، وَهَذَا النّهْيُ عَامّ لَا يُخَصّصُ وَأَدَقّ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ خَبَرًا مَحْضًا عَنْ الْقُرْآنِ أَيْ لَيْسَ فِيهِ مَا يَرِيبُ تَقُولُ رَابَنِي مِنْك كَذَا وَكَذَا ، إذَا رَأَيْت مَا تُنْكِرُ وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ مَا تُنْكِرُهُ الْعُقُولُ . وَالرّيْبُ وَإِنْ كَانَ مَصْدَرًا فَقَدْ يُعَبّرُ بِهِ عَنْ الشّيْءِ الّذِي يَرِيبُ كَمَا يُعَبّرُ بِالضّيْفِ عَنْ الضّائِفِ وَبِالطّيْفِ عَنْ الْخَيَالِ الطّائِفِ ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى : { لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ } فَهَذَا خَبَرٌ لِأَنّ النّهْيَ لَا يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الصّفَةِ . وَقَوْلُهُ لَا رَيْبَ فِيهِ فِي مَوْضِعِ الصّفَةِ لِيَوْمِ وَالْحَيَاةُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَيْسَ فِيهِ مَا يَرِيبُك ، لِأَنّ مَنْ قَدَرَ عَلَى الْبَدْأَةِ فَهُوَ عَلَى الْإِعَادَةِ أَقْدَرُ وَلَيْسَ الرّيْبُ بِمَعْنَى الشّكّ عَلَى الْإِطْلَاقِ [ ص 390 ] رَائِبٌ وَلَا تَقُولُ شَكّنِي ، بَلْ تَقُولُ ارْتَبْت كَمَا تَقُولُ شَكَكْت ، فَالِارْتِيَابُ قَرِيبٌ مِنْ الشّكّ .

مَا نَزَلَ فِي مُنَافِقِي الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ
[ ص 390 ] { وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ } يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ، وَمَنْ كَانَ عَلَى أَمْرِهِمْ . { يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } أَيْ شَكّ { فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضًا } أَيْ شَكّا { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أَيْ إنّمَا نُرِيدُ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ . يَقُولُ اللّهُ تَعَالَى : { أَلَا إِنّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السّفَهَاءُ أَلَا إِنّهُمْ هُمُ السّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ وَإِذَا لَقُوا الّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ } مِنْ يَهُودَ الّذِينَ يَأْمُرُونَهُمْ بِالتّكْذِيبِ بِالْحَقّ وَخِلَافِ مَا جَاءَ بِهِ الرّسُولُ { قَالُوا إِنّا مَعَكُمْ } أَيْ إنّا عَلَى مِثْلِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ . { إِنّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } أَيْ إنّمَا نَسْتَهْزِئُ بِالْقَوْمِ وَنَلْعَبُ بِهِمْ . يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ { اللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }
تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ يَعْمَهُونَ يَحَارُونَ . تَقُولُ الْعَرَبُ : رَجُلٌ عَمِهٌ وَعَامِهٌ أَيْ حَيَرَانُ . قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ يَصِفُ بَلَدًا : أَعْمَى الْهُدَى بِالْجَاهِلِينَ الْعُمّهِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ . فَالْعُمّهُ جَمْعُ عَامِهٍ وَأَمّا عَمِهٌ فَجَمْعُهُ عَمِهُونَ . وَالْمَرْأَةُ عَمِهَةٌ وَعَمْهَاءُ . [ ص 391 ] { أُولَئِكَ الّذِينَ اشْتَرَوُا الضّلَالَةَ بِالْهُدَى } أَيْ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ { فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ ضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا ، فَقَالَ تَعَالَى : { كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ } أَيْ لَا يُبْصِرُونَ الْحَقّ وَيَقُولُونَ بِهِ حَتّى إذَا خَرَجُوا بِهِ مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ أَطْفَئُوهُ بِكُفْرِهِمْ بِهِ وَنِفَاقِهِمْ فِيهِ فَتَرَكَهُمْ اللّهُ فِي ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ هُدًى ، وَلَا يَسْتَقِيمُونَ عَلَى حَقّ { صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } أَيْ لَا يَرْجِعُونَ إلَى الْهُدَى ، صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ عَنْ الْخَيْرِ لَا يَرْجِعُونَ إلَى خَيْرٍ وَلَا يُصِيبُونَ نَجَاةَ مَا كَانُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ { أَوْ كَصَيّبٍ مِنَ السّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ } قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الصّيّبُ الْمَطَرُ وَهُوَ مِنْ صَابَ يَصُوبُ مِثْلَ قَوْلِهِمْ السّيّدُ مِنْ سَادَ يَسُودُ وَالْمَيّتُ مِنْ مَاتَ يَمُوتُ وَجَمْعُهُ صَيَائِبُ . قَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبَدَةَ ، أَحَدُ بَنِي رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ : كَأَنّهُمْ صَابَتْ عَلَيْهِمْ سَحَابَة ٌ صَوَاعِقُهَا لِطَيْرِهِنّ دَبِيبُ
وَفِيهَا : فَلَا تَعْدِلِي بَيْنِي وَبَيْنَ مُغَمّر ٍ سَقَتْك رَوَايَا الْمُزْنِ حَيْثُ تَصُوبُ
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : أَيْ هُمْ مِنْ ظُلْمَةِ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ الْكُفْرِ وَالْحَذَرِ مِنْ الْقَتْلِ مِنْ الّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْخِلَافِ وَالتّخَوّفِ لَكُمْ عَلَى مِثْلِ مَا وُصِفَ مِنْ الّذِي هُوَ ( فِي ) ظُلْمَةِ الصّيّبِ يَجْعَلُ أَصَابِعَهُ فِي أُذُنَيْهِ مِنْ الصّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ . يَقُولُ وَاَللّهُ مُنْزِلٌ ذَلِكَ بِهِمْ . [ ص 392 ] { يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } أَيْ لِشِدّةِ ضَوْءِ الْحَقّ { كُلّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا } أَيْ يَعْرِفُونَ الْحَقّ وَيَتَكَلّمُونَ بِهِ فَهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ بِهِ عَلَى اسْتِقَامَةٍ فَإِذَا ارْتَكَسُوا مِنْهُ فِي الْكُفْرِ قَامُوا مُتَحَيّرِينَ . { وَلَوْ شَاءَ اللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } أَيْ لِمَا تَرَكُوا مِنْ الْحَقّ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ إنّ اللّهَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
S[ ص 391 ] وَذَكَرَ قَوْلَ اللّهِ سُبْحَانَهُ { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } وَأَصْلُ الْمَرَضِ الضّعْفُ وَفُتُورُ الْأَعْضَاءِ وَهُوَ هَاهُنَا ضَعْفُ الْيَقِينِ وَفُتُورُ الْقَلْبِ عَنْ كَدّ النّظَرِ وَعَطَفَ فَزَادَهُمْ اللّهُ وَإِنْ [ ص 392 ] كَانَ الْفِعْلُ لَا يُعْطَفُ عَلَى الِاسْمِ وَلَا عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لَوْ قُلْت : فِي الدّارِ زَيْدٌ فَأَعْطَيْته دِرْهَمًا لَمْ يَجُزْ وَلَكِنْ لَمّا كَانَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } كَمَعْنَى مَرِضَتْ قُلُوبُهُمْ صَحّ عَطْفُ الْفِعْلِ عَلَيْهِ .

ثُمّ قَالَ { يَا أَيّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبّكُمُ } لِلْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا ، مِنْ الْكُفّارِ وَالْمُنَافِقِينَ أَيْ وَحّدُوا رَبّكُمْ { الّذِي خَلَقَكُمْ وَالّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }
تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْأَنْدَادُ الْأَمْثَالُ وَاحِدُهُمْ نِدّ . قَالَ لِعُبَيْدِ بْنِ رَبِيعَةَ :
أَحْمَدُ اللّهَ فَلَا نِدّ لَهُ ... بِيَدَيْهِ الْخَيْرُ مَا شَاءَ فَعَلْ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : أَيْ لَا تُشْرِكُوا بِاَللّهِ غَيْرَهُ مِنْ الْأَنْدَادِ الّتِي لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرّ ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنّهُ لَا رَبّ لَكُمْ يَرْزُقُكُمْ غَيْرَهُ وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنّ الّذِي يَدْعُوكُمْ إلَيْهِ الرّسُولُ مِنْ تَوْحِيدِهِ هُوَ الْحَقّ لَا شَكّ فِيهِ . { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا } أَيْ فِي شَكّ مِمّا جَاءَكُمْ بِهِ { فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ } أَيْ مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ أَعْوَانِكُمْ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا } فَقَدْ تَبَيّنَ لَكُمْ [ ص 393 ] { فَاتّقُوا النّارَ الّتِي وَقُودُهَا النّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدّتْ لِلْكَافِرِينَ } أَيْ لِمَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ .

ثُمّ رَغّبَهُمْ وَحَذّرَهُمْ نَقْضَ الْمِيثَاقِ الّذِي أَخَذَ عَلَيْهِمْ لِنَبِيّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا جَاءَهُمْ وَذَكَرَ لَهُمْ بَدْءَ خَلْقِهِمْ حِينَ خَلَقَهُمْ وَشَأْنَ أَبِيهِمْ آدَمَ عَلَيْهِ السّلَامُ وَأَمْرَهُ وَكَيْفَ صَنَعَ بِهِ حِينَ خَالَفَ عَنْ طَاعَتِهِ ثُمّ قَالَ { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } لِلْأَحْبَارِ مِنْ يَهُودَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِي الّتِي أَنْعَمْت عَلَيْكُمْ أَيْ بَلَائِي عِنْدَكُمْ وَعِنْدَ آبَائِكُمْ لَمّا كَانَ نَجّاهَا بِهِ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ { وَأَوْفُوا بِعَهْدِي } الّذِي أَخَذْت فِي أَعْنَاقِكُمْ لِنَبّي أَحْمَدَ إذَا جَاءَكُمْ { أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } أُنْجِزُ لَكُمْ مَا وَعَدْتُكُمْ عَلَى تَصْدِيقِهِ وَاتّبَاعِهِ بِوَضْعِ مَا كَانَ عَلَيْكُمْ مِنْ الْآصَارِ وَالْأَغْلَالِ الّتِي كَانَتْ فِي أَعْنَاقِكُمْ بِذُنُوبِكُمْ الّتِي كَانَتْ مِنْ إحْدَاثِكُمْ { وَإِيّايَ فَارْهَبُونِ } أَيْ أَنْ أُنْزِلَ بِكُمْ مَا أَنْزَلْت بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ آبَائِكُمْ مِنْ النّقَمَاتِ الّتِي قَدْ عَرَفْتُمْ مِنْ الْمَسْخِ وَغَيْرِهِ { وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوّلَ كَافِرٍ بِهِ } وَعِنْدَكُمْ مِنْ الْعِلْمِ فِيهِ مَا لَيْسَ عِنْدَ غَيْرِكُمْ { وَإِيّايَ فَاتّقُونِ وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أَيْ لَا تَكْتُمُوا مَا عِنْدَكُمْ مِنْ الْمَعْرِفَةِ بِرَسُولِي وَبِمَا جَاءَ بِهِ وَأَنْتُمْ تَجِدُونَهُ عِنْدَكُمْ فِيمَا تَعْلَمُونَ مِنْ الْكُتُبِ الّتِي بِأَيْدِيكُمْ { أَتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبِرّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } أَيْ أَتَنْهَوْنَ النّاسَ عَنْ الْكُفْرِ بِمَا عِنْدَكُمْ مِنْ النّبُوّةِ وَالْعَهْدِ مِنْ التّوْرَاةِ وَتَتْرُكُونَ أَنْفُسَكُمْ أَيْ وَأَنْتُمْ تَكْفُرُونَ بِمَا فِيهَا مِنْ عَهْدِي إلَيْكُمْ فِي تَصْدِيقِ رَسُولِي وَتَنْقُضُونَ مِيثَاقِي ، وَتَجْحَدُونَ مَا تَعْلَمُونَ مِنْ كِتَابِي . ثُمّ عَدّدَ عَلَيْهِمْ أَحْدَاثَهُمْ فَذَكَرَ لَهُمْ الْعِجْلَ وَمَا صَنَعُوا فِيهِ وَتَوْبَتَهُ عَلَيْهِمْ وَإِقَالَتَهُ إيّاهُمْ ثُمّ قَوْلَهُمْ { أَرِنَا اللّهَ جَهْرَةً }
تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ
[ ص 394 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : جَهْرَةً أَيْ ظَاهِرًا لَنَا لَا شَيْءَ يَسْتُرُهُ عَنّا . قَالَ أَبُو الْأَخْزَرِ الْحِمّانِيّ وَاسْمُهُ قُتَيْبَةُ يَجْهَرُ أَجْوَافَ الْمِيَاهِ السّدُمِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ . يَجْهَرُ يَقُولُ يُظْهِرُ الْمَاءَ وَيَكْشِفُ عَنْهُ مَا يَسْتُرُهُ مِنْ الرّمْلِ وَغَيْرِهِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَخْذُ الصّاعِقَةِ إيّاهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ لِغَرّتِهِمْ ثُمّ إحْيَاؤُهُ إيّاهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ وَتَظْلِيلُهُ عَلَيْهِمْ الْغَمَامَ وَإِنْزَالُهُ عَلَيْهِمْ الْمَنّ وَالسّلْوَى ، وَقَوْلُهُ لَهُمْ { وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجّدًا وَقُولُوا حِطّةٌ } أَيْ قُولُوا مَا آمُرُكُمْ بِهِ أَحُطّ بِهِ ذُنُوبَكُمْ عَنْكُمْ وَتَبْدِيلُهُمْ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ اسْتِهْزَاءً بِأَمْرِهِ وَإِقَالَتُهُ إيّاهُمْ ذَلِكَ بَعْدَ هُزُئِهِمْ .
تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْمَنّ : شَيْءٌ كَانَ يَسْقُطُ فِي السّحَرِ عَلَى شَجَرِهِمْ فَيَجْتَنُونَهُ حُلْوًا مِثْلَ الْعَسَلِ فَيَشْرَبُونَهُ وَيَأْكُلُونَهُ . قَالَ أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ
لَوْ أُطْعِمُوا الْمَنّ وَالسّلْوَى مَكَانَهُمْ ... مَا أَبْصَرَ النّاسُ طَعْمًا فِيهِمْ نَجَعَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَالسّلْوَى : طَيْرٌ وَاحِدَتُهَا : سَلْوَاةٌ وَيُقَالُ إنّهَا السّمَانَى ، وَيُقَالُ لِلْعَسَلِ ( أَيْضًا ) : السّلْوَى . وَقَالَ خَالِدُ بْنُ زُهَيْرٍ الْهُذَلِيّ
وَقَاسَمَهَا بِاَللّهِ حَقّا لَأَنْتُمْ ... أَلَذّ مِنْ السّلْوَى إذَا مَا نَشُورُهَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَحِطّةٌ أَيْ حُطّ عَنّا ذُنُوبَنَا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ مِنْ تَبْدِيلِهِمْ ذَلِكَ كَمَا حَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التّوْأَمَةِ بِنْتِ أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَمَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، عَنْ [ ص 395 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ دَخَلُوا الْبَابَ الّذِي أُمِرُوا أَنْ يَدْخُلُوا مِنْهُ سُجّدًا يَزْحَفُونَ وَهُمْ يَقُولُونَ حِنْطٌ فِي شَعِيرٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُرْوَى : حِنْطَةٌ فِي شَعِيرَةٍ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَاسْتِسْقَاءَ مُوسَى لِقَوْمِهِ وَأَمْرَهُ ( إيّاهُ ) أَنْ يَضْرِبَ بِعَصَاهُ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ لَهُمْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ، لِكُلّ سِبْطٍ عَيْنٌ يَشْرَبُونَ مِنْهَا ، قَدْ عَلِمَ كُلّ سِبْطٍ عَيْنَهُ الّتِي مِنْهَا يَشْرَبُ
S[ ص 393 ] وَذَكَرَ قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } وَوَهِمَ فِي التّلَاوَةِ فَقَالَ { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ } كَمَا وَهِمَ فِي أَوّلِ السّورَةِ . وَبَنُو إسْرَائِيلَ : هُمْ بَنُو يَعْقُوبَ وَكَانَ يُسَمّى : إسْرَائِيلَ أَيْ سَرِيّ [ ص 394 ] الْقِرَاءَةِ إلّا أُضِيفُوا إلَى إسْرَائِيلَ وَلَمْ يُسَمّوْا فِيهِ بَنُو يَعْقُوبَ وَمَتَى ، ذُكِرَ إبْرَاهِيمُ وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ لَمْ يُسَمّ إسْرَائِيلُ وَذَلِكَ لِحِكْمَةِ فُرْقَانِيّةٍ وَهُوَ أَنّ الْقَوْمَ لَمّا [ ص 395 ] سُمّوا بِالِاسْمِ الّذِي فِيهِ تَذْكِرَةٌ بِاَللّهِ فَإِنّ إسْرَائِيلَ اسْمٌ مُضَافٌ إلَى اللّهِ تَعَالَى فِي التّأْوِيلِ . أَلَا تَرَى : كَيْفَ نَبّهَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ دَعَا إلَى الْإِسْلَامِ قَوْمًا ، يُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَبْدِ اللّهِ فَقَالَ لَهُمْ يَا بَنِي عَبْدِ اللّهِ إنّ اللّهَ قَدْ حَسّنَ اسْمَ أَبِيكُمْ يُحَرّضُهُمْ بِذَلِكَ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ اسْمُهُمْ مِنْ الْعُبُودِيّةِ لِلّهِ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ يَا بَنِي إسْرَائِيلَ إنّمَا وَرَدَ فِي مَعْرِضِ التّذْكِرَةِ لَهُمْ بِدِينِ [ ص 396 ] أَبِيهِمْ وَعُبُودِيّتِهِ لِلّهِ فَكَانَ ذِكْرُهُمْ بِهَذَا الِاسْمِ أَلْيَقَ بِمَقَامِ التّذْكِرَةِ وَالتّحْرِيضِ مِنْ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ يَا بَنِي يَعْقُوبَ وَلَمّا ذَكَرَ مَوْهِبَتَهُ لِإِبْرَاهِيمَ وَتَبْشِيرَهُ بِإِسْحَاقِ ثُمّ يَعْقُوبَ كَانَ لَفْظُ [ ص 397 ] أَوْلَى بِذَلِكَ الْمَقَامِ لِأَنّهَا مَوْهِبَةٌ بِعَقِبِ أُخْرَى ، وَبُشْرَى عَقّبَ بِهَا بُشْرَى وَإِنْ كَانَ اسْمُ يَعْقُوبَ عِبْرَانِيّا ، وَلَكِنّ لَفْظَهُ مُوَافِقٌ لِلْعَرَبِيّ فِي الْعَقِبِ وَالتّعْقِيبِ فَانْظُرْ مُشَاكَلَةَ الِاسْمَيْنِ [ ص 398 ] اللّائِقَةِ بِهِ .

وَقَوْلَهُمْ لِمُوسَى عَلَيْهِ السّلَامُ { لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثّائِهَا وَفُومِهَا } قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْفُوَمُ الْحِنْطَةُ . قَالَ أُمَيّةُ بْنُ الصّلْتِ الثّقَفِيّ :
فَوْقَ شِيزِي مِثْلُ الْجَوَابِي عَلَيْهَا
قِطَعٌ كَالْوَذِيلِ فِي نِقْيِ فُومٍ
تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْوَذِيلُ قِطَعُ الْفِضّةِ وَالْفُومُ الْقَمْحُ وَاحِدَتُهُ فُومَةٌ . وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . { وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الّذِي هُوَ أَدْنَى بِالّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ } قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمْ يَفْعَلُوا . وَرَفْعَهُ الطّورَ فَوْقَهُمْ لِيَأْخُذُوا مَا أُوتُوا ؛ وَالْمَسْخَ الّذِي كَانَ فِيهِمْ إذْ جَعَلَهُمْ قِرَدَةً بِأَحْدَاثِهِمْ وَالْبَقَرَةَ الّتِي أَرَاهُمْ اللّهُ عَزّ وَجَلّ بِهَا الْعِبْرَةَ فِي الْقَتِيلِ الّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ حَتّى بَيّنَ اللّهُ لَهُمْ أَمْرَهُ بَعْدَ التّرَدّدِ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السّلَامُ فِي صِفَةِ الْبَقَرَةِ وَقَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ حَتّى كَانَتْ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدّ قَسْوَةً . ثُمّ قَالَ تَعَالَى : [ ص 396 ] { وَإِنّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنّ مِنْهَا لَمَا يَشّقّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ } أَيْ وَإِنّ مِنْ الْحِجَارَةِ لَأَلْيَنُ مِنْ قُلُوبِكُمْ عَمّا تُدْعَوْنَ إلَيْهِ مِنْ الْحَقّ { وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ }

ثُمّ قَالَ لِمُحَمّدِ عَلَيْهِ الصّلَاةُ السّلَامُ وَلِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ يُؤَيّسُهُمْ مِنْهُمْ { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللّهِ ثُمّ يُحَرّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وَلَيْسَ قَوْلُهُ يَسْمَعُونَ التّوْرَاةَ ، أَنّ كُلّهُمْ قَدْ سَمِعَهَا ، وَلَكِنّهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ أَيْ خَاصّةً . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ ، فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا لِمُوسَى : يَا مُوسَى ، قَدْ حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ رُؤْيَةِ اللّهِ فَأَسْمِعْنَا كَلَامَهُ حِينَ يُكَلّمُك ، فَطَلَبَ ذَلِكَ مُوسَى عَلَيْهِ السّلَامُ مِنْ رَبّهِ فَقَالَ لَهُ نَعَمْ مُرْهُمْ فَلْيَطْهُرُوا ، أَوْ لِيُطَهّرُوا ثِيَابَهُمْ وَلْيَصُومُوا ، فَفَعَلُوا . ثُمّ خَرَجَ بِهِمْ حَتّى أَتَى بِهِمْ الطّورَ ، فَلَمّا غَشِيَهُمْ الْغَمَامُ أَمَرَهُمْ مُوسَى فَوَقَعُوا سُجّدًا ، وَكَلّمَهُ رَبّهُ فَسَمِعُوا كَلَامَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، يَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ حَتّى عَقَلُوا عَنْهُ مَا سَمِعُوا ، ثُمّ انْصَرَفَ بِهِمْ إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فَلَمّا جَاءَهُمْ حَرّفَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَقَالُوا : حِينَ قَالَ مُوسَى لِبَنِي إسْرَائِيلَ إنّ اللّهَ قَدْ أَمَرَكُمْ بِكَذَا وَكَذَا ، قَالَ ذَلِكَ الْفَرِيقُ الّذِي ذَكَرَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ إنّمَا قَالَ كَذَا وَكَذَا ، خِلَافًا لِمَا قَالَ اللّهُ لَهُمْ فَهُمْ الّذِينَ عَنَى اللّهُ عَزّ وَجَلّ لِرَسُولِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا لَقُوا الّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنّا } أَيْ بِصَاحِبِكُمْ رَسُولِ اللّهِ وَلَكِنّهُ إلَيْكُمْ خَاصّةً . { وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا } لَا تُحَدّثُوا الْعَرَبَ بِهَذَا ، فَإِنّكُمْ قَدْ كُنْتُمْ تَسْتَفْتِحُونَ بِهِ عَلَيْهِمْ فَكَانَ فِيهِمْ . فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِيهِمْ { وَإِذَا لَقُوا الّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } أَيْ تُقِرّونَ بِأَنّهُ نَبِيّ ، وَقَدْ عَرَفْتُمْ أَنّهُ قَدْ أُخِذَ لَهُ الْمِيثَاقُ عَلَيْكُمْ بِاتّبَاعِهِ وَهُوَ يُخْبِرُكُمْ أَنّهُ النّبِيّ الّذِي كُنّا نَنْتَظِرُ وَنَجِدُ فِي كِتَابِنَا ؛ اجْحَدُوهُ وَلَا تُقِرّوا لَهُمْ [ ص 397 ] عَزّ وَجَلّ { أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ وَمِنْهُمْ أُمّيّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلّا أَمَانِيّ }
تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ إلّا أَمَانِيّ إلّا قِرَاءَةً لِأَنّ الْأُمّيّ الّذِي يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ . يَقُولُ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلّا ( أَنّهُمْ ) يَقْرَءُونَهُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَيُونُسَ أَنّهُمَا تَأَوّلَا ذَلِكَ عَنْ الْعَرَبِ فِي قَوْلِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ حَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ بِذَلِكَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ النّحْوِيّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ أَنّ الْعَرَبَ تَقُولُ تَمَنّى ، فِي مَعْنَى قَرَأَ . وَفِي كِتَابِ اللّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيّ إِلّا إِذَا تَمَنّى أَلْقَى الشّيْطَانُ فِي أُمْنِيّتِهِ } قَالَ وَأَنْشَدَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ النّحْوِيّ :
تَمَنّى كِتَابَ اللّهِ أَوّلَ لَيْلِهِ ... وَآخِرَهُ وَافَى حِمَامُ الْمَقَادِرِ
وَأَنْشَدَنِي أَيْضًا :
تَمَنّى كِتَابَ اللّهِ فِي اللّيْلِ خَالِيًا ... تَمَنّيّ دَاوُدَ الزّبُورِ عَلَى رِسْلِ
وَوَاحِدَةُ الْأَمَانِيّ أُمْنِيّةٌ . وَالْأَمَانِيّ ( أَيْضًا ) : أَنْ يَتَمَنّى الرّجُلُ الْمَالَ أَوْ غَيْرَهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : { وَإِنْ هُمْ إِلّا يَظُنّونَ } أَيْ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ وَلَا يَدْرُونَ مَا فِيهِ وَهُمْ يَجْحَدُونَ نُبُوّتَك بِالظّنّ .

{ وَقَالُوا لَنْ تَمَسّنَا النّارُ إِلّا أَيّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتّخَذْتُمْ عِنْدَ اللّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ }
دَعْوَى الْيَهُودِ قِلّةَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ وَرَدّ اللّهِ عَلَيْهِمْ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مَوْلًى لِزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ عِكْرِمَةَ ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، [ ص 398 ] قَالَ قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ وَالْيَهُودُ تَقُولُ إنّمَا مُدّةُ الدّنْيَا سَبْعَةٌ آلَافِ سَنَةٍ ، وَإِنّمَا يُعَذّبُ اللّهُ النّاسَ فِي النّارِ بِكُلّ أَلْفِ سَنَةٍ مِنْ أَيّامِ الدّنْيَا يَوْمًا وَاحِدًا فِي النّارِ مِنْ أَيّامِ الْآخِرَةِ وَإِنّمَا هِيَ سَبْعَةُ أَيّامٍ ثُمّ يَنْقَطِعُ الْعَذَابُ . فَأَنْزَلَ اللّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ { وَقَالُوا لَنْ تَمَسّنَا النّارُ إِلّا أَيّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتّخَذْتُمْ عِنْدَ اللّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ } أَيْ مَنْ عَمِلَ بِمِثْلِ أَعْمَالِكُمْ وَكَفَرَ بِمِثْلِ مَا كَفَرْتُمْ بِهِ يُحِيطُ كُفْرُهُ بِمَا لَهُ عِنْدَ اللّهِ مِنْ حَسَنَةٍ { فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أَيْ خُلّدٌ أَبَدًا . { وَالّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أَيْ مَنْ آمَنَ بِمَا كَفَرْتُمْ بِهِ وَعَمِلَ بِمَا تَرَكْتُمْ مِنْ دِينِهِ فَلَهُمْ الْجَنّةُ خَالِدِينَ فِيهَا ، يُخْبِرُهُمْ أَنّ الثّوَابَ بِالْخَيْرِ وَالشّرّ مُقِيمٌ عَلَى أَهْلِهِ أَبَدًا ، لَا انْقِطَاعَ لَهُ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ قَالَ ( اللّهُ عَزّ وَجَلّ ) يُؤَنّبُهُمْ { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } أَيْ مِيثَاقَكُمْ { لَا تَعْبُدُونَ إِلّا اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصّلَاةَ وَآتُوا الزّكَاةَ ثُمّ تَوَلّيْتُمْ إِلّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ } أَيْ تَرَكْتُمْ ذَلِكَ كُلّهُ لَيْسَ بِالتّنَقّصِ . { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ }
تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : تَسْفِكُونَ تَصُبّونَ . تَقُولُ الْعَرَبُ : سَفَكَ دَمَهُ أَيْ صَبّهُ وَسَفَكَ الزّقّ أَيْ هَرَاقَهُ . قَالَ الشّاعِرُ
وَكُنّا إذَا مَا الضّيْفُ حَلّ بِأَرْضِنَا
سَفَكْنَا دِمَاءَ الْبُدْنِ فِي تُرْبَةِ الْحَالِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : يَعْنِي " بِالْحَالِ " : الطّينَ الّذِي يُخَالِطُهُ الرّمْلُ وَهُوَ الّذِي تَقُولُ لَهُ الْعَرَبُ : السّهْلَةُ . وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ إنّ جِبْرِيلَ لَمّا قَالَ فِرْعَوْنُ : { آمَنْتُ أَنّهُ لَا إِلَهَ إِلّا الّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ } أَخَذَ مِنْ حَالِ الْبَحْرِ وَحَمْأَتِهِ فَضَرَبَ بِهِ وَجْهَ فِرْعَوْنَ . ( وَالْحَالُ مِثْلُ الْحَمْأَةِ ) . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : { وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } عَلَى أَنّ هَذَا حَقّ مِنْ مِيثَاقِي عَلَيْكُمْ { ثُمّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } أَيْ أَهْلَ الشّرْكِ حَتّى يَسْفِكُوا دِمَاءَهُمْ مَعَهُمْ وَيُخْرِجُوهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ مَعَهُمْ { وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ } وَقَدْ عَرَفْتُمْ أَنّ ذَلِكَ عَلَيْكُمْ فِي دِينِكُمْ { وَهُوَ مُحَرّمٌ عَلَيْكُمْ } [ ص 399 ] { إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } ( أَيْ ) أَتُفَادُونَهُمْ مُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ وَتُخْرِجُونَهُمْ كُفّارًا بِذَلِكَ . { فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدّونَ إِلَى أَشَدّ الْعَذَابِ وما الله بغافل عما تعملون أُولَئِكَ الّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ } فَأَنّبَهُمْ اللّهُ عَزّ وَجَلّ بِذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ وَقَدْ حَرّمَ عَلَيْهِمْ فِي التّوْرَاةِ سَفْكَ دِمَائِهِمْ وَافْتَرَضَ عَلَيْهِمْ فِيهَا فِدَاءَ أَسْرَاهُمْ . فَكَانُوا فَرِيقَيْنِ مِنْهُمْ بَنُو قَيْنُقَاعِ وَلَفّهُمْ حُلَفَاءُ الْخَزْرَجِ ، وَالنّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ وَلَفّهُمْ حُلَفَاءُ الْأَوْسِ . فَكَانُوا إذَا كَانَتْ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ حَرْبٌ خَرَجَتْ بَنُو قَيْنُقَاعِ مَعَ الْخَزْرَجِ وَخَرَجَتْ النّضِيرُ وَقُرَيْظَةُ مَعَ الْأَوْسِ يُظَاهِرُ كُلّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ حُلَفَاءَهُ عَلَى إخْوَانِهِ حَتّى يَتَسَافَكُوا دِمَاءَهُمْ بَيْنَهُمْ وَبِأَيْدِيهِمْ التّوْرَاةُ يَعْرِفُونَ فِيهَا مَا عَلَيْهِمْ وَمَا لَهُمْ وَالْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ أَهْلُ شِرْكٍ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ . لَا يَعْرِفُونَ جَنّةً وَلَا نَارًا ، وَلَا بَعْثًا وَلَا قِيَامَةً وَلَا كِتَابًا ، وَلَا حَلَالًا وَلَا حَرَامًا ، فَإِذَا وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا افْتَدَوْا أُسَارَاهُمْ تَصْدِيقًا لِمَا فِي التّوْرَاةِ ، وَأَخَذَ بِهِ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَفْتَدِي بَنُو قَيْنُقَاعِ مَنْ كَانَ مِنْ أَسْرَاهُمْ فِي أَيْدِي الْأَوْسِ وَتَفْتَدِي النّضِيرُ وَقُرَيْظَةُ مَا فِي أَيْدِي الْخَزْرَجِ مِنْهُمْ وَيُطِلّونَ مَا أَصَابُوا مِنْ الدّمَاءِ وَقَتْلَى مَنْ قَتَلُوا مِنْهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ مُظَاهَرَةً لِأَهْلِ الشّرْكِ عَلَيْهِمْ . يَقُولُ اللّهُ تَعَالَى حِينَ أَنّبَهُمْ بِذَلِكَ { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } أَيْ تُفَادِيهِ بِحُكْمِ التّوْرَاةِ وَتَقْتُلُهُ وَفِي حُكْمِ التّوْرَاةِ أَنْ لَا تَفْعَلَ تَقْتُلُهُ وَتُخْرِجُهُ مِنْ دَارِهِ وَتُظَاهِرُ عَلَيْهِ مَنْ يُشْرِكُ بِاَللّهِ وَيَعْبُدُ الْأَوْثَانَ مِنْ دُونِهِ ابْتِغَاءَ عَرَضِ الدّنْيَا . فَفِي ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ مَعَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ . فِيمَا بَلَغَنِي - نَزَلَتْ هَذِهِ الْقِصّةُ .

ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيّنَاتِ } أَيْ الْآيَاتِ الّتِي وُضِعَتْ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إحْيَاءِ الْمَوْتَى ، وَخَلْقِهِ مِنْ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ ثُمّ يَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَإِبْرَاءِ الْأَسْقَامِ وَالْخَبَرِ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْغُيُوبِ مِمّا يَدّخِرُونَ فِي بُيُوتِهِمْ وَمَا رَدّ عَلَيْهِمْ مِنْ التّوْرَاةِ مَعَ الْإِنْجِيلِ ، الّذِي أَحْدَثَ اللّهُ إلَيْهِ . [ ص 400 ] ذَكَرَ كُفْرَهُمْ بِذَلِكَ كُلّهِ فَقَالَ { أَفَكُلّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ } ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ } فِي أَكِنّةٍ يَقُولُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ { بَلْ لَعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ ولما جاءهم كتاب من عند الله مُصَدّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ كَفَرُوا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ قَالَ قَالُوا : فِينَا وَاَللّهِ وَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْقِصّةُ كُنّا قَدْ عَلَوْنَاهُمْ ظُهْرًا فِي الْجَاهِلِيّةِ وَنَحْنُ أَهْلُ شِرْكٍ وَهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ فَكَانُوا يَقُولُونَ لَنَا : إنّ نَبِيّا يُبْعَثُ الْآنَ نَتّبِعُهُ قَدْ أَظَلّ زَمَانُهُ نَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ . فَلَمّا بَعَثَ اللّهُ رَسُولَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ قُرَيْشٍ فَاتّبَعْنَاهُ كَفَرُوا بِهِ . يَقُولُ اللّهُ { فَلَمّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزّلَ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } أَيْ أَنْ جَعَلَهُ فِي غَيْرِهِمْ { فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ }
تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : { فَبَاءُوا بِغَضَبٍ } أَيْ اعْتَرَفُوا بِهِ وَاحْتَمَلُوهُ . قَالَ أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ :
أُصَالِحُكُمْ حَتّى تَبُوءُوا بِمِثْلِهَا
كَصَرْخَةِ حُبْلَى يَسّرَتْهَا قَبِيلُهَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : يَسّرَتْهَا : أَجْلَسَتْهَا لِلْوِلَادَةِ . وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَالْغَضَبُ عَلَى الْغَضَبِ لِغَضَبِهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا كَانُوا ضَيّعُوا مِنْ التّوْرَاةِ ، وَهِيَ مَعَهُمْ وَغَضَبٌ بِكُفْرِهِمْ بِهَذَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّذِي أَحْدَثَ اللّهُ إلَيْهِمْ . ثُمّ أَنّبَهُمْ بِرَفْعِ الطّورِ عَلَيْهِمْ وَاِتّخَاذِهِمْ الْعِجْلَ إلَهًا دُونَ رَبّهِمْ يَقُولُ اللّهُ تَعَالَى لِمُحَمّدِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ { قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النّاسِ فَتَمَنّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أَيْ اُدْعُوَا بِالْمَوْتِ عَلَى أَيّ الْفَرِيقَيْنِ أَكْذَبَ عِنْدَ اللّهِ فَأَبَوْا ذَلِكَ [ ص 401 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . يَقُولُ اللّهُ جَلّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيّهِ عَلَيْهِ الصّلَاةُ وَالسّلَامُ { وَلَنْ يَتَمَنّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدّمَتْ أَيْدِيهِمْ } أَيْ بِعِلْمِهِمْ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ بك ، وَالْكُفْرِ بِذَلِكَ فَيُقَالُ لَوْ تَمَنّوْهُ يَوْمَ قَالَ ذَلِكَ لَهُمْ مَا بَقِيَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ يَهُودِيّ إلّا مَاتَ . ثُمّ ذَكَرَ رَغْبَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَطُولِ الْعُمْرِ فَقَالَ تَعَالَى : { وَلَتَجِدَنّهُمْ أَحْرَصَ النّاسِ عَلَى حَيَاةٍ } الْيَهُودُ { وَمِنَ الّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمّرَ } أَيْ مَا هُوَ بِمُنْجِيهِ مِنْ الْعَذَابِ وَذَلِكَ أَنّ الْمُشْرِكَ لَا يَرْجُو بَعْثًا بَعْدَ الْمَوْتِ فَهُوَ يُحِبّ طُولَ الْحَيَاةِ وَأَنّ الْيَهُودِيّ قَدْ عَرَفَ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ الْخِزْيِ بِمَا ضَيّعَ مِمّا عِنْدَهُ مِنْ الْعِلْمِ . ثُمّ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّا لِجِبْرِيلَ فَإِنّهُ نَزّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ } [ ص 400 ] [ ص 401 ]

سُؤَالُ الْيَهُودِ الرّسُولَ وَإِجَابَتُهُ لَهُمْ عَلَيْهِ الصّلَاةُ وَالسّلَامُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ ( عَبْدِ ) الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي حُسَيْنٍ الْمَكّيّ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ الْأَشْعَرِيّ أَنّ نَفَرًا مِنْ أَحْبَارِ يَهُودَ جَاءُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالُوا : يَا مُحَمّدُ أَخْبِرْنَا عَنْ أَرْبَعٍ نَسْأَلُك عَنْهُنّ فَإِنْ فَعَلْت ذَلِكَ اتّبَعْنَاك وَصَدّقْنَاك وَآمَنّا بِك . قَالَ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ عَهْدُ اللّهِ وَمِيثَاقُهُ لَئِنْ أَنَا أَخْبَرْتُكُمْ بِذَلِكَ لَتُصَدّقُنّنِي ؟ قَالُوا : نَعَمْ قَالَ فَاسْأَلُوا عَمّا بَدَا لَكُمْ قَالُوا : فَأَخْبِرْنَا كَيْفَ يُشْبِهُ الْوَلَدُ أُمّهُ وَإِنّمَا النّطْفَةُ مِنْ الرّجُلِ ؟ قَالَ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْشُدُكُمْ بِاَللّهِ وَبِأَيّامِهِ عِنْدَ بَنِي إسْرَائِيلَ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنّ نُطْفَةَ الرّجُلِ بَيْضَاءَ غَلِيظَةً وَنُطْفَةَ الْمَرْأَةِ صَفْرَاءَ رَقِيقَةً فَأَيّتُهُمَا عَلَتْ صَاحِبَتَهَا كَانَ لَهَا الشّبَهُ ؟ قَالُوا : اللّهُمّ نَعَمْ . قَالُوا : فَأَخْبِرْنَا كَيْفَ نَوْمُك ؟ فَقَالَ أَنْشُدُكُمْ بِاَللّهِ وَبِأَيّامِهِ عِنْدَ بَنِي إسْرَائِيلَ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنّ نَوْمَ الّذِي تَزْعُمُونَ أَنّي لَسْت بِهِ تَنَامُ عَيْنُهُ وَقَلْبُهُ يَقْظَانُ ؟ فَقَالُوا : اللّهُمّ نَعَمْ قَالَ فَكَذَلِكَ نَوْمِي ، تَنَامُ عَيْنِي وَقَلْبِي يَقْظَانُ . قَالُوا : فَأَخْبِرْنَا عَمّا حَرّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ ؟ قَالَ أَنْشُدُكُمْ بِاَللّهِ وَبِأَيّامِهِ عِنْدَ بَنِي إسْرَائِيلَ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنّهُ كَانَ أَحَبّ الطّعَامِ وَالشّرَابِ إلَيْهِ أَلْبَانُ الْإِبِلِ وَلُحُومُهَا ، وَأَنّهُ اشْتَكَى شَكْوَى ، فَعَافَاهُ اللّهُ مِنْهَا ، فَحَرّمَ عَلَى نَفْسِهِ حُبّ الطّعَامِ وَالشّرَابِ إلَيْهِ شُكْرًا لِلّهِ فَحَرّمَ عَلَى نَفْسِهِ لُحُومَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا ؟ قَالُوا : اللّهُمّ نَعَمْ . قَالُوا : فَأَخْبِرْنَا عَنْ الرّوحِ ؟ قَالَ أَنْشُدُكُمْ بِاَللّهِ وَبِأَيّامِهِ عِنْدَ بَنِي إسْرَائِيلَ هَلْ تَعْلَمُونَهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ الّذِي يَأْتِينِي ؟ قَالُوا : اللّهُمّ نَعَمْ وَلَكِنّهُ يَا مُحَمّدُ لَنَا [ ص 402 ] مَلَكٌ إنّمَا يَأْتِي بِالشّدّةِ وَبِسَفْكِ الدّمَاءِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاتّبَعْنَاك ، قَالَ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِيهِمْ { قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّا لِجِبْرِيلَ فَإِنّهُ نَزّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { أَوَكُلّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَمّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَاتّبَعُوا مَا تَتْلُو الشّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } أَيْ السّحْرَ { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنّ الشّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلّمُونَ النّاسَ السّحْرَ }
إنْكَارَ الْيَهُودِ نُبُوّةَ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السّلَامُ وَرَدّ اللّهُ عَلَيْهِمْ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَذَلِكَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيمَا بَلَغَنِي - لَمّا ذَكَرَ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ فِي الْمُرْسَلِينَ قَالَ بَعْضُ أَحْبَارِهِمْ أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ مُحَمّدٍ ، يَزْعُمُ أَنّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ كَانَ نَبِيّا ، وَاَللّهِ مَا كَانَ إلّا سَاحِرًا . فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنّ الشّيَاطِينَ كَفَرُوا } أَيْ بِاتّبَاعِهِمْ السّحْرَ وَعَمَلِهِمْ بِهِ . { وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلّمَانِ مِنْ أَحَدٍ } قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، أَنّهُ كَانَ يَقُولُ الّذِي حَرّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ زَائِدَتَا الْكَبِدِ وَالْكُلْيَتَانِ وَالشّحْمُ إلّا مَا كَانَ عَلَى الظّهْرِ فَإِنّ ذَلِكَ كَانَ يُقَرّبُ لَلْقُرْبَانِ فَتَأْكُلُهُ النّارُ [ ص 402 ]

كِتَابُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى يَهُودِ خَيْبَرَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَتَبَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى يَهُودِ خَيْبَرَ ، فِيمَا حَدّثَنِي مَوْلًى لِآلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ [ ص 403 ] بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَاحِبِ مُوسَى وَأَخِيهِ وَالْمُصَدّقِ لِمَا جَاءَ بِهِ مُوسَى : أَلَا إنّ اللّهَ قَدْ قَالَ لَكُمْ يَا مَعْشَرَ أَهْلِ التّوْرَاةِ ، وَإِنّكُمْ لِتَجِدُونِ ذَلِكَ فِي كِتَابِكُمْ { مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ وَالّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكّعًا سُجّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ ومثلهم في الإنجيل كزرع وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفّارَ وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } وَإِنّي أَنْشُدُكُمْ بِاَللّهِ ، وَأَنْشُدُكُمْ بِمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ وَأَنْشُدُكُمْ بِاَلّذِي أَطْعَمَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ أَسْبَاطِكُمْ الْمَنّ وَالسّلْوَى ، وَأَنْشُدُكُمْ بِاَلّذِي أَيْبَسَ الْبَحْرَ لِآبَائِكُمْ حَتّى أَنْجَاهُمْ مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ إلّا أَخْبَرْتُمُونِي : هَلْ تَجِدُونَ فِيمَا أَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِمُحَمّدِ ؟ فَإِنْ كُنْتُمْ لَا تَجِدُونَ ذَلِكَ فِي كِتَابِكُمْ فَلَا كُرْهَ عَلَيْكُمْ . قَدْ تَبَيّنَ الرّشْدُ مِنْ الْغَيّ - فَأَدْعُوكُمْ إلَى اللّهِ وَإِلَى نَبِيّهِ .
تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : شَطْؤُهُ فِرَاخُهُ وَوَاحِدَتُهُ شَطْأَةٌ . تَقُولُ الْعَرَبُ : قَدْ أَشْطَأَ الزّرْعُ إذَا أَخْرَجَ فِرَاخَهُ . وَآزَرَهُ عَاوَنَهُ فَصَارَ الّذِي قَبْلَهُ مِثْلَ الْأُمّهَاتِ . قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنِ حَجَرٍ الْكِنْدِيّ :
بِمَحْنِيّةِ قَدْ آزَرَ الضّالَ نَبْتُهَا
مَجَرّ جُيُوشٍ غَانِمِينَ وَخُيّبِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ مَالِكٍ الْأَرْقَطُ أَحَدُ بَنِي رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ زَرْعًا وَقَضْبًا مُؤَزّرَ النّبَاتِ وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ . وَسُوقُهُ غَيْرُ مَهْمُوزٍ جَمْعُ سَاقٍ لِسَاقِ الشّجَرَةِ .

مَا نَزَلَ فِي أَبِي يَاسِرٍ وَأَخِيهِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ مِمّنْ نَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ بِخَاصّةِ مِنْ الْأَحْبَارِ وَكُفّارِ يَهُودَ الّذِي كَانُوا يَسْأَلُونَهُ وَيَتَعَنّتُونَهُ لِيَلْبِسُوا الْحَقّ بِالْبَاطِلِ - فِيمَا ذُكِرَ لِي عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ رِئَابٍ - أَنّ أَبَا يَاسِرٍ بْنَ أَخْطَبَ مَرّ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ يَتْلُو فَاتِحَةَ الْبَقَرَةِ { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ } فَأَتَى أَخَاهُ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ فِي رِجَالٍ مِنْ [ ص 404 ] فَقَالَ تَعْلَمُوا وَاَللّهِ لَقَدْ سَمِعْت مُحَمّدًا يَتْلُو فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ } فَقَالُوا : أَنْتَ سَمِعْته ؟ فَقَالَ نَعَمْ فَمَشَى حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ فِي أُولَئِكَ النّفَرِ مِنْ يَهُودَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالُوا لَهُ يَا مُحَمّدُ أَلَمْ يُذْكَرْ لَنَا أَنّك تَتْلُو فِيمَا أُنْزِلَ إلَيْك : { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ } ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَلَى ، قَالُوا : أَجَاءَك بِهَا جِبْرِيلُ مِنْ عِنْدِ اللّهِ ؟ فَقَالَ نَعَمْ قَالُوا : لَقَدْ بَثّ اللّهُ قَبْلَك أَنْبِيَاءَ مَا نَعْلَمُهُ بَيّنَ لِنَبِيّ مِنْهُمْ مَا مُدّةُ مُلْكِهِ وَمَا أَكْلُ أُمّتِهِ غَيْرَك ، فَقَالَ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ ، وَأَقْبَلَ عَلَى مَنْ مَعَهُ فَقَالَ لَهُمْ الْأَلِفُ وَاحِدَةٌ وَاللّامُ ثَلَاثُونَ وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ فَهَذِهِ إحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَةً أَفَتَدْخُلُونَ فِي دِينِ إنّمَا مُدّةُ مُلْكِهِ وَأَكْلُ أُمّتِهِ إحْدَى وَسَبْعُونَ سَنَةً ؟ ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا مُحَمّدُ هَلْ مَعَ هَذَا غَيْرُهُ ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ مَاذَا ؟ قَالَ { المص } قَالَ هَذِهِ وَاَللّهِ أَثْقَلُ وَأَطْوَلُ الْأَلِفُ وَاحِدَةٌ وَاللّامُ ثَلَاثُونَ وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ وَالصّادُ تِسْعُونَ فَهَذِهِ إحْدَى وَسِتّونَ وَمِائَةُ سَنَةٍ هَلْ مَعَ هَذَا يَا مُحَمّدُ غَيْرُهُ ؟ قَالَ نَعَمْ { الر } قَالَ هَذِهِ وَاَللّهِ أَثْقَلُ وَأَطْوَلُ الْأَلِفُ [ ص 405 ] وَاحِدَةً وَاللّامُ ثَلَاثُونَ وَالرّاءُ مِائَتَانِ فَهَذِهِ إحْدَى وَثَلَاثُونَ وَمِائَتَانِ هَلْ مَعَ هَذَا غَيْرُهُ يَا مُحَمّدُ ؟ قَالَ نَعَمْ { المر } قَالَ هَذِهِ وَاَللّهِ أَثْقَلُ وَأَطْوَلُ الْأَلِفُ وَاحِدَةٌ وَاللّامُ ثَلَاثُونَ وَالْمِيمُ أَرْبَعُونَ وَالرّاءُ مِائَتَانِ فَهَذِهِ إحْدَى وَسَبْعُونَ وَمِائَتَا سَنَةٍ ثُمّ قَالَ لَقَدْ لُبّسَ عَلَيْنَا أَمْرُك يَا مُحَمّدُ حَتّى مَا نَدْرِي أَقَلِيلًا أُعْطِيت أَمْ كَثِيرًا ؟ ثُمّ قَامُوا عَنْهُ فَقَالَ أَبُو يَاسِرٍ لِأَخِيهِ حُيّيَ بْنِ أَخْطَبَ وَلِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْأَحْبَارِ مَا يُدْرِيكُمْ لَعَلّهُ قَدْ جُمِعَ هَذَا كُلّهُ لِمُحَمّدِ إحْدَى وَسَبْعُونَ وَإِحْدَى وَسِتّونَ وَمِائَةٌ وَإِحْدَى وَثَلَاثُونَ وَمِائَتَانِ وَإِحْدَى وَسَبْعُونَ وَمِائَتَانِ فَذَلِكَ سَبْعُمِائَةٍ وَأَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً فَقَالُوا : لَقَدْ تَشَابَهَ عَلَيْنَا أَمْرُهُ . فَيَزْعُمُونَ أَنّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِيهِمْ { مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنّ أُمّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ سَمِعْت مَنْ لَا أَتّهِمُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَذْكُرُ أَنّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ إنّمَا أُنْزِلْنَ فِي أَهْلِ نَجْرَانَ ، حِينَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَسْأَلُونَهُ عَنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السّلَامُ . [ ص 406 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ ، أَنّهُ قَدْ سَمِعَ أَنّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ إنّمَا أُنْزِلْنَ فِي نَفَرٍ مِنْ يَهُودَ وَلَمْ يُفَسّرْ ذَلِكَ لِي . فَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ .
Sحَدِيثُ أَبِي يَاسِرٍ بْنِ أَخْطَبَ
فَصْلٌ
[ ص 403 ] وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ حَدِيثَ أَبِي يَاسِرٍ بْنِ أَخْطَبَ وَأَخِيهِ حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ حِينَ سَمِعَا { المص } وَنَحْوَهَا مِنْ الْحُرُوفِ وَأَنّهُمْ أَخَذُوا تَأْوِيلَهَا مِنْ حُرُوفِ أَبِجَدّ إلَى قَوْلِهِ لَعَلّهُ قَدْ جُمِعَ لِمُحَمّدِ وَأُمّتِهِ هَذَا كُلّهُ . قَالَ الْمُؤَلّفُ وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَحْبَارِ يَهُودَ وَمَا تَأَوّلُوهُ مِنْ مَعَانِي هَذِهِ الْحُرُوفِ مُحْتَمَلٌ حَتّى الْآنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَعْضِ مَا دَلّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْحُرُوفُ [ ص 404 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَمْ يُكَذّبْهُمْ فِيمَا قَالُوا مِنْ ذَلِكَ وَلَا صَدّقَهُمْ . وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ لَا تُصَدّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذّبُوهُمْ وَقُولُوا : آمَنّا بِاَللّهِ وَبِرَسُولِهِ . وَإِذَا كَانَ فِي حَدّ الِاحْتِمَالِ وَجَبَ أَنْ يُفْحَصَ عَنْهُ فِي الشّرِيعَةِ هَلْ يُشِيرُ إلَى صِحّتِهِ كِتَابٌ أَوْ سُنّةٌ فَوَجَدْنَا فِي التّنْزِيلِ وَإِنّ يَوْمًا عِنْدَ رَبّك كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدّونَ وَوَجَدْنَا فِي حَدِيثِ زَمْلٍ الْخُزَاعِيّ حِينَ قَصّ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - رُؤْيَا ، وَقَالَ فِيهَا : رَأَيْتُك يَا رَسُولَ اللّهِ عَلَى مِنْبَرٍ لَهُ سَبْعُ دَرَجَاتٍ ؟ وَإِلَى جَنْبِهِ نَاقَةٌ عَجْفَاءُ كَأَنّك تَبْعَثُهَا ، فَفَسّرَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّاقَةَ بِقِيَامِ السّاعَةِ الّتِي أُنْذِرَ بِهَا ، وَقَالَ فِي الْمِنْبَرِ وَدَرَجَاتِهِ الدّنْيَا : سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ بُعِثْت فِي آخِرِهَا أَلْفًا وَالْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفَ الْإِسْنَادِ فَقَدْ رُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبّاسٍ مِنْ طُرُقٍ صِحَاحٍ أَنّهُ قَالَ الدّنْيَا سَبْعَةُ أَيّامٍ كُلّ يَوْمٍ أَلْفُ سَنَةٍ وَبُعِثَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنْهَا . وَقَدْ مَضَتْ مِنْهُ سُنُونَ أَوْ قَالَ مِئُونَ وَصَحّحَ أَبُو جَعْفَرٍ الطّبَرِيّ هَذَا الْأَصْلَ وَعَضّدَهُ بِآثَارِ وَذَكَرَ قَوْلَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بُعِثْت أَنَا وَالسّاعَةَ كَهَاتَيْنِ ، وَإِنّمَا سَبَقْتهَا بِمَا سَبَقَتْ هَذِهِ هَذِهِ يَعْنِي : الْوُسْطَى وَالسّبّابَةَ وَأَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ صَحّحَهَا وَأَوْرَدَ مِنْهَا [ ص 405 ] لَنْ يُعْجِزَ اللّهَ أَنْ يُؤَخّرَ هَذِهِ الْأُمّةَ نِصْفَ يَوْمٍ يَعْنِي : خَمْسَمِائَةِ عَامٍ وَقَدْ خَرّجَ هَذَا الْحَدِيثَ الْأَخِيرَ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا . قَالَ الطّبَرِيّ : وَهَذَا فِي مَعْنَى مَا قَبْلَهُ يَشْهَدُ لَهُ وَيُبَيّنُهُ فَإِنّ الْوُسْطَى تَزِيدُ عَلَى السّبّابَةِ بِنِصْفِ سُبْعِ أُصْبُعٍ كَمَا أَنّ نِصْفَ يَوْمٍ مِنْ سَبْعَةٍ نِصْفُ سُبْعٍ . قَالَ الْمُؤَلّفُ وَقَدْ مَضَتْ الْخَمْسُمِائَةِ مِنْ وَفَاتِهِ إلَى الْيَوْمِ بِنَيّفِ عَلَيْهَا ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ لَنْ يُعْجِزَ اللّهَ أَنْ يُؤَخّرَ هَذِهِ الْأُمّةَ نِصْفَ يَوْمٍ مَا يَنْفِي الزّيَادَةَ عَلَى النّصْفِ وَلَا فِي قَوْلِهِ بُعِثْت أَنَا وَالسّاعَةَ كَهَاتِينَ مَا يَقْطَعُ بِهِ عَلَى صِحّةِ تَأْوِيلِهِ فَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ غَيْرُ هَذَا ، وَهُوَ أَنْ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السّاعَةِ نَبِيّ غَيْرُهُ وَلَا شَرْعٌ غَيْرُ شَرْعِهِ مَعَ التّقْرِيبِ لِحِينِهَا ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ { اقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وَانْشَقّ الْقَمَرُ } و { أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ } وَلَكِنْ إذَا قُلْنَا : إنّهُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - بُعِثَ فِي الْأَلْفِ الْآخِرِ بَعْدَمَا مَضَتْ مِنْهُ سُنُونَ وَنَظَرْنَا بَعْدُ إلَى الْحُرُوفِ الْمُقَطّعَةِ فِي أَوَائِلِ السّوَرِ وَجَدْنَاهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ حَرْفًا يَجْمَعُهَا : قَوْلُك : أَلَمْ يَسْطَعْ نَصّ حَقّ كُرِهَ ثُمّ نَأْخُذُ الْعَدَدَ عَلَى حِسَابِ أَبِي جَادٍ فَنَجِدُ ق مِائَةً و : ر مِائَتَيْنِ و : س ثَلَاثَمِائَةٍ فَهَذِهِ سِتّمِائَةٍ و : ع سَبْعِينَ و : ص سِتّينَ فَهَذِهِ سَبْعُمِائَةٍ وَثَلَاثُونَ و : ن خَمْسِينَ و : ك [ ص 406 ] ثَمَانُمِائَةٍ و : م أَرْبَعِينَ و : ل ثَلَاثِينَ فَهَذِهِ ثَمَانُمِائَةٍ وَسَبْعُونَ و : ي عَشْرَةٌ . و : ط تِسْعَةٌ و : أ وَاحِدٌ فَهَذِهِ ثَمَانُمِائَةٍ وَتِسْعُونَ و : ح ثَمَانِيَةٌ و : ه خَمْسَةٌ فَهَذِهِ تِسْعُمِائَةٍ وَثَلَاثَةٌ وَلَمْ يُسَمّ اللّهُ سُبْحَانَهُ فِي أَوَائِلِ السّوَرِ إلّا هَذِهِ الْحُرُوفَ فَلَيْسَ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَعْضِ مُقْتَضَيَاتِهَا وَبَعْضِ فَوَائِدِهَا الْإِشَارَةُ إلَى هَذَا الْعَدَدِ مِنْ السّنِينَ لِمَا قَدّمْنَاهُ فِي حَدِيثِ الْأَلْفِ السّابِعِ الّذِي بُعِثَ فِيهِ عَلَيْهِ السّلَامُ غَيْرَ أَنّ الْحِسَابَ مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ مِنْ مَبْعَثِهِ أَوْ مِنْ وَفَاتِهِ أَوْ مِنْ هِجْرَتِهِ وَكُلّ قَرِيبٌ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ، وَلَكِنْ [ ص 407 ] الْعَبّاسِيّ سَأَلَ جَعْفَرَ بْنَ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْقَاضِي ، وَهُوَ عَبّاسِيّ أَيْضًا : عَمّا بَقِيَ مِنْ الدّنْيَا ، فَحَدّثَهُ بِحَدِيثِ يَرْفَعُهُ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنّهُ قَالَ إنْ أَحْسَنَتْ أُمّتِي ، فَبَقَاؤُهَا يَوْمٌ مِنْ أَيّامِ الْآخِرَةِ وَذَلِكَ أَلْفُ سَنَةٍ وَإِنْ أَسَاءَتْ فَنِصْفُ يَوْمٍ فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ تَتْمِيمٌ لِلْحَدِيثِ الْمُتَقَدّمِ وَبَيَانٌ لَهُ إذْ قَدْ انْقَضَتْ الْخَمْسُمِائَةِ وَالْأُمّةُ بَاقِيَةٌ وَالْحَمْدُ لِلّهِ . [ ص 408 ]
مَعَانِي الْحُرُوفِ فِي أَوَائِلِ السّوَرِ
فَصْلٌ
وَلِهَذِهِ الْحُرُوفِ فِي أَوَائِلِ السّوَرِ مَعَانٍ جَمّةٌ وَفَوَائِدُ لَطِيفَةٌ وَمَا كَانَ اللّهُ تَعَالَى لِيُنَزّلَ فِي الْكِتَابِ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَلَا لِيُخَاطِبَ نَبِيّهُ وَذَوِي أَلْبَابٍ مِنْ صَحْبِهِ بِمَا لَا يَفْهَمُونَ وَقَدْ أَنْزَلَهُ بَيَانًا لِلنّاسِ وَشِفَاءً لِمَا فِي الصّدُورِ فَفِي تَخْصِيصِهِ هَذِهِ الْحُرُوفَ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَ بِالذّكْرِ دُونَ غَيْرِهَا حِكْمَةٌ بَلْ حِكَمٌ وَفِي إنْزَالِهَا مُقَطّعَةً عَلَى هَيْئَةِ التّهَجّي فَوَائِدُ عِلْمِيّةٌ وَفِقْهِيّةٌ وَفِي تَخْصِيصِهِ إيّاهَا بِأَوَائِلِ السّوَرِ وَفِي أَنْ كَانَتْ فِي بَعْضِ السّوَرِ دُونَ بَعْضٍ فَوَائِدُ أَيْضًا ، وَفِي اقْتِرَانِ الْأَلِفِ بِاللّامِ وَتَقَدّمِهَا عَلَيْهَا مَعَانٍ وَفَوَائِدُ وَفِي إرْدَافِ الْأَلِفِ وَاللّامِ بِالْمِيمِ تَارَةً وَبِالرّاءِ أُخْرَى ، ، وَلَا تُوجَدُ الْأَلِفُ وَاللّامُ فِي أَوَائِلِ السّوَرِ إلّا هَكَذَا مَعَ تَكَرّرِهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ مَرّةً فَوَائِدُ أَيْضًا ، وَفِي إنْزَالِ الْكَافِ قَبْلَ الْهَاءِ وَالْهَاءِ قَبْلَ الْيَاءِ ثُمّ الْعَيْنُ ثُمّ الصّادُ مِنْ { كهيعص } مَعَانٍ أَكْثَرُهَا تُنَبّهُ عَلَيْهَا آيَاتٌ مِنْ الْكِتَابِ وَتُبَيّنُ الْمُرَادَ بِهَا لِمَنْ تَدَبّرَهَا . [ ص 409 ] وَأَثَر وَعَرَبِيّةٍ وَنَظَرٍ يُخْرِجُنَا عَنْ مَقْصُودِ الْكِتَابِ وَيَنْأَى بِنَا عَنْ مَوْضُوعِهِ وَالْمُرَادِ بِهِ وَيَقْتَضِي إفْرَادَ جُزْءٍ أَشْرَحُ مَا أَمْكَنَ مِنْ ذَلِكَ وَلَعَلّهُ أَنْ يَكُونَ إنْ سَاعَدَ الْقَدَرُ وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ وَهُوَ وَلِيّ التّوْفِيقِ لَا شَرِيكَ لَهُ .

كُفْرُ الْيَهُودِ بِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدَ اسْتِفْتَاحِهِمْ بِهِ وَمَا نَزَلَ فِي ذَلِكَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبّاسٍ ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ : أَنّ يَهُودَ كَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ مَبْعَثِهِ فَلَمّا بَعَثَهُ اللّهُ مِنْ الْعَرَبِ كَفَرُوا بِهِ وَجَحَدُوا مَا كَانُوا يَقُولُونَ فِيهِ . فَقَالَ لَهُمْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، وَبِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ يَا مَعْشَرَ يَهُودَ اتّقُوا اللّهَ وَأَسْلِمُوا ، فَقَدْ كُنْتُمْ تَسْتَفْتِحُونَ عَلَيْنَا بِمُحَمّدِ وَنَحْنُ أَهْلُ شِرْكٍ وَتُخْبِرُونَنَا أَنّهُ مَبْعُوثٌ وَتَصِفُونَهُ لَنَا بِصِفَتِهِ فَقَالَ سَلَامُ بْنُ مِشْكَمٍ ، أَحَدُ بَنِي النّضِيرِ مَا جَاءَنَا بِشَيْءِ نَعْرِفُهُ وَمَا هُوَ بِاَلّذِي كُنّا نَذْكُرُهُ لَكُمْ فَأَنْزَلَ اللّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ { وَلَمّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ }

مَا نَزَلَ فِي نُكْرَانِ مَالِكِ بْنِ الصّيْفِ الْعَهْدَ إلَيْهِمْ بِالنّبِيّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ مَالِكُ بْنُ الصّيْفِ ، حِينَ بُعِثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَذَكَرَ لَهُمْ مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ لَهُ مِنْ الْمِيثَاقِ وَمَا عَهِدَ اللّهُ إلَيْهِمْ فِيهِ وَاَللّهِ مَا عُهِدَ إلَيْنَا فِي مُحَمّدٍ عَهْدٌ ، وَمَا أُخِذَ لَهُ عَلَيْنَا مِنْ مِيثَاقٍ . فَأَنْزَلَ اللّهُ فِيهِ { أَوَكُلّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ }
مَا نَزَلَ فِي قَوْلِ أَبِي صَلُوبَا " مَا جِئْتنَا بِشَيْءِ نَعْرِفُهُ "
[ ص 407 ] وَقَالَ أَبُو صَلُوبَا الْفِطْيَوْنِيّ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا مُحَمّدُ مَا جِئْتنَا بِشَيْءِ نَعْرِفُهُ ، وَمَا أَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْك مِنْ آيَةٍ فَنَتّبِعَك لَهَا . فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلّا الْفَاسِقُونَ }
مَا نَزَلَ فِي قَوْلِ ابْنِ حُرَيْمِلَةَ وَوَهْبٍ
وَقَالَ رَافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ ، وَوَهْبُ بْنُ زَيْدٍ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا مُحَمّدُ ائْتِنَا بِكِتَابِ تُنَزّلُهُ عَلَيْنَا مِنْ السّمَاءِ نَقْرَؤُهُ وَفَجّرْ لَنَا أَنْهَارًا نَتّبِعْك وَنُصَدّقْك . فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا : { أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلّ سَوَاءَ السّبِيلِ }
تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : سَوَاءُ السّبِيلِ وَسَطُ السّبِيلِ . قَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ :
يَا وَيْحَ أَنْصَارِ النّبِيّ وَرَهْطِهِ ... بَعْدَ الْمُغَيّبِ فِي سَوَاءِ الْمُلْحَدِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللّهِ تَعَالَى .
مَا نَزَلَ فِي صَدّ حُيَيّ وَأَخِيهِ النّاسَ عَنْ الْإِسْلَامِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ وَأَخُوهُ أَبُو يَاسِرٍ بْنُ أَخْطَبَ ، مِنْ أَشَدّ يَهُودَ لِلْعَرَبِ حَسَدًا ، إذْ خَصّهُمْ اللّهُ تَعَالَى بِرَسُولِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَا جَاهِدَيْنِ فِي رَدّ النّاسِ عَنْ الْإِسْلَامِ بِمَا اسْتَطَاعَا . فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِمَا : { وَدّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمُ الْحَقّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنّ اللّهَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ ص 408 ]

تَنَازُعُ الْيَهُودِ وَالنّصَارَى عِنْدَ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا قَدِمَ أَهْلُ نَجْرَانَ مِنْ النّصَارَى عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَتَتْهُمْ أَحْبَارُ يَهُودَ فَتَنَازَعُوا عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ رَافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ : مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْءٍ وَكَفَرَ بِعِيسَى وَبِالْإِنْجِيلِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ مِنْ النّصَارَى لِلْيَهُودِ مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْءٍ وَجَحَدَ نُبُوّةَ مُوسَى وَكَفَرَ بِالتّوْرَاةِ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ . وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النصارى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتْ النصارى لَسْت اليهود عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاَللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ، أَيْ كُلّ يَتْلُو فِي كِتَابِهِ تَصْدِيقَ مَا كَفَرَ بِهِ أَيْ يَكْفُرُ الْيَهُودُ بِعِيسَى ، وَعِنْدَهُمْ التّوْرَاةُ فِيهَا مَا أَخَذَ اللّهُ عَلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِ مُوسَى عَلَيْهِ السّلَامُ بِالتّصْدِيقِ بِعِيسَى عَلَيْهِ السّلَامُ وَفِي الْإِنْجِيلِ مَا جَاءَ بِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السّلَامُ مِنْ تَصْدِيقِ مُوسَى عَلَيْهِ السّلَامُ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ التّوْرَاةِ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَكُلّ يَكْفُرُ بِمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ .
مَا نَزَلَ فِي طَلَبِ ابْنِ حُرَيْمِلَةَ أَنْ يُكَلّمَهُ اللّهُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ رَافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا مُحَمّدُ إنْ كُنْت رَسُولًا مِنْ اللّهِ كَمَا تَقُولُ فَقُلْ لِلّهِ فَلْيُكَلّمْنَا حَتّى نَسْمَعَ كَلَامَهُ . فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ { وَقَالَ الّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيّنّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [ ص 409 ]
مَا نَزَلَ فِي سُؤَالِ ابْن صُورِيَا لِلنّبِيّ عَلَيْهِ الصّلَاةُ وَالسّلَامُ بِأَنْ يَتَهَوّدَ
وَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ صُورِيَا الْأَعْوَرُ الْفِطْيَوْنِيّ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا الْهُدَى إلّا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ ، فَاتّبِعْنَا يَا مُحَمّدُ تُهْدَ وَقَالَتْ النّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ . فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللّهِ بْن صُورِيَا وَمَا قَالَتْ النّصَارَى : { وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } ثُمّ الْقِصّةُ إلَى قَوْلِ اللّهِ تَعَالَى : { تِلْكَ أُمّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }

مَقَالَةُ الْيَهُودِ عِنْدَ صَرْفِ الْقِبْلَةِ إلَى الْكَعْبَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا صُرِفَتْ الْقِبْلَةُ عَنْ الشّامِ إلَى الْكَعْبَةِ ، وَصُرِفَتْ فِي رَجَبٍ عَلَى رَأْسِ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنْ مَقْدَمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ ؛ أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رِفَاعَةُ بْنُ قَيْسٍ ، وَقَرْدَمُ بْنُ عَمْرٍو ، وَكَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَرَافِعُ بْنُ أَبِي رَافِعٍ ، وَالْحَجّاجُ بْنُ عَمْرٍو ، حَلِيفُ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَالرّبِيعُ بْنُ الرّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ وَكِنَانَةُ بْنُ الرّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ فَقَالُوا : يَا مُحَمّدُ مَا وَلّاك عَنْ قِبْلَتِك الّتِي كُنْت عَلَيْهَا ، وَأَنْتَ تَزْعُمُ أَنّك عَلَى مِلّةِ إبْرَاهِيمَ وَدِينِهِ ؟ ارْجِعْ إلَى قِبْلَتِك الّتِي كُنْت عَلَيْهَا نَتّبِعْك وَنُصَدّقْك ، وَإِنّمَا يُرِيدُونَ [ ص 410 ] فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِمْ { سَيَقُولُ السّفَهَاءُ مِنَ النّاسِ مَا وَلّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتّبِعُ الرّسُولَ مِمّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلّا عَلَى الّذِينَ هَدَى اللّهُ } أَيْ مِنْ الْفِتَنِ أَيْ الّذِينَ ثَبّتَ اللّهُ { وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } أَيْ إيمَانَكُمْ بِالْقِبْلَةِ الْأُولَى ، وَتَصْدِيقِكُمْ نَبِيّكُمْ وَاتّبَاعِكُمْ إيّاهُ إلَى الْقِبْلَةِ الْآخِرَةِ وَطَاعَتِكُمْ نَبِيّكُمْ فِيهَا : أَيْ لَيُعْطِيَنّكُمْ أَجْرَهُمَا جَمِيعًا { إِنّ اللّهَ بِالنّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { قَدْ نَرَى تَقَلّبَ وَجْهِكَ فِي السّمَاءِ فَلَنُوَلّيَنّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ }
تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : شَطْرَهُ نَحْوَهُ وَقَصْدَهُ . قَالَ عَمْرُو بْنُ أَحْمَرَ الْبَاهِلِيّ - وَبَاهِلَةُ بْنُ يَعْصُرَ بْنِ سَعْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ - يَصِفُ نَاقَةً لَهُ .
تَعْدُو بِنَا شَطْرَ جَمْعٍ وَهِيَ عَاقِدَةٌ ... قَدْ كَارَبَ الْعِقْدَ مِنْ إيفَادِهَا الْحَقَبَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . [ ص 411 ] وَقَالَ قَيْسُ بْنُ خُوَيْلِدٍ الْهُذَلِيّ يَصِفُ نَاقَتَهُ
إنّ النّعُوسَ بِهَا دَاءٌ مُخَامِرُهَا ... فَشَطْرُهَا نَظَرَ الْعَيْنَيْنِ مَحْسُورُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَالنّعُوسُ نَاقَتُهُ وَكَانَ بِهَا دَاءٌ فَنَظَرَ إلَيْهَا نَظَرَ حَسِيرٍ مِنْ قَوْلِهِ وَهُوَ حَسِيرٌ . { وَإِنّ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنّهُ الْحَقّ مِنْ رَبّهِمْ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ وَلَئِنْ أَتَيْتَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنّكَ إِذًا لَمِنَ الظّالِمِينَ } قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { الْحَقّ مِنْ رَبّكَ فَلَا تَكُونَنّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }
Sذِكْرُ تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ تَحْوِيلَ الْقِبْلَةِ وَمَا قَالَتْهُ جَمَاعَةُ يَهُودَ حِينَ قَالُوا : يَا مُحَمّدُ مَا وَلّاك عَنْ قِبْلَتِك ، وَهُمْ السّفَهَاءُ مِنْ النّاسِ فِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ . وَقَالَ سَيَقُولُ بِلَفْظِ الِاسْتِقْبَالِ لِتَقَدّمِ الْعِلْمِ الْقَدِيمِ بِأَنّهُمْ سَيَقُولُونَ ذَلِكَ أَيْ لَمْ آمُرْكُمْ بِتَحْوِيلِهَا إلّا وَقَدْ عَلِمْت أَنْ سَيَقُولُونَ مَا [ ص 410 ] قَالُوهُ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي حَدِيثِ الْهِجْرَةِ قِصّةَ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ فَوَائِدُ فِي مَعْنَى تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ فَلْتُنْظَرْ هُنَالِكَ وَأَنْشَدَ فِي تَفْسِيرِ الشّطْرِ بَيْتَ ابْنِ أَحْمَرَ
تَعْدُو بِنَا شَطْرَ جَمْعٍ وَهِيَ عَاقِدَةٌ ... قَدْ قَارَبَ الْعِقْدَ مِنْ إيفَادِهَا الْحَقَبَا
وَأَلْفَيْت فِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ مَا هَذَا نَصّهُ قَالَ مِنْ إيفَادِهَا : مِنْ إشْرَافِهَا ، كَذَا قَالَ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَرْقِيّ ، وَقَالَ كَارَبَ مَوْضِعَ قَارَبَ وَوَقَعَ فِي شِعْرِ ابْنِ أَحْمَرَ تَغْدُو بِنَا عُرْضَ جَمْعٍ وَهِيَ مُوقِدَةٌ قَدْ قَارَبَ الْغَرْضُ مِنْ إيفَادِهَا الْحَقَبَا تَعْدُو : مِنْ الْعَدْوِ بِنَا وَبِرَحْلِي : يَعْنِي غُلَامَهُ . عُرْضَ جَمْعٍ : يَعْنِي مَكّةَ ، وَعَرْضُ أَحَبّ إلَيّ وَعُرْضُ كَثْرَةُ النّاسِ عَنْ الْأَصْمَعِيّ ، وَمُوفِدَةٌ أَيْ مُشْرِفَةٌ . أَوْفَدَ إذَا أَشْرَفَ وَرَوَى غَيْرُهُ وَهِيَ عَاقِدَةٌ يُرِيدُ عُنُقَهَا لَاوِيَتَهَا وَالْغَرْضُ الْبِطَانُ وَهُوَ حِزَامُ الرّحْلِ . مِنْ إيفَادِهَا ، أَيْ إشْرَافِهَا ، وَقَدْ اقْتَادَتْ نَصَبَتْ عُنُقَهَا وَعَصَرَتْ بِذَنَبِهَا وَتَخَامَصَتْ بِبَطْنِهَا فَقَرُبَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْ [ ص 411 ]
أَنْشَأْت أَسْأَلُهُ عَنْ حَالِ رُفْقَتِهِ ... فَقَالَ حَيّ فَإِنّ الرّكْبَ قَدْ نَصَبَا

كِتْمَانُهُمْ مَا فِي التّوْرَاةِ مِنْ الْحَقّ
وَسَأَلَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ وَسَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ وَخَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ أَخُو بَلْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ ، نَفَرًا مِنْ أَحْبَارِ يَهُودَ عَنْ بَعْضِ مَا فِي التّوْرَاةِ ، فَكَتَمُوهُمْ إيّاهُ وَأَبَوْا أَنْ يُخْبِرُوهُمْ عَنْهُ . فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِمْ { إِنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيّنّاهُ لِلنّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللّاعِنُونَ }
جَوَابُهُمْ لِلنّبِيّ عَلَيْهِ الصّلَاةُ وَالسّلَامُ حِينَ دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ
قَالَ وَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْيَهُودَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إلَى الْإِسْلَامِ وَرَغّبَهُمْ فِيهِ وَحَذّرَهُمْ عَذَابَ اللّهِ وَنِقْمَتَهُ فَقَالَ لَهُ رَافِعُ بْنُ خَارِجَةَ ، وَمَالِكُ بْنُ عَوْفٍ بَلْ نَتّبِعُ يَا مُحَمّدُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ، فَهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ وَخَيْرًا مِنّا . فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللّهُ قَالُوا بَلْ نَتّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ }

جَمْعُهُمْ فِي سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعِ
[ ص 412 ] وَلَمّا أَصَابَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ قُرَيْشًا يَوْمَ بَدْرٍ جَمَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَهُودَ فِي سُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعِ ، حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ ، فَقَالَ يَا مَعْشَرَ يَهُودَ أَسْلِمُوا قَبْلَ أَنْ يُصِيبَكُمْ اللّهُ بِمِثْلِ مَا أَصَابَ بِهِ قُرَيْشًا ، فَقَالُوا لَهُ يَا مُحَمّدُ لَا يَغُرّنّكَ مِنْ نَفْسِك أَنّك قَتَلْت نَفَرًا مِنْ قُرَيْشٍ ، كَانُوا أَغْمَارًا لَا يَعْرِفُونَ الْقِتَالَ إنّك وَاَللّهِ لَوْ قَاتَلْتنَا لَعَرَفْت أَنّا نَحْنُ النّاسُ وَأَنّك لَمْ تَلْقَ مِثْلَنَا ، فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ { قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ } [ آلُ عِمْرَانَ : 12 ، 13 ] .
Sمَا أَنْزَلَ اللّهُ فِي بَنِي قَيْنُقَاعِ
[ ص 412 ] وَذَكَرَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ فِي بَنِي قَيْنُقَاعِ وَقَوْلَهُمْ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَوْ حَارَبْتنَا ، لَعَلِمْت أَنّا نَحْنُ النّاسُ { قُلْ لِلّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ } إلَى قَوْلِهِ { يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ } فَمَنْ قَرَأَهُ يَرَوْنَهُمْ بِالْيَاءِ فَمَعْنَاهُ أَنّ الْكُفّارَ يَرَوْنَ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلَيْهِمْ وَإِنْ كَانُوا أَقَلّ مِنْهُمْ لَمّا كَثّرَهُمْ بِالْمَلَائِكَةِ . فَإِنْ قِيلَ وَكَيْفَ وَهُوَ يَقُولُ فِي آيَةٍ أُخْرَى : { وَيُقَلّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ } قِيلَ كَانَ هَذَا قَبْلَ الْقِتَالِ عِنْدَمَا حَزَرَ الْكُفّارُ الْمُؤْمِنِينَ فَرَأَوْهُمْ قَلِيلًا ، فَتَجَاسَرُوا عَلَيْهِمْ ثُمّ أَمَدّهُمْ اللّهُ بِالْمَلَائِكَةِ فَرَأَوْهُمْ كَثِيرًا فَانْهَزَمُوا ، وَقِيلَ إنّ الْهَاءَ فِي يَرَوْنَهُمْ عَائِدَةٌ عَلَى الْكُفّارِ وَإِنّ الْمُؤْمِنِينَ رَأَوْهُمْ مِثْلَيْهِمْ وَكَانُوا ثَلَاثَةَ أَمْثَالِهِمْ فَقَلّلَهُمْ فِي عُيُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَمّا مَنْ قَرَأَهَا بِالتّاءِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلْيَهُودِ أَيْ تَرَوْنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ مِثْلَيْ الْمُؤْمِنِينَ وَذَلِكَ أَنّهُمْ كَانُوا أَلْفًا ، فَانْخَذَلَ عَنْهُمْ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ بِبَنِي زُهْرَةَ فَصَارُوا سَبْعَمِائَةٍ أَوْ نَحْوَهَا ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ أَيْ تَرَوْنَ أَيّهَا الْمُشْرِكُونَ الْمُؤْمِنِينَ مِثْلَيْهِمْ حِينَ [ ص 413 ] أَمَدّهُمْ اللّهُ بِالْمَلَائِكَةِ فَيَعُودُ الْكَلَامُ إلَى الْمَعْنَى الْأَوّلِ الّذِي قَدّمْنَاهُ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِالْيَاءِ . وَفِي الْآيَةِ تَخْلِيطٌ عَنْ الْفَرّاءِ أَضَرَبْنَا عَنْ ذِكْرِهِ وَجُلّ مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا مَذْكُورٌ فِي التّفَاسِيرِ بِأَلْفَاظِ مُخْتَلِفَةٍ .

دُخُولُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْتَ الْمِدْرَاسِ
قَالَ وَدَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْتَ الْمِدْرَاسِ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ يَهُودَ فَدَعَاهُمْ إلَى اللّهِ فَقَالَ لَهُ النّعْمَانُ بْنُ عَمْرٍو ، وَالْحَارِثُ بْنُ زَيْدٍ عَلَى أَيّ دِينٍ أَنْتَ يَا مُحَمّدُ ؟ قَالَ عَلَى مِلّةِ إبْرَاهِيمَ وَدِينِهِ قَالَا : فَإِنّ إبْرَاهِيمَ كَانَ يَهُودِيّا . فَقَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَهَلُمّ إلَى التّوْرَاةِ ، فَهِيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ فَأَبَيَا عَلَيْهِ . فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِمَا : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسّنَا النّارُ إِلّا أَيّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ }

اخْتِلَافُ الْيَهُودِ وَالنّصَارَى فِي إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ
وَقَالَ أَحْبَارُ يَهُودَ وَنَصَارَى نَجْرَانَ ، حِينَ اجْتَمَعُوا عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَتَنَازَعُوا ، فَقَالَتْ الْأَحْبَارُ مَا كَانَ إبْرَاهِيمُ إلّا يَهُودِيّا ، وَقَالَتْ النّصَارَى مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ : مَا كَانَ إبْرَاهِيمُ إلّا نَصْرَانِيّا . فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِيهِمْ { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التوراة وَالْإِنْجِيلُ إِلّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّا وَلَا نَصْرَانِيّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنّ أَوْلَى النّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلّذِينَ اتّبَعُوهُ وَهَذَا النّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا وَاللّهُ وَلِيّ الْمُؤْمِنِينَ }
مَا نَزَلَ فِيمَا هَمّ بِهِ بَعْضُهُمْ مِنْ الْإِيمَانِ غَدْوَةً وَالْكُفْرِ عَشِيّةً
وَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ صَيْفٍ ، وَعَدِيّ بْنُ زَيْدٍ ، وَالْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ ، بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ تَعَالَوْا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمّدٍ وَأَصْحَابِهِ غَدْوَةً وَنَكْفُرُ بِهِ عَشِيّةً حَتّى نُلَبّسَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ لَعَلّهُمْ يَصْنَعُونَ كَمَا نَصْنَعُ وَيَرْجِعُونَ عَنْ دِينِهِ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِمْ { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالّذِي أُنْزِلَ عَلَى الّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنّ الْهُدَى هُدَى اللّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجّوكُمْ عِنْدَ رَبّكُمْ قُلْ إِنّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }

مَا نَزَلَ فِي قَوْلِ أَبِي رَافِعٍ وَالنّجْرَانِيّ " أَتُرِيدُ أَنْ نَعْبُدَك كَمَا تَعْبُدُ النّصَارَى عِيسَى
وَقَالَ أَبُو رَافِعٍ الْقُرَظِيّ ، حِينَ اجْتَمَعَتْ الْأَحْبَارُ مِنْ يَهُودَ وَالنّصَارَى مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَدَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ أَتُرِيدُ مِنّا يَا مُحَمّدُ أَنْ نَعْبُدَك كَمَا تَعْبُدُ النّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ؟ وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ نَصْرَانِيّ ، يُقَالُ لَهُ الرّبّيسُ ( وَيُرْوَى : الرّيْس ، وَالرّئِيسُ ) : أَوَذَاكَ تُرِيدُ مِنّا يَا مُحَمّدُ وَإِلَيْهِ تَدْعُونَا ؟ أَوْ كَمَا قَالَ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَاذَ اللّهِ أَنْ أَعْبُدَ غَيْرَ اللّهِ أَوْ آمُرَ بِعِبَادَةِ غَيْرِهِ فَمَا بِذَلِكَ بَعَثَنِي اللّهُ وَلَا أَمَرَنِي أَوْ كَمَا قَالَ . فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنّبُوّةَ ثُمّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبّانِيّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } [ ص 414 ] { بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الرّبّانِيّونَ الْعُلَمَاءُ الْفُقَهَاءُ السّادَةُ وَاحِدُهُمْ رَبّانِيّ . قَالَ الشّاعِرُ
لَوْ كُنْت مُرْتَهَنًا فِي الْقَوْسِ أَفْتَنَنِي ... مِنْهَا الْكَلَامُ وَرَبّانِيّ أَحْبَارِ
تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْقَوْسُ صَوْمَعَةُ الرّاهِبِ . وَأَفْتَنَنِي ، لُغَةُ تَمِيمٍ . وَفَتَنَنِي ، لُغَةُ قَيْسٍ . قَالَ جَرِيرٌ
لَا وَصْلَ إذْ صَرَمَتْ هِنْدٌ وَلَوْ وَقَفَتْ ... لَاسْتَنْزَلَتْنِي وَذَا الْمِسْحَيْنِ فِي الْقُوسِ
أَيْ صَوْمَعَةُ الرّاهِبِ . وَالرّبّانِيّ : مُشْتَقّ مِنْ الرّبّ وَهُوَ السّيّدُ . وَفِي كِتَابِ اللّهِ فَيَسْقِي رَبّهُ خَمْرًا ، أَيّ سَيّدَهُ . [ ص 415 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : { وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنّبِيّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }
S[ ص 414 ] وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ فِي الرّبّانِيّينَ أَنّهُمْ الْعُلَمَاءُ الْفُقَهَاءُ السّادَةُ وَفِي الْبُخَارِيّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ الرّبّانِيّونَ الّذِينَ يُرَبّونَ النّاسَ بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ وَقِيلَ نُسِبُوا إلَى عِلْمِ الرّبّ وَالْفِقْهِ فِيمَا أَنْزَلَ وَزِيدَتْ فِيهِ الْأَلِفُ وَالنّونُ لِتَفْخِيمِ الِاسْمِ وَأَنْشَدَ ابْنُ هِشَامٍ :
لَوْ كُنْت مُرْتَهَنًا فِي الْقَوْسِ أَفْتَنَنِي ... مِنْهَا الْكَلَامُ وَرَبّانِيّ أَحْبَارِ
وَقَالَ الْقَوْسُ الصّوْمَعَةُ وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ : أَنَا بِالْقَوْسِ وَأَنْتَ بِالْقَرْقُوسِ فَكَيْفَ نَجْتَمِعُ ؟ وَقَالَ فِي أَفَتْنَنِي : هِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ وَفَرّقَ سِيبَوَيْهِ بَيْنَ فَتَنْته وَأَفْتَنْتُهُ وَجَعَلَهُ مِنْ قَوْلِ الْخَلِيلِ قَالَ أَفْتَنْتُهُ صَيّرْته مُفْتَتِنًا أَوْ نَحْوَ هَذَا ، وَفَتَنْته ، جَعَلْت فِيهِ فِتْنَةً كَمَا تَقُولُ كَحّلْته جَعَلْت فِي عَيْنَيْهِ كُحْلًا ، وَمَآلُ هَذَا الْفَرْقِ إلَى أَنّ فِتْنَتَهُ صَرَفَتْهُ فَجَاءَ عَلَى وَزْنِهِ لِأَنّ الْمَفْتُونَ مَصْرُوفٌ عَنْ حَقّ وَأَفْتَنْتُهُ بِمَعْنَى أَضْلَلْته وَأَغْوَيْته ، فَجَاءَ عَلَى وَزْنِ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ وَأَمّا فَتَنْت الْحَدِيدَةَ فِي النّارِ فَعَلَى وَزْنِ فَعَلْت ، لَا غَيْرَ لِأَنّهَا فِي مَعْنَى : خَبِرْتهَا ، وَبَلَوْتهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ . [ ص 415 ]

مَا نَزَلَ فِي أَخْذِ الْمِيثَاقِ عَلَيْهِمْ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ ذَكَرَ مَا أَخَذَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَى أَنْبِيَائِهِمْ مِنْ الْمِيثَاقِ بِتَصْدِيقِهِ إذْ هُوَ جَاءَهُمْ وَإِقْرَارِهِمْ فَقَالَ { وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ } إلَى آخِرِ الْقِصّةِ .

سَعْيُهُمْ فِي الْوَقِيعَةِ بَيْنَ الْأَنْصَارِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمَرّ شَأْسُ بْنُ قَيْسٍ ، وَكَانَ شَيْخًا قَدْ عَسَا ، عَظِيمَ الْكُفْرِ شَدِيدَ الضّغْنِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ شَدِيدَ الْحَسَدِ لَهُمْ عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ . فِي مَجْلِسٍ قَدْ جَمَعَهُمْ يَتَحَدّثُونَ فِيهِ فَغَاظَهُ مَا رَأَى مِنْ أُلْفَتِهِمْ وَجَمَاعَتِهِمْ وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ الّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْعَدَاوَةِ فِي الْجَاهِلِيّةِ فَقَالَ قَدْ اجْتَمَعَ مَلَأُ بَنِي قَيْلَةَ بِهَذِهِ الْبِلَادِ لَا وَاَللّهِ مَا لَنَا مَعَهُمْ إذَا اجْتَمَعَ مَلَؤُهُمْ بِهَا مِنْ قَرَارٍ . فَأَمَرَ فَتًى شَابّا مِنْ يَهُودَ كَانَ مَعَهُمْ فَقَالَ اعْمِدْ إلَيْهِمْ فَاجْلِسْ مَعَهُمْ ، ثُمّ اُذْكُرْ يَوْمَ بُعَاثٍ وَمَا كَانَ قَبْلَهُ وَأَنْشِدْهُمْ بَعْضَ مَا كَانُوا تَقَاوَلُوا فِيهِ مِنْ الْأَشْعَارِ .
شَيْءٌ عَنْ يَوْمِ بُعَاثٍ
وَكَانَ يَوْمُ بُعَاثٍ يَوْمًا اقْتَتَلَتْ فِيهِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ ، وَكَانَ الظّفَرُ فِيهِ يَوْمَئِذٍ لِلْأَوْسِ عَنْ الْخَزْرَجِ ، وَكَانَ عَلَى الْأَوْسِ يَوْمَئِذٍ حُضَيْرُ بْنُ سِمَاكٍ الْأَشْهَلِيّ أَبُو أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ ؛ وَعَلَى الْخَزْرَجِ عَمْرُو بْنُ النّعْمَانِ الْبَيَاضِيّ ، فَقُتِلَا جَمِيعًا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَالَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ
عَلَى أَنْ قَدْ فُجِعْت بِذِي حِفَاظٍ ... فَعَاوَدَنِي لَهُ حُزْنٌ رَصِينٌ
فَإِمّا تَقْتُلُوهُ فَإِنّ عَمْرًا ... أَعَضّ بِرَأْسِهِ عَضْبٌ سَنِينٌ
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَحَدِيثُ يَوْمِ بُعَاثٍ أَطْوَلُ مِمّا ذَكَرْت ، وَإِنّمَا مَنَعَنِي مِنْ اسْتِقْصَائِهِ مَا ذَكَرْت مِنْ الْقَطْعِ . [ ص 416 ]
تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : سَنِينٌ مَسْنُونٌ مِنْ سَنّهُ إذَا شَحَذَهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَفَعَلَ . فَتَكَلّمَ الْقَوْمُ عِنْدَ ذَلِكَ وَتَنَازَعُوا وَتَفَاخَرُوا حَتّى تَوَاثَبَ رَجُلَانِ مِنْ الْحَيّيْنِ عَلَى الرّكْبِ أَوْسُ بْنُ قَيْظِيّ أَحَدُ بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ مِنْ الْأَوْسِ ، وَجَبّارُ بْنُ صَخْرٍ ، أَحَدُ بَنِي سَلِمَةَ مِنْ الْخَزْرَجِ ، فَتَقَاوَلَا ثُمّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ إنْ شِئْتُمْ رَدَدْنَاهَا الْآنَ جَذَعَةً فَغَضِبَ الْفَرِيقَانِ جَمِيعًا ، وَقَالُوا : قَدْ فَعَلْنَا ، مَوْعِدُكُمْ الظّاهِرَةَ - وَالظّاهِرَةُ الْحَرّةُ - السّلَاحَ السّلَاحَ . فَخَرَجُوا إلَيْهَا ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ الْمُهَاجِرِينَ حَتّى جَاءَهُمْ فَقَالَ " يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ اللّهَ اللّهَ أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ بَعْدَ أَنْ هَدَاكُمْ اللّهُ لِلْإِسْلَامِ وَأَكْرَمَكُمْ بِهِ وَقَطَعَ بِهِ عَنْكُمْ أَمْرَ الْجَاهِلِيّةِ وَاسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِنْ الْكُفْرِ وَأَلّفَ بِهِ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ " ، فَعَرَفَ الْقَوْمُ أَنّهَا نَزْغَةٌ مِنْ الشّيْطَانِ وَكَيْدٌ مِنْ عَدُوّهِمْ فَبَكَوْا وَعَانَقَ الرّجَالُ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، ثُمّ انْصَرَفُوا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ قَدْ أَطْفَأَ اللّهُ عَنْهُمْ كَيْدَ عَدُوّ اللّهِ شَأْسِ بْنِ قَيْسٍ . فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي شَأْسِ بْنِ قَيْسٍ وَمَا صَنَعَ { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَاللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدّونَ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ } وَأَنْزَلَ اللّهُ فِي أَوْسِ بْنِ قَيْظِيّ وَجَبّارِ بْنِ صَخْرٍ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمَا مِنْ قَوْمِهِمَا الّذِينَ صَنَعُوا مَا صَنَعُوا عَمّا أَدْخَلَ عَلَيْهِمْ شَأْسُ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيّةِ { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنّ إِلّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى { وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ ص 416 ]

مَا نَزَلَ فِي قَوْلِهِمْ " مَا آمَنَ إلّا شِرَارُنَا
" : قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا أَسْلَمَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ سَلَامٍ وَثَعْلَبَةُ بْنُ سَعْيَةَ ، وَأُسَيْدُ بْنُ سَعْيَةَ ، وَأَسَدُ بْنُ عُبَيْدٍ ، وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودَ مَعَهُمْ فَآمَنُوا وَصَدّقُوا وَرَغِبُوا فِي الْإِسْلَامِ وَرَسَخُوا [ ص 417 ] قَالَتْ أَحْبَارُ يَهُودَ أَهْلُ الْكُفْرِ مِنْهُمْ مَا آمَنَ بِمُحَمّدِ وَلَا اتّبَعَهُ إلّا شِرَارُنَا ، وَلَوْ كَانُوا مِنْ أَخْيَارِنَا مَا تَرَكُوا دِينَ آبَائِهِمْ وَذَهَبُوا إلَى غَيْرِهِ . فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ { لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاءَ اللّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } .
تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : { آنَاءَ اللّيْلِ } سَاعَاتُ اللّيْلِ وَوَاحِدُهَا : إنْيٌ . قَالَ الْمُتَنَخّلُ الْهُذَلِيّ وَاسْمُهُ مَالِكُ بْنُ عُوَيْمِرٍ يَرْثِي أَثِيلَةَ ابْنَهُ
حُلْوٌ وَمُرّ كَعَطْفِ الْقِدْحِ شِيمَتُهُ ... فِي كُلّ إنْيٍ قَضَاهُ اللّيْلُ يَنْتَعِلُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَقَالَ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ يَصِفُ حِمَارَ وَحْشٍ
يُطَرّبُ آنَاءَ النّهَارِ كَأَنّهُ ... غَوِيّ سَقَاهُ فِي التّجَارِ نَدِيمُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ وَيُقَالُ إنّي مَقْصُورٌ فِيمَا أَخْبَرَنِي يُونُسُ . { يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصّالِحِينَ } .
Sتَفْسِيرُ آنَاءِ اللّيْلِ
فَصْلٌ [ ص 417 ] وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ فِي تَفْسِيرِ آنَاءِ اللّيْلِ قَالَ وَاحِدُ الْآنَاءِ إنْيٌ وَاسْتَشْهَدَ عَلَيْهِ بِقَوْلِ الْهُذَلِيّ ثُمّ أَغْرَبَ بِمَا حَدّثَهُ بِهِ يُونُسُ فَقَالَ وَيُقَالُ إنّي فِيمَا حَدّثَنِي يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ وَهَذَا الّذِي قَالَهُ آخِرًا هُوَ لُغَةُ الْقُرْآنِ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } [ ص 418 ]
ذِكْرُ جُمَلٍ مِنْ الْآيَاتِ الْمُنَزّلَةِ فِي قَصَصِ الْأَحْبَارِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ جُمَلًا مِنْ الْآيَاتِ الْمُنَزّلَةِ فِي قَصَصِ الْأَحْبَارِ وَمَسَائِلُهُمْ كُلّهَا وَاضِحَةٌ وَالتّكَلّمُ عَلَيْهَا يَخْرُجُ عَنْ غَرَضِ الْكِتَابِ إلَى تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَفِي جُمْلَتِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَيّانَ مُرْسَاهَا } وَقَالَ الْفَرّاءُ فِي أَيّانَ هِيَ كَلِمَتَانِ جُعِلَتْ وَاحِدَةً وَالْأَصْلُ أَيْ آنَ وَالْآنُ وَالْأَوَانُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَمَا يُقَالُ رَاحٌ وَرَيَاحٌ وَأَنْشَدَ نَشَاوَى تَسَافَوْا بِالرّيَاحِ الْمُفَلْفَلِ وَقَدْ ذَكَرَ الْهَرَوِيّ فِي أَيّانَ وَجْهًا آخَرَ قَالَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ أَيْوَانَ فَانْدَغَمَتْ الْيَاءُ فِي الْوَاوِ مِثْلَ قِيَامٍ .

مَا نَزَلَ فِي نَهْيِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مُبَاطَنَةِ الْيَهُودِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُوَاصِلُونَ رِجَالًا مِنْ الْيَهُودِ ، لِمَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْجِوَارِ وَالْحِلْفِ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِمْ يَنْهَاهُمْ عَنْ مُبَاطَنَتِهِمْ { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تَتّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدّوا مَا عَنِتّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيّنّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبّونَهُمْ وَلَا يُحِبّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلّهِ } أَيْ تُؤْمِنُونَ بِكِتَابِكُمْ وَبِمَا مَضَى مِنْ الْكُتُبِ قَبْلَ ذَلِكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِكِتَابِكُمْ فَأَنْتُمْ كُنْتُمْ أَحَقّ بِالْبَغْضَاءِ لَهُمْ مِنْهُمْ لَكُم { وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنّا وَإِذَا خَلَوْا عَضّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ } إلَى آخِرِ الْقِصّة .

مَا كَانَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَفِنْحَاصَ
وَدَخَلَ [ ص 418 ] أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ بَيْتَ الْمِدْرَاسِ عَلَى يَهُودَ فَوَجَدَ مِنْهُمْ نَاسًا كَثِيرًا قَدْ اجْتَمَعُوا إلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ فِنْحَاصُ ، وَكَانَ مِنْ عُلَمَائِهِمْ وَأَحْبَارِهِمْ وَمَعَهُ حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِهِمْ يُقَالُ لَهُ أَشْيَعُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِفِنْحَاصَ وَيْحَك يَا فِنْحَاصُ اتّقِ اللّهَ وَأَسْلِمْ ، فَوَاَللّهِ إنّك لَتَعْلَمُ أَنّ مُحَمّدًا لَرَسُولُ اللّهِ قَدْ جَاءَكُمْ بِالْحَقّ مِنْ عِنْدِهِ تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فِي التّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ، فَقَالَ فِنْحَاصُ لِأَبِي بَكْرٍ وَاَللّهِ يَا أَبَا بَكْرٍ مَا بِنَا إلَى اللّهِ مِنْ فَقْرٍ لِأَنّهُ إلَيْنَا لَفَقِيرٌ وَمَا نَتَضَرّعُ إلَيْهِ كَمَا يَتَضَرّعُ إلَيْنَا ، وَإِنّا عَنْهُ لَأَغْنِيَاءُ وَمَا هُوَ عَنّا بِغَنِيّ وَلَوْ كَانَ عَنّا غَنِيّا مَا اسْتَقْرَضَنَا أَمْوَالَنَا ، كَمَا يَزْعُمُ صَاحِبُكُمْ يَنْهَاكُمْ عَنْ الرّبَا وَيُعْطِينَاهُ وَلَوْ كَانَ عَنّا غَنِيّا مَا أَعْطَانَا الرّبَا . قَالَ فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ فَضَرَبَ وَجْهَ فِنْحَاصَ ضَرْبًا شَدِيدًا ، وَقَالَ وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا الْعَهْدُ الّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ لَضَرَبْت رَأْسَك ، أَيْ عَدُوّ اللّهِ . قَالَ فَذَهَبَ فِنْحَاصُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا مُحَمّدُ اُنْظُرْ مَا صَنَعَ بِي صَاحِبُك ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأَبِي بَكْرٍ مَا حَمَلَك عَلَى مَا صَنَعْت ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ عَدُوّ اللّهِ قَالَ قَوْلًا عَظِيمًا ، إنّهُ زَعَمَ أَنّ اللّهَ فَقِيرٌ وَأَنّهُمْ أَغْنِيَاءُ فَلَمّا قَالَ ذَلِكَ غَضِبْت لِلّهِ مِمّا قَالَ وَضَرَبْت وَجْهَهُ . فَجَحَدَ ذَلِكَ فِنْحَاصُ وَقَالَ مَا قُلْت ذَلِكَ . فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيمَا قَالَ فِنْحَاصُ رَدّا عَلَيْهِ وَتَصْدِيقًا لِأَبِي بَكْرٍ { لَقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الّذِينَ قَالُوا إِنّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ } وَنَزَلَ فِي أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَمَا بَلَغَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْغَضَبِ { وَلَتَسْمَعُنّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتّقُوا فَإِنّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } . [ ص 419 ] قَالَ فِيمَا قَالَ فِنْحَاصُ وَالْأَحْبَارُ مَعَهُ مِنْ يَهُودَ { وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيّنُنّهُ لِلنّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ لَا تَحْسَبَنّ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } يَعْنِي فِنْحَاصَ وَأَشْيَعَ وَأَشْبَاهَهُمَا مِنْ الْأَحْبَارِ الّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا يُصِيبُونَ مِنْ الدّنْيَا عَلَى مَا زَيّنُوا لِلنّاسِ مِنْ الضّلَالَةِ وَيُحِبّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا ، أَنْ يَقُولَ النّاسُ عُلَمَاءُ وَلَيْسُوا بِأَهْلِ عِلْمٍ لَمْ يَحْمِلُوهُمْ عَلَى هُدًى وَلَا حَقّ وَيُحِبّونَ أَنْ يَقُولَ النّاسُ قَدْ فَعَلُوا . [ ص 419 ]

أَمْرَهُمْ الْمُؤْمِنِينَ بِالْبُخْلِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ كَرْدَمُ بْنُ قَيْسٍ ، حَلِيفَ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَأُسَامَةُ بْنُ حَبِيبٍ ، وَنَافِعُ بْنُ أَبِي نَافِعٍ ، وَبَحْرِيّ بْنُ عَمْرٍو ، وَحُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ ، وَرِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ التّابُوتِ يَأْتُونَ رِجَالًا مِنْ الْأَنْصَارِ كَانُوا يُخَالِطُونَهُمْ يَنْتَصِحُونَ لَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَيَقُولُونَ لَهُمْ لَا تُنْفِقُوا أَمْوَالَكُمْ فَإِنّا نَخْشَى عَلَيْكُمْ الْفَقْرَ فِي ذَهَابِهَا ، وَلَا تُسَارِعُوا فِي النّفَقَةِ فَإِنّكُمْ لَا تَدْرُونَ عَلَامَ يَكُونُ . فَأَنْزَلَ اللّهُ فِيهِمْ { الّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ } أَيْ مِنْ التّوْرَاةِ ، الّتِي فِيهَا تَصْدِيقُ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمّدٌ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا وَالّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } إلَى قَوْلِهِ { وَكَانَ اللّهُ بِهِمْ عَلِيمًا } .

جَحْدُهُمْ الْحَقّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ التّابُوتِ مِنْ عُظَمَاءِ يَهُودَ إذَا كَلّمَ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَوّى لِسَانَهُ وَقَالَ أَرْعِنَا سَمْعَك يَا مُحَمّدُ حَتّى نَفْهَمَك ، ثُمّ طَعَنَ فِي الْإِسْلَامِ وَعَابَهُ . فَأَنْزَلَ اللّهُ فِيهِ { أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلّوا السّبِيلَ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيّا وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيرًا مِنَ الّذِينَ هَادُوا يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا } ( أَيْ رَاعِنَا سَمْعَك ) { لَيّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدّينِ وَلَوْ أَنّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلّا قَلِيلًا } وَكَلّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رُؤَسَاءَ مِنْ أَحْبَارِ يَهُودَ مِنْهُمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ صُورِيَا الْأَعْوَرُ وَكَعْبُ بْنُ أَسَدٍ ، فَقَالَ لَهُمْ [ ص 420 ] يَا مَعْشَرَ يَهُودَ اتّقُوا اللّهَ وَأَسْلِمُوا ، فَوَاَللّهِ إنّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنّ الّذِي جِئْتُكُمْ بِهِ لَحَقّ ، قَالُوا : مَا تَعْرِفُ ذَلِكَ يَا مُحَمّدُ فَجَحَدُوا مَا عَرَفُوا ، وَأَصَرّوا عَلَى الْكُفْرِ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِمْ { يَا أَيّهَا الّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزّلْنَا مُصَدّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنّا أَصْحَابَ السّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ مَفْعُولًا } .
تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : نَطْمِسُ نَمْسَحُهَا فَنُسَوّيهَا ، فَلَا يُرَى فِيهَا عَيْنٌ وَلَا أَنْفٌ وَلَا فَمٌ وَلَا شَيْءٌ مِمّا يُرَى فِي الْوَجْهِ وَكَذَلِكَ { فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ } الْمَطْمُوسُ الْعَيْنِ الّذِي لَيْسَ بَيْنَ جَفْنَيْهِ شَقّ . وَيُقَالُ طَمَسْت الْكِتَابَ وَالْأَثَرَ فَلَا يُرَى مِنْهُ شَيْءٌ . قَالَ الْأَخْطَلُ وَاسْمُهُ الْغَوْثُ بْنُ هُبَيْرَةَ بْنِ الصّلْتِ التّغْلِبِيّ يَصِفُ إبِلًا كَلّفَهَا مَا ذُكِرَ
وَتَكْلِيفُنَاهَا كُلّ طَامِسَةِ الصّوَى
شَطُونٍ تَرَى حِرْبَاءَهَا يَتَمَلْمَلُ
وَتَكْلِيفُنَاهَا كُلّ طَامِسَةِ الصّوَى شَطُونٍ تَرَى حِرْبَاءَهَا يَتَمَلْمَلُ وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاحِدَةُ الصّوَى : صُوّةٌ . وَالصّوَى : الْأَعْلَامُ الّتِي يُسْتَدَلّ بِهَا عَلَى الطّرُقِ وَالْمِيَاهِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : يَقُولُ مَسَحْت فَاسْتَوَتْ بِالْأَرْضِ فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ نَاتِئُ .

النّفَرُ الّذِينَ حَزّبُوا الْأَحْزَابَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ الّذِينَ حَزّبُوا الْأَحْزَابَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَطَفَانَ وَبَنِيّ قُرَيْظَةَ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ ، وَسَلَامُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ أَبُو رَافِعٍ وَالرّبِيعُ بْنُ الرّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ وَأَبُو عَمّارٍ وَوَحْوَحُ بْنُ عَامِرٍ وَهَوْذَةُ بْنُ قَيْسٍ . فَأَمّا وَحْوَحُ وَأَبُو عَمّارٍ وَهَوْذَةُ فَمِنْ بَنِي وَائِلٍ وَكَانَ سَائِرهمْ مِنْ بَنِي النّضِيرِ . فَلَمّا قَدِمُوا عَلَى قُرَيْشٍ قَالُوا : هَؤُلَاءِ أَحْبَارُ يَهُودَ وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالْكِتَابِ الْأَوّلِ فَسَلُوهُمْ دِينُكُمْ خَيْرٌ أَمْ دِينُ مُحَمّدٍ ؟ فَسَأَلُوهُمْ فَقَالُوا : بَلْ دِينُكُمْ خَيْرٌ مِنْ دِينِهِ وَأَنْتُمْ أَهْدَى مِنْهُ وَمِمّنْ اتّبَعَهُ . فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِمْ { أَلَمْ تَرَ إِلَى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطّاغُوتِ }
تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْجِبْتُ ( عِنْدَ الْعَرَبِ ) : مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى . [ ص 421 ] أَضَلّ عَنْ الْحَقّ . وَجَمْعُ الْجِبْتِ جُبُوتٌ وَجَمْعُ الطّاغُوتِ طَوَاغِيتُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَبَلَغَنَا عَنْ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ أَنّهُ قَالَ الْجِبْتُ السّحْرُ وَالطّاغُوتُ الشّيْطَانُ { وَيَقُولُونَ لِلّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا } قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { أَمْ يَحْسُدُونَ النّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا }

إنْكَارُهُمْ التّنْزِيلَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ سُكَيْنٌ وَعَدِيّ بْنُ زَيْدٍ : يَا مُحَمّدُ مَا نَعْلَمُ أَنّ اللّهَ أَنْزَلَ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ بَعْدَ مُوسَى . فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا : { إِنّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنّبِيّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا رُسُلًا مُبَشّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللّهِ حُجّةٌ بَعْدَ الرّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } وَدَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ فَقَالَ لَهُمْ أَمَا وَاَللّهِ إنّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنّي رَسُولٌ مِنْ اللّهِ إلَيْكُمْ قَالُوا : مَا نَعْلَمُهُ وَمَا نَشْهَدُ عَلَيْهِ . فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ { لَكِنِ اللّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا }

اجْتِمَاعُهُمْ عَلَى طَرْحِ الصّخْرَةِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى بَنِي النّضِيرِ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةِ الْعَامِرِيّيْنِ اللّذَيْنِ قَتَلَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ . فَلَمّا خَلَا بَعْضُهُمْ بِبَعْضِ قَالُوا : لَنْ تَجِدُوا مُحَمّدًا أَقْرَبَ مِنْهُ الْآنَ فَمَنْ رَجُلٌ يَظْهَرُ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ فَيَطْرَحَ عَلَيْهِ صَخْرَةً فَيُرِيحَنَا مِنْهُ ؟ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ جَحّاشِ بْنِ كَعْبٍ : أَنَا ، فَأَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْخَبَرُ ، فَانْصَرَفَ عَنْهُمْ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِ [ ص 422 ] أَرَادَ هُوَ وَقَوْمُهُ { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتّقُوا اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكّلِ الْمُؤْمِنُونَ }

ادّعَاؤُهُمْ أَنّهُمْ أَحِبَاءُ اللّهِ
وَأَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نُعْمَانُ بْنُ أَضَاءَ وَبَحْرِيّ بْنُ عَمْرٍو ، وَشَأْسُ بْنُ عَدِيّ ، فَكَلّمُوهُ وَكَلّمَهُمْ رَسُولُ اللّهِ وَدَعَاهُمْ إلَى اللّهِ وَحَذّرَهُمْ نِقْمَتَهُ فَقَالُوا : مَا تُخَوّفُنَا يَا مُحَمّدُ ، نَحْنُ وَاَللّهِ أَبْنَاءُ اللّهِ وَأَحِبّاؤُهُ كَقَوْلِ النّصَارَى فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِمْ { وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللّهِ وَأَحِبّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلّهِ مُلْكُ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ }

إنْكَارُهُمْ نُزُولَ كِتَابٍ بَعْدَ مُوسَى عَلَيْهِ السّلَامُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَهُودَ إلَى الْإِسْلَامِ وَرَغّبَهُمْ فِيهِ وَحَذّرَهُمْ غِيَرَ اللّهِ وَعُقُوبَتَهُ فَأَبَوْا عَلَيْهِ وَكَفَرُوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ فَقَالَ لَهُمْ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَعُقْبَةُ بْنُ وَهْبٍ : يَا مَعْشَرَ يَهُودَ اتّقُوا اللّهَ ، فَوَاَللّهِ إنّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَذْكُرُونَهُ لَنَا قَبْلَ مَبْعَثِهِ وَتَصِفُونَهُ لَنَا بِصِفَتِهِ فَقَالَ رَافِعُ بْنُ حُرَيْمِلَةَ ، وَوَهْبُ بْنُ يَهُوذَا : مَا قُلْنَا لَكُمْ هَذَا قَطّ ، وَمَا أَنْزَلَ اللّهُ مِنْ كِتَابٍ بَعْدَ مُوسَى ، وَلَا أَرْسَلَ بَشَرًا وَلَا نَذِيرًا بَعْدُ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } . ثُمّ قَصّ عَلَيْهِمْ خَبَرَ مُوسَى وَمَا لَقِيَ مِنْهُمْ وَانْتِقَاضَهُمْ عَلَيْهِ وَمَا رَدّوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ اللّهِ حَتّى تَاهُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ سَنَةً عُقُوبَةً
S[ ص 421 ] [ ص 422 ] وَذَكَرَ آيَةَ التّيهِ وَحَبْسِ بَنِي إسْرَائِيلَ فِيهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً عُقُوبَةً مِنْ اللّهِ تَعَالَى لِمُخَالَفَتِهِمْ أَمْرِهِ حِينَ فَزِعُوا مِنْ الْجَبّارِينَ لِعِظَمِ أَجْسَامِهِمْ وَقَالَ لَهُمْ رَجُلَانِ وَهُمَا يُوشَعُ بْنُ نُونٍ مِنْ سَبْطِ يُوسُفَ وَكَالِبُ بْنُ يُوفِيَا مِنْ سَبْطِ يَامِينَ { ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنّكُمْ غَالِبُونَ } فَلَمّا عَصَوْهُمَا دَعَا عَلَيْهِمْ مُوسَى ، فَتَاهُوا ، أَيّ تَحَيّرُوا ، وَكَانُوا سِتّمِائَةِ أَلْفِ مُقَاتِلٍ فَتَاهُوا فِي سِتّةِ فَرَاسِخَ مِنْ الْأَرْضِ يَمْشُونَ النّهَارَ كُلّهُ ثُمّ يُمْسُونَ حَيْثُ أَصْبَحُوا ، وَيُصْبِحُونَ حَيْثُ أَمْسَوْا . وَفِي ذَلِكَ السّنِينَ أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ الْمَنّ وَالسّلْوَى ، لِأَنّهُمْ شُغِلُوا عَنْ الْمَعَاشِ بِالتّيهِ فِي الْأَرْضِ وَأُبْقِيَتْ عَلَيْهِمْ ثِيَابُهُمْ لَا تَخْلَقُ وَلَا تَتّسِخُ وَتَطُولُ مَعَ الصّغِيرِ إذَا طَالَ وَفِيهَا اسْتَسْقَى لَهُمْ مُوسَى ، فَأُمِرَ أَنْ يَأْخُذَ حَجَرًا مِنْ الطّورِ ، فَيَضْرِبُهُ بِعَصَاهُ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا [ ص 423 ] كَانُوا فِي الْبَرِيّةِ فَظُلّلُوا مِنْ الشّمْسِ وَذَلِكَ أَنّ مُوسَى كَانَ نَدِمَ حِينَ دَعَا عَلَيْهِمْ لِمَا رَأَى مِنْ جَهْدِهِمْ وَحَيْرَتِهِمْ فِي التّيهِ فَكَانَ يَدْعُو اللّهَ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ لِئَلّا يَهْلِكُوا فِي التّيهِ جُوعًا أَوْ عُرْيًا أَوْ عَطَشًا ، فَلَمّا آسَى عَلَيْهِمْ قَالَ لَهُ لَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ أَيْ لِلّذِينَ فَسَقُوا أَيْ خَرَجُوا عَنْ أَمْرِك - وَمَاتَ فِي أَيّامِ التّيهِ جَمِيعُ كِبَارِهِمْ إلّا يُوشَعُ وَكَالِبٌ فَمَا دَخَلَ الْأَرْضَ عَلَى الْجَبّارِينَ إلّا خُلُوفُهُمْ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَقِيلَ إنّ مُوسَى مَاتَ فِي تِلْكَ السّنِينَ أَيْضًا وَلَمْ يَشْهَدْ الْفَتْحَ مَعَ يُوشَعَ وَقِيلَ بَلْ كَانَ مَعَ يُوشَعَ حِينَ افْتَتَحَهَا .

=

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

البرص و العميان-أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ

البرص و العميان-أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ  المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله عليه محمد وسلم وهب الله لك حسن الاستماع وأشعر ...