Translate

الجمعة، 20 مايو 2022

ج 2. الروض الأنف للسهيلي

 

ج 2. الروض الأنف   

حِلْفُ الْفُضُولِ

[ ص 242 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَأَمّا حِلْفُ الْفُضُولِ فَحَدّثَنِي زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَكّائِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ قَالَ تَدَاعَتْ قَبَائِلُ مِنْ قُرَيْشٍ إلَى حِلْفٍ فَاجْتَمَعُوا لَهُ فِي دَارِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ [ ص 243 ] جُدْعَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، لِشَرَفِهِ وَسِنّهِ . فَكَانَ حِلْفَهُمْ عِنْدَهُ بَنُو هَاشِمٍ ، وَبَنُو الْمُطّلِبِ ، وَأَسَدَ بْنَ عَبْدِ الْعُزّى ، وَزُهْرَةُ بْنُ كِلَابٍ ، [ ص 244 ] فَتَعَاقَدُوا وَتَعَاهَدُوا عَلَى أَنْ لَا يَجِدُوا بِمَكّةَ مَظْلُومًا مِنْ أَهْلِهَا وَغَيْرِهِمْ مِمّنْ دَخَلَهَا مِنْ سَائِرِ النّاسِ إلّا قَامُوا مَعَهُ وَكَانُوا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ حَتّى تُرَدّ عَلَيْهِ مَظْلِمَتُهُ فَسَمّتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ الْحِلْفَ حِلْفَ الْفُضُولِ .S[ ص 242 ] وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ الْحِلْفَ الّذِي عَقَدَتْهُ قُرَيْشٌ بَيْنَهَا عَلَى نُصْرَةِ كُلّ مَظْلُومٍ بِمَكّةَ قَالَ وَيُسَمّى حِلْفَ الْفُضُولِ وَلَمْ يَذْكُرْ سَبَبَ هَذِهِ التّسْمِيَةِ وَذَكَرَهَا ابْنُ قُتَيْبَةَ ، فَقَالَ كَانَ قَدْ سَبَقَ قُرَيْشًا إلَى مِثْلِ هَذَا الْحِلْفِ جُرْهُمٌ فِي الزّمَنِ الْأَوّلِ فَتَحَالَفَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ هُمْ وَمَنْ تَبِعَهُمْ أَحَدُهُمْ الْفَضْلُ بْنُ فَضَالَةَ ، وَالثّانِي : الْفَضْلُ بْنُ وَدَاعَةَ ، وَالثّالِثُ فُضَيْلُ بْنُ الْحَارِثِ . هَذَا قَوْلُ الْقُتَبِيّ . وَقَالَ الزّبَيْرُ الْفُضَيْلُ بْنُ شُرَاعَةَ وَالْفَضْلُ بْنُ وَدَاعَةَ ، وَالْفَضْلُ بْنُ قُضَاعَةَ ، فَلَمّا أَشْبَهَ حِلْفُ قُرَيْشٍ الْآخَرُ فِعْلَ هَؤُلَاءِ الْجُرْهُمِيّينَ سُمّيَ حِلْفَ الْفُضُولِ وَالْفُضُولُ جَمْعُ فَضْلٍ وَهِيَ أَسْمَاءُ أُولَئِكَ الّذِينَ تَقَدّمَ ذِكْرُهُمْ . وَهَذَا الّذِي قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ حَسَنٌ وَلَكِنْ فِي الْحَدِيثِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَأَوْلَى . رَوَى الْحُمَيْدِيّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ اللّهِ عَنْ مُحَمّدٍ وَعَبْدِ الرّحْمَنِ ابْنَيْ أَبِي بَكْرٍ قَالَا : قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَقَدْ شَهِدْت فِي دَارِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا لَوْ دُعِيت بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْت . تَحَالَفُوا أَنْ تُرَدّ الْفُضُولُ عَلَى أَهْلِهَا ، وَأَلّا يَعُزّ ظَالِمٌ مَظْلُومًا . وَرَوَاهُ فِي مُسْنَدِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ التّمِيمِيّ ِ . فَقَدْ بَيّنَ هَذَا الْحَدِيثَ لِمَ سُمّيَ حِلْفَ الْفُضُولِ وَكَانَ حِلْفُ الْفُضُولِ بَعْدَ الْفُجّارِ وَذَلِكَ أَنّ حَرْبَ الْفُجّارِ كَانَتْ فِي شَعْبَانَ وَكَانَ حِلْفُ الْفُضُولِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ قَبْلَ الْمَبْعَثِ بِعِشْرِينَ سَنَةً وَكَانَ حِلْفُ الْفُضُولِ أَكْرَمَ حِلْفٍ سُمِعَ بِهِ وَأَشْرَفَهُ فِي الْعَرَبِ . وَكَانَ أَوّلَ مَنْ تَكَلّمَ بِهِ وَدَعَا إلَيْهِ الزّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَكَانَ سَبَبُهُ أَنّ رَجُلًا مِنْ زُبَيْدٍ قَدِمَ مَكّةَ بِبِضَاعَةِ فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ الْعَاصِي بْنُ وَائِلٍ وَكَانَ ذَا قَدْرٍ بِمَكّةَ وَشَرَفٍ فَحَبَسَ عَنْهُ حَقّهُ فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ الزّبَيْدِيّ الْأَحْلَافَ : عَبْدَ الدّارِ وَمَخْزُومًا وَجُمَحَ وَسَهْمًا وَعَدِيّ بْنَ كَعْبٍ ، فَأَبَوْا أَنْ يُعِينُوهُ عَلَى الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ وَزَبَرُوهُ أَيْ انْتَهَرُوهُ فَلَمّا رَأَى الزّبَيْدِيّ الشّرّ أَوْفَى عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ عِنْدَ طُلُوعِ الشّمْسِ وَقُرَيْشٌ فِي أَنْدِيَتِهِمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ ، فَصَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ

يَا آلَ فِهْرٍ لِمَظْلُومِ بِضَاعَتُهُ ... بِبَطْنِ مَكّةَ نَائِي الدّارِ وَالنّفَرِ
وَمُحْرِمٍ أَشْعَثٍ لَمْ يَقْضِ عُمْرَتَهُ ... يَا لَلرّجَالِ وَبَيْنَ الْحِجْرِ وَالْحَجَرِ
إنّ الْحَرَامَ لِمَنْ تَمّتْ كَرَامَتُهُ ... وَلَا حَرَامَ لِثَوْبِ الْفَاجِرِ الْغُدَرِ
[ ص 243 ] الزّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَقَالَ مَا لِهَذَا مُتَرّكٌ فَاجْتَمَعَتْ هَاشِمٌ وَزُهْرَةُ وَتَيْمُ بْنُ مُرّةَ فِي دَارِ ابْنِ جُدْعَانَ ، فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا ، وَتَحَالَفُوا فِي ذِي الْقَعْدَةِ فِي شَهْرٍ حَرَامٍ قِيَامًا ، فَتَعَاقَدُوا ، وَتَعَاهَدُوا بِاَللّهِ لَيَكُونَنّ يَدًا وَاحِدَةً مَعَ الْمَظْلُومِ عَلَى الظّالِمِ حَتّى يُؤَدّى إلَيْهِ حَقّهُ مَا بَلّ بَحْرٌ صُوفَةَ وَمَا رَسَا حِرَاءٌ وَثَبِيرٌ مَكَانَهُمَا ، وَعَلَى التّأَسّي فِي الْمَعَاشِ فَسَمّتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ الْحِلْفَ حِلْفَ الْفُضُولِ وَقَالُوا : لَقَدْ دَخَلَ هَؤُلَاءِ فِي فَضْلٍ مِنْ الْأَمْرِ ثُمّ مَشَوْا إلَى الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ فَانْتَزَعُوا مِنْهُ سِلْعَةَ الزّبَيْدِيّ فَدَفَعُوهَا إلَيْهِ وَقَالَ الزّبَيْرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
حَلَفْت لَنَقْعُدَنْ حِلْفًا عَلَيْهِمْ ... وَإِنْ كُنّا جَمِيعًا أَهْلَ دَارِ
نُسَمّيهِ الْفُضُولَ إذَا عَقَدْنَا ... يَعِزّ بِهِ الْغَرِيبُ لَدَى الْجِوَارِ
وَيَعْلَمُ مَنْ حَوَالِي الْبَيْتِ أَنّا ... أُبَاةُ الضّيْمِ نَمْنَعُ كُلّ عَارِ
وَقَالَ الزّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ :
إنّ الْفُضُولَ تَحَالَفُوا ، وَتَعَاقَدُوا ... أَلّا يُقِيمَ بِبَطْنِ مَكّةَ ظَالِمُ
أَمْرٌ عَلَيْهِ تَعَاهَدُوا ، وَتَوَاثَقُوا ... فَالْجَارُ وَالْمُعَتّرُ فِيهِمْ سَالِمُ
وَذَكَرَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ أَنّ رَجُلًا مِنْ خَثْعَمَ قَدِمَ مَكّةَ مُعْتَمِرًا ، أَوْ حَاجّا ، وَمَعَهُ بِنْتٌ لَهُ يُقَالُ لَهَا : الْقَتُولُ مِنْ أَوْضَأِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ فَاغْتَصَبَهَا مِنْهُ نُبَيْهُ بْنُ الْحَجّاجِ وَغَيّبَهَا عَنْهُ فَقَالَ الْخَثْعَمِيّ : مَنْ يُعْدِينِي عَلَى هَذَا الرّجُلِ فَقِيلَ لَهُ عَلَيْك بِحِلْفِ الْفُضُولِ فَوَقَفَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ ، وَنَادَى : يَا لَحِلْفِ الْفُضُولِ فَإِذَا هُمْ يُعْنِقُونَ إلَيْهِ مِنْ كُلّ جَانِبٍ وَقَدْ انْتَضَوْا أَسْيَافَهُمْ يَقُولُونَ جَاءَك الْغَوْثُ ، فَمَا لَك ؟ فَقَالَ إنّ نُبَيْهًا ظَلَمَنِي فِي ابْنَتِي ، وَانْتَزَعَهَا مِنّي قَسْرًا ، فَسَارُوا مَعَهُ حَتّى وَقَفُوا عَلَى بَابِ الدّارِ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ فَقَالُوا لَهُ أَخْرِجْ الْجَارِيَةَ وَيْحَك ، فَقَدْ عَلِمْت مَنْ نَحْنُ وَمَا تَعَاقَدْنَا عَلَيْهِ فَقَالَ أَفْعَلُ وَلَكِنْ مَتّعُونِي بِهَا اللّيْلَةَ فَقَالُوا لَهُ لَا وَاَللّهِ وَلَا شَخْبَ لِقْحَةٍ فَأَخْرَجَهَا إلَيْهِمْ وَهُوَ يَقُولُ [ ص 244 ]
رَاحَ صَحْبِي وَلَمْ أُحَيّ الْقَتُولَا ... لَمْ أُوَدّعْهُمْ وَدَاعًا جَمِيلَا
ذْ أَجَدّ الْفُضُولُ أَنْ يَمْنَعُوهَا ... قَدْ أَرَانِي ، وَلَا أَخَافُ الْفُضُولَا
لَا تَخَالِي أَنّي عَشِيّةَ رَاحَ الرّ ... كْبُ هُنْتُمْ عَلَيّ أَلّا أَقُوّلَا
فِي أَبْيَاتٍ غَيْرِ هَذِهِ ذَكَرَهَا الزّبَيْرُ وَذَكَرَ مِنْ قَوْلِهِ فِيهَا أَيْضًا :
حَلّتْ تِهَامَةُ حِلّةً ... مِنْ بَيْتِهَا وَوِطَائِهَا
وَلَهَا بِمَكّةَ مَنْزِلٌ ... مِنْ سَهْلِهَا وَحِرَائِهَا
أَخَذَتْ بَشَاشَةَ قَلْبِهِ ... وَنَأَتْ فَكَيْفَ بِنَأْيِهَا

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 245 ] التّيْمِيّ أَنّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَوْفٍ الزّهْرِيّ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 246 ] لَقَدْ شَهِدْت فِي دَارِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا ، مَا أُحِبّ أَنّ لِي بِهِ حُمْرَ النّعَمِ وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْتSالْحِلْفُ وَابْنُ جُدْعَانَ
فَصْلٌ وَذَكَرَ قَوْلَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَقَدْ شَهِدْت فِي دَارِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبّ أَنّ لِي بِهِ حُمْرَ النّعَمِ وَلَوْ دُعِيت إلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْت وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ جُدْعَانَ هَذَا تَيْمِيّ هُوَ ابْنُ جُدْعَانَ بْنِ عُمَرَ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمٍ يُكَنّى : أَبَا زُهَيْرِ ابْنَ عَمّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - وَلِذَلِكَ قَالَتْ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إ نّ ابْنَ جُدْعَانَ كَانَ يُطْعِمُ الطّعَامَ وَيَقْرِي الضّيْفَ فَهَلْ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؟ فَقَالَ لَا إنّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا : رَبّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدّينِ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ . وَمِنْ غَرِيبِ الْحَدِيثِ لِابْنِ قُتَيْبَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ كُنْت أَسَتَظِلّ بِظِلّ جَفْنَةِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جُدْعَانَ صَكّةَ عُمَيّ يَعْنِي : فِي الْهَاجِرَةِ وَسُمّيَتْ الْهَاجِرَةُ صَكّةَ عُمَيّ لِخَبَرِ ذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْأَنْوَاءِ أَنّ عُمَيّا رَجُلٌ مِن ْ عَدْوَانَ ، وَقِيلَ مِنْ إيَادٍ ، وَكَانَ فَقِيهَ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيّةِ فَقَدِمَ فِي قَوْمٍ مُعْتَمِرًا أَوْ حَاجّا : فَلَمّا كَانَ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكّةَ قَالَ لِقَوْمِهِ وَهُمْ فِي نَحْرِ الظّهِيرَةِ مَنْ أَتَى مَكّةَ غَدًا فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ كَانَ لَهُ أَجْرُ عُمْرَتَيْنِ فَصَكّوا الْإِبِلَ صَكّةً شَدِيدَةً حَتّى أَتَوْا مَكّةَ مِنْ الْغَدِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَأَنْشَدَ
وَصَكّ بِهَا نَحْرَ الظّهِيرَةِ صَكّةَ ... عُمَيّ وَمَا يَبْغِينَ إلّا ظِلَالَهَا
[ ص 245 ] وَعُمَيّ : تَصْغِيرُ أَعْمَى عَلَى التّرْخِيمِ فَسُمّيَتْ الظّهِيرَةُ صَكّةَ عُمَيّ بِهِ . وَقَالَ الْبَكْرِيّ فِي شَرْحِ الْأَمْثَالِ عُمَيّ : رَجُلٌ مِنْ الْعَمَالِيقِ أَوْقَعَ بِالْعَدُوّ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَسُمّيَ ذَلِكَ الْوَقْتُ صَكّةَ عُمَيّ وَاَلّذِي قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ أَوْلَى ، وَقَائِلُهُ أَعْلَى . وَقَالَ يَعْقُوبُ عَمِيَ الظّبْيُ يَتَحَيّرُ بَصَرُهُ فِي الظّهِيرَةِ مِنْ شِدّةِ الْحَرّ . قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : وَكَانَتْ جَفْنَتُهُ يَأْكُلُ مِنْهَا الرّاكِبُ عَلَى الْبَعِيرِ وَسَقَطَ فِيهَا صَبِيّ ، فَغَرِقَ أَيْ مَاتَ . وَكَانَ أُمَيّةُ بْنُ أَبِي الصّلْتِ قَبْلَ أَنْ يَمْدَحَهُ قَدْ أَتَى بَنِي الدّيّانِ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ فَرَأَى طَعَامَ بَنِي عَبْدِ الْمَدَانِ مِنْهُمْ لُبَابُ الْبُرّ وَالشّهْدُ وَالسّمْنُ وَكَانَ ابْنُ جُدْعَانَ يُطْعِمُ التّمْرَ وَالسّوِيقَ وَيَسْقِي اللّبَنَ فَقَالَ أُمَيّةُ
وَلَقَدْ رَأَيْت الْفَاعِلِينَ وَفِعْلَهُمْ ... فَرَأَيْت أَكْرَمَهُمْ بَنِي الدّيّانِ
الْبُرّ يُلْبَكُ بِالشّهَادِ طَعَامُهُمْ ... لَا مَا يُعَلّلُنَا بَنُو جُدْعَانَ
فَبَلَغَ شِعْرُهُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ جُدْعَانَ ، فَأَرْسَلَ أَلْفَيْ بَعِيرٍ إلَى الشّامِ ، تَحْمِلُ إلَيْهِ الْبُرّ وَالشّهْدَ وَالسّمْنَ وَجَعَلَ مُنَادِيًا يُنَادِي عَلَى الْكَعْبَةِ : أَلَا هَلُمّوا إلَى جَفْنَةِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جُدْعَانَ ، فَقَالَ أُمَيّةُ عِنْدَ ذَلِكَ
لَهُ دَاعٍ بِمَكّةَ مُشْمِعَلّ ... وَآخَرُ فَوْقَ كَعْبَتِهَا يُنَادِي
إلَى رُدُحٍ مِنْ الشّيزَى عَلَيْهَا ... لُبَابُ الْبُرّ يُلْبَكُ بِالشّهَادِ
وَكَانَ ابْنُ جُدْعَانَ فِي بَدْءِ أَمْرِهِ صُعْلُوكًا تَرِبَ الْيَدَيْنِ وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ شِرّيرًا فَاتِكًا ، وَلَا يَزَالُ يَجْنِي الْجِنَايَاتِ فَيَعْقِلُ عَنْهُ أَبُوهُ وَقَوْمُهُ حَتّى أَبْغَضَتْهُ عَشِيرَتُهُ وَنَفَاهُ أَبُوهُ وَحَلَفَ أَلّا يُؤْوِيَهُ أَبَدًا لِمَا أَثْقَلَهُ بِهِ مِنْ الْغُرْمِ وَحَمَلَهُ مِنْ الدّيَاتِ فَخَرَجَ فِي شِعَابِ مَكّةَ حَائِرًا بَائِرًا ، يَتَمَنّى الْمَوْتَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ فَرَأَى شَقّا فِي جَبَلٍ فَظَنّ فِيهِ حَيّةً فَتَعَرّضَ لِلشّقّ يَرْجُو أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَا يَقْتُلُهُ فَيَسْتَرِيحَ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا ، فَدَخَلَ فِيهِ فَإِذَا فِيهِ ثُعْبَانٌ عَظِيمٌ لَهُ عَيْنَانِ تَقِدَانِ كَالسّرَاجِينِ . فَحَمَلَ عَلَيْهِ الثّعْبَانُ فَأَفْرَجَ لَهُ فَانْسَابَ عَنْهُ مُسْتَدِيرًا بِدَارَةِ عِنْدَهَا بَيْتٌ فَخَطَا خُطْوَةٌ أُخْرَى ، فَصَفَرَ بِهِ الثّعْبَانُ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ كَالسّهْمِ فَأَفْرَجَ عَنْهُ فَانْسَابَ عَنْهُ قُدُمًا لَا يَنْظُرُ إلَيْهِ فَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنّهُ مَصْنُوعٌ فَأَمْسَكَهُ بِيَدِهِ فَإِذَا هُوَ مَصْنُوعٌ مِنْ ذَهَبٍ وَعَيْنَاهُ يَاقُوتُتَانِ [ ص 246 ] وَأَخَذَ عَيْنَيْهِ وَدَخَلَ الْبَيْتَ فَإِذَا جُثَثٌ عَلَى سُرُرٍ طِوَالٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهُمْ طُولًا وَعِظَمًا ، وَعِنْدَ رُءُوسِهِمْ لَوْحٌ مِنْ فِضّةٍ فِيهِ تَارِيخُهُمْ وَإِذْ هُمْ رِجَالٌ مِنْ مُلُوكِ جُرْهُمٍ ، وَآخِرُهُمْ مَوْتًا : الْحَارِثُ بْنُ مُضَاضٍ صَاحِبُ الْغُرْبَةِ الطّوِيلَةِ وَإِذَا عَلَيْهِمْ ثِيَابٌ لَا يُمَسّ مِنْهَا شَيْءٌ إلّا انْتَثَرَ كَالْهَبَاءِ مِنْ طُولِ الزّمَنِ وَشِعْرٌ مَكْتُوبٌ فِي اللّوْحِ فِيهِ عِظَاتٌ آخِرُ بَيْتٍ مِنْ هُ
صَاحِ هَلْ رَيْتَ أَوْ سَمِعْت بِرَاعٍ ... رَدّ فِي الضّرْعِ مَا قَرَى فِي الْحِلَابِ
وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ : كَانَ اللّوْحُ مِنْ رُخَامٍ وَكَانَ فِيهِ أَنَا نُفَيْلَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَدَانِ بْنِ خَشْرَمِ بْنِ عَبْدِ يَالَيْل بْنِ جُرْهُمِ بْنِ قَحْطَانَ بْنِ هُودٍ نَبِيّ اللّهِ عِشْت خَمْسَمِائَةِ عَامٍ وَقَطَعْت غَوْرَ الْأَرْضِ بَاطِنَهَا وَظَاهِرَهَا فِي طَلَبِ الثّرْوَةِ وَالْمَجْدِ وَالْمُلْكِ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ يُنْجِينِي مِنْ الْمَوْتِ وَتَحْتَهُ مَكْتُوب :
قَدْ قَطَعْت الْبِلَادَ فِي طَلَبِ الثّرْ ... وَةِ وَالْمَجْدُ قَالِصُ الْأَثْوَابِ
وَسَرَيْت الْبِلَادَ قَفْرًا لِقَفْرِ ... بِقَنَاتِي وَقُوّتِي وَاكْتِسَابِي
فَأَصَابَ الرّدَى بَنَاتِ فُؤَادِي ... بِسِهَامِ مِنْ الْمَنَايَا صِيَابِ
فَانْقَضَتْ شِرّتِي ، وَأَقْصَرَ جَهْلِي ... وَاسْتَرَاحَتْ عَوَاذِلِي مِنْ عِتَابِي
وَدَفَعْت السّفَاهَ بِالْحِلْمِ لَمّا ... نَزَلَ الشّيْبُ فِي مَحَلّ الشّبَابِ
صَاحِ هَلْ رَيْتَ أَوْ سَمِعْت بِرَاعٍ ... رَدّ فِي الضّرْعِ مَا قَرَى فِي الْحِلَابِ
وَإِذَا فِي وَسَطِ الْبَيْتِ كَوْمٌ عَظِيمٌ مِنْ الْيَاقُوتِ وَاللّؤْلُؤِ وَالذّهَبِ وَالْفِضّةِ وَالزّبَرْجَدِ فَأَخَذَ مِنْهُ مَا أَخَذَ ثُمّ عَلّمَ عَلَى الشّقّ بِعَلَامَةِ وَأَغْلَقَ بَابَهُ بِالْحِجَارَةِ وَأَرْسَلَ إلَى أَبِيهِ بِالْمَالِ الّذِي خَرَجَ بِهِ يَسْتَرْضِيهِ وَيَسْتَعْطِفُهُ وَوَصَلَ عَشِيرَتَهُ كُلّهُمْ فَسَادَهُمْ وَجَعَلَ يُنْفِقُ مِنْ ذَلِكَ الْكَنْزِ وَيُطْعِمُ النّاسَ وَيَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ . ذَكَرَ حَدِيثَ كَنْزِ ابْنِ جُدْعَانَ مَوْصُولًا بِحَدِيثِ الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضٍ ابْنُ هِشَامٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ وَوَقَعَ أَيْضًا فِي كِتَابِ رِيّ الْعَاطِشِ وَأُنْسِ الْوَاحِشِ لِأَحْمَدَ بْنِ عَمّارٍ [ ص 247 ] وَابْنُ جُدْعَانَ مِمّنْ حَرّمَ الْخَمْرَ فِي الْجَاهِلِيّةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مُغْرَى بِهَا ، وَذَلِكَ أَنّهُ سَكِرَ فَتَنَاوَلَ الْقَمَرَ لِيَأْخُذَهُ فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ حِينَ صَحَا ، فَحَلَفَ لَا يَشْرَبُهَا أَبَدًا ، وَلَمّا كَبِرَ وَهَرِمَ أَرَادَ بَنُو تَمِيمٍ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ تَبْدِيدِ مَالِهِ وَلَامُوهُ فِي الْعَطَاءِ فَكَانَ يَدْعُو الرّجُلَ فَإِذَا دَنَا مِنْهُ لَطَمَهُ لَطْمَةً خَفِيفَةً ثُمّ يَقُولُ لَهُ قُمْ فَانْشُدْ لَطْمَتَك ، وَاطْلُبْ دِيَتَهَا ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ أَعْطَتْهُ بَنُو تَمِيمٍ مِنْ مَالِ ابْنِ جُدْعَانَ حَتّى يَرْضَى ، وَهُوَ جَدّ عُبَيْدِ اللّهِ بْن أَبِي مُلَيْكَةَ الْفَقِيهِ . وَاَلّذِي وَقَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ ذِكْرِ نُفَيْلَةَ أَحْسَبُهُ نُفَيْلَةَ بِالنّونِ وَالْفَاءِ لِأَنّ بَنِي نُفَيْلَةَ كَانُوا مُلُوكَ الْحِيرَةِ ، وَهُمْ مِنْ غَسّانَ ، لَا مِنْ جُرْهُمٍ ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 247 ] الْهَادِي اللّيْثِيّ أَنّ مُحَمّدَ بْنَ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التّيْمِيّ حَدّثَهُ أَنّهُ كَانَ بَيْنَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا ، وَبَيْنَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ . وَالْوَلِيدُ يَوْمَئِذٍ أَمِيرٌ عَلَى الْمَدِينَةِ ، أَمّرَهُ عَلَيْهَا عَمّهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ - مُنَازَعَةً فِي مَالٍ كَانَ بَيْنَهُمَا بِذِي الْمَرْوَةِ ، فَكَانَ الْوَلِيدُ تَحَامَلَ عَلَى الْحُسَيْنِ - فِي حَقّهِ لِسُلْطَانِهِ فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ أَحْلِفُ بِاَللّهِ لَتُنْصِفَنّي مِنْ حَقّي ، أَوْ لَآخُذَنّ سَيْفِي ، ثُمّ لَأَقُومَنّ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ثُمّ لَأَدْعُوَنّ بِحِلْفِ الْفُضُولِ قَالَ فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الزّبَيْرِ ، وَهُوَ عِنْدَ الْوَلِيدِ حِينَ قَالَ الْحُسَيْنُ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - مَا قَالَ وَأَنَا أَحْلِفُ بِاَللّهِ لَئِنْ دَعَا بِهِ لَآخُذَنّ سَيْفِي ، ثُمّ لَأَقُومَنّ مَعَهُ حَتّى يُنْصَفَ مِنْ حَقّهِ أَوْ نَمُوتَ جَمِيعًا . قَالَ فَبَلَغَتْ الْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ بْنِ نَوْفَلٍ الزّهْرِيّ ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ وَبَلَغَتْ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ التّيْمِيّ ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ أَنْصَفَ الْحُسَيْنَ مِنْ حَقّهِ حَتّى رَضِيَ . [ ص 248 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِي اللّيْثِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التّيْمِيّ قَالَ قَدِمَ مُحَمّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمِ بْنِ عَدِيّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ - وَكَانَ مُحَمّدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَعْلَمَ قُرَيْشٍ - فَدَخَلَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ حِينَ قُتِلَ ابْنُ الزّبَيْرِ وَاجْتَمَعَ النّاسُ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَلَمّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ با أَبَا سَعِيدٍ أَلَمْ نَكُنْ نَحْنُ وَأَنْتُمْ يَعْنِي بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَبَنِيّ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ فِي حِلْفِ الْفُضُولِ ؟ قَالَ أَنْتَ أَعْلَمُ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ لَتُخْبِرَنّي يَا أَبَا سَعِيدٍ بِالْحَقّ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ لَا وَاَللّهِ لَقَدْ خَرَجْنَا نَحْنُ وَأَنْتُمْ مِنْهُ قَالَ صَدَقْت .Sمَوْقِفُ الْإِسْلَامِ مِنْ الْحِلْفِ فَصْلٌ وَذَكَرَ خَبَرَ الْحُسَيْنِ مَعَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ ، وَقَوْلَهُ لَآخُذَنّ سَيْفِي ، ثُمّ لَأَدْعُوَنّ بِحِلْفِ الْفُضُولِ إلَى آخِرِ الْقِصّةِ وَفِيهِ مِنْ الْفِقْهِ تَخْصِيصُ أَهْلِ هَذَا الْحِلْفِ بِالدّعْوَةِ وَإِظْهَارِ التّعَصّبِ إذَا خَافُوا ضَيْمًا ، وَإِنْ كَانَ الْإِسْلَامُ قَدْ رَفَعَ مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيّةِ مِنْ قَوْلِهِمْ يَا لَفُلَانٍ عِنْدَ التّحَزّبِ وَالتّعَصّبِ وَقَدْ سَمِعَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَوْمَ الْمُرَيْسِيعِ رَجُلًا يَقُولُ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ وَقَالَ آخَرُ يَا لَلْأَنْصَارِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - دَعُوهَا فَإِنّهَا مُنْتِنَةٌ وَقَالَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَنْ ادّعَى بِدَعْوَى الْجَاهِلِيّةِ فَأَعْضُوهُ بِهَنِ أَبِيهِ وَلَا تُكَنّوا وَنَادَى رَجُلٌ [ ص 248 ] النّابِعَةُ الْجَعْدِيّ بِعُصْبَةِ لَهُ فَضَرَبَهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - خَمْسِينَ جَلْدَةً وَذَلِكَ أَنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ جَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ إخْوَةً وَلَا يُقَالُ إلّا كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَا لَلّهِ وَيَا لَلْمُسْلِمِينَ لِأَنّهُمْ كُلّهُمْ حِزْبٌ وَاحِدٌ وَإِخْوَةٌ فِي الدّينِ إلّا مَا خَصّ الشّرْعُ بِهِ أَهْلَ حِلْفِ الْفُضُولِ وَالْأَصْلُ فِي تَخْصِيصِهِ قَوْلُهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَلَوْ دُعِيت بِهِ الْيَوْمَ لَأَجَبْت يُرِيدُ لَوْ قَالَ قَائِلٌ مِنْ الْمَظْلُومِينَ يَا لَحِلْفِ الْفُضُولِ لَأَجَبْت ، وَذَلِكَ أَنّ الْإِسْلَامَ إنّمَا جَاءَ بِإِقَامَةِ الْحَقّ وَنُصْرَةِ الْمَظْلُومِينَ فَلَمْ يَزْدَدْ بِهِ هَذَا الْحِلْفُ إلّا قُوّةً وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ وَمَا كَانَ مِنْ حِلْفٍ فِي الْجَاهِلِيّةِ فَلَنْ يَزِيدَهُ الْإِسْلَامُ إلّا شِدّةً لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنْ يَقُولَ الْحَلِيفُ يَا لَفُلَانٍ لِحُلَفَائِهِ فَيُجِيبُوهُ بَلْ الشّدّةُ الّتِي عَنَى رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إنّمَا هِيَ رَاجِعَةٌ إلَى مَعْنَى التّوَاصُلِ وَالتّعَاطُفِ وَالتّآلُفِ وَأَمّا دَعْوَى الْجَاهِلِيّةِ فَقَدْ رَفَعَهَا الْإِسْلَامُ إلّا مَا كَانَ مِنْ حِلْفِ الْفُضُولِ كَمَا قَدّمْنَا ، فَحُكْمُهُ بَاقٍ وَالدّعْوَةُ بِهِ جَائِزَةٌ وَقَدْ ذَهَبَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إلَى أَنّ الْحَلِيفَ يَعْقِلُ مَعَ الْعَاقِلَةِ إذَا وَجَبَتْ الدّيَةُ لِقَوْلِهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَمَا كَانَ مِنْ حِلْفٍ فِي الْجَاهِلِيّةِ فَلَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إلّا شِدّةً وَلِقَوْلِهِ أَيْضًا لِلّذِي حَبَسَهُ فِي الْمَسْجِدِ إنّمَا حَبَسْتُك بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِك .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 249 ] الرّفَادَةَ وَالسّقَايَةَ هَاشِمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ وَذَلِكَ أَنّ عَبْدَ شَمْسٍ كَانَ رَجُلًا سَفّارًا قَلّمَا يُقِيمُ بِمَكّةَ وَكَانَ مُقِلّا ذَا وَلَدٍ وَكَانَ هَاشِمٌ مُوسِرًا فَكَانَ - فِيمَا يَزْعُمُونَ - إذَا حَضَرَ الْحَجّ ، قَامَ فِي قُرَيْشٍ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إنّكُمْ جِيرَانُ اللّهِ ، وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَإِنّهُ يَأْتِيكُمْ فِي هَذَا الْمَوْسِمِ زُوّارُ اللّهِ وَحُجّاجُ بَيْتِهِ وَهُمْ ضَيْفُ اللّهِ وَأَحَقّ الضّيْفِ بِالْكَرَامَةِ ضَيْفُهُ فَاجْمَعُوا لَهُمْ مَا تَصْنَعُونَ لَهُمْ بِهِ طَعَامًا أَيّامَهُمْ هَذِهِ الّتِي لَا بُدّ لَهُمْ مِنْ الْإِقَامَةِ بِهَا ؛ فَإِنّهُ - وَاَللّهِ - لَوْ كَانَ مَالِي يَسَعُ لِذَلِكَ مَا كَلّفْتُكُمُوهُ . فَيَخْرُجُونَ لِذَلِكَ خَرْجًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ كُلّ امْرِئِ بِقَدْرِ مَا عِنْدَهُ فَيُصْنَعُ بِهِ لِلْحُجّاجِ طَعَامٌ حَتّى يَصْدُرُوا مِنْهَا . [ ص 250 ] وَكَانَ هَاشِمٌ - فِيمَا يَزْعُمُونَ - أَوّلَ مَنْ سَنّ الرّحْلَتَيْنِ لِقُرَيْشِ رِحْلَتَيْ الشّتَاءِ وَالصّيْفِ وَأَوّلُ مَنْ أَطْعَمَ الثّرِيدَ لِلْحُجّاجِ بِمَكّةَ وَإِنّمَا كَانَ اسْمُهُ عَمْرًا ، فَمَا سُمّيَ هَاشِمًا إلّا بِهَشْمِهِ الْخُبْزَ بِمَكّةَ لِقَوْمِهِ فَقَالَ شَاعِرٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَوْ مِنْ بَعْضِ الْعَرَبِ :
عَمْرُو الّذِي هَشَمَ الثّرِيدَ لِقَوْمِهِ ... قَوْمٍ بِمَكّةَ مُسْنِتِينَ عِجَافِ
سُنّتْ إلَيْهِ الرّحْلَتَانِ كِلَاهُمَا ... سَفَرُ الشّتَاءِ وَرِحْلَةُ الْإِيلَافِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ : قَوْمٍ بِمَكّةَ مُسْنِتِينَ عِجَافِ
Sعَنْ أَوْلَادِ عَبْدِ مَنَافٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ الْأَرْبَعَةَ وَقَدْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ خَامِسٌ وَهُوَ أَبُو عَمْرٍو ، وَاسْمُهُ عُبَيْدٌ ، دَرَجَ وَلَا عَقِبَ لَهُ ذَكَرَهُ الْبَرْقِيّ وَالزّبَيْرُ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الْبَرْقِيّ أَنّ قُصَيّا كَانَ سَمّى ابْنَهُ عَبْدَ قُصَيّ ، وَقَالَ سَمّيْته بِنَفْسِي وَسَمّيْت الْآخَرَ بِدَارِ الْكَعْبَةِ ، يَعْنِي : عَبْدَ الدّارِ ثُمّ إنّ النّاسَ حَوّلُوا اسْمَ عَبْدِ قُصَيّ ، فَقَالُوا : عَبْدَ بْنَ قُصَيّ ، وَقَالَ الزّبَيْرُ أَيْضًا : كَانَ اسْمُ عَبْدِ الدّارِ عَبْدَ الرّحْمَنِ . [ ص 249 ] وَذَكَرَ هَاشِمًا وَمَا صَنَعَ فِي أَمْرِ الرّفَادَةِ وَإِطْعَامِ الْحَجِيجِ وَأَنّهُ سُمّيَ هَاشِمًا لِهَشْمِهِ الثّرِيدَ لِقَوْمِهِ وَالْمَعْرُوفُ فِي اللّغَةِ أَنْ يُقَالَ ثَرَدْت الْخُبْزَ فَهُوَ ثَرِيدٌ وَمَثْرُودٌ فَلَمْ يُسَمّ ثَارِدًا ، وَسُمّيَ هَاشِمًا ، وَكَانَ الْقِيَاسُ - كَمَا لَا يُسَمّى الثّرِيدُ هَشِيمًا ، بَلْ يُقَالُ فِيهِ - ثَرِيدٌ وَمَثْرُودٌ - أَنْ يُقَالَ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ أَيْضًا كَذَلِكَ وَلَكِنْ سَبَبُ هَذِهِ التّسْمِيَةِ يَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ بَيَانٍ . ذَكَرَ أَصْحَابَ الْأَخْبَارِ أَنّ هَاشِمًا كَانَ يَسْتَعِينُ عَلَى إطْعَامِ الْحَاجّ بِقُرَيْشِ فَيَرْفِدُونَهُ بِأَمْوَالِهِمْ وَيُعِينُونَهُ ثُمّ جَاءَتْ أَزْمَةٌ شَدِيدَةٌ فَكَرِهَ أَنْ يُكَلّفَ قُرَيْشًا أَمْرَ الرّفَادَةِ فَاحْتَمَلَ إلَى الشّامِ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَاشْتَرَى بِهِ أَجْمَعَ كَعْكًا وَدَقِيقًا ، ثُمّ أَتَى الْمَوْسِمَ فَهَشّمَ ذَلِكَ الْكَعْكَ كُلّهُ هَشْمًا ، وَدَقّهُ دَقّا ، ثُمّ صَنَعَ لِلْحُجّاجِ طَعَامًا شِبْهَ الثّرِيدِ فَبِذَلِكَ سُمّيَ هَاشِمًا لِأَنّ الْكَعْكَ الْيَابِسَ لَا يُثْرَدُ وَإِنّمَا يُهْشَمُ هَشْمًا ، فَبِذَلِكَ مُدِحَ حَتّى قَالَ شَاعِرُهُمْ فِيهِ وَهُوَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الزّبَعْرَى :
كَانَتْ قُرَيْشٌ بَيْضَةً فَتَفَقّأَتْ ... فَالْمُحّ خَالِصُهُ لِعَبْدِ مَنَافِ
الْخَالِطِينَ فَقِيرَهُمْ بِغَنِيّهِمْ ... وَالطّاعِنِينَ لِرِحْلَةِ الْأَضْيَافِ
وَالرّائِشِينَ وَلَيْسَ يُوجَدُ رَائِشٌ ... وَالْقَائِلِينَ هَلُمّ لِلْأَضْيَافِ
عَمْرُو الْعُلَا هَشَمَ الثّرِيدَ لِقَوْمِهِ ... قَوْمٍ بِمَكّةَ مُسْنِتِينَ عِجَافِ
[ ص 250 ] وَكَانَ سَبَبَ مَدْحِ ابْنِ الزّبَعْرَى بِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ وَهُوَ سَهْمِيّ لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ - فِيمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ - أَنّهُ كَانَ قَدْ هَجَا قُصَيّا بِشِعْرِ كَتَبَهُ فِي أَسْتَارِ الْكَعْبَةِ ، أَوّلُهُ
أَلْهَى قُصَيّا عَنْ الْمَجْدِ الْأَسَاطِيرُ ... وَمِشْيَةٌ مِثْلُ مَا تَمْشِي الشّقَارِيرُ
فَاسْتَعْدَوْا عَلَيْهِ بَنِي سَهْمٍ فَأَسْلَمُوهُ إلَيْهِمْ فَضَرَبُوهُ وَحَلَقُوا شَعْرَهُ وَرَبَطُوهُ إلَى صَخْرَةٍ بِالْحَجُونِ فَاسْتَغَاثَ قَوْمَهُ فَلَمْ يُغِيثُوهُ فَجَعَلَ يَمْدَحُ قُصَيّا وَيَسْتَرْضِيهِمْ فَأَطْلَقَهُ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ مِنْهُمْ وَأَكْرَمُوهُ فَمَدَحَهُمْ بِهَذَا الشّعْرِ وَبِأَشْعَارِ كَثِيرَةٍ ذَكَرَهَا ابْنُ إسْحَاقَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ هَلَكَ هَاشِمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ بِغَزّةَ مِنْ أَرْضِ الشّامِ تَاجِرًا ، فَوَلِيَ السّقَايَةَ وَالرّفَادَةَ مِنْ بَعْدِهِ الْمُطّلِبُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ ، وَكَانَ أَصْغَرَ مِنْ عَبْدِ شَمْسٍ وَهَاشِمٍ وَكَانَ ذَا شَرَفٍ فِي قَوْمِهِ وَفَضْلٍ وَكَانَتْ قُرَيْشٌ إنّمَا تُسَمّيهِ الْفَيْضَ لِسَمَاحَتِهِ وَفَضْلِهِ . [ ص 251 ] وَكَانَ هَاشِمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ قَدِمَ الْمَدِينَةَ ، فَتَزَوّجَ سَلْمَى بِنْتَ عَمْرٍو أَحَدِ بَنِي عَدِيّ بْنِ النّجّارِ وَكَانَتْ قَبْلَهُ عِنْدَ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ بْنِ الْحَرِيشِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ الْحَرِيشُ بْنُ جَحْجَبَى بْنِ كُلْفَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَمْرَو بْنَ أُحَيْحَةَ وَكَانَتْ لَا تَنْكِحُ الرّجَالَ لِشَرَفِهَا فِي قَوْمِهَا حَتّى يَشْتَرِطُوا لَهَا أَنّ أَمْرَهَا بِيَدِهَا ، إذَا كَرِهَتْ رَجُلًا فَارَقَتْهُ . فَوَلَدَتْ لِهَاشِمِ عَبْدَ الْمُطّلِبِ ، فَسَمّتْهُ شَيْبَةَ فَتَرَكَهُ هَاشِمٌ عِنْدَهَا حَتّى كَانَ وَصِيفًا ، أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ ثُمّ خَرَجَ إلَيْهِ عَمّهُ الْمُطّلِبُ لِيَقْبِضَهُ فَيُلْحِقَهُ بِبَلَدِهِ وَقَوْمِهِ فَقَالَتْ لَهُ سَلْمَى : لَسْت بِمُرْسِلَتِهِ مَعَك ، فَقَالَ لَهَا الْمُطّلِبُ إنّي غَيْرُ مُنْصَرِفٍ حَتّى أَخْرُجَ بِهِ مَعِي ، إنّ ابْنَ أَخِي قَدْ بَلَغَ وَهُوَ غَرِيبٌ فِي غَيْرِ قَوْمِهِ وَنَحْنُ أَهْلُ بَيْتِ شَرَفٍ فِي قَوْمِنَا ، نَلِي كَثِيرًا مِنْ أَمْرِهِمْ وَقَوْمُهُ وَبَلَدُهُ وَعَشِيرَتُهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ الْإِقَامَةِ فِي غَيْرِهِمْ أَوْ كَمَا قَالَ . وَقَالَ شَيْبَةُ لِعَمّهِ الْمُطّلِبِ - فِيمَا يَزْعُمُونَ - لَسْت بِمُفَارِقِهَا إلّا أَنْ تَأْذَنَ لِي ، فَأَذِنَتْ لَهُ وَدَفَعَتْهُ إلَيْهِ فَاحْتَمَلَهُ فَدَخَلَ بِهِ مَكّةَ مُرْدِفَهُ مَعَهُ عَلَى بَعِيرِهِ فَقَالَتْ قُرَيْشٌ : عَبْدُ الْمُطّلِبِ ابْتَاعَهُ فَبِهَا سُمّيَ شَيْبَةُ عَبْدَ الْمُطّلِبِ . فَقَالَ الْمُطّلِبُ وَيْحَكُمْ إنّمَا هُوَ ابْنُ أَخِي هَاشِمٍ قَدِمْت بِهِ مِنْ الْمَدِينَةِ .Sعَبْدُ الْمُطّلِبِ وَابْنُ ذِي يَزَنَ فَصْلٌ وَذَكَرَ نِكَاحَ هَاشِمٍ سَلْمَى بِنْتَ عَمْرٍو النّجّارِيّةَ وَوِلَادَتَهَا لَهُ عَبْدَ الْمُطّلِبِ بْنَ هَاشِمٍ ، وَمِنْ أَجْلِ هَذِهِ الْوِلَادَةِ قَالَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ أَوْ ابْنُهُ مَعْدِي كَرِبَ بْنُ سَيْفٍ مَلِكُ الْيَمَنِ لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ حِينَ وَفَدَ عَلَيْهِ رَكْبٌ مِنْ قُرَيْشٍ : مَرْحَبًا بِابْنِ أُخْتِنَا ، لِأَنّ سَلْمَى مِنْ الْخَزْرَجِ ، وَهُمْ مِنْ الْيَمَنِ مِنْ سَبَأٍ ، وَسَيْفٌ مِنْ حِمْيَرَ بْنِ سَبَأٍ ، ثُمّ قَالَ لَهُ مَرْحَبًا وَأَهْلًا ، وَنَاقَةً وَرَحْلًا ، وَمُلْكًا سِبَحْلًا ، يُعْطِي عَطَاءً جَزْلًا . ثُمّ بَشّرَهُ بِالنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأَنّهُ مِنْ وَلَدِهِ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطّلِبِ : مِثْلُك أَيّهَا الْمَلِكُ سِرّ وَبِرّ ، ثُمّ أَجْزَلَ الْمَلِكُ حِبَاءَهُ وَفَضّلَهُ عَلَى أَصْحَابِهِ وَانْصَرَفَ مَغْبُوطًا عَلَى مَا أَعْطَاهُ الْمَلِكُ فَقَالَ وَاَللّهِ لَمَا بَشّرَنِي بِهِ أَحَبّ إلَيّ مِنْ كُلّ مَا أَعْطَانِي . فِي خَبَرٍ فِيهِ طُولٌ . [ ص 251 ] أُحَيْحَةَ وَذَكَرَ نَسَبَ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ بْنِ الْحَرِيشِ بْنِ جَحْجَبَى ، وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هُوَ الْحَرِيسُ يَعْنِي . بِالسّينِ الْمُهْمَلَةِ - وَقَالَ الدّارَقُطْنِيّ عَنْ الزّبَيْرِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ إنّ كُلّ مَا فِي الْأَنْصَارِ فَهُوَ حَرِيسٌ بِالسّينِ غَيْرَ مُعْجَمَةٍ إلّا هَذَا ، وَوَجَدْت فِي حَاشِيَةِ كِتَابِ أَبِي بَحْرٍ - رَحِمَهُ اللّهُ - صَوَابَ هَذَا الِاسْمِ يَعْنِي فِي نَسَبِ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ بْنِ الْحَرِيشِ بِالشّينِ الْمُعْجَمَةِ عَلَى لَفْظِ الْحَرِيشِ بْنِ كَعْبٍ الْبَطْنِ الّذِي فِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ .

ثُمّ هَلَكَ الْمُطّلِبُ بِرَدْمَانَ مِنْ أَرْضِ الْيَمَنِ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ يَبْكِيهِ
قَدْ ظَمِئَ الْحَجِيجُ بَعْدَ الْمُطّلِبْ ... بَعْدَ الْجِفَانِ وَالشّرَابِ المُنْثَعِبْ
لَيْتَ قُرَيْشًا بَعْدَهُ عَلَى نَصَبْ وَقَالَ مَطْرُودُ بْنُ كَعْبٍ الْخُزَاعِيّ ، يَبْكِي الْمُطّلِبَ وَبَنِيّ عَبْدِ مَنَافٍ جَمِيعًا حِينَ أَتَاهُ نَعْيُ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَكَانَ نَوْفَلٌ آخِرَهُمْ هُلْكًا : [ ص 252 ]
يَا لَيْلَةً هَيّجْت لَيْلَاتِي ... إحْدَى لَيَالِيّ الْقَسِيّاتِ
وَمَا أُقَاسِي مِنْ هُمُومٍ وَمَا ... عَالَجْت مِنْ رُزْءِ الْمَنِيّاتِ
إذَا تَذَكّرْت أَخِي نَوْفَلًا ... ذَكّرَنِي بِالْأَوّلِيّاتِ
ذَكّرَنِي بِالْأُزُرِ الْحُمْرِ وَاَلْ ... أَرْدِيَةِ الصّفْرِ الْقَشِيبَاتِ
أَرْبَعَةٌ كُلّهُمْ سَيّدٌ ... أَبْنَاءُ سَادَاتٍ لِسَادَاتِ
مَيْتٌ بِرَدْمَانَ وَمَيْتٌ بِسَلْ ... مَانَ وَمَيْتٌ بَيْنَ غَزّاتِ
وَمَيْتٌ أُسْكِنَ لَحْدًا لَدَى الْ ... مَحْجُوبِ شَرْقِيّ الْبَنِيّاتِ
أَخْلَصُهُمْ عَبْدُ مَنَافٍ فَهُمْ ... مِنْ لَوْمِ مَنْ لَامَ بِمَنْجَاةِ
إنّ الْمُغِيرَاتِ وَأَبْنَاءَهَا ... مِنْ خَيْرِ أَحْيَاءٍ وَأَمْوَاتِ
[ ص 253 ] وَكَانَ اسْمُ عَبْدِ مَنَافٍ الْمُغِيرَةُ وَكَانَ أَوّلَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ هُلْكًا : هَاشِمٌ بِغَزّةَ مِنْ أَرْضِ الشّامِ ، ثُمّ عَبْدُ شَمْسٍ بِمَكّةَ ثُمّ الْمُطّلِبُ بِرَدْمَانَ مِنْ أَرْضِ الْيَمَنِ ، ثُمّ نَوْفَلٌ بِسَلْمَانَ مِنْ نَاحِيَةِ الْعِرَاقِ . فَقِيلَ لِمَطْرُودِ - فِيمَا يَزْعُمُونَ - لَقَدْ قُلْت فَأَحْسَنْت ، وَلَوْ كَانَ أَفْحَلَ مِمّا قُلْت كَانَ أَحْسَنَ فَقَالَ أَنْظِرْنِي لَيَالِيَ فَمَكَثَ أَيّامًا ، ثُمّ قَالَ [ ص 254 ] [ ص 255 ]
يَا عَيْنُ جُودِي ، وَأَذْرِي الدّمْعَ وَانْهَمِرِي ... وَابْكِي عَلَى السّرّ مِنْ كَعْبِ الْمُغِيرَاتِ
يَا عَيْنُ وَاسْحَنْفِرِي بِالدّمْعِ وَاحْتَفِلِي ... وَابْكِي خَبِيئَةَ نَفْسِي فِي الْمُلِمّاتِ
وَابْكِي عَلَى كُلّ فَيّاضٍ أَخِي ثِقَةٍ ... ضَخْمِ الدّسِيّةِ وَهّابِ الْجَزِيلَاتِ
مَحْضِ الضّرِيبَةِ عَالِي الْهَمّ مُخْتَلَقٍ ... جَلْدِ النّحِيزَةِ نَاءٍ بِالْعَظِيمَاتِ
صَعْبِ الْبَدِيهَةِ لَا نُكْسٌ وَلَا وَكَلٌ ... مَاضِي الْعَزِيمَةِ مِتْلَافِ الْكَرِيمَاتِ
صَقْرٍ تَوَسّطَ مِنْ كَعْبٍ إذَا نُسِبُوا ... بُحْبُوحَةَ الْمَجْدِ وَالشّمّ الرّفِيعَاتِ
ثُمّ اُنْدُبِي الْفَيْضَ وَالْفَيّاضَ مُطّلِبًا ... وَاسْتَخْرِطِي بَعْدَ فَيْضَاتٍ بِجَمّاتِ
أَمْسَى بِرَدْمَانَ عَنّا الْيَوْمَ مُغْتَرِبًا ... يَا لَهْفَ نَفْسِي عَلَيْهِ بَيْنَ أَمْوَاتِ
وَابْكِي - لَكِ الْوَيْلُ - إمّا كُنْت بَاكِيَةً ... لِعَبْدِ شَمْسٍ بِشَرْقِيّ الْبَنِيّاتِ
وَهَاشِمٍ فِي ضَرِيحٍ وَسْطَ بَلْقَعَةٍ ... تَسْفِي الرّيَاحَ عَلَيْهِ بَيْنَ غَزّاتِ
وَنَوْفَلٍ كَانَ دُونَ الْقَوْمِ خَالِصَتِي ... أَمْسَى بِسَلْمَانَ فِي رَمْسٍ بِمَوْمَاةِ
لَمْ أَلْقَ مِثْلَهُمْ عُجْمًا وَلَا عَرَبًا ... إذَا اسْتَقَلّتْ بِهِمْ أُدْمُ الْمَطِيّاتِ
أَمْسَتْ دِيَارُهُمْ مِنْهُمْ مُعَطّلَةً ... وَقَدْ يَكُونُونَ زَيْنًا فِي السّرِيّاتِ
أَفْنَاهُمْ الدّهْرُ أَمْ كَلّتْ سُيُوفُهُمْ ... أَمْ كُلّ مَنْ عَاشَ أَزْوَادُ الْمَنِيّاتِ
أَصْبَحْت أَرْضَى مِنْ الْأَقْوَامِ بَعْدَهُمْ ... بَسْطَ الْوُجُوهِ وَإِلْقَاءَ التّحِيّاتِ
يَا عَيْنُ فَابْكِي أَبَا الشّعْثِ الشّجِيّاتِ ... يَبْكِينَهُ حُسّرًا مِثْلَ الْبَلِيّاتِ
يَبْكِينَ أَكْرَمَ مَنْ يَمْشِي عَلَى قَدَمٍ ... يُعْوِلْنَهُ بِدُمُوعِ بَعْدَ عَبَرَاتِ
يَبْكِينَ شَخْصًا طَوِيلَ الْبَاعِ ذَا فَجَرٍ ... آبِي الْهَضِيمَةِ فَرّاجَ الْجَلِيلَاتِ
يَبْكِينَ عَمْرَو الْعُلَا إذْ حَانَ مَصْرَعُهُ ... سَمْحَ السّجِيّةِ بَسّامَ الْعَشِيّاتِ
يَبْكِينَهُ مُسْتَكِينَاتٍ عَلَى حَزَنٍ ... يَا طُولَ ذَلِكَ مِنْ حُزْنٍ وَعَوْلَاتِ
يَبْكِينَ لَمّا جَلَاهُنّ الزّمَانُ لَهُ ... خُضْرَ الْخُدُودِ كَأَمْثَالِ الْحَمِيّاتِ
مُحْتَزِمَاتٍ عَلَى أَوْسَاطِهِنّ لِمَا ... جَرّ الزّمَانُ مِنْ إحداث الْمُصِيبَاتِ
أَبِيت لَيْلِي أُرَاعِي النّجْمَ مِنْ أَلَمٍ ... أَبْكِي ، وَتَبْكِي مَعِي شَجْوِي بُنَيّاتِي
مَا فِي الْقُرُومِ لَهُمْ عِدْلٌ وَلَا خَطَرٌ ... وَلَا لِمَنْ تَرَكُوا شَرْوَى بَقِيّاتِ
أَبْنَاؤُهُمْ خَيْرُ أَبْنَاءٍ وَأَنْفُسُهُمْ ... خَيْرُ النّفُوسِ لَدَى جَهْدِ الْأَلِيّاتِ
كَمْ وَهَبُوا مِنْ طِمِرّ سَابِحٍ أَرِنٍ ... وَمِنْ طِمِرّةِ نَهْبٍ فِي طِمِرّاتِ
وَمِنْ سُيُوفٍ مِنْ الْهِنْدِيّ مُخْلَصَةٍ ... وَمِنْ رِمَاحٍ كَأَشْطَانِ الرّكِيّاتِ
وَمِنْ تَوَابِعَ مِمّا يُفْضِلُونَ بِهَا ... عِنْدَ الْمَسَائِلِ مِنْ بَذْلِ الْعَطِيّاتِ
فَلَوْ حَسَبْت وَأَحْصَى الْحَاسِبُونَ مَعِي ... لَمْ أَقْضِ أَفْعَالَهُمْ تِلْكَ الْهَنِيّاتِ
هُمْ الْمُدِلّونَ إمّا مَعْشَرٌ فَخَرُوا ... عِنْدَ الْفَخَارِ بِأَنْسَابِ نَقِيّاتِ
زَيْنُ الْبُيُوتِ الّتِي خَلّوْا مَسَاكِنَهَا ... فَأَصْبَحَتْ مِنْهُمْ وَحْشًا خَلِيّاتِ
أَقُولُ وَالْعَيْنُ لَا تَرْقَا مَدَامِعُهَا : ... لَا يُبْعِدُ اللّهُ أَصْحَابَ الرّزِيّاتِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْفَجَرُ الْعَطَاءُ قَالَ أَبُو خِرَاشٍ الْهُذَلِيّ :
عَجّفَ أَضْيَافِي جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ ... بِذِي فَجَرٍ تَأْوِي إلَيْهِ الْأَرَامِلُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : أَبُو الشّعْثِ الشّجِيّاتِ هَاشِمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ .
Sفَصْلٌ وَأَنْشَدَ لِمَطْرُودِ بْنِ كَعْبٍ
يَا لَيْلَةً هَيّجْت لَيْلَاتِي ... إحْدَى لَيَالِيّ الْقَسِيّاتِ
[ ص 252 ] أَنْتِ إحْدَى لَيَالِيّ الْقَسِيّاتِ . فَعِيلَاتٌ مِنْ الْقَسْوَةِ أَيْ لَا لِينَ عِنْدَهُنّ وَلَا رَأْفَةَ فِيهِنّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ مِنْ الدّرْهَمِ الْقَسِيّ وَهُوَ الزّائِفُ وَقَدْ قِيلَ فِي الدّرْهَمِ الْقَسِيّ إنّهُ أَعْجَمِيّ مُعَرّبٌ وَقِيلَ هُوَ مِنْ الْقَسَاوَةِ لِأَنّ الدّرْهَمَ الطّيّبَ أَلْيَنُ مِنْ الزّائِفِ وَالزّائِفُ أَصْلَبُ مِنْهُ . وَنَصَبَ لَيْلَةً عَلَى التّمْيِيزِ كَذَلِكَ قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِ الصّلَتَانِ الْعَبْدِيّ أَيَا شَاعِرًا لَا شَاعِرَ الْيَوْمَ مِثْلُهُ
وَذَلِكَ أَنّ فِي الْكَلَامِ مَعْنَى التّعَجّبِ . وَقَوْلُهُ وَمَيْتٌ بِغَزّاتِ . هِيَ غَزّةُ ، وَلَكِنّهُمْ يَجْعَلُونَ لِكُلّ نَاحِيَةٍ أَوْ لِكُلّ رَبَضٍ مِنْ الْبَلْدَةِ اسْمَ الْبَلْدَةِ فَيَقُولُونَ غَزّاتٍ فِي غَزّةَ ، وَيَقُولُونَ فِي بَغْدَانَ بَغَادِينَ ، كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَدّثِينَ
شَرِبْنَا فِي بَغَادِينَ ... عَلَى تِلْكَ الْمَيَادِينِ
وَلِهَذَا نَظَائِرُ سَتَمُرّ فِي الْكِتَابِ - إنْ شَاءَ اللّهُ - وَمِنْ هَذَا الْبَابِ حُكْمُهُمْ لِلْبَعْضِ بِحُكْمِ الْكُلّ كَمَا سَمّوْهُ بِاسْمِهِ نَحْوُ قَوْلِهِمْ شَرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنْ الدّمِ وَذَهَبَتْ بَعْضُ أَصَابِعِهِ وَتَوَاضَعَتْ سُوَرُ الْمَدِينَةِ . وَقَدْ تَرَكّبَتْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ مَسْأَلَةٌ مِنْ الْفِقْهِ قَالَ الْفُقَهَاءُ أَوْ أَكْثَرُهُمْ مَنْ حَلَفَ أَلّا يَأْكُلَ هَذَا الرّغِيفَ فَأَكَلَ بَعْضَهُ فَقَدْ حَنِثَ فَحَكَمُوا لِلْبَعْضِ بِحُكْمِ الْكُلّ وَأَطْلَقُوا عَلَيْهِ اسْمَهُ . وَفِيهِ
إنّ الْمُغِيرَاتِ وَأَبْنَاءَهَا ... مِنْ خَيْرِ أَحْيَاءٍ وَأَمْوَاتِ
[ ص 253 ] فَالْمُغِيرَاتُ بَنُو الْمُغِيرَةِ ، وَهُوَ عَبْدُ مَنَافٍ كَمَا قَالُوا : الْمَنَاذِرَةُ فِي بَنِي الْمُنْذِرِ وَالْأَشْعَرُونَ فِي بَنِي أَشْعَرَ بْنِ أُدَدَ كَمَا قَالَ عَلِيّ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ فِي ابْنِ الزّبَيْرِ آثَرَ عَلَيّ الْحُمَيْدَاتِ وَالتّوَيْتَاتِ وَالْأُسَامَاتِ يَعْنِي : بَنِي حُمَيْدٍ وَبَنِيّ تُوَيْتٍ وَبَنِيّ أُسَامَةَ وَهُمْ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى . وَأَنْشَدَ لَهُ فِي الْقَصِيدَةِ التّاوِيّةِ مَحْضِ الضّرِيبَةِ ، عَالِي الْهَمّ مُخْتَلَقٍ أَيْ عَظِيمِ الْخَلْقِ جَلْدِ النّحِيزَةِ نَاءٍ بِالْعَظِيمَاتِ . لَيْسَ قَوْلُهُ نَاءٍ مِنْ النّأْيِ فَتَكُونَ الْهَمْزَةُ فِيهِ عَيْنَ الْفِعْلِ وَإِنّمَا هُوَ مِنْ نَاءَ يَنُوءُ إذَا نَهَضَ فَالْهَمْزَةُ فِيهِ لَامُ الْفِعْلِ كَمَا هُوَ فِي جَاءَ عِنْدَ الْخَلِيلِ فَإِنّهُ عِنْدَهُ مَقْلُوبٌ وَوَزْنُهُ فَالِعٌ وَالْيَاءُ الّتِي بَعْدَ الْهَمْزَةِ هِيَ عَيْنُ الْفِعْلِ فِي جَاءَ يَجِيءُ . [ ص 254 ] [ ص 255 ] الْبَنِيّاتِ " يَعْنِي : الْبَنِيّةَ وَهِيَ الْكَعْبَةُ ، وَهُوَ نَحْوٌ مِمّا تَقَدّمَ فِي غَزّاتٍ . وَفِيهِ الشّعْثُ الشّجِيّاتُ . فَشَدّدَ يَاءَ الشّجِيّ وَإِنْ كَانَ أَهْلَ اللّغَةِ قَدْ قَالُوا : يَاءُ الشّجِي مُخَفّفَةٌ وَيَاءُ الْخَلِيّ مُشَدّدَةٌ وَقَدْ اعْتَرَضَ ابْنُ قُتَيْبَةَ عَلَى أَبِي تَمّامٍ الطّائِيّ فِي قَوْلِهِ
أَيَا وَيْحَ الشّجِيّ مِنْ الْخَلِيّ ... وَوَيْحَ الدّمْعِ مِنْ إحْدَى بَلِيّ
وَاحْتَجّ بِقَوْلِ يَعْقُوبَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ الطّائِيّ : وَمَنْ أَفْصَحُ عِنْدَك : ابْنُ الجُرْمُقَانِيّةِ يَعْقُوبُ أَمْ أَبُو الْأَسْوَدِ الدّؤَلِيّ حَيْثُ يَقُولُ ؟
وَيْلُ الشّجِيّ مِنْ الْخَلِيّ فَإِنّهُ ... وَصِبُ الْفُؤَادِ بِشَجْوِهِ مَغْمُومُ
قَالَ الْمُؤَلّفُ وَبَيْتُ مَطْرُودٍ أَقْوَى فِي الْحُجّةِ مِنْ بَيْتِ أَبِي الْأَسْوَدِ الدّؤَلِيّ لِأَنّهُ جَاهِلِيّ مُحَكّكٌ وَأَبُو الْأَسْوَدِ أَوّلُ مَنْ صَنَعَ النّحْوَ فَشِعْرُهُ قَرِيبٌ مِنْ التّوْلِيدِ وَلَا يَمْتَنِعُ فِي الْقِيَاسِ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ شَجِيّ وَشَجٍ لِأَنّهُ فِي مَعْنَى : حَزِنٌ وَحَزِينٌ وَقَدْ قِيلَ مَنْ شَدّدَ الْيَاءَ فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ . وَفِيهِ بُعْدٌ قَوْلُهُ أَبَا الشّعْثِ الشّجِيّاتِ . يَبْكِينَهُ حُسّرًا مِثْلَ الْبَلِيّاتِ . الْبَلِيّةُ النّاقَةُ الّتِي كَانَتْ تُعْقَلُ عِنْدَ قَبْرِ صَاحِبِهَا إذَا مَاتَ حَتّى تَمُوتَ جَوْعًا وَعَطَشًا ، وَيَقُولُونَ إنّهُ يُحْشَرُ رَاكِبًا [ ص 256 ] كَانَ مِنْهُمْ يَقُولُ بِالْبَعْثِ وَهُمْ الْأَقَلّ ، وَمِنْهُمْ زُهَيْرٌ فَإِنّهُ قَالَ
يُؤَخّرْ فَيُوضَعْ فِي كِتَابٍ فَيُدّخَرْ ... لِيَوْمِ الْحِسَابِ أَوْ يُعَجّلْ فَيُنْقَمْ
وَقَالَ الشّاعِرُ فِي الْبَلِيّةِ
وَالْبَلَايَا رُءُوسُهَا فِي الْوَلَايَا ... مَانِحَاتِ السّمُومِ حُرّ الْخُدُودِ
وَالْوَلَايَا : هِيَ الْبَرَاذِعُ وَكَانُوا يَثْقُبُونَ الْبَرْذَعَةَ فَيَجْعَلُونَهَا فِي عُنُقِ الْبَلِيّةِ وَهِيَ مَعْقُولَةٌ حَتّى تَمُوتَ وَأَوْصَى رَجُلٌ ابْنَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ بِهَذَا :
لَا تَتْرُكَنّ أَبَاك يُحْشَرُ مُرّةً ... عَدْوًا يَخِرّ عَلَى الْيَدَيْنِ وَيَنْكُبُ
فِي أَبْيَاتٍ ذَكَرَهَا الْخَطّابِيّ . وَقَوْلُهُ قِيَامًا كَالْحَمِيّاتِ . أَيْ مُخْتَرِقَاتِ الْأَكْبَادِ كَالْبَقَرِ أَوْ الظّبَاءِ الّتِي حَمِيَتْ الْمَاءَ وَهِيَ عَاطِشَةٌ فَحَمِيّةٌ بِمَعْنَى : مَحْمِيّةٍ لَكِنّهَا جَاءَتْ بِالتّاءِ لِأَنّهَا أُجْرِيَتْ مَجْرَى الْأَسْمَاءِ كَالرّمِيّةِ وَالضّحِيّةِ وَالطّرِيدَةِ وَفِي مَعْنَى الْحَمِيّ قَوْلُ رُؤْبَةَ قَوَاطِنُ مَكّةَ مِنْ وُرْقِ الْحَمِيّ يُرِيدُ الْحَمَامَ الْمَحْمِيّ أَيْ الْمَمْنُوعَ . وَقَوْلُهُ فِي رَمْسٍ بِمَوْمَاةِ الْأَظْهَرُ فِيهِ أَنْ تَكُونَ الْمِيمُ أَصْلِيّةً وَيَكُونُ مِمّا ضُوعِفَتْ فَاؤُهُ وَعَيْنُهُ وَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَوْلَى لِكَثْرَتِهِ فِي الْكَلَامِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْمِيمِ أَنْ تَكُونَ زَائِدَةً إذَا كَانَتْ أَوّلَ الْكَلِمَةِ الرّبَاعِيّةِ أَوْ الْخُمَاسِيّةِ إلّا أَنْ يَمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ اشْتِقَاقٌ وَلَا اشْتِقَاقَ هَهُنَا ، أَوْ يَمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ دُخُولُهُ فِيمَا قَلّ مِنْ الْكَلَامِ نَحْوُ قَلِقَ وَسَلِسَ . قَالَ أَبُو عَلِيّ فِي الْمَرْمَرِ حَمْلُهُ عَلَى بَابِ قَرْقَرَ وَبَرْبَرَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى بَابِ قَلِقَ وَسَلِسَ يُرِيدُ إنّك إنْ جَعَلْت الْمِيمَ زَائِدَةً كَانَتْ فَاءَ الْفِعْلِ - وَهِيَ الرّاءُ - مُضَاعَفَةً دُونَ عَيْنِ الْفِعْلِ وَهِيَ الْمِيمُ وَإِذَا جَعَلْت الْمِيمَ الْأُولَى فِي مَرْمَرَ أَصْلِيّةً كَانَ مِنْ بَابِ مَا ضُوعِفَتْ فِيهِ الْفَاءُ وَالْعَيْنُ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ فِي الْمَرْمَرِ مَرّ وَهُوَ الْقِيَاسُ الْمُسْتَتِبّ ، وَالطّرِيقُ الْمَهِيعُ دُونَ مَا ضُوعِفَتْ فِيهِ الْفَاءُ وَحْدَهَا ، فَتَأَمّلْهُ . وَقَوْلُهُ طَوِيلَ الْبَاعِ ذَا فَجَرٍ . الْفَجَرُ الْجُودُ شُبّهَ بِانْفِجَارِ الْمَاءِ . وَيُرْوَى ذَا فَنَعٍ وَالْفَنَعُ كَثْرَةُ الْمَالِ وَقَدْ قَالَ أَبُو مِحْجَنٍ الثّقَفِيّ : [ ص 257 ]
وَقَدْ أَجُودُ وَمَا مَالِي بِذِي فَنَعٍ ... وَأَكْتُمُ السّرّ فِيهِ ضَرْبَةُ الْعُنُقِ
وَقَوْلُهُ بَسّامَ الْعَشِيّاتِ يَعْنِي : أَنّهُ يَضْحَكُ لِلْأَضْيَافِ وَيَبْسِمُ عِنْدَ لِقَائِهِمْ كَمَا قَالَ الْآخَرُ وَهُوَ حَاتِمٌ الطّائِيّ :
أُضَاحِكُ ضَيْفِي قَبْلَ إنْزَالِ رَحْلِهِ ... وَيَخْصِبُ عِنْدِي ، وَالْمَحَلّ جَدِيبُ
وَمَا الْخِصْبُ لِلْأَضْيَافِ أَنْ يَكْثُرَ الْقِرَى ... وَلَكِنّمَا وَجْهُ الْكَرِيمِ خَصِيبُ

قَالَ ثُمّ وَلِيَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ السّقَايَةَ وَالرّفَادَةَ بَعْدَ عَمّهِ الْمُطّلِبِ فَأَقَامَهَا لِلنّاسِ وَأَقَامَ لِقَوْمِهِ مَا كَانَ آبَاؤُهُ يُقِيمُونَ قَبْلَهُ لِقَوْمِهِمْ مِنْ أَمْرِهِمْ وَشَرُفَ فِي قَوْمِهِ شَرَفًا لَمْ يَبْلُغْهُ أَحَدٌ مِنْ آبَائِهِ وَأَحَبّهُ قَوْمُهُ وَعَظُمَ خَطَرُهُ فِيهِمْ . [ ص 256 ] [ ص 257 ]
ذَكَرَ حَفْرَ زَمْزَمَ وَمَا جَرَى مِنْ الْخُلْفِ
فِيهَا ثُمّ إنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ بَيْنَمَا هُوَ نَائِمٌ فِي الْحِجْرِ إذْ أُتِيَ فَأُمِرَ بِحَفْرِ زَمْزَمَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ أَوّلَ مَا اُبْتُدِئَ بِهِ عَبْدُ الْمُطّلِبِ مِنْ حَفْرِهَا ، كَمَا حَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ الْمِصْرِيّ عَنْ مَرْثَدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ الْيَزَنِيّ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ زُرَيْرٍ الْغَافِقِيّ : أَنّهُ سَمِعَ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ تَعَالَى عَنْهُ يُحَدّثُ حَدِيثَ زَمْزَمَ حِينَ أُمِرَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ بِحَفْرِهَا ، قَالَ قَالَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ : إنّي لَنَائِمٌ فِي الْحِجْرِ إذْ أَتَانِي آتٍ فَقَالَ احْفِرْ طِيبَةَ . قَالَ قُلْت : وَمَا طِيبَةُ ؟ قَالَ ثُمّ ذَهَبَ عَنّي . فَلَمّا كَانَ الْغَدُ رَجَعْت إلَى مَضْجَعِي فَنِمْت فِيهِ فَجَاءَنِي فَقَالَ احْفِرْ بَرّةَ . قَالَ فَقُلْت : وَمَا بَرّةُ ؟ قَالَ ثُمّ ذَهَبَ عَنّي ، فَلَمّا كَانَ الْغَدُ رَجَعْت إلَى مَضْجَعِي ، فَنِمْت فِيهِ فَجَاءَنِي فَقَالَ احْفِرْ الْمَضْنُونَةَ . قَالَ قُلْت : وَمَا الْمَضْنُونَةُ ؟ قَالَ ثُمّ ذَهَبَ عَنّي . فَلَمّا كَانَ الْغَدُ رَجَعْت إلَى مَضْجَعِي ، فَنِمْت فِيهِ فَجَاءَنِي فَقَالَ احْفِرْ زَمْزَمَ . قَالَ قُلْت : وَمَا زَمْزَمُ ؟ قَالَ لَا تَنْزِفُ أَبَدًا وَلَا تُذَمّ ، تَسْقِي الْحَجِيجَ الْأَعْظَمَ وَهِيَ بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدّمِ عِنْدَ نُقْرَةِ الْغُرَابِ الْأَعْصَمِ عِنْدَ قَرْيَةِ النّمْلِ . [ ص 258 ] [ ص 259 ] [ ص 260 ] [ ص 261 ]
Sحَدِيثُ زَمْزَمَ
وَكَانَتْ زَمْزَمُ - كَمَا تَقَدّمَ - سُقْيَا إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ فَجّرَهَا لَهُ رُوحُ الْقُدُسِ بِعَقِبِهِ وَفِي تَفْجِيرِهِ إيّاهَا بِالْعَقِبِ دُونَ أَنْ يُفَجّرَهَا بِالْيَدِ أَوْ غَيْرِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنّهَا لِعَقِبِهِ وِرَاثَةً وَهُوَ مُحَمّدٌ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأُمّتُهُ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } [ الزّخْرُفَ 43 ] . أَيْ فِي أُمّةِ مُحَمّدٍ - عَلَيْهِ السّلَامُ - ثُمّ إنّ زَمْزَمَ لَمّا أَحْدَثَتْ جُرْهُمٌ فِي الْحَرَمِ ، وَاسْتَخَفّوا بِالْمَنَاسِكِ وَالْحُرَمِ ، وَبَغَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَاجْتَرَمَ تَغَوّرَ مَاءُ زَمْزَمَ وَاكْتُتِمَ فَلَمّا أَخْرَجَ اللّهُ جُرْهُمًا مِنْ مَكّةَ بِالْأَسْبَابِ الّتِي تَقَدّمَ ذِكْرُهَا عَمَدَ الْحَارِثُ بْنُ مُضَاضٍ الْأَصْغَرُ إلَى مَا كَانَ عِنْدَهُ [ ص 258 ] مَالِ الْكَعْبَةِ ، وَفِيهِ غَزَالَانِ مِنْ ذَهَبٍ وَأَسْيَافٌ قَلْعِيّةٌ كَانَ سَاسَانُ مَلِكُ الْفُرْسِ قَدْ أَهْدَاهَا إلَى الْكَعْبَةِ ، وَقِيلَ سَابُورُ وَقَدْ قَدّمْنَا أَنّ الْأَوَائِلَ مِنْ مُلُوكِ الْفُرْسِ كَانَتْ تَحُجّهَا إلَى عَهْدِ سَاسَانَ أَوْ سَابُورَ فَلَمّا عَلِمَ ابْنُ مُضَاضٍ أَنّهُ مُخْرَجٌ مِنْهَا ، جَاءَ تَحْتَ جُنْحِ اللّيْلِ حَتّى دَفَنَ ذَلِكَ فِي زَمْزَمَ ، وَعَفّى عَلَيْهَا ، وَلَمْ تَزَلْ دَارِسَةً عَافِيًا أَثَرُهَا ، حَتّى آنَ مَوْلِدُ الْمُبَارَكِ الّذِي كَانَ يُسْتَسْقَى بِوَجْهِهِ غَيْثُ السّمَاءِ وَتَتَفَجّرُ مِنْ بَنَانِهِ يَنَابِيعُ الْمَاءِ صَاحِبُ الْكَوْثَرِ وَالْحَوْضِ الرّوَاءِ فَلَمّا آنَ ظُهُورُهُ أَذِنَ اللّهُ تَعَالَى لِسُقْيَا أَبِيهِ أَنْ تَظْهَرَ وَلِمَا انْدَفَنَ مِنْ مَائِهَا أَنْ تَجْتَهِرَ فَكَانَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَدْ سَقَتْ النّاسَ بَرَكَتُهُ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ وَسُقُوا بِدَعْوَتِهِ وَهُوَ طِفْلٌ حِينَ أَجْدَبَتْ الْبَلَدُ وَذَلِكَ حِينَ خَرَجَ بِهِ جَدّهُ مُسْتَسْقِيًا لِقُرَيْشِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ - فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللّهُ - وَسُقِيَتْ الْخَلِيقَةُ كُلّهَا غُيُوثَ السّمَاءِ فِي حَيَاتِهِ الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ وَالْمَرّةَ بَعْدَ الْمَرّةِ ، وَتَارَةً بِدُعَائِهِ وَتَارَةً مِنْ بَنَانِهِ وَتَارَةً بِإِلْقَاءِ سَهْمِهِ ثُمّ بَعْدَ مَوْتِهِ - عَلَيْهِ السّلَامُ - اسْتَشْفَعَ عُمَرُ بِعَمّهِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا - عَامَ الرّمَادَةِ . وَأَقْسَمَ عَلَيْهِ بِهِ وَبِنَبِيّهِ فَلَمْ يَبْرَحْ حَتّى قَلَصُوا لِمَازِرٍ وَاعْتَلَقُوا الْحِذَاءَ وَخَاضُوا الْغُدْرَانَ وَسَمِعَتْ الرّفَاقُ الْمُقْبِلَةُ إلَى الْمَدِينَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ صَائِحًا يَصِيحُ فِي السّحَابِ أَتَاك الْغَوْثُ أَبَا حَفْصٍ أَتَاك الْغَوْثُ أَبَا حَفْصٍ كُلّ هَذَا بِبَرَكَةِ الْمُبْتَعَثِ بِالرّحْمَتَيْنِ وَالدّاعِي إلَى الْحَيَاتَيْنِ الْمَوْعُودِ بِهِمَا عَلَى يَدَيْهِ فِي الدّارَيْنِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - صَلَاةً تَصْعَدُ وَلَا تَنْفَدُ وَتَتّصِلُ وَلَا تَنْفَصِلُ وَتُقِيمُ وَلَا تَرِيمُ ، إنّهُ مُنْعِمٌ كَرِيمٌ .
أَسْمَاءُ زَمْزَمَ
فَصْلٌ فَأُرِيَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ فِي مَنَامِهِ أَنْ احْفِرْ طِيبَةَ ، فَسُمّيَتْ طِيبَةَ ، لِأَنّهَا لِلطّيّبِينَ وَالطّيّبَاتِ مِنْ وَلَدِ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِمَا السّلَامُ - وَقِيلَ لَهُ احْتَفِرْ بَرّةَ وَهُوَ اسْمٌ صَادِقٌ عَلَيْهَا أَيْضًا ، لِأَنّهَا فَاضَتْ لِلْأَبْرَارِ وَغَاضَتْ عَنْ الْفُجّارِ وَقِيلَ لَهُ احْفِرْ الْمَضْنُونَةَ . قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبّهٍ : سُمّيَتْ زَمْزَمُ : الْمَضْنُونَةَ لِأَنّهَا ضُنّ بِهَا عَلَى غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا يَتَضَلّعُ مِنْهَا [ ص 259 ] الدّارَقُطْنِيّ مَا يُقَوّي ذَلِكَ مُسْنَدًا عَنْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَنْ شَرِبَ مِنْ زَمْزَمَ فَلْيَتَضَلّعْ فَإِنّهُ فَرْقُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَتَضَلّعُوا مِنْهَا أَوْ كَمَا قَالَ . وَفِي تَسْمِيَتِهَا بِالْمَضْنُونَةِ رِوَايَةٌ أُخْرَى ، رَوَاهَا الزّبَيْرُ أَنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ قِيلَ لَهُ احْفِرْ الْمَضْنُونَةَ ضَنِنْت بِهَا عَلَى النّاسِ إلّا عَلَيْك ، أَوْ كَمَا قَالَ .
الْعَلَامَاتُ الّتِي رَآهَا عَبْدُ الْمُطّلِبِ وَتَأْوِيلُهَا
وَدُلّ عَلَيْهَا بِعَلَامَاتِ ثَلَاثٍ بِنُقْرَةِ الْغُرَابِ الْأَعْصَمِ وَأَنّهَا بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدّمِ وَعِنْدَ قَرْيَةِ النّمْلِ ، وَيُرْوَى أَنّهُ لَمّا قَامَ لِيَحْفِرَهَا رَأَى مَا رُسِمَ مِنْ قَرْيَةِ النّمْلِ وَنُقْرَةِ الْغُرَابِ وَلَمْ يَرَ الْفَرْثَ وَالدّمَ فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ نَدّتْ بَقَرَةٌ بِجَازِرِهَا ، فَلَمْ يُدْرِكْهَا ، حَتّى دَخَلَتْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ ، فَنَحَرَهَا فِي الْمَوْضِعِ الّذِي رُسِمَ لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ فَسَالَ هُنَاكَ الْفَرْثُ وَالدّمُ فَحَفَرَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ حَيْثُ رُسِمَ لَهُ . وَلَمْ تُخَصّ هَذِهِ الْعَلَامَاتُ الثّلَاثُ بِأَنْ تَكُونَ دَلِيلًا عَلَيْهَا إلّا لِحِكْمَةِ إلَهِيّةٍ وَفَائِدَةٍ مُشَاكِلَةٍ فِي عِلْمِ التّعْبِيرِ وَالتّوَسّمُ الصّادِقُ لِمَعْنَى زَمْزَمَ وَمَائِهَا . أَمَا الْفَرْثُ وَالدّمُ فَإِنّ مَاءَهَا طَعَامُ طُعْمٍ وَشِفَاءُ سُقْمٍ وَهِيَ لِمَا شُرِبَتْ لَهُ وَقَدْ تَقَوّتَ مِنْ مَائِهَا أَبُو ذَرّ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - ثَلَاثِينَ بَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَسَمِنَ حَتّى تَكَسّرَتْ عُكَنُهُ [ وَمَا وُجِدَ عَلَى كَبِدِهِ سَخْفَةُ جُوعٍ ] فَهِيَ إذًا كَمَا قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي اللّبَنِ إذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ اللّبَنَ فَلْيَقُلْ اللّهُمّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ وَزِدْنَا مِنْهُ فَإِنّهُ لَيْسَ شَيْءٌ يَسُدّ مَسَدّ الطّعَامِ وَالشّرَابِ إلّا اللّبَنُ وَقَدْ [ ص 260 ] قَالَ اللّهُ تَعَالَى فِي اللّبَنِ { مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشّارِبِينَ } [ النّحْلَ 66 ] . فَظَهَرَتْ هَذِهِ السّقْيَا الْمُبَارَكَةُ بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدّمِ وَكَانَتْ تِلْكَ مِنْ دَلَائِلِهَا الْمُشَاكِلَةِ لِمَعْنَاهَا . وَأَمّا قَوْلُهُ الْغُرَابِ الْأَعْصَمِ قَالَ الْقُتَبِيّ : الْأَعْصَمُ مِنْ الْغِرْبَانِ الّذِي فِي جَنَاحَيْهِ بَيَاضٌ وَحَمَلَ عَلَى أَبِي عُبَيْدٍ لِقَوْلِهِ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الْأَعْصَمُ الّذِي فِي يَدَيْهِ بَيَاضٌ وَقَالَ كَيْفَ يَكُونُ لِلْغُرَابِ يَدَانِ ؟ . وَإِنّمَا أَرَادَ أَبُو عُبَيْدٍ أَنّ هَذَا الْوَصْفَ لِذَوَاتِ الْأَرْبَعِ وَلِذَلِكَ قَالَ إنّ هَذَا الْوَصْفَ فِي الْغِرْبَانِ عَزِيزٌ وَكَأَنّهُ ذَهَبَ إلَى الّذِي أَرَادَ ابْنُ قُتَيْبَةَ مِنْ بَيَاضِ الْجَنَاحَيْنِ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَقَالَ إنّهُ فِي الْغِرْبَانِ مُحَالٌ لَا يُتَصَوّرُ . وَفِي مُسْنَدِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَا يُغْنِي عَنْ قَوْلَيْهِمَا ، وَفِيهِ الشّفَاءُ أَنّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الْمَرْأَةُ الصّالِحَةُ فِي النّسَاءِ كَالْغُرَابِ الْأَعْصَمِ . قِيلَ يَا رَسُولَ اللّهِ وَمَا الْغُرَابُ الْأَعْصَمُ ؟ قَالَ الّذِي إحْدَى رِجْلَيْهِ بَيْضَاءُ فَالْغُرَابُ فِي التّأْوِيلِ فَاسِقٌ وَهُوَ أَسْوَدُ فَدَلّتْ نُقْرَتُهُ عِنْدَ الْكَعْبَةِ عَلَى نُقْرَةِ الْأَسْوَدِ الْحَبَشِيّ بِمِعْوَلِهِ فِي أَسَاسِ الْكَعْبَةِ يَهْدِمُهَا فِي آخِرِ الزّمَانِ فَكَانَ نَقْرُ الْغُرَابِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ يُؤْذِنُ بِمَا يَفْعَلُهُ الْفَاسِقُ الْأَسْوَدُ فِي آخِرِ الزّمَانِ بِقِبْلَةِ الرّحْمَنِ وَسُقْيَا أَهْلِ الْإِيمَانِ وَذَلِكَ عِنْدَمَا يُرْفَعُ الْقُرْآنُ وَتُحْيَا عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ وَفِي الصّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَيُخَرّبَنّ الْكَعْبَةَ ذُو السّوَيْقَتَيْنِ مِنْ الْحَبَشَةِ وَفِي الصّحِيحِ أَيْضًا مِنْ صِفَتِهِ أَنّهُ [ أَسْوَدُ ] أَفْحَجُ [ يَقْلَعُهَا حَجَرًا حَجَرًا ] وَهَذَا أَيْضًا يَنْظُرُ إلَى كَوْنِ الْغُرَابِ أَعْصَمَ إذْ الْفَحَجُ تَبَاعُدٌ فِي الرّجْلَيْنِ كَمَا أَنّ الْعَصَمَ اخْتِلَافٌ فِيهِمَا ، وَالِاخْتِلَافُ تَبَاعُدٌ وَقَدْ عُرِفَ بِذِي السّوَيْقَتَيْنِ كَمَا نُعِتَ الْغُرَابُ بِصِفَةِ فِي سَاقَيْهِ فَتَأَمّلْهُ وَهَذَا مِنْ خَفِيّ عِلْمِ التّأْوِيلِ لِأَنّهَا كَانَتْ رُؤْيَا ، وَإِنْ شِئْت : كَانَ مِنْ بَابِ الزّجْرِ وَالتّوَسّمِ الصّادِقِ وَالِاعْتِبَارِ وَالتّفْكِيرِ فِي مَعَالِمِ حِكْمَةِ - اللّهِ تَعَالَى - فَهَذَا سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيّبِ ، وَهُوَ مَنْ هُوَ عِلْمًا وَوَرَعًا حِينَ حُدّثَ بِحَدِيثِ الْبِئْرِ فِي الْبُسْتَانِ وَأَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَعَدَ عَلَى قُفّهَا ، وَدَلّى رِجْلَيْهِ فِيهَا ، ثُمّ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمّ جَاءَ عُمَرُ - رَضِيَ اللّه عَنْهُ - فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمّ جَاءَ عُثْمَانُ فَانْتَبَذَ مِنْهُمْ نَاحِيَةً وَقَعَدَ حَجْرَةً . قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيّبِ : فَأَوّلْت ذَلِكَ قُبُورَهُمْ اجْتَمَعَتْ قُبُورُ الثّلَاثَةِ وَانْفَرَدَ قَبْرُ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - وَاَللّهُ سُبْحَانَهُ [ ص 261 ] { إِنّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسّمِينَ } [ الْحِجْرَ : 75 ] . فَهَذَا مِنْ التّوَسّمِ وَالْفِرَاسَةِ الصّادِقَةِ وَإِعْمَالِ الْفِكْرِ فِي دَلَائِلِ الْحِكْمَةِ وَاسْتِنْبَاطِ الْفَوَائِدِ اللّطِيفَةِ مِنْ إشَارَاتِ الشّرِيعَةِ . وَأَمّا قَرْيَةُ النّمْلِ ، فَفِيهَا مِنْ الْمُشَاكَلَةِ أَيْضًا ، وَالْمُنَاسَبَةِ أَنّ زَمْزَمَ هِيَ عَيْنُ مَكّةَ الّتِي يَرِدُهَا الْحَجِيجُ وَالْعُمّارُ مِنْ كُلّ جَانِبٍ فَيَحْمِلُونَ إلَيْهَا الْبُرّ وَالشّعِيرَ وَغَيْرَ ذَلِكَ وَهِيَ لَا تَحْرُثُ وَلَا تَزْرَعُ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ خَبَرًا عَنْ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ { رَبّنَا إِنّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرّيّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ } إلَى قَوْلِهِ { وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثّمَرَاتِ لَعَلّهُمْ يَشْكُرُونَ } [ إبْرَاهِيمَ 37 ] وَقَرْيَةُ النّمْلِ لَا تَحْرُثُ وَلَا تَبْذُرُ وَتَجْلِبُ الْحُبُوبَ إلَى قَرْيَتِهَا مِنْ كُلّ جَانِبٍ وَفِي مَكّةَ قَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ { وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلّ مَكَانٍ } [ النّحْلَ 112 ] . مَعَ أَنّ لَفْظَ قَرْيَةِ النّمْلِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَرَيْت الْمَاءَ فِي الْحَوْضِ إذَا جَمَعْته ، وَالرّؤْيَا تُعَبّرُ عَلَى اللّفْظِ تَارَةً وَعَلَى الْمَعْنَى أُخْرَى ، فَقَدْ اجْتَمَعَ اللّفْظُ وَالْمَعْنَى فِي هَذَا التّأْوِيلِ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
مِنْ صِفَاتِ زَمْزَمَ
وَقَدْ قِيلَ لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ فِي صِفَةِ زَمْزَمَ : لَا تَنْزِفُ أَبَدًا ، وَلَا تُذَمّ ، وَهَذَا بُرْهَانٌ عَظِيمٌ لِأَنّهَا لَمْ تَنْزِفْ مِنْ ذَلِكَ الْحِينِ إلَى الْيَوْمِ قَطّ ، وَقَدْ وَقَعَ فِيهَا حَبَشِيّ فَنُزِحَتْ مِنْ أَجْلِهِ فَوَجَدُوا مَاءَهَا يَثُورُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَعْيُنٍ أَقْوَاهَا وَأَكْثَرُهَا مَاءً مِنْ نَاحِيَةِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ، وَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ الدّارَقُطْنِيّ . وَقَوْلُهُ وَلَا تُذَمّ ، فِيهِ نَظَرٌ وَلَيْسَ هُوَ عَلَى مَا يَبْدُو مِنْ ظَاهِرِ اللّفْظِ مِنْ أَنّهَا لَا يَذُمّهَا أَحَدٌ ، وَلَوْ كَانَ مِنْ الذّمّ لَكَانَ مَاؤُهَا أَعْذَبَ الْمِيَاهِ وَلَتَضَلّعَ مِنْهُ كُلّ مَنْ يَشْرَبُهُ وَقَدْ تَقَدّمَ فِي الْحَدِيثِ أَنّهُ لَا يَتَضَلّعُ مِنْهَا مُنَافِقٌ فَمَاؤُهَا إذًا مَذْمُومٌ عِنْدَهُمْ وَقَدْ كَانَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْقَسْرِيّ أَمِيرَ الْعِرَاقِ يَذُمّهَا ، وَيُسَمّيهَا : أُمّ جِعْلَانَ وَاحْتَفَرَ بِئْرًا خَارِجَ مَكّةَ بِاسْمِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَجَعَلَ يُفَضّلُهَا عَلَى زَمْزَمَ ، وَيَحْمِلُ النّاسَ عَلَى التّبَرّكِ بِهَا دُونَ زَمْزَمَ جُرْأَةً مِنْهُ عَلَى اللّهِ - عَزّ وَجَلّ - وَقِلّةَ حِيَاءٍ مِنْهُ وَهُوَ الّذِي يُعْلِنُ وَيُفْصِحُ بِلَعْنِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ - عَلَى الْمِنْبَرِ وَإِنّمَا ذَكَرْنَا هَذَا ، أَنّهَا قَدْ ذُمّتْ فَقَوْلُهُ إذًا : لَا تُذَمّ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ : بِئْرٌ ذَمّةٌ أَيْ قَلِيلَةُ الْمَاءِ فَهُوَ مِنْ أَذْمَمْتَ الْبِئْرَ إذَا وَجَدْتهَا ذَمّةً كَمَا تَقُولُ أَجْبَنْت الرّجُلَ إذَا وَجَدْته جَبَانًا ، وَأَكْذَبْته إذَا وَجَدْته كَاذِبًا ، [ ص 262 ] { فَإِنّهُمْ لَا يُكَذّبُونَكَ وَلَكِنّ الظّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ } [ الْأَنْعَامَ 33 ] وَقَدْ فَسّرَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ قَوْلَهُ حَتّى مَرَرْنَا بِبِئْرِ ذَمّةٍ . وَأَنْشَدَ مُخَيّسَةً خُزْرًا كَأَنّ عُيُونَهَا ذِمَامُ الرّكَايَا أَنْكَزَتْهَا الْمَوَاتِحُ فَهَذَا أَوْلَى مَا حُمِلَ عَلَيْهِ مَعْنَى قَوْلِهِ . وَلَا تُذَمّ ؛ لِأَنّهُ نَفْيٌ مُطْلَقٌ وَخَبَرٌ صَادِقٌ وَاَللّهُ أَعْلَمُ - وَحَدِيثُ الْبِئْرِ الذّمّةِ الّتِي ذَكَرَهَا أَبُو عُبَيْدٍ ، حَدّثَنَا بِهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيّ الْحَافِظُ قَالَ أَخْبَرَنَا الْقَاضِي أَبُو الْمُطَهّرِ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي الرّجَاءِ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ خَلّادٍ قَالَ حَدّثَنَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ . قَالَ حَدّثَنَا أَبُو النّضْرِ قَالَ حَدّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ كُنّا مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي مَسِيرٍ فَأَتَيْنَا عَلَى رَكِيّ ذَمّةٍ يَعْنِي : قَلِيلَةَ الْمَاءِ قَالَ فَنَزَلَ فِيهَا سِتّةٌ - أَنَا سَادِسُهُمْ - مَاحَةٌ فَأُدْلِيَتْ إلَيْنَا دَلْوٌ قَالَ وَرَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَلَى الرّكِيّ فَجَعَلْنَا فِيهَا نِصْفَهَا ، أَوْ قَرِيبَ ثُلُثَيْهَا ، فَرُفِعَتْ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ فَجِئْت بِإِنَائِي . هَلْ أَجِدُ شَيْئًا أَجْعَلُهُ فِي حَلْقِي ، فَمَا وَجَدْت ، فَرُفِعَتْ الدّلْوُ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَغَمَسَ يَدَهُ فِيهَا ، فَقَالَ مَا شَاءَ اللّهُ أَنْ يَقُولَ - قَالَ فَأُعِيدَتْ إلَيْنَا الدّلْوُ بِمَا فِيهَا ، قَالَ فَلَقَدْ رَأَيْت أَحَدَنَا أُخْرِجَ بِثَوْبِ خَشْيَةَ الْغَرَقِ . قَالَ ثُمّ سَاحَتْ يَعْنِي : جَرَتْ نَهَرًا .

[ ص 262 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا بُيّنَ لَهُ شَأْنُهَا ، وَدُلّ عَلَى مَوْضِعِهَا ، وَعَرَفَ أَنّهُ قَدْ صُدِقَ غَدَا بِمِعْوَلِهِ وَمَعَهُ ابْنُهُ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، لَيْسَ لَهُ يَوْمَئِذٍ وَلَدٌ غَيْرُهُ فَحَفَرَ فِيهَا . فَلَمّا بَدَا لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ الطّيّ ، كَبّرَ فَعَرَفَتْ قُرَيْشٌ أَنّهُ قَدْ أَدْرَكَ حَاجَتَهُ فَقَامُوا إلَيْهِ فَقَالُوا : يَا عَبْدَ الْمُطّلِبِ ، إنّهَا بِئْرُ أَبِينَا إسْمَاعِيلَ وَإِنّ لَنَا فِيهَا حَقّا فَأَشْرِكْنَا مَعَك فِيهَا . قَالَ مَا أَنَا بِفَاعِلِ إنّ هَذَا الْأَمْرَ قَدْ خُصِصْت بِهِ دُونَكُمْ وَأُعْطِيته مِنْ بَيْنِكُمْ فَقَالُوا لَهُ فَأَنْصِفْنَا ، فَإِنّا غَيْرُ تَارِكِيك حَتّى نُخَاصِمَك فِيهَا ، قَالَ فَاجْعَلُوا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مَنْ شِئْتُمْ أُحَاكِمُكُمْ إلَيْهِ قَالُوا : كَاهِنَةُ بَنِي سَعْدِ هُذَيْمٍ قَالَ نَعَمْ قَالَ وَكَانَتْ بِأَشْرَافِ الشّامِ ، فَرَكِبَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ بَنِي أَبِيهِ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَرَكِبَ مِنْ كُلّ قَبِيلَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ [ ص 263 ] قَالَ وَالْأَرْضُ إذْ ذَاكَ مَفَاوِزُ . قَالَ فَخَرَجُوا حَتّى إذَا كَانُوا بِبَعْضِ تِلْكَ الْمَفَاوِزِ بَيْن الْحِجَازِ وَالشّامِ ، فَنِيَ مَاءُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَأَصْحَابِهِ فَظَمِئُوا حَتّى أَيْقَنُوا بِالْهَلَكَةِ فَاسْتَسْقَوْا مَنْ مَعَهُمْ مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ ، فَأَبَوْا عَلَيْهِمْ وَقَالُوا : إنّا بِمَفَازَةِ وَنَحْنُ نَخْشَى عَلَى أَنْفُسِنَا مِثْلَ مَا أَصَابَكُمْ فَلَمّا رَأَى عَبْدُ الْمُطّلِبِ مَا صَنَعَ الْقَوْمُ وَمَا يَتَخَوّفُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَصْحَابِهِ قَالَ مَاذَا تَرَوْنَ ؟ قَالُوا : مَا رَأْيُنَا إلّا تَبَعٌ لِرَأْيِك ، فَمُرْنَا بِمَا شِئْت ، قَالَ فَإِنّي أَرَى أَنْ يَحْفِرَ كُلّ رَجُلٍ مِنْكُمْ حُفْرَتَهُ لِنَفْسِهِ بِمَا بِكُمْ الْآنَ مِنْ الْقُوّةِ - فَكَلَمّا مَاتَ رَجُلٌ دَفَعَهُ أَصْحَابُهُ فِي حُفْرَتِهِ ثُمّ وَارَوْهُ - حَتّى يَكُونَ آخِرُكُمْ رَجُلًا وَاحِدًا ، فَضَيْعَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَيْسَرُ مِنْ ضَيْعَةِ رَكْبٍ جَمِيعًا ، قَالُوا : نِعْمَ مَا أَمَرْت بِهِ . فَقَامَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَحَفَرَ حُفْرَتَهُ ثُمّ قَعَدُوا يَنْتَظِرُونَ الْمَوْتَ عَطَشًا ، ثُمّ إنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ وَاَللّهِ إنّ إلْقَاءَنَا بِأَيْدِينَا هَكَذَا لِلْمَوْتِ لَا نَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ وَلَا نَبْتَغِي لِأَنْفُسِنَا ، لَعَجْزٌ فَعَسَى اللّهُ أَنْ يَرْزُقَنَا مَاءً بِبَعْضِ الْبِلَادِ ارْتَحِلُوا ، فَارْتَحَلُوا حَتّى إذَا فَرَغُوا ، وَمَنْ مَعَهُمْ مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ يَنْظُرُونَ إلَيْهِمْ مَا هُمْ فَاعِلُونَ تَقَدّمَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ إلَى رَاحِلَتِهِ فَرَكِبَهَا . فَلَمّا انْبَعَثَتْ بِهِ انْفَجَرَتْ مِنْ تَحْتِهَا خُفّهَا عَيْنُ مَاءٍ عَذْبٍ فَكَبّرَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ ، وَكَبّرَ أَصْحَابُهُ ثُمّ نَزَلَ فَشَرِبَ وَشَرِبَ أَصْحَابُهُ وَاسْتَقَوْا حَتّى مَلَئُوا أَسْقِيَتَهُمْ ثُمّ دَعَا الْقَبَائِلَ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَقَالَ هَلُمّ إلَى الْمَاءِ فَقَدْ سَقَانَا اللّهُ فَاشْرَبُوا وَاسْتَقُوا ، فَجَاءُوا ، فَشَرِبُوا وَاسْتَقَوْا . ثُمّ قَالُوا : قَدْ - وَاَللّهِ - قُضِيَ لَك عَلَيْنَا يَا عَبْدَ الْمُطّلِبِ ، وَاَللّهِ لَا نُخَاصِمُك فِي زَمْزَمَ أَبَدًا ، إنّ الّذِي سَقَاك هَذَا الْمَاءَ بِهَذِهِ الْفَلَاةِ لَهُوَ الّذِي سَقَاك زَمْزَمَ ، فَارْجِعْ إلَى سِقَايَتِك رَاشِدًا . فَرَجَعَ وَرَجَعُوا مَعَهُ وَلَمْ يَصِلُوا إلَى الْكَاهِنَةِ وَخَلّوْا بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا . [ ص 264 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَهَذَا الّذِي بَلَغَنِي مِنْ حَدِيثِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فِي زَمْزَمَ ، وَقَدْ سَمِعْت مَنْ يُحَدّثُ عَنْ عَبْدِ الْمُطّلِبِ أَنّهُ قِيلَ لَهُ حِينَ أُمِرَ بِحَفْرِ زَمْزَمَ :
ثُمّ اُدْعُ بِالْمَاءِ الرّوِيّ غَيْرِ الْكَدِرِ ... يَسْقِي حَجِيجَ اللّهِ فِي كُلّ مَبَرْ
لَيْسَ يُخَافُ مِنْهُ شَيْءٌ مَا عَمَرْ
فَخَرَجَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ حِينَ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ إلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ تَعْلَمُوا أَنّي قَدْ أُمِرْت أَنْ أَحْفِرَ لَكُمْ زَمْزَمَ ، فَقَالُوا : فَهَلْ بُيّنَ لَك أَيْنَ هِيَ ؟ قَالَ لَا . قَالُوا فَارْجِعْ إلَى مَضْجَعِك الّذِي رَأَيْت فِيهِ مَا رَأَيْت ، فَإِنْ يَكُ حَقّا مِنْ اللّهِ يُبَيّنْ لَك ، وَإِنّ يَكُ مِنْ الشّيْطَانِ فَلَنْ يَعُودَ إلَيْك . فَرَجَعَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ إلَى مَضْجَعِهِ فَنَامَ فِيهِ فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ احْفِرْ زَمْزَمَ ، إنّك إنْ حَفَرْتهَا لَمْ تَنْدَمْ وَهِيَ تُرَاثٌ مِنْ أَبِيك الْأَعْظَمِ لَا تَنْزِفُ أَبَدًا وَلَا تُذَمّ ، تَسْقِي الْحَجِيجَ الْأَعْظَمَ مِثْلُ نَعَامٍ جَافِلٍ لَمْ يُقْسَمْ يَنْذِرُ فِيهَا نَاذِرٌ لِمُنْعِمِ تَكُونُ مِيرَاثًا وَعَقْدًا مُحْكَمًا ، لَيْسَتْ كَبَعْضِ مَا قَدْ تَعْلَمُ وَهِيَ بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدّمِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هَذَا الْكَلَامُ وَالْكَلَامُ الّذِي قَبْلَهُ مِنْ حَدِيثِ عَلِيّ فِي حَفْرِ زَمْزَمَ مِنْ قَوْلِهِ " لَا تَنْزِفُ أَبَدًا وَلَا تُذَمّ " إلَى قَوْلِهِ " عِنْدَ قَرْيَةِ النّمْلِ " عِنْدَنَا سَجْعٌ وَلَيْسَ شِعْرًا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَزَعَمُوا أَنّهُ حِينَ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ قَالَ وَأَيْنَ هِيَ ؟ قِيلَ لَهُ عِنْدَ قَرْيَةِ النّمْلِ ، حَيْثُ يَنْقُرُ الْغُرَابُ غَدًا . وَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ فَغَدَا عَبْدُ الْمُطّلِبِ وَمَعَهُ ابْنُهُ الْحَارِثُ وَلَيْسَ لَهُ يَوْمَئِذٍ وَلَدٌ غَيْرُهُ فَوَجَدَ قَرْيَةَ النّمْلِ ، وَوَجَدَ الْغُرَابَ يَنْقُرُ عِنْدَهَا . بَيْنَ الْوَثَنَيْنِ إسَافَ وَنَائِلَةَ اللّذَيْنِ كَانَتْ قُرَيْشٌ تَنْحَرُ عِنْدَهُمَا ذَبَائِحَهَا . فَجَاءَ بِالْمِعْوَلِ وَقَامَ لِيَحْفِرَ حَيْثُ أُمِرَ فَقَامَتْ إلَيْهِ قُرَيْشٌ حِينَ رَأَوْا جِدّهُ [ ص 265 ] فَقَالُوا : وَاَللّهِ لَا نَتْرُكُك تَحْفِرُ بَيْنَ وَثَنَيْنَا هَذَيْنِ اللّذَيْنِ نَنْحَرُ عِنْدَهُمَا ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ لِابْنِهِ الْحَارِثِ ذُدْ عَنّي حَتّى أَحْفِرَ ، فَوَاَللّهِ لَأَمْضِيَنّ لِمَا أُمِرْت بِهِ . فَلَمّا عَرَفُوا أَنّهُ نَازِعٌ خَلّوْا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَفْرِ ، وَكَفّوا عَنْهُ فَلَمْ يَحْفِرْ إلّا يَسِيرًا ، حَتّى بَدَا لَهُ الطّيّ ، فَكَبّرَ وَعَرَفَ أَنّهُ قَدْ صُدِقَ فَلَمّا تَمَادَى بِهِ الْحَفْرُ وَجَدَ فِيهَا غَزَالَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ وَهُمَا الْغَزَالَانِ اللّذَانِ دَفَنَتْ جُرْهُمٌ فِيهَا حِينَ خَرَجَتْ مِنْ مَكّةَ ، وَوَجَدَ فِيهَا أَسْيَافًا قَلْعِيّةً وَأَدْرَاعًا فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ يَا عَبْدَ الْمُطّلِبِ ، لَنَا مَعَك فِي هَذَا شِرْكٌ وَحَقّ ، قَالَ لَا ، وَلَكِنْ هَلُمّ إلَى أَمْرٍ نَصَفٍ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ نَضْرِبُ عَلَيْهَا بِالْقِدَاحِ قَالُوا : وَكَيْفَ تَصْنَعُ ؟ قَالَ أَجْعَلُ لِلْكَعْبَةِ قِدْحَيْنِ وَلِي قِدْحَيْنِ وَلَكُمْ قِدْحَيْنِ فَمَنْ خَرَجَ لَهُ قِدْحَاهُ عَلَى شَيْءٍ كَانَ لَهُ وَمَنْ تَخَلّفَ قِدْحَاهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ قَالُوا : أَنْصَفْت ، فَجَعَلَ قِدْحَيْنِ أَصْفَرَيْنِ لِلْكَعْبَةِ وَقِدْحَيْنِ أَسْوَدَيْنِ لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ وَقِدْحَيْنِ أَبْيَضَيْنِ لِقُرَيْشِ ثُمّ أَعْطَوْا صَاحِبَ الْقِدَاحِ الّذِي يَضْرِبُ بِهَا عِنْدَ هُبَلَ - وَهُبَلُ صَنَمٌ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ ، وَهُوَ أَعْظَمُ أَصْنَامِهِمْ وَهُوَ الّذِي يَعْنِي أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ قَالَ أَعْلِ هُبَلُ أَيْ أَظْهِرْ دِينَك - وَقَامَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ يَدْعُو اللّهَ عَزّ وَجَلّ فَضَرَبَ صَاحِبُ الْقِدَاحِ فَخَرَجَ الْأَصْفَرَانِ عَلَى الْغَزَالَيْنِ لِلْكَعْبَةِ وَخَرَجَ الْأَسْوَدَانِ عَلَى الْأَسْيَافِ وَالْأَدْرَاعِ لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ وَتَخَلّفَ قِدْحَا قُرَيْشٍ . فَضَرَبَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ الْأَسْيَافَ [ ص 266 ] وَضَرَبَ فِي الْبَابِ الْغَزَالَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ فَكَانَ أَوّلَ ذَهَبٍ حُلّيَتْهُ الْكَعْبَةُ - فِيمَا يَزْعُمُونَ - ثُمّ إنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ أَقَامَ سِقَايَةَ زَمْزَمَ لِلْحُجّاجِ .
Sاشْتِقَاقُ مَفَازَةٍ
[ ص 263 ] وَذَكَرَ حَدِيثَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ فِي مَسِيرِهِ مَعَ قُرَيْشٍ إلَى الْكَاهِنَةِ وَذَكَرَ الْمَفَاوِزَ الّتِي عَطِشُوا فِيهَا . الْمَفَاوِزُ جَمْعُ مَفَازَةٍ وَفِي اشْتِقَاقِ اسْمِهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . رُوِيَ عَنْ الْأَصْمَعِيّ أَنّهَا سُمّيَتْ مَفَازَةً عَلَى جِهَةِ التّفَاؤُلِ لِرَاكِبِهَا بِالْفَوْزِ وَالنّجَاةِ وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ الْأَعْرَابِيّ أَنّهُ قَالَ سَأَلْت أَبَا الْمَكَارِمِ لِمَ سُمّيَتْ الْفَلَاةُ مَفَازَةً ؟ فَقَالَ لِأَنّ رَاكِبَهَا إذَا قَطَعَهَا وَجَاوَزَهَا فَازَ . وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَاهَا : مَهْلَكَةٌ لِأَنّهُ يُقَالُ فَازَ الرّجُلُ وَفَوّزَ وَفَادَ وَفَطَسَ إذَا هَلَكَ . وَذُكِرَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ - ثُمّ اُدْعُ بِالْمَاءِ الرّوِيّ غَيْرِ الْكَدَرِ يُقَالُ مَاءٌ رِوَى بِالْكَسْرِ وَالْقَصْرِ وَرَوَاءٌ بِالْفَتْحِ وَالْمَدّ وَفِيهِ الْجَمْعُ وَاسْمُ الْجَمْعِ يُسْقَى حَجِيجُ اللّهِ فِي كُلّ مَبَرْ . الْحَجِيجُ جَمْعُ حَاجّ . وَفِي الْجُمُوعِ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ كَثِيرٌ كَالْعَبِيدِ وَالْبَقِيرِ وَالْمَعِيزِ وَالْأَبِيلِ وَأَحْسَبُهُ اسْمًا لِلْجَمْعِ لِأَنّهُ لَوْ كَانَ جَمْعًا لَهُ وَاحِدٌ مِنْ [ ص 264 ] قِيَاسٍ وَاحِدٍ كَسَائِرِ الْجُمُوعِ وَهَذَا يَخْتَلِفُ وَاحِدُهُ فَحَجِيجٌ وَاحِدُهُ حَاجّ ، وَعَبِيدٌ وَاحِدُهُ عَبْدٌ وَبَقِيرٌ وَاحِدُهُ بَقَرَةٌ [ وَمَعِيزٌ وَاحِدُهُ مَاعِزٌ ] إلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ إنّهُ اسْمٌ لِلْجَمْعِ غَيْرَ أَنّهُ مَوْضُوعٌ لِلْكَثْرَةِ وَلِذَلِكَ لَا يُصَغّرُ عَلَى لَفْظِهِ كَمَا تُصَغّرُ أَسْمَاءُ الْجُمُوعِ فَلَا يُقَالُ فِي الْعَبِيدِ عُبَيّدٌ ، وَلَا فِي النّخِيلِ : نُخَيّلٌ بَلْ يُرَدّ إلَى وَاحِدِهِ كَمَا تُرَدّ الْجُمُوعُ فِي التّصْغِيرِ فَيُقَالُ نُخَيْلَاتٌ وَعُبَيْدُونَ وَإِذَا قُلْت : نَخِيلٌ أَوْ عَبِيدٌ ، فَهُوَ اسْمٌ يَتَنَاوَلُ الصّغِيرَ وَالْكَبِيرَ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ قَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ { وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ } وَقَالَ { وَمَا رَبّكَ بِظَلّامٍ لِلْعَبِيدِ } [ فُصّلَتْ 46 ] وَحِينَ ذَكَرَ الْمُخَاطَبِينَ مِنْهُمْ قَالَ الْعِبَادُ وَكَذَلِكَ قَالَ حِينَ ذَكَرَ الثّمَرَ مِنْ النّخِيلِ : { وَالنّخْلَ بَاسِقَاتٍ } [ ق : 10 ] وَقَالَ { أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ } [ الْقَمَرَ 20 ] فَتَأَمّلْ الْفَرْقَ بَيْنَ الْجَمْعَيْنِ فِي حُكْمِ الْبَلَاغَةِ وَاخْتِيَارِ الْكَلَامِ وَأَمّا فِي مَذْهَبِ أَهْلِ اللّغَةِ فَلَمْ يُفَرّقُوا هَذَا التّفْرِيقَ وَلَا نَبّهُوا عَلَى هَذَا الْغَرَضِ الدّقِيقِ . 265 - شُرُوحٌ وَقَوْلُهُ فِي كُلّ مَبَرّ هُوَ مَفْعَلٌ مِنْ الْبِرّ يُرِيدُ فِي مَنَاسِكِ الْحَجّ وَمَوَاضِعِ الطّاعَةِ . وَقَوْلُهُ مِثْلُ نَعَامٍ جَافِلٍ لَمْ يُقْسَمْ . الْجَافِلُ مِنْ جَفَلَتْ الْغَنَمُ إذَا انْقَلَعَتْ بِجُمْلَتِهَا ، وَلَمْ يُقْسَمْ أَيْ لَمْ يَتَوَزّعْ وَلَمْ يَتَفَرّقْ . وَقَوْلُهُ لَيْسَ يُخَافُ مِنْهُ شَيْءٌ مَا عَمَرْ . أَيْ مَا عَمَرَ هَذَا الْمَاءُ فَإِنّهُ لَا يُؤْذِي ، وَلَا يُخَافُ مِنْهُ مَا يُخَافُ مِنْ الْمِيَاهِ إذَا أُفْرِطَ فِي شُرْبِهَا ، بَلْ هُوَ بَرَكَةٌ عَلَى كُلّ حَالٍ وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ لَا تَنْزِفُ وَلَا تُذَمّ عَاقِبَةُ شُرْبِهَا ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ سَائِغٌ أَيْضًا عَلَى مَا قَدّمْنَاهُ مِنْ التّأْوِيلِ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ فِي صِفَتِهَا . وَقَوْلُهُ وَضَرَبَ [ فِي الْبَابِ ] الْغَزَالَيْنِ حِلْيَةَ الْكَعْبَةِ ، وَهُوَ أَوّلُ ذَهَبٍ حُلّيَتْ بِهِ الْكَعْبَةُ ، وَقَدْ قَدّمْنَا ذِكْرَ الْغَزَالَيْنِ وَمَنْ أَهْدَاهُمَا إلَى الْكَعْبَةِ ، وَمَنْ دَفَنَهُمَا مِنْ جُرْهُمٍ ، وَتَقَدّمَ أَنّ أَوّلَ مَنْ كَسَا الْكَعْبَةَ : تُبّعٌ ، وَأَنّهُ أَوّلُ مَنْ اتّخَذَ لَهَا غَلَقًا إلَى أَنْ ضَرَبَ لَهَا عَبْدُ الْمُطّلِبِ بَابَ حَدِيدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَسْيَافِ وَاِتّخَذَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ حَوْضًا لِزَمْزَمَ يُسْقَى مِنْهُ فَكَانَ يُخَرّبُ لَهُ بِاللّيْلِ حَسَدًا لَهُ فَلَمّا غَمّهُ ذَلِكَ قِيلَ لَهُ فِي النّوْمِ قُلْ لَا أُحِلّهَا لِمُغْتَسِلِ وَهِيَ لِشَارِبِ حِلّ وَبِلّ وَقَدْ كُفِيتُمْ فَلَمّا أَصْبَحَ قَالَ ذَلِكَ فَكَانَ بَعْدُ مَنْ أَرَادَهَا بِمَكْرُوهِ رُمِيَ بِدَاءِ فِي جَسَدِهِ حَتّى انْتَهَوْا عَنْهُ . ذَكَرَهُ الزّهْرِيّ فِي سِيَرِهِ .

ذِكْرُ بِئَارَ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ بِمَكّةَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَبْلَ حَفْرِ زَمْزَمَ قَدْ احْتَفَرَتْ بِئَارًا بِمَكّةَ فِيمَا حَدّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَكّائِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ قَالَ حَفَرَ عَبْدُ شَمْسِ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ الطّوِيّ وَهِيَ الْبِئْرُ الّتِي بِأَعْلَى مَكّةَ عِنْدَ الْبَيْضَاءِ دَارِ مُحَمّدِ بْنِ يُوسُفَ . وَحَفَرَ هَاشِمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ بَذّرَ وَهِيَ الْبِئْرُ الّتِي عِنْدَ الْمُسْتَنْذَرِ خَطْمِ الْخَنْدَمَةِ عَلَى فَمِ شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ ، وَزَعَمُوا أَنّهُ قَالَ حِينَ حَفَرَهَا : لَأَجْعَلَنّهَا بَلَاغًا لِلنّاسِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَ الشّاعِرُ
سَقَى اللّهُ أَمْوَاهًا عَرَفْت مَكَانَهَا ... جُرَابًا وَمَلْكُومًا وَبَذّرَ وَالْغَمْرَا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَفَرَ سَجْلَةَ ، وَهِيَ بِئْرُ الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ الّتِي يَسْقُونَ عَلَيْهَا الْيَوْمَ . وَيَزْعُمُ بَنُو نَوْفَلٍ أَنّ الْمُطْعِمَ ابْتَاعَهَا مِنْ أَسَدِ بْنِ هَاشِمٍ وَيَزْعُمُ بَنُو هَاشِمٍ أَنّهُ وَهَبَهَا لَهُ حِينَ ظَهَرَتْ زَمْزَمُ ، فَاسْتَغْنَوْا بِهَا عَنْ تِلْكَ الْآبَارِ . [ ص 267 ] عَبْدِ شَمْسٍ الْحَفْرَ لِنَفْسِهِ وَحَفَرَتْ بَنُو أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى : سُقَيّةً وَهِيَ بِئْرُ بَنِي أَسَدٍ . وَحَفَرَتْ بَنُو عَبْدِ الدّارِ أُمّ أَحْرَادٍ . وَحَفَرَتْ بَنُو جُمَحَ السّنْبُلَةَ وَهِيَ بِئْرُ خَلَفِ بْنِ وَهْبٍ . وَحَفَرَتْ بَنُو سَهْمٍ : الْغَمْرَ ، وَهِيَ بِئْرُ بَنِي سَهْمٍ ، وَكَانَتْ آبَارٌ حَفَائِرُ خَارِجًا مِنْ مَكّةَ قَدِيمَةً مِنْ عَهْدِ مُرّةَ بْنِ كَعْبٍ ، وَكِلَابِ بْنِ مُرّةَ ، وَكُبَرَاءُ قُرَيْشٍ الْأَوَائِلُ مِنْهَا يَشْرَبُونَ وَهَى رُمّ ، وَرُمّ : بِئْرُ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَخُمّ ، وَخُمّ . بِئْرُ بَنِي كِلَابِ بْنِ مُرّةَ ، وَالْحَفْرُ . قَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ غَانِمٍ أَخُو بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ : قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهُوَ أَبُو أَبِي جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ
وَقِدْمًا غَنَيْنَا قَبْلَ ذَلِكَ حَقْبَةً ... وَلَا نَسْتَقِي إلّا بِخُمّ أَوْ الْحَفْرِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللّهُ فِي مَوْضِعِهَا .
Sبِئَارُ قُرَيْشٍ بِمَكّةَ
[ ص 266 ] وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَبْلَ حَفْرِ زَمْزَمَ قَدْ اتّخَذَتْ بِئَارًا بِمَكّةَ . ذَكَرُوا أَنّ قُصَيّا كَانَ يَسْقِي الْحَجِيجَ فِي حِيَاضٍ مِنْ أَدَمٍ وَكَانَ يَنْقُلُ الْمَاءَ إلَيْهَا مِنْ آبَارٍ خَارِجَةٍ مِنْ مَكّةَ مِنْهَا : بِئْرُ مَيْمُونَ الْحَضْرَمِيّ ، وَكَانَ يَنْبِذُ لَهُمْ الزّبِيبَ ثُمّ احْتَفَرَ قُصَيّ الْعَجُولَ فِي دَارِ أُمّ هَانِئِ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ ، وَهِيَ أَوّلُ سِقَايَةٍ اُحْتُفِرَتْ بِمَكّةَ وَكَانَتْ الْعَرَبُ إذَا اسْتَقَوْا مِنْهَا ارْتَجَزُوا ، فَقَالُوا :
نُرْوَى عَلَى الْعَجُولِ ثُمّ نَنْطَلِقْ ... إنّ قُصَيّا قَدْ وَفّى وَقَدْ صَدَقْ
بِشِبَعِ الْحَجّ وَرِيّ مُغْتَبِقْ
[ ص 267 ] قُصَيّ ، وَبَعْدَ مَوْتِهِ حَتّى كَبِرَ عَبْدُ مَنَافِ بْنُ قُصَيّ ، فَسَقَطَ فِيهَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي جُعَيْلٍ فَعَطّلُوا الْعَجُولَ وَانْدَفَنَتْ وَاحْتَفَرَتْ كُلّ قَبِيلَةٍ بِئْرًا ، وَاحْتَفَرَ قُصَيّ سَجْلَةَ ، وَقَالَ حِينَ حَفَرَهَا :
أَنَا قُصَيّ ، وَحَفَرْت سَجْلَهْ ... تُرْوِي الْحَجِيجَ زُغْلَةً فَزُغْلَهْ
وَقِيلَ بَلْ حَفَرَهَا هَاشِمٌ وَوَهَبَهَا أَسَدُ بْنُ هَاشِمٍ لِعَدِيّ بْنِ نَوْفَلٍ وَفِي ذَلِكَ تَقُولُ خَالِدَةُ بِنْتُ هَاشِمٍ
نَحْنُ وَهَبْنَا لِعَدِيّ سَجْلَهْ ... تُرْوِي الْحَجِيجَ زُغْلَةً فَزُغْلَهْ
وَأَمّا أُمّ أَحْرَادٍ الّتِي ذَكَرَهَا ، فَأَحْرَادٌ جَمْعُ : حِرْدٍ وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنْ السّنَامِ فَكَأَنّهَا سُمّيَتْ بِهَذَا ، لِأَنّهَا تُنْبِتُ الشّحْمَ أَوْ تُسَمّنُ الْإِبِلَ أَوْ نَحْوَ هَذَا وَالْحِرْدُ الْقَطَا الْوَارِدَةُ لِلْمَاءِ فَكَأَنّهَا تَرِدُهَا الْقَطَا وَالطّيْرُ فَيَكُونُ أَحْرَادٌ جَمْعَ : حُرْدٍ بِالضّمّ عَلَى هَذَا . وَقَالَتْ أُمَيّةُ بِنْتُ عُمَيْلَةَ بْنِ السّبّاقِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ امْرَأَةُ الْعَوّامِ بْنِ خُوَيْلِدٍ حِينَ حَفَرَتْ بَنُو عَبْدِ الدّارِ أُمّ أَحْرَادٍ :
نَحْنُ حَفَرْنَا الْبَحْرَ أُمّ أَحْرَادِ ... لَيْسَتْ كَبَذّرَ الْبُرُورِ الْجَمَادِ
فَأَجَابَتْهَا ضَرّتُهَا : صَفِيّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ أُمّ الزّبَيْرِ بْنِ الْعَوّامِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
نَحْنُ حَفَرْنَا بَذّرْ ... نَسْقِي الْحَجِيجَ الْأَكْبَرْ
مِنْ مُقْبِلٍ وَمُدْبِرْ ... وَأُمّ أَحْرَادَ شَرْ
[ ص 268 ] يَكُونَ بِمَعْنَى : جَرِيبٍ نَحْوُ كُبَارٍ وَكَبِيرٍ وَالْجَرِيبُ الْوَادِي ، وَالْجَرِيبُ أَيْضًا : مِكْيَالٌ كَبِيرٌ وَالْجَرِيبُ أَيْضًا : الْمَزْرَعَةُ . وَأَمّا مَلْكُومٌ فَهُوَ عِنْدِي مَقْلُوبٌ وَالْأَصْلُ مَمْكُولٌ مِنْ مَكَلْت الْبِئْرَ إذَا اسْتَخْرَجْت مَاءَهَا ، وَالْمَكْلَةُ مَاءُ الرّكِيّةِ وَقَدْ قَالُوا : بِئْرٌ عَمِيقَةٌ وَمَعِيقَةٌ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ هَذَا اللّفْظُ كَذَلِكَ يُقَالُ فِيهِ مَمْكُولٌ وَمَلْكُومٌ ، وَالْمَلْكُومُ فِي اللّغَةِ الْمَظْلُومُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَقْلُوبًا . وَأَمّا بَذّرُ فَمِنْ التّبْذِيرِ وَهُوَ التّفْرِيقُ وَلَعَلّ مَاءَهَا كَانَ يَخْرُجُ مُتَفَرّقًا مِنْ غَيْرِ مَكَانٍ وَاحِدٍ وَهَذَا الْبِنَاءُ فِي الْأَسْمَاءِ قَلِيلٌ نَحْو : شَلّمَ وَخَضّمَ وَبَذّرَ وَهِيَ أَسْمَاءُ أَعْلَامٍ وَشَلّمُ اسْمُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَأَمّا فِي غَيْرِ الْأَعْلَامِ فَلَا يُعْرَفُ إلّا الْبَقّمُ وَلَعَلّ أَصْلَهُ أَنْ يَكُونَ أَعْجَمِيّا ، فَعُرّبَ . وَأَمّا خُمّ وَهِيَ بِئْرُ مُرّةَ فَهِيَ مِنْ خَمَمْت الْبَيْتَ إذَا كَنَسْته ، وَيُقَالُ فُلَانٌ مَخْمُومُ الْقَلْبِ أَيْ نَقِيّهُ فَكَأَنّهَا سُمّيَتْ بِذَلِكَ لِنِقَائِهَا . وَأَمّا غَدِيرُ خُمّتْ الّذِي عِنْدَ الْجُحْفَةِ ، فَسُمّيَتْ بِغَيْضَةِ عِنْدَهُ يُقَالُ لَهَا : خُمّ فِيمَا ذَكَرُوا . وَأَمّا رُمّ بِئْرُ بَنِي كِلَابِ بْنِ مُرّةَ ، فَمِنْ رَمَمْت الشّيْءَ إذَا جَمَعْته وَأَصْلَحْته ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ كُنّا أَهْلَ ثُمّةٍ وَرُمّةٍ وَمِنْهُ الرّمّانُ فِي قَوْلِ سِيبَوَيْهِ ، لِأَنّهُ عِنْدَهُ فُعْلَانُ وَأَمّا الْأَخْفَشُ فَيَقُولُ فِيهِ فُعّالٌ فَيَجْعَلُ فِيهِ النّونَ أَصْلِيّةً وَيَقُولُ إنْ سَمّيْت بِهِ رَجُلًا صَرَفْته . وَمِنْ قَوْلِ [ ص 269 ] عَبْدِ شَمْسِ بْنِ قُصَيّ :
حَفَرْت رُمّا ، وَحَفَرْت خُمّا ... حَتّى تَرَى الْمَجْدَ بِهَا قَدْ تَمّا
وَأَمّا شُفَيّةُ بِئْرُ بَنِي أَسَدٍ ، فَقَالَ فِيهَا الْحُوَيْرِثُ بْنُ أَسَدٍ :
مَاءُ شُفَيّةَ كَمَاءِ الْمُزْنِ ... وَلَيْسَ مَاؤُهَا بِطَرْقِ أَجْنِ
وَأَمّا سُنْبُلَةُ بِئْرُ بَنِي جُمَحَ وَهِيَ بِئْرُ بَنِي خَلَفِ بْنِ وَهْبٍ - فَقَالَ فِيهَا شَاعِرُهُمْ
نَحْنُ حَفَرْنَا لِلْحَجِيجِ سُنْبُلَهْ ... صَوْبَ سَحَابٍ ذُو الْجَلَالِ أَنْزَلَهْ
ثُمّ تَرَكْنَاهَا بِرَأْسِ الْقُنْبُلَهْ ... تَصُبّ مَاءً مِثْلَ مَاءِ الْمَعْبَلَهْ
نَحْنُ سَقَيْنَا النّاسَ قَبْلَ الْمَسْأَلَهْ
مِنْ شَرْحِ شِعْرِ مُسَافِرٍ وَأَمّا الْغَمْرُ : بِئْرُ بَنِي سَهْمٍ ، فَقَالَ فِيهَا بَعْضُهُمْ
نَحْنُ حَفَرْنَا الْغَمْرَ لِلْحَجِيجِ ... تَثُجّ مَاءً أَيّمَا ثَجِيجِ
ذَكَرَ أَكْثَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيّ ، وَبَعْضُ هَذِهِ الْأَرْجَازِ أَوْ أَكْثَرُهُ فِي كِتَابِ الزّبَيْرِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رَحْمَةُ اللّهِ عَلَيْهِ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَعَفّتْ زَمْزَمُ عَلَى الْبِئَارِ الّتِي كَانَتْ قَبْلَهَا يُسْقَى عَلَيْهَا الْحَاجّ وَانْصَرَفَ النّاسُ إلَيْهَا لِمَكَانِهَا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ؛ وَلِفَضْلِهَا عَلَى مَا سِوَاهَا مِنْ الْمِيَاهِ وَلِأَنّهَا بِئْرُ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا السّلَامُ وَافْتَخَرَتْ بِهَا بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ عَلَى قُرَيْشٍ كُلّهَا ، وَعَلَى سَائِرِ الْعَرَبِ ، فَقَالَ مُسَافِرُ بْنُ أَبِي عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَهُوَ يَفْخَرُ عَلَى قُرَيْشٍ بِمَا وُلّوا عَلَيْهِمْ مِنْ السّقَايَةِ وَالرّفَادَةِ وَمَا أَقَامُوا لِلنّاسِ مِنْ ذَلِكَ وَبِزَمْزَمَ حِينَ ظَهَرَتْ لَهُمْ وَإِنّمَا كَانَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ أَهْلُ بَيْتٍ وَاحِدٍ شَرَفُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ شَرَفٌ وَفَضْلُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضِ فَضْلٌ
وَرِثْنَا الْمَجْدَ مِنْ آبَا ... ئِنَا فَنَمَى بِنَا صُعُدَا
أَلَمْ نَسْقِ الْحَجِيجَ وَنَنْ ... حَرْ الدّلّافَةَ الرّفُدَا
وَنُلْفَى عِنْدَ تَصْرِيفِ الْمَ ... نَايَا شُدّدًا رُفُدَا
فَإِنْ نَهْلِكْ فَلَمْ نُمْلَكْ ... وَمَنْ ذَا خَالِدٌ أَبَدَا
وَزَمْزَمُ فِي أَرُومَتِنَا ... وَنَفْقَأُ عَيْنَ مَنْ جَسَدَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ غَانِمٍ أَخُو بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ .
وَسَاقِي الْحَجِيجِ ثُمّ لِلْخُبْزِ هَاشِمٌ ... وَعَبْدُ مَنَافٍ ذَلِكَ السّيّدُ الْفِهْرِي
طَوَى زَمْزَمًا عِنْدَ الْمَقَامِ فَأَصْبَحَتْ ... سِقَايَتُهُ فَخْرًا عَلَى كُلّ ذِي فَخْرِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : يَعْنِي عَبْدَ الْمُطّلِبِ بْنَ هَاشِمٍ . وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لِحُذَيْفَةَ بْنِ غَانِمٍ سَأَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى .
Sفَصْلٌ وَذَكَرَ شِعْرَ مُسَافِرِ بْنِ أَبِي عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ . وَاسْمُ أَبِي عَمْرٍو : ذَكْوَانُ ، وَهُوَ الّذِي يَقُولُ فِيهِ أَبُو سُفْيَانَ
لَيْتَ شِعْرِي مُسَافِرَ بْنَ أَبِي عَمْ ... رٍو ، وَلَيْتٌ يَقُولُهَا الْمَحْزُونُ
بُورِكَ الْمَيّتُ الْغَرِيبُ كَمَا بُو ... رِكَ نَضْحُ الرّمّانِ وَالزّيْتُونُ
فِي شِعْرٍ يَرْثِيهِ بِهِ وَكَانَ مَاتَ مِنْ حُبّ صَعْبَةَ بِنْتِ الْحَضْرَمِيّ . وَفِي الشّعْرِ وَنَنْحَرُ الدّلّافَةَ الرّفُدَا . [ ص 270 ] جَمْعُ رَفُودٍ مِنْ الرّفْدِ وَهِيَ الّتِي تَمْلَأُ إنَاءَيْنِ عِنْدَ الْحَلْبِ . وَقَوْلُهُ وَنُلْفَى عِنْدَ تَصْرِيفِ الْمَنَايَا شُدّدًا رُفُدَا
هُوَ جَمْعُ رَفُودٍ أَيْضًا مِنْ الرّفْدِ وَهُوَ الْعَوْنُ وَالْأَوّلُ مِنْ الرّفْدِ بِفَتْحِ الرّاءِ [ وَبِكَسْرِهَا ] وَهُوَ إنَاءٌ كَبِيرٌ قَالَ الشّاعِرُ
رُبّ رَفْدٍ هَرَقْته ذَلِكَ الْيَوْ ... مَ وَأَسْرَى مِنْ مَعْشَرٍ أَقْتَالِ
وَذَكَرَ أُمّ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَهِيَ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَائِذِ بْنِ عِمْرَانَ هَكَذَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ . وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : عَائِذُ بْنُ عَبْدِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ ، وَالصّحِيحُ مَا قَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ ؛ لِأَنّ الزّبَيْرِيّينَ ذَكَرُوا أَنّ عَبْدًا هُوَ أَخُو عَائِذِ بْنِ عِمْرَانَ وَأَنّ بِنْتَ عَبْدٍ هِيَ صَخْرَةُ امْرَأَةُ عَمْرِو بْنِ عَائِذٍ عَلَى قَوْلِ ابْنِ إسْحَاقَ ؛ لِأَنّهَا كَانَتْ لَهُ عَمّةً لَا بِنْتَ عَمّ فَتَأَمّلْهُ فَقَدْ تَكَرّرَ هَذَا النّسَبُ فِي السّيرَةِ مِرَارًا ، وَفِي كُلّ ذَلِكَ يَقُولُ ابْنُ إسْحَاقَ : عَائِذُ بْنُ عَبْدِ بْنِ عِمْرَانَ ، وَيُخَالِفُهُ ابْنُ هِشَامٍ . وَصَخْرَةُ بِنْتُ عَبْدٍ أُمّ فَاطِمَةَ أُمّهَا : تَخْمُرُ بِنْتُ عَبْدِ بْنِ قُصَيّ ، وَأُمّ تَخْمُرَ سُلْمَى بِنْتُ عُمَيْرَةَ بْنِ وَدِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ . قَالَهُ الزّبَيْرُ .

ذِكْرُ نَذْرِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ذَبْحَ وَلَدِهِ
[ ص 271 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ - فِيمَا يَزْعُمُونَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ - قَدْ نَذَرَ حِينَ لَقِيَ مِنْ قُرَيْشٍ مَا لَقِيَ عِنْدَ حَفْرِ زَمْزَمَ : لَئِنْ وُلِدَ لَهُ عَشَرَةُ نَفَرٍ ثُمّ بَلَغُوا مَعَهُ حَتّى يَمْنَعُوهُ لَيَنْحَرَنّ أَحَدَهُمْ لِلّهِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ . فَلَمّا تَوَافَى بَنُوهُ عَشَرَةً وَعَرَفَ أَنّهُمْ سَيَمْنَعُونَهُ جَمَعَهُمْ ثُمّ أَخْبَرَهُمْ بِنَذْرِهِ وَدَعَاهُمْ إلَى الْوَفَاءِ لِلّهِ بِذَلِكَ فَأَطَاعُوهُ وَقَالُوا : كَيْفَ نَصْنَعُ ؟ قَالَ لِيَأْخُذْ كُلّ رَجُلٍ مِنْكُمْ قِدْحًا ثُمّ يَكْتُبْ فِيهِ اسْمَهُ ثُمّ ائْتُونِي ، فَفَعَلُوا ، ثُمّ أَتَوْهُ فَدَخَلَ بِهِمْ عَلَى هُبَلَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ ، وَكَانَ هُبَلُ عَلَى بِئْرٍ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْبِئْرُ هِيَ الّتِي يُجْمَعُ فِيهَا مَا يُهْدَى لِلْكَعْبَةِ . وَكَانَ عِنْدَ هُبَلَ قِدَاحٌ سَبْعَةٌ كُلّ قِدْحٍ مِنْهَا فِيهِ كِتَابٌ . قِدْحٌ فِيهِ الْعَقْلُ إذَا اخْتَلَفُوا فِي الْعَقْلِ مَنْ يَحْمِلُهُ مِنْهُمْ ضَرَبُوا بِالْقِدَاحِ السّبْعَةِ فَإِنْ خَرَجَ الْعَقْلُ فَعَلَى مَنْ خَرَجَ حَمَلَهُ . وَقِدْحٌ فِيهِ نَعَمْ . لِلْأَمْرِ إذَا أَرَادُوهُ يُضْرَبُ بِهِ فِي الْقِدَاحِ فَإِنْ خَرَجَ قِدْحُ نَعَمْ عَمِلُوا بِهِ . وَقِدْحٌ فِيهِ لَا ، إذَا أَرَادُوا أَمْرًا ضَرَبُوا بِهِ فِي الْقِدَاحِ فَإِنْ خَرَجَ ذَلِكَ الْقِدَاحُ لَمْ [ ص 272 ] أَرَادُوا أَنْ يَحْفِرُوا لِلْمَاءِ ضَرَبُوا بِالْقِدَاحِ وَفِيهَا ذَلِكَ الْقِدْحُ فَحَيْثُمَا خَرَجَ عَمِلُوا بِهِ . وَكَانُوا إذَا أَرَادُوا أَنْ يَخْتِنُوا غُلَامًا ، أَوْ يَنْكِحُوا مُنْكَحًا ، أَوْ يَدْفِنُوا مَيّتًا ، أَوْ شَكّوا فِي نَسَبِ أَحَدِهِمْ ذَهَبُوا بِهِ إلَى هُبَلَ وَبِمِئَةِ دِرْهَمٍ وَجَزُورٍ فَأَعْطَوْهَا صَاحِبَ الْقِدَاحِ الّذِي يَضْرِبُ بِهَا ، ثُمّ قَرّبُوا صَاحِبَهُمْ الّذِي يُرِيدُونَ بِهِ مَا يُرِيدُونَ ثُمّ قَالُوا : يَا إلَهَنَا هَذَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ قَدْ أَرَدْنَا بِهِ كَذَا وَكَذَا ، فَأَخْرِجْ الْحَقّ فِيهِ . ثُمّ يَقُولُونَ لِصَاحِبِ الْقِدَاحِ اضْرِبْ فَإِنْ خَرَجَ عَلَيْهِ مِنْكُمْ كَانَ مِنْهُمْ وَسِيطًا ، وَإِنْ خَرَجَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِكُمْ كَانَ حَلِيفًا ، وَإِنْ خَرَجَ عَلَيْهِ مُلْصَقٌ كَانَ عَلَى مَنْزِلَتِهِ فِيهِمْ لَا نَسَبَ لَهُ وَلَا حِلْفَ وَإِنْ خَرَجَ فِيهِ شَيْءٌ مِمّا سِوَى هَذَا مِمّا يَعْمَلُونَ بِهِ نَعَمْ عَمِلُوا بِهِ وَإِنْ خَرَجَ لَا ، أَخّرُوهُ عَامَهُ ذَلِكَ حَتّى يَأْتُوهُ بِهِ مَرّةً أُخْرَى ، يَنْتَهُونَ فِي أُمُورِهِمْ إلَى ذَلِكَ مِمّا خَرَجَتْ بِهِ الْقِدَاحُ . فَقَالَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ لِصَاحِبِ الْقِدَاحِ اضْرِبْ عَلَى بَنِيّ هَؤُلَاءِ بِقِدَاحِهِمْ هَذِهِ وَأَخْبَرَهُ بِنَذْرِهِ الّذِي نَذَرَ فَأَعْطَاهُ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ قِدْحَهُ الّذِي فِيهِ اسْمُهُ وَكَانَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ أَصْغَرَ بَنِي أَبِيهِ كَانَ هُوَ وَالزّبَيْرُ وَأَبُو طَالِبٍ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ عَمْرِو بْنِ عَائِذِ بْنِ عَبْدِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : عَائِذُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ عَبْدُ اللّهِ - فِيمَا يَزْعُمُونَ - أَحَبّ وَلَدِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ إلَيْهِ فَكَانَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ يَرَى أَنّ السّهْمَ إذَا أَخْطَأَهُ فَقَدْ أَشْوَى . وَهُوَ أَبُو رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَلَمّا أَخَذَ صَاحِبُ الْقِدَاحِ الْقِدَاحَ لِيَضْرِبَ بِهَا ، قَامَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ عِنْدَ هُبَلَ يَدْعُو اللّهَ ثُمّ ضَرَبَ صَاحِبُ الْقِدَاحِ فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ اللّهِ فَأَخَذَهُ عَبْدُ الْمُطّلِبِ بِيَدِهِ وَأَخَذَ الشّفْرَةَ ثُمّ أَقْبَلَ بِهِ إلَى إسَافَ وَنَائِلَةَ لِيَذْبَحَهُ فَقَامَتْ إلَيْهِ قُرَيْشٌ مِنْ أَنْدِيَتِهَا ، فَقَالُوا : مَاذَا تُرِيدُ يَا عَبْدَ الْمُطّلِبِ ؟ قَالَ أَذْبَحُهُ فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ وَبَنُوهُ وَاَللّهِ لَا تَذْبَحُهُ أَبَدًا ، حَتّى تُعْذَرَ فِيهِ . لَئِنْ فَعَلْت هَذَا لَا يَزَالُ الرّجُلُ يَأْتِي بِابْنِهِ حَتّى يَذْبَحَهُ فَمَا بَقَاءُ النّاسِ عَلَى هَذَا ؟ وَقَالَ لَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ يَقَظَةَ - وَكَانَ عَبْدُ اللّهِ ابْنَ أُخْتِ الْقَوْمِ وَاَللّهِ لَا تَذْبَحُهُ أَبَدًا ، حَتّى تُعْذَرَ فِيهِ فَإِنْ كَانَ فِدَاؤُهُ بِأَمْوَالِنَا فَدَيْنَاهُ . وَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ وَبَنُوهُ . لَا تَفْعَلْ وَانْطَلِقْ بِهِ إلَى الْحِجَازِ ، فَإِنّ بِهِ عَرّافَةً لَهَا تَابِعٌ فَسَلْهَا ، ثُمّ أَنْتَ عَلَى رَأْسِ أَمْرِك ، إنْ أَمَرَتْك بِذَبْحِهِ ذَبَحْته ، وَإِنْ أَمَرَتْك بِأَمْرِ لَك وَلَهُ فِيهِ فَرَجٌ قَبِلْته . [ ص 273 ] فَانْطَلَقُوا حَتّى قَدِمُوا الْمَدِينَةَ ، فَوَجَدُوهَا - فِيمَا يَزْعُمُونَ - بِخَيْبَرِ . فَرَكِبُوا حَتّى جَاءُوهَا ، فَسَأَلُوهَا ، وَقَصّ عَلَيْهَا عَبْدُ الْمُطّلِبِ خَبَرَهُ وَخَبَرَ ابْنِهِ وَمَا أَرَادَ بِهِ وَنَذْرَهُ فِيهِ فَقَالَتْ لَهُمْ ارْجِعُوا عَنّي الْيَوْمَ حَتّى يَأْتِيَنِي تَابِعِي فَأَسْأَلَهُ . فَرَجَعُوا مِنْ عِنْدِهَا فَلَمّا خَرَجُوا عَنْهَا قَامَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ يَدْعُو اللّهَ ثُمّ غَدَوْا عَلَيْهَا ، فَقَالَتْ لَهُمْ قَدْ جَاءَنِي الْخَبَرُ ، كَمَا الدّيَةُ فِيكُمْ ؟ قَالُوا : عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ وَكَانَتْ كَذَلِكَ . قَالَتْ فَارْجِعُوا إلَى بِلَادِكُمْ ثُمّ قَرّبُوا صَاحِبَكُمْ وَقَرّبُوا عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ ثُمّ اضْرِبُوا عَلَيْهَا ، وَعَلَيْهِ بِالْقِدَاحِ فَإِنْ خَرَجَتْ عَلَى صَاحِبِكُمْ فَزِيدُوا مِنْ الْإِبِلِ حَتّى يَرْضَى رَبّكُمْ وَإِنْ خَرَجَتْ عَلَى الْإِبِلِ فَانْحَرُوهَا عَنْهُ فَقَدْ رَضِيَ رَبّكُمْ وَنَجَا صَاحِبُكُمْ . فَخَرَجُوا حَتّى قَدِمُوا مَكّةَ ، فَلَمّا أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْأَمْرِ قَامَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ يَدْعُو اللّهَ ثُمّ قَرّبُوا عَبْدَ اللّهِ وَعَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ وَعَبْدُ الْمُطّلِبِ قَائِمٌ عِنْدَ هُبَلَ يَدْعُو اللّهَ عَزّ وَجَلّ ثُمّ ضَرَبُوا فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ اللّهِ فَزَادُوا عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ فَبَلَغَتْ الْإِبِلُ عِشْرِينَ وَقَامَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ يَدْعُو اللّهَ عَزّ وَجَلّ ثُمّ ضَرَبُوا فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ اللّهِ فَزَادُوا عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ فَبَلَغَتْ الْإِبِلُ ثَلَاثِينَ وَقَامَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ يَدْعُو اللّهَ ثُمّ ضَرَبُوا ، فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ اللّهِ فَزَادُوا عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ فَبَلَغَتْ الْإِبِلُ أَرْبَعِينَ وَقَامَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ يَدْعُو اللّهَ ثُمّ ضَرَبُوا ، فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ اللّهِ فَزَادُوا عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ فَبَلَغَتْ الْإِبِلُ خَمْسِينَ وَقَامَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ يَدْعُو اللّهَ ثُمّ ضَرَبُوا فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ اللّهِ فَزَادُوا عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ فَبَلَغَتْ الْإِبِلُ سِتّينَ وَقَامَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ يَدْعُو اللّهَ ثُمّ ضَرَبُوا فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ اللّهِ فَزَادُوا عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ فَبَلَغَتْ الْإِبِلُ سَبْعِينَ وَقَامَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ يَدْعُو اللّهَ ثُمّ ضَرَبُوا فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ اللّهِ فَزَادُوا عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ فَبَلَغَتْ الْإِبِلُ ثَمَانِينَ وَقَامَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ يَدْعُو اللّهَ ثُمّ ضَرَبُوا ، فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ اللّهِ فَزَادُوا عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ فَبَلَغَتْ الْإِبِلُ تِسْعِينَ وَقَامَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ يَدْعُو اللّهَ ثُمّ ضَرَبُوا ، فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى عَبْدِ اللّهِ فَزَادُوا عَشْرًا مِنْ الْإِبِلِ فَبَلَغَتْ الْإِبِلُ مِئَةً وَقَامَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ يَدْعُو اللّهَ ثُمّ ضَرَبُوا فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى الْإِبِلِ فَقَالَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ حَضَرَ قَدْ انْتَهَى رِضَا رَبّك يَا عَبْدَ الْمُطّلِبِ ، فَزَعَمُوا أَنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ قَالَ لَا وَاَللّهِ حَتّى أَضْرِبَ عَلَيْهَا ثَلَاثَ مَرّاتٍ فَضَرَبُوا عَلَى عَبْدِ اللّهِ وَعَلَى الْإِبِلِ وَقَامَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ يَدْعُو اللّهَ فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى الْإِبِلِ ثُمّ عَادُوا الثّانِيَةَ وَعَبْدُ الْمُطّلِبِ قَائِمٌ يَدْعُو اللّهَ فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى الْإِبِلِ ثُمّ عَادُوا الثّالِثَةَ وَعَبْدُ الْمُطّلِبِ قَائِمٌ يَدْعُو اللّهَ فَضَرَبُوا ، فَخَرَجَ الْقِدْحُ عَلَى الْإِبِلِ فَنُحِرَتْ ثُمّ تُرِكَتْ لَا يُصَدّ عَنْهَا إنْسَانٌ وَلَا يُمْنَعُ . [ ص 274 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ إنْسَانٌ وَلَا سَبُعٌ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَبَيْنَ أَضْعَافِ هَذَا الْحَدِيثِ رَجَزٌ لَمْ يَصِحّ عِنْدَنَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ .
S[ ص 271 ] نَذْرُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ فَصْلٌ وَذَكَرَ نَذْرَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ أَنْ يَنْحَرَ ابْنَهُ إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ . وَفِيهِ أَنّ عَبْدَ اللّهِ يَعْنِي : وَالِدَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَانَ أَصْغَرَ بَنِي أَبِيهِ وَهَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ وَلَعَلّ الرّوَايَةَ أَصْغَرَ بَنِي أُمّهِ وَإِلّا فَحَمْزَةُ كَانَ أَصْغَرَ مِنْ عَبْدِ اللّهِ وَالْعَبّاسُ أَصْغَرُ مِنْ حَمْزَةَ وَرُوِيَ عَنْ الْعَبّاسِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - أَنّهُ قَالَ أَذْكُرُ مَوْلِدَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأَنَا ابْنُ ثَلَاثَةِ أَعْوَامٍ أَوْ نَحْوِهَا ، فَجِيءَ بِي حَتّى نَظَرْت إلَيْهِ وَجَعَلَ النّسْوَةُ يَقُلْنَ لِي : قَبّلْ أَخَاك ، قَبّلْ أَخَاك ، فَقَبّلْته ، فَكَيْفَ يَصِحّ أَنْ يَكُونَ عَبْدُ اللّهِ هُوَ الْأَصْغَرَ مَعَ هَذَا ؟ وَلَكِنْ رَوَاهُ الْبَكّائِيّ كَمَا تَقَدّمَ وَلِرِوَايَتِهِ وَجْهٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَصْغَرَ وَلَدِ أَبِيهِ حِينَ أَرَادَ نَحْرَهُ ثُمّ وُلِدَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ حَمْزَةُ وَالْعَبّاسُ . وَسَائِرُ حَدِيثِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ لَيْسَ فِيهِ مَا يُشْكِلُ . وَفِيهِ أَنّ الدّيَةَ كَانَتْ بِعَشْرِ مِنْ الْإِبِلِ قَبْلَ هَذِهِ الْقِصّةِ وَأَوّلُ مَنْ وُدِيَ بِالْمِائَةِ إذًا : عَبْدُ اللّهِ . وَقَدْ قَدّمْنَا مَا ذَكَرَهُ الْأَصْبَهَانِيّ عَنْ أَبِي الْيَقْظَانِ أَنّ أَبَا سَيّارَةَ هُوَ أَوّلُ مَنْ جَعَلَ الدّيَةَ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ وَأَمّا أَوّلُ مَنْ وُدِيَ بِالْإِبِلِ مِنْ الْعَرَبِ : فَزَيْدُ بْنُ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ قَتَلَهُ أَخُوهُ مُعَاوِيَةُ جَدّ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ . وَأَمّا الْكَاهِنَةُ الّتِي تَحَاكَمُوا إلَيْهَا بِالْمَدِينَةِ فَاسْمُهَا : قُطْبَةُ . ذَكَرَهَا عَبْدُ الْغَنِيّ فِي كِتَابِ الْغَوَامِضِ وَالْمُبْهَمَاتِ وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ أَنّ اسْمَهَا : سَجَاحُ . [ ص 272 ] [ ص 273 ]

ذِكْرُ الْمَرْأَةِ الْمُتَعَرّضَةِ لِنِكَاحِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ انْصَرَفَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ آخِذًا بِيَدِ عَبْدِ اللّهِ فَمَرّ بِهِ - فِيمَا يَزْعُمُونَ - عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ : وَهِيَ أُخْتُ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى : وَهِيَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ : فَقَالَتْ لَهُ حِينَ نَظَرَتْ إلَى وَجْهِهِ أَيْن تَذْهَبُ يَا عَبْدَ اللّهِ ؟ قَالَ مَعَ أَبِي . قَالَتْ لَك مِثْلُ الْإِبِلِ الّتِي نُحِرَتْ عَنْك : وَقَعْ عَلَيّ الْآنَ . قَالَ أَنَا مَعَ أَبِي ، وَلَا أَسْتَطِيعُ خِلَافَهُ . وَلَا فِرَاقَهُ . [ ص 275 ] فَخَرَجَ بِهِ عَبْدُ الْمُطّلِبِ حَتّى أَتَى بِهِ وَهْبَ بْنَ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيّدُ بَنِي زُهْرَةَ نَسَبًا وَشَرَفًا - فَزَوّجَهُ ابْنَتَهُ آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ أَفْضَلُ امْرَأَةٍ فِي قُرَيْشٍ نَسَبًا وَمَوْضِعًا . وَهِيَ لِبَرّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ . وَبَرّةُ لِأُمّ حَبِيبِ بِنْتِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ .وَأُمّ حَبِيبٍ لِبَرّةَ بِنْتِ عَوْفِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُوَيْجِ بْنِ عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ . فَزَعَمُوا أَنّهُ دَخَلَ عَلَيْهَا حِينَ أَمْلَكَهَا مَكَانَهُ فَوَضَعَ عَلَيْهَا ، فَحَمَلَتْ بِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ثُمّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا ، فَأَتَى الْمَرْأَةَ الّتِي عَرَضَتْ عَلَيْهِ مَا عَرَضَتْ فَقَالَ لَهَا : مَا لَك لَا تَعْرِضِينَ عَلَيّ الْيَوْمَ مَا كُنْت عَرَضْت عَلَيّ بِالْأَمْسِ ؟ قَالَتْ لَهُ فَارَقَك النّورُ الّذِي كَانَ مَعَك بِالْأَمْسِ فَلَيْسَ [ لِي ] بِك الْيَوْمَ حَاجَةٌ .وَقَدْ كَانَتْ تَسْمَعُ مِنْ أَخِيهَا وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ - وَكَانَ قَدْ تَنَصّرَ وَاتّبَعَ الْكُتُبَ أَنّهُ كَائِنٌ فِي هَذِهِ الْأُمّةِ نَبِيّ . [ ص 276 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي أَبِي إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ : أَنّهُ حُدّثَ أَنّ عَبْدَ اللّهِ إنّمَا دَخَلَ عَلَى امْرَأَةٍ كَانَتْ لَهُ مَعَ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ وَقَدْ عَمِلَ فِي طِينٍ لَهُ وَبِهِ آثَارٌ مِنْ الطّينِ فَدَعَاهَا إلَى نَفْسِهِ فَأَبْطَأَتْ عَلَيْهِ لِمَا رَأَتْ بِهِ مِنْ أَثَرِ الطّينِ فَخَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا فَتَوَضّأَ وَغَسَلَ مَا كَانَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ الطّينِ ثُمّ خَرَجَ عَامِدًا إلَى آمِنَةَ فَمَرّ بِهَا ، فَدَعَتْهُ إلَى نَفْسِهَا ، فَأَبَى عَلَيْهَا ، وَعَمَدَ إلَى آمِنَةَ فَدَخَلَ عَلَيْهَا فَأَصَابَهَا ، فَحَمَلَتْ بِمُحَمّدِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ثُمّ مَرّ بِامْرَأَتِهِ تِلْكَ فَقَالَ لَهَا : هَلْ لَك ؟ قَالَتْ لَا ، مَرَرْت بِي وَبَيْن عَيْنَيْك غُرّةٌ بَيْضَاءُ فَدَعَوْتُك فَأَبَيْت عَلَيّ وَدَخَلْت عَلَى آمِنَةَ فَذَهَبَتْ بِهَا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَزَعَمُوا أَنّ امْرَأَتَهُ تِلْكَ كَانَتْ تُحَدّثُ أَنّهُ مَرّ بِهَا وَبَيْنَ عَيْنَيْهِ غُرّةٌ مِثْلُ غُرّةِ الْفَرَسِ ، قَالَتْ فَدَعَوْته رَجَاءَ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ بِي ، فَأَبَى عَلَيّ وَدَخَلَ عَلَى آمِنَةَ فَأَصَابَهَا ، فَحَمَلَتْ بِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَوْسَطَ قَوْمِهِ نَسَبًا ، وَأَعْظَمَهُمْ شَرَفًا مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
ذِكْرُ مَا قِيلَ لِآمِنَةَ عِنْدَ حَمْلِهَا بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَيَزْعُمُونَ - فِيمَا يَتَحَدّثُ النّاسُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ - أَنّ آمِنَةَ ابْنَةَ وَهْبٍ أُمّ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَانَتْ تُحَدّثُ أَنّهَا أُتِيَتْ حِينَ حَمَلَتْ بِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقِيلَ لَهَا : إنّك قَدْ حَمَلْت بِسَيّدِ هَذِهِ الْأُمّةِ ، فَإِذَا وَقَعَ إلَى الْأَرْضِ فَقُولِي : أُعِيذُهُ بِالْوَاحِدِ مِنْ شَرّ كُلّ حَاسِدٍ ثُمّ سَمّيهِ مُحَمّدًا . وَرَأَتْ حِينَ حَمَلَتْ بِهِ أَنّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ رَأَتْ بِهِ قُصُورَ بُصْرَى ، مِنْ أَرْضِ الشّامِ ثُمّ لَمْ يَلْبَثْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، أَبُو رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنْ هَلَكَ وَأُمّ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حَامِلٌ بِهِ .
Sتَزْوِيجُ عَبْدِ اللّهِ
[ ص 277 ] [ ص 274 ] وَذَكَرَ تَزْوِيجَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ وَذَكَرَ الْبَرْقِيّ فِي سَبَبِ تَزْوِيجِ عَبْدِ اللّهِ آمِنَةَ أَنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ كَانَ يَأْتِي الْيَمَنَ ، وَكَانَ يَنْزِلُ فِيهَا عَلَى عَظِيمٍ مِنْ عُظَمَائِهِمْ فَنَزَلَ عِنْدَهُ مَرّةً فَإِذَا عِنْدَهُ رَجُلٌ مِمّنْ قَرَأَ الْكُتُبَ فَقَالَ لَهُ ائْذَنْ لِي أَقِسْ مَنْخِرَك ، فَقَالَ دُونَك فَانْظُرْ فَقَالَ أَرَى نُبُوّةً وَمُلْكًا ، وَأَرَاهُمَا فِي الْمَنَافَيْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ ، وَعَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ فَلَمّا انْصَرَفَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ انْطَلَقَ بِابْنِهِ عَبْدِ اللّهِ فَتَزَوّجَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ هَالَةَ بِنْتَ وُهَيْبٍ وَهِيَ أُمّ حَمْزَةَ - رَضِيَ اللّهُ - عَنْهُ وَزَوّجَ ابْنَهُ عَبْدَ اللّهِ آمِنَةَ بِنْتَ وَهْبٍ فَوَلَدَتْ لَهُ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
حَوْلَ أُمّهَاتِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَذَكَرَ أُمّهَا وَأُمّ أُمّهَا ، وَالثّالِثَةَ وَهِيَ بَرّةُ بِنْتُ عَوْفٍ وَقَدْ قَدّمْنَا فِي أَوّلِ الْمَوْلِدِ ذِكْرَ أُمّ الثّالِثَةِ وَالرّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ وَنَسَبَهُنّ فَلْيُنْطَرْ هُنَالِكَ . وَأَمّا أُمّ هَالَةَ فَهِيَ الْعَبْلَةُ بِنْتُ الْمُطّلِبِ وَأُمّهَا خَدِيجَةُ بِنْتُ سَعِيدِ بْنِ سَهْمٍ وَقَدْ أَشْكَلَ عَلَى بَعْضِ النّاسِ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ نَذَرَ نَحْرَ أَحَدِ بَنِيهِ إذَا بَلَغُوا عَشَرَةً ثُمّ ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ أَنّ تَزْوِيجَهُ هَالَةَ أُمّ ابْنَه حَمْزَةَ كَانَ بَعْدَ وَفَائِهِ بِنَذْرِهِ فَحَمْزَةُ وَالْعَبّاسُ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا - إنّمَا وُلِدَا بَعْدَ الْوَفَاءِ بِنَذْرِهِ وَإِنّمَا كَانَ جَمِيعُ أَوْلَادِهِ عَشَرَةً . وَلَا إشْكَالَ [ ص 275 ] قَالُوا : كَانَ أَعْمَامُهُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - اثْنَيْ عَشَرَ وَقَالَهُ أَبُو عُمَرَ فَإِنْ صَحّ هَذَا فَلَا إشْكَالَ فِي الْخَبَرِ ، وَإِنْ صَحّ قَوْلُ مَنْ قَالَ كَانُوا عَشَرَةً بِلَا مَزِيدٍ فَالْوَلَدُ يَقَعُ عَلَى الْبَنِينَ وَبَنِيهِمْ حَقِيقَةً لَا مَجَازًا ، فَكَانَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ قَدْ اجْتَمَعَ لَهُ مِنْ وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ عَشَرَةُ رِجَالٍ حِينَ وَفّى بِنَذْرِهِ .
الْمَرْأَةُ الّتِي دَعَتْ عَبْدَ اللّهِ
وَيُرْوَى أَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ حِينَ دَعَتْهُ الْمَرْأَةُ الْأَسَدِيّةُ إلَى نَفْسِهَا لِمَا رَأَتْ فِي وَجْهِهِ مِنْ نُورِ النّبُوّةِ وَرَجَتْ أَنْ تَحْمِلَ بِهَذَا النّبِيّ فَتَكُونَ أُمّهُ دُونَ غَيْرِهَا ، فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ حِينَئِذٍ فِيمَا ذَكَرُوا :
أَمّا الْحَرَامُ فَالْحِمَامُ دُونَهْ ... وَالْحِلّ لَا حِلّ فَأَسْتَبِينَهْ
فَكَيْفَ بِالْأَمْرِ الّذِي تَبْغِينَهْ ... يَحْمِي الْكَرِيمُ عِرْضَهُ وَدِينَهْ ؟
وَاسْمُ هَذِهِ الْمَرْأَةِ رُقَيّةُ بِنْتُ نَوْفَلِ أُخْتُ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ ؛ تُكَنّى : أُمّ قَتّالٍ وَبِهَذِهِ الْكُنْيَةِ وَقَعَ ذِكْرُهَا فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَذَكَرَ الْبَرْقِيّ عَنْ هِشَامِ بْنِ الْكَلْبِيّ قَالَ إنّمَا مَرّ عَلَى امْرَأَةٍ اسْمُهَا : فَاطِمَةُ بِنْتُ مُرّ كَانَتْ مِنْ أَجْمَلِ النّسَاءِ وَأَعَفّهِنّ وَكَانَتْ قَرَأَتْ [ ص 276 ] نُورَ النّبُوّةِ فِي وَجْهِهِ فَدَعَتْهُ إلَى نِكَاحِهَا ، فَأَبَى ، فَلَمّا أَبَى قَالَتْ
إنّي رَأَيْت مُخِيلَةً نَشَأَتْ ... فَتَلَأْلَأَتْ بِحَنَاتِمِ الْقَطْرِ
فَلَمَأْتهَا نُورًا يُضِيءُ بِهِ ... مَا حَوْلَهُ كَإِضَاءَةِ الْفَجْرِ
وَرَأَيْت سُقْيَاهَا حَيَا بَلَدٍ ... وَقَعَتْ بِهِ وَعِمَارَةَ الْقَفْرِ
وَرَأَيْته شَرَفًا أَبُوءُ بِهِ ... مَا كُلّ قَادِحِ زَنْدِهِ يُورِي
لِلّهِ مَا زُهْرِيّةٌ سَلَبَتْ ... مِنْك الّذِي اسْتَلَبَتْ وَمَا تَدْرِي
وَفِي غَرِيبِ ابْنِ قُتَيْبَةَ : أَنّ الّتِي عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَيْهِ هِيَ لَيْلَى الْعَدَوِيّةُ .

وِلَادَةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
[ ص 278 ] قَالَ حَدّثَنَا أَبُو مُحَمّدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ قَالَ حَدّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَكّائِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ قَالَ وُلِدَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَوْمَ الِاثْنَيْنِ ، لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ عَامَ الْفِيلِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي الْمُطّلِبُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ . قَالَ وُلِدْت أَنَا وَرَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَامَ الْفِيلِ فَنَحْنُ لِدَتَانِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ الْأَنْصَارِيّ . قَالَ حَدّثَنِي مَنْ [ ص 279 ] قَوْمِي عَنْ حَسّانَ بْنِ ثَابِتٍ ، قَالَ وَاَللّهِ إنّي لَغُلَامٌ يَفَعَةٌ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ أَوْ ثَمَانٍ أَعْقِلُ كُلّ مَا سَمِعْت ، إذْ سَمِعْت يَهُودِيّا يَصْرُخُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ عَلَى أَطَمَةٍ بِيَثْرِبَ يَا مَعْشَرَ يَهُودَ حَتّى إذَا اجْتَمَعُوا إلَيْهِ قَالُوا لَهُ وَيْلَك مَا لَك ؟ قَالَ طَلَعَ اللّيْلَةَ نَجْمُ أَحْمَدَ الّذِي وُلِدَ بِهِ . قَالَ مُحَمّدُ بْنُ إسْحَاقَ فَسَأَلْت سَعِيدَ بْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ حَسّانَ بْنِ ثَابِتٍ فَقُلْت : ابْنُ كَمْ كَانَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ مَقْدَمَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الْمَدِينَةَ ؟ فَقَالَ ابْنُ سِتّينَ وَقَدِمَهَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً فَسَمِعَ حَسّانُ مَا سَمِعَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا وَضَعَتْهُ أُمّهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَرْسَلَتْ إلَى جَدّهِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ : أَنّهُ قَدْ وُلِدَ لَك غُلَامٌ فَأْتِهِ فَانْظُرْ إلَيْهِ فَأَتَاهُ فَنَظَرَ إلَيْهِ وَحَدّثَتْهُ بِمَا رَأَتْ حِينَ حَمَلَتْ بِهِ وَمَا قِيلَ لَهَا فِيهِ وَمَا أُمِرَتْ بِهِ أَنْ تُسَمّيَهُ .
Sفَصْلٌ فِي الْمَوْلِدِ
[ ص 278 ] بَقِيّ بْنِ مَخْلَدٍ أَنّ إبْلِيسَ - لَعَنَهُ اللّهُ - رَنّ أَرْبَعَ رَنّاتٍ رَنّةً حِينَ لُعِنَ وَرَنّةً حِينَ أُهْبِطَ وَرَنّةً حِينَ وُلِدَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَرَنّةً حِينَ أُنْزِلَتْ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ . قَالَ وَالرّنِينُ وَالنّخَارُ مِنْ عَمَلِ الشّيْطَانِ . قَالَ وَيُكْرَهُ أَنْ يُقَالَ أُمّ الْكِتَابِ وَلَكِنْ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ . وَرُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ عَنْ أُمّهِ أُمّ عُثْمَانَ الثّقَفِيّةِ وَاسْمُهَا : فَاطِمَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللّهِ [ ص 279 ] قَالَتْ " حَضَرْت وِلَادَةَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَرَأَيْت الْبَيْتَ حِينَ وُضِعَ قَدْ امْتَلَأَ نُورًا ، وَرَأَيْت النّجُومَ تَدْنُو حَتّى ظَنَنْت أَنّهَا سَتَقَعُ عَلَيّ " . ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ فِي كِتَابِ النّسَاءِ . وَذَكَرَهُ الطّبَرِيّ أَيْضًا فِي التّارِيخِ . وَوُلِدَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَعْذُورًا مَسْرُورًا ، أَيْ مَخْتُونًا مَقْطُوعَ السّرّةِ يُقَالُ عُذِرَ الصّبِيّ وَأُعْذِرَ . إذَا خُتِنَ وَكَانَتْ أُمّهُ تُحَدّثُ أَنّهَا لَمْ تَجِدْ حِينَ حَمَلَتْ بِهِ مَا تَجِدُهُ الْحَوَامِلُ مِنْ ثِقَلٍ وَلَا وَحَمٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ وَلَمّا وَضَعَتْهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَقَعَ إلَى الْأَرْضِ مَقْبُوضَةً [ ص 280 ] أَصَابِعُ يَدَيْهِ مُشِيرًا بِالسّبّابَةِ كَالْمُسَبّحِ بِهَا ، وَذَكَرَ ابْنُ دُرَيْدٍ أَنّهُ أُلْقِيَتْ عَلَيْهِ جَفْنَةٌ لِئَلّا يَرَاهُ أَحَدٌ قَبْلَ جَدّهِ فَجَاءَ جَدّهُ وَالْجَفْنَةُ قَدْ انْفَلَقَتْ عَنْهُ وَلَمّا قِيلَ لَهُ مَا سَمّيْت ابْنَك ؟ فَقَالَ مُحَمّدًا ، فَقِيلَ لَهُ كَيْفَ سَمّيْت بِاسْمِ لَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ آبَائِك وَقَوْمِك ؟ فَقَالَ إنّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْمَدَهُ أَهْلُ الْأَرْضِ كُلّهُمْ وَذَلِكَ لِرُؤْيَا كَانَ رَآهَا عَبْدُ الْمُطّلِبِ ، وَقَدْ ذَكَرَ حَدِيثَهَا عَلِيّ الْقَيْرَوَانِيّ الْعَابِرُ فِي كِتَابِ الْبُسْتَانِ . قَالَ كَانَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ قَدْ رَأَى فِي مَنَامِهِ كَأَنّ سِلْسِلَةً مِنْ فِضّةٍ خَرَجَتْ مِنْ ظَهْرِهِ لَهَا طَرَفٌ فِي السّمَاءِ وَطَرَفٌ فِي الْأَرْضِ وَطَرَفٌ فِي الْمَشْرِقِ وَطَرَفٌ فِي الْمَغْرِبِ ثُمّ عَادَتْ كَأَنّهَا شَجَرَةٌ عَلَى كُلّ وَرَقَةٍ مِنْهَا نُورٌ وَإِذَا أَهْلُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ كَأَنّهُمْ يَتَعَلّقُونَ بِهَا ، فَقَصّهَا ، فَعُبّرَتْ لَهُ بِمَوْلُودِ يَكُونُ مِنْ صُلْبِهِ يَتْبَعُهُ أَهْلُ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَيَحْمَدُهُ أَهْلُ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَلِذَلِكَ سَمّاهُ مُحَمّدًا مَعَ مَا حَدّثَتْهُ بِهِ أُمّهُ حِينَ قِيلَ لَهَا : إنّك حَمَلْت بِسَيّدِ هَذِهِ الْأُمّةِ فَإِذَا وَضَعْته فَسَمّيهِ مُحَمّدًا . الْحَدِيثَ .
اسْمُ مُحَمّدٍ وَأَحْمَدَ
قَالَ الْمُؤَلّفُ لَا يُعْرَفُ فِي الْعَرَبِ مَنْ تَسَمّى بِهَذَا الِاسْمِ قَبْلَهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلّا ثَلَاثَةٌ طَمِعَ آبَاؤُهُمْ - حِينَ سَمِعُوا بِذِكْرِ مُحَمّدٍ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَبِقُرْبِ زَمَانِهِ وَأَنّهُ يُبْعَثُ فِي الْحِجَازِ - أَنْ يَكُونَ وَلَدًا لَهُمْ . ذَكَرَهُمْ ابْنُ فَوْرَكٍ فِي كِتَابِ الْفُصُولِ وَهُمْ مُحَمّدُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ مُجَاشِعٍ ، جَدّ جَدّ الْفَرَزْدَقِ الشّاعِرِ وَالْآخَرُ مُحَمّدُ بْنُ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ بْنِ الْحَرِيشِ بْنِ جُمَحِىّ بْنِ كُلْفَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ ، وَالْآخَرُ مُحَمّدُ بْنُ حُمْرَانَ بْنِ رَبِيعَةَ ، وَكَانَ آبَاءُ هَؤُلَاءِ الثّلَاثَةِ قَدْ وَفَدُوا عَلَى بَعْضِ الْمُلُوكِ وَكَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ الْأَوّلِ فَأَخْبَرَهُمْ بِمَبْعَثِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَبِاسْمِهِ وَكَانَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَدْ خَلّفَ امْرَأَتَهُ حَامِلًا ، فَنَذَرَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إنْ وُلِدَ لَهُ ذَكَرٌ أَنْ يُسَمّيَهُ مُحَمّدًا ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ . قَالَ الْمُؤَلّفُ وَهَذَا الِاسْمُ مَنْقُولٌ مِنْ الصّفَةِ فَالْمُحَمّدُ فِي اللّغَةِ هُوَ الّذِي يُحْمَدُ حَمْدًا بَعْدَ حَمْدٍ وَلَا يَكُونُ مُفَعّلٌ مِثْلُ مُضَرّبٍ وَمُمَدّحٍ إلّا لِمَنْ تَكَرّرَ فِيهِ الْفِعْلُ مَرّةً بَعْدَ مَرّةً . [ ص 281 ] أَحْمَدُ فَهُوَ اسْمُهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الّذِي سُمّيَ بِهِ عَلَى لِسَانِ عِيسَى وَمُوسَى - عَلَيْهِمَا السّلَامُ - فَإِنّهُ مَنْقُولٌ أَيْضًا مِنْ الصّفَةِ الّتِي مَعْنَاهَا التّفْضِيلُ فَمَعْنَى أَحْمَدَ أَيْ أَحْمَدُ الْحَامِدِينَ لِرَبّهِ وَكَذَلِكَ هُوَ الْمَعْنَى ؛ لِأَنّهُ تُفْتَحُ عَلَيْهِ فِي الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ مَحَامِدُ لَمْ تُفْتَحْ عَلَى أَحَدٍ قَبْلَهُ فَيَحْمَدُ رَبّهُ بِهَا ؛ وَلِذَلِكَ يُعْقَدُ لَهُ لِوَاءُ الْحَمْدِ . وَأَمّا مُحَمّدٌ فَمَنْقُولٌ مِنْ صِفَةٍ أَيْضًا ، وَهُوَ فِي مَعْنَى : مَحْمُودٍ . وَلَكِنْ فِيهِ مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ وَالتّكْرَارِ فَالْمُحَمّدُ هُوَ الّذِي حُمِدَ مَرّةً بَعْدَ مَرّةً كَمَا أَنّ الْمُكَرّمَ مَنْ أُكْرِمَ مَرّةً بَعْدَ مَرّةً وَكَذَلِكَ الْمُمَدّحُ وَنَحْوُ ذَلِكَ . فَاسْمُ مُحَمّدٍ مُطَابِقٌ لِمَعْنَاهُ وَاَللّهُ - سُبْحَانَهُ - وَتَعَالَى سَمّاهُ بِهِ قَبْلَ أَنْ يُسَمّيَ بِهِ نَفْسَهُ فَهَذَا عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ نُبُوّتِهِ إذْ كَانَ اسْمُهُ صَادِقًا عَلَيْهِ فَهُوَ مَحْمُودٌ - عَلَيْهِ السّلَامُ - فِي الدّنْيَا بِمَا هَدَى إلَيْهِ وَنَفَعَ بِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَهُوَ مَحْمُودٌ فِي الْآخِرَةِ بِالشّفَاعَةِ فَقَدْ تَكَرّرَ مَعْنَى الْحَمْدِ كَمَا يَقْتَضِي اللّفْظُ ثُمّ إنّهُ لَمْ يَكُنْ مُحَمّدًا ، حَتّى كَانَ أَحْمَدُ حَمِدَ رَبّهُ فَنَبّأَهُ وَشَرّفَهُ فَلِذَلِكَ تَقَدّمَ اسْمُ أَحْمَدَ عَلَى الِاسْمِ الّذِي هُوَ مُحَمّدٌ فَذَكَرَهُ عِيسَى - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ اسْمُهُ أَحْمَدُ وَذَكَرَهُ مُوسَى - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ قَالَ لَهُ رَبّهُ تِلْكَ أُمّةُ أَحْمَدَ فَقَالَ اللّهُمّ اجْعَلْنِي مِنْ أُمّةِ أَحْمَدَ فَبِأَحْمَدَ ذُكِرَ قَبْلَ أَنْ يُذْكَرَ بِمُحَمّدِ لِأَنّ حَمْدَهُ لِرَبّهِ كَانَ قَبْلَ حَمْدِ النّاسِ لَهُ فَلَمّا وُجِدَ وَبُعِثَ كَانَ مُحَمّدًا بِالْفِعْلِ . وَكَذَلِكَ فِي الشّفَاعَةِ يَحْمَدُ رَبّهُ بِالْمَحَامِدِ الّتِي يَفْتَحُهَا عَلَيْهِ فَيَكُونُ أَحْمَدَ الْحَامِدِينَ لِرَبّهِ ثُمّ يَشْفَعُ فَيُحْمَدُ عَلَى شَفَاعَتِهِ . فَانْظُرْ كَيْفَ تَرَتّبَ هَذَا الِاسْمُ قَبْلَ الِاسْمِ الْآخَرِ فِي الذّكْرِ وَالْوُجُودِ وَفِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَلُحْ لَك الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيّةُ فِي تَخْصِيصِهِ بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ وَانْظُرْ كَيْفَ أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْحَمْدِ وَخُصّ بِهَا دُونَ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَخُصّ بِلِوَاءِ الْحَمْدِ وَخُصّ بِالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ وَانْظُرْ كَيْفَ شَرّعَ لَنَا سُنّةً وَقُرْآنًا أَنْ نَقُولَ عِنْدَ اخْتِتَامِ الْأَفْعَالِ وَانْقِضَاءِ الْأُمُورِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ . قَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ } [ الزّمَرَ 75 ] . وَقَالَ أَيْضًا : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ } [ يُونُسَ 10 ] [ ص 282 ] وَسَنّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الْحَمْدَ بَعْدَ الْأَكْلِ وَالشّرْبِ وَقَالَ عِنْدَ انْقِضَاءِ السّفَرِ آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبّنَا حَامِدُونَ ثُمّ اُنْظُرْ لِكَوْنِهِ - عَلَيْهِ السّلَامُ - خَاتَمَ الْأَنْبِيَاءِ وَمُؤْذِنًا بِانْقِضَاءِ الرّسَالَةِ وَارْتِفَاعِ الْوَحْيِ وَنَذِيرًا بِقُرْبِ السّاعَةِ وَتَمَامِ الدّنْيَا مَعَ أَنّ الْحَمْدَ كَمَا قَدّمْنَا مَقْرُونٌ بِانْقِضَاءِ الْأُمُورِ مَشْرُوعٌ عِنْدَهُ - تَجِدُ مَعَانِيَ اسْمَيْهِ جَمِيعًا ، وَمَا خُصّ بِهِ مِنْ الْحَمْدِ وَالْمَحَامِدِ مُشَاكِلًا لِمَعْنَاهُ مُطَابِقًا لِصِفَتِهِ وَفِي ذَلِكَ بُرْهَانٌ عَظِيمٌ وَعِلْمٌ وَاضِحٌ عَلَى نُبُوّتِهِ وَتَخْصِيصِ اللّهِ لَهُ بِكَرَامَتِهِ وَأَنّهُ قَدّمَ لَهُ هَذِهِ الْمُقَدّمَاتِ قَبْلَ وُجُودِهِ تَكْرِمَةً لَهُ وَتَصْدِيقًا لِأَمْرِهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَشَرَفٌ وَكَرَمٌ .

فَيَزْعُمُونَ أَنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ أَخَذَهُ فَدَخَلَ بِهِ الْكَعْبَةَ ، فَقَامَ يَدْعُو اللّهَ وَيَشْكُرُ لَهُ مَا أَعْطَاهُ ثُمّ خَرَجَ بِهِ إلَى أُمّهِ فَدَفَعَهُ إلَيْهَا ، وَالْتَمَسَ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الرّضَعَاءَ . [ ص 280 ] [ ص 281 ] [ ص 282 ] [ ص 283 ]Sتَعْوِيذُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ
وَذُكِرَ أَنّ عَبْدَ الْمُطّلِب ِ دَخَلَ بِهِ الْكَعْبَةَ وَعَوّذَهُ وَدَعَا لَهُ . وَفِي غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ أَنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ قَالَ وَهُوَ يُعَوّذُهُ
الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَعْطَانِي ... هَذَا الْغُلَامَ الطّيّبَ الْأَرْدَانِ
قَدْ سَادَ فِي الْمَهْدِ عَلَى الْغِلْمَانِ ... أُعِيذُهُ بِالْبَيْتِ ذِي الْأَرْكَانِ
حَتّى يَكُونَ بُلْغَةَ الْفِتْيَانِ ... حَتّى أَرَاهُ بَالِغَ الْبُنْيَانِ
أُعِيذُهُ مِنْ كُلّ ذِي شَنَآنِ ... مِنْ حَاسِدٍ مُضْطَرِبِ الْعِنَانِ
ذِي هِمّةٍ لَيْسَ لَهُ عَيْنَانِ ... حَتّى أَرَاهُ رَافِعَ السّانِ
أَنْتَ الّذِي سُمّيت فِي الْقُرْآنِ ... فِي كُتُبٍ ثَابِتَةِ الْمَثَانِي
أَحْمَدُ مَكْتُوبٌ عَلَى الْبَيَانِ
تَارِيخُ مَوْلِدِهِ
فَصْلٌ
وَذُكِرَ أَنّ مَوْلِدَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ كَانَ فِي رَبِيعٍ الْأَوّلِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ وَقَالَ الزّبَيْرُ كَانَ مَوْلِدُهُ فِي رَمَضَانَ وَهَذَا الْقَوْلُ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ إنّ أُمّهُ حَمَلَتْ بِهِ فِي أَيّامِ التّشْرِيقِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . [ ص 283 ] مَكّةَ فِي الْمُحَرّمِ وَأَنّهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وُلِدَ بَعْدَ مَجِيءِ الْفِيلِ بِخَمْسِينَ يَوْمًا ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ وَالْأَشْهَرُ وَأَهْلُ الْحِسَابِ يَقُولُونَ وَافَقَ مَوْلِدُهُ مِنْ الشّهُورِ الشّمْسِيّةِ نَيْسَانَ فَكَانَتْ لِعِشْرِينَ مَضَتْ مِنْهُ وَوُلِدَ بِالْغَفْرِ مِنْ الْمَنَازِلِ وَهُوَ مَوْلِدُ النّبِيّينَ وَلِذَلِكَ قِيلَ خَيْرُ مَنْزِلَتَيْنِ فِي الْأَبَدِ بَيْنَ الزّنَابَا وَالْأَسَدِ لِأَنّ الْغَفْرَ يَلِيهِ مِنْ الْعَقْرَبِ زُنَابَاهَا ، وَلَا ضَرَرَ فِي الزّنَابَا إنّمَا تَضُرّ الْعَقْرَبُ بِذَنَبِهَا ، وَيَلِيهِ مِنْ الْأَسَدِ أَلْيَتُهُ وَهُوَ السّمَاكُ وَالْأَسَدُ لَا يَضُرّ بِأَلْيَتِهِ إنّمَا يَضُرّ بِمِخْلَبِهِ وَنَابِهِ . وَوُلِدَ بِالشّعْبِ ، وَقِيلَ بِالدّارِ الّتِي عِنْدَ الصّفَا ، وَكَانَتْ بَعْدُ لِمُحَمّدِ بْنِ يُوسُفَ أَخِي الْحَجّاجِ ، ثُمّ بَنَتْهَا زُبَيْدَةُ مَسْجِدًا حِينَ حَجّتْ .
تَحْقِيقُ وَفَاةِ أَبِيهِ
وَذَكَرَ أَنّهُ مَاتَ أَبُوهُ وَهُوَ حَمْلٌ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنّهُ كَانَ فِي الْمَهْدِ . ذَكَرَهُ الدّوْلَابِيّ وَغَيْرُهُ قِيلَ ابْنُ شَهْرَيْنِ ذَكَرَهُ [ أَحْمَدُ ] ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ [ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ ] وَقِيلَ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَمَاتَ أَبُوهُ عِنْدَ أَخْوَالِهِ بَنِي النّجّارِ ، ذَهَبَ لِيَمْتَارَ لِأَهْلِهِ تَمْرًا ، وَقَدْ قِيلَ مَاتَ أَبُوهُ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا ، وَأَنْشَدُوا رَجَزًا لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ يَقُولُهُ لِابْنِهِ أَبِي طَالِبٍ :
أُوصِيك يَا عَبْدَ مَنَافٍ بَعْدِي ... بِمُوتَمِ بَعْدَ أَبِيهِ فَرْدِ
فَارَقَهُ وَهُوَ ضَجِيعُ الْمَهْدِ وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَبِيهِ - عَلَيْهِ السّلَامُ - فِي السّنّ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ عَامًا .

[ ص 284 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْمَرَاضِعُ . وَفِي كِتَابِ اللّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي قِصّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السّلَامُ { وَحَرّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ } [ ص 285 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَاسْتَرْضَعَ لَهُ امْرَأَةً مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ، يُقَالُ لَهَا : حَلِيمَةُ ابْنَةُ أَبِي ذُؤَيْبٍ . وَأَبُو ذُؤَيْبٍ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ شِجْنَةَ بْنِ جَابِرِ بْنِ رِزَامِ بْنِ نَاصِرَةَ بْنِ فُصَيّةَ بْنِ نَصْرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصَفَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ [ بْنِ مُضَرَ ] . وَاسْمُ أَبِيهِ الّذِي أَرْضَعَهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ مَلّانَ بْنِ نَاصِرَةَ بْنِ فُصَيّةَ بْنِ نَصْرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ هِلَالُ بْنُ نَاصِرَةَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَإِخْوَتُهُ مِنْ الرّضَاعَةِ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْحَارِثِ ، وَأُنَيْسَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ وَخِدَامَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ وَهِيَ الشّيْمَاءُ غَلَبَ ذَلِكَ عَلَى اسْمِهَا فَلَا تُعْرَفُ فِي قَوْمِهَا إلّا بِهِ . وَهُمْ لِحَلِيمَةَ بِنْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ ، عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحَارِثِ ، أُمّ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَيَذْكُرُونَ أَنّ الشّيْمَاءَ كَانَتْ تَحْضُنُهُ مَعَ أُمّهَا إذَا كَانَ عِنْدَهُمْ .Sأَبُوهُ مِنْ الرّضَاعَة
وَذَكَرَ الْحَارِثَ بْنَ عَبْدِ الْعُزّى أَبَا رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ الرّضَاعَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ إسْلَامًا ، وَلَا ذَكَرَهُ كَثِيرٌ مِمّنْ أَلّفَ فِي الصّحَابَةِ وَقَدْ ذَكَرَهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ فِي رِوَايَتِهِ فَقَالَ حَدّثَنَا ابْنُ إسْحَاقَ قَالَ حَدّثَنِي وَالِدِي إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ، قَالَ قَدِمَ الْحَارِثُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى ، أَبُو رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ الرّضَاعَةِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِمَكّةَ حِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ فَقَالَتْ لَهُ قُرَيْشٌ : أَلَا تَسْمَعُ يَا حَارِ مَا يَقُولُ ابْنُك هَذَا ؟ فَقَالَ وَمَا [ ص 284 ] قَالُوا : يَزْعُمُ أَنّ اللّهَ يَبْعَثُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَنّ لِلّهِ دَارَيْنِ يُعَذّبُ فِيهِمَا مَنْ عَصَاهُ وَيُكْرِمُ فِيهِمَا مَنْ أَطَاعَهُ فَقَدْ شَتّتْ أَمْرَنَا ، وَفَرّقَ جَمَاعَتَنَا . فَأَتَاهُ فَقَالَ أَيْ بُنَيّ مَا لَك وَلِقَوْمِك يَشْكُونَك ، وَيَزْعُمُونَ أَنّك تَقُولُ إنّ النّاسَ يُبْعَثُونَ بَعْدَ الْمَوْتِ ثُمّ يَصِيرُونَ إلَى جَنّةٍ وَنَارٍ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - نَعَمْ أَنَا أَزْعُمُ ذَلِكَ وَلَوْ قَدْ كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمَ يَا أَبَتْ لَقَدْ أَخَذْت بِيَدِك ، حَتّى أُعَرّفَك حَدِيثَك الْيَوْمَ فَأَسْلَمَ الْحَارِثُ بَعْدَ ذَلِكَ وَحَسُنَ إسْلَامُهُ وَكَانَ يَقُولُ حِينَ أَسْلَمَ : لَوْ قَدْ أَخَذَ ابْنِي بِيَدِي ، فَعَرّفَنِي مَا قَالَ ثُمّ يُرْسِلُنِي إنْ شَاءَ اللّهُ حَتّى يُدْخِلَنِي الْجَنّةَ .
تَحْقِيقُ اسْمِ نَاصِرَةَ بْنِ قُصَيّةَ
وَذَكَرَ نَاصِرَةَ بْنَ قُصَيّةَ فِي نَسَبِ حَلِيمَةَ . وَهُوَ عِنْدَهُمْ فُصَيّةُ بِالْفَاءِ تَصْغِيرُ فَصَاةٍ وَهِيَ النّوَاةُ . وَوَقَعَ فِي الْأَصْلِ فِي جَمِيعِ النّسَخِ قُصَيّةُ بِالْقَافِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَيْضًا : الْفَصَا : حَبّ الزّبِيبِ وَهُوَ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى .
الشّيْمَاءُ
وَذَكَرَ الشّيْمَاءَ أُخْتَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ الرّضَاعَةِ وَقَالَ فِي اسْمِهَا : خِذَامَةُ بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمَنْقُوطَةِ وَقَالَ غَيْرُهُ حُذَافَةُ بِالْحَاءِ الْمَضْمُومَةِ وَبِالْفَاءِ مَكَانَ الْمِيمِ وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ يُونُسُ فِي رِوَايَتِهِ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ فِي كِتَابِ النّسَاءِ .
شَرْحُ مَا فِي حَدِيثِ الرّضَاعِ
الرّضَعَاءُ وَالْمَرَاضِعُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فَالْتَمَسَ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الرّضَعَاءَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ إنّمَا هُوَ الْمَرَاضِعُ . قَالَ وَفِي كِتَابِ اللّهِ سُبْحَانَهُ { وَحَرّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ } [ الْقَصَصَ 12 ] وَاَلّذِي قَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ ظَاهِرٌ لِأَنّ الْمَرَاضِعَ جَمْعُ مُرْضِعٍ وَالرّضَعَاءُ جَمْعُ رَضِيعٍ وَلَكِنْ لِرِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ مَخْرَجٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا حَذْفُ الْمُضَافِ كَأَنّهُ قَالَ ذَوَاتَ الرّضَعَاءِ وَالثّانِي أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالرّضَعَاءِ الْأَطْفَالَ عَلَى حَقِيقَةِ اللّفْظِ لِأَنّهُمْ إذَا وَجَدُوا لَهُ مُرْضِعَةً تُرْضِعُهُ فَقَدْ وَجَدُوا لَهُ رَضِيعًا ، يَرْضَعُ مَعَهُ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ الْتَمَسُوا لَهُ رَضِيعًا ، عِلْمًا بِأَنّ الرّضِيعَ لَا بُدّ لَهُ مِنْ مُرْضِعٍ . [ ص 285 ]
مُرْضِعَاتُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ
وَأَرْضَعَتْهُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - ثُوَيْبَةُ قَبْلَ حَلِيمَةَ . أَرْضَعَتْهُ وَعَمّهُ حَمْزَةَ وَعَبْدَ اللّهِ بْنَ جَحْشٍ ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَعْرِفُ ذَلِكَ لِثُوَيْبَةَ وَيَصِلُهَا مِنْ الْمَدِينَةِ ، فَلَمّا افْتَتَحَ مَكّةَ سَأَلَ عَنْهَا وَعَنْ ابْنِهَا مَسْرُوحٍ ، فَأُخْبِرَ أَنّهُمَا مَاتَا ، وَسَأَلَ عَنْ قَرَابَتِهَا ، فَلَمْ يَجِدْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَيّا . وَثُوَيْبَةُ كَانَتْ جَارِيَةً لِأَبِي لَهَبٍ ، وَسَنَذْكُرُ بَقِيّةَ حَدِيثِهَا - إنْ شَاءَ اللّهُ - عِنْدَ وَفَاةِ أَبِي لَهَبٍ .
يُغَذّيهِ أَوْ يُغَدّيهِ
وَذَكَرَ قَوْلَ حَلِيمَةَ : وَلَيْسَ فِي شَارِفِنَا مَا يُغَذّيهِ . وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ : مَا يُغَذّيهِ بِالذّالِ الْمَنْقُوطَةِ وَهُوَ أَتَمّ فِي الْمَعْنَى مِنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى ذِكْرِ الْغَدَاءِ دُونَ الْعَشَاءِ وَلَيْسَ فِي أَصْلِ الشّيْخِ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ وَعِنْدَ بَعْضِ النّاسِ رِوَايَةٌ غَيْرُ هَاتَيْنِ وَهِيَ يُعْذِبُهُ بِعَيْنِ مُهْمَلَةٍ وَذَالٍ مَنْقُوطَةٍ وَبَاءٍ مُعْجَمَةٍ بِوَاحِدَةِ وَمَعْنَاهَا عِنْدَهُمْ مَا يُقْنِعُهُ حَتّى يَرْفَعَ رَأْسَهُ وَيَنْقَطِعَ عَنْ الرّضَاعِ يُقَالُ مِنْهُ عَذَبْته وَأَعْذَبْته : إذَا قَطَعْته عَنْ الشّرْبِ وَنَحْوِهِ وَالْعَذُوبُ الرّافِعُ رَأْسَهُ عَنْ الْمَاءِ وَجَمْعُهُ عُذُوبٌ بِالضّمّ وَلَا يُعْرَفُ فَعُولٌ جُمِعَ عَلَى فُعُولٍ غَيْرُهُ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَاَلّذِي فِي الْأَصْلِ أَصَحّ فِي الْمَعْنَى وَالنّقْلِ .

[ ص 286 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي جَهْمُ بْنُ أَبِي جَهْمٍ مَوْلَى الْحَارِثِ بْنِ حَاطِبٍ الْجُمَحِيّ : عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، أَوْ عَمّنْ حَدّثَهُ عَنْهُ قَالَ كَانَتْ حَلِيمَةُ بِنْتُ أَبِي ذُؤَيْبٍ السّعْدِيّةُ ، أُمّ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الّتِي أَرْضَعَتْهُ تُحَدّثُ أَنّهَا خَرَجَتْ مِنْ بَلَدِهَا مَعَ زَوْجِهَا ، وَابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ تُرْضِعُهُ فِي نِسْوَةٍ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ، تَلْتَمِسُ الرّضَعَاءَ قَالَتْ وَذَلِكَ فِي سَنَةٍ شَهْبَاءَ لَمْ تُبْقِ لَنَا شَيْئًا . قَالَتْ فَخَرَجْت عَلَى أَتَانٍ لِي قَمْرَاءَ مَعَنَا شَارِفٌ لَنَا ، وَاَللّهِ مَا تَبِضّ بِقَطْرَةِ وَمَا نَنَامُ لَيْلَنَا أَجْمَعَ مِنْ صَبِيّنَا الّذِي مَعَنَا ، مِنْ بُكَائِهِ مِنْ الْجُوعِ مَا فِي ثَدْيَيّ مَا يُغْنِيهِ وَمَا فِي شَارِفِنَا مَا يُغَدّيهِ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ يُغَذّيهِ - وَلَكِنّا كُنّا نَرْجُو الْغَيْثَ وَالْفَرَجَ فَخَرَجْت عَلَى أَتَانِي تِلْكَ فَلَقَدْ أَدَمْت بِالرّكْبِ حَتّى شَقّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ضَعْفًا وَعَجَفًا ، حَتّى قَدِمْنَا مَكّةَ نَلْتَمِسُ [ ص 287 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَتَأْبَاهُ إذَا قِيلَ لَهَا إنّهُ يَتِيمٌ وَذَلِكَ أَنّا إنّمَا كُنّا نَرْجُو الْمَعْرُوفَ مِنْ أَبِي الصّبِيّ فَكُنّا نَقُولُ يَتِيمٌ وَمَا عَسَى أَنْ تَصْنَعَ أُمّهُ وَجَدّهُ فَكُنّا نَكْرَهُهُ لِذَلِكَ فَمَا بَقِيَتْ امْرَأَةٌ قَدِمَتْ مَعِي إلّا أَخَذَتْ رَضِيعًا غَيْرِي ، فَلَمّا أَجْمَعْنَا الِانْطِلَاقَ قُلْت لِصَاحِبِي : وَاَللّهِ إنّي لَأَكْرَهُ أَنْ أَرْجِعَ مِنْ بَيْنِ صَوَاحِبِي وَلَمْ آخُذْ رَضِيعًا ، وَاَللّهِ لَأَذْهَبَنّ إلَى ذَلِكَ الْيَتِيمِ فَلَآخُذَنّهُ قَالَ لَا عَلَيْك أَنْ تَفْعَلِي ، عَسَى اللّهُ أَنْ يَجْعَلَ لَنَا فِيهِ بَرَكَةً . قَالَتْ فَذَهَبْت إلَيْهِ فَأَخَذْته ، وَمَا حَمَلَنِي عَلَى أَخْذِهِ إلّا أَنّي لَمْ أَجِدْ غَيْرَهُ . قَالَتْ فَلَمّا أَخَذْته ، رَجَعْت بِهِ إلَى رَحْلِي فَلَمّا وَضَعْته فِي حِجْرِي أَقْبَلَ عَلَيْهِ ثَدْيَايَ بِمَا شَاءَ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبَ حَتّى رَوِيَ وَشَرِبَ مَعَهُ أَخُوهُ حَتّى رَوِيَ ثُمّ نَامَا ، وَمَا كُنّا نَنَامُ مَعَهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَقَامَ زَوْجِي إلَى شَارِفِنَا تِلْكَ فَإِذَا إنّهَا لَحَافِلٌ فَحَلَبَ [ ص 288 ] قَالَتْ يَقُولُ صَاحِبِي حِينَ أَصْبَحْنَا : تَعْلَمِي وَاَللّهِ يَا حَلِيمَةُ ، لَقَدْ أَخَذْت نَسَمَةً مُبَارَكَةً قَالَتْ فَقُلْت : وَاَللّهِ إنّي لَأَرْجُو ذَلِكَ . قَالَتْ ثُمّ خَرَجْنَا وَرَكِبْت أَتَانِي ، وَحَمَلْته عَلَيْهَا مَعِي ، فَوَاَللّهِ لَقَطَعْت بِالرّكْبِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ خُمُرِهِمْ حَتّى إنّ صَوَاحِبِي لَيَقِفْنَ لِي : يَا ابْنَةَ أَبِي ذُؤَيْبٍ ، وَيْحَك ارْبَعِي عَلَيْنَا ، أَلَيْسَتْ هَذِهِ أَتَانَك الّتِي كُنْت خَرَجْت عَلَيْهَا ؟ فَأَقُولُ لَهُنّ بَلَى وَاَللّهِ إنّهَا لَهِيَ هِيَ فَيَقُلْنَ وَاَللّهِ إنّ لَهَا شَأْنًا . قَالَتْ ثُمّ قَدِمْنَا مَنَازِلَنَا مِنْ بِلَادِ بَنِي سَعْدٍ . وَمَا أَعْلَمُ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ اللّه أَجْدَبَ مِنْهَا . فَكَانَتْ غَنَمِي تَرُوحُ عَلَيّ حِينَ قَدِمْنَا بِهِ مَعَنَا شِبَاعًا لُبْنًا . فَنَحْلُبُ وَنَشْرَبُ . وَمَا يَحْلُبُ إنْسَانٌ قَطْرَةَ لَبَنٍ وَلَا يَجِدُهَا فِي ضَرْعٍ . حَتّى كَانَ الْحَاضِرُونَ مِنْ قَوْمِنَا يَقُولُونَ لِرُعْيَانِهِمْ وَيْلَكُمْ اسْرَحُوا حَيْثُ يَسْرَحُ رَاعِي بِنْتِ أَبِي ذُؤَيْب ٍ فَتَرُوحُ أَغْنَامُهُمْ جِيَاعًا مَا تَبِضّ بِقَطْرَةِ لَبَنٍ وَتَرُوحُ غَنَمِي شِبَاعًا لُبْنًا ، فَلَمْ نَزَلْ نَتَعَرّفُ مِنْ اللّهِ الزّيَادَةَ وَالْخَيْرَ حَتّى مَضَتْ سَنَتَاهُ وَفَصَلْته ؛ وَكَانَ يَشِبّ شَبَابًا لَا يَشِبّهُ الْغِلْمَانُ فَلَمْ يَبْلُغْ سَنَتَيْهِ حَتّى كَانَ غُلَامًا جَفْرًا . قَالَتْ فَقَدِمْنَا بِهِ عَلَى أُمّهِ وَنَحْنُ أَحْرَصُ شَيْءٍ عَلَى مُكْثِهِ فِينَا ؛ لِمَا كُنّا نَرَى مِنْ بَرَكَتِهِ . فَكَلّمْنَا أُمّهُ وَقُلْت لَهَا : لَوْ تَرَكْت بُنَيّ عِنْدِي حَتّى يَغْلُظَ فَإِنّي أَخْشَى عَلَيْهِ وَبَأَمَكّةَ قَالَتْ فَلَمْ نَزَلْ بِهَا حَتّى رَدّتْهُ مَعَنَا .Sمِنْ شَرْحِ حَدِيثِ الرّضَاعَةِ
[ ص 286 ] وَذَكَرَ قَوْلَهَا : حَتّى أَذَمَمْت بِالرّكْبِ . تُرِيدُ أَنّهَا حَبَسَتْهُمْ وَكَأَنّهُ مِنْ الْمَاءِ الدّائِمِ وَهُوَ الْوَاقِفُ وَيُرْوَى : حَتّى أَذَمّتْ . أَيْ أَذَمّتْ الْأَتَانُ أَيْ جَاءَتْ بِمَا تُذَمّ عَلَيْهِ أَوْ يَكُونُ مِنْ قَوْلِهِمْ بِئْرٌ ذَمّةٌ أَيْ قَلِيلَةُ الْمَاءِ وَلَيْسَتْ هَذِهِ عِنْدَ أَبِي الْوَلِيدِ وَلَا فِي أَصْلِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ وَقَدْ ذَكَرَهَا قَاسِمٌ فِي الدّلَائِلِ وَلَمْ يَذْكُرْ رِوَايَةً أُخْرَى ، وَذَكَرَ تَفْسِيرَهَا عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ أَذَمّ بِالرّكْبِ إذَا أَبْطَأَ حَتّى حَبَسَتْهُمْ مِنْ الْبِئْرِ الذّمّةِ وَهِيَ الْقَلِيلَةُ الْمَاءِ . وَذَكَرَ قَوْلَ حَلِيمَةَ : فَلَمّا وَضَعْته فِي حِجْرِي أَقْبَلَ عَلَيْهِ ثَدْيَايَ بِمَا شَاءَ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبَ حَتّى رَوِيَ وَشَرِبَ مَعَهُ أَخُوهُ حَتّى رَوِيَ . وَذَكَرَ غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَانَ لَا يُقْبِلُ إلّا عَلَى ثَدْيِهَا الْوَاحِدِ وَكَانَتْ تَعْرِضُ عَلَيْهِ الثّدْيَ الْآخَرَ فَيَأْبَاهُ كَأَنّهُ قَدْ أُشْعِرَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - أَنّ مَعَهُ شَرِيكًا فِي لِبَانِهَا ، وَكَانَ مَفْطُورًا عَلَى الْعَدْلِ مَجْبُولًا عَلَى الْمُشَارَكَةِ وَالْفَضْلِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
الْتِمَاسُ الْأَجْرِ عَلَى الرّضَاعِ
قَالَ الْمُؤَلّفُ وَالْتِمَاسُ الْأَجْرِ عَلَى الرّضَاعِ لَمْ يَكُنْ مَحْمُودًا عِنْدَ أَكْثَرِ نِسَاءِ الْعَرَبِ ، حَتّى جَرَى الْمَثَلُ تَجُوعُ الْمَرْأَةُ وَلَا تَأْكُلُ بِثَدْيَيْهَا ، وَكَانَ عِنْدَ بَعْضِهِنّ لَا بَأْسَ بِهِ فَقَدْ كَانَتْ حَلِيمَةُ وَسِيطَةً فِي بَنِي سَعْدٍ ، كَرِيمَةً مِنْ كَرَائِمِ قَوْمِهَا ، بِدَلِيلِ اخْتِيَارِ اللّهِ - تَعَالَى - إيّاهَا لِرَضَاعِ نَبِيّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَمَا اخْتَارَ لَهُ أَشْرَفَ الْبُطُونِ وَالْأَصْلَابِ . وَالرّضَاعُ كَالنّسَبِ لِأَنّهُ يُغَيّرُ الطّبَاعَ . [ ص 287 ] الْمُسْنَدِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - تَرْفَعُهُ لَا تَسْتَرْضِعُوا الْحَمْقَى ؛ فَإِنّ اللّبَنَ يُورِثُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ حَلِيمَةُ وَنِسَاءُ قَوْمِهَا طَلَبْنَ الرّضَعَاءَ اضْطِرَارًا لِلْأَزْمَةِ الّتِي أَصَابَتْهُمْ وَالسّنَةِ الشّهْبَاءِ الّتِي اقْتَحَمَتْهُمْ .
لِمَ كَانَتْ قُرَيْشٌ تَدْفَعُ أَوْلَادَهَا إلَى الْمَرَاضِعِ ؟
وَأَمّا دَفْعُ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ أَوْلَادَهُمْ إلَى الْمَرَاضِعِ فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِوُجُوهِ . أَحَدُهَا : تَفْرِيغُ النّسَاءِ إلَى الْأَزْوَاجِ كَمَا قَالَ عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ لِأُمّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - وَكَانَ أَخَاهَا مِنْ الرّضَاعَةِ حِينَ انْتَزَعَ مِنْ حِجْرِهَا زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ ، فَقَالَ دَعِي هَذِهِ الْمَقْبُوحَةَ الْمَشْقُوحَةَ الّتِي آذَيْت بِهَا رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَيْضًا لِيَنْشَأَ الطّفْلُ فِي الْأَعْرَابِ ، فَيَكُونَ أَفْصَحَ لِلِسَانِهِ وَأَجْلَدَ لِجِسْمِهِ وَأَجْدَرَ أَنْ لَا يُفَارِقَ الْهَيْئَةَ الْمَعَدّيّةَ كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ تَمَعْدَدُوا وَتَمَعْزَزُوا وَاخْشَوْشِنُوا [ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ ] . وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - حِينَ قَالَ لَهُ مَا رَأَيْت أَفْصَحَ مِنْك يَا رَسُولَ اللّهِ فَقَالَ وَمَا يَمْنَعُنِي ، وَأَنَا مِنْ قُرَيْشٍ ، وَأُرْضِعْت فِي بَنِي سَعْدٍ ؟ فَهَذَا وَنَحْوُهُ كَانَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى دَفْعِ الرّضَعَاءِ إلَى الْمَرَاضِعِ الْأَعْرَابِيّاتِ . وَقَدْ ذُكِرَ أَنّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَانَ يَقُولُ أَضَرّ بِنَا حُبّ الْوَلِيدِ لِأَنّ الْوَلِيدَ كَانَ لَحّانًا ، وَكَانَ سُلَيْمَانُ [ ص 288 ] أَقَامَ مَعَ أُمّهِ وَسُلَيْمَانُ وَغَيْرُهُ مِنْ إخْوَتِهِ سَكَنُوا الْبَادِيَةَ ، فَتَعَرّبُوا ، ثُمّ أُدّبُوا فَتَأَدّبُوا ، وَكَانَ مِنْ قُرَيْشٍ أَعْرَابٌ وَمِنْهُمْ حَضَرٌ فَالْأَعْرَابُ مِنْهُمْ بَنُو الْأَدْرَمِ وَبَنُو مُحَارِبٍ ، وَأَحْسَبُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ كَذَلِكَ لِأَنّهُمْ مِنْ أَهْلِ الظّوَاهِرِ ، وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْبِطَاحِ .

قَالَتْ فَرَجَعْنَا بِهِ فَوَاَللّهِ إنّهُ بَعْدَ مَقْدَمِنَا بِأَشْهُرِ مَعَ أَخِيهِ لَفِي بَهْمٍ لَنَا خَلْفَ بُيُوتِنَا ، إذْ أَتَانَا أَخُوهُ يَشْتَدّ ، فَقَالَ لِي وَلِأَبِيهِ ذَاكَ أَخِي الْقُرَشِيّ قَدْ أَخَذَهُ رَجُلَانِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ فَأَضْجَعَاهُ فَشَقّا بَطْنَهُ فَهُمَا يُسَوّطَانِهِ قَالَتْ فَخَرَجْت أَنَا وَأَبُوهُ نَحْوَهُ فَوَجَدْنَاهُ قَائِمًا مُنْتَقِعًا وَجْهُهُ . قَالَتْ فَالْتَزَمْته وَالْتَزَمَهُ أَبُوهُ فَقُلْنَا لَهُ مَا لَك يَا بُنَيّ قَالَ جَاءَنِي رَجُلَانِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ فَأَضْجَعَانِي وَشَقّا بَطْنِي ، فَالْتَمَسَا شَيْئًا لَا أَدْرِي مَا هُوَ . قَالَتْ فَرَجَعْنَا إلَى خِبَائِنَا . قَالَتْ وَقَالَ لِي أَبُوهُ يَا حَلِيمَةُ ، لَقَدْ خَشِيت أَنْ يَكُونَ هَذَا الْغُلَامُ قَدْ أُصِيبَ [ ص 289 ] قَالَتْ فَاحْتَمَلْنَاهُ فَقَدِمْنَا بِهِ عَلَى أُمّهِ فَقَالَتْ مَا أَقْدَمَك بِهِ يَا ظِئْرُ وَقَدْ كُنْت حَرِيصَةً عَلَيْهِ وَعَلَى مُكْثِهِ عِنْدَك ؟ قَالَتْ فَقُلْت : قَدْ بَلَغَ اللّهَ يَا بُنَيّ وَقَضَيْت الّذِي عَلَيّ وَتَخَوّفْت الْأَحْدَاثَ عَلَيْهِ فَأَدّيْته إلَيْك كَمَا تُحِبّينَ . قَالَتْ مَا هَذَا شَأْنَك ، فَأَصْدِقِينِي خَبَرَك . قَالَتْ فَلَمْ تَدَعْنِي حَتّى أَخْبَرْتهَا . قَالَتْ أَفَتَخَوّفْت عَلَيْهِ الشّيْطَانَ ؟ قَالَتْ قُلْت : نَعَمْ قَالَتْ كَلّا . وَاَللّهِ مَا لِلشّيْطَانِ عَلَيْهِ مِنْ سَبِيلٍ وَإِنّ لِبُنَيّ لَشَأْنًا ، أَفَلَا أُخْبِرُك خَبَرَهُ . قَالَتْ بَلَى . قَالَتْ رَأَيْت حِينَ حَمَلْت بِهِ أَنّهُ خَرَجَ مِنّي نُورٌ أَضَاءَ لِي قُصُورَ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشّامِ . ثُمّ حَمَلْت بِهِ فَوَاَللّهِ مَا رَأَيْت مِنْ حَمْلٍ قَطّ كَانَ أَخَفّ وَلَا أَيْسَرَ مِنْهُ وَوَقَعَ حِينَ وَلَدْته ، وَإِنّهُ لَوَاضِعٌ يَدَيْهِ بِالْأَرْضِ رَافِعٌ رَأْسَهُ إلَى السّمَاءِ . دَعِيهِ عَنْك ، وَانْطَلِقِي رَاشِدَةً . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا أَحْسَبُهُ إلّا عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ الْكَلَاعِيّ أَنّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالُوا لَهُ يَا رَسُولَ [ ص 290 ] قَالَ نَعَمْ أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إبْرَاهِيمَ ، وَبُشْرَى أَخِي عِيسَى ، وَرَأَتْ أُمّي حِينَ حَمَلَتْ بِي أَنّهُ خَرَجَ مِنْهَا نُورٌ أَضَاءَ لَهَا قُصُورَ الشّامِ ، وَاسْتُرْضِعْت فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ . فَبَيْنَا أَنَا مَعَ أَخ لِي خَلْفَ بُيُوتِنَا نَرْعَى بَهْمًا لَنَا . إذْ أَتَانِي رَجُلَانِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ بِطَسْتِ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٍ ثَلْجًا . ثُمّ أَخَذَانِي فَشَقّا بَطْنِي ، وَاسْتَخْرَجَا قَلْبِي ، فَشَقّاهُ فَاسْتَخْرَجَا مِنْهُ عَلَقَةً سَوْدَاءَ فَطَرَحَاهَا . ثُمّ غَسَلَا قَلْبِي وَبَطْنِي بِذَلِكَ الثّلْجِ حَتّى [ ص 291 ] أَنْقَيَاهُ ثُمّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ زِنْهُ بِعَشَرَةِ مِنْ أُمّتِهِ فَوَزَنَنِي بِهِ فَوَزَنْتهمْ ثُمّ قَالَ زِنْهُ بِمِئَةِ مِنْ أُمّتِهِ . فَوَزَنَنِي بِهِمْ فَوَزَنْتهمْ ثُمّ قَالَ زِنْهُ بِأَلْفِ مِنْ أُمّتِهِ فَوَزَنَنِي بِهِمْ فَوَزَنْتهمْ . فَقَالَ دَعْهُ عَنْك ، فَوَاَللّهِ لَوْ وَزَنْته بِأُمّتِهِ لَوَزَنَهَا [ ص 292 ] [ ص 293 ]Sشَقّ الصّدْرِ
وَذَكَرَ قَوْلَ أَخِيهِ مِنْ الرّضَاعَةِ نَزَلَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ أَبْيَضَانِ فَشَقّا عَنْ بَطْنِهِ وَهُمَا يَسُوطَانِهِ يُقَالُ سُطْت اللّبَنَ أَوْ الدّمَ أَوْ غَيْرَهُمَا ، أَسُوطُهُ إذَا ضَرَبْت بَعْضَهُ بِبَعْضِ . وَالْمِسْوَطُ عُودٌ يُضْرَبُ بِهِ . [ ص 289 ] ابْنِ إسْحَاقَ أَنّهُ نَزَلَ عَلَيْهِ كُرْكِيّانِ فَشَقّ أَحَدُهُمَا بِمِنْقَارِهِ جَوْفَهُ وَمَجّ الْآخَرُ بِمِنْقَارِهِ فِيهِ ثَلْجًا ، أَوْ بَرَدًا ، أَوْ نَحْوَ هَذَا ، وَهِيَ رِوَايَةٌ غَرِيبَةٌ ذَكَرَهَا يُونُسُ عَنْهُ وَاخْتَصَرَ ابْنُ إسْحَاقَ حَدِيثَ نُزُولِ الْمَلَكَيْنِ عَلَيْهِ وَهُوَ أَطْوَلُ مِنْ هَذَا . وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدّنْيَا وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادِ يَرْفَعُهُ إلَى أَبِي ذَرّ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - قَالَ قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ كَيْفَ عَلِمْت أَنّك نَبِيّ ، وَبِمَ عَلِمْت حَتّى اسْتَيْقَنْت ؟ قَالَ يَا أَبَا ذَرّ أَتَانِي مَلَكَانِ وَأَنَا بِبَطْحَاءِ مَكّةَ ، فَوَقَعَ أَحَدُهُمَا بِالْأَرْضِ وَكَانَ الْآخَرُ بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ أَهُوَ هُوَ ؟ قَالَ هُوَ هُوَ قَالَ فَزِنْهُ بِرَجُلِ فَوَزَنَنِي بِرَجُلِ فَرَجَحْته ، ثُمّ قَالَ زِنْهُ بِعَشَرَةِ فَوَزَنَنِي فَرَجَحْتهمْ ثُمّ قَالَ زِنْهُ بِمِائَةِ فَوَزَنَنِي ، فَرَجَحْتهمْ ثُمّ قَالَ زِنْهُ بِأَلْفِ فَوَزَنَنِي فَرَجَحْتهمْ حَتّى جَعَلُوا يَتَثَاقَلُونَ عَلَيّ مِنْ كِفّةِ الْمِيزَانِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ شُقّ بَطْنَهُ فَشَقّ بَطْنِي ، فَأَخْرَجَ قَلْبِي ، فَأَخْرَجَ مَعَهُ مَغْمَزَ الشّيْطَانِ وَعَلَقَ الدّمِ فَطَرَحَهُمَا ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ اغْسِلْ بَطْنَهُ غَسْلَ الْإِنَاءِ وَاغْسِلْ قَلْبَهُ غَسْلَ الْمُلَاءِ ثُمّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ خُطّ بَطْنَهُ فَخَاطَ بَطْنِي ، وَجَعَلَ الْخَاتَمَ بَيْنَ كَتِفَيّ كَمَا هُوَ الْآنَ وَوَلّيَا عَنّي ، فَكَأَنّي أُعَايِنُ الْأَمْرَ مُعَايَنَةً فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانٌ لِمَا أُبْهِمَ فِي الْأَوّلِ لِأَنّهُ قَالَ فَأَخْرَجَ مِنْهُ مَغْمَزَ [ ص 290 ] الشّيْطَانِ وَعَلَقَ الدّمِ فَبَيّنَ أَنّ الّذِي اُلْتُمِسَ فِيهِ هُوَ الّذِي يَغْمِزُهُ الشّيْطَانُ مِنْ كُلّ مَوْلُودٍ إلّا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمّهُ - عَلَيْهِمَا السّلَامُ - لِقَوْلِ أُمّهَا حُنّةَ { وَإِنّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيّتَهَا مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ } [ آلَ عِمْرَانَ : 36ْ ] . فَلَمْ يَصِلْ إلَيْهِ لِذَلِكَ وَلِأَنّهُ لَمْ يُخْلَقْ مِنْ مَنِيّ الرّجَالِ فَأُعِيذُهُ مِنْ مَغْمَزٍ وَإِنّمَا خُلِقَ مِنْ نَفْخَةِ رُوحِ الْقُدُسِ ، وَلَا يَدُلّ هَذَا عَلَى فَضْلِ عِيسَى عَلَيْهِ السّلَامُ عَلَى مُحَمّدٍ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِأَنّ مُحَمّدًا - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَدْ نُزِعَ مِنْهُ ذَلِكَ الْمَغْمَزُ وَمُلِئَ قَلْبُهُ حِكْمَةً وَإِيمَانًا ، بَعْدَ أَنْ غَسَلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ بِالثّلْجِ وَالْبَرَدِ وَإِنّمَا كَانَ ذَلِكَ الْمَغْمَزُ فِيهِ لِمَوْضِعِ الشّهْوَةِ الْمُحَرّكَةِ لِلْمَنِيّ وَالشّهَوَاتُ يَحْضُرُهَا الشّيَاطِينُ لَا سِيمَا شَهْوَةُ مَنْ لَيْسَ بِمُؤْمِنِ فَكَانَ ذَلِكَ الْمَغْمَزُ رَاجِعًا إلَى الْأَبِ لَا إلَى الِابْنِ الْمُطَهّرِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَفِي الْحَدِيثِ فَائِدَةٌ أُخْرَى ، وَهِيَ مِنْ نَفِيسِ الْعِلْمِ وَذَلِكَ أَنّ خَاتَمَ النّبُوّةِ لَمْ يُدْرَ هَلْ خُلِقَ بِهِ أَمْ وُضِعَ فِيهِ بَعْدَمَا وُلِدَ أَوْ حِينَ نُبّئَ فَبَيّنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَتَى وُضِعَ وَكَيْفَ وُضِعَ وَمَنْ وَضَعَهُ زَادَنَا اللّهُ عِلْمًا ، وَأَوْزَعَنَا شُكْرَ مَا عَلّمَ وَفِيهِ الْبَيَانُ لِمَا سَأَلَ عَنْهُ أَبُو ذَرّ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - حِينَ قَالَ كَيْفَ عَلِمْت أَنّك نَبِيّ ، فَأَعْلَمَهُ بِكَيْفِيّةِ ذَلِكَ غَيْرَ أَنّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَهْمًا مِنْ بَعْضِ النّقَلَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ بَيْنَمَا أَنَا بِبَطْحَاءِ مَكّةَ ، وَهَذِهِ الْقِصّةُ لَمْ تَعْرِضْ لَهُ إلّا وَهُوَ فِي بَنِي سَعْدٍ مَعَ حَلِيمَةَ ، كَمَا ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ وَغَيْرُهُ وَقَدْ رَوَاهُ الْبَزّارُ مِنْ طَرِيقِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِي ذَرّ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - فَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ بَطْحَاءَ مَكّةَ .
حَدِيثُ السّكِينَةِ
وَذُكِرَ فِيهِ أَنّهُ قَالَ وَأُوتِيت بِالسّكِينَةِ كَأَنّهَا رَهْرَهَةٌ فَوُضِعَتْ فِي صَدْرِي . قَالَ وَلَا أَعْلَمُ لِعُرْوَةِ سَمَاعًا مِنْ أَبِي ذَرّ . وَذَكَرَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ عَنْ أَبِي ذَرّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لَهُ يَا أَبَا ذَرّ وُزِنْت بِأَرْبَعِينَ أَنْتَ فِيهِمْ فَرَجَحْتهمْ وَالرّهْرَهَةُ بَصِيصُ الْبَشَرَةِ فَهَذَا بَيَانُ وَضْعِ الْخَاتَمِ مَتَى وُضِعَ . [ ص 291 ]
مَسْأَلَةُ شَقّ الصّدْرِ مَرّةً أُخْرَى
وَأَمّا مَتَى وَجَبَتْ لَهُ النّبُوّةُ فَرُوِيَ عَنْ مَيْسَرَةَ أَنّهُ قَالَ لَهُ مَتَى وَجَبَتْ لَك النّبُوّةُ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ فَقَالَ وَآدَمُ بَيْنَ الرّوحِ وَالْجَسَدِ وَيُرْوَى : وَآدَمُ مُجَنْدَلٌ فِي طِينَتِهِ . وَهَذَا الْخَبَرُ يُرْوَى عَنْهُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - عَلَى وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنّهُ شُقّ عَنْ قَلْبِهِ وَهُوَ مَعَ رَابّتِهِ وَمُرْضِعَتِهِ فِي بَنِي سَعْدٍ ، وَأَنّهُ جِيءَ بِطَسْتِ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ ثَلْجٌ فَغُسِلَ بِهِ قَلْبُهُ وَالثّانِي فِيهِ أَنّهُ غُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ ، وَأَنّ ذَلِكَ كَانَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ حِينَ عُرِجَ بِهِ إلَى السّمَاءِ بَعْدَمَا بُعِثَ بِأَعْوَامِ وَفِيهِ أَنّهُ أُتِيَ بِطَسْتِ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا ، فَأُفْرِغَ فِي قَلْبِهِ . وَذَكَرَ بَعْضُ مَنْ أَلّفَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ أَنّهُ تَعَارَضَ فِي الرّوَايَتَيْنِ وَجَعَلَ يَأْخُذُ فِي تَرْجِيحِ الرّوَاةِ وَتَغْلِيطِ بَعْضِهِمْ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ بَلْ كَانَ هَذَا التّقْدِيسُ وَهَذَا التّطْهِيرُ مَرّتَيْنِ . الْأُولَى : فِي حَالِ الطّفُولِيّةِ لِيُنَقّى قَلْبُهُ مِنْ مَغْمَزِ الشّيْطَانِ وَلِيُطَهّرَ وَيُقَدّسَ مِنْ كُلّ خُلُقٍ ذَمِيمٍ حَتّى لَا يَتَلَبّسَ بِشَيْءِ مِمّا يُعَابُ عَلَى الرّجَالِ وَحَتّى لَا يَكُونَ فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ إلّا التّوْحِيدُ وَلِذَلِكَ قَالَ فَوَلّيَا عَنّي ، يَعْنِي : الْمَلَكَيْنِ وَكَأَنّي أُعَايِنُ الْأَمْرَ مُعَايَنَةً . وَالثّانِيَةُ فِي حَالِ اكْتِهَالٍ وَبَعْدَمَا نُبّئَ وَعِنْدَمَا أَرَادَ اللّهُ أَنْ يَرْفَعَهُ إلَى الْحَضْرَةِ الْمُقَدّسَةِ الّتِي لَا يَصْعَدُ إلَيْهَا إلّا مُقَدّسٌ وَعُرِجَ بِهِ هُنَالِكَ لِتُفْرَضَ عَلَيْهِ الصّلَاةُ وَلِيُصَلّيَ بِمَلَائِكَةِ السّمَوَاتِ وَمِنْ شَأْنِ الصّلَاةِ الطّهُورُ فَقُدّسَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، وَغُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ . وَفِي الْمَرّةِ الْأُولَى بِالثّلْجِ لِمَا يُشْعِرُ الثّلْجُ مِنْ ثَلْجِ الْيَقِينِ وَبَرْدِهِ عَلَى الْفُؤَادِ وَكَذَلِكَ هُنَاكَ حَصَلَ لَهُ الْيَقِينُ بِالْأَمْرِ الّذِي يُرَادُ بِهِ وَبِوَحْدَانِيّةِ رَبّهِ . وَأَمّا فِي الثّانِيَةِ فَقَدْ كَانَ مُوقِنًا مُنَبّئًا ، فَإِنّمَا طُهّرَ لِمَعْنَى آخَرَ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ دُخُولِ حَضْرَةِ الْقُدُسِ وَالصّلَاةِ فِيهَا ، وَلِقَاءِ الْمَلِكِ الْقُدّوسِ فَغَسَلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ بِمَاءِ زَمْزَمَ الّتِي هِيَ [ ص 292 ] الْقُدُسِ ، وَهَمْزَةُ عَقِبِهِ لِأَبِيهِ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ - وَجِيءَ بِطَسْتِ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا ، فَأُفْرِغَ فِي قَلْبِهِ وَقَدْ كَانَ مُؤْمِنًا ، وَلَكِنّ اللّهَ تَعَالَى قَالَ { لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ } [ الْفَتْحَ 4 ] وَقَالَ { وَيَزْدَادَ الّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا } [ الْمُدّثّرَ 31 ] . فَإِنْ قِيلَ وَكَيْفَ يَكُونُ الْإِيمَانُ وَالْحِكْمَةُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ وَالْإِيمَانُ عَرَضٌ وَالْأَعْرَاضُ لَا يُوصَفُ بِهَا إلّا مَحَلّهَا الّذِي تَقُومُ بِهِ وَلَا يَجُوزُ فِيهِ الِانْتِقَالُ لِأَنّ الِانْتِقَالَ مِنْ صِفَةِ الْأَجْسَامِ لَا مِنْ صِفَةِ الْأَعْرَاضِ ؟ قُلْنَا : إنّمَا عَبّرَ عَمّا كَانَ فِي الطّسْتِ بِالْحِكْمَةِ وَالْإِيمَانِ كَمَا عَبّرَ عَنْ اللّبَنِ الّذِي شَرِبَهُ وَأَعْطَى فَضْلَهُ عُمَرَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - بِالْعِلْمِ فَكَانَ تَأْوِيلُ مَا أُفْرِغَ فِي قَلْبِهِ حِكْمَةً وَإِيمَانًا ، وَلَعَلّ الّذِي كَانَ فِي الطّسْتِ كَانَ ثَلْجًا وَبَرَدًا - كَمَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوّلِ - فَعَبّرَ عَنْهُ فِي الْمَرّةِ الثّانِيَةِ بِمَا يَئُولُ إلَيْهِ وَعَبّرَ عَنْهُ فِي الْمَرّةِ الْأُولَى بِصُورَتِهِ الّتِي رَآهَا ، لِأَنّهُ فِي الْمَرّةِ الْأُولَى كَانَ طِفْلًا ، فَلَمّا رَأَى الثّلْجَ فِي طَسْتِ الذّهَبِ اعْتَقَدَهُ ثَلْجًا ، حَتّى عَرَفَ تَأْوِيلَهُ بَعْدُ . وَفِي الْمَرّةِ الثّانِيَةِ كَانَ نَبِيّا ، فَلَمّا رَأَى طَسْتَ الذّهَبِ مَمْلُوءًا ثَلْجًا عَلِمَ التّأْوِيلَ لِحِينِهِ وَاعْتَقَدَهُ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ حِكْمَةً وَإِيمَانًا ، فَكَانَ لَفْظُهُ فِي الْحَدِيثَيْنِ عَلَى حَسَبِ اعْتِقَادِهِ فِي الْمَقَامَيْنِ . مُنَاسَبَةُ الذّهَبِ لِلْمَعْنَى الْمَقْصُودِ وَكَانَ الذّهَبُ فِي الْحَالَتَيْنِ جَمِيعًا مُنَاسِبًا لِلْمَعْنَى الّذِي قُصِدَ بِهِ . فَإِنْ نَظَرْت إلَى لَفْظِ الذّهَبِ فَمُطَابِقٌ لِلْإِذْهَابِ فَإِنّ اللّهَ - عَزّ وَجَلّ - أَرَادَ أَنْ يُذْهِبَ عَنْهُ الرّجْسَ وَيُطَهّرَهُ تَطْهِيرًا ، وَإِنْ نَظَرْت إلَى مَعْنَى الذّهَبِ وَأَوْصَافِهِ وَجَدْته أَنْقَى شَيْءٍ وَأَصْفَاهُ يُقَالُ فِي الْمَثَلِ أَنْقَى مِنْ الذّهَبِ . وَقَالَتْ بَرِيرَةُ فِي عَائِشَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - مَا أَعْلَمُ عَلَيْهَا إلّا مَا يَعْلَمُ الصّائِغُ عَلَى الذّهَبِ الْأَحْمَرِ وَقَالَ حُذَيْفَةُ فِي صِلَةِ بْنِ أَشْيَمَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا : إنّمَا قَلْبُهُ مِنْ ذَهَبٍ وَقَالَ جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ فِي الْخَلِيلِ بْنِ أَحْمَدَ : إنّهُ لَرَجُلٌ مِنْ ذَهَبٍ يُرِيدُونَ النّقَاءَ مِنْ الْعُيُوبِ فَقَدْ طَابَقَ طَسْتَ الذّهَبِ مَا أُرِيدَ بِالنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ نَقَاءِ قَلْبِهِ . وَمِنْ أَوْصَافِ الذّهَبِ أَيْضًا الْمُطَابِقَةِ لِهَذَا الْمَقَامِ ثِقَلُهُ وَرُسُوبُهُ فَإِنّهُ يُجْعَلُ فِي الزّيبَقِ الّذِي هُوَ أَثْقَلُ الْأَشْيَاءِ فَيَرْسُبُ وَاَللّهُ تَعَالَى يَقُولُ { إِنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا } [ الْمُزّمّلَ 5 ] . وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - إنّمَا ثَقُلَتْ مَوَازِينُ الْمُحِقّينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِاتّبَاعِهِمْ الْحَقّ وَحُقّ لِمِيزَانِ لَا يُوضَعُ فِيهِ إلّا الْحَقّ أَنْ يَكُون ثَقِيلًا ، وَقَالَ فِي أَهْلِ الْبَاطِلِ بِعَكْسِ هَذَا وَقَدْ رُوِيَ أَنّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ فَثَقُلَ عَلَيْهَا حَتّى سَاخَتْ قَوَائِمُهَا فِي الْأَرْضِ فَقَدْ [ ص 293 ] وَمِنْ أَوْصَافِ الذّهَبِ أَيْضًا أَنّهُ لَا تَأْكُلُهُ النّارُ وَكَذَلِكَ الْقُرْآنُ لَا تَأْكُلُ النّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَلْبًا وَعَاهُ وَلَا بَدَنًا عَمِلَ بِهِ قَالَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَوْ كَانَ الْقُرْآنُ فِي إهَابٍ ثُمّ طُرِحَ فِي النّارِ مَا احْتَرَقَ وَمِنْ أَوْصَافِ الذّهَبِ الْمُنَاسِبَةِ لِأَوْصَافِ الْقُرْآنِ وَالْوَحْيِ أَنّ الْأَرْضَ لَا تُبْلِيهِ وَأَنّ الثّرَى لَا يَذْرِيهِ وَكَذَلِكَ الْقُرْآنُ لَا يَخْلُقُ عَلَى كَثْرَةِ الرّدّ وَلَا يُسْتَطَاعُ تَغْيِيرُهُ وَلَا تَبْدِيلُهُ وَمِنْ أَوْصَافِهِ أَيْضًا : نَفَاسَتُهُ وَعِزّتُهُ عِنْدَ النّاسِ وَكَذَلِكَ الْحَقّ وَالْقُرْآنُ عَزِيزٌ قَالَ سُبْحَانَهُ { وَإِنّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ } [ فُصّلَتْ 41 ] . فَهَذَا إذَا نَظَرْت إلَى أَوْصَافِهِ وَلَفْظِهِ وَإِذَا نَظَرْت إلَى ذَاتِهِ وَظَاهِرِهِ فَإِنّهُ زُخْرُفُ الدّنْيَا وَزِينَتُهَا ، وَقَدْ فُتِحَ بِالْقُرْآنِ وَالْوَحْيِ عَلَى مُحَمّدٍ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأُمّتِهِ خَزَائِنُ الْمُلُوكِ وَتَصِيرُ إلَى أَيْدِيهِمْ ذَهَبُهَا وَفِضّتُهَا ، وَجَمِيعُ زُخْرُفِهَا وَزِينَتِهَا ، ثُمّ وُعِدُوا بِاتّبَاعِ الْقُرْآنِ وَالْوَحْيِ قُصُورَ الذّهَبِ وَالْفِضّةِ فِي الْجَنّةِ . قَالَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - جَنّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا مِنْ ذَهَبٍ وَفِي التّنْزِيلِ { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ } [ الزّخْرُفَ 7 ] { يُحَلّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [ الْحَجّ 23 ، وَفَاطِرَ 33 ] فَكَانَ ذَلِكَ الذّهَبُ يُشْعِرُ بِالذّهَبِ الّذِي يَصِيرُ إلَيْهِ مَنْ اتّبَعَ الْحَقّ وَالْقُرْآنَ وَأَوْصَافُهُ تُشْعِرُ بِأَوْصَافِ الْحَقّ وَالْقُرْآنُ وَلَفْظُهُ يُشْعِرُ بِإِذْهَابِ الرّجْسِ كَمَا تَقَدّمَ فَهَذِهِ حِكَمٌ بَالِغَةٌ لِمَنْ تَأَمّلَ وَاعْتِبَارٌ صَحِيحٌ لِمَنْ تَدَبّرَ وَالْحَمْدُ لِلّهِ . وَفِي ذِكْرِ الطّسْتِ وَحُرُوفِ اسْمِهِ حِكْمَةٌ تَنْظُرُ إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ } [ النّمْلَ 1 ] وَمِمّا يُسْأَلُ عَنْهُ هَلْ خُصّ هُوَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِغَسْلِ قَلْبِهِ فِي الطّسْتِ أَمْ فُعِلَ ذَلِكَ بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ فَفِي خَبَرِ التّابُوتِ وَالسّكِينَةِ أَنّهُ كَانَ فِيهِ الطّسْتُ الّتِي غُسِلَتْ فِيهَا قُلُوبُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السّلَامُ . ذَكَرَهُ الطّبَرِيّ ، وَقَدْ انْتَزَعَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ حَدِيثِ الطّسْتِ حَيْثُ جُعِلَ مَحَلّا لِلْإِيمَانِ وَالْحِكْمَةِ جَوَازَ تَحْلِيَةِ الْمُصْحَفِ بِالذّهَبِ وَهُوَ فِقْهٌ حَسَنٌ فَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرّ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - هَذَا الّذِي قَدّمْنَاهُ مَتَى عَلِمَ أَنّهُ نَبِيّ . [ ص 294 ]
الْحِكْمَةُ فِي خَتْمِ النّبُوّةِ
وَالْحِكْمَةُ فِي خَاتَمِ النّبُوّةِ عَلَى جِهَةِ الِاعْتِبَارِ أَنّهُ لَمّا مُلِئَ قَلْبُهُ حِكْمَةً وَيَقِينًا ، خُتِمَ عَلَيْهِ كَمَا يُخْتَمُ عَلَى الْوِعَاءِ الْمَمْلُوءِ مِسْكًا أَوْ دُرّا ، وَأَمّا وَضْعُهُ عِنْدَ نُغْضِ كَتِفِهِ فَلِأَنّهُ مَعْصُومٌ مِنْ وَسْوَسَةِ الشّيْطَانِ وَذَلِكَ الْمَوْضِعُ مِنْهُ يُوَسْوِسُ الشّيْطَانُ لِابْنِ آدَمَ . رَوَى مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنّ رَجُلًا سَأَلَ رَبّهُ أَنْ يُرِيَهُ مَوْضِعَ الشّيْطَانِ مِنْهُ فَأُرِيَ جَسَدًا مُمَهّى يُرَى دَاخِلُهُ مِنْ خَارِجِهِ وَالشّيْطَانُ فِي صُورَةِ ضِفْدَعٍ عِنْدَ نُغْضِ كَتِفِهِ حِذَاءَ قَلْبِهِ لَهُ خُرْطُومٌ كَخُرْطُومِ الْبَعُوضَةِ وَقَدْ أَدْخَلَهُ إلَى قَلْبِهِ يُوَسْوِسُ فَإِذَا ذَكَرَ اللّهَ تَعَالَى الْعَبْدُ خَنَسَ
رَدّ حَلِيمَةَ لِلنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
فَصْلٌ
وَكَانَ رَدّ حَلِيمَةَ إيّاهُ إلَى أُمّهِ وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ وَشَهْرٍ فِيمَا ذَكَرَ أَبُو عُمَرَ ثُمّ لَمْ تَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ إلّا مَرّتَيْنِ إحْدَاهُمَا بَعْدَ تَزْوِيجِهِ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - جَاءَتْهُ تَشْكُو إلَيْهِ السّنَةَ وَأَنّ قَوْمَهَا قَدْ أَسْنَتُوا فَكَلّمَ لَهَا خَدِيجَةَ ، فَأَعْطَتْهَا عِشْرِينَ رَأْسًا مِنْ غَنَمِ وَبَكَرَاتٍ وَالْمَرّةَ الثّانِيَةَ يَوْمُ حُنَيْنٍ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا إنْ شَاءَ اللّهُ .
تَأْوِيلُ النّورِ الّذِي رَأَتْهُ آمِنَةُ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ النّورَ الّذِي رَأَتْهُ آمِنَةُ حِينَ وَلَدَتْهُ عَلَيْهِ السّلَامُ فَأَضَاءَتْ لَهَا قُصُورَ الشّامِ ، وَذَلِكَ بِمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْبِلَادِ حَتّى كَانَتْ الْخِلَافَةُ فِيهَا مُدّةَ بَنِي أُمَيّةَ ، وَاسْتَضَاءَتْ تِلْكَ الْبِلَادُ وَغَيْرُهَا بِنُورِهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَكَذَلِكَ رَأَى خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِي قَبْلَ الْمَبْعَثِ بِيَسِيرِ نُورًا يَخْرُجُ مِنْ زَمْزَمَ ، حَتّى ظَهَرَتْ لَهُ الْبُسْرُ فِي نَخِيلِ يَثْرِبَ ، فَقَصّهَا عَلَى أَخِيهِ عَمْرٍو ، فَقَالَ لَهُ إنّهَا حَفِيرَةُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَإِنّ هَذَا النّورَ مِنْهُمْ فَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ مُبَادَرَتِهِ إلَى الْإِسْلَامِ .

[ ص 294 ] ابْنِ إسْحَاقَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَقُولُ مَا مِنْ نَبِيّ إلّا وَقَدْ رَعَى الْغَنَمَ [ ص 295 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَقُولُ لِأَصْحَابِهِ أَنَا أَعْرَبُكُمْ أَنَا قُرَشِيّ ، وَاسْتُرْضِعْت فِي بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ . [ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ ] . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَزَعَمَ النّاسُ فِيمَا يَتَحَدّثُونَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ أَنّ أُمّهُ السّعْدِيّةَ لَمّا قَدِمَتْ بِهِ مَكّةَ أَضَلّهَا فِي النّاسِ وَهِيَ مُقْبِلَةٌ بِهِ نَحْوَ أَهْلِهِ فَالْتَمَسَتْهُ فَلَمْ تَجِدْهُ فَأَتَتْ عَبْدَ الْمُطّلِبِ ، فَقَالَتْ لَهُ إنّي قَدْ قَدِمْت بِمُحَمّدِ هَذِهِ اللّيْلَةَ فَلَمّا كُنْت بِأَعْلَى مَكّةَ أَضَلّنِي ، فَوَاَللّهِ مَا أَدْرِي أَيْنَ هُوَ فَقَامَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ يَدْعُو اللّهَ أَنْ يَرُدّهُ فَيَزْعُمُونَ أَنّهُ وَجَدَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدٍ ، وَرَجُلٌ آخَرُ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَأَتَيَا بِهِ عَبْدَ الْمُطّلِبِ ، فَقَالَا لَهُ هَذَا ابْنُك وَجَدْنَاهُ بِأَعْلَى مَكّةَ ، فَأَخَذَهُ عَبْدُ الْمُطّلِبِ ، فَجَعَلَهُ عَلَى عُنُقِهِ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ يَعُوذُهُ وَيَدْعُو لَهُ ثُمّ أَرْسَلَ بِهِ إلَى أُمّهِ آمِنَةَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ مِمّا هَاجَ أُمّهُ السّعْدِيّةَ عَلَى رَدّهِ إلَى أُمّهِ مَعَ مَا ذَكَرَتْ لِأُمّهِ مِمّا أَخْبَرَتْهَا عَنْهُ أَنّ نَفَرًا مِنْ الْحَبَشَةِ نَصَارَى رَأَوْهُ مَعَهَا حِينَ رَجَعَتْ بِهِ بَعْدَ فِطَامِهِ فَنَظَرُوا إلَيْهِ وَسَأَلُوهَا عَنْهُ وَقَلّبُوهُ ثُمّ قَالُوا لَهَا : لَنَأْخُذَنّ هَذَا الْغُلَامَ ، فَلَنَذْهَبَنّ بِهِ إلَى مُلْكِنَا وَبَلَدِنَا ؛ فَإِنّ هَذَا غُلَامٌ كَائِنٌ لَهُ شَأْنٌ نَحْنُ نَعْرِفُ أَمْرَهُ فَزَعَمَ الّذِي حَدّثَنِي أَنّهَا لَمْ تَكَدْ تَنْفَلِتُ بِهِ مِنْهُمْ [ ص 296 ]Sرَعْيُهُ الْغَنَمَ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ قَوْلَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَا مِنْ نَبِيّ إلّا وَقَدْ رَعَى الْغَنَمَ . قِيلَ وَأَنْتَ يَا [ ص 295 ] قَالَ " وَأَنَا " . وَإِنّمَا أَرَادَ ابْنُ إسْحَاقَ بِهَذَا الْحَدِيثِ رِعَايَتَهُ الْغَنَمَ فِي بَنِي سَعْدٍ مَعَ أَخِيهِ مِنْ الرّضَاعَةِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصّحِيحِ أَنّهُ رَعَاهَا بِمَكّةَ أَيْضًا عَلَى قَرَارِيطَ لِأَهْلِ مَكّةَ . ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ ، وَذَكَرَ الْبُخَارِيّ عَنْهُ أَيْضًا أَنّهُ قَالَ مَا هَمَمْت بِشَيْءِ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيّةِ إلّا مَرّتَيْنِ وَرَوَى أَنّ إحْدَى الْمَرّتَيْنِ كَانَ فِي غَنَمٍ يَرْعَاهَا هُوَ وَغُلَامٌ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَقَالَ لِصَاحِبِهِ اكْفِنِي أَمْرَ الْغَنَمِ حَتّى آتِيَ مَكّةَ ، وَكَانَ بِهَا عُرْسٌ فِيهَا لَهْوٌ وَزَمْرٌ فَلَمّا دَنَا مِنْ الدّارِ لِيَحْضُرَ ذَلِكَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ النّوْمُ فَنَامَ حَتّى ضَرَبَتْهُ الشّمْسُ عِصْمَةً مِنْ اللّهِ لَهُ وَفِي الْمَرّةِ الْآخِرَةِ قَالَ لِصَاحِبِهِ مِثْلَ ذَلِكَ وَأُلْقِيَ عَلَيْهِ النّوْمُ فِيهَا ، كَمَا أُلْقِيَ فِي الْمَرّةِ الْأُولَى . ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى ابْنُ إسْحَاقَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْبَكّائِيّ . وَفِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ لِلْقُتَبِيّ بُعِثَ مُوسَى - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ رَاعِي غَنَمٍ [ ص 296 ] دَاوُدُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ رَاعِي غَنَمٍ وَبُعِثْت ، وَأَنَا رَاعِي غَنَمِ أَهْلِي بِأَجْيَادِ وَإِنّمَا جَعَلَ اللّهُ هَذَا فِي الْأَنْبِيَاءِ تَقْدِمَةً لَهُمْ لِيَكُونُوا رُعَاةَ الْخَلْقِ وَلِتَكُونَ أُمَمُهُمْ رَعَايَا لَهُمْ وَقَدْ رَأَى رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنّهُ يَنْزِعُ عَلَى قَلِيبٍ وَحَوْلَهَا غَنَمٌ سُودٌ وَغَنَمٌ عُفْرٌ قَالَ ثُمّ جَاءَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - فَنَزَعَ نَزْعًا ضَعِيفًا ، وَاَللّهُ يَغْفِرُ لَهُ ثُمّ جَاءَ عُمَرُ فَاسْتَحَالَتْ غَرْبًا يَعْنِي : الدّلْوَ فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيّا يَفْرِي فَرِيّهُ فَأَوّلَهَا النّاسُ فِي الْخِلَافَةِ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَر رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا ، وَلَوْلَا ذِكْرُ الْغَنَمِ السّودِ وَالْعُفْرِ لَبَعُدَتْ الرّؤْيَا عَنْ مَعْنَى الْخِلَافَةِ وَالرّعَايَةِ إذْ الْغَنَمُ السّودُ وَالْعُفْرُ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ ، وَأَكْثَرُ الْمُحَدّثِينَ لَمْ يَذْكُرُوا الْغَنَمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ . ذَكَرَهُ الْبَزّارُ فِي مُسْنَدِهِ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ أَيْضًا ، وَبِهِ يَصِحّ الْمَعْنَى ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

وَفَاةُ آمِنَةَ
وَحَالُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَ جَدّهِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بَعْدَهَا
[ ص 297 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَعَ أُمّهِ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ ، وَجَدّهِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ فِي كِلَاءَةِ اللّهِ وَحِفْظِهِ يُنْبِتُهُ اللّهُ نَبَاتًا حَسَنًا ، لِمَا يُرِيدُ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ فَلَمّا بَلَغَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - سِتّ سِنِينَ تُوُفّيَتْ أُمّهُ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ . [ ص 298 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ : أَنّ أُمّ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - آمِنَةَ تُوُفّيَتْ وَرَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ابْنُ سِتّ سِنِينَ بِالْأَبْوَاءِ ، بَيْنَ مَكّةَ وَالْمَدِينَةِ ، كَانَتْ قَدْ قَدِمَتْ بِهِ عَلَى أَخْوَالِهِ مِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ النّجّارِ ، تُزِيرُهُ إيّاهُمْ فَمَاتَتْ وَهِيَ رَاجِعَةٌ بِهِ إلَى مَكّةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أُمّ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ : سَلْمَى بِنْتُ عَمْرٍو النّجّارِيّةُ فَهَذِهِ الْخُؤُولَةُ الّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ إسْحَاقَ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيهِمْ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَعَ جَدّهِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ ، وَكَانَ يُوضَعُ لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ فِرَاشٌ فِي ظِلّ الْكَعْبَةِ ، فَكَانَ بَنُوهُ يَجْلِسُونَ حَوْلَ فِرَاشِهِ ذَلِكَ حَتّى يَخْرُجَ إلَيْهِ لَا يَجْلِسُ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ بَنِيهِ إجْلَالًا لَهُ قَالَ فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَأْتِي ، وَهُوَ غُلَامٌ جَفْرٌ حَتّى يَجْلِسَ عَلَيْهِ فَيَأْخُذُهُ أَعْمَامُهُ لِيُؤَخّرُوهُ عَنْهُ فَيَقُولُ عَبْدُ الْمُطّلِبِ إذَا رَأَى ذَلِكَ مِنْهُمْ دَعُوا ابْنِي ، فَوَاَللّهِ إنّ لَهُ لَشَأْنًا ، ثُمّ يُجْلِسُهُ مَعَهُ عَلَى الْفِرَاشِ وَيَمْسَحُ ظَهْرَهُ بِيَدِهِ وَيَسُرّهُ مَا يَرَاهُ يَصْنَعُ
Sمَوْتُ آمِنَةَ وَزِيَارَتُهُ لَهَا
فَصْلٌ
وَذَكَرَ مَوْتَ أُمّهِ آمِنَةَ بِالْأَبْوَاءِ ، وَهُوَ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ مَكّةَ وَالْمَدِينَةِ ، وَهُوَ إلَى الْمَدِينَةِ أَقْرَبُ كَأَنّهُ سُمّيَ بِجَمْعِ بَوّ وَهُوَ جِلْدُ الْحُوَارِ الْمَحْشُوّ بِالتّبْنِ وَغَيْرِهِ وَقِيلَ سُمّيَ بِالْأَبْوَاءِ لِتَبَوّءِ السّيُولِ فِيهِ وَكَذَلِكَ ذُكِرَ عَنْ كَثِيرٍ . ذَكَرَهُ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ . [ ص 298 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - زَارَ قَبْرَ أُمّهِ بِالْأَبْوَاءِ فِي أَلْفِ مُقَنّعٍ فَبَكَى وَأَبْكَى وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَفِي الصّحِيحِ أَيْضًا أَنّهُ قَالَ اسْتَأْذَنْت رَبّي فِي زِيَارَةِ قَبْرِ أُمّي ، فَأَذِنَ لِي ، وَاسْتَأْذَنْته أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا ، فَلَمْ يَأْذَنْ لِي وَفِي مُسْنَدِ الْبَزّارِ مِنْ حَدِيثِ بُرَيْدَةَ أَنّهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ أَرَادَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِأُمّهِ ضَرَبَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي صَدْرِهِ وَقَالَ لَهُ لَا تَسْتَغْفِرْ لِمَنْ كَانَ مُشْرِكًا ، فَرَجَعَ وَهُوَ حَزِينٌ . وَفِي الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ فِي غَيْر الصّحِيحِ أَنّهُ سُئِلَ عَنْ بُكَائِهِ فَقَالَ ذَكَرْت ضَعْفَهَا وَشِدّةَ عَذَابِ اللّهِ إنْ كَانَ صَحّ هَذَا . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ مَا يُصَحّحُهُ وَهُوَ أَنّ رَجُلًا قَالَ لَهُ يَا رَسُولَ اللّهِ أَيْنَ أَبِي ؟ فَقَالَ " فِي النّارِ " ، فَلَمّا وَلّى الرّجُلُ قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ إنّ أَبِي وَأَبَاك فِي النّارِ وَلَيْسَ لَنَا أَنْ [ ص 299 ] أَبَوَيْهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ لَا تُؤْذُوا الْأَحْيَاءَ بِسَبّ الْأَمْوَاتِ وَاَللّهُ عَزّ وَجَلّ يَقُولُ { إِنّ الّذِينَ يُؤْذُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّهُ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ } [ الْأَحْزَابَ : 75 ] . وَإِنّمَا قَالَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِذَلِكَ الرّجُلِ هَذِهِ الْمَقَالَةَ لِأَنّهُ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ وَقَدْ قِيلَ إنّهُ قَالَ أَيْنَ أَبُوك أَنْتَ ؟ فَحِينَئِذٍ قَالَ ذَلِكَ وَقَدْ رَوَاهُ مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ بِغَيْرِ هَذَا اللّفْظِ فَلَمْ يَذْكُرْ أَنّهُ قَالَ لَهُ إنّ أَبِي وَأَبَاك فِي النّارِ وَلَكِنْ ذَكَرَ أَنّهُ قَالَ لَهُ إذَا مَرَرْت بِقَبْرِ كَافِرٍ فَبَشّرْهُ بِالنّارِ وَرُوِيَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَعَلّهُ أَنْ يَصِحّ . وَجَدْته بِخَطّ جَدّي أَبِي عِمْرَانَ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللّهُ - بِسَنَدِ فِيهِ مَجْهُولُونَ ذَكَرَ أَنّهُ نَقَلَهُ مِنْ كِتَابٍ اُنْتُسِخَ مِنْ كِتَابِ مُعَوّذِ بْنِ دَاوُدَ بْنِ مُعَوّذِ الزّاهِدِ يَرْفَعُهُ إلَى [ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ ] أَبِي الزّنَادِ عَنْ [ هِشَامِ بْنِ ] عُرْوَةَ ، عَنْ [ أَبِيهِ عَنْ ] عَائِشَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - أَخْبَرَتْ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - سَأَلَ رَبّهُ أَنْ يُحْيِيَ أَبَوَيْهِ فَأَحْيَاهُمَا لَهُ وَآمَنَا بِهِ ثُمّ أَمَاتَهُمَا وَاَللّهُ قَادِرٌ عَلَى كُلّ شَيْءٍ وَلَيْسَ تَعْجَزُ رَحْمَتُهُ وَقُدْرَتُهُ عَنْ شَيْءٍ وَنَبِيّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ أَهْلٌ أَنْ يَخُصّهُ بِمَا شَاءَ مِنْ فَضْلِهِ وَيُنْعِمَ عَلَيْهِ بِمَا شَاءَ مِنْ كَرَامَتِهِ - صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ - قَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي تَذْكِرَتِهِ : جَزَمَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ فِي كِتَابِ السّابِقِ وَاللّاحِقِ وَأَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ شَاهِينَ فِي كِتَابِ النّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ لَهُ فِي الْحَدِيثِ بِإِسْنَادَيْهِمَا عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - قَالَتْ حَجّ بِنَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حَجّةَ الْوَدَاعِ فَمَرّ عَلَى قَبْرِ أُمّهِ وَهُوَ بَاكٍ حَزِينٌ مُغْتَمّ ، فَبَكَيْت لِبُكَائِهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ثُمّ إنّهُ نَزَلَ فَقَالَ " يَا حُمَيْرَاءُ اسْتَمْسِكِي " . فَاسْتَنَدْت إلَى جَنْبِ الْبَعِيرِ فَمَكَثَ عَنّي طَوِيلًا مَلِيّا ، ثُمّ إنّهُ عَادَ إلَيّ وَهُوَ فَرِحٌ مُتَبَسّمٌ فَقَالَتْ لَهُ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي يَا رَسُولَ اللّهِ نَزَلْت مِنْ عِنْدِي ، وَأَنْتَ بَاكٍ حَزِينٌ مُغْتَمّ . فَبَكَيْت لِبُكَائِك . ثُمّ عُدْت إلَيّ وَأَنْتَ فَرِحٌ مُبْتَسِمٌ فَمِمّ ذَا يَا رَسُولَ اللّهِ فَقَالَ " ذَهَبْت لِقَبْرِ آمِنَةَ أُمّي ، فَسَأَلْت أَنْ يُحْيِيَهَا ، فَأَحْيَاهَا فَآمَنَتْ بِي " ؛ أَوْ قَالَ فَآمَنَتْ . وَرَدّهَا اللّهُ عَزّ وَجَلّ

وَفَاةُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَمَا رُثِيَ بِهِ مِنْ الشّعْرِ
فَلَمّا بَلَغَ [ ص 300 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ثَمَانِيَ سِنِينَ هَلَكَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْفِيلِ بِثَمَانِي سِنِينَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ عَبّاسٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ أَنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ تُوُفّيَ وَرَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ابْنُ ثَمَانِي سِنِينَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ : أَنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ لَمّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ ، وَعَرَفَ أَنّهُ مَيّتٌ جَمَعَ بَنَاتِهِ وَكُنّ سِتّ نِسْوَةٍ صَفِيّةَ وَبَرّةَ وَعَاتِكَةَ ، وَأُمّ حَكِيمٍ الْبَيْضَاءَ وَأُمَيْمَةَ ، وَأَرْوَى ، فَقَالَ لَهُنّ ابْكِينَ عَلَيّ حَتّى أَسْمَعَ مَا تَقُلْنَ قَبْلَ أَنْ أَمُوتَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ يَعْرِفُ هَذَا الشّعْرَ إلّا أَنّهُ لَمّا رَوَاهُ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ ، كَتَبْنَاهُ فَقَالَتْ صَفِيّةُ ابْنَةُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ تَبْكِي أَبَاهَا :
أَرِقْت لِصَوْتِ نَائِحَةٍ بِلَيْلِ ... عَلَى رَجُلٍ بِقَارِعَةِ الصّعِيدِ
فَفَاضَتْ عِنْدَ ذَلِكُمْ دُمُوعِي ... عَلَى خَدّي كَمُنْحَدِرِ الْفَرِيدِ
عَلَى رَجُلٍ كَرِيمٍ غَيْرِ وَغْلٍ ... لَهُ الْفَضْلُ الْمُبِينُ عَلَى الْعَبِيدِ
عَلَى الْفَيّاضِ شَيْبَةَ ذِي الْمَعَالِي ... أَبِيك الْخَيْرِ وَارِثِ كُلّ جُودِ
صَدُوقٍ فِي الْمَوَاطِنِ غَيْرِ نِكْسٍ ... وَلَا شَخْتِ الْمَقَامِ وَلَا سَنِيدِ
طَوِيلِ الْبَاعِ أَرْوَعَ شَيْظَمِيّ ... مُطَاعٍ فِي عَشِيرَتِهِ حَمِيدِ
رَفِيعِ الْبَيْتِ أَبْلَجَ ذِي فُضُولٍ ... وَغَيْثِ النّاسِ فِي الزّمَنِ الْحَرُودِ
كَرِيمِ الْجَدّ لَيْسَ بِذِي وُصُومٍ ... يَرُوقُ عَلَى الْمُسَوّدِ وَالْمَسُودِ
عَظِيمِ الْحِلْمِ مِنْ نَفَرٍ كِرَامٍ ... خَضَارِمَةٍ مَلَاوِثَةٍ أُسُودِ
فَلَوْ خَلَدَ امْرِئِ لِقَدِيمِ مَجْدٍ ... وَلَكِنْ لَا سَبِيلَ إلَى الْخُلُودِ
لَكَانَ مُخَلّدًا أُخْرَى اللّيَالِي ... لِفَضّ الْمَجْدِ وَالْحَسَبِ التّلِيدِ
[ ص 302 ] وَقَالَتْ بَرّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ تَبْكِي أَبَاهَا :
أَعَيْنَيّ جُودَا بِدَمْعِ دِرَرْ ... عَلَى طَيّبِ الْخِيمِ وَالْمُعْتَصَرْ
عَلَى مَاجِدِ الْجَدّ وَارِي الزّنَادِ ... جَمِيلِ الْمُحَيّا عَظِيمِ الْخَطَرْ
عَلَى شَيْبَةِ الْحَمْدِ ذِي الْمَكْرُمَاتِ ... وَذِي الْمَجْدِ وَالْعِزّ وَالْمُفْتَخَرْ
وَذِي الْحُلْمِ وَالْفَصْلِ فِي النّائِبَاتِ ... كَثِير الْمَكَارِمِ جَمّ الْفَجَرْ
لَهُ فَضْلُ مَجْدٍ عَلَى قَوْمِهِ ... مُنِيرٍ يَلُوحُ كَضَوْءِ الْقَمَرْ
أَتَتْهُ الْمَنَايَا ، فَلَمْ تُشْوِهِ ... بِصَرْفِ اللّيَالِي ، وَرَيْبِ الْقَدَرْ
S[ ص 300 ] عَبْدِ الْمُطّلِبِ قَوْلُ صَفِيّةَ
فَفَاضَتْ عِنْدَ ذَلِكُمْ دُمُوعِي ... عَلَى خَدّي كَمُنْحَدِرِ الْفَرِيدِ
[ ص 301 ] وَقَوْلُهَا : أَبِيك الْخَيْرِ . أَرَادَتْ الْخَيّرَ فَخَفّفَتْ كَمَا يُقَالُ هَيْنٌ وَهَيّنٌ وَفِي التّنْزِيلِ { خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } [ الرّحْمَنُ 70 ] . وَكَانَ اسْمُ أُمّ الدّرْدَاءِ خَيْرَةُ بِنْتُ أَبِي حَدْرَدٍ وَكَذَلِكَ أُمّ الْحَسَنِ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيّ ، اسْمُهَا : خَيْرَةُ فَهَذَا مِنْ الْمُخَفّفِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخَيْرُ هَهُنَا هُوَ ضِدّ الشّرّ جَعَلَتْهُ كُلّهُ خَيْرًا عَلَى الْمُبَالَغَةِ كَمَا تَقُولُ مَا زَيْدٌ إلّا عِلْمٌ أَوْ حُسْنٌ وَمَا أَنْتَ إلّا سَيْرٌ ، وَهُوَ مَجَازٌ حَسَنٌ فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يُثَنّى وَلَا يُجْمَعُ وَلَا يُؤَنّثُ فَيُقَال : خَيْرَةُ . وَقَوْلُهَا : وَلَا شَخْتِ الْمَقَامِ وَلَا سَنِيدِ الشّخْتُ [ الدّقِيقُ الضّامِرُ لَا هُزَالًا ] ضِدّ الضّخْمِ تَقُولُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَكِنّهُ ضَخْمُ الْمَقَامِ ظَاهِرُهُ . وَالسّنِيدُ الضّعِيفُ الّذِي لَا يَسْتَقِلّ بِنَفْسِهِ حَتّى يُسْنَدُ رَأْيُهُ إلَى غَيْرِهِ . وَقَوْلُهَا : خَضَارِمَةٍ مَلَاوِثَةٍ . مَلَاوِثَةٌ جَمْعُ مِلْوَاثٍ مِنْ اللّوْثَةِ وَهِيَ الْقُوّةُ كَمَا قَالَ الْمُكَعْبَرُ عِنْدَ الْحَفِيظَةِ إنْ ذُو لَوْثَةٍ لَاثَا
[ ص 302 ] قِيلَ إنّ اسْمَ اللّيْثِ مِنْهُ أُخِذَ إلّا أَنّ وَاوَه انْقَلَبَتْ يَاءً لِأَنّهُ فَيْعَلٌ فَخُفّفَ كَمَا تَقَدّمَ فِي هَيْنٍ وَهَيّنٍ وَلَيْنٍ وَلَيّنٍ . وَقَوْلُ بَرّةَ أَتَتْهُ الْمَنَايَا فَلَمْ تُشْوِهِ
أَيْ لَمْ تُصِبْ الشّوَى ، بَلْ أَصَابَتْ الْمَقْتَلَ وَقَدْ تَقَدّمَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَضَرْبِهِ بِالْقِدَاحِ عَلَى عَبْدِ اللّهِ وَكَانَ يَرَى أَنّ السّهْمَ إذَا خَرَجَ عَلَى غَيْرِهِ أَنّهُ قَدْ أُشْوِيَ أَيْ قَدْ أَخْطَأَ مَقْتَلَهُ أَيْ مَقْتَلَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَابْنِهِ وَمَنْ رَوَاهُ أَشْوَى بِفَتْحِ الْوَاوِ فَالسّهْمُ هُوَ الّذِي أَشْوَى وَأَخْطَأَ وَبِكِلَا الضّبْطَيْنِ وَجَدْته ، وَيُقَالُ أَيْضًا : أَشْوَى الزّرْعُ إذَا أَفْرَكَ فَالْأَوّلُ مِنْ الشّوَى ، وَهَذَا مِنْ الشّيّ بِالنّارِ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ .

وَقَالَتْ عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ تَبْكِي أَبَاهَا :
أَعَيْنَيّ جُودَا ، وَلَا تَبْخَلَا ... بِدَمْعِكُمَا بَعْدَ نَوْمِ النّيَامْ
أَعَيْنَيّ وَاسْحَنْفِرَا وَاسْكُبَا ... وَشُوبَا بُكَاءَكُمَا بِالْتِدَامْ
أَعَيْنَيّ وَاسْتَخْرِطَا وَاسْجُمَا ... عَلَى رَجُلٍ غَيْرِ نِكْسٍ كَهَامْ
عَلَى الْجَحْفَلِ الْغَمْرِ فِي النّائِبَاتِ ... كَرِيمِ الْمَسَاعِي ، وَفِيّ الذّمَامْ
عَلَى شَيْبَةِ الْحَمْدِ وَارِي الزّنَادِ ... وَذِي مَصْدَقٍ بَعْدَ ثَبْتِ الْمَقَامْ
وَسَيْفٍ لَدَى الْحَرْبِ صَمْصَامَةٍ ... وَمِرْدَى الْمَخَاصِمِ عِنْدَ الْخِصَامْ
وَسَهْلِ الْخَلِيقَةِ طَلْقِ الْيَدَيْنِ ... وَفٍ عُدْمِلِيّ صَمِيمٍ لُهَامْ
تَبَنّكَ فِي بَاذِخٍ بَيْتُهُ ... رَفِيعِ الذّؤَابَةِ صَعْبِ الْمَرَامْ
وَقَالَتْ أُمّ حَكِيمٍ الْبَيْضَاءُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ تَبْكِي أَبَاهَا :
أَلَا يَا عَيْنُ جُودِي وَاسْتَهِلّي ... وَبَكّي ذَا النّدَى وَالْمَكْرُمَاتِ
أَلَا يَا عَيْنُ وَيْحَك أَسْعِفِينِي ... بِدَمْعِ مِنْ دُمُوعٍ هَاطِلَاتِ
وَبَكّي خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا ... أَبَاك الْخَيْرَ تَيّارَ الْفُرَاتِ
طَوِيلَ الْبَاعِ شَيْبَةَ ذَا الْمَعَالِي ... كَرِيمَ الْخَيْمِ مَحْمُودَ الْهِبَاتِ
وَصُوَلًا لِلْقَرَابَةِ هِبْرِزِيّا ... وَغَيْثًا فِي السّنِينَ الْمُمْحِلَاتِ
وَلَيْثًا حِينَ تَشْتَجِرُ الْعَوَالِي ... تَرُوقُ لَهُ عُيُونُ النّاظِرَاتِ
عَقِيلَ بَنِي كِنَانَةَ وَالْمُرَجّى ... إذَا مَا الدّهْرُ أَقْبَلَ بِالْهَنَاتِ
وَمَفْزَعَهَا إذَا مَا هَاجَ هَيْجٌ ... بِدَاهِيَةِ وَخَصْمِ الْمُعْضِلَاتِ
فَبَكّيهِ وَلَا تَسَمِي بِحُزْنِ ... وَبَكّي ، مَا بَقِيت ، الْبَاكِيَاتِ
وَقَالَتْ أُمَيْمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ تَبْكِي أَبَاهَا :
أَلَا هَلَكَ الرّاعِي الْعَشِيرَةَ ذُو الْفَقْدِ ... وَسَاقِي الْحَجِيجِ وَالْمُحَامِي عَنْ الْمَجْدِ
وَمَنْ يُؤْلِفُ الضّيْفَ الْغَرِيبَ بُيُوتَهُ ... إذَا مَا سَمَاءُ النّاسِ تَبْخَلُ بِالرّعْدِ
كَسَبْتِ وَلِيدًا خَيْرَ مَا يَكْسِبُ الْفَتَى ... فَلَمْ تَنْفَكّ تَزْدَادُ يَا شَيْبَةَ الْحَمْدِ
أَبُو الْحَارِثِ الْفَيّاضُ خَلّى مَكَانَهُ ... فَلَا تَبْعُدَنْ فَكُلّ حَيّ إلَى بُعْدِ
فَإِنّي لَبَاكٍ - مَا بَقِيت - وَمُوجِعٌ ... وَكَانَ لَهُ أَهْلًا لَمّا كَانَ مِنْ وَجْدِي
سَقَاك وَلِيّ النّاسِ فِي الْقَبْرِ مُمْطِرًا ... فَسَوْفَ أَبْكِيهِ وَإِنْ كَانَ فِي اللّحْدِ
فَقَدْ كَانَ زَيْنًا لِلْعَشِيرَةِ كُلّهَا ... وَكَانَ حَمِيدًا حَيْثُ مَا كَانَ مِنْ حَمْدِ
و عَاتِكَةَ : وَمِرْدَى الْمُخَاصِمِ الْمِرْدَى : مِفْعَلٌ مِنْ الرّدَى ، وَهُوَ الْحَجَرُ الّذِي يَقْتُلُ [ ص 303 ] أُصِيبَ بِهِ وَفِي الْمَثَلِ كُلّ ضَبّ عِنْدَهُ مِرْدَاتُهُ [ أَيْ يَقْرُبُ مِنْهُ حَتْفُهُ لِأَنّهُ يُرْمَى بَهْ فَيُقْتَلُ ] . وَقَوْلُهَا : وَفٍ . أَيْ وَفِيّ ، وَخُفّفَ لِلضّرُورَةِ وَقَوْلُهُ عُدْمِلِيّ . الْعُدْمِلِيّ [ وَالْعُدَامِلُ وَالْعُدَامِلِيّ ] الشّدِيدُ . وَاللّهَام : فَعَالٍ مِنْ لَهِمْت الشّيْءَ أَلْهَمُهُ إذَا ابْتَلَعْته ، قَالَ الرّاجِزُ [ رُؤْبَةُ بْن الْعَجّاجِ ] :
كَالْحُوتِ لَا يَرْوِيهِ شَيْءٌ يَلْهَمُهْ ... يُصْبِحُ عَطْشَانًا وَفِي الْبَحْرِ فَمُهْ
[ ص 304 ] سُمّيَ الْجَيْشُ لَهَامًا . وَقَوْلُهَا : عَلَى الْجَحْفَلِ . جَعَلَتْهُ كَالْجَحْفَلِ أَيْ يَقُومُ وَحْدَهُ مَقَامَهُ وَالْجَحْفَلُ لَفْظٌ مَنْحُوتٌ مِنْ أَصْلِينَ مِنْ جَحَفَ وَجَفَلَ وَذَلِك أَنّهُ يُجْحِفُ مَا يَمُرّ عَلَيْهِ أَيْ يُقَشّرُهُ وَيَجْفِلُ أَيْ يَقْلَعُ وَنَظِيرُهُ نَهْشَلُ الذّئْبُ هُوَ عِنْدَهُمْ مَنْحُوتٌ مِنْ أَصْلَيْنِ أَيْضًا ، مِنْ نَهَشْت اللّحْمَ وَنَشَلْته ، وَعَاتِكَةُ : اسْمٌ مَنْقُولٌ مِنْ الصّفَاتِ يُقَالُ امْرَأَةٌ عَاتِكَةٌ ، وَهِيَ الْمُصَفّرَةُ لِبَدَنِهَا بِالزّعْفَرَانِ وَالطّيبِ . وَقَالَ الْقُتَبِيّ عَتَكَتْ الْقَوْسُ إذَا قَدُمَتْ وَبِهِ سُمّيَتْ الْمَرْأَةُ . وَالْقَوْلُ الْأَوّلُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ .

وَقَالَتْ [ ص 304 ] أَرْوَى بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ تَبْكِي أَبَاهَا :
بَكَتْ عَيْنِي ، وَحُقّ لَهَا الْبُكَاءُ ... عَلَى سَمْحٍ سَجِيّتُهُ الْحَيَاءُ
عَلَى سَهْلِ الْخَلِيقَةِ أَبْطَحِيّ ... كَرِيمِ الْخَيْمِ نِيّتُهُ الْعَلَاءُ
عَلَى الْفَيّاضِ شَيْبَةَ ذِي الْمَعَالِي ... أَبِيك الْخَيْرِ لَيْسَ لَهُ كِفَاءُ
طَوِيلِ الْبَاعِ أَمْلَسَ شَيْظَمِيّ ... أَغَرّ كَأَنّ غُرّتَهُ ضِيَاءُ
أَقَبّ الْكَشْحِ أَرْوَعَ ذِي فُضُولٍ ... لَهُ الْمَجْدُ الْمُقَدّمُ وَالسّنَاءُ
أَبِيّ الضّيْمِ أَبْلَجَ هَبْرَزِيّ ... قَدِيمِ الْمَجْدِ لَيْسَ لَهُ خِفَاءُ
وَمَعْقِلِ مَالِكٍ وَرَبِيعِ فِهْرٍ ... وَفَاصِلِهَا إذَا اُلْتُمِسَ الْقَضَاءُ
وَكَانَ هُوَ الْفَتَى كَرَمًا وَجُودًا ... وَبَأْسًا حِينَ تَنْسَكِبُ الدّمَاءُ
إذَا هَابَ الْكُمَاةَ الْمَوْتُ حَتّى ... كَأَنّ قُلُوبَ أَكْثَرِهِمْ هَوَاءُ
مَضَى قُدُمًا بِذِي رُبَدٍ خَشِيب ... عَلَيْهِ حِينَ تُبْصِرهُ الْبَهَاءُ
[ ص 305 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَزَعَمَ لِي مُحَمّدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ أَنّهُ أَشَارَ بِرَأْسِهِ وَقَدْ أَصْمَتَ أَنْ هَكَذَا فَابْكِينَنِي . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْمُسَيّبُ بْنُ حَزْنِ بْنِ أَبِي وَهْبٍ بْن عَمْرِو بْنِ عَائِذِ بْن عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ .
Sوَقَوْلُ أَرْوَى : وَمَعْقِلُ مَالِكٍ وَرَبِيعُ فِهْرٍ . تُرِيدُ بَنِي مَالِكِ بْنِ النّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ . وَقَوْلُهَا : بِذِي رُبَدٍ . تُرِيدُ سَيْفًا ذَا طَرَائِقَ . وَالرّبَدُ الطّرَائِقُ . وَقَالَ صَخْرٌ الْغَيّ [ الْهُذَلِيّ ] :
وَصَارِمٌ أُخْلِصَتْ خَشِيبَتُهُ ... أَبْيَضُ مَهْوٌ فِي مَتْنِهِ رُبَدُ
وَقَوْلُ عَاتِكَةَ : تَبَنّكَ فِي بَاذِخٍ بَيْتُهُ . أَيْ تَبَنّكَ بَيْتُهُ فِي بَاذِخٍ مِنْ الشّرَفِ وَمَعْنَى تَبَنّكَ تَأَصّلَ مِنْ الْبُنْكِ وَهُوَ الْأَصْلُ . وَالْبُنْكُ أَيْضًا : ضَرْبٌ مِنْ الطّيبِ وَهُوَ أَيْضًا عُودُ السّوسِ [ شَجَرٌ يُغَمّى بِهِ الْبُيُوتُ وَيَدْخُلُ عَصِيرُهُ فِي الْأَدْوِيَةِ وَفِي عُرُوقِهِ حَلَاوَةٌ شَدِيدَةٌ وَفِي فُرُوعِهِ مَرَارَةٌ ] . وَقَوْلُهُ فَأَشَارَ إلَيْهِنّ بِرَأْسِهِ وَقَدْ أَصْمَتَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمِيمِ هَكَذَا قَيّدَهُ الشّيْخُ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ وَيُقَالُ صَمَتَ وَأَصْمَتَ وَسَكَتَ وَأَسْكَتَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ [ وَسَمَحَ وَأَسْمَحَ وَعَصَفَتْ الرّيحُ وَأَعْصَفَتْ وَطَلَعْت عَلَى الْقَوْمِ وَأَطْلَعْت . ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي أَدَبِ الْكَاتِبِ ] .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ حُذَيْفَةُ بْنُ غَانِمٍ أَخُو بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ يَبْكِي عَبْدَ الْمُطّلِبِ بْنَ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ ، وَيَذْكُرُ فَضْلَهُ وَفَضْلَ قُصَيّ عَلَى قُرَيْشٍ ، وَفَضْلَ وَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ عَلَيْهِمْ وَذَلِك أَنّهُ أَخَذَ بِغُرْمِ أَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ بِمَكّةَ ، فَوَقَفَ بِهَا فَمَرّ بِهِ أَبُو لَهَبٍ عَبْدُ الْعُزّى بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، فَافْتَكّهُ
أَعَيْنَيّ جُودَا بِالدّمُوعِ عَلَى الصّدْرِ ... وَلَا تَسْأَمَا ، أُسْقِيتُمَا سَبَلَ الْقَطْرِ
وَجُودَا بِدَمْعِ وَاسْفَحَا كُلّ شَارِقٍ ... بُكَاءَ امْرِئِ لَمْ يُشْوِهِ نَائِبُ الدّهْرِ
وَسُحّا ، وَجُمّا ، وَاسْجُمَا مَا بَقِيتُمَا ... عَلَى ذِي حَيَاءٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَذِي سِتْرِ
[ ص 306 ]
عَلَى رَجُلٍ جَلْدٍ الْقُوَى ، ذِي حَفِيظَةٍ ... جَمِيلِ الْمُحَيّا غَيْرِ نِكْسٍ وَلَا هَذْرِ
عَلَى الْمَاجِدِ الْبُهْلُولِ ذِي الْبَاعِ وَاللّهَى ... رَبِيعِ لُؤَيّ فِي الْقُحُوطِ وَفِي الْعُسْرِ
عَلَى خَيْرِ حَافٍ مِنْ مَعَدّ وَنَاعِلٍ ... كَرِيمِ الْمَسَاعِي ، طَيّبِ الْخَيْمِ وَالنّجْرِ
وَخَيْرِهُمُ أَصْلًا وَفَرْعًا وَمَعْدِنًا ... وَأَحْظَاهُمْ بِالْمَكْرُمَاتِ وَبِالذّكْرِ
وَأَوْلَاهُمْ بِالْمَجْدِ وَالْحِلْمِ وَالنّهَى ... وَبِالْفَضْلِ عِنْدَ الْمُجْحِفَاتِ مِنْ الْغُبْرِ
عَلَى شَيْبَةِ الْحَمْدِ الّذِي كَانَ وَجْهُهُ ... يُضِيءُ سَوَادَ اللّيْلِ كَالْقَمَرِ الْبَدْرِ
وَسَاقِي الْحَجِيجِ ثُمّ لِلْخُبْزِ هَاشِمٌ ... وَعَبْدُ مَنَافٍ ذَلِك السّيّدُ الْفِهْرِي
طَوَى زَمْرَ مَا عِنْدَ الْمَقَامِ فَأَصْبَحَتْ ... سِقَايَتُهُ فَخْرًا عَلَى كُلّ ذِي فَخْرِ
لِيَبْكِ عَلَيْهِ كُلّ عَانّ بِكُرْبَةِ ... وَآلِ قُصَيّ مِنْ مُقِلّ وَذِي وَفْرِ
بَنُوهُ سَرَاةٌ كَهْلُهُمْ وَشَبَابُهُمْ ... تُفَلّقُ عَنْهُمْ بَيْضَةُ الطّائِرِ الصّقْرِ
قُصَيّ الّذِي عَادَى كِنَانَةَ كُلّهَا ... وَرَابَطَ بَيْتَ اللّهِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ
فَإِنْ تَكُ غَالَتْهُ الْمَنَايَا وَصَرْفُهَا ... فَقَدْ عَاشَ مَيْمُونَ النّقِيبَةِ وَالْأَمْرِ
وَأَبْقَى رِجَالًا سَادَةً غَيْرَ عُزّلٍ ... مَصَالِيتَ أَمْثَالَ الرّدَيْنِيّةِ السّمْرِ
أَبُو عُتْبَةَ الْمُلْقِي إلَيّ حِبَاءَهُ ... أَغَرّ هِجَانِ اللّوْنِ مِنْ نَفَرٍ غُرّ
وَحَمْزَةُ مِثْلُ الْبَدْرِ يَهْتَزّ لِلنّدَى ... نَقِيّ الثّيَابِ وَالذّمَامِ مِنْ الْغَدْرِ
وَعَبْدُ مَنَافٍ مَاجِدٌ ذُو حَفِيظَةٍ ... وَصُولٌ لَذِي الْقُرْبَى رَحِيمٌ بِذِي الصّهْرِ
كُهُولُهُمْ خَيْرُ الْكُهُولِ وَنَسْلُهُمْ ... كَنَسْلِ الْمُلُوكِ لَا تَبُورُ وَلَا تَحْرِي
[ ص 307 ]
مَتَى مَا تُلَاقِي مِنْهُمْ الدّهْرَ نَاشِئًا ... تَجِدْهُ بِإِجْرِيّا أَوَائِلُهُ يَجْرِي
هُمْ مَلَئُوا الْبَطْحَاءَ مَجْدًا وَعِزّةً ... إذَا اسْتَبَقَ الْخَيْرَاتِ فِي سَالِفِ الْعَصْرِ
وَفِيهِمْ بُنَاةٌ لِلْعُلَا ، وَعِمَارَةٌ ... وَعَبْدُ مَنَافٍ جَدّهُمْ جَابِرُ الْكَسْرِ
بِإِنْكَاحِ عَوْفٍ بِنْتَه ، لِيُجِيرَنَا ... مِنْ أعدائنا إذْ أَسْلَمَتْنَا بَنُو فِهْرِ
فَسِرْنَا تِهَامِيّ الْبِلَادِ وَنَجْدَهَا ... بِأَمْنِهِ حَتّى خَاضَتْ الْعِيرُ فِي الْبَحْرِ
وَهُمْ حَضَرُوا وَالنّاسُ بَادٍ فَرِيقُهُمْ ... وَلَيْسَ بِهَا إلّا شُيُوخُ بَنِي عَمْرِو
بَنَوْهَا دِيَارًا جَمّةً وَطَوَوْا بِهَا ... بِئَارًا تَسِحّ الْمَاءَ مِنْ ثَبَجِ الْبَحْرِ
لَكَيْ يَشْرَبَ الْحُجّاجُ مِنْهَا ، وَغَيْرُهُمْ ... إذَا ابْتَدَرُوهَا صُبْحَ تَابِعَةِ النّحْرِ
ثَلَاثَةَ أَيّامٍ تُظِلّ رِكَابَهُمْ ... مُخَيّسَةً بَيْنَ الْأَخَاشِبِ وَالْحِجْرِ
[ ص 308 ]
وَقِدْمَا غَنِينَا قَبْلَ ذَلِكَ حِقْبَةً ... وَلَا نَسْتَقِي إلّا بِخُمّ أَوْ الْحَفْرِ
وَهُمْ يَغْفِرُونَ الذّنْبَ يُنْقَمُ دُونَهُ ... وَيَعْفُونَ عَنْ قَوْلِ السّفَاهَةِ وَالْهُجْرِ
وَهُمْ جَمَعُوا حِلْفَ الْأَحَابِيشِ كُلّهَا ... وَهُمْ نَكَلُوا عَنّا غُوَاةَ بَنِي بَكْرِ
فَخَارِجَ إمّا أَهْلِكَنّ فَلَا تَزَلْ ... لَهُمْ شَاكِرًا حَتّى تُغَيّبَ فِي الْقَبْرِ
وَلَا تَنْسَ مَا أَسْدَى ابْنُ لُبْنَى ؛ فَإِنّهُ ... قَدْ أسدى يَدًا مَحْقُوقَةً مِنْك بِالشّكْرِ
وَأَنْت ابْن لُبْنَى مِنْ قُصَيّ إذَا انْتَمَوْا ... بِحَيْثُ انْتَهَى قَصْدُ الْفُؤَادِ مِنْ الصّدْرِ
وَأَنْت تَنَاوَلْت الْعُلَا فَجَمَعْتهَا ... إلَى مَحْتِدٍ لِلْمَجْدِ ذِي ثَبَجٍ جَسْرِ
سَبَقْت ، وَفُتّ الْقَوْمُ بَذْلًا وَنَائِلًا ... وَسُدْت وَلِيدًا كُلّ ذِي سُؤْدُدٍ غَمْرِ
وَأُمّك سِرّ مِنْ خُزَاعَةَ جَوْهَرٌ ... إذَا حَصّلَ الْأَنْسَابَ يَوْمًا ذَوُو الْخُبْرِ
إلَى سَبَإِ الْأَبْطَالِ تُنْمَى ... وَتَنْتَمِي فَأَكْرِمْ بِهَا مَنْسُوبَةً فِي ذُرَا الزّهْرِ
[ ص 309 ]
أَبُو شِمْرٍ مِنْهُمْ وَعَمْرُو بْنُ مَالِكٍ ... وَذُو جَدَنٍ مِنْ قَوْمِهَا وَأَبُو الْجَبْرِ
وَأَسْعَدُ قَادَ النّاسَ عِشْرِينَ حَجّةً ... يُؤَيّدُ فِي تِلْكَ الْمَوَاطِنِ بِالنّصْرِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : " أُمّك سِرّ مِنْ خُزَاعَةَ " ، يَعْنِي : أَبَا لَهَبٍ أُمّهُ لُبْنَى بِنْتُ هَاجَرَ الْخُزَاعِيّ . وَقَوْلُهُ " بِإِجْرِيّا أَوَائِلُهُ " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ .
Sأَبُو جَهْمٍ
[ ص 305 ] وَذَكَرَ شِعْرَ حُذَيْفَةَ بْنِ غَانِمٍ الْعَدَوِيّ ، وَهُوَ وَالِدُ أَبِي جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ وَاسْمُ أَبِي جَهْمٍ عُبَيْدٌ ، وَهُوَ الّذِي أَهْدَى الْخَمِيصَةَ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَنَظَرَ إلَى عَلَمِهَا . الْحَدِيثُ . وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أُتِيَ بِخَمِيصَتَيْنِ فَأَعْطَى إحْدَاهُمَا أَبَا جَهْمٍ وَأَمْسَكَ الْأُخْرَى ، وَفِيهَا عَلَمٌ فَلَمّا نَظَرَ إلَى عَلَمِهَا فِي الصّلَاةِ أَرْسَلَهَا إلَى أَبِي جَهْمٍ وَأَخَذَ الْأُخْرَى بَدَلًا مِنْهَا ، هَكَذَا رَوَاهُ الزّبَيْرُ . وَأُمّ أَبِي جَهْمٍ يُسَيْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَذَاةَ بْنِ رِيَاحٍ ، وَابْنُ أَذَاةَ هُوَ خَالُ أَبِي قُحَافَةَ وَسَيَأْتِي نَسَبُ أُمّهِ وَقَدْ قِيلَ إنّ الشّعْرَ لَحُذَافَةَ بْنِ غَانِمٍ وَهُوَ أَخُو حُذَيْفَةَ وَالِدُ خَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ وَلَهُ يَقُولُ فِيهِ أَخَارِجُ إنْ أَهْلِكْ . وَفِي الشّعْرِ غَيْرُ نِكْسٍ وَلَا هَذْرٍ . النّكْسُ مِنْ السّهَامِ الّذِي نُكّسَ فِي الْكِنَانَةِ لِيُمَيّزَهُ الرّامِي ، فَلَا يَأْخُذُهُ لِرَدَاءَتِهِ . وَقِيلَ الّذِي انْكَسَرَ أَعْلَاهُ فَنُكّسَ وَرُدّ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ وَهُوَ غَيْرُ جَيّدٍ لِلرّمْيِ . [ ص 306 ] تَحْرِي . أَيْ لَا تَهْلِكُ وَلَا تُنْقَصُ وَيُقَالُ لِلْأَفْعَى : حَارِيَةٌ لِرِقّتِهَا وَفِي الْحَدِيثِ مَا زَالَ جِسْمُ أَبِي بَكْرٍ يَحْرِي حُزْنًا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَيْ يَنْقُصُ لَحْمُهُ حَتّى مَاتَ وَالْإِجْرِيّاءُ السّيرَةُ وَهِيَ إفْعِيلَاءُ مِنْ الْجَرْيِ وَلَيْسَ لَهَا نَظِيرٌ فِي الْأَبْنِيَةِ إلّا الْإِهْجِيرَا فِي مَعْنَى الْهِجّيرَى . وَفِيهَا قَوْلُهُ وَلَيْسَ بِهَا إلّا شُيُوخُ بَنِي عَمْرِو . يُرِيدُ بَنِي هَاشِمٍ ؛ لِأَنّ اسْمَهُ عَمْرٌو . وَفِيهَا : غَيْرُ عُزّلٍ وَهُوَ جَمْعُ أَعْزَلَ وَلَا يُجْمَعُ أَفْعَلُ عَلَى فُعّلٍ وَلَكِنْ جَاءَ هَكَذَا ؛ لِأَنّ الْأَعْزَلَ فِي مُقَابَلَةِ الرّامِحِ وَقَدْ يَحْمِلُونَ الصّفَةَ عَلَى ضِدّهَا ، كَمَا قَالُوا : عَدُوّةُ - بِتَاءِ التّأْنِيثِ - حَمْلًا عَلَى صَدِيقَةٍ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَجْرَاهُ مَجْرَى : حُسّرٍ جَمْعُ : حَاسِرٍ [ ص 307 ]
تَهَامٌ وَشَآمٌ
وَقَوْلُهُ فَسِرْنَا تِهَامِيّ الْبِلَادِ مُخَفّفًا مِثْلَ يَمَانِيَا ، وَالْأَصْلُ فِي يَمَانٍ يَمَنِيّ ، فَخَفّفُوا الْيَاءَ وَعَوّضُوا مِنْهَا أَلِفًا ، وَالْأَصْلُ فِي تَهَامِ : تِهَامِيّ بِكَسْرِ التّاءِ مِنْ تَهَامِيّ لِأَنّهُ مَنْسُوبٌ إلَى تِهَامَةَ وَلَكِنّهُمْ حَذَفُوا إحْدَى الْيَاءَيْنِ كَمَا فَعَلُوا فِي يَمَانٍ وَفَتَحُوا التّاءَ مِنْ تَهَامٍ لَمّا حَذَفُوا الْيَاءَ مِنْ آخِرِهِ لِتَكُونَ الْفَتْحَةُ فِيهِ كَالْعِوَضِ مِنْ الْيَاءِ كَمَا كَانَتْ الْأَلِفُ فِي يَمَانٍ وَكَذَلِكَ الْأَلِفُ فِي شَآمٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَأَلِفٍ بَعْدَهَا عِوَضًا مِنْ الْيَاءِ الْمَحْذُوفَةِ فَإِنْ شَدّدْت الْيَاءَ مِنْ شَآمٍ قُلْت : شَأْمِيّ بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ وَتَذْهَبُ الْأَلِفُ الّتِي كَانَتْ عِوَضًا مِنْ الْبَاءِ لِرُجُوعِ الْيَاءِ الْمَحْذُوفَةِ وَلَا تَقُولُ فِي غَيْرِ النّسَبِ شَآمٌ بِالْفَتْحِ وَالْهَمْزِ وَلَا فِي النّسَبِ إذَا شَدّدْت الْيَاءَ شَأْمِيّ . وَسَأَلْت الْأُسْتَاذَ أَبَا الْقَاسِمِ بْنِ الرّمّاكِ - وَكَانَ إمَامًا فِي صَنْعَةِ الْعَرَبِيّةِ عَنْ الْبَيْتِ الّذِي أَمْلَاهُ أَبُو عَلِيّ فِي النّوَادِرِ وَهُوَ قَوْلُهُ
أَتَظْعَنُ عَنْ حَبِيبِك ثُمّ تَبْكِي ... عَلَيْهِ فَمَنْ دَعَاك إلَى الْفِرَاقِ
كَأَنّك لَمْ تَذُقْ لِلْبَيْنِ طَعْمًا ... فَتَعْلَمَ أَنّهُ مُرّ الْمَذَاقِ
أَقِمْ وَانْعَمْ بِطُولِ الْقُرْبِ مِنْهُ ... وَلَا تُظْعِنْ فَتُكْبَتَ بِاشْتِيَاقِ
فَمَا اعْتَاضَ الْمُفَارِقُ مِنْ حَبِيبٍ ... وَلَوْ يُعْطَى الشّآمَ مَعَ الْعِرَاقِ
فَقَالَ مُحَدّثٌ وَلَمْ يَرَهُ حُجّةً . وَكَذَلِكَ وَجَدْت فِي شِعْرِ حَبِيبٍ الشّآمُ بِالْفَتْحِ كَمَا فِي هَذَا الْبَيْتِ . وَلَيْسَ بِحُجّةِ أَيْضًا . [ ص 308 ] الشّآمُ لُغَةٌ فِي الشّأْمِ قَالَ الْمَجْنُونُ
وَخُبّرْت لَيْلَى بِالشّآمِ مَرِيضَةً ... فَأَقْبَلْت مِنْ مِصْرَ إلَيْهَا أَعُودُهَا
وَقَالَ آخَرُ
أَتَتْنَا قُرَيْشٌ قَضّهَا بِقَضِيضِهَا ... وَأَهْلُ الْحِجَازِ وَالشّآمِ تَقَصّفُ
وَقَوْلُهُ
حَذْفُ الْيَاءِ مِنْ هَاءِ الْكِنَايَةِ
حَذْفُ الْيَاءِ مِنْ هَاءِ الْكِنَايَةِ بِأَمِنِهِ حَتّى خَاضَتْ الْعِيرُ فِي الْبَحْرِ
ضَرُورَةٌ كَمَا أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : سَأَجْعَلُ عَيْنَيْهِ لِنَفْسِهِ مَقْنَعَا
فِي أَبْيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَنْشَدَهَا سِيبَوَيْهِ ، وَهَذَا مَعَ حَذْفِ الْيَاءِ وَالْوَاوِ وَبَقَاءِ حَرَكَةِ الْهَاءِ فَإِنْ سُكّنَتْ الْهَاءُ بَعْدَ الْحَذْفِ فَهُوَ أَقَلّ فِي الِاسْتِعْمَالِ مِنْ نَحْوِ هَذَا ، وَأَنْشَدُوا : وَنِضْوَايَ مُشْتَاقَانِ لَهُ أَرِقَانِ
وَهَذَا الّذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ فِي الْقِيَاسِ أَقْوَى ؛ لِأَنّهُ مِنْ بَابِ حَمْلِ الْوَصْلِ عَلَى الْوَقْفِ نَحْوَ قَوْلِ الرّاجِزِ لَمّا رَأَى أَنْ لَا دَعَةَ وَلَا شِبَعْ
[ ص 309 ] { وَتَظُنّونَ بِاللّهِ الظّنُونَ } [ الْأَحْزَابُ 100 ] وَهَذَا الّذِي ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ مِنْ الضّرُورَةِ فِي هَاءِ الْإِضْمَارِ إنّمَا هُوَ إذَا تَحَرّكَ مَا قَبْلَهَا نَحْوَ بِهِ وَلَهُ وَلَا يَكُونُ فِي هَاءِ الْمُؤَنّثِ الْبَتّةَ لِخَفّةِ الْأَلِفِ فَإِنْ سَكَنَ مَا قَبْلَ الْهَاءِ نَحْوَ فِيهِ وَبَنِيهِ كَانَ الْحَذْفُ أَحْسَنَ مِنْ الْإِثْبَاتِ فَإِنْ قُلْت فَقَدْ قَرَأَ عِيسَى بْنُ مِينَا : نُصْلِهِ وَيُؤَدّهِ وَأَرْجِهِ وَنَحْوَ ذَلِكَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ مَوْضِعًا بِحَذْفِ الْيَاءِ وَقِيلَ الْهَاءُ مُتَحَرّكٌ فَكَيْفَ حَسُنَ هَذَا ؟ قُلْنَا : إنّ مَا قَبْلَ الْهَاءِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ سَاكِنٌ وَهُوَ الْيَاءُ مِنْ نُصْلِيه وَيُؤَدّيه وَيُؤْتِيه ، وَلَكِنّهُ حُذِفَ لِلْجَازِمِ فَمَنْ نَظَرَ إلَى اللّفْظِ وَأَنّ مَا قَبْلَ الْهَاءِ مُتَحَرّكٌ أَثْبَتَ الْيَاءَ كَمَا أَثْبَتَهَا فِي : بِهِ وَلَهُ وَمَنْ نَظَرَ إلَى الْكَلِمَةِ قَبْلَ دُخُولِ الْجَازِمِ رَأَى مَا قَبْلَ الْهَاءِ سَاكِنًا ، فَحَذَفَ الْيَاءَ فَهُمَا وَجْهَانِ حَسَنَانِ بِخِلَافِ مَا تَقَدّمَ .
مِنْ شَرْحِ قَصِيدَةِ حُذَيْفَةَ
وَذُكِرَ فِي هَذَا الشّعْرِ وَأَسْعَدُ قَادَ النّاسَ . وَهُوَ أَسْعَدُ أَبُو حَسّانَ بْنِ أَسْعَدَ ، وَقَدْ تَقَدّمَ فِي التّبَابِعَةِ ، وَكَذَلِكَ أَبُو شِمْرٍ ، وَهُوَ شِمْرٌ الّذِي بَنَى سَمَرْقَنْدَ ، وَأَبُوهُ مَالِكٌ يُقَالُ لَهُ الْأُمْلُوكُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ أَبَا شِمْرٍ الْغَسّانِيّ وَالِدَ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ . وَعَمْرُو بْنُ مَالِكٍ الّذِي ذُكِرَ أَحْسَبُهُ عَمْرًا ذَا الْأَذْعَارِ وَقَدْ تَقَدّمَ فِي التّبَابِعَةِ ، وَهُوَ مِنْ مُلُوكِ الْيَمَنِ ، وَإِنّمَا جَعَلَهُمْ مَفْخَرًا لِأَبِي لَهَبٍ لِأَنّ أُمّهُ خُزَاعِيّةٌ مِنْ سَبَأٍ ، وَالتّبَابِعَةُ كُلّهُمْ مِنْ حِمْيَرَ بْنِ سَبَإِ وَقَدْ تَقَدّمَ الْخِلَافُ فِي خُزَاعَةَ . وَأَبُو جَبْرٍ الّذِي ذَكَرَهُ فِي هَذَا الشّعْرِ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ الْيَمَنِ ذَكَرَ الْقُتَبِيّ أَنّ سُمَيّةَ أُمّ زِيَادٍ [ ص 310 ] كَانَتْ لِأَبِي جَبْرٍ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الْيَمَنِ ، دَفَعَهَا إلَى الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ الْمُتَطَبّبُ فِي طِبّ طَبّهُ .
زَيْدٌ أَفْضَلُ إخْوَتِهِ
وَذَكَرَ وِلَايَةَ الْعَبّاسِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - السّقَايَةَ وَقَالَ كَانَ مِنْ أَحْدَثِ إخْوَتِهِ سِنّا ، وَكَذَلِكَ قَالَ فِي صِفَةِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَانَ مِنْ أَفْضَلِ قَوْمِهِ مُرُوءَةً وَهَذَا مِمّا مَنَعَهُ النّحْوِيّونَ أَنْ يُقَالَ زَيْدٌ أَفْضَلُ إخْوَتِهِ وَلَيْسَ بِمُمْتَنِعِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ وَحَسَنٌ لِأَنّ الْمَعْنَى : زَيْدٌ يَفْضُلُ إخْوَتَهُ أَوْ يَفْضُلُ قَوْمَهُ وَلِذَلِكَ سَاغَ فِيهِ التّنْكِيرُ وَإِنّمَا الّذِي يَمْتَنِعُ بِإِجْمَاعِ إضَافَةُ أَفْعَلَ إلَى التّثْنِيَةِ مِثْلُ أَنْ تَقُولَ هُوَ أَكْرَمُ أَخَوَيْهِ إلّا أَنْ تَقُولَ الْأَخَوَيْنِ بِغَيْرِ إضَافَةٍ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 310 ] وَقَالَ مَطْرُودُ بْنُ كَعْبٍ الْخُزَاعِيّ يَبْكِي عَبْدَ الْمُطّلِبِ وَبَنِيّ عَبْدِ مَنَافٍ
يَا أَيّهَا الرّجُلُ الْمُحَوّلُ رَحْلُهُ ... هَلّا سَأَلْت عَنْ آلِ عَبْدِ مَنَافِ
هَبِلَتْك أُمّك ، لَوْ حَلَلْت بِدَارِهِمْ ... ضَمِنُوك مِنْ جُرْمٍ وَمِنْ إقْرَافِ
الْخَالِطِينَ غَنِيّهُمْ بِفَقِيرِهِمْ ... حَتّى يَعُودَ فَقِيرُهُمْ كَالْكَافِي
الْمُنْعِمِينَ إذَا النّجُومُ تَغَيّرَتْ ... وَالظّاعِنِينَ لِرِحْلَةِ الْإِيلَافِ
وَالْمُنْعِمِينَ إذَا الرّيَاحُ تَنَاوَحَتْ ... حَتّى تَغِيبَ الشّمْسُ فِي الرّجّافِ
إمّا هَلَكْت أَبَا الْفِعَالِ فَمَا جَرَى ... مِنْ فَوْقِ مِثْلِك عِقْدُ ذَاتِ نِطَافِ
إلّا أَبِيك أَخِي الْمَكَارِمِ وَحْدَهُ ... وَالْفَيْضِ مُطّلِبٍ أَبِي الْأَضْيَافِ
[ ص 312 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا هَلَكَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ وَلِيَ زَمْزَمَ وَالسّقَايَةَ عَلَيْهِمَا بَعْدَهُ الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مِنْ أَحْدَثِ إخْوَتِهِ سِنّا ، فَلَمْ تَزَلْ إلَيْهِ حَتّى قَامَ الْإِسْلَامُ وَهِيَ بِيَدِهِ . فَأَقَرّهَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَهُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ وِلَايَتِهِ فَهِيَ إلَى آلِ الْعَبّاسِ بِوِلَايَةِ الْعَبّاسِ إيّاهَا ، إلَى الْيَوْمِ .
Sمِنْ شَرْحِ شِعْرٍ مَطْرُودٍ
فَصْلٌ وَذُكِرَ فِي شِعْرٍ مَطْرُودٍ مَنَعُوك مِنْ جَوْرٍ وَمِنْ إقْرَافِ أَيْ مَنَعُوك مِنْ أَنْ تَنْكِحَ بَنَاتَك أَوْ أَخَوَاتِك مِنْ لَئِيمٍ فَيَكُونُ الِابْنُ مُقْرِفًا لِلُؤْمِ أَبِيهِ وَكَرَمِ أُمّهِ فَيَلْحَقَك وَصْمٌ مِنْ ذَلِك ، وَنَحْوٌ مِنْهُ قَوْلُ مُهَلْهَلٍ
أَنْكَحَهَا فَقْدُهَا الْأَرَاقِمَ فِي ... جَنْبٍ وَكَانَ الْحِبَاءُ مِنْ أَدَمِ
أَيْ أُنْكِحَتْ لِغُرْبَتِهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ . قَالَ مَبْرَمَانُ أَنْشَدَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ دُرَيْدٍ وَكَانَ الْخِبَاءُ مِنْ أَدَمِ بِخَاءِ مُعْجَمَةِ الْأَعْلَى ، وَهُوَ خَطَأٌ وَتَصْحِيفٌ وَإِنّمَا هُوَ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي تَصْحِيفَاتِ ابْنِ دُرَيْدٍ وَفِيهِ قَوْلُ الْمُفْجِعِ [ الْبَصْرِيّ ] رَدّا عَلَى ابْنِ دُرَيْدٍ
أَلَسْت قِدْمًا جَعَلْت تَعْتَرِقُ ... الطّرْفَ بِجَهْلِ مَكَانٍ تَغْتَرِقُ
وَقُلْت : كَانَ الْخِبَاءُ مِنْ أَدَمٍ ... وَهُوَ حِبَاءٌ يُهْدَى ، وَيُصْطَدَقُ
[ ص 311 ] نَزَلَ فِي جَنْبٍ وَهُوَ حَيّ وَضِيعٌ مِنْ مَذْحِجَ . فَخُطِبَتْ ابْنَتُهُ فَلَمْ يَسْتَطِعْ مَنْعَهَا ، فَزَوّجَهَا ، وَكَانَ نَقْدُهَا مِنْ أَدَمٍ فَأَنْشَدَ
أَنْكَحَهَا فَقْدُهَا الْأَرَاقِمَ فِي ... جَنْبٍ وَكَانَ الْحِبَاءُ مِنْ أَدَمِ
لَوْ بِأَبَانِينَ جَاءَ خَاطِبُهَا ... ضُرّجَ مَا أَنْفُ خَاطِبِ بِدَمِ
وَقَوْلُهُ حَتّى تَغِيبَ الشّمْسُ بِالرّجّافِ يَعْنِي : الْبَحْرَ . لِأَنّهُ يَرْجُفُ . وَمِنْ أَسْمَائِهِ أَيْضًا : خُضَارَةُ [ سُمّيَ بِذَلِك لِخُضْرَةِ مَائِهِ ] . وَالدّأْمَاءُ [ سُمّيَ بِذَلِكَ لِتَدَاؤُمِ أَمْوَاجِهِ أَيْ تَرَاكُمِهَا ، وَتَكَسّرِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ ] وَأَبُو خَالِدٍ . وَقَوْلُهُ عِقْدُ ذَاتِ نِطَافِ . النّطَفُ اللّؤْلُؤُ الصّافِي . وَوَصِيفَةٌ مُنَطّفَةٌ [ وَمُتَنَطّفَةٌ ] أَيْ مُقَرّطَةٌ بِتُومَتَيْنِ [ وَالتّومَةُ اللّؤْلُؤَةُ أَوْ حَبّةٌ تُعْمَلُ مِنْ الْفِضّةِ كَالدّرّةِ ] وَالنّطَفُ فِي غَيْرِ هَذَا : التّلَطّخُ بِالْعَيْبِ وَكِلَاهُمَا مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ وَإِنْ كَانَا فِي الظّاهِرِ مُتَضَادّيْنِ فِي الْمَعْنَى ؛ لِأَنّ النّطْفَةَ هِيَ الْمَاءُ الْقَلِيلُ وَقَدْ يَكُونُ الْكَثِيرَ وَكَأَنّ اللّؤْلُؤَ الصّافِيَ أُخِذَ مِنْ صَفَاءِ النّطْفَةِ . وَالنّطَفُ الّذِي هُوَ الْعَيْبُ أُخِذَ مِنْ نُطْفَةٍ الْإِنْسَانِ وَهِيَ مَاؤُهُ أَيْ كَأَنّهُ لُطّخَ بِهَا . وَقَوْلُهُ وَالْفَيْضِ مُطّلِبٍ أَبِي الْأَضْيَافِ . يُرِيدُ أَنّهُ كَانَ لِأَضْيَافِهِ كَالْأَبِ . وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِكُلّ جَوَادٍ أَبُو الْأَضْيَافِ . كَمَا قَالَ مُرّةُ بْنُ مَحْكَانَ [ السّعْدِيّ التّمِيمِيّ سَيّدُ بَنِي رَبِيعٍ ] :
أُدْعَى أَبَاهُمْ وَلَمْ أَقْرِفْ بِأُمّهِمْ ... وَقَدْ عَمِرْت . وَلَمْ أَعْرِفْ لَهُمْ نَسَبًا

كَفَالَةُ أَبِي طَالِبٍ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ [ ص 313 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بَعْدَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ مَعَ عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ وَكَانَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ - فِيمَا يَزْعُمُونَ - يُوصِي بِهِ عَمّهُ أَبَا طَالِبٍ وَذَلِكَ لِأَنّ عَبْدَ اللّهِ أَبَا رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأَبَا طَالِبٍ أَخَوَانِ لِأَبٍ وَأُمّ أُمّهُمَا : فَاطِمَةُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَائِذِ بْنِ عَبْدِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومِ [ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ ] . قَالَ ابْنُ هَاشِمٍ عَائِذُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ هُوَ الّذِي يَلِي أَمْرَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدَ جَدّهِ فَكَانَ إلَيْهِ وَمَعَهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ ، أَنّ أَبَاهُ حَدّثَهُ أَنّ رَجُلًا مِنْ لَهَبٍ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَلَهَبٌ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ - كَانَ عَائِفًا ، فَكَانَ إذَا قَدِمَ مَكّةَ أَتَاهُ رِجَالُ قُرَيْشٍ بِغِلْمَانِهِمْ يَنْظُرُ إلَيْهِمْ وَيَعْتَافُ لَهُمْ فِيهِمْ . قَالَ فَأَتَى بِهِ أَبُو طَالِبٍ وَهُوَ غُلَامٌ مَعَ مَنْ يَأْتِيهِ فَنَظَرَ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ثُمّ شَغَلَهُ عَنْهُ شَيْءٌ فَلَمّا فَرَغَ قَالَ " الْغُلَامُ . عَلَيّ بِهِ " ، فَلَمّا رَأَى أَبُو طَالِبٍ حِرْصَهُ عَلَيْهِ غَيّبَهُ عَنْهُ فَجَعَلَ يَقُولُ " وَيْلَكُمْ رُدّوا عَلَيّ الْغُلَامَ الّذِي رَأَيْت آنِفًا ، فَوَاَللّهِ لَيَكُونَنّ لَهُ شَأْنٌ " . قَالَ فَانْطَلَقَ أَبُو طَالِبٍ .
Sفِي كَفَالَةِ الْعَمّ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ كَوْنَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي كَفَالَةِ عَمّهِ يَكْلَؤُهُ وَيَحْفَظُهُ . فَمِنْ حِفْظِ اللّهُ لَهُ فِي ذَلِكَ أَنّهُ كَانَ يَتِيمًا لَيْسَ لَهُ أَبٌ يَرْحَمُهُ وَلَا أُمّ تَرْأَمُهُ لِأَنّهَا مَاتَتْ وَهُوَ صَغِيرٌ وَكَانَ عِيَالُ أَبِي طَالِبٍ ضَفَفًا ، وَعَيْشُهُمْ شَظَفًا ، فَكَانَ يُوضَعُ الطّعَامُ لَهُ وَلِلصّبْيَةِ مِنْ أَوْلَادِ أَبِي طَالِبٍ فَيَتَطَاوَلُونَ إلَيْهِ وَيَتَقَاصَرُ هُوَ وَتَمْتَدّ أَيْدِيهِمْ وَتَنْقَبِضُ يَدُهُ تَكَرّمًا مِنْهُ وَاسْتِحْيَاءً وَنَزَاهَةَ نَفْسٍ وَقَنَاعَةَ قَلْبٍ فَيُصْبِحُونَ غُمْصًا رُمْصًا ، مُصْفَرّةً أَلْوَانُهُمْ وَيُصْبِحُ هُوَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - صَقِيلًا دَهِينًا كَأَنّهُ فِي أَنْعَمِ عَيْشٍ وَأَعَزّ كِفَايَةٍ لُطْفًا مِنْ اللّهِ - عَزّ وَجَلّ - بِهِ . كَذَلِكَ ذَكَرَهُ الْقُتَبِيّ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ .
اللّهَبِيّ الْعَائِفُ
فَصْلٌ وَذُكِرَ خَبَرُ اللّهَبِيّ الْعَائِفِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَلَهَبُ حَيّ مِنْ الْأَزْدِ : وَقَالَ غَيْرُهُ وَهُوَ لَهَبُ بْنُ أَحْجَن بْنِ كَعْبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَالِكِ بْنِ نَصْرِ بْنِ الْأَزْدِ . وَهِيَ الْقَبِيلَةُ الّتِي تُعْرَفُ بِالْعِيَافَةِ وَالزّجْرِ . وَمِنْهُمْ اللّهَبِيّ الّذِي زَجَرَ حِينَ وَقَعَتْ [ ص 312 ] الْحَصَاةُ بِصَلْعَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - فَأَدْمَتْهُ وَذَلِك فِي الْحَجّ فَقَالَ أُشْعِرَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ . وَاَللّهِ لَا يَحُجّ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ فَكَانَ كَذَلِكَ وَاللّهَبُ شَقّ فِي الْجَبَلِ [ وَالْجَمْعُ أَلْهَابٌ وَلُهُوبٌ ] وَبَنُو ثُمَالَةَ رَهْطُ الْمُبَرّدِ الثّمَالِيّ هُمْ بَنُو أَسْلَمَ بْنِ أَحْجَن بْنِ كَعْب ٍ . وَثُمَالَةُ أُمّهُمْ . وَكَانَتْ الْعِيَافَةُ وَالزّجْرُ فِي لَهَبٍ قَالَ الشّاعِرُ
سَأَلْت أَخَا لَهَبٍ لِيَزْجُرَ زَجْرَةً ... وَقَدْ رُدّ زَجْرُ الْعَالَمِينَ إلَى لَهَبٍ
وَقَوْلُهُ لِيَعْتَافَ لَهُمْ وَهُوَ يَفْتَعِلُ مِنْ الْعَيْفِ . يُقَالُ عِفْت الطّيْرَ . وَاعْتَفْتُهَا عِيَافَةً وَاعْتِيَافًا : وَعِفْت الطّعَامَ أَعَافُهُ عَيْفًا . وَعَافَتْ الطّيْرُ الْمَاءَ عِيَافًا .

قِصّةُ بَحِيرَى
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ أَبَا طَالِبٍ خَرَجَ فِي رَكْبٍ تَاجِرًا إلَى الشّامِ ، فَلَمّا تَهَيّأَ لِلرّحِيلِ وَأَجْمَع الْمَسِيرَ صَبّ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيمَا يَزْعُمُونَ - فَرَقّ لَهُ وَقَالَ وَاَللّهِ [ ص 314 ] ، وَلَا يُفَارِقُنِي ، وَلَا أُفَارِقُهُ أَبَدًا ، أَوْ كَمَا قَالَ . فَخَرَجَ بِهِ مَعَهُ فَلَمّا نَزَلَ الرّكْبُ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشّامِ ، وَبِهَا رَاهِبٌ يُقَالُ لَهُ بَحِيرَى فِي صَوْمَعَةٍ لَهُ وَكَانَ إلَيْهِ عِلْمُ أَهْلِ النّصْرَانِيّةِ ، وَلَمْ يَزَلْ فِي تِلْكَ الصّوْمَعَةِ مُنْذُ قَطّ رَاهِبٌ إلَيْهِ يَصِيرُ عِلْمُهُمْ عَنْ كِتَابٍ فِيهَا - فِيمَا يَزْعُمُونَ يَتَوَارَثُونَهُ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ . فَلَمّا نَزَلُوا ذَلِكَ الْعَامَ بِبَحِيرَى ، وَكَانُوا كَثِيرًا مَا يَمُرّونَ بِهِ قَبْلَ ذَلِك ، فَلَا يُكَلّمُهُمْ وَلَا يَعْرِضُ لَهُمْ حَتّى كَانَ ذَلِكَ الْعَامُ . فَلَمّا نَزَلُوا بِهِ قَرِيبًا مِنْ صَوْمَعَتِهِ صَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا كَثِيرًا ، وَذَلِكَ - فِيمَا يَزْعُمُونَ - عَنْ شَيْءٍ رَآهُ وَهُوَ فِي صَوْمَعَتِهِ يَزْعُمُونَ أَنّهُ رَأَى رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ فِي صَوْمَعَتِهِ فِي الرّكْبِ حِينَ أَقْبَلُوا ، وَغَمَامَةٌ تُظِلّهُ مِنْ بَيْنِ الْقَوْمِ . قَالَ ثُمّ أَقْبَلُوا فَنَزَلُوا فِي ظِلّ شَجَرَةٍ قَرِيبًا مِنْهُ فَنَظَرَ إلَى الْغَمَامَةِ حِينَ أَظَلّتْ الشّجَرَةَ ، وَتَهَصّرَتْ أَغْصَانُ الشّجَرَةِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حَتّى اسْتَظَلّ تَحْتَهَا ، فَلَمّا رَأَى ذَلِكَ بَحِيرَى نَزَلَ مِنْ صَوْمَعَتِهِ وَقَدْ أَمَرَ بِذَلِكَ الطّعَامِ فَصُنِعَ ثُمّ أَرْسَلَ إلَيْهِمْ فَقَالَ إنّي قَدْ صَنَعْت لَكُمْ طَعَامًا يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، فَأَنَا أُحِبّ أَنْ تَحْضُرُوا كُلّكُمْ صَغِيرُكُمْ وَكَبِيرُكُمْ عَبْدُكُمْ وَحُرّكُمْ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ وَاَللّهِ يَا بَحِيرَى إنّ لَك لَشَأْنًا الْيَوْمَ مَا كُنْت تَصْنَعُ هَذَا بِنَا ، وَقَدْ كُنّا نَمُرّ بِك كَثِيرًا ، فَمَا شَأْنُك الْيَوْمَ ؟ قَالَ لَهُ [ ص 315 ] بَحِيرَى : صَدَقْت ، قَدْ كَانَ مَا تَقُولُ وَلَكِنّكُمْ ضَيْفٌ وَقَدْ أَحْبَبْت أَنْ أُكْرِمَكُمْ وَأَصْنَعَ لَكُمْ طَعَامًا ، فَتَأْكُلُوا مِنْهُ كُلّكُمْ . فَاجْتَمَعُوا إلَيْهِ وَتَخَلّفَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ بَيْنِ الْقَوْمِ لِحَدَاثَةِ سِنّهِ فِي رِحَالِ الْقَوْمِ تَحْتَ الشّجَرَةِ ، فَلَمّا نَظَرَ بَحِيرَى فِي الْقَوْمِ لَمْ يَرَ الصّفَةَ الّتِي يَعْرِفُ وَيَجِدُ عِنْدَهُ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ : لَا يَتَخَلّفَنّ أَحَدٌ مِنْكُمْ عَنْ طَعَامِي ، قَالُوا لَهُ يَا بَحِيرَى ، مَا تَخَلّفَ عَنْك أَحَدٌ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْتِيَك إلّا غُلَامٌ وَهُوَ أَحْدَثُ الْقَوْمِ سِنّا ، فَتَخَلّفَ فِي رِحَالِهِمْ فَقَالَ لَا تَفْعَلُوا ، اُدْعُوهُ فَلْيَحْضُرْ هَذَا الطّعَامَ مَعَكُمْ قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مَعَ الْقَوْمِ وَاَللّاتِي وَالْعُزّى ، إنْ كَانَ لَلُؤْمٌ بِنَا أَنْ يَتَخَلّفَ ابْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ عَنْ طَعَامٍ مِنْ بَيْنِنَا ، ثُمّ قَامَ إلَيْهِ فَاحْتَضَنَهُ وَأَجْلَسَهُ مَعَ الْقَوْمِ . فَلَمّا رَآهُ بَحِيرَى ، جَعَلَ يَلْحَظُهُ لَحْظًا شَدِيدًا ، وَيَنْظُرُ إلَى أَشْيَاءَ مِنْ جَسَدِهِ وَقَدْ كَانَ يَجِدُهَا عِنْدَهُ مِنْ صِفَتِهِ حَتّى إذَا فَرَغَ الْقَوْمُ مِنْ طَعَامِهِمْ وَتَفَرّقُوا ، قَامَ إلَيْهِ بَحِيرَى ، فَقَالَ يَا غُلَامُ أَسْأَلُك بِحَقّ اللّاتِي وَالْعُزّى إلّا مَا أَخْبَرْتنِي عَمّا أَسْأَلُك عَنْهُ وَإِنّمَا قَالَ لَهُ بَحِيرَى ذَلِكَ لِأَنّهُ سَمِعَ قَوْمَهُ يَحْلِفُونَ بِهِمَا ، فَزَعَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ " لَا تَسْأَلْنِي بِاَللّاتِي وَالْعُزّى شَيْئًا ، فَوَاَللّهِ مَا أَبْغَضْت شَيْئًا قَطّ بُغْضَهُمَا " ، فَقَالَ لَهُ بَحِيرَى : فَبِاَللّهِ إلّا مَا أَخْبَرْتنِي عَمّا أَسْأَلُك عَنْهُ فَقَالَ لَهُ " سَلْنِي عَمّا بَدَا لَك " . فَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ حَالِهِ مِنْ نَوْمِهِ وَهَيْئَتِهِ وَأُمُورِهِ فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُخْبِرُهُ فَيُوَافِقُ ذَلِكَ مَا عِنْدَ بَحِيرَى مِنْ صِفَتِهِ ثُمّ نَظَرَ إلَى ظَهْرِهِ فَرَأَى خَاتَمَ النّبُوّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ عَلَى مَوْضِعِهِ مِنْ صِفَتِهِ الّتِي عِنْدَهُ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَكَانَ مِثْلَ أَثَرِ الْمِحْجَمِ . [ ص 316 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ مَا هَذَا الْغُلَامُ مِنْك ؟ قَالَ ابْنِي . قَالَ لَهُ بَحِيرَى : مَا هُوَ بِابْنِك ، وَمَا يَنْبَغِي لِهَذَا الْغُلَامِ أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ حَيّا ، قَالَ فَإِنّهُ ابْنُ أَخِي ، قَالَ فَمَا فَعَلَ أَبُوهُ ؟ قَالَ مَاتَ وَأُمّهُ حُبْلَى بِهِ قَالَ صَدَقْت ، فَارْجِعْ بِابْنِ أَخِيك إلَى بَلَدِهِ وَاحْذَرْ عَلَيْهِ يَهُودَ فَوَاَللّهِ لَئِنْ رَأَوْهُ وَعَرَفُوا مِنْهُ مَا عَرَفْت لِيَبْغُنّهُ شَرّا ، فَإِنّهُ كَائِنٌ لَابْن أَخِيك هَذَا شَأْنٌ عَظِيمٌ فَأَسْرِعْ بِهِ إلَى بِلَادِهِ [ ص 317 ] فَخَرَجَ بِهِ عَمّهُ أَبُو طَالِبٍ سَرِيعًا ، حَتّى أَقْدَمَهُ مَكّةَ حِينَ فَرَغَ مِنْ تِجَارَتِهِ بِالشّامِ فَزَعَمُوا فِيمَا رَوَى النّاسُ أَنّ زُرَيْرًا وَتَمّامًا وَدَرِيسًا - وَهُمْ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ - قَدْ كَانُوا رَأَوْا مِنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِثْلَ مَا رَآهُ بَحِيرَى فِي ذَلِكَ السّفَرِ الّذِي كَانَ فِيهِ مَعَ عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ فَأَرَادُوهُ فَرَدّهُمْ عَنْهُ بَحِيرَى ، وَذَكّرَهُمْ اللّهَ وَمَا يَجِدُونَ فِي الْكِتَابِ مِنْ ذِكْرِهِ وَصِفَتِهِ وَأَنّهُمْ إنْ أَجْمَعُوا لِمَا أَرَادُوا بِهِ لَمْ يَخْلُصُوا إلَيْهِ وَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتّى عَرَفُوا مَا قَالَ لَهُمْ وَصَدّقُوهُ بِمَا قَالَ فَتَرَكُوهُ وَانْصَرَفُوا عَنْهُ . فَشَبّ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَاَللّهُ تَعَالَى يَكْلَؤُهُ وَيَحْفَظُهُ وَيَحُوطُهُ مِنْ أَقْذَارِ الْجَاهِلِيّةِ لِمَا يُرِيدُ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ وَرِسَالَتِهِ حَتّى بَلَغَ أَنْ كَانَ رَجُلًا أَفْضَلَ قَوْمِهِ مُرُوءَةً وَأَحْسَنَهُمْ خُلُقًا ، وَأَكْرَمَهُمْ حَسَبًا ، وَأَحْسَنَهُمْ جِوَارًا ، وَأَعْظَمَهُمْ حِلْمًا ، وَأَصْدَقَهُمْ حَدِيثًا ، وَأَعْظَمَهُمْ أَمَانَةً وَأَبْعَدَهُمْ مِنْ الْفُحْشِ وَالْأَخْلَاقِ الّتِي تُدَنّسُ الرّجَالَ تَنَزّهًا وَتَكَرّمًا ، حَتّى مَا اسْمُهُ فِي قَوْمِهِ إلّا الْأَمِينُ لِمَا جَمَعَ اللّهُ فِيهِ مِنْ الْأُمُورِ الصّالِحَةِ . [ ص 318 ] وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيمَا ذُكِرَ لِي - يُحَدّثُ عَمّا كَانَ اللّهُ يَحْفَظُهُ بِهِ فِي صِغَرِهِ وَأَمْرِ جَاهِلِيّتِهِ أَنّهُ قَالَ لَقَدْ رَأَيْتنِي فِي غِلْمَانِ قُرَيْشٍ نَنْقُلُ حِجَارَةً لِبَعْضِ مَا يَلْعَبُ بِهِ الْغِلْمَانُ كُلّنَا قَدْ تَعَرّى ، وَأَخَذَ إزَارَهُ فَجَعَلَهُ عَلَى رَقَبَتِهِ يَحْمِلُ عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ فَإِنّي لَأُقْبِل مَعَهُمْ كَذَلِكَ وَأُدْبِرُ إذْ لَكَمَنِي لَاكِمٌ مَا أَرَاهُ لَكْمَةً وَجِيعَةً ثُمّ قَالَ شُدّ عَلَيْك إزَارَك . قَالَ فَأَخَذْته وَشَدَدْته عَلَيّ ثُمّ جَعَلْت أَحْمِلُ الْحِجَارَةَ عَلَى رَقَبَتِي وَإِزَارِي عَلَيّ مِنْ بَيْنِ أَصْحَابِي
Sقِصّةُ بَحِيرَى
[ ص 313 ] بَحِيرَى وَسَفَرِ أَبِي طَالِبٍ بِالنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَقَعَ فِي سِيَرِ الزّهْرِيّ أَنّ [ ص 314 ] بَحِيرَى كَانَ حَبْرًا مِنْ يَهُودِ تَيْمَاءَ ، وَفِي الْمَسْعُودِيّ : أَنّهُ كَانَ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ وَاسْمُهُ سَرْجِسُ وَفِي الْمَعَارِفِ لَابْنِ قُتَيْبَةَ قَالَ سُمِعَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِقَلِيلِ هَاتِفٌ يَهْتِفُ أَلَا إنّ خَيْرَ أَهْلِ الْأَرْضِ ثَلَاثَةٌ بَحِيرَى ، وَرِبَابُ بْنُ الْبَرَاءِ الشّنّيّ وَالثّالِثُ الْمُنْتَظَرُ فَكَانَ الثّالِثُ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ الْقُتَبِيّ وَكَانَ قَبْرُ رِبَابٍ الشّنّيّ وَقَبْرُ وَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ لَا يَزَالُ يُرَى عَلَيْهَا طَشّ ، وَالطّشّ : الْمَطَرُ الضّعِيفُ . وَقَالَ فِيهِ فَصَبّ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِعَمّهِ . الصّبَابَةُ رِقّةُ الشّوْقِ يُقَالُ صَبِبْت - بِكَسْرِ الْبَاءِ - أَصَبّ ، وَيُذْكَرُ عَنْ بَعْضِ السّلَفِ أَنّهُ قَرَأَ { أَصْبُ إِلَيْهِنّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ } [ يُوسُفُ 33 ] . وَفِي غَيْرِ رِوَايَةِ أَبِي بَحْرٍ ضَبَثَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَيْ لَزِمَهُ قَالَ الشّاعِرُ
كَأَنّ فُؤَادِي فِي يَدٍ ضَبَثَتْ بِهِ ... مُحَاذِرَةً أَنْ يَقْضِبَ الْحَبْلَ قَاضِبُهُ
فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إذْ ذَاكَ ابْنَ تِسْعِ سِنِينَ فِيمَا ذَكَرَ بَعْضُ مَنْ أَلّفَ فِي السّيَرِ وَقَالَ الطّبَرِيّ : ابْنَ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً . [ ص 315 ] وَذُكِرَ فِيهِ خَاتَمُ النّبُوّةِ وَقَوْلُ ابْنِ هِشَامٍ : كَانَ كَأَثَرِ الْمِحْجَمِ يَعْنِي : أَثَرَ الْمِحْجَمَةِ الْقَابِضَةِ عَلَى اللّحْمِ حَتّى يَكُونَ نَاتِئًا . وَفِي الْخَبَرِ أَنّهُ كَانَ حَوْلَهُ حِيلَانٌ فِيهَا شَعَرَاتٌ سُودٌ . وَفِي صِفَتِهِ أَيْضًا أَنّهُ كَانَ كَالتّفّاحَةِ وَكَزِرّ الْحَجَلَةِ وَفَسّرَهُ التّرْمِذِيّ تَفْسِيرًا وَهِمَ فِيهِ فَقَالَ زِرّ الْحَجَلَةِ يُقَالُ إنّهُ بُيّضَ لَهُ فَتَوَهّمَ الْحَجَلَةَ مِنْ الْقَبَجِ وَإِنّمَا هِيَ حَجَلَةُ السّرِيرِ ، وَاحِدَةُ الْحِجَالِ وَزِرّهَا الّذِي يَدْخُلُ فِي عُرْوَتِهَا - قَالَ عَلِيّ - رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ - لِأَهْلِ الْعِرَاقِ : يَا أَشْبَاهَ الرّجَالِ وَلَا رِجَالُ وَيَا طَغَامَ الْأَحْلَامِ وَيَا عُقُولَ رَبّاتِ الْحِجَالِ . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ كَانَ كَبَيْضَةِ الْحَمَامَةِ وَفِي حَدِيثِ عَيّاذِ بْنِ عَبْدِ عَمْرٍو ، قَالَ رَأَيْت خَاتَمَ النّبُوّةِ وَكَانَ كَرُكْبَةِ الْعَنْزِ . ذَكَرَهُ النّمِرِيّ مُسْنَدًا فِي كِتَابِ الِاسْتِيعَابِ فَهَذِهِ خَمْسُ رِوَايَاتٍ فِي صِفَةِ الْخَاتَمِ [ ص 316 ] سَرْجِسَ قَالَ رَأَيْت خَاتَمَ النّبُوّةِ كَالْجُمْعِ يَعْنِي : كَالْمِحْجَمَةِ [ وَفِي الْآلَةِ الّتِي يَجْتَمِعُ بِهَا دَمُ الْحِجَامَةِ عِنْدَ الْمَصّ ] لَا كَجُمْعِ الْكَفّ وَمَعْنَاهُ كَمَعْنَى الْأَوّلِ أَيْ كَأَثَرِ الْجُمْعِ . وَقَدْ قِيلَ فِي الْجُمْعِ إنّهُ جُمْعُ الْكَفّ قَالَهُ الْقُتَبِيّ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَرِوَايَةٌ سَابِعَةٌ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - وَقَدْ سُئِلَ عَنْ خَاتَمِ النّبُوّةِ فَقَالَ بِضْعَةٌ نَاشِزَةٌ هَكَذَا : وَوَضَعَ طَرَفَ السّبّابَةِ فِي مِفْصَلِ الْإِبْهَامِ أَوْ دُونَ الْمِفْصَلِ ذَكَرَهَا يُونُسُ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَفِي صِفَتِهِ أَيْضًا رِوَايَةٌ ثَامِنَةٌ وَهِيَ رِوَايَةُ مَنْ شَبّهَهُ بِالسّلْعَةِ وَذَلِكَ لِنُتُوّهِ وَقَدْ تَقَدّمَ حَدِيثٌ فِيهِ عَنْ أَبِي ذَرّ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - مَرْفُوعًا بَيَانُ وَضْعِ الْخَاتَمِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مَتَى كَانَ وَرَوَى التّرْمِذِيّ فِي مُصَنّفِهِ قَالَ حَدّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ أَبُو الْعَبّاسِ الْأَعْرَجُ الْبَغْدَادِيّ ، حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ غَزْوَانَ أَبُو نُوحٍ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنْ أَبِي إسْحَاقَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي مُوسَى ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ خَرَجَ أَبُو طَالِبٍ إلَى الشّامِ ، وَخَرَجَ مَعَهُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي أَشْيَاخٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَلَمّا أَشْرَفُوا عَلَى الرّاهِبِ هَبَطُوا ، فَحَلّوا رِحَالَهُمْ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ الرّاهِبُ وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ يَمُرّونَ بِهِ فَلَا يَخْرُجُ إلَيْهِمْ وَلَا يَلْتَفِتُ فَجَعَلَ يَتَخَلّلُهُمْ الرّاهِبُ وَهُمْ يَحِلّونَ رِحَالَهُمْ حَتّى جَاءَ فَأَخَذَ بِيَدِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَقَالَ هَذَا سَيّدُ الْعَالَمِينَ هَذَا رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ يَبْعَثُهُ اللّهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ . فَقَالَ لَهُ أَشْيَاخٌ مِنْ قُرَيْشٍ : مَا عِلْمُك ؟ . فَقَالَ إنّكُمْ حِينَ أَشْرَفْتُمْ مِنْ الْعَقَبَةِ لَمْ يَبْقَ حَجَرٌ وَلَا شَجَرٌ إلّا خَرّ سَاجِدًا : وَلَا يَسْجُدَانِ إلّا لِنَبِيّ وَإِنّي أَعْرِفُهُ بِخَاتَمِ النّبُوّةِ أَسْفَلَ مِنْ غُضْرُوفِ كَتِفِهِ . وَيُقَالُ غُرْضُوفٌ مِثْلُ التّفّاحَةِ . ثُمّ رَجَعَ فَصَنَعَ لَهُمْ طَعَامًا ، فَلَمّا أَتَاهُمْ بِهِ - وَكَانَ هُوَ فِي رَعِيّةِ الْإِبِلِ - قَالَ أَرْسِلُوا إلَيْهِ . فَأَقْبَلَ وَعَلَيْهِ غَمَامَةٌ تُظِلّهُ فَلَمّا دَنَا مِنْ الْقَوْمِ وَجَدَهُمْ قَدْ سَبَقُوهُ إلَى فَيْءِ الشّجَرَةِ ، فَلَمّا جَلَسَ مَالَ فَيْءُ الشّجَرَةِ عَلَيْهِ فَقَالَ اُنْظُرُوا إلَى فَيْءِ الشّجَرَةِ مَالَ عَلَيْهِ قَالَ فَبَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ [ ص 317 ] الرّومِ ، فَإِنّ الرّومَ إنْ رَأَوْهُ عَرَفُوهُ بِالصّفَةِ فَيَقْتُلُونَهُ فَالْتَفَتَ فَإِذَا سَبْعَةٌ قَدْ أَقْبَلُوا مِنْ الرّومِ ، فَاسْتَقْبَلَهُمْ فَقَالَ مَا جَاءَ بِكُمْ فَقَالُوا : جِئْنَا أَنّ هَذَا النّبِيّ خَارِجٌ فِي هَذَا الشّهْرِ فَلَمْ يَبْقَ طَرِيقٌ إلّا بُعِثَ إلَيْهِ بِأُنَاسِ وَإِنّا قَدْ اخْتَرْنَا خِيرَةَ بَعْثِنَا إلَى طَرِيقِك هَذَا ، فَقَالَ هَلْ خَلْفَكُمْ أَحَدٌ هُوَ خَيْرٌ مِنْكُمْ فَقَالُوا : إنّمَا اخْتَرْنَا خِيرَةً لِطَرِيقِك هَذَا ، قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ أَمْرًا أَرَادَ اللّهُ أَنْ يَقْضِيَهُ هَلْ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ النّاسِ رَدّهُ ؟ قَالُوا : لَا ، قَالَ فَبَايَعُوهُ وَأَقَامُوا مَعَهُ . قَالَ أَنْشُدُكُمْ بِاَللّهِ أَيّكُمْ وَلِيّهُ ؟ قَالُوا : أَبُو طَالِبٍ فَلَمْ يَزَلْ يُنَاشِدُهُ حَتّى رَدّهُ أَبُو طَالِبٍ وَبَعَثَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ بَلَالًا - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا - وَزَوّدَهُ الرّاهِبُ مِنْ الْكَعْكِ وَالزّيْتِ قَالَ أَبُو عِيسَى : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إلّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ . وَمِمّا قَالَهُ أَبُو طَالِبٍ فِي هَذِهِ الْقِصّةِ
أَلَمْ تَرَنِي مِنْ بَعْدِ هَمّ هَمَمْته ... بِفُرْقَةِ حُرّ الْوَالِدَيْنِ كِرَامِ
بِأَحْمَدَ لَمّا أَنْ شَدَدْت مَطِيّتِي ... لِتَرْحَلَ إذْ وَدّعْته بِسَلَامِ
بَكَى حُزْنًا وَالْعِيسُ قَدْ فَصَلَتْ بِنَا ... وَأَمْسَكْت بِالْكَفّيْنِ فَضْلَ زِمَامِ
ذَكَرْت أَبَاهُ ثُمّ رَقْرَقَتْ عَبْرَةٌ ... تَجُودُ مِنْ الْعَيْنَيْنِ ذَاتُ سِجَامِ
فَقُلْت : تَرُوحُ رَاشِدًا فِي عُمُومَةٍ ... مُوَاسِينَ فِي الْبَأْسَاءِ غَيْرِ لِئَامِ
فَرُحْنَا مَعَ الْعِيرِ الّتِي رَاحَ أَهْلُهَا ... شَآمِيّ الْهَوَى ، وَالْأَصْلُ غَيْرُ شَآمِي
فَلَمّا هَبَطْنَا أَرْضَ بُصْرَى تَشَرّفُوا ... لَنَا فَوْقَ دُورٍ يَنْظُرُونَ جِسَامِ
فَجَاءَ بَحِيرَى عِنْدَ ذَلِكَ حَاشِدًا ... لَنَا بِشَرَابِ طَيّبٍ وَطَعَامٍ
فَقَالَ اجْمَعُوا أَصْحَابَكُمْ لِطَعَامِنَا ... فَقُلْنَا : جَمَعْنَا الْقَوْمَ غَيْرَ غُلَامٍ
ذَ كَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْهُ وَذَكَرَ بَاقِيَ الشّعْرِ . حَفِظَهُ فِي الصّغَرِ فَصْلٌ وَذَكَرَ مَا كَانَ اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَحْفَظُهُ بِهِ أَنّهُ كَانَ صَغِيرًا يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فَتَعَرّى فَلَكَمَهُ لَاكِمٌ . الْحَدِيثُ . وَهَذِهِ الْقِصّةُ إنّمَا وَرَدَتْ فِي الْحَدِيثِ الصّحِيحِ فِي حِينِ بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَنْقُلُ الْحِجَارَةَ مَعَ قَوْمِهِ إلَيْهَا ، وَكَانُوا يَجْعَلُونَ أُزُرَهُمْ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ لِتَقِيهِمْ الْحِجَارَةَ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَحْمِلُهَا عَلَى عَاتِقِهِ وَإِزَارُهُ مَشْدُودٌ عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ الْعَبّاسُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَا ابْنَ أَخِي لَوْ جَعَلْت إزَارَك عَلَى عَاتِقِك ، فَفَعَلَ فَسَقَطَ مَغْشِيّا عَلَيْهِ ثُمّ قَالَ إزَارِي إزَارِي فَشُدّ عَلَيْهِ إزَارُهُ وَقَامَ يَحْمِلُ الْحِجَارَةَ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنّهُ لَمّا سَقَطَ ضَمّهُ الْعَبّاسُ إلَى نَفْسِهِ وَسَأَلَهُ عَنْ شَأْنِهِ فَأَخْبَرَهُ أَنّهُ نُودِيَ مِنْ السّمَاءِ أَنْ اُشْدُدْ عَلَيْك إزَارَك يَا مُحَمّدُ قَالَ وَإِنّهُ لَأَوّلُ مَا نُودِيَ وَحَدِيثُ ابْنِ إسْحَاقَ ، إنْ صَحّ أَنّهُ كَانَ ذَلِكَ فِي صِغَرِهِ إذْ كَانَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فَمَحْمَلُهُ عَلَى أَنّ هَذَا الْأَمْرَ كَانَ مَرّتَيْنِ مَرّةً فِي حَالِ صِغَرِهِ وَمَرّةً فِي أَوّلِ اكْتِهَالِهِ عِنْدَ بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ .

حَرْبُ الْفِجَارِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَلَمّا بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً أَوْ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً [ ص 319 ] أَبُو عُبَيْدَةَ النّحْوِيّ ، عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ - هَاجَتْ حَرْبُ الْفِجَارِ بَيْنَ قُرَيْشٍ ، وَمَنْ مَعَهَا مِنْ كِنَانَةَ وَبَيْنَ قَيْسِ عَيْلَانَ . وَكَانَ الّذِي هَاجَهَا أَنّ عُرْوَةَ الرّحّال َ بْنَ عُتْبَةَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ ، أَجَارَ لَطِيمَةً لِلنّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ فَقَالَ لَهُ الْبَرّاضُ بْنُ قَيْسٍ ، أَحَدُ بَنِي ضَمْرَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ أَتُجِيرُهَا عَلَى كِنَانَةَ ؟ قَالَ نَعَمْ وَعَلَى الْخَلْقِ فَخَرَجَ فِيهَا عُرْوَةُ بن الرّحّالُ ، وَخَرَجَ الْبَرّاضُ يَطْلُبُ غَفْلَتَهُ حَتّى إذَا كَانَ بِتَيْمِنَ ذِي طَلّالٍ بِالْعَالِيَةِ غَفَلَ عُرْوَةُ فَوَثَبَ عَلَيْهِ الْبَرّاضُ فَقَتَلَهُ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ فَلِذَلِكَ سُمّيَ الْفِجَارَ . وَقَالَ الْبَرّاضُ فِي ذَلِكَ
وَدَاهِيَةٌ تُهِمّ النّاسَ قَبْلِي ... شَدَدْت لَهَا - بَنِي بَكْرٍ - ضُلُوعِي
هَدَمْت بِهَا بُيُوتَ بَنِي كِلَابٍ ... وَأَرْضَعْت الْمَوَالِيَ بِالضّرُوعِ
رَفَعْت لَهُ بِذِي طَلّالَ كَفّي ... فَخَرّ يَمِيدُ كَالْجِذْعِ الصّرِيعِ
[ ص 320 ] وَقَالَ لَبِيدُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ
أَبْلِغْ - إنْ عَرَضْت - بَنِي كِلَابٍ ... وَعَامِرَ وَالْخُطُوبَ لَهَا مَوَالِي
وَبَلّغْ إنْ عَرَضْت بَنِي نُمَيْرٍ ... وَأَخْوَالَ الْقَتِيلِ بَنِي هِلَالِ
بِأَنّ الْوَافِدَ الرّحّالَ أَمْسَى ... مُقِيمًا عِنْدَ تَيْمِنَ ذِي طَلَالَا
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَأَتَى آتٍ قُرَيْشًا ، فَقَالَ إنّ الْبَرّاضَ قَدْ قَتَلَ عُرْوَةَ ، وَهُمْ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ بِعِكَاظِ فَارْتَحَلُوا ، وَهَوَازِنُ لَا تَشْعُرُ ثُمّ بَلَغَهُمْ الْخَبَرُ فَأَتْبَعُوهُمْ فَأَدْرَكُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوا الْحَرَمَ ، فَاقْتَتَلُوا حَتّى جَاءَ اللّيْلُ وَدَخَلُوا الْحَرَمَ ، فَأَمْسَكَتْ عَنْهُمْ هَوَازِنُ ، ثُمّ الْتَقَوْا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ أَيّامًا ، وَالْقَوْمُ [ ص 321 ] قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ رَئِيسٌ مِنْهُمْ وَعَلَى كُلّ قَبِيلٍ مِنْ قَيْسٍ رَئِيسٌ مِنْهُمْ . وَشَهِدَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بَعْضَ أَيّامِهِمْ أَخْرَجَهُ أَعْمَامُهُ مَعَهُمْ وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كُنْت أُنَبّلُ عَلَى أَعْمَامِي أَيْ أَرُدّ عَنْهُمْ نَبْلَ عَدُوّهِمْ إذَا رَمَوْهُمْ بِهَا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : هَاجَتْ حَرْبُ الْفِجَارِ وَرَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً وَإِنّمَا سُمّيَ يَوْمُ الْفِجَارِ بِمَا اسْتَحَلّ هَذَانِ الْحَيّانِ كِنَانَةُ وَقَيْسُ عَيْلَانَ فِيهِ الْمَحَارِمَ بَيْنَهُمْ . وَكَانَ قَائِدُ قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ حَرْبُ بْنُ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ، وَكَانَ الظّفَرُ فِي أَوّلِ النّهَارِ لِقَيْسِ عَلَى كِنَانَةَ حَتّى إذَا كَانَ فِي وَسَطِ النّهَارِ كَانَ الظّفَرُ لِكِنَانَةَ عَلَى قَيْسٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدِيثُ الْفِجَارِ أَطْوَلُ مِمّا ذَكَرْت ، وَإِنّمَا مَنَعَنِي مِنْ اسْتِقْصَائِهِ قَطْعُهُ حَدِيثَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
Sقِصّةُ الْفِجَارِ
وَالْفِجَارُ بِكَسْرِ الْفَاءِ بِمَعْنَى : الْمُفَاجَرَةِ كَالْقِتَالِ وَالْمُقَاتَلَةِ وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ قِتَالًا فِي الشّهْرِ [ ص 319 ] فَسُمّيَ الْفِجَارَ وَكَانَتْ لِلْعَرَبِ فِجَارَاتٌ أَرْبَعٌ ذَكَرَهَا الْمَسْعُودِيّ ، آخِرُهَا : فِجَارُ الْبِرَاضِ الْمَذْكُورُ فِي السّيرَةِ وَكَانَ لَكِنَانَةَ وَلِقَيْسِ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَيّامٍ مَذْكُورَةٌ يَوْمُ شَمْطَةَ وَيَوْمُ الشّرْبِ وَهُوَ أَعْظَمُهَا يَوْمًا ، وَفِيهِ قَيّدَ حَرْبُ بْنُ أُمَيّةَ وَسُفْيَانُ وَأَبُو سُفْيَانَ أَبْنَاءُ أُمَيّةَ أَنْفُسَهُمْ كَيْ لَا يَفِرّوا ، فَسُمّوا : الْعَنَابِسَ وَيَوْمُ الْحُرَيْرَةِ عِنْدَ نَخْلَةَ ، وَيَوْمُ الشّرِبِ انْهَزَمَتْ قَيْسٌ إلّا بَنِي نَضْرٍ مِنْهُمْ فَإِنّهُمْ ثَبَتُوا ، وَإِنّمَا لَمْ يُقَاتِلْ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَعَ أَعْمَامِهِ وَكَانَ يَنْبُلُ عَلَيْهِمْ وَقَدْ كَانَ بَلَغَ سِنّ الْقِتَالِ لِأَنّهَا كَانَتْ حَرْبَ فِجَارٍ وَكَانُوا أَيْضًا كُلّهُمْ كُفّارًا ، وَلَمْ يَأْذَنْ اللّهُ تَعَالَى لِمُؤْمِنِ أَنْ يُقَاتِلَ إلّا لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا . وَاللّطِيمَةُ عِيرٌ تَحْمِلُ الْبَزّ وَالْعِطْرَ . وَقَوْلُهُ بِذِي طَلّالٍ بِتَشْدِيدِ اللّامِ وَإِنّمَا خَفّفَهُ لَبِيدٌ فِي الشّعْرِ الّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ هَاهُنَا لِلضّرُورَةِ .
مَنْعُ تَنْوِينِ الْعَلَمِ
وَقَوْلُ الْبَرّاضِ رَفَعْت لَهُ بِذِي طَلّالَ كَفّي . فَلَمْ يَصْرِفْهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَعَلَهُ اسْمَ بُقْعَةٍ فَتَرَكَ إجْرَاءَ الِاسْمِ لِلتّأْنِيثِ وَالتّعْرِيفِ فَإِنْ قُلْت : كَانَ يَجِبُ أَنْ يَقُولَ بِذَاتِ طَلّالَ ، أَيْ ذَاتِ هَذَا الِاسْمِ لِلْمُؤَنّثِ كَمَا قَالُوا : ذُو عَمْرٍو أَيْ صَاحِبُ هَذَا الِاسْمِ وَلَوْ كَانَتْ [ ص 320 ] أُنْثَى ، لَقَالُوا : ذَاتُ هَذَا ، فَالْجَوَابُ أَنّ قَوْلَهُ بِذِي يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا لِطَرِيقِ أَوْ جَانِبٍ مُضَافٍ إلَى طَلّالَ اسْمِ الْبُقْعَةِ . وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا كُلّهِ أَنْ يَكُونَ طَلّالُ اسْمًا مُذّكّرًا عَلَمًا ، وَالِاسْمُ الْعَلَمُ يَجُوزُ تَرْكُ صَرْفِهِ فِي الشّعْرِ كَثِيرًا ، وَسَيَأْتِي فِي هَذَا الْكِتَابُ مِنْ الشّوَاهِدِ عَلَيْهِ مَا يَدُلّك عَلَى كَثْرَتِهِ فِي الْكَلَامِ وَنُؤَخّرُ الْقَوْلَ فِي كَشْفِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَإِيضَاحِهَا إلَى أَنْ تَأْتِيَ تِلْكَ الشّوَاهِدُ - إنْ شَاءَ اللّهُ - وَوَقَعَ فِي شِعْرِ الْبَرّاضِ مُشَدّدًا ، وَفِي شِعْرِ لَبِيَدٍ الّذِي بَعْدَ هَذَا مُخَفّفًا ، وَقُلْنَا : إنّ لَبِيدًا خَفّفَهُ لِلضّرُورَةِ وَلَمْ يَقُلْ إنّهُ شُدّدَ لِلضّرُورَةِ وَإِنّ الْأَصْلَ فِيهِ التّخْفِيفُ لِأَنّهُ فَعّالٌ مِنْ الطّلّ كَأَنّهُ مَوْضِعٌ يَكْثُرُ فِيهِ الطّلّ ، فَطَلَالُ بِالتّخْفِيفِ لَا مَعْنَى لَهُ وَأَيْضًا ؛ فَإِنّا وَجَدْنَاهُ فِي الْكَلَامِ الْمَنْثُورِ مُشَدّدًا ، وَكَذَلِكَ تُقَيّدُ فِي كَلَامِ ابْنِ إسْحَاقَ هَذَا فِي أَصْلِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ .
مِنْ تَفْسِيرِ شِعْرِ الْبَرّاضِ
وَقَوْلُهُ فِي الْبَيْتِ الثّانِي : وَأَلْحَقْت الْمَوَالِيَ بِالضّرُوعِ . جَمْعُ : ضَرْعٍ هُوَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِمْ لَئِيمٌ رَاضِعٌ أَيْ أَلْحَقَتْ الْمَوَالِيَ بِمَنْزِلَتِهِمْ مِنْ اللّؤْمِ وَرَضَاعِ الضّرُوعِ وَأَظْهَرْت فَسَالَتَهُمْ وَهَتَكْت بُيُوتَ أَشْرَافِ بَنِي كِلَابٍ وَصُرَحَائِهِمْ . وَقَوْلُ لَبِيَدٍ بَيْنَ تَيْمِنَ ذِي طَلَالٍ . بِكَسْرِ الْمِيمِ وَبِفَتْحِهَا ، وَلَمْ يَصْرِفْهُ لِوَزْنِ الْفِعْلِ وَالتّعْرِيفِ لِأَنّهُ تَفْعِلُ أَوْ تَفْعَلُ مِنْ الْيُمْنِ أَوْ الْيَمِينِ .
آخِرُ أَمْرِ الْفِجَارِ
[ ص 321 ] وَكَانَ آخِرُ أَمْرِ الْفِجَارِ أَنّ هَوَازِنَ وَكِنَانَةَ تَوَاعَدُوا لِلْعَامِ الْقَابِلِ بِعِكَاظِ فَجَاءُوا لِلْوَعْدِ وَكَانَ حَرْبُ بْنُ أُمَيّةَ رَئِيسَ قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ وَكَانَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ يَتِيمًا فِي حِجْرِهِ فَضَنّ بِهِ حَرْبٌ وَأَشْفَقَ مِنْ خُرُوجِهِ مَعَهُ فَخَرَجَ عُتْبَةُ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلَمْ يَشْعُرُوا إلّا وَهُوَ عَلَى بَعِيرِهِ بَيْنَ الصّفّيْنِ يُنَادِي : يَا مَعْشَرَ مُضَرَ ، عَلَامَ تُقَاتِلُونَ ؟ فَقَالَتْ لَهُ هَوَازِنُ : مَا تَدْعُو إلَيْهِ ؟ فَقَالَ الصّلْحُ عَلَى أَنْ نَدْفَعَ إلَيْكُمْ دِيَةَ قَتْلَاكُمْ وَنَعْفُوَ عَنْ دِمَائِنَا ، قَالُوا : وَكَيْفَ ؟ قَالَ نَدْفَعُ إلَيْكُمْ رَهْنًا مِنّا ، قَالُوا : وَمَنْ لَنَا بِهَذَا ؟ قَالَ أَنَا . قَالُوا : وَمَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ، فَرَضُوا وَرَضِيَتْ كِنَانَةُ وَدَفَعُوا إلَى هَوَازِنَ أَرْبَعِينَ رَجُلًا : فِيهِمْ حَكِيمُ بْنُ حِزَامِ [ بْنِ خُوَيْلِدٍ ] ، فَلَمّا رَأَتْ بَنُو عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ الرّهْنَ فِي أَيْدِيهمْ عَفَوْا عَنْ الدّمَاءِ وَأَطْلَقُوهُمْ وَانْقَضَتْ حَرْبُ الْفِجَارِ وَكَانَ يُقَالُ لَمْ يَسُدْ مِنْ قُرَيْشٍ مُمْلِقٌ إلّا عُتْبَةُ وَأَبُو طَالِبٍ فَإِنّهُمَا سَادَا بِغَيْرِ مَالٍ .

حَدِيثُ تَزْوِيجِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : [ ص 322 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً تَزَوّجَ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ ، فِيمَا حَدّثَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الْمَدَنِيّ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَتْ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ امْرَأَةً تَاجِرَةً ذَاتُ شَرَفٍ وَمَالٍ تَسْتَأْجِرُ الرّجَالَ فِي مَالِهَا ، وَتُضَارِبُهُمْ إيّاهُ بِشَيْءِ تَجْعَلُهُ لَهُمْ وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَوْمًا تُجّارًا ، فَلَمّا بَلَغَهَا عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَا بَلَغَهَا ، مِنْ صِدْقِ حَدِيثِهِ وَعِظَمِ أَمَانَتِهِ وَكَرَمِ أَخْلَاقِهِ بَعَثَتْ إلَيْهِ فَعَرَضَتْ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ فِي مَالٍ لَهَا إلَى الشّامِ تَاجِرًا ، وَتُعْطِيهِ أَفْضَلَ مَا كَانَتْ تُعْطِي غَيْرَهُ مِنْ التّجّارِ مَعَ غُلَامٍ لَهَا يُقَالُ لَهُ مَيْسَرَةُ فَقَبِلَهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْهَا ، وَخَرَجَ فِي مَالِهَا ذَلِكَ وَخَرَجَ مَعَهُ غُلَامُهَا مَيْسَرَةُ حَتّى قَدِمَ الشّامَ . فَنَزَلَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي ظِلّ شَجَرَةٍ قَرِيبًا مِنْ صَوْمَعَةِ رَاهِبٍ مِنْ الرّهْبَانِ فَاطّلَعَ الرّاهِبُ إلَى مَيْسَرَةَ فَقَالَ لَهُ مَنْ هَذَا الرّجُلُ الّذِي نَزَلَ تَحْتَ هَذِهِ الشّجَرَةِ ؟ قَالَ لَهُ مَيْسَرَةُ هَذَا رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ ، فَقَالَ لَهُ الرّاهِبُ مَا نَزَلَ تَحْتَ هَذِهِ الشّجَرَةِ قَطّ إلّا نَبِيّ . [ ص 323 ] بَاعَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - سِلْعَتَهُ الّتِي خَرَجَ بِهَا ، وَاشْتَرَى مَا أَرَادَ أَنّ يَشْتَرِيَ ثُمّ أَقْبَلَ قَافِلًا إلَى مَكّةَ ، وَمَعَهُ مَيْسَرَةُ فَكَانَ مَيْسَرَةُ - فِيمَا يَزْعُمُونَ - إذَا كَانَتْ الْهَاجِرَةُ وَاشْتَدّ الْحَرّ ، يَرَى مَلَكَيْنِ يُظِلّانِهِ مِنْ الشّمْسِ - وَهُوَ يَسِيرُ عَلَى بَعِيرِهِ فَلَمّا قَدِمَ مَكّةَ عَلَى خَدِيجَةَ بِمَالِهَا ، بَاعَتْ مَا جَاءَ بِهِ فَأَضْعَفَ أَوْ قَرِيبًا . وَحَدّثَهَا مَيْسَرَةُ عَنْ قَوْلِ الرّاهِبِ وَعَمّا كَانَ يَرَى مِنْ إظْلَالِ الْمَلَكَيْنِ إيّاهُ وَكَانَتْ خَدِيجَةُ امْرَأَةً حَازِمَةً شَرِيفَةً لَبِيبَةً مَعَ مَا أَرَادَ اللّهُ بِهَا مِنْ كَرَامَتِهِ فَلَمّا أَخْبَرَهَا مَيْسَرَةُ بِمَا أَخْبَرَهَا بِهِ بَعَثَتْ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَتْ لَهُ - فِيمَا يَزْعُمُونَ يَا بْنَ عَمّ إنّي قَدْ رَغِبْت فِيك لِقَرَابَتِك ، وَسِطَتِك فِي قَوْمِك وَأَمَانَتِك ، وَحُسْنِ خُلُقِك ، وَصِدْقِ حَدِيثِك ، ثُمّ عَرَضَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهَا ، وَكَانَتْ خَدِيجَةُ يَوْمئِذٍ أَوْسَطَ نِسَاءِ قُرَيْشٍ نَسَبًا ، وَأَعْظَمَهُنّ شَرَفًا ، وَأَكْثَرَهُنّ مَالًا ، كُلّ قَوْمِهَا كَانَ حَرِيصًا عَلَى ذَلِكَ مِنْهَا لَوْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ . [ ص 324 ] وَهِيَ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ . وَأُمّهَا : فَاطِمَةُ بِنْتُ زَائِدَةَ بْنِ الْأَصَمّ بْنِ رَوَاحَةَ بْنِ حَجَرِ بْنِ عَبْدِ بْنِ مَعِيصِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ . وَأُمّ فَاطِمَةَ هَالَةُ بِنْتُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُنْقِذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَعِيصِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ . وَأُمّ هَالَةَ قِلَابَةُ بِنْتُ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ . فَلَمّا قَالَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ذَكَرَ ذَلِكَ لِأَعْمَامِهِ فَخَرَجَ مَعَهُ عَمّهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ - رَحِمَهُ اللّهُ - حَتّى دَخَلَ عَلَى خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ فَخَطَبَهَا إلَيْهِ فَتَزَوّجَهَا . [ ص 325 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَأَصْدَقَهَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عِشْرِينَ بَكْرَةً وَكَانَتْ أَوّلَ امْرَأَةٍ تَزَوّجَهَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَلَمْ يَتَزَوّجْ عَلَيْهَا غَيْرَهَا حَتّى مَاتَتْ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا .
Sفَصْلٌ فِي تَزْوِيجِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا
شَرْحُ قَوْلِ الرّاهِبِ [ ص 322 ] ذُكِرَ فِيهِ قَوْلُ الرّاهِبِ مَا نَزَلَ تَحْتَ هَذِهِ الشّجَرَةِ إلّا نَبِيّ . يُرِيدُ مَا نَزَلَ تَحْتَهَا هَذِهِ [ ص 323 ] نَزَلَ تَحْتَهَا قَطّ إلّا نَبِيّ . لِبُعْدِ الْعَهْدِ بِالْأَنْبِيَاءِ قَبْلَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِي لَفْظِ الْخَبَرِ : قَطّ ، فَقَدْ تَكَلّمَ بِهَا عَلَى جِهَةِ التّوْكِيدِ لِلنّفْيِ وَالشّجَرَةُ لَا تُعَمّرُ فِي الْعَادَةِ هَذَا الْعُمْرَ الطّوِيلَ حَتّى يَدْرِيَ أَنّهُ لَمْ يَنْزِلْ تَحْتَهَا إلّا عِيسَى ، أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السّلَامُ - وَيَبْعُدُ فِي الْعَادَةِ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ شَجَرَةٌ تَخْلُو مِنْ أَنْ يَنْزِلَ تَحْتَهَا أَحَدٌ ، حَتّى يَجِيءَ نَبِيّ إلّا أَنْ تَصِحّ رِوَايَةُ مَنْ قَالَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لَمْ يَنْزِلْ تَحْتَهَا أَحَدٌ بَعْدَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ ، فَالشّجَرَةُ عَلَى هَذَا مَخْصُوصَةٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَهَذَا الرّاهِبُ ذَكَرُوا أَنّ اسْمَهُ نَسْطُورًا وَلَيْسَ هُوَ بَحِيرَى الْمُتَقَدّمُ ذِكْرُهُ . تَحْقِيقُ مَعْنَى الْوَسَطِ وَقَوْلُ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : لِسِطَتِك فِي عَشِيرَتِك ، وَقَوْلُهُ فِي وَصْفِهَا : هِيَ أَوْسَطُ قُرَيْشٍ نَسَبًا . فَالسّطَةُ مِنْ الْوَسَطِ مَصْدَرٌ كَالْعِدَةِ وَالزّنَةِ وَالْوَسَطُ مِنْ أَوْصَافِ الْمَدْحِ وَالتّفْضِيلِ وَلَكِنْ فِي مَقَامَيْنِ فِي ذِكْرِ النّسَبِ وَفِي ذِكْرِ الشّهَادَةِ . أَمّا النّسَبُ فَلِأَنّ أَوْسَطَ الْقَبِيلَةِ أَعْرَفُهَا ، وَأَوْلَاهَا بِالصّمِيمِ وَأَبْعَدُهَا عَنْ الْأَطْرَافِ وَالْوَسِيطِ وَأَجْدَرُ أَنْ لَا تُضَافَ إلَيْهِ الدّعْوَةُ لِأَنّ الْآبَاءَ وَالْأُمّهَاتِ قَدْ أَحَاطُوا بِهِ مِنْ كُلّ جَانِبٍ فَكَانَ الْوَسَطُ مِنْ أَجَلّ هَذَا مَدْحًا فِي النّسَبِ بِهَذَا السّبَبِ وَأَمّا الشّهَادَةُ فَنَحْوَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ قَالَ أَوْسَطُهُمْ وَقَوْلِهِ { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطًا } { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النّاسِ } [ الْبَقَرَةُ 143 ] فَكَانَ هَذَا مَدْحًا فِي الشّهَادَةِ لِأَنّهَا غَايَةُ الْعَدَالَةِ فِي الشّاهِدِ أَنْ يَكُونَ وَسَطًا كَالْمِيزَانِ لَا يَمِيلُ مَعَ أَحَدٍ ، بَلْ [ ص 324 ] رَهْبَةٌ مِنْ هَاهُنَا ، وَلَا مِنْ هَاهُنَا ، فَكَانَ وَصْفُهُ بِالْوَسَطِ غَايَةً فِي التّزْكِيَةِ وَالتّعْدِيلِ وَظَنّ كَثِيرٌ مِنْ النّاسِ أَنّ مَعْنَى الْأَوْسَطِ الْأَفْضَلُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَقَالُوا : مَعْنَى الصّلَاةِ الْوُسْطَى : الْفُضْلَى ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ فِي جَمِيعِ الْأَوْصَافِ لَا مَدْحٌ وَلَا ذَمّ ، كَمَا يَقْتَضِي لَفْظُ التّوَسّطِ فَإِذَا كَانَ وَسَطًا فِي السّمَنِ فَهِيَ بَيْنَ الْمُمِخّةِ وَالْعَجْفَاءِ . وَالْوَسَطُ فِي الْجَمَالِ بَيْنَ الْحَسْنَاءِ وَالشّوْهَاءِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْصَافِ لَا يُعْطِي مَدْحًا ، وَلَا ذَمّا ، غَيْرَ أَنّهُمْ قَدْ قَالُوا فِي الْمَثَلِ أَثْقَلُ مِنْ مُغِنّ وَسَطٍ عَلَى الذّمّ لِأَنّ الْمُغْنِي إنْ كَانَ مَجِيدًا جِدّا أَمْتَعَ وَأَطْرَبَ وَإِنْ كَانَ بَارِدًا جِدّا أَضْحَكَ وَأَلْهَى ، وَذَلِكَ أَيْضًا مِمّا يُمَتّعُ . قَالَ الْجَاحِظُ : وَإِنّمَا الْكَرْبُ الّذِي يَجْثُمُ عَلَى الْقُلُوبِ وَيَأْخُذُ بِالْأَنْفَاسِ الْغِنَاءُ الْفَاتِرُ الْوَسَطُ الّذِي لَا يُمَتّعُ بِحُسْنِ وَلَا يُضْحِكُ بِلَهْوِ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - هُوَ أَوْسَطُ النّاسِ . أَيْ أَفْضَلُهُمْ وَلَا يُوصَفُ بِأَنّهُ وَسَطٌ فِي الْعِلْمِ وَلَا فِي الْجُودِ وَلَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ إلّا فِي النّسَبِ وَالشّهَادَةِ كَمَا تَقَدّمَ وَالْحَمْدُ لِلّهِ وَاَللّهُ الْمَحْمُودُ . مَنْ الّذِي زَوّجَ خَدِيجَةَ ؟
فَصْلٌ
وَذَكَرَ مَشْيَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ مَعَ عَمّهِ حَمْزَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - وَذَكَرَ غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ خُوَيْلِدًا كَانَ إذْ ذَاكَ قَدْ أُهْلِكَ وَأَنّ الّذِي أَنْكَحَ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - هُوَ عَمّهَا عَمْرُو بْنُ أَسَدٍ ، قَالَهُ الْمُبَرّدُ وَطَائِفَةٌ مَعَهُ وَقَالَ أَيْضًا : إنّ أَبَا طَالِبٍ هُوَ الّذِي نَهَضَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ الّذِي خَطَبَ خُطْبَةَ النّكَاحِ وَكَانَ مِمّا قَالَهُ فِي تِلْكَ الْخُطْبَةِ " أَمّا بَعْدُ فَإِنّ مُحَمّدًا مِمّنْ لَا يُوَازَنُ بِهِ فَتًى مِنْ قُرَيْشٍ إلّا رَجَحَ بِهِ شَرَفًا وَنُبْلًا وَفَضْلًا وَعَقْلًا ، فَإِنْ كَانَ فِي الْمَالِ قُلّ ، فَإِنّمَا ظِلّ زَائِلٌ وَعَارِيَةٌ مُسْتَرْجَعَةٌ وَلَهُ فِي [ ص 325 ] خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ رَغْبَةٌ وَلَهَا فِيهِ مِثْلُ ذَلِكَ " فَقَالَ عَمْرٌو : هُوَ الْفَحْلُ الّذِي لَا يُقْدَعُ أَنْفُهُ فَأَنْكَحَهَا مِنْهُ وَيُقَالُ قَالَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ ، وَاَلّذِي قَالَهُ الْمُبَرّدُ هُوَ الصّحِيحُ لِمَا رَوَاهُ الطّبَرِيّ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، وَعَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ كُلّهِمْ - قَالَ إنّ عَمْرَو بْنَ أَسَدٍ هُوَ الّذِي أَنْكَحَ خَدِيجَةَ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأَنّ خُوَيْلِدًا كَانَ قَدْ هَلَكَ قَبْلَ الْفِجَارِ وَخُوَيْلِدُ بْنُ أَسَدٍ هُوَ الّذِي نَازَعَ تُبّعًا الْآخَرَ حِينَ حَجّ وَأَرَادَ أَنْ يَحْتَمِلَ الرّكْنَ الْأَسْوَدَ مَعَهُ إلَى الْيَمَنِ ، فَقَامَ فِي ذَلِكَ خُوَيْلِدٌ وَقَامَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ ثُمّ إنّ تُبّعًا رُوّعَ فِي مَنَامِهِ تَرْوِيعًا شَدِيدًا حَتّى تَرَكَ ذَلِكَ وَانْصَرَفَ عَنْهُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
فَصْلٌ
وَذَكَرَ الزّهْرِيّ فِي سِيَرِهِ وَهِيَ أَوّلُ سِيرَةٍ أُلّفَتْ فِي الْإِسْلَامِ كَذَا رُوِيَ عَنْ [ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عُبَيْدٍ ] الدّرَاوَرْدِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لِشَرِيكِهِ الّذِي كَانَ يَتّجِرُ مَعَهُ فِي مَالِ خَدِيجَةَ هَلُمّ فَلْنَتَحَدّثْ عِنْدَ خَدِيجَةَ وَكَانَتْ تُكْرِمُهُمَا وَتُتْحِفُهُمَا ، فَلَمّا قَامَا مِنْ عِنْدِهَا جَاءَتْ امْرَأَةٌ مُسْتَنْشِئَةٌ - وَهِيَ الْكَاهِنَةُ - كَذَا قَالَ الْخَطّابِيّ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَتْ لَهُ جِئْت خَاطِبًا يَا مُحَمّدُ فَقَالَ كَلّا ، فَقَالَتْ وَلِمَ ؟ فَوَاَللّهِ مَا فِي قُرَيْشٍ امْرَأَةٌ وَإِنْ كَانَتْ خَدِيجَةَ إلّا تَرَاك كُفْئًا لَهَا ، فَرَجَعَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - خَاطِبًا لِخَدِيجَةَ مُسْتَحْيِيًا مِنْهَا ، وَكَانَ خُوَيْلِدٌ أَبُوهَا سَكْرَانَ مِنْ الْخَمْرِ فَلَمّا كُلّمَ فِي ذَلِكَ أَنْكَحَهَا ، فَأَلْقَتْ عَلَيْهِ خَدِيجَةُ حُلّةً وَضَمّخَتْهُ بِخَلُوقِ فَلَمّا صَحَا مِنْ سُكْرِهِ قَالَ مَا هَذِهِ الْحُلّةُ وَالطّيبُ ؟ فَقِيلَ إنّك أَنْكَحْت مُحَمّدًا خَدِيجَةَ وَقَدْ ابْتَنَى بِهَا ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ ثُمّ رَضِيَهُ وَأَمْضَاهُ فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنّ أَبَاهَا كَانَ حَيّا ، وَأَنّهُ الّذِي أَنْكَحَهَا . كَمَا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ . وَقَالَ رَاجِزٌ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ فِي ذَلِكَ
لَا تَزْهَدِي خَدِيجَ فِي مُحَمّدِ ... نَجْمٌ يُضِيءُ كَإِضَاءِ الْفَرْقَدِ
وَقِيلَ إنّ عَمْرَو بْنَ خُوَيْلِدٍ أَخَاهَا هُوَ الّذِي أَنْكَحَهَا مِنْهُ ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي آخِرِ الْكِتَابِ .

أَوْلَادُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْهَا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 326 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَدَهُ كُلّهُمْ إلّا إبْرَاهِيمَ الْقَاسِمَ وَبِهِ كَانَ يُكَنّى صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالطّاهِرَ وَالطّيّبَ وَزَيْنَبَ وَرُقَيّةَ وَأُمّ كُلْثُومٍ ، وَفَاطِمَةَ عَلَيْهِمْ السّلَامُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَكْبَرُ بَنِيهِ الْقَاسِمُ ثُمّ الطّيّبُ ثُمّ الطّاهِرُ وَأَكْبَرُ بَنَاتِهِ رُقَيّةُ ثُمّ زَيْنَبُ ثُمّ أُمّ كُلْثُومٍ ، ثُمّ فَاطِمَةُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَمّا الْقَاسِمُ وَالطّيّبُ وَالطّاهِرُ فَهَلَكُوا فِي الْجَاهِلِيّةِ . وَأَمّا بَنَاتُهُ فَكُلّهُنّ أَدْرَكْنَ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمْنَ وَهَاجَرْنَ مَعَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . [ ص 327 ]
Sأَوْلَادُهُ مِنْ خَدِيجَةَ
[ ص 326 ] وَذَكَرَ وَلَدَهُ مِنْهَا - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَذَكَرَ الْبَنَاتِ وَذَكَرَ الْقَاسِمَ وَالطّاهِرَ وَالطّيّبَ وَذَكَرَ أَنّ الْبَنِينَ هَلَكُوا فِي الْجَاهِلِيّةِ وَقَالَ الزّبَيْرُ - وَهُوَ أَعْلَمُ بِهَذَا الشّأْنِ - وَلَدَتْ لَهُ الْقَاسِمَ وَعَبْدَ اللّهِ وَهُوَ الطّاهِرُ وَهُوَ الطّيّبُ سُمّيَ بِالطّاهِرِ وَالطّيّبِ لِأَنّهُ وُلِدَ بَعْدَ النّبُوّةِ وَاسْمُهُ الّذِي سُمّيَ بِهِ أَوّلَ هُوَ عَبْدُ اللّهِ وَبَلَغَ الْقَاسِمُ الْمَشْيَ غَيْرَ أَنّ رَضَاعَتَهُ لَمْ تَكُنْ كَمُلَتْ [ ص 327 ] وَقَعَ فِي مُسْنَدِ الْفِرْيَابِيّ أَنّ خَدِيجَةَ دَخَلَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بَعْدَ مَوْتِ الْقَاسِمِ وَهِيَ تَبْكِي : فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ دَرّتْ لُبَيْنَةُ الْقَاسِمِ فَلَوْ كَانَ عَاشَ حَتّى يَسْتَكْمِلَ رَضَاعَهُ لَهَوّنَ عَلَيّ فَقَالَ إنّ لَهُ مُرْضِعًا فِي الْجَنّةِ تَسْتَكْمِلُ رَضَاعَتَهُ فَقَالَتْ لَوْ أَعْلَمُ ذَلِكَ لَهَوّنَ عَلَيّ فَقَالَ إنْ شِئْت أَسَمِعْتُك صَوْتَهُ فِي الْجَنّةِ . فَقَالَتْ بَلْ أُصَدّقُ اللّهَ وَرَسُولَهُ . قَوْلُهَا ، لُبَيْنَةُ هِيَ تَصْغِيرٌ لَبَنَةٍ وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنْ اللّبَنِ كَالْعُسَيْلَةِ تَصْغِيرُ عَسَلَةٍ ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ اللّبَنَةَ وَالْعَسَلَةَ وَالشّهْدَةَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى . قَالَ الْمُؤَلّفُ وَهَذَا مِنْ فِقْهِهَا - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - كَرِهَتْ أَنْ تُؤْمِنَ بِهَذَا الْأَمْرِ مُعَايَنَةً فَلَا يَكُونُ لَهَا أَجْرُ التّصْدِيقِ وَالْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ وَإِنّمَا أَثْنَى اللّهُ تَعَالَى عَلَى الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ . وَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلّ أَيْضًا عَلَى أَنّ الْقَاسِمَ لَمْ يَهْلِكْ فِي الْجَاهِلِيّةِ . وَاخْتَلَفُوا فِي الصّغْرَى وَالْكُبْرَى مِنْ الْبَنَاتِ غَيْرَ أَنّ أُمّ كُلْثُومٍ لَمْ تَكُنْ الْكُبْرَى مِنْ الْبَنَاتِ وَلَا فَاطِمَةَ وَالْأَصَحّ فِي فَاطِمَةَ أَنّهَا أَصْغَرُ مِنْ أُمّ كُلْثُومٍ . خَدِيجَةُ وَبَحِيرَى وَنَسَبُهَا : وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ تُسَمّى : الطّاهِرَةَ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَالْإِسْلَامِ وَفِي سِيَرِ التّيْمِيّ . أَنّهَا كَانَتْ تُسَمّى : سَيّدَةَ نِسَاءِ قُرَيْشٍ ، وَأَنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ أَخْبَرَهَا عَنْ جِبْرِيلَ وَلَمْ تَكُنْ سَمِعَتْ بِاسْمِهِ قَطّ ، رَكِبَتْ إلَى بَحِيرَى الرّاهِبِ ، وَاسْمُهُ سَرْجِسُ فِيمَا ذَكَرَ الْمَسْعُودِيّ ، فَسَأَلَتْهُ عَنْ جِبْرِيلَ فَقَالَ قُدّوسٌ قُدّوسٌ يَا سَيّدَةَ نِسَاءِ قُرَيْشٍ أَنّى لَك بِهَذَا الِاسْمِ ؟ فَقَالَتْ بَعْلِي وَابْنُ عَمّي مُحَمّدٌ أَخْبَرَنِي أَنّهُ يَأْتِيه ، فَقَالَ قُدّوسٌ قُدّوسٌ مَا عَلِمَ بِهِ إلّا نَبِيّ مُقَرّبٌ فَإِنّهُ السّفِيرُ بَيْنَ اللّهِ وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِ وَإِنّ الشّيْطَانَ لَا يَجْتَرِئُ أَنْ يَتَمَثّلَ بِهِ وَلَا أَنْ يَتَسَمّى بِاسْمِهِ وَكَانَ بِمَكّةَ غُلَامٌ لِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَة َ سَيَأْتِي ذِكْرُهُ اسْمُهُ عَدّاسٌ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ فَأَرْسَلَتْ إلَيْهِ تَسْأَلُهُ عَنْ جِبْرِيلَ فَقَالَ قُدّوسٌ قُدّوسٌ أَنّى لِهَذِهِ الْبِلَادِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا جِبْرِيلُ يَا سَيّدَةَ نِسَاءِ قُرَيْشٍ ، فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا يَقُولُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ عَدّاسٌ مِثْلَ مَقَالَةِ الرّاهِبِ فَكَانَ مِمّا زَادَهَا اللّهُ تَعَالَى بِهِ إيمَانًا وَيَقِينًا . وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ نَسَبَ أُمّهَا فَاطِمَةَ بِنْتِ زَائِدَةَ بْنِ الْأَصَمّ ، وَلَمْ يَذْكُرْ اسْمَ الْأَصَمّ ، وَذَكَرَهُ الزّبَيْرُ وَغَيْرُهُ فَقَالَ جُنْدُبُ بْنُ هِدْمِ بْنِ حَجَرٍ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْجِيمِ مِنْ حَجَرٍ كَذَا قَيّدَهُ الدّارَقُطْنِيّ ، وَأَخُوهُ حُجَيْرُ بْنُ عَبْدِ بْنِ مَعِيصِ بْنِ عَامِرٍ وَأَمّا حَجْرٌ بِسُكُونِ الْجِيمِ فَفِي حَيّ ذِي رُعَيْنٍ وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ الْحَجْرِيّونَ وَأَمّا حِجْرُ بِكَسْرِ الْحَاءِ فَفِي بَنِي الدّيّانِ عَبْدُ الْحِجْرِ بْنُ عَبْدِ الْمَدَانِ وَهُمْ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَذْحِجَ ، وَذَكَرَ يُونُسُ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ نَسَبَ أُمّ خَدِيجَةَ كَمَا ذَكَرَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ ، وَزَادَ فَقَالَ [ ص 328 ] كَانَتْ أُمّ فَاطِمَةَ بِنْتُ زَائِدَةَ هَالَةُ بِنْتُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ بْنِ مُنْقِذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَعِيصِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ ، وَأُمّهَا قِلَابَةُ وَهِيَ الْعَرْقَةُ بِنْتُ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ وَأُمّهَا : أُمَيْمَةُ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ . مَنْ تَزَوّجَتْ خَدِيجَةُ قَبْلَ الرّسُولِ ؟ : وَكَانَتْ خَدِيجَةُ قَبْلَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عِنْدَ أَبِي هَالَةَ وَهُوَ هِنْدُ بْنُ زُرَارَةَ وَقَدْ قِيلَ فِي اسْمِهِ زُرَارَةُ وَهِنْدٌ : ابْنُهُ بْنُ النّبّاشِ مِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ جَرْوَةَ بْنِ أُسَيّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ تَمِيمٍ فَهُوَ أُسَيْدِيّ بِالتّخْفِيفِ مَنْسُوب إلَى أُسَيّدٍ بِالتّشْدِيدِ كَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي النّسَبِ إلَى أُسَيّدٍ . وَعَدِيّ بْنُ جَرْوَةَ يُقَالُ إنّ الزّبَيْرَ صَحّفَهُ وَإِنّمَا هُوَ عِذْيُ بْنُ جَرْوَةَ وَكَانَتْ قَبْلَ أَبِي هَالَةَ عِنْدَ عَتِيقِ بْنِ عَائِذِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَخْزُومٍ وَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ مَنَافِ بْنِ عَتِيقٍ كَذَا قَالَ ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ وَقَالَ الزّبَيْرُ وَلَدَتْ لِعَتِيقِ جَارِيَةً اسْمُهَا : هِنْدٌ وَوَلَدَتْ لِهِنْدِ أَبِي هَالَةَ ابْنًا اسْمُهُ هِنْدٌ أَيْضًا ، مَاتَ بِالطّاعُونِ طَاعُونِ الْبَصْرَةِ ، وَكَانَ قَدْ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ نَحْوٌ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا ، فَشُغِلَ النّاسُ بِجَنَائِزِهِمْ عَنْ جِنَازَتِهِ فَلَمْ يُوجَدْ مَنْ يَحْمِلُهَا ، فَصَاحَتْ نَادِبَتُهُ وَاهِنْدُ بْنَ هِنْدَاهُ وَارَبِيبَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَلَمْ تَبْقَ جِنَازَةٌ إلّا تُرِكَتْ وَاحْتُمِلَتْ جِنَازَتُهُ عَلَى أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ إعْظَامًا لِرَبِيبِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ذَكَرَهُ الدّولَابِيّ وَلِخَدِيجَةَ مِنْ أَبِي هَالَةَ ابْنَانِ غَيْرَ هَذَا ، اسْمُ أَحَدِهِمَا : الطّاهِرُ وَاسْمُ الْآخَرِ هَالَةُ . وَاخْتُلِفَ فِي سِنّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ تَزَوّجَ خَدِيجَةَ فَقِيلَ مَا قَالَهُ ابْنُ إسْحَاقَ ، وَقِيلَ كَانَ ابْنَ ثَلَاثِينَ سَنَةً وَقِيلَ ابْنَ إحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً .

[ ص 328 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَأَمّا إبْرَاهِيمُ فَأُمّهُ مَارِيَةُ الْقِبْطِيّةُ . حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ قَالَ أُمّ إبْرَاهِيمَ : مَارِيَةُ سُرّيّةُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّتِي أَهْدَاهَا إلَيْهِ الْمُقَوْقِسُ مِنْ جَفْنٍ مِنْ كُورَةِ أَنْصِنَا .Sمَارِيَةُ وَإِبْرَاهِيمُ
فَصْلٌ
[ ص 329 ] [ ص 330 ] وَذَكَرَ أَنّ خَدِيجَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - وَلَدَتْ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَدَهُ كُلّهُمْ إلّا إبْرَاهِيمَ ، فَإِنّهُ مِنْ مَارِيَةَ الّتِي أَهْدَاهَا إلَيْهِ الْمُقَوْقِسُ ، وَقَدْ تَقَدّمَ اسْمُ الْمُقَوْقِسِ ، وَأَنّهُ جُرَيْجُ بْنُ مِينَا ، وَذَكَرْنَا مَعْنَى الْمُقَوْقِسِ فِي أَوّلِ الْكِتَابِ وَذَكَرْنَا أَنّهُ أَهْدَى مَارِيَةَ مَعَ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بُلْتُعَةَ ، وَمَعَ جَبْرٍ مَوْلَى أَبِي رُهْمٍ الْغِفَارِيّ وَاسْمُ أَبِي رُهْمٍ كُلْثُومُ بْن الْحُصَيْنِ . وَذَلِكَ حِينَ أَرْسَلَهَا إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَأَهْدَى مَعَهَا أُخْتَهَا سِيرِينَ ، وَهِيَ الّتِي وَهَبَهَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِحَسّانَ بْنِ ثَابِتٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - فَأَوْلَدَهَا عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ حَسّانَ ، وَأَهْدَى مَعَهَا الْمُقَوْقِسُ أَيْضًا غُلَامًا خَصِيّا اسْمُهُ مَأْبُورٌ وَبَغْلَةٌ تُسَمّى : دُلْدُلَ وَقَدَحًا مِنْ قَوَارِيرَ كَانَ [ ص 329 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَشْرَبُ فِيهِ وَتُوُفّيَتْ مَارِيَةُ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - سَنَةَ سِتّ عَشْرَةَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - وَكَانَ عُمَرُ هُوَ الّذِي يَحْشُرُ النّاسَ إلَى جِنَازَتِهَا بِنَفْسِهِ وَهِيَ مَارِيَةُ بِنْتُ شَمْعُونَ الْقِبْطِيّةُ مِنْ كُورَةِ حَفْنٍ . وَأَمّا إبْرَاهِيمُ ابْنُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا فِي سَنَةِ عَشْرٍ مِنْ الْهِجْرَةِ فِي الْيَوْمِ الّذِي كَسَفَتْ فِيهِ الشّمْسُ وَكَانَتْ قَابِلَتُهُ سَلْمَى امْرَأَةَ أَبِي رَافِعٍ وَأَرْضَعَتْهُ أُمّ بُرْدَةَ بِنْتُ الْمُنْذِرِ النّجّارِيّةُ امْرَأَةُ الْبَرَءِ بْنِ أَوْسٍ وَسَلْمَى : هِيَ مَوْلَاةُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَقَابِلَةُ بَنِي فَاطِمَةَ كُلّهِمْ وَهِيَ غَسّلَتْهَا مَعَ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ الْخَثْعَمِيّةِ ، وَغَسّلَهَا مَعَهُمَا عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - كَرّمَ اللّهُ وَجْهَهُ - وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ وَلَدَتْ لَهُ مَارِيَةُ ابْنَهُ إبْرَاهِيمَ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ مِنْهُ شَيْءٌ حَتّى نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ ، فَقَالَ لَهُ السّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا إبْرَاهِيمَ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 331 ] وَكَانَتْ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ قَدْ ذَكَرَتْ لِوَرَقَةِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى - وَكَانَ ابْنَ عَمّهَا ، وَكَانَ نَصْرَانِيّا قَدْ تَتَبّعَ الْكُتُبَ وَعَلِمَ مِنْ عِلْمِ النّاسِ - مَا ذَكَرَ لَهَا غُلَامُهَا مَيْسَرَةُ مِنْ قَوْلِ الرّاهِبِ وَمَا كَانَ يَرَى مِنْهُ إذْ كَانَ الْمَلَكَانِ يُظِلّانِهِ فَقَالَ وَرَقَةُ لَئِنْ كَانَ هَذَا حَقّا يَا خَدِيجَةُ ، إنّ مُحَمّدًا لَنَبِيّ هَذِهِ الْأُمّةِ وَقَدْ عَرَفْت أَنّهُ كَائِنٌ لِهَذِهِ الْأُمّةِ نَبِيّ يُنْتَظَرُ هَذَا زَمَانُهُ أَوْ كَمَا قَالَ فَجَعَلَ وَرَقَةُ يَسْتَبْطِئُ الْأَمْرَ وَيَقُولُ حَتّى مَتَى ؟ فَقَالَ وَرَقَةُ فِي ذَلِكَ [ ص 332 ] [ ص 333 ]
لَجِجْت وَكُنْت فِي الذّكْرَى لَجُوجًا ... لِهَمّ طَالَمَا بَعَثَ النّشِيجَا
وَوَصْفٍ مِنْ خَدِيجَةَ بَعْدَ وَصْفٍ ... فَقَدْ طَالَ انْتِظَارِي يَا خَدِيجَا
بِبَطْنِ الْمَكّتَيْنِ عَلَى رَجَائِي ... حَدِيثَك أَنْ أَرَى مِنْهُ خُرُوجَا
بِمَا خَبّرْتنَا مِنْ قَوْلِ قَسّ ... مِنْ الرّهْبَانِ أَكْرَهُ أَنْ يَعُوجَا
بِأَنّ مُحَمّدًا سَيَسُودُ فِينَا ... وَيَخْصِمُ مَنْ يَكُونُ لَهُ حَجِيجًا
وَيُظْهِرُ فِي الْبِلَادِ ضِيَاءَنُورٍ ... يُقِيمُ بِهِ الْبَرّيّةَ أَنْ تَمُوجَا
فَيَلْقَى مَنْ يُحَارِبُهُ خَسَارًا ... وَيَلْقَى مَنْ يُسَالِمُهُ فُلُوجَا
فَيَا لَيْتِي إذَا مَا كَانَ ذَاكُمْ ... شَهِدْت فَكُنْت أَوّلَهُمْ وُلُوجَا
وُلُوجًا فِي الّذِي كَرِهَتْ قُرَيْشٌ ... وَلَوْ عَجّتْ بِمَكّتِهَا عَجِيجًا
أَرُجّيَ بِاَلّذِي كَرِهُوا جَمِيعًا ... إلَى ذِي الْعَرْشِ إنْ سَفَلُوا عُرُوجَا
وَهَلْ أَمْرُ السّفَالَةِ غَيْرُ كُفْرٍ ... بِمَنْ يَخْتَارُ مِنْ سُمْكِ الْبُرُوجَا
فَإِنْ يَبْقَوْا وَأَبْقَ تَكُنْ أُمُورٌ ... يَضِجّ الْكَافِرُونَ لَهَا ضَجِيجَا
وَإِنْ أَهْلِكْ فَكُلّ فَتًى سَيَلْقَى ... مِنْ الْأَقْدَارِ مَتْلَفَةً خَرُوجَا
[ ص 334 ] [ ص 335 ]
Sتَرْجَمَةُ وَرَقَةَ
وَذَكَرَ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى ، وَأُمّ وَرَقَةَ هِنْدُ بِنْتُ أَبِي كَبِيرِ بْنِ عَبْدِ بْنِ قُصَيّ ، وَلَا عَقِبَ لَهُ وَهُوَ أَحَدُ مَنْ آمَنَ بِالنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَبْلَ الْبَعْثِ وَرَوَى التّرْمِذِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ " رَأَيْته فِي الْمَنَامِ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ بِيضٌ وَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النّارِ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ ثِيَابٌ بِيضٌ " ، وَهُوَ حَدِيثٌ فِي إسْنَادِهِ ضَعْفٌ . لِأَنّهُ يَدُورُ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ ، وَلَكِنْ يُقَوّيهِ مَا يَأْتِي بَعْدَ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ رَأَيْت الْقَسّ يَعْنِي ، وَرَقَةَ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ حَرِيرٌ لِأَنّهُ أَوّلُ مَنْ آمَنَ بِي ، وَصَدّقَنِي ، وَسَيَأْتِي بَقِيّةٌ مِنْ خَبَرِهِ فِيمَا بَعْدُ - إنْ شَاءَ اللّهُ - وَقَدْ أَلْفَيْت لِلْحَدِيثِ الّذِي خَرّجَهُ التّرْمِذِيّ فِي وَرَقَةَ إسْنَادًا جَيّدًا غَيْرَ الّذِي ذَكَرَهُ التّرْمِذِيّ ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الزّبَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُعَاذٍ الصّنْعَانِيّ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - قَالَ سُئِلَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَنْ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ ، كَمَا بَلَغَنَا فَقَالَ " رَأَيْته فِي الْمَنَامِ عَلَيْهِ ثِيَابٌ بِيضٌ فَقَدْ أَظُنّ أَنْ لَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النّارِ لَمْ أَرَ عَلَيْهِ الْبَيَاضَ وَكَانَ يَذْكُرُ اللّهَ فِي سَفَرِهِ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَيُسَبّحُهُ وَهُوَ الّذِي يَقُولُ [ ص 330 ]
لَقَدْ نَصَحْت لِأَقْوَامِ وَقُلْت لَهُمْ ... أَنَا النّذِيرُ فَلَا يَغْرُرْكُمْ أَحَدٌ
لَا تَعْبُدُنّ إلَهًا غَيْرَ خَالِقِكُمْ ... فَإِنْ دَعَوْكُمْ فَقُولُوا : بَيْنَنَا جَدَدُ
سُبْحَانَ ذِي الْعَرْشِ سُبْحَانًا يَدُومُ لَهُ ... وَقَبْلَنَا سَبّحَ الْجُودِيّ وَالْجَمَدُ
مُسَخّرٌ كُلّ مَا تَحْتَ السّمَاءِ لَهُ ... لَا يَنْبَغِي أَنْ يُنَاوِي مُلْكَهُ أَحَدُ
لَا شَيْءَ مِمّا تَرَى تَبْقَى بَشَاشَتُهُ ... يَبْقَى الْإِلَهُ وَيُودِي الْمَالُ وَالْوَلَدُ
لَمْ تُغْنِ عَنْ هُرْمُزٍ يَوْمًا خَزَائِنُهُ ... وَالْخُلْدُ قَدْ حَاوَلَتْ عَادٌ فَمَا خَلَدُوا
وَلَا سُلَيْمَانُ إذْ تَجْرِي الرّيَاحُ بِهِ ... وَالْإِنْسُ وَالْجِنّ فِيمَا بَيْنَهَا مَرَدُ
أَيْنَ الْمُلُوكُ الّتِي كَانَتْ لِعِزّتِهَا ... مِنْ كُلّ أَوْبٍ إلَيْهَا وَافِدٌ يَفِدُ
حَوْضٌ هُنَالِكَ مَوْرُودٌ بِلَا كَذِبٍ ... لَا بُدّ مِنْ وِرْدِهِ يَوْمًا كَمَا وَرَدُوا
نَسَبَهُ أَبُو الْفَرَجِ إلَى وَرَقَةَ وَفِيهِ أَبْيَاتٌ تُنْسَبُ إلَى أُمَيّةَ بْنِ أَبِي الصّلْتِ ، وَمِنْ قَوْلِهِ فِيمَا خَبّرَتْهُ بِهِ خَدِيجَةُ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
يَا لِلرّجَالِ لِصَرْفِ الدّهْرِ وَالْقَدَرِ ... وَمَا لِشَيْءِ قَضَاهُ اللّهُ مِنْ غِيَرِ
حَتّى خَدِيجَةُ تَدْعُونِي لِأُخْبِرَهَا ... أَمْرًا أَرَاهُ سَيَأْتِي النّاسَ مِنْ أُخُرِ
فَخَبّرَتْنِي بِأَمْرِ قَدْ سَمِعْت بِهِ ... فِيمَا مَضَى مِنْ قَدِيمِ الدّهْرِ وَالْعُصُرِ
بِأَنّ أَحْمَدَ يَأْتِيهِ فَيُخْبِرُهُ ... جِبْرِيلُ إنّك مَبْعُوثٌ إلَى الْبَشَرِ
فَقُلْت : عَلّ الّذِي تَرْجِينَ يُنْجِزُهُ ... لَك الْإِلَهُ فَرَجّي الْخَيْرَ وَانْتَظِرِي
وَأَرْسَلَتْهُ إلَيْنَا كَيْ نُسَائِلَهُ ... عَنْ أَمْرِهِ مَا يَرَى فِي النّوْمِ وَالسّهَرِ
فَقَالَ حِينَ أَتَانَا مَنْطِقًا عَجَبًا ... يَقِفّ مِنْهُ أَعَالِي الْجِلْدِ وَالشّعَرِ
إنّي رَأَيْت أَمِينَ اللّهِ وَاجَهَنِي ... فِي صُورَةٍ أُكْمِلَتْ فِي أَهْيَبِ الصّوَرِ
ثُمّ اسْتَمَرّ فَكَانَ الْخَوْفُ يَذْعَرُنِي ... مِمّا يُسَلّمُ مِنْ حَوْلِي مِنْ الشّجَرِ
فَقُلْت : ظَنّي وَمَا أَدْرِي أَيَصْدُقُنِي أ ... سَوْفَ تُبْعَثُ تَتْلُو مَنْزِلَ السّوَرِ
وَسَوْفَ أُبْلِيكَ إنْ أَعْلَنْت دَعْوَتَهُمْ ... مِنْ الْجِهَادِ بِلَا مَنّ وَلَا كَدَرِ
مُثَنّى يُقْصَدُ بِهِ الْمُفْرَدُ
فَصْلٌ
[ ص 331 ]
بِبَطْنِ الْمَكّتَيْنِ عَلَى رَجَائِي ... حَدِيثُك أَنْ أَرَى مِنْهُ خُرُوجَا
ثَنّى مَكّةَ ، وَهِيَ وَاحِدَةٌ لِأَنّ لَهَا بِطَاحًا وَظَوَاهِرَ وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ أَهْلِ الْبِطَاحِ ، وَمِنْ أَهْلِ الظّوَاهِرِ فِيمَا قَبْلُ عَلَى أَنّ لِلْعَرَبِ مَذْهَبًا فِي أَشْعَارِهَا فِي تَثْنِيَةِ الْبُقْعَةِ الْوَاحِدَةِ وَجَمْعِهَا نَحْوَ قَوْلِهِ وَمَيّتٌ بِغَزّاتِ . يُرِيدُ بِغَزّةَ وَبِغَادَيْنِ فِي بَغْدَادَ ، وَأَمّا التّثْنِيَةُ فَكَثِيرٌ نَحْوَ قَوْلِهِ
بِالرّقْمَتَيْنِ لَهُ أَجْرٍ وَأَعْرَاسُ ... وَالْحَمّتَيْنِ سَقَاك اللّهُ مِنْ دَارِ
وَقَوْلُ زُهَيْرٍ وَدَارٌ لَهَا بِالرّقْمَتَيْنِ . وَقَوْلُ وَرَقَةَ مِنْ هَذَا : بِبَطْنِ الْمَكّتَيْنِ . لَا مَعْنَى لِإِدْخَالِ الظّوَاهِرِ تَحْتَ هَذَا اللّفْظِ وَقَدْ أَضَافَ إلَيْهَا الْبَطْنَ كَمَا أَضَافَهُ الْمُبْرِقُ حِينَ قَالَ بِبَطْنِ مَكّةَ مَقْهُورٌ وَمَفْتُونٌ
وَإِنّمَا يَقْصِدُ الْعَرَبُ فِي هَذَا الْإِشَارَةَ إلَى جَانِبَيْ كُلّ بَلْدَةٍ أَوْ الْإِشَارَةَ إلَى أَعْلَى الْبَلْدَةِ وَأَسْفَلِهَا ، فَيَجْعَلُونَهَا اثْنَيْنِ عَلَى هَذَا الْمَغْزَى ، وَقَدْ قَالُوا : صِدْنَا بِقَنَوَيْنِ وَهُوَ قَنَا اسْمُ جَبَلٍ [ ص 332 ] وَقَالَ عَنْتَرَةُ : شَرِبْت بِمَاءِ الدّخُرُضَيْنِ
وَهُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي أَصَحّ الْقَوْلَيْنِ قَالَ عَنْتَرَةُ أَيْضًا : بِعُنَيْزَتَيْنِ وَأَهْلُنَا بِالْعَيْلَمِ
وَعُنَيْزَةُ اسْمُ مَوْضِعٍ وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ : عَشِيّةَ سَالَ الْمِرْبَدَانِ كِلَاهُمَا
وَإِنّمَا هُوَ مِرْبَدُ الْبَصْرَةِ . وَقَوْلُهُمْ تَسْأَلُنِي بِرَامَتَيْنِ سَلْجَمَا
وَإِنّمَا هُوَ رَامَةٌ وَهَذَا كَثِيرٌ . وَأَحْسَنُ مَا تَكُونُ هَذِهِ التّثْنِيَةُ إذَا كَانَتْ فِي ذِكْرِ جَنّةٍ وَبُسْتَانٍ فَتُسَمّيهَا جَنّتَيْنِ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ إشْعَارًا بِأَنّ لَهَا وَجْهَيْنِ وَأَنّك إذَا دَخَلْتهَا ، وَنَظَرْت إلَيْهَا يَمِينًا وَشِمَالًا رَأَيْت مِنْ كِلْتَا النّاحِيَتَيْنِ مَا يَمْلَأُ عَيْنَيْك قُرّةً وَصَدْرَك مَسَرّةً وَفِي التّنْزِيلِ { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ } إلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { وَبَدّلْنَاهُمْ بِجَنّتَيْهِمْ جَنّتَيْنِ } [ سَبَأٌ : 15ْ ] . وَفِيهِ { جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنّتَيْنِ } [ الْكَهْفُ : 32 ] الْآيَةُ . وَفِي آخِرِهَا : { وَدَخَلَ جَنّتَهُ } فَأَفْرَدَ بَعْدَمَا ثَنّى ، وَهِيَ هِيَ وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى قَوْلَهُ سُبْحَانَهُ { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنّتَانِ } [ الرّحْمَنُ 46 ] ، وَالْقَوْلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يَتّسِعُ وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ .
النّورُ وَالضّيَاءُ
فَصْلٌ
وَقَالَ فِي هَذَا الشّعْرِ وَيَظْهَرُ فِي الْبِلَادِ ضِيَاءُ نُورٍ . هَذَا الْبَيْتُ يُوَضّحُ لَك مَعْنَى النّورِ وَمَعْنَى الضّيَاءِ وَأَنّ الضّيَاءَ هُوَ الْمُنْتَشِرُ عَنْ النّورِ وَأَنّ النّورَ هُوَ الْأَصْلُ لِلضّوْءِ وَمِنْهُ مَبْدَؤُهُ وَعَنْهُ يَصْدُرُ وَفِي التّنْزِيلِ { فَلَمّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ } [ الْبَقَرَةُ 17 ] . وَفِيهِ { جَعَلَ الشّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا } [ يُونُسُ 5 ] لِأَنّ نُورَ الْقَمَرِ لَا [ ص 333 ] الصّلَاةُ نُورٌ وَالصّبْرُ ضِيَاءٌ وَذَلِكَ أَنّ الصّلَاةَ هِيَ عَمُودُ الْإِسْلَامِ وَهِيَ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ وَهِيَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ فَالصّبْرُ عَنْ الْمُنْكَرَاتِ وَالصّبْرُ عَلَى الطّاعَاتِ هُوَ الضّيَاءُ الصّادِرُ عَنْ هَذَا النّورِ الّذِي هُوَ الْقُرْآنُ وَالذّكْرُ وَفِي أَسْمَاءِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ { اللّهُ نُورُ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [ النّورُ 35 ] وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضّيَاءُ مِنْ أَسْمَائِهِ - سُبْحَانَهُ - وَقَدْ أَمْلَيْت فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ مِنْ مَعْنَى نُورِ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَا فِيهِ شِفَاءٌ وَالْحَمْدُ لِلّهِ .
نُونُ الْوِقَايَةِ فِي إنّ وَأَخَوَاتِهَا
فَصْلٌ
وَفِي شِعْرِ وَرَقَةَ فَيَا لَيْتَنِي إذَا مَا كَانَ ذَاكُمْ . بِحَذْفِ نُونِ الْوِقَايَةِ وَحَذْفُهَا مَعَ لَيْتَ رَدِيءٌ وَهُوَ فِي لَعَلّ أَحْسَنُ مِنْهُ لِقُرْبِ مَخْرَجِ اللّامِ مِنْ النّونِ حَتّى لَقَدْ قَالُوا : لَعَلّ وَلَعَنّ وَلِأَنّ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَلَا سِيّمَا وَقَدْ حَكَى يَعْقُوبُ أَنّ مِنْ الْعَرَبِ مَنْ يَخْفِضُ بِلَعَلّ وَهَذَا يُؤَكّدُ حَذْفَ النّونِ مِنْ لَعَلّنِي ، وَأَحْسَنُ مَا يَكُونُ حَذْفُ هَذِهِ النّونِ فِي إنّ وَأَنّ وَلَكِنّ وَكَأَنّ لِاجْتِمَاعِ النّونَاتِ وَحَسّنَهُ فِي لَعَلّ أَيْضًا كَثْرَةُ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ وَفِي التّنْزِيلِ { لَعَلّي أَرْجِعُ إِلَى النّاسِ } [ يُوسُفُ 46 ] . بِغَيْرِ نُونٍ وَمَجِيءُ هَذِهِ الْيَاءِ فِي لَيْتِي بِغَيْرِ نُونٍ مَعَ أَنّ لَيْتَ نَاصِبَةٌ يَدُلّك عَلَى أَنّ الِاسْمَ الْمُضْمَرَ فِي ضَرَبَنِي هُوَ الْيَاءُ دُونَ النّونِ كَمَا هُوَ فِي : ضَرَبَك ، وَضَرَبَهُ حَرْفٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْكَافُ وَلَوْ كَانَ الِاسْمُ هُوَ النّونَ مَعَ الْيَاءِ - كَمَا قَالُوا فِي الْمَخْفُوضِ مِنّي وَعَنّي بِنُونَيْنِ نُونِ مِنْ وَنُونٍ أُخْرَى مَعَ الْيَاءِ فَإِذًا الْيَاءُ وَحْدَهَا هِيَ الِاسْمُ فِي حَالِ الْخَفْضِ وَفِي حَالِ النّصْبِ . [ ص 334 ]
حَوْلَ تَقَدّمِ صِلَةِ الْمَصْدَرِ عَلَيْهِ
فَصْلٌ
وَفِيهِ حَدِيثُك أَنْ أَرَى مِنْهُ خُرُوجَا . قَوْلُهُ مِنْهُ الْهَاءُ رَاجِعَةٌ عَلَى الْحَدِيثِ وَحَرْفُ الْجَرّ مُتَعَلّقٌ بِالْخُرُوجِ وَإِنْ كَرِهَ النّحْوِيّونَ ذَلِكَ لِأَنّ مَا كَانَ مِنْ صِلَةِ الْمَصْدَرِ عِنْدَهُمْ فَلَا يَتَقَدّمُ عَلَيْهِ لِأَنّ الْمَصْدَرَ مُقَدّرٌ بِأَنْ وَالْفِعْلِ فَمَا يَعْمَلُ فِيهِ هُوَ مِنْ صِلَةِ أَنْ فَلَا يَتَقَدّمُ فَمَنْ أَطْلَقَ الْقَوْلَ فِي هَذَا الْأَصْلِ وَلَمْ يُخَصّصْ مَصْدَرًا مِنْ مَصْدَرٍ فَقَدْ أَخْطَأَ الْمُفَصّلَ وَتَاهَ فِي تُضُلّلٍ فَفِي التّنْزِيلِ { أَكَانَ لِلنّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ } [ يُونُسُ 2 ] . وَمَعْنَاهُ أَكَانَ عَجَبًا لِلنّاسِ أَنْ أَوْحَيْنَا ، وَلَا بُدّ لِلّامِ هَاهُنَا أَنْ تَتَعَلّقَ بِعَجَبِ لِأَنّهَا لَيْسَتْ فِي مَوْضِعِ صِفَةٍ وَلَا مَوْضِعِ حَالٍ لِعَدِمِ الْعَامِلِ فِيهَا ، وَفِيهِ أَيْضًا : { لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا } [ الْكَهْفُ : 108 ] { وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا } [ الْكَهْفُ : 53 ] . وَفِيهِ أَيْضًا : { لَوَلّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا } [ الْكَهْفُ : 18 ] . وَتَقُولُ لِي فِيك رَغْبَةٌ وَمَا لِي عَنْك مُعَوّلٌ فَيَحْسُنُ كُلّ هَذَا بِلَا خِلَافٍ وَقَدْ أَجَازَ ابْنُ السّرَاجِ أَبُو بَكْرٍ و [ مُحَمّدُ بْنُ يَزِيدَ ] الْمُبَرّدُ أَيْضًا فِي ضَرْبًا زَيْدًا ، إذَا أَرَدْت الْأَمْرَ أَنْ تُقَدّمَ الْمَفْعُولَ الْمَنْصُوبَ بِالْمَصْدَرِ وَقَالَ لِأَنّ ضَرْبًا هَاهُنَا فِي مَعْنَى : اضْرِبْ فَقَدْ خُصّصَ لَك ضَرْبًا مِنْ الْمَصَادِرِ بِجَوَازِ تَقْدِيمِ مَعْمُولِهَا عَلَيْهَا فَإِنْ كَانَ الْمَصْدَرُ غَيْرَ أَمْرٍ وَكَانَ نَكِرَةً لَمْ يَتَقَدّمْ الْمَفْعُولُ خَاصّةً عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْمَجْرُورِ وَالظّرْفِ فَالْوَاجِبُ إذًا رَبْطُ هَذَا الْبَابِ وَتَفْصِيلُهُ .
مَتَى يَجُوزُ تَقْدِيمُ مَعْمُولِ الْمَصْدَرِ ؟
فَنَقُولُ كُلّ مَصْدَرٍ نَكِرَةٌ غَيْرِ مُضَافٍ إلَى مَا بَعْدَهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ مَعْمُولِهِ عَلَيْهِ إلّا الْمَفْعُولَ لِأَنّ الْمَصْدَرَ النّكِرَةَ لَا يَتَقَدّرُ بِأَنْ وَالْفِعْلِ لِأَنّك إنْ قَدّرْته بِأَنْ وَالْفِعْلِ بَقِيَ الْفِعْلُ بِلَا فَاعِلٍ وَمَا كَانَ مُضَافًا إلَى مَا بَعْدَهُ فَالْمُضَافُ إلَيْهِ فَاعِلٌ فِي الْمَعْنَى أَوْ مَفْعُولٌ فَلِذَلِكَ يَصِيرُ الْمَصْدَرُ مُقَدّرًا بِأَنْ وَالْفِعْلِ فَقِفْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فَمِنْهُ حُسْنُ قَوْلٍ وَرِقّةٌ أَنْ أَرَى مِنْهُ خُرُوجًا ، أَيْ أَرَى خُرُوجًا مِنْهُ وَكَذَلِكَ لَوْ ذَكَرَ الدّخُولَ فَقَالَ أَرَى فِيهِ دُخُولًا ، يُرِيدُ دُخُولًا فِيهِ لَكَانَ حَسَنًا ، وَتَقُولُ اللّهُمّ اجْعَلْ مِنْ أَمْرِنَا فَرَجَا وَمَخْرَجًا ، فَمِنْ أَمْرِنَا : مُتَعَلّقٌ بِمَا بَعْدَهُ وَهُوَ مَصْدَرٌ وَلَا خَفَاءَ فِي حُسْنِ هَذَا التّقْدِيمِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ . وَمِنْ قَوْلِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ فِي مَعْنَى مَا تَقَدّمَ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ :
أَتُبْكِرُ أَمْ أَنْتَ الْعَشِيّةَ رَائِحُ ... وَفِي الصّدْرِ مِنْ إضْمَارِك الْحُزْنَ قَادِحُ
لِفُرْقَةِ قَوْمٍ لَا أُحِبّ فِرَاقَهُمْ ... كَأَنّك عَنْهُمْ بَعْدَ يَوْمَيْنِ نَازِحُ
وَأَخْبَارِ صِدْقٍ خَبّرَتْ عَنْ مُحَمّدٍ ... يُخَبّرُهَا عَنْهُ إذَا غَابَ نَاصِحُ
فَتَاك الّذِي وَجّهْت يَا خَيْرَ حُرّةٍ ... بِغَوْرِ وَالنّجْدَيْنِ حَيْثُ الصّحَاصِحُ
إلَى سُوقِ بُصْرَى فِي الرّكَابِ الّتِي غَدَتْ ... وَهُنّ مِنْ الْأَحْمَالِ قُعْصٌ دَوَالِحُ
فَخَبّرْنَا عَنْ كُلّ خَيْرٍ بِعِلْمِهِ ... وَلِلْحَقّ أَبْوَابٌ لَهُنّ مَفَاتِحُ
بِأَنّ ابْنَ عَبْدِ اللّهِ أَحْمَدَ مُرْسَلٌ ... إلَى كُلّ مَنْ ضَمّتْ عَلَيْهِ الْأَبَاطِحُ
وَظَنّي بِهِ أَنْ سَوْفَ يُبْعَثُ صَادِقًا ... كَمَا أُرْسِلَ الْعَبْدَانِ هُودٌ وَصَالِحُ
وَمُوسَى وَإِبْرَاهِيمُ حَتّى يُرَى لَهُ ... بَهَاءٌ وَمَنْثُورٌ مِنْ الذّكْرِ وَاضِحُ
وَيَتْبَعُهُ حَيّا لُؤَيّ جَمَاعَةً ... شُيّابُهُمْ وَالْأَشْيَبُونَ الْجَحَاجِحُ
فَإِنْ أَبْقَ حَتّى يُدْرِكَ النّاسُ دَهْرَهُ ... فَإِنّي بِهِ مُسْتَبْشِرُ الْوُدّ فَارِحُ
وَإِلّا فَإِنّي يَا خَدِيجَةُ - فَاعْلَمِي ... عَنْ أرضك فِي الْأَرْضِ الْعَرِيضَةِ سَائِحُ
[ ص 335 ]

حَدِيثُ بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ وَحُكْمُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَ قُرَيْشٍ فِي وَضْعِ الْحَجَرِ
[ ص 336 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا بَلَغَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - خَمْسًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً اجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ لِبُنْيَانِ الْكَعْبَةِ ، وَكَانُوا يَهُمّونَ بِذَلِكَ لِيَسْقُفُوهَا وَيَهَابُونَ هَدْمَهَا ، وَإِنّمَا كَانَتْ رَدْمًا فَوْقَ الْقَامَةِ فَأَرَادُوا رَفْعَهَا وَتَسْقِيفَهَا ، وَذَلِكَ أَنّ نَفَرًا سَرَقُوا كَنْزًا لِلْكَعْبَةِ وَإِنّمَا كَانَ يَكُونُ فِي [ ص 337 ] الْكَعْبَةِ ، وَكَانَ الّذِي وُجِدَ عِنْدَهُ الْكَنْزُ دُوَيْكًا مَوْلًى لِبَنِي مُلَيْحِ بْنِ عَمْرٍو مِنْ خُزَاعَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَقَطَعَتْ قُرَيْشٌ يَدَهُ . وَتَزْعُمُ قُرَيْشٌ أَنّ الّذِينَ سَرَقُوهُ وَضَعُوهُ عِنْدَ دُوَيْكٍ وَكَانَ الْبَحْرُ قَدْ رَمَى بِسَفِينَةِ إلَى جَدّةٍ لِرَجُلِ مِنْ تُجّارِ الرّومِ ، فَتَحَطّمَتْ فَأَخَذُوا خَشَبَهَا فَأَعَدّوهُ لِتَسْقِيفِهَا ، وَكَانَ بِمَكّةَ رَجُلٌ قِبْطِيّ نَجّارٌ فَتَهَيّأَ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ بَعْضَ مَا يُصْلِحُهَا وَكَانَتْ حَيّةٌ تَخْرُجُ مِنْ بِئْرِ الْكَعْبَةِ الّتِي كَانَ يُطْرَحُ فِيهَا مَا يُهْدَى لَهَا كُلّ يَوْمٍ فَتَتَشَرّقُ عَلَى جِدَارِ الْكَعْبَةِ ، وَكَانَتْ مِمّا يَهَابُونَ وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ لَا يَدْنُو مِنْهَا أَحَدٌ إلّا احْزَأَلّتْ وَكَشّتْ وَفَتَحَتْ فَاهَا ، وَكَانُوا يَهَابُونَهَا ، فَبَيْنَا هِيَ ذَاتَ يَوْمٍ تَتَشَرّقُ عَلَى جِدَارِ الْكَعْبَةِ ، كَمَا كَانَتْ تَصْنَعُ بَعَثَ اللّهُ إلَيْهَا طَائِرًا فَاخْتَطَفَهَا ، فَذَهَبَ بِهَا ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ : إنّا لَنَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللّهُ قَدْ رَضِيَ مَا أَرَدْنَا ، عِنْدَنَا عَامِلٌ رَفِيقٌ وَعِنْدَنَا خَشَبٌ وَقَدْ كَفَانَا اللّهُ الْحَيّةَ . فَلَمّا أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ فِي هَدْمِهَا وَبِنَائِهَا ، قَامَ أَبُو وَهْبِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَائِذِ بْنِ عَبْدِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : عَائِذُ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومٍ . فَتَنَاوَلَ مِنْ الْكَعْبَةِ حَجَرًا ، فَوَثَبَ مِنْ يَدِهِ حَتّى رَجَعَ إلَى مَوْضِعِهِ . فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، لَا تُدْخِلُوا فِي بِنَائِهَا مِنْ كَسْبِكُمْ إلّا طَيّبًا ، لَا يَدْخُلُ فِيهَا مَهْرُ بَغِيّ وَلَا بَيْعُ رِبًا ، وَلَا مَظْلِمَةُ أَحَدٍ مِنْ النّاسِ وَالنّاسُ يَنْحِلُونَ هَذَا الْكَلَامَ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ الْمَكّيّ أَنّهُ حَدّثَ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ خَلَفِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . أَنّهُ رَأَى ابْنًا لِجَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ بْنِ أَبِي وَهْبِ بْنِ عَمْرٍو يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقِيلَ هَذَا ابْنٌ لِجَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ صَفْوَانَ عِنْدَ ذَلِكَ جَدّ هَذَا ، يَعْنِي : أَبَا وَهْبٍ الّذِي أَخَذَ حَجَرًا مِنْ الْكَعْبَةِ حِينَ أَجْمَعَتْ قُرَيْشٌ لِهَدْمِهَا ، فَوَثَبَ مِنْ يَدِهِ حَتّى رَجَعَ إلَى مَوْضِعِهِ فَقَالَ عِنْدَ ذَلِكَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ : لَا تُدْخِلُوا فِي بِنَائِهَا مِنْ كَسْبِكُمْ إلّا طَيّبًا . لَا تُدْخِلُوا فِيهَا مَهْرَ بَغِيّ وَلَا بَيْعَ رِبًا ، وَلَا مَظْلِمَةَ أَحَدٍ مِنْ النّاسِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَبُو وَهْبٍ خَالُ أَبِي رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَكَانَ شَرِيفًا ، وَلَهُ يَقُولُ شَاعِرٌ مِنْ الْعَرَبِ [ ص 338 ]
وَلَوْ يَأْبَى وَهْبٌ أَنَخْت مَطِيّتِي ... غَدَتْ مِنْ نَدَاهُ رَحْلُهَا غَيْرُ خَائِبِ
بِأَبْيَضَ مِنْ فَرْعَيْ لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ ... إذَا حُصّلَتْ أَنْسَابُهَا فِي الذّوَائِبِ
أَبِيّ لِأَخْذِ الضّيْمِ يَرْتَاحُ لِلنّدَى ... تَوَسّطَ جَدّاهُ فُرُوعَ الْأَطَايِبِ
عَظِيمُ رَمَادِ الْقَدْرِ يَمْلَا جِفَانَهُ ... مِنْ الْخُبْزِ يَعْلُوهُنّ مِثْلَ السّبَائِبِ
ثُمّ إنّ قُرَيْشًا تَجَزّأَتْ الْكَعْبَةَ ، فَكَانَ شِقّ الْبَابِ لِبَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَزَهْرَة َ وَكَانَ مَا بَيْنَ الرّكْنِ الْأَسْوَدِ وَالرّكْنِ الْيَمَانِيّ لِبَنِي مَخْزُومٍ ، وَقَبَائِلَ مِنْ قُرَيْشٍ انْضَمّوا إلَيْهِمْ وَكَانَ ظَهْرُ الْكَعْبَةِ لِبَنِي جُمَحٍ وَسَهْمُ ابْنَيْ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَكَانَ شِقّ الْحَجَرِ لِبَنِي عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ ، وَلِبَنِي أَسَدِ بْنِ الْعُزّى بْن قُصَي ّ ، وَلِبَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ وَهُوَ الْحَطِيمُ . ثُمّ إنّ النّاسَ هَابُوا هَدْمَهَا وَفَرِقُوا مِنْهُ فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ : أَنَا أَبْدَؤُكُمْ فِي هَدْمِهَا ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ ثُمّ قَامَ عَلَيْهَا ، وَهُوَ يَقُولُ اللّهُمّ لَمْ تُرَعْ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ لَمْ نَزِغْ - اللّهُمّ إنّا لَا نُرِيدُ إلّا الْخَيْرَ ثُمّ هَدَمَ مِنْ نَاحِيَةِ الرّكْنَيْنِ فَتَرَبّصَ النّاسُ تِلْكَ اللّيْلَةَ وَقَالُوا : نَنْظُرُ فَإِنْ أُصِيبَ لَمْ نَهْدِمْ مِنْهَا شَيْئًا وَرَدَدْنَاهَا كَمَا كَانَتْ وَإِنْ لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ فَقَدْ رَضِيَ اللّهُ صُنْعَنَا ، فَهَدَمْنَا . فَأَصْبَحَ الْوَلِيدُ مِنْ لَيْلَتِهِ غَادِيًا عَلَى عَمَلِهِ فَهَدَمَ وَهَدَمَ النّاسُ مَعَهُ حَتّى إذَا انْتَهَى الْهَدْمُ بِهِمْ إلَى الْأَسَاسِ أَسَاسِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ أَفْضَوْا إلَى حِجَارَةٍ خُضْرٍ كَالْأَسْنِمَةِ آخِذٌ بَعْضُهَا بَعْضًا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي بَعْضُ مَنْ يَرْوِي الْحَدِيثَ أَنّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ ، مِمّنْ كَانَ يَهْدِمُهَا ، أَدْخَلَ عَتَلَةً بَيْنَ حَجَرَيْنِ مِنْهَا لِيَقْلَعَ بِهَا أَحَدَهُمَا ، فَلَمّا تَحَرّكَ الْحَجَرُ تَنَقّضَتْ مَكّةُ بِأَسْرِهَا ، فَانْتَهَوْا عَنْ ذَلِكَ الْأَسَاسِ . [ ص 339 ] [ ص 340 ] [ ص 341 ] [ ص 342 ] [ ص 343 ] [ ص 344 ] [ ص 336 ]
Sبُنْيَانِ الْكَعْبَةِ
فَفِي خَبَرِهَا أَنّهَا كَانَتْ رَضْمًا فَوْقَ الْقَامَةِ . الرّضْمُ أَنْ تُنَضّدَ الْحِجَارَةُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ مِنْ غَيْرِ مِلَاطٍ كَمَا قَالَ
رَزِئْتهمْ فِي سَاعَةٍ جَرّعْتهمْ ... كُؤُوسَ الْمَنَايَا تَحْتَ صَخْرٍ مُرَضّمِ
وَقَوْلُهُ فَوْقَ الْقَامَةِ كَلَامٌ غَيْرُ مُبَيّنٍ لِمِقْدَارِ ارْتِفَاعِهَا إذْ ذَاكَ وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنّهَا كَانَتْ تِسْعَ أَذْرُعٍ مِنْ عَهْدِ إسْمَاعِيلَ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا سَقْفٌ فَلَمّا بَنَتْهَا قُرَيْشٌ قَبْلَ الْإِسْلَامِ زَادُوا فِيهَا تِسْعَ أَذْرُعٍ ، فَكَانَتْ ثَمَانِي عَشْرَةَ ذِرَاعًا ، وَرَفَعُوا بَابَهَا عَنْ الْأَرْضِ فَكَانَ لَا يُصْعَدُ إلَيْهَا إلّا فِي دَرَجٍ أَوْ سُلّمٍ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَوّلَ مَنْ عَمِلَ لَهَا غَلَقًا ، وَهُوَ تَبَعٌ . ثُمّ لَمّا بَنَاهَا ابْنُ الزّبَيْرِ زَادَ فِيهَا تِسْعَ أَذْرُعٍ ، فَكَانَتْ سَبْعًا وَعِشْرِينَ ذِرَاعًا ، وَعَلَى ذَلِكَ هِيَ الْآنَ وَكَانَ بِنَاؤُهَا فِي الدّهْرِ خَمْسَ مَرّاتٍ . الْأُولَى : حِينَ بَنَاهَا شِيثُ بْنُ آدَمَ وَالثّانِيَةُ حِينَ بَنَاهَا إبْرَاهِيمُ عَلَى الْقَوَاعِدِ الْأُولَى ، وَالثّالِثَةُ حِينَ بَنَتْهَا قُرَيْشٌ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِخَمْسَةِ أَعْوَامٍ وَالرّابِعَةُ حِينَ احْتَرَقَتْ فِي عَهْدِ ابْنِ لزّبَيْرِ بِشَرَارَةِ طَارَتْ مِنْ أَبِي قُبَيْسٍ ، فَوَقَعَتْ فِي أَسْتَارِهَا ، فَاحْتَرَقَتْ وَقِيلَ إنّ امْرَأَةً [ ص 337 ] [ ص 338 ] أَرَادَتْ أَنْ تُجَمّرَهَا ، فَطَارَتْ شَرَارَةٌ مِنْ الْمِجْمَرِ فِي أَسْتَارِهَا ، فَاحْتَرَقَتْ فَشَاوَرَ ابْنُ الزّبَيْرِ فِي هَدْمِهَا مَنْ حَضَرَهُ فَهَابُوا هَدْمَهَا ، وَقَالُوا : نَرَى أَنْ تُصْلَحَ مَا وَهَى ، وَلَا تُهْدَمَ . فَقَالَ لَوْ أَنّ بَيْتَ أَحَدِكُمْ احْتَرَقَ لَمْ يَرْضَ لَهُ إلّا بِأَكْمَلِ صَلَاحٍ . وَلَا يَكْمُلُ إصْلَاحُهَا إلّا بِهَدْمِهَا . فَهَدَمَهَا حَتّى أَفْضَى إلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَزِيدُوا فِي الْحَفْرِ . فَحَرّكُوا حَجَرًا فَرَأَوْا تَحْتَهُ نَارًا وَهَوْلًا . أَفْزَعَهُمْ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُقِرّوا الْقَوَاعِدَ وَأَنْ يَبْنُوا مِنْ حَيْثُ انْتَهَى الْحَفْرُ . [ ص 339 ] الْخَبَرِ أَنّهُ سَتَرَهَا حِينَ وَصَلَ إلَى الْقَوَاعِدِ فَطَافَ النّاسُ بِتِلْكَ الْأَسْتَارِ فَلَمْ تَخْلُ قَطّ مِنْ طَائِفٍ حَتّى لَقَدْ ذُكِرَ أَنّ يَوْمَ قَتْلِ ابْنِ الزّبَيْرِ اشْتَدّتْ الْحَرْبُ وَاشْتَغَلَ النّاسُ فَلَمْ يُرَ طَائِفٌ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ إلّا جَمَلٌ يَطُوفُ بِهَا ، فَلَمّا اسْتَتَمّ بُنْيَانُهَا ، أُلْصِقَ بَابُهَا بِالْأَرْضِ وَعَمِلَ لَهَا خَلْفًا أَيْ بَابًا آخَرَ مِنْ وَرَائِهَا ، وَأَدْخَلَ الْحِجْرَ فِيهَا ، وَذَلِكَ لِحَدِيثِ حَدّثَتْهُ بِهِ خَالَتُهُ عَائِشَةُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنّهُ قَالَ أَلَمْ تَرَيْ قَوْمَك حِينَ بَنَوْا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ حِين عَجَزَتْ بِهِمْ النّفَقَةُ ثُمّ قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ لَوْلَا حِدْثَانُ عَهْدِ قَوْمِك بِالْجَاهِلِيّةِ لَهَدَمْتهَا ، وَجَعَلْت لَهَا خَلْفًا وَأَلْصَقْت بَابَهَا الْأَرْضَ وَأَدْخَلْت فِيهَا الْحِجْرَ أَوْ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - قَالَ ابْنُ الزّبَيْرِ فَلَيْسَ بِنَا الْيَوْمَ عَجْزٌ عَنْ النّفَقَةِ فَبَنَاهَا عَلَى مُقْتَضَى حَدِيثِ عَائِشَةَ فَلَمّا قَامَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ ، قَالَ لَسْنَا مِنْ تَخْلِيطِ أَبِي خُبَيْبٍ بِشَيْءِ فَهَدَمَهَا وَبَنَاهَا عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَلَمّا فَرَغَ مِنْ بُنْيَانِهَا جَاءَهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَعْرُوفُ بِالْقُبَاعِ وَهُوَ أَخُو عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الشّاعِرِ وَمَعَهُ رَجُلٌ آخَرُ فَحَدّثَاهُ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِالْحَدِيثِ الْمُتَقَدّمِ فَنَدِمَ وَجَعَلَ يَنْكُتُ فِي الْأَرْضِ بِمِخْصَرَةِ فِي يَدِهِ وَيَقُولُ وَدِدْت أَنّي تَرَكْت أَبَا خُبَيْبٍ وَمَا تَحَمّلَ مِنْ ذَلِكَ فَهَذِهِ الْمَرّةُ الْخَامِسَةُ فَلَمّا قَامَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ ، وَأَرَادَ أَنْ يَبْنِيَهَا عَلَى مَا بَنَاهَا ابْنُ الزّبَيْرِ وَشَاوَرَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ : أَنْشُدُك اللّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْ تَجْعَلَ هَذَا الْبَيْتَ مَلْعَبَةً لِلْمُلُوكِ بَعْدَك ، لَا يَشَاءُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يُغَيّرَهُ إلّا غَيّرَهُ فَتَذْهَبُ هَيْبَتُهُ مِنْ قُلُوبِ النّاسِ فَصَرَفَهُ عَنْ رَأْيِهِ فِيهِ وَقَدْ قِيلَ إنّهُ بُنِيَ فِي أَيّامِ جُرْهُمَ مَرّةً أَوْ مَرّتَيْنِ لِأَنّ السّيْلَ كَانَ قَدْ صَدّعَ حَائِطَهُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بُنْيَانًا عَلَى نَحْوِ مَا قَدّمْنَا ، إنّمَا كَانَ إصْلَاحًا لِمَا وَهَى مِنْهُ وَجِدَارًا بُنِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السّيْلِ بَنَاهُ عَامِرٌ الْجَارُودُ وَقَدْ تَقَدّمَ هَذَا الْخَبَرُ ، وَكَانَتْ الْكَعْبَةُ قَبْلَ أَنْ يَبْنِيَهَا شِيثُ عَلَيْهِ السّلَامُ خَيْمَةً مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ يَطُوفُ بِهَا آدَمُ وَيَأْنَسُ إلَيْهَا ؛ لِأَنّهَا أُنْزِلَتْ إلَيْهِ مِنْ الْجَنّةِ وَكَانَ قَدْ حَجّ إلَى مَوْضِعِهَا مِنْ الْهِنْدِ ، وَقَدْ قِيلَ إنّ آدَمَ هُوَ أَوّلُ مَنْ بَنَاهَا ، ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْبَكّائِيّ . وَفِي الْخَبَرِ أَنّ مَوْضِعَهَا كَانَ غُثَاءَةً عَلَى الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ اللّهُ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَلَمّا بَدَأَ اللّهُ بِخَلْقِ الْأَشْيَاءِ خَلَقَ التّرْبَةَ قَبْلَ السّمَاءِ فَلَمّا خَلَقَ السّمَاءَ وَقَضَاهُنّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ دَحَا الْأَرْضَ أَيْ بَسَطَهَا ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ { وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [ النّازِعَاتُ 3 ] [ ص 340 ] دَحَاهَا مِنْ تَحْتِ مَكّةَ ؛ وَلِذَلِكَ سُمّيَتْ أُمّ الْقُرَى ، وَفِي التّفْسِيرِ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ حِينَ قَالَ لِلسّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ { اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [ فُصّلَتْ 11 ] لَمْ تُجِبْهُ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ مِنْ الْأَرْضِ إلّا أَرْضُ الْحَرَمِ ، فَلِذَلِكَ حَرّمَهَا . وَفِي الْحَدِيثِ أَنّ اللّهَ حَرّمَ مَكّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَصَارَتْ حُرْمَتُهَا كَحُرْمَةِ الْمُؤْمِنِ لِأَنّ الْمُؤْمِنَ إنّمَا حُرّمَ دَمُهُ وَعِرْضُهُ وَمَالُهُ بِطَاعَتِهِ لِرَبّهِ وَأَرْضُ الْحَرَمِ لَمّا قَالَتْ أَتَيْنَا طَائِعِينَ حُرّمَ صَيْدُهَا وَشَجَرُهَا وَخَلَاهَا إلّا الْإِذْخِرَ فَلَا حُرْمَةَ إلّا لَذِي طَاعَةٍ جَعَلَنَا اللّهُ مِمّنْ أَطَاعَهُ .
سَبَبٌ آخَرُ لِبُنْيَانِ الْبَيْتِ
وَرُوِيَ فِي سَبَبِ بُنْيَانِ الْبَيْتِ خَبَرٌ آخَرُ وَلَيْسَ بِمُعَارِضِ لِمَا تَقَدّمَ وَذَلِكَ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ لَمّا قَالَ لِمَلَائِكَتِهِ { إِنّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا } [ الْبَقَرَةُ 29 ] . خَافُوا أَنْ يَكُونَ اللّهُ عَاتِبًا عَلَيْهِمْ لِاعْتِرَاضِهِمْ فِي عِلْمِهِ فَطَافُوا بِالْعَرْشِ سَبْعًا ، يَسْتَرْضُونَ رَبّهُمْ وَيَتَضَرّعُونَ إلَيْهِ فَأَمَرَهُمْ سُبْحَانَهُ أَنْ يَبْنُوا الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ فِي السّمَاءِ السّابِعَةِ وَأَنْ يَجْعَلُوا طَوَافَهُمْ بِهِ فَكَانَ ذَلِكَ أَهْوَنَ عَلَيْهِمْ مِنْ الطّوَافِ بِالْعَرْشِ ثُمّ أَمَرَهُمْ أَنْ يَبْنُوا فِي كُلّ سَمَاءٍ بَيْتًا ، وَفِي كُلّ أَرْضٍ بَيْتًا ، قَالَ مُجَاهِدٌ : هِيَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ بَيْتًا ، كُلّ بَيْتٍ مِنْهَا مَنَا صَاحِبَهُ أَيْ فِي مُقَابَلَتِهِ لَوْ سَقَطَتْ لَسَقَطَتْ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ .
حَوْلَ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ مَرّةً أُخْرَى
رُوِيَ أَيْضًا أَنّ الْمَلَائِكَةَ حِينَ أَسّسَتْ الْكَعْبَةَ انْشَقّتْ الْأَرْضُ إلَى مُنْتَهَاهَا ، وَقُذِفَتْ فِيهَا حِجَارَةٌ أَمْثَالَ الْإِبِلِ فَتِلْكَ الْقَوَاعِدُ مِنْ الْبَيْتِ الّتِي رَفَعَ إبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ فَلَمّا جَاءَ الطّوفَانُ رُفِعَتْ وَأُودِعَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ أَبَا قُبَيْسٍ . وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ أَنّ الْمَاءَ لَمْ يَعْلُهَا حِينَ الطّوفَانِ وَلَكِنّهُ قَامَ حَوْلَهَا ، وَبَقِيَتْ فِي هَوَاءٍ إلَى السّمَاءِ وَأَنّ نُوحًا قَالَ لِأَهْلِ السّفِينَةِ وَهِيَ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ إنّكُمْ فِي حَرَمِ اللّهِ وَحَوْلَ بَيْتِهِ فَأَحْرَمُوا لِلّهِ وَلَا يَمَسّ أَحَدٌ امْرَأَةً وَجَعَلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السّمَاءِ حَاجِزًا ، فَتَعَدّى حَامٌ ، [ ص 341 ] فَدَعَا عَلَيْهِ نُوحٌ أَنْ يَسْوَدّ لَوْنُ بَنِيهِ فَاسْوَدّ كُوشُ بْنُ حَامٍ وَنَسْلُهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقَدْ قِيلَ فِي سَبَبِ دَعْوَةِ نُوحٍ عَلَى حَامٍ غَيْرُ هَذَا ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَذُكِرَ فِي الْخَبَرِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ أَوّلُ مَنْ عَاذَ بِالْكَعْبَةِ حُوتٌ صَغِيرٌ خَافَ مِنْ حُوتٍ كَبِيرٍ فَعَاذَ مِنْهُ بِالْبَيْتِ وَذَلِكَ أَيّامَ الطّوفَانِ . ذَكَرَهُ يَحْيَى بْنُ سَلَامٍ فَلَمّا نَضَبَ مَاءُ الطّوفَانِ كَانَ مَكَانَ الْبَيْتِ رَبْوَةٌ مِنْ مَدَرَةٍ وَحَجّ إلَيْهِ هُودٌ وَصَالِحٌ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُمَا ، وَهُوَ كَذَلِكَ . وَيُذْكَرُ أَنّ يَعْرُبَ قَالَ لِهُودِ عَلَيْهِ السّلَامُ أَلَا نَبْنِيهِ ؟ قَالَ إنّمَا يَبْنِيهِ نَبِيّ كَرِيمٌ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي يَتّخِذُهُ الرّحْمَنُ خَلِيلًا ، فَلَمّا بَعَثَ اللّهُ إبْرَاهِيمَ وَشَبّ إسْمَاعِيلُ بِمَكّةَ أَمَرَ إبْرَاهِيمَ بِبِنَاءِ الْكَعْبَةِ ، فَدَلّتْهُ عَلَيْهِ السّكِينَةُ وَظَلّلَتْ لَهُ عَلَى مَوْضِعِ الْبَيْتِ فَكَانَتْ عَلَيْهِ كَالْجُحْفَةِ وَذَلِكَ أَنّ السّكِينَةَ مِنْ شَأْنِ الصّلَاةِ فَجُعِلَتْ عَلَمًا عَلَى قِبْلَتِهَا حِكْمَةً مِنْ اللّهِ سُبْحَانَهُ وَبَنَاهُ عَلَيْهِ السّلَامُ مِنْ خَمْسَةِ أَجْبُلٍ كَانَتْ الْمَلَائِكَةُ تَأْتِيهِ بِالْحِجَارَةِ مِنْهَا ، وَهِيَ طَوْرُ تَيْنَا ، وَطَوْرُ زَيْتَا اللّذَيْنِ بِالشّامِ وَالْجُودِيّ وَهُوَ بِالْجَزِيرَةِ وَلُبْنَانُ وَحِرَاءُ وَهُمَا بِالْحَرَمِ كُلّ هَذَا جَمَعْنَاهُ مِنْ آثَارٍ مَرْوِيّةٍ . وَانْتَبِهْ لِحِكْمَةِ اللّهِ كَيْفَ جَعَلَ بِنَاءَهَا مِنْ خَمْسَةِ أَجْبُلٍ فَشَاكَلَ ذَلِكَ مَعْنَاهَا ؛ إذْ هِيَ قِبْلَةٌ لِلصّلَاةِ الْخَمْسِ وَعَمُودُ الْإِسْلَامِ وَقَدْ بُنِيَ عَلَى خَمْسٍ وَكَيْفَ دَلّتْ عَلَيْهِ السّكِينَةُ إذْ هُوَ قِبْلَةٌ لِلصّلَاةِ وَالسّكِينَةُ مِنْ شَأْنِ الصّلَاةِ . قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ وَأْتُوهَا وَعَلَيْكُمْ السّكِينَةُ فَلَمّا بَلَغَ إبْرَاهِيمُ الرّكْنَ جَاءَهُ جِبْرِيلُ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ مِنْ جَوْفِ أَبِي قُبَيْسٍ وَرَوَى التّرْمِذِيّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ أُنْزِلَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ مِنْ الْجَنّةِ أَشَدّ بَيَاضًا مِنْ اللّبَنِ فَسَوّدَتْهُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ وَرَوَى التّرْمِذِيّ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا أَنّ الرّكْنَ الْأَسْوَدَ وَالرّكْنَ الْيَمَانِيّ يَاقُوتُتَانِ مِنْ الْجَنّةِ وَلَوْلَا مَا طُمِسَ مِنْ نُورِهِمَا لَأَضَاءَتَا مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ لَأَبْرَآ مَنْ اسْتَلَمَهُمَا [ ص 342 ] عَلِيّ رَحِمَهُ اللّهُ أَنّ الْعَهْدَ الّذِي أَخَذَهُ اللّهُ عَلَى ذُرّيّةِ آدَمَ حِينَ مَسَحَ ظَهْرَهُ أَلّا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا كَتَبَهُ فِي صَكّ وَأَلْقَمَهُ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ ؛ وَلِذَلِكَ يَقُولُ الْمُسْتَلِمُ لَهُ إيمَانًا بِك ، وَوَفَاءً بِعَهْدِك ، وَذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ الزّبَيْرُ وَزَادَ عَلَيْهِ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ أَجْرَى نَهْرًا أَطْيَبَ مِنْ اللّبَنِ وَأَلْيَنَ مِنْ الزّبَدِ فَاسْتَمَدّ مِنْهُ الْقَلَمَ الّذِي كَتَبَ الْعَهْدَ قَالَ وَكَانَ أَبُو قُبَيْسٍ يُسَمّى : الْأَمِينَ لِأَنّ الرّكْنَ كَانَ مُودَعًا فِيهِ وَأَنّهُ نَادَى إبْرَاهِيمَ حِينَ بَلَغَ بِالْبُنْيَانِ إلَى مَوْضِعِ الرّكْنِ فَأَخْبَرَهُ عَنْ الرّكْنِ فِيهِ وَدَلّهُ عَلَى مَوْضِعِهِ مِنْهُ وَانْتَبَهَ مِنْ هَاهُنَا إلَى الْحِكْمَةِ فِي أَنْ سَوّدَتْهُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ حِجَارَةِ الْكَعْبَةِ وَأَسْتَارِهَا ، وَذَلِكَ أَنّ الْعَهْدَ الّذِي فِيهِ هِيَ الْفِطْرَةُ الّتِي فُطِرَ النّاسُ عَلَيْهَا مِنْ تَوْحِيدِ اللّهِ فَكُلّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى تِلْكَ الْفِطْرَةِ وَعَلَى ذَلِكَ الْمِيثَاقِ فَلَوْلَا أَنّ أَبَوَيْهِ يُهَوّدَانِهِ وَيُنَصّرَانِهِ وَيُمَجّسَانِهِ حَتّى يَسْوَدّ قَلْبُهُ بِالشّرْكِ لَمَا حَالَ عَنْ الْعَهْدِ فَقَدْ صَارَ قَلْبُ ابْنِ آدَمَ مَحِلّا لِذَلِكَ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ وَصَارَ الْحَجَرُ مَحِلّا لِمَا كُتِبَ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ فَتَنَاسَبَا ، فَاسْوَدّ مِنْ الْخَطَايَا قَلْبُ ابْنِ آدَمَ بَعْدَمَا كَانَ وُلِدَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْعَهْدِ وَاسْوَدّ الْحَجَرُ بَعْدَ ابْيِضَاضِهِ وَكَانَتْ الْخَطَايَا سَبَبًا فِي ذَلِكَ حِكْمَةً مِنْ اللّهِ سُبْحَانَهُ فَهَذَا مَا ذُكِرَ فِي بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ مُلَخّصًا ، مِنْهُ مَا ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيّ وَمِنْهُ مَا ذَكَرَهُ الطّبَرِيّ ، وَمِنْهُ مَا وَقَعَ فِي كِتَابِ التّمْهِيدِ لِأَبِي عُمَرَ وَنُبَذٌ أَخَذْتهَا مِنْ كِتَابِ فَضَائِلِ مَكّةَ لِرَزِينِ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَمِنْ كِتَابِ أَبِي الْوَلِيدِ الْأَزْرَقِيّ فِي أَخْبَارِ مَكّةَ ، وَمِنْ أَحَادِيثَ فِي الْمُسْنَدَاتِ الْمَرْوِيّةِ وَسَنُورِدُ فِي بَاقِي الْحَدِيثِ بَعْضَ مَا بَلَغَنَا فِي ذَلِكَ مُسْتَعِينِينَ بِاَللّهِ . وَأَمّا الرّكْنُ الْيَمَانِيّ فَسُمّيَ بِالْيَمَانِيّ - فِيمَا ذَكَرَ الْقُتَبِيّ - لِأَنّ رَجُلًا مِنْ الْيَمَنِ بَنَاهُ اسْمُهُ أُبَيّ بْنُ سَالِمٍ وَأَنْشَدَ
لَنَا الرّكْنُ مِنْ بَيْتِ الْحَرَامِ وِرَاثَةً ... بَقِيّةَ مَا أَبْقَى أُبَيّ بْنُ سَالِمِ
حَوْلَ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَأَمّا الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ فَأَوّلُ مَنْ بَنَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ ، وَذَلِكَ أَنّ النّاسَ ضَيّقُوا عَلَى الْكَعْبَةِ ، وَأَلْصَقُوا دُورَهُمْ بِهَا ، فَقَالَ عُمَرُ إنّ الْكَعْبَةَ بَيْتُ اللّهِ وَلَا بُدّ لِلْبَيْتِ مِنْ فِنَاءٍ وَإِنّكُمْ دَخَلْتُمْ عَلَيْهَا ، وَلَمْ تَدْخُلْ عَلَيْكُمْ فَاشْتَرَى تِلْكَ الدّورَ مِنْ أَهْلِهَا وَهَدَمَهَا ، وَبَنَى الْمَسْجِدَ الْمُحِيطَ بِهَا ، ثُمّ كَانَ عُثْمَانُ فَاشْتَرَى دُورًا أُخْرَى ، وَأَغْلَى فِي ثَمَنِهَا ، وَزَادَ فِي سَعَةِ الْمَسْجِدِ [ ص 343 ] كَانَ ابْنُ الزّبَيْرِ زَادَ فِي إتْقَانِهِ لَا فِي سَعَتِهِ وَجَعَلَ فِيهِ عُمُدًا مِنْ الرّخَامِ وَزَادَ فِي أَبْوَابِهِ وَحَسّنَهَا ، فَلَمّا كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ زَادَ فِي ارْتِفَاعِ حَائِطِ الْمَسْجِدِ وَحَمَلَ إلَيْهِ السّوَارِيَ فِي الْبَحْرِ إلَى جَدّةَ ، وَاحْتُمِلَتْ مِنْ جَدّةَ عَلَى الْعَجَلِ إلَى مَكّةَ ، وَأَمَرَ الْحَجّاجُ بْنُ يُوسُفَ فَكَسَاهَا الدّيبَاجَ وَقَدْ كُنّا قَدّمْنَا أَنّ ابْنَ الزّبَيْرِ كَسَاهَا الدّيبَاجَ قَبْلَ الْحَجّاجِ ذَكَرَهُ الزّبَيْرُ بْنُ بَكّارٍ ، وَذَكَرْنَا أَيْضًا أَنّ خَالِدَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ مِمّنْ كَسَاهَا الدّيبَاجَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ثُمّ كَانَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَزَادَ فِي حُلِيّهَا ، وَصَرَفَ فِي مِيزَابِهَا وَسَقْفِهَا مَا كَانَ فِي مَائِدَةِ سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السّلَامُ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضّةٍ وَكَانَتْ قَدْ اُحْتُمِلَتْ إلَيْهِ مِنْ طُلَيْطُلَةَ مِنْ جَزِيرَةِ الْأَنْدَلُسِ وَكَانَتْ لَهَا أَطْوَاقٌ مِنْ يَاقُوتٍ وَزَبَرْجَدٍ وَكَانَتْ قَدْ اُحْتُمِلَتْ عَلَى بَغْلٍ قَوِيّ فَتَفَسّخَ تَحْتَهَا ، فَضَرَبَ مِنْهَا الْوَلِيدُ حِلْيَةً لِلْكَعْبَةِ فَلَمّا كَانَ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ وَابْنُهُ مُحَمّدٌ الْمَهْدِيّ زَادَ أَيْضًا فِي إتْقَانِ الْمَسْجِدِ وَتَحْسِينِ هَيْئَتِهِ وَلَمْ يُحْدَثْ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ عَمَلٌ إلَى الْآنَ . وَفِي اشْتِرَاءِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ الدّورَ الّتِي زَادَا فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنّ رِبَاعَ أَهْلِ مَكّةَ مِلْكٌ لِأَهْلِهَا ، يَتَصَرّفُونَ فِيهَا بِالْبَيْعِ وَالشّرَاءِ إذَا شَاءُوا ، وَفِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ .
كَنْزِ الْكَعْبَةِ وَالنّجّارِ الْقِبْطِيّ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ دُوَيْكًا الّذِي سَرَقَ كَنْزَ الْكَعْبَةِ ، وَتَقَدّمَ أَنّ سَارِقًا سَرَقَ مِنْ مَالِهَا فِي زَمَنِ جُرْهُمَ ، وَأَنّهُ دَخَلَ الْبِئْرَ الّتِي فِيهَا كَنْزُهَا فَسَقَطَ عَلَيْهِ حَجَرٌ فَحَبَسَهُ فِيهَا ، حَتّى أُخْرِجَ مِنْهَا ، وَانْتُزِعَ الْمَالُ مِنْهُ ثُمّ بَعَثَ اللّهُ حَيّةً لَهَا رَأْسٌ كَرَأْسِ الْجَدْيِ بَيْضَاءُ الْبَطْنِ سَوْدَاءُ الْمَتْنِ فَكَانَتْ فِي بِئْرِ الْكَعْبَةِ خَمْسَمِائَةِ عَامٍ فِيمَا ذَكَرَ رَزِينٌ وَهِيَ الّتِي ذَكَرَهَا ابْنُ إسْحَاقَ ، وَكَانَ لَا يَدْنُو أَحَدٌ مِنْ بِئْرِ الْكَعْبَةِ إلّا احْزَأَلّتْ أَيْ رَفَعَتْ ذَنَبَهَا ، وَكَشّتْ أَيْ صَوّتَتْ . وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ أَنّ سَفِينَةً رَمَاهَا الْبَحْرُ إلَى جَدّةَ ، فَتَحَطّمَتْ وَذَكَرَ غَيْرُهُ عَنْ ابْنِ مُنَبّهٍ أَنّ سَفِينَةً خَجّتْهَا الرّيحُ إلَى الشّعَيْبَةِ وَهُوَ مَرْفَأُ السّفُنِ مِنْ سَاحِلِ بَحْرِ الْحِجَازِ ، وَهُوَ كَانَ مَرْفَأَ مَكّةَ وَمَرْسَى سُفُنِهَا قَبْلَ جَدّةَ . وَالشّعَيْبَةُ بِضَمّ الشّينِ ذَكَرَهُ الْبَكْرِيّ ، وَفَسّرَ الْخَطّابِيّ خَجّتْهَا : أَيْ دَفَعَتْهَا بِقُوّةِ مِنْ الرّيحِ الْخَجُوجِ أَيْ الدّفُوعِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ بِمَكّةَ نَجّارٌ قِبْطِيّ ، وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنّهُ كَانَ عِلْجًا فِي السّفِينَةِ الّتِي خَجّتْهَا الرّيحُ إلَى الشّعَيْبَةِ وَأَنّ اسْمَ ذَلِكَ النّجّارِ يَاقُومُ وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَيْضًا فِي اسْمِ النّجّارِ الّذِي عَمِلَ مِنْبَرَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ طَرْفَاءِ الْغَابَةِ ، وَلَعَلّهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا ، فَاَللّهُ أَعْلَمُ . [ ص 344 ]
الْحَيّةُ وَالدّابّةُ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ خَبَرَ الْعُقَابِ أَوْ الطّائِرِ الّذِي اخْتَطَفَ الْحَيّةَ مِنْ بِئْرِ الْكَعْبَةِ ، وَقَالَ غَيْرُهُ طَرَحَهَا الطّائِرُ بِالْحَجُونِ فَالْتَقَمَتْهَا الْأَرْضُ . وَقَالَ مُحَمّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمُقْرِي هَذَا الْقَوْلَ ثُمّ قَالَ وَهِيَ الدّابّةُ الّتِي تُكَلّمُ النّاسَ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَاسْمُهَا : أَقْصَى فِيمَا ذُكِرَ وَمُحَمّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمُقْرِي هُوَ النّقّاشُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ بِصِحّةِ مَا قَالَ غَيْرَ أَنّهُ قَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنّ مُوسَى عَلَيْهِ السّلَامُ سَأَلَ رَبّهُ أَنْ يُرِيَهُ الدّابّةَ الّتِي تُكَلّمُ النّاسَ فَأَخْرَجَهَا لَهُ مِنْ الْأَرْضِ فَرَأَى مَنْظَرًا هَالَهُ وَأَفْزَعَهُ فَقَالَ أَيْ رَبّ رُدّهَا فَرَدّهَا . وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ حَدِيثَ الْحَجَرِ الّذِي أُخِذَ مِنْ الْكَعْبَةِ ، فَوَثَبَ مِنْ يَدِ آخِذِهِ حَتّى عَادَ إلَى مَوْضِعِهِ وَقَالَ غَيْرُهُ ضَرَبُوا بِالْمِعْوَلِ فِي حَجَرٍ مِنْ أَحْجَارِهَا ، فَلَمَعَتْ بَرْقَةٌ كَادَتْ تَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ وَأَخَذَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَجَرًا ، فَطَارَ مِنْ يَدِهِ وَعَادَ إلَى مَوْضِعِهِ . وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ قَوْلَهُمْ اللّهُمّ لَمْ تُرَعْ وَهِيَ كَلِمَةٌ تُقَالُ عِنْدَ تَسْكِينِ الرّوْعِ وَالتّأْنِيسِ وَإِظْهَارِ اللّينِ وَالْبِرّ فِي الْقَوْلِ وَلَا رَوْعَ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ فَيُنْفَى ، وَلَكِنّ الْكَلِمَةَ تَقْتَضِي إظْهَارَ قَصْدِ الْبِرّ فَلِذَلِكَ تَكَلّمُوا بِهَا ، وَعَلَى هَذَا يَجُوزُ التّكَلّمُ بِهَا فِي الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا ذِكْرُ الرّوْعِ الّذِي هُوَ مُحَالٌ فِي حَقّ الْبَارِي تَعَالَى ، وَلَكِنْ لَمّا كَانَ الْمَقْصُودُ مَا ذَكَرْنَا ، جَازَ النّطْقُ بِهَا ، وَسَيَأْتِي فِي هَذَا الْكِتَابِ إنْ شَاءَ اللّهُ زِيَادَةُ بَيَانٍ عِنْدَ قَوْلِهِ فَاغْفِرْ فِدَاءً لَك مَا اقْتَفَيْنَا . وَيُرْوَى أَيْضًا : اللّهُمّ لَمْ نَزِغْ وَهُوَ جَلِيّ لَا يُشْكِلُ .
مِنْ تَفْسِيرِ حَدِيثِ أَبِي لَهَبٍ
وَذَكَرَ قَوْلَهُمْ لَا تُدْخِلُوا فِي هَذَا الْبَيْتِ مَهْرُ بَغِيّ وَهِيَ الزّانِيَةُ وَهِيَ فَعُولٌ مِنْ الْبِغَاءِ فَانْدَغَمَتْ الْوَاوُ فِي الْيَاءِ وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ لِأَنّ فَعِيلًا بِمَعْنَى : فَاعِلٍ يَكُونُ بِالْهَاءِ فِي الْمُؤَنّثِ كَرَحِيمَةِ وَكَرِيمَةٍ وَإِنّمَا يَكُونُ بِغَيْرِ هَاءٍ إذَا كَانَ فِي مَعْنَى : مَفْعُولٍ نَحْوَ امْرَأَةٌ جَرِيحٌ وَقَتِيلٌ . وَقَوْلُهُ وَلَا بَيْعَ رِبًا يَدُلّ عَلَى أَنّ الرّبَا كَانَ مُحَرّمًا عَلَيْهِمْ فِي الْجَاهِلِيّةِ كَمَا كَانَ الظّلْمُ وَالْبِغَاءُ وَهُوَ الزّنَا مُحَرّمًا عَلَيْهِمْ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ بِبَقِيّةِ مِنْ بَقَايَا شَرْعِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ كَمَا [ ص 345 ] كَانَ بَقِيَ فِيهِمْ الْحَجّ وَالْعُمْرَةُ وَشَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ الطّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَفِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { وَأَحَلّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرّمَ الرّبَا } [ الْبَقَرَةُ 275 ] دَلِيلٌ عَلَى تَقْدِيمِ التّحْرِيمِ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 345 ] وَحُدّثْت أَنّ قُرَيْشًا وَجَدُوا فِي الرّكْنِ كِتَابًا بالسريانية ، فَلَمْ يَدْرُوا مَا هُوَ حَتّى قَرَأَهُ لَهُمْ رَجُلٌ مِنْ يَهُودَ فَإِذَا هُوَ أَنَا اللّهُ ذُو بَكّةَ ، خَلَقْتهَا يَوْمَ خَلَقْت السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَصَوّرْت الشّمْسَ وَالْقَمَرَ وَحَفّفْتهَا بِسَبْعَةِ أَمْلَاكٍ حُنَفَاءَ لَا تَزُولُ حَتّى يَزُولَ أَخْشَبَاهَا ، مُبَارَكٌ لِأَهْلِهَا فِي الْمَاءِ وَاللّبَنِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَخْشَبَاهَا : جَبَلَاهَا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحُدّثْت أَنّهُمْ وَجَدُوا فِي الْمَقَامِ كِتَابًا فِيهِ مَكّةُ بَيْتُ اللّهِ الْحَرَامِ يَأْتِيهَا رَزَقَهَا مِنْ ثَلَاثَةِ سُبُلٍ لَا يُحِلّهَا أَوّلُ مِنْ أَهْلِهَا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَزَعَمَ لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ أَنّهُمْ وَجَدُوا حَجَرًا فِي الْكَعْبَةِ قَبْلَ مَبْعَثِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً - إنْ كَانَ مَا ذُكِرَ حَقّا - مَكْتُوبًا فِيهِ " مَنْ يَزْرَعْ خَيْرًا ، يَحْصُدْ غِبْطَةً وَمَنْ يَزْرَعْ شَرّا ، يَحْصُدْ نَدَامَةً . تَعْمَلُونَ السّيّئَاتِ وَتُجْزَوْنَ الْحَسَنَاتِ أَجَلْ كَمَا لَا يُجْتَنَى مِنْ الشّوْكِ الْعِنَبُ " .Sالْحَجَرُ الّذِي كَانَ مَكْتُوبًا
فَصْلٌ
وَذَكَرَ الْحَجَرَ الّذِي وُجِدَ مَكْتُوبًا فِي الْكَعْبَةِ ، وَفِيهِ أَنَا اللّهُ ذُو بَكّةَ لِحَدِيثِ . رَوَى مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ فِي الْجَامِعِ عَنْ الزّهْرِيّ أَنّهُ قَالَ بَلَغَنِي أَنّ قُرَيْشًا حِينَ بَنَوْا الْكَعْبَةَ ، وَجَدُوا فِيهَا حَجَرًا ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ صُفُوحٍ فِي الصّفْحِ الْأَوّلِ أَنَا اللّهُ ذُو بَكّةَ صُغْتهَا يَوْمَ صُغْت الشّمْسَ وَالْقَمَرَ إلَى آخِرِ كَلَامِ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَفِي الصّفْحِ الثّانِي : أَنَا اللّهُ ذُو بَكّةَ ، خَلَقْت الرّحِمَ وَاشْتَقَقْت لَهَا اسْمًا مِنْ اسْمِي ، فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْته ، وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتّهُ وَفِي الصّفْحِ الثّالِثِ أَنَا اللّهُ ذُو بَكّةَ ، خَلَقْت الْخَيْرَ وَالشّرّ فَطُوبَى لِمَنْ كَانَ الْخَيْرُ عَلَى يَدَيْهِ وَوَيْلٌ لِمَنْ كَانَ الشّرّ عَلَى يَدَيْه وَفِي حَدِيثِ ابْنِ إسْحَاقَ : لَا يَحِلّهَا أَوّلُ مِنْ أَهْلِهَا ، يُرِيدُ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - مَا كَانَ مِنْ اسْتِحْلَالِ قُرَيْشٍ الْقِتَالَ فِيهَا أَيّامَ ابْنِ الزّبَيْرِ وَحُصَيْنِ بْنِ نُمَيْرٍ ثُمّ الْحَجّاجُ بَعْدَهُ وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ أَبِي رَبِيعَةَ :
أَلَا مَنْ لِقَلْبِ مُعَنّى غَزِلْ ... بِحُبّ الْمُحِلّةِ أُخْتُ الْمُحِلّ
يَعْنِي بِالْمُحَلّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ الزّبَيْرِ لِقِتَالِهِ فِي الْحَرَمِ .

[ ص 346 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ الْقَبَائِلَ مِنْ قُرَيْشٍ جَمَعَتْ الْحِجَارَةَ لِبِنَائِهَا ، كُلّ قَبِيلَةٍ تَجْمَعُ عَلَى حِدَةٍ ثُمّ بَنَوْهَا ، حَتّى بَلَغَ الْبُنْيَانُ مَوْضِعَ الرّكْنِ فَاخْتَصَمُوا فِيهِ كُلّ قَبِيلَةٍ تُرِيدُ أَنْ تَرْفَعَهُ إلَى مَوْضِعِهِ دُونَ الْأُخْرَى ، حَتّى تُحَاوَرُوا وَتَحَالَفُوا ؛ وَأَعَدّوا لِلْقِتَالِ فَقَرّبَتْ بَنُو عَبْدِ الدّارِ جَفْنَةً مَمْلُوءَةً دَمًا ، ثُمّ تَعَاقَدُوا هُمْ وَبَنُو عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ عَلَى الْمَوْتِ وَأَدْخَلُوا أَيْدِيَهُمْ فِي ذَلِكَ الدّمِ فِي تِلْكَ الْجَفْنَةِ فَسُمّوا : لَعَقَةَ الدّمِ فَمَكَثَتْ قُرَيْشٌ عَلَى ذَلِكَ أَرْبَعَ لَيَالٍ أَوْ خَمْسًا ، ثُمّ إنّهُمْ اجْتَمَعُوا فِي الْمَسْجِدِ وَتَشَاوَرُوا وَتَنَاصَفُوا . فَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الرّوَايَةِ أَنّ أَبَا أُمَيّةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ ، وَكَانَ عَامَئِذٍ أَسَنّ قُرَيْشٍ كُلّهَا ، قَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ - فِيمَا تَخْتَلِفُونَ فِيهِ - أَوّلَ مَنْ يَدْخُلُ مِنْ بَاب هَذَا الْمَسْجِدِ يَقْضِي بَيْنَكُمْ فِيهِ فَفَعَلُوا : فَكَانَ أَوّلُ دَاخِلٍ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَلَمّا رَأَوْهُ قَالُوا : هَذَا الْأَمِينُ رَضِينَا ، هَذَا مُحَمّدٌ فَلَمّا انْتَهَى إلَيْهِمْ أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ ، قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَلُمّ إلَيّ ثَوْبًا " ، فَأُتِيَ بِهِ فَأَخَذَ الرّكْنَ فَوَضَعَهُ فِيهِ بِيَدِهِ ثُمّ قَالَ " لِتَأْخُذْ كُلّ قَبِيلَةٍ بِنَاحِيَةِ مِنْ الثّوْبِ ثُمّ ارْفَعُوهُ جَمِيعًا " ، فَفَعَلُوا ، حَتّى إذَا بَلَغُوا مَوْضِعَهُ وَضَعَهُ هُوَ بِيَدِهِ ثُمّ بَنَى عَلَيْهِSحَوْلَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَقَوَاعِدِ الْبَيْتِ
فَصْلٌ
[ ص 346 ] وَذَكَرَ اخْتِلَافَهُمْ فِي وَضْعِ الرّكْنِ وَأَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - هُوَ الّذِي وَضَعَهُ بِيَدِهِ وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنّ إبْلِيسَ كَانَ مَعَهُمْ فِي صُورَةِ شَيْخٍ نَجْدِيّ وَأَنّهُ صَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ : أَرَضِيتُمْ أَنْ يَضَعَ هَذَا الرّكْنَ وَهُوَ شَرَفُكُمْ غُلَامٌ يَتِيمٌ دُونَ ذَوِي أَسْنَانِكُمْ فَكَانَ يُثِيرُ شَرّا فِيمَا بَيْنَهُمْ ثُمّ سَكَنُوا ذَلِكَ . وَأَمّا وَضْعُ الرّكْنِ حِينَ بُنِيَتْ الْكَعْبَةُ فِي أَيّامِ ابْنِ الزّبَيْرِ فَوَضَعَهُ فِي الْمَوْضِعِ الّذِي هُوَ فِيهِ الْآنَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ ، وَأَبُوهُ يُصَلّي بِالنّاسِ فِي الْمَسْجِدِ اغْتَنَمَ شُغْلَ النّاسِ عَنْهُ بِالصّلَاةِ لَمّا أَحَسّ مِنْهُمْ التّنَافُسَ فِي ذَلِكَ وَخَافَ الْخِلَافَ فَأَقَرّهُ أَبُوهُ . ذَكَرَ ذَلِكَ الزّبَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ . وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ أَيْضًا أَنّهُمْ أَفْضَوْا إلَى قَوَاعِدِ الْبَيْتِ وَإِذَا هِيَ خُضْرٌ كَالْأَسْنِمَةِ وَلَيْسَتْ هَذِهِ رِوَايَةَ السّيرَةِ إنّمَا الصّحِيحُ فِي الْكِتَابِ كَالْأَسِنّةِ وَهُوَ وَهْمٌ مِنْ بَعْضِ النّقَلَةِ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ فَإِنّهُ لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ بِهَذَا اللّفْظِ لَا عِنْدَ الْوَاقِدِيّ وَلَا غَيْرِهِ وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيّ فِي بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ هَذَا الْخَبَرَ ، فَقَالَ فِيهِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ : فَنَظَرْت إلَيْهَا ، فَإِذَا هِيَ كَأَسْنِمَةِ الْإِبِلِ وَتَشْبِيهُهَا بِالْأَسِنّةِ لَا يُشَبّهُ إلّا فِي الزّرْقَةِ وَتَشْبِيهُهَا بِأَسْنِمَةِ الْإِبِلِ أَوْلَى ، لِعِظَمِهَا ، وَلِمَا تَقَدّمَ فِي حَدِيثِ بُنْيَانِ الْمَلَائِكَةِ لَهَا قَبْلَ هَذَا .

[ ص 347 ] وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُسَمّي رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ الْأَمِينَ . فَلَمّا فَرَغُوا مِنْ الْبُنْيَانِ وَبَنَوْهَا عَلَى مَا أَرَادُوا ، قَالَ الزّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْحَيّةِ الّتِي كَانَتْ قُرَيْشٌ تَهَابُ بُنْيَانَ الْكَعْبَةِ لَهَا .
عَجِبْت لَمّا تَصَوّبَتْ الْعُقَابُ ... إلَى الثّعْبَانِ وَهِيَ لَهَا اضْطِرَابُ
وَقَدْ كَانَتْ يَكُونُ لَهَا كَشِيشٌ ... وَأَحْيَانَا يَكُونُ لَهَا وِثَابُ
إذَا قُمْنَا إلَى التّأْسِيسِ . شَدّتْ ... تُهَيّبُنَا الْبِنَاءَ . وَقَدْ تُهَابُ
فَلَمّا أَنْ خَشِينَا الرّجْزَ . جَاءَتْ ... عُقَابٌ تَتْلَئِبّ لَهَا انْصِبَابُ
فَضَمّتْهَا إلَيْهَا ، ثُمّ خَلّتْ ... لَنَا الْبُنْيَانَ لَيْسَ لَهُ حِجَابُ
فَقُمْنَا حَاشِدِينَ إلَى بِنَاءٍ ... لَنَا مِنْهُ الْقَوَاعِدُ وَالتّرَابُ
غَدَاةَ نُرَفّعُ التّأْسِيسَ مِنْهُ ... وَلَيْسَ عَلَى مُسَوّينَا ثِيَابُ
أَعَزّ بِهِ الْمَلِيكُ بَنِي لُؤَيّ ... فَلَيْسَ لِأَصْلِهِ مِنْهُمْ ذَهَابُ
وَقَدْ حَشَدَتْ هُنَاكَ بَنُو عَدِيّ ... وَمُرّةُ قَدْ تَقَدّمَهَا كِلَابُ
فَبَوّأَنَا الْمَلِيكُ بِذَاكَ عِزّا ... وَعِنْدَ اللّهِ يُلْتَمَسُ الثّوَابُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُرْوَى : وَلَيْسَ عَلَى مُسَاوِينَا ثِيَابُ
[ ص 348 ] وَكَانَتْ الْكَعْبَةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ثَمَانِي عَشَرَةَ ذِرَاعًا ، وَكَانَتْ تُكْسَى الْقَبَاطِيّ ثُمّ كُسِيَتْ الْبُرُودَ . وَأَوّلُ مَنْ كَسَاهَا الدّيبَاجَ الْحَجّاجُ بْنُ يُوسُفَ .
Sشِعْرُ الزّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ
فَصْلٌ
[ ص 347 ] وَذَكَرَ شِعْرَ الزّبَيْرِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ : عَجِبْت لِمَا تَصَوّبَتْ الْعُقَابُ . إلَى قَوْلِهِ تَتْلَئِبّ لَهَا انْصِبَابُ . قَوْلُهُ تَتْلَئِبّ ، يُقَالُ اتْلَأَبّ عَلَى طَرِيقِهِ إذَا لَمْ يُعَرّجْ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً وَكَأَنّهُ مَنْحُوتٌ مِنْ أَصْلَيْنِ كَمَا تَقَدّمَ فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ تَلَا : إذَا تَبِعَ ، وَأَلَبَ إذَا أَقَامَ وَأَبّ أَيْضًا قَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى . يُقَالُ أَبّ إبَابَةً - مِنْ كِتَابِ الْعَيْنِ - إذَا اسْتَقَامَ وَتَهَيّأَ فَكَأَنّهُ مُقِيمٌ مُسْتَمِرّ عَلَى مَا يَتْلُوهُ وَيَتْبَعُهُ مِمّا هُوَ بِسَبِيلِهِ وَالِاسْمُ مِنْ اتْلَأَبّ التّلَأْبِيبَةُ عَلَى وَزْنِ الطّمَأْنِينَةِ وَالْقُشَعْرِيرَةِ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ . وَقَوْلُهُ وَلَيْسَ عَلَى مُسَوّينَا ثِيَابُ . أَيْ مُسَوّي الْبُنْيَانِ . وَهُوَ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ الصّحِيحِ [ ص 348 ] نُقْلَانِهِمْ الْحِجَارَةَ إلَى الْكَعْبَةِ أَنّهُمْ كَانُوا يَنْقُلُونَهَا عُرَاةً وَيَرَوْنَ ذَلِكَ دِينًا ، وَأَنّهُ مِنْ بَابِ التّشْمِيرِ وَالْجِدّ فِي الطّاعَةِ . وَقَوْلُ ابْنِ هِشَامٍ : وَيُرْوَى : مُسَاوِينَا ، يُرِيدُ السّوْآتِ فَهُوَ جَمْعُ مَسَاءَةٍ مَفْعَلَةٌ مِنْ السّوْءَةِ وَالْأَصْلُ مَسَاوِئُ فَسُهّلَتْ الْهَمْزَةُ .

حَدِيثُ الْحُمْسِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَتْ قُرَيْشٌ - لَا أَدْرِي أَقَبْلَ عَامِ الْفِيلِ أَمْ بَعْدَهُ - ابْتَدَعَتْ رَأْيَ الْحُمْسِ رَأْيًا رَأَوْهُ وَأَدَارُوهُ فَقَالُوا : نَحْنُ بَنُو إبْرَاهِيمَ وَأَهْلُ الْحُرْمَةِ وَوُلَاةُ الْبَيْتِ ، وَقُطّانُ مَكّةَ وَسَاكِنُهَا ، فَلَيْسَ لِأَحَدِ مِنْ الْعَرَبِ مِثْلُ حَقّنَا ، وَلَا مِثْلُ مَنْزِلَتِنَا ، وَلَا تَعْرِفُ لَهُ الْعَرَبُ مِثْلَ مَا تَعْرِفُ لَنَا ، فَلَا تُعَظّمُوا شَيْئًا مِنْ الْحِلّ كَمَا تُعَظّمُونَ الْحَرَمَ ، فَإِنّكُمْ إنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ اسْتَخَفّتْ الْعَرَبُ بِحُرْمَتِكُمْ وَقَالُوا : قَدْ عَظّمُوا مِنْ الْحِلّ مِثْلَ مَا عَظّمُوا مِنْ الْحَرَمِ . فَتَرَكُوا الْوُقُوفَ عَلَى عَرَفَةَ وَالْإِفَاضَةُ مِنْهَا ، وَهُمْ يَعْرِفُونَ وَيُقِرّونَ أَنّهَا مِنْ الْمَشَاعِرِ وَالْحَجّ وَدِينِ إبْرَاهِيمَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَيَرَوْنَ لِسَائِرِ الْعَرَبِ أَنْ يُفِيضُوا مِنْهَا ، إلّا أَنّهُمْ قَالُوا : نَحْنُ أَهْلُ الْحَرَمِ ، فَلَيْسَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَخْرُجَ مِنْ الْحُرْمَةِ وَلَا نُعَظّمَ غَيْرَهَا ، كَمَا نُعَظّمُهَا نَحْنُ الْحُمْسُ وَالْحُمْسُ أَهْلُ الْحَرَمِ ، ثُمّ جَعَلُوا لِمَنْ وُلِدُوا مِنْ الْعَرَبِ مِنْ سَاكِنِ الْحِلّ وَالْحَرَمِ مِثْلَ الّذِي لَهُمْ بِوِلَادَتِهِمْ إيّاهُمْ يَحِلّ لَهُمْ مَا يَحِلّ لَهُمْ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ . وَكَانَتْ كِنَانَةُ وَخُزَاعَةُ قَدْ دَخَلُوا مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ . [ ص 349 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ النّحْوِيّ : أَنّ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ مُعَاوِيَةَ بْنَ بَكْرِ بْنِ هَوَازِن َ دَخَلُوا مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ وَأَنْشَدَنِي لِعَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ
أَعَبّاسُ لَوْ كَانَتْ شِيَارًا جِيَادُنَا ... بِتَثْلِيثِ مَا نَاصَبْت بَعْدِي الْأَحَامِسَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : تَثْلِيثٌ : مَوْضِعٌ مِنْ بِلَادِهِمْ . وَالشّيَارُ الْحِسَانُ . يَعْنِي بِالْأَحَامِسِ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ . وَبِعَبّاسِ عَبّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ السّلَمِيّ وَكَانَ أَغَارَ عَلَى بَنِي زُبَيْدٍ بِتَثْلِيثِ . وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لِعَمْرِو .
Sالْحُمْسُ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ الْحُمْسَ وَمَا ابْتَدَعَتْهُ قُرَيْشٌ فِي ذَلِكَ وَالتّحَمّسُ التّشَدّدُ وَكَانُوا قَدْ ذَهَبُوا فِي ذَلِكَ مَذْهَبَ التّزَهّدِ وَالتّأَلّهِ فَكَانَتْ نِسَاؤُهُمْ لَا يَنْسِجْنَ الشّعْرَ وَلَا الْوَبَرَ وَكَانُوا لَا يَسْلَئُونَ السّمْنَ وَسَلَأَ السّمْنَ أَنْ يُطْبَخَ الزّبْدُ حَتّى يَصِيرَ سَمْنًا ، قَالَ أَبْرَهَةُ
إنّ لَنَا صِرْمَةً مَخِيسَة ... نَشْرَبُ أَلْبَانَهَا وَنَسْلَؤُهَا
[ ص 349 ] ذَكَرَ قَوْلَ ابْنِ مَعْدِي كَرِبَ أَعَبّاسُ لَوْ كَانَتْ شِيَارًا جِيَادُنَا . الْبَيْتُ شِيَارًا مِنْ الشّارَةِ الْحَسَنَةِ يَعْنِي : سِمَانًا حِسَانًا وَبَعْدَ الْبَيْتِ وَلَكِنّهَا قِيدَتْ بِصَعْدَةِ مَرّةً فَأَصْبَحْنَ مَا يَمْشِينَ إلّا تَكَارُسَا
وَأَنْشَدَ أَيْضًا:أَجْذِمْ إلَيْك إنّهَا بَنُو عَبَسْ أَجْذِمْ زَجْرٌ مَعْرُوفٌ لِلْخَيْلِ وَكَذَلِكَ أَرْحِبْ وَهَبْ وَهِقِطْ وَهِقَطْ وَهِقَبْ .

وَأَنْشَدَنِي لِلَقِيطِ بْنِ زُرَارَةَ الدّارِمِيّ فِي يَوْمِ جَبَلَةَ :
أَجْذِمْ إلَيْك إنّهَا بَنُو عَبَسْ ... الْمُعْشِرُ الْجِلّةَ فِي الْقَوْمِ الْحَمَسْ
لِأَنّ بَنِي عَبَسٍ كَانُوا يَوْمَ جَبَلَةَ حُلَفَاءَ فِي بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ . وَيَوْمُ جَبَلَةَ : يَوْمٌ كَانَ بَيْنَ بَنِي حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ ، وَبَيْنَ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ فَكَانَ الظّفَرُ فِيهِ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ عَلَى بَنِي حَنْظَلَةَ وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ لَقِيطُ بْنُ زُرَارَةَ بْنِ عُدُسٍ وَأُسِرَ حَاجِبُ بْنُ زُرَارَةَ بْنِ عُدُسٍ وَانْهَزَمَ عَمْرُو بْنُ عَمْرِو بْنِ [ ص 350 ] عُدُسُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ دَارِمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حَنْظَلَةَ . فَفِيهِ يَقُولُ جَرِيرٌ لِلْفَرَزْدَقِ
كَأَنّك لَمْ تَشْهَدْ لَقِيطًا وَحَاجِبًا ... وَعَمْرَ بْنَ عَمْرٍو إذْ دَعَوْا : يَا لَدَارِمِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ ثُمّ الْتَقَوْا يَوْمَ ذِي نَجَبٍ فَكَانَ الظّفَرُ لِحَنْظَلَةَ عَلَى بَنِي عَامِرٍ وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ حَسّانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْكِنْدِيّ ، وَهُوَ أَبُو كَبْشَةَ . وَأُسِرَ يَزِيدُ بْنُ الصّعْقِ الْكِلَابِيّ وَانْهَزَمَ الطّفَيْلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ ، أَبُو عَامِرِ بْنُ الطّفَيْلِ . فَفِيهِ يَقُولُ الْفَرَزْدَقُ : وَمِنْهُنّ إذْ نَجّى طُفَيْلُ بْنُ مَالِكٍ عَلَى قُرْزُلٍ رَجُلًا رَكُوضَ الْهَزَائِمِ
وَنَحْنُ ضَرَبْنَا هَامَةَ ابْنِ خُوَيْلِدٍ يَزِيدَ عَلَى أُمّ الْفِرَاخِ الْجَوَاثِمِ
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . فَقَالَ جَرِيرٌ وَنَحْنُ خَضَبْنَا لَابْنِ كَبْشَةَ تَاجَه ُ وَلَاقَى امْرِئِ فِي ضَمّةِ الْخَيْلِ مُصْقِعَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَحَدِيثُ يَوْمِ جَبَلَةَ ، وَيَوْمُ ذِي نَجَبٍ أَطْوَلُ مِمّا ذَكَرْنَا . وَإِنّمَا مَنَعَنِي مِنْ اسْتِقْصَائِهِ مَا ذَكَرْت فِي حَدِيثِ يَوْمِ الْفِجَارِ .
Sيَوْمُ جَبَلَةَ
وَذَكَرَ يَوْمَ جَبَلَةَ . وَجَبَلَةُ هَضْبَةٌ عَالِيَةٌ كَانُوا قَدْ أَحْرَزُوا فِيهَا عِيَالَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَكَانَ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ رَئِيسُ نَجْرَانَ ، وَهُوَ ابْنُ الْجَوْنِ الْكِنْدِيّ وَأَخٌ لِلنّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ أَحْسَبُ اسْمُهُ حَسّانُ بْنُ وَبَرَةَ وَهُوَ أَخُو النّعْمَانِ لِأُمّهِ وَفِي أَيّامِ جَبَلَةَ كَانَ مَوْلِدُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَلِثِنْتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً مِنْ مُلْكِ أَنُوشِرْوَانَ بْنِ قُبَاذٍ وَكَانَ مَوْلِدُ أَبِيهِ عَبْدِ اللّهِ لِأَرْبَعِ وَعِشْرِينَ مَضَتْ مِنْ مُلْكِ أَنُوشِرْوَانَ الْمَذْكُورِ فَبَيْنَهُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَبَيْنَ أَبِيهِ عَبْدِ اللّهِ نَحْوٌ مِنْ ثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً .
عُدُسٌ وَالْحِلّةُ وَالطّلْسُ
[ ص 350 ] وَذَكَرَ زُرَارَةُ بْنُ عُدُسِ بْنِ زَيْدٍ وَهُوَ عُدُسٌ بِضَمّ الدّالِ عِنْدَ جَمِيعِهِمْ إلّا أَبَا عُبَيْدَةَ فَإِنّهُ كَانَ يَفْتَحُ الدّالَ مِنْهُ وَكُلّ عُدُسٍ فِي الْعَرَبِ سِوَاهُ فَإِنّهُ مَفْتُوحُ الدّالِ . وَذَكَرَ الْحِلّةَ وَهُمْ مَا عَدَا الْحُمْسَ وَأَنّهُمْ كَانُوا يَطُوفُونَ عُرَاةً إنْ لَمْ يَجِدُوا ثِيَابَ أَحْمَسَ وَكَانُوا يَقْصِدُونَ فِي ذَلِكَ طَرْحَ الثّيَابِ الّتِي اقْتَرَفُوا فِيهَا الذّنُوبَ عَنْهُمْ وَلَمْ يَذْكُرْ الطّلْسَ مِنْ الْعَرَبِ ، وَهُمْ صِنْفٌ ثَالِثٌ [ ص 351 ] الْحِلّةِ ، وَالْحُمْسُ كَانُوا يَأْتُونَ مِنْ أَقْصَى الْيَمَنِ طُلْسًا مِنْ الْغُبَارِ فَيَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ فِي تِلْكَ الثّيَابِ الطّلْسِ فَسُمّوا بِذَلِكَ . ذَكَرَهُ مُحَمّدُ بْنُ حَبِيبٍ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ ابْتَدَعُوا فِي ذَلِكَ أُمُورًا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ حَتّى قَالُوا : لَا يَنْبَغِي لِلْحُمْسِ أَنْ يَأْتَقِطُوا الْأَقِطَ وَلَا يَسْأَلُوا السّمْنَ وَهُمْ حُرُمٌ وَلَا يَدْخُلُوا بَيْتًا مِنْ شَعْرٍ وَلَا يَسْتَظِلّوا - إنْ اسْتَظَلّوا - إلّا فِي بُيُوتِ الْأَدَمِ مَا كَانُوا حُرُمًا ، ثُمّ رَفَعُوا فِي ذَلِكَ فَقَالُوا : لَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْحِلّ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ طَعَامٍ جَاءُوا بِهِ مَعَهُمْ مِنْ الْحِلّ إلَى الْحَرَمِ إذَا جَاءُوا حُجّاجًا أَوْ عُمّارًا ، وَلَا يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ إذَا قَدِمُوا أَوّلَ طَوَافِهِمْ إلّا فِي ثِيَابِ الْحُمْسِ . [ ص 351 ] طَافُوا بِالْبَيْتِ عُرَاةً فَإِنْ تَكَرّمَ مِنْكُمْ مُتَكَرّمٌ مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ وَلَمْ يَجِدْ ثِيَابَ الْحُمْسِ . فَطَافَ فِي ثِيَابِهِ الّتِي جَاءَ بِهَا مِنْ الْحِلّ أَلْقَاهَا إذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ ثُمّ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا ، وَلَمْ يَمَسّهَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ غَيْرُهُ أَبَدًا . وَكَانَتْ الْعَرَبُ تُسَمّي تِلْكَ الثّيَابَ اللّقَى ، فَحَمَلُوا عَلَى ذَلِكَ الْعَرَبَ . فَدَانَتْ بِهِ وَوَقَفُوا عَلَى عَرَفَاتٍ ، وَأَفَاضُوا مِنْهَا ، وَطَافُوا بِالْبَيْتِ عُرَاةً أَمّا الرّجَالُ فَيَطُوفُونَ عُرَاةً . وَأَمّا النّسَاءُ فَتَضَعُ إحْدَاهُنّ ثِيَابَهَا كُلّهَا إلّا دِرْعًا مُفَرّجًا عَلَيْهَا ، ثُمّ تَطُوفُ فِيهِ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْعَرَبِ ، وَهِيَ كَذَلِكَ تَطُوفُ الْبَيْتَ
الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلّهُ ... وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلّهُ
وَمَنْ طَافَ مِنْهُمْ فِي ثِيَابِهِ الّتِي جَاءَ فِيهَا مِنْ الْحِلّ أَلْقَاهَا ، فَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ فَقَالَ قَائِلٌ مِنْ الْعَرَبِ يَذْكُرُ شَيْئًا تَرَكَهُ مِنْ ثِيَابِهِ فَلَا يَقْرَبُهُ - وَهُوَ يُحِبّهُ - كَفَى حَزَنًا كَرّي عَلَيْهَا كَأَنّهَا لَقًى بَيْنَ أَيْدِي الطّائِفِينَ حَرِيمُ
يَقُولُ لَا تَمَسّ . [ ص 352 ] فَكَانُوا كَذَلِكَ حَتّى بَعَثَ اللّهُ تَعَالَى مُحَمّدًا - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَأَنْزَلَ عَلَيْهِ حِينَ أَحْكَمَ لَهُ دِينَهُ . وَشَرَعَ لَهُ سُنَنَ حَجّهِ { ثُمّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ الْبَقَرَةُ 199 ] . يَعْنِي قُرَيْشًا ، وَالنّاسُ الْعَرَبُ ، فَرَفَعَهُمْ فِي سُنّةِ الْحَجّ إلَى عَرَفَاتٍ ، وَالْوُقُوفِ عَلَيْهَا وَالْإِفَاضَةِ مِنْهَا . [ ص 353 ] وَأَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْهِ فِيمَا كَانُوا حَرّمُوا عَلَى النّاسِ مِنْ طَعَامِهِمْ وَلُبُوسِهِمْ عِنْدَ الْبَيْتِ . حِينَ طَافُوا عُرَاةً وَحَرّمُوا مَا جَاءُوا بِهِ مِنْ الْحِلّ مِنْ الطّعَامِ { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنّهُ لَا يُحِبّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرّمَ زِينَةَ اللّهِ الّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطّيّبَاتِ مِنَ الرّزْقِ قُلْ هِيَ لِلّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } [ الْأَعْرَافُ 31 - 33 ] . فَوَضَعَ اللّهُ تَعَالَى أَمْرَ الْحُمْسِ وَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ ابْتَدَعَتْ مِنْهُ عَنْ النّاسِ بِالْإِسْلَامِ حِينَ بَعَثَ اللّهُ رَسُولَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . [ ص 354 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، عَنْ عُثْمَانَ بْن أَبِي سُلَيْمَانَ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، عَنْ عَمّهِ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ . قَالَ لَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَإِنّهُ لَوَاقِفٌ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ بِعَرَفَاتِ مَعَ النّاسِ مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِ حَتّى يَدْفَعَ مَعَهُمْ تَوْفِيقًا مِنْ اللّهِ لَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
Sاللّقَى
فَصْلٌ
وَذَكَرَ اللّقَى وَهُوَ الثّوْبُ الّذِي كَانَ يُطْرَحُ بَعْدَ الطّوَافِ فَلَا يَأْخُذُهُ أَحَدٌ ، وَأَنْشَدَ
كَفَى حَزَنًا كَرّي عَلَيْهِ كَأَنّهُ ... لَقًى بَيْنَ أَيْدِي الطّائِفِينَ حَرِيمُ
حَرِيمٌ أَيْ مُحْرِمٌ لَا يُؤْخَذُ وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَكُلّ شَيْءٍ مُطّرَحٌ ، فَهُوَ لَقًى قَالَ الشّاعِرُ يَصِفُ فَرْخَ قَطًا :
تَرْوِي لَقًى أُلْقِيَ فِي صَفْصَفٍ ... تَصْهَرُهُ الشّمْسُ فَمَا يَنْصَهِرْ
تُرْوَى بِفَتْحِ التّاءِ أَيْ تَسْتَقِي لَهُ وَمِنْ اللّقَى : حَدِيثُ فَاخِتَةَ أُمّ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ ، وَكَانَتْ دَخَلَتْ الْكَعْبَةَ وَهِيَ حَامِلٌ مُتِمّ بِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ فَلَمْ تَسْتَطِعْ الْخُرُوجَ مِنْ الْكَعْبَةِ ، فَوَضَعَتْهُ فِيهَا ، فَلُفّتْ فِي الْأَنْطَاعِ هِيَ وَجَنِينُهَا ، وَطُرِحَ مَثْبِرُهَا وَثِيَابُهَا الّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا ، فَجُعِلْت لَقًى لَا تُقْرَبُ .
رِجْزُ الْمَرْأَةِ الطّائِفَةِ
فَصْلٌ
[ ص 352 ] وَذَكَرَ قَوْلَ الْمَرْأَةِ الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلّهُ الْبَيْتَيْنِ وَيَذْكُرُ أَنّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ هِيَ ضُبَاعَةُ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ ثُمّ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ بْنِ قُشَيْرٍ ، وَذَكَرَ مُحَمّدُ بْنُ حَبِيبٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - خَطَبَهَا ، فَذُكِرَتْ لَهُ عَنْهَا كِبْرَةٌ فَتَرَكَهَا ، فَقِيلَ إنّهَا مَاتَتْ كَمَدًا وَحُزْنًا عَلَى ذَلِكَ قَالَ الْمُؤَلّفُ إنْ كَانَ صَحّ هَذَا ، فَمَا أَخّرَهَا عَنْ أَنْ تَكُونَ أُمّا لِلْمُؤْمِنِينَ وَزَوْجًا لِرَسُولِ رَبّ الْعَالَمِينَ إلّا قَوْلُهَا : الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلّهُ
. تَكْرِمَةً مِنْ اللّهِ لِنَبِيّهِ وَعِلْمًا مِنْهُ بِغَيْرَتِهِ وَاَللّهُ أَغْيَرُ مِنْهُ .
أُسْطُورَةٌ
وَمِمّا ذُكِرَ مِنْ تَعَرّيهمْ فِي الطّوَافِ أَنّ رَجُلًا وَامْرَأَةً طَافَا كَذَلِكَ فَانْضَمّ الرّجُلُ إلَى الْمَرْأَةِ تَلَذّذًا وَاسْتِمْتَاعًا ، فَلَصَقَ عَضُدَهُ بِعَضُدِهَا ، فَفَزِعَا عِنْدَ ذَلِكَ وَخَرَجَا مِنْ الْمَسْجِدِ وَهُمَا مُلْتَصِقَانِ وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ عَلَى فَكّ عَضُدِهِ مِنْ عَضُدِهَا ، حَتّى قَالَ لَهُمَا قَائِلٌ تُوبَا مِمّا كَانَ فِي ضَمِيرِكُمَا ، وَأَخْلِصَا لِلّهِ التّوْبَةَ فَفَعَلَا ، فَانْحَلّ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخِرِ .
قُرْزُلٌ وَطُفَيْلٌ
وَأَنْشَدَ لِلْفَرَزْدَقِ
وَمِنْهُنّ إذْ نَجّى طُفَيْلُ بْنُ مَالِكٍ ... عَلَى قُرْزُلٍ رَجُلًا رَكُوضَ الْهَزَائِمِ
قُرْزُلٌ اسْمُ فَرَسِهِ وَكَانَ طُفَيْلٌ يُسَمّى : فَارِسَ قُرْزُلٍ وَقُرْزُلٌ الْقَيْدُ سَمّى الْفَرَسَ بِهِ كَأَنّهُ يُقَيّدُ مَا يُسَابِقُهُ كَمَا قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ : بِمُنْجَرِدِ قَيْدِ الْأَوَابِدِ هَيْكَلِ
وَطُفَيْلٌ هَذَا هُوَ وَالِدُ عَامِرِ بْنِ الطّفَيْلِ ، عَدُوّ اللّهِ وَعَدُوّ رَسُولِهِ وَأَخُو طُفَيْلٍ هَذَا : [ ص 353 ] سُمّيَ مُلَاعِبًا ، وَنَذْكُرُ إخْوَتَهُ وَأَلْقَابَهُمْ فِي الْكِتَابِ إنْ شَاءَ اللّهُ .
الْهَامَةُ
وَقَوْلُهُ عَلَى أُمّ الْفِرَاخِ الْجَوَاثِمِ . يَعْنِي : الْهَامَةَ وَهِيَ الْبُومُ وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنّ الرّجُلَ إذَا قُتِلَ خَرَجَتْ مِنْ رَأْسِهِ هَامَةٌ تَصِيحُ اسْقُونِي اسْقُونِي ، حَتّى يُؤْخَذَ بِثَأْرِهِ . قَالَ ذُو الْإِصْبَعِ الْعَدْوَانِيّ أَضْرِبْك حَتّى تَقُولَ الْهَامَةُ اسْقُونِي
شَرْحُ بَيْتِ جَرِيرٍ
فَصْلٌ
وَأَنْشَدَ جَرِيرٌ
وَنَحْنُ خَضَبْنَا لَابْنِ كَبْشَةَ تَاجَهُ ... وَلَاقَى امْرِئِ فِي ضَمّةِ الْخَيْلِ مِصْقَعَا
وَجَدْت فِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ هَذَا الْبَيْتَ الْمَعْرُوفَ فِي اللّغَةِ أَنّ - الْمِصْقَعَ الْخَطِيبُ الْبَلِيغُ وَلَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ لَكِنْ يُقَالُ فِي اللّغَةِ صَقَعَهُ إذَا ضَرَبَهُ عَلَى شَيْءٍ مُصْمِتٍ يَابِسٍ قَالَهُ الْأَصْمَعِيّ ، فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِصْقَعٌ فِي هَذَا الْبَيْتِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى ، فَيُقَالُ مِنْهُ رَجُلٌ مِصْقَعٌ كَمَا يُقَالُ مِحْرَبٌ وَفِي الْحَدِيثِ إنّ سَعْدًا لَمِحْرَبٌ يَعْنِي [ ابْنَ ] أَبِي وَقّاصٍ .
مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي أَمْرِ الْحُمْسِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي أَمْرِ الْحُمْسِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا } الْآيَةُ [ الْأَعْرَافُ 30ْ ] فَقَوْلُهُ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا إشَارَةٌ إلَى مَا كَانَتْ الْحُمْسُ حَرّمَتْهُ مِنْ طَعَامِ الْحَجّ إلّا طَعَامَ أَحْمَسَ وَخُذُوا زِينَتَكُمْ يَعْنِي اللّبَاسَ وَلَا تَتَعَرّوْا ، وَلَذَلِكَ افْتَتَحَ بِقَوْلِهِ يَا بَنِي آدَمَ بَعْدَ أَنْ قَصّ خَبَرَ آدَمَ وَزَوْجَهُ إذْ يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنّةِ أَيْ إنْ كُنْتُمْ تَحْتَجّونَ بِأَنّهُ دِينُ آبَائِكُمْ فَآدَمُ أَبُوكُمْ وَدِينُهُ سِتْرٌ [ ص 354 ] قَالَ مِلّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ أَيْ إنْ كَانَتْ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ دِينَ آبَائِكُمْ فَإِبْرَاهِيمُ أَبُوكُمْ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَمِمّا نَزَلَ فِي ذَلِكَ { وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً } [ الْأَنْفَالُ 35 ] . فَفِي التّفْسِيرِ أَنّهُمْ كَانُوا يَطُوفُونَ عُرَاةً وَيُصَفّقُونَ بِأَيْدِيهِمْ وَيُصَفّرُونَ فَالْمُكَاءُ الصّفِيرُ وَالتّصْدِيَةُ التّصْفِيقُ . قَالَ الرّاجِزُ وَأَنَا مِنْ غَرْوِ الْهَوَى أُصَدّي . وَمِمّا نَزَلَ مِنْ أَمْرِ الْحُمْسِ { وَلَيْسَ الْبِرّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا } [ الْبَقَرَةُ 189 ] . لِأَنّ الْحُمْسَ لَا يَدْخُلُونَ تَحْتَ سَقْفٍ وَلَا يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ السّمَاءِ عَتَبَةُ بَابٍ وَلَا غَيْرُهَا ، فَإِنْ احْتَاجَ أَحَدُهُمْ إلَى حَاجَةٍ فِي دَارِهِ تَسَنّمَ الْبَيْتَ مِنْ ظَهْرِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ مِنْ الْبَابِ فَقَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ { وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتّقُوا اللّهَ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ الْبَقَرَةُ 189 ] .
وُقُوفُ النّبِيّ بِعَرَفَةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَالنّبُوّةِ
وَذَكَرَ وُقُوفَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِعَرَفَةَ مَعَ النّاسِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَقَبْلَ النّبُوّةِ تَوْفِيقًا مِنْ اللّهِ حَتّى لَا يَفُوتَهُ ثَوَابُ الْحَجّ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ قَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ حِينَ رَآهُ وَاقِفًا بِعَرَفَةَ مَعَ النّاسِ هَذَا رَجُلٌ أَحْمَسُ فَمَا بَالُهُ لَا يَقِفُ مَعَ الْحُمْسِ حَيْثُ يَقِفُونَ ؟

أَخْبَارُ الْكُهّانِ مِنْ الْعَرَبِ وَالْأَحْبَارِ مِنْ يَهُودَ وَالرّهْبَانِ مِنْ النّصَارَى
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَتْ الْأَحْبَارُ مِنْ الْيَهُودِ ، وَالرّهْبَانُ مِنْ النّصَارَى ، وَالْكُهّانُ مِنْ [ ص 355 ] الْعَرَبِ ، قَدْ تَحَدّثُوا بِأَمْرِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَبْلَ مَبْعَثِهِ لَمّا تَقَارَبَ مِنْ زَمَانِهِ . أَمّا الْأَحْبَارُ مِنْ يَهُودَ وَالرّهْبَانُ مِنْ النّصَارَى . فَعَمّا وَجَدُوا فِي كُتُبهمْ مِنْ صِفَتِهِ وَصِفَةِ زَمَانِهِ وَمَا كَانَ مِنْ عَهْدِ أَنْبِيَائِهِمْ إلَيْهِمْ فِيهِ وَأَمّا الْكُهّانُ مِنْ الْعَرَبِ : فَأَتَتْهُمْ بِهِ الشّيَاطِينُ مِنْ الْجِنّ فِيمَا تَسْتَرِقُ مِنْ السّمْعِ إذْ كَانَتْ وَهِيَ لَا تُحْجَبُ عَنْ ذَلِكَ بِالْقَذْفِ بِالنّجُومِ وَكَانَ الْكَاهِنُ وَالْكَاهِنَةُ لَا يَزَالُ يَقَعُ مِنْهُمَا ذِكْرُ بَعْضِ أُمُورِهِ لَا تُلْقِي الْعَرَبُ لِذَلِكَ فِيهِ بَالًا ، حَتّى بَعَثَهُ اللّهُ تَعَالَى ، وَوَقَعَتْ تِلْكَ الْأُمُورُ الّتِي كَانُوا يَذْكُرُونَ . فَعَرَفُوهَا . فَلَمّا تَقَارَبَ أَمْرُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَحَضَرَ مَبْعَثُهُ . حُجِبَتْ الشّيَاطِينُ عَنْ السّمْعِ وَحِيلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَقَاعِدِ الّتِي كَانَتْ تَقْعُدُ لِاسْتِرَاقِ السّمْعِ فِيهَا ، فَرُمُوا بِالنّجُومِ فَعَرَفَتْ الْجِنّ أَنّ ذَلِكَ لِأَمْرِ حَدَثَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ فِي الْعِبَادِ يَقُولُ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِنَبِيّهِ مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ بَعَثَهُ وَهُوَ يَقُصّ عَلَيْهِ خَبَرَ الْجِنّ إذْ حُجِبُوا عَنْ السّمْعِ فَعَرَفُوا مَا عَرَفُوا ، وَمَا أَنْكَرُوا مِنْ ذَلِكَ حِينَ رَأَوْا مَا رَأَوْا : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيّ أَنّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنّ فَقَالُوا إِنّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرّشْدِ فَآمَنّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبّنَا أَحَدًا وَأَنّهُ تَعَالَى جَدّ رَبّنَا مَا اتّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا وَأَنّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللّهِ شَطَطًا وَأَنّا ظَنَنّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنّ عَلَى اللّهِ كَذِبًا وَأَنّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } [ ص 356 ] { وَأَنّا كُنّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا وَأَنّا لَا نَدْرِي أَشَرّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبّهُمْ رَشَدًا } [ الْجِنّ : 1 - 6 ثُمّ 9 ، 10 ] . فَلَمّا سَمِعَتْ الْجِنّ الْقُرْآنَ عَرَفَتْ أَنّهَا إنّمَا مُنِعَتْ مِنْ السّمْعِ قَبْلَ ذَلِكَ لِئَلّا يُشْكِلُ الْوَحْيُ بِشَيْءِ خَبَرَ السّمَاءِ فَيَلْتَبِسُ عَلَى أَهْلِ الْأَرْضِ مَا جَاءَهُمْ مِنْ اللّهِ فِيهِ لِوُقُوعِ الْحُجّةِ وَقَطْعِ الشّبْهَةِ . فَآمَنُوا وَصَدّقُوا ، ثُمّ [ ص 357 ] { وَلّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ } الْآيَةُ [ الْأَحْقَافُ : 30 ]
Sفَصْلٌ فِي الْكِهَانَةِ
رُوِيَ فِي مَأْثُورِ الْأَخْبَارِ أَنّ إبْلِيسَ كَانَ يَخْتَرِقُ السّمَوَاتِ قَبْلَ عِيسَى ، فَلَمّا بُعِثَ عِيسَى ، [ ص 355 ] الشّيَاطِينُ بِالنّجُومِ وَقَالَتْ قُرَيْشٌ حِينَ كَثُرَ الْقَذْفُ بِالنّجُومِ قَامَتْ السّاعَةُ فَقَالَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ : اُنْظُرُوا إلَى الْعَيّوقِ فَإِنْ كَانَ رُمِيَ بِهِ فَقَدْ آنَ قِيَامُ السّاعَةِ وَإِلّا فَلَا . وَمِمّنْ ذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ الزّبَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ .
رَمْيُ الشّيَاطِينِ
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي هَذَا الْبَابِ مَا رُمِيَتْ بِهِ الشّيَاطِينُ حِينَ ظَهَرَ الْقَذْفُ بِالنّجُومِ لِئَلّا يَلْتَبِسَ بِالْوَحْيِ وَلِيَكُونَ ذَلِكَ أَظْهَرَ لِلْحُجّةِ وَأَقْطَعَ لِلشّبْهَةِ وَالَذَى قَالَهُ صَحِيحٌ وَلَكِنّ الْقَذْفَ بِالنّجُومِ قَدْ كَانَ قَدِيمًا ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي أَشْعَارِ الْقُدَمَاءِ مِنْ الْجَاهِلِيّةِ . مِنْهُمْ عَوْفُ بْنُ أَجْرِعَ وَأَوْسُ بْنُ حَجَرٍ وَبِشْرُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ وَكُلّهُمْ جَاهِلِيّ ، وَقَدْ وَصَفُوا الرّمْيَ بِالنّجُومِ وَأَبْيَاتُهُمْ فِي ذَلِكَ مَذْكُورَةٌ فِي مُشْكِلِ ابْنِ قُتَيْبَةَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْجِنّ ، وَذَكَرَ عَبْدُ الرّزّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنّهُ سُئِلَ عَنْ هَذَا الرّمْيِ بِالنّجُومِ أَكَانَ فِي الْجَاهِلِيّةِ ؟ قَالَ نَعَمْ وَلَكِنّهُ إذْ جَاءَ الْإِسْلَامُ غَلّظَ وَشَدّدَ وَفِي قَوْلِ اللّهِ سُبْحَانَهُ { وَأَنّا لَمَسْنَا السّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا } [ الْجِنّ : 8 ] الْآيَةُ وَلَمْ يَقُلْ حُرِسَتْ دَلِيلٌ عَلَى [ ص 356 ] كَانَ مِنْهُ شَيْءٌ فَلَمّا بُعِثَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا ، وَذَلِكَ لِيَنْحَسِمَ أَمْرُ الشّيَاطِينِ وَتَخْلِيطِهِمْ وَلِتَكُونَ الْآيَةُ أَبْيَنَ وَالْحُجّةُ أَقْطَعَ وَإِنْ وُجِدَ الْيَوْمَ كَاهِنٌ فَلَا يَدْفَعُ ذَلِكَ بِمَا أَخْبَرَ اللّهُ بِهِ مِنْ طَرْدِ الشّيَاطِينِ عَنْ اسْتِرَاقِ السّمْعِ فَإِنّ ذَلِكَ التّغْلِيظَ وَالتّشْدِيدَ كَانَ زَمَنَ النّبُوّةِ ثُمّ بَقِيَتْ مِنْهُ أَعْنِي مِنْ اسْتِرَاقِ السّمْعِ بَقَايَا يَسِيرَةٌ بِدَلِيلِ وُجُودِهِمْ عَلَى النّدُورِ فِي بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ وَفِي بَعْضِ الْبِلَادِ . وَقَدْ سُئِلَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَنْ الْكُهّانِ فَقَالَ لَيْسُوا بِشَيْءِ فَقِيلَ إنّهُمْ يَتَكَلّمُونَ بِالْكَلِمَةِ فَتَكُونُ كَمَا قَالُوا ، فَقَالَ تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنْ الْجِنّ يَحْفَظُهَا الْجِنّيّ ، فَيُقِرّهَا فِي أُذُنِ وَلِيّهِ قَرّ الزّجَاجَةِ فَيَخْلِطُ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كِذْبَةٍ ، وَيُرْوَى : قَرّ الدّجَاجَةِ بِالدّالِ وَعَلَى هَذِهِ الرّوَايَةِ تَكَلّمَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الدّلَائِلِ . وَالزّجَاجَةُ بِالزّايِ أَوْلَى ؛ لِمَا ثَبَتَ فِي الصّحِيحِ فَيُقِرّهَا فِي أُذُنِ وَلِيّهِ كَمَا تُقَرّ الْقَارُورَةُ وَمَعْنَى يُقِرّهَا : يَصُبّهَا وَيُفْرِغُهَا ، قَالَ الرّاجِزُ
لَا تُفْرِغَنْ فِي أُذُنِي قَرّهَا ... مَا يَسْتَفِزّ فَأُرِيك فَقْرَهَا
وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ سَلَامٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ إذَا رَمَى الشّهَابُ الْجِنّيّ لَمْ يُخْطِئْهُ وَيُحَرّقُ مَا أَصَابَ وَلَا يَقْتُلُهُ وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ فِي أَسْرَعَ مِنْ طَرْفَةِ الْعَيْنِ وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ سَلَامٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنّهُ كَانَ مَعَ قَوْمٍ فَرُمِيَ بِنَجْمِ فَقَالَ لَا تُتْبِعُوهُ أَبْصَارَكُمْ وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ حَفْصٍ أَنّهُ سَأَلَ الْحَسَنَ أَيُتْبِعُ بَصَرَهُ الْكَوْكَبَ . فَقَالَ قَالَ سُبْحَانَهُ { وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشّيَاطِينِ } [ الْمُلْكُ 5 ] . وَقَالَ { أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [ الْأَعْرَافُ 185 ] . قَالَ كَيْفَ نَعْلَمُ إذَا لَمْ نَنْظُرْ إلَيْهِ لَأُتْبِعَنّهُ بَصَرِي .
الْجِنّ الّذِينَ ذَكَرَهُمْ الْقُرْآنُ
وَذَكَرَ النّفَرَ مِنْ الْجِنّ الّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ الْقُرْآنُ وَاَلّذِينَ [ ص 357 ] { وَلّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى } [ الْأَحْقَافُ : 30ْ ] . وَفِي الْحَدِيثِ أَنّهُمْ كَانُوا مِنْ جِنّ نَصِيبِينَ . وَفِي التّفْسِيرِ أَنّهُمْ كَانُوا يَهُودًا ؛ وَلِذَلِكَ قَالُوا : مِنْ بَعْدِ مُوسَى ، وَلَمْ يَقُولُوا مِنْ بَعْدِ عِيسَى ذَكَرَهُ ابْنُ سَلَامٍ . وَكَانُوا سَبْعَةً قَدْ ذُكِرُوا بِأَسْمَائِهِمْ فِي التّفَاسِيرِ وَالْمُسْنَدَاتِ وَهُمْ شَاصِرٌ وَمَاصِرٌ وَمُنْشَى ، وَلَاشَى ، وَالْأَحْقَابُ وَهَؤُلَاءِ الْخَمْسَةُ ذَكَرَهُمْ ابْنُ دُرَيْدٍ وَوَجَدْت فِي خَبَرٍ حَدّثَنِي بِهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ طَاهِرٍ الْإِشْبِيلِيّ الْقَيْسِيّ عَنْ أَبِي عَلِيّ الْغَسّانِيّ فِي فَضْلِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ بَيْنَمَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَمْشِي فِي أَرْضٍ فَلَاةٍ فَإِذَا حَيّةٌ مَيّتَةٌ فَكَفّنَهَا بِفَضْلَةِ مِنْ رِدَائِهِ وَدَفَنَهَا فَإِذَا قَائِلٌ يَقُولُ يَا سُرّقُ اشْهَدْ لَسَمِعْت رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَقُولُ لَك : " سَتَمُوتُ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَيُكَفّنُك وَيَدْفِنُك رَجُلٌ صَالِحٌ " ، فَقَالَ مَنْ أَنْتَ - يَرْحَمُك اللّهُ - فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْجِنّ الّذِينَ تَسَمّعُوا الْقُرْآنَ مِنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إلّا أَنَا وَسُرّقٌ وَهَذَا سُرّقٌ قَدْ مَاتَ . وَذَكَرَ ابْنُ سَلَامٍ مِنْ طَرِيقِ أَبِي إسْحَاقَ [ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَلِيّ ] السّبِيعِيّ عَنْ أَشْيَاخِهِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنّهُ كَانَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَمْشُونَ فَرُفِعَ لَهُمْ إعْصَارٌ ثُمّ جَاءَ إعْصَارٌ أَعْظَمُ مِنْهُ ثُمّ انْقَشَعَ فَإِذَا حَيّةٌ قَتِيلٌ فَعَمَدَ رَجُلٌ مِنّا إلَى رِدَائِهِ فَشَقّهُ وَكَفّنَ الْحَيّةَ بِبَعْضِهِ وَدَفَنَهَا . فَلَمّا جَنّ اللّيْلُ إذَا امْرَأَتَانِ تُتَسَاءَلَانِ أَيّكُمْ دَفَنَ عَمْرَو بْنَ جَابِرٍ ؟ فَقُلْنَا : مَا نَدْرِي مَنْ عَمْرُو بْنُ جَابِرٍ ؟ فَقَالَتَا : إنْ كُنْتُمْ ابْتَغَيْتُمْ الْأَجْرَ فَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ . إنّ فَسَقَةَ الْجِنّ اقْتَتَلُوا مَعَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ فَقُتِلَ عَمْرٌو ، وَهُوَ الْحَيّةُ الّتِي رَأَيْتُمْ وَهُوَ مِنْ النّفَرِ الّذِينَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ مِنْ مُحَمّدٍ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ثُمّ وَلّوْا إلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ

وَكَانَ قَوْلُ الْجِنّ : { وَأَنّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا } أَنّهُ كَانَ الرّجُلُ مِنْ الْعَرَبِ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ إذَا سَافَرَ فَنَزَلَ بَطْنَ وَادٍ مِنْ الْأَرْضِ لِيَبِيتَ فِيهِ قَالَ إنّي أَعُوذُ بِعَزِيزِ هَذَا الْوَادِي مِنْ الْجِنّ اللّيْلَةَ مِنْ شَرّ مَا فِيهِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الرّهَقُ الطّغْيَانُ وَالسّفَهُ . قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ : إذْ تَسْتَبِي الْهَيّامَةُ الْمُرَهّقَا
[ بِمُقْلَتَيْ رِيمٍ وَحِيدٍ أَرْشَقَا ]
[ ص 358 ] قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ يَصِفُ حَمِيرَ وَحْشٍ بَصْبَصْنَ وَاقْشَعْرَرْنَ مِنْ خَوْفِ الرّهَقْ
[ يَمْصَعْنَ بِالْأَذْنَابِ مِنْ لَوْحٍ وَبَقْ ]
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ . وَالرّهَقُ أَيْضًا : مَصْدَرٌ لِقَوْلِ الرّجُلِ رَهِقْت الْإِثْمَ أَوْ الْعُسْرَ الّذِي أَرْهَقْتنِي رَهَقًا شَدِيدًا ، أَيْ حَمَلْت الْإِثْمَ أَوْ الْعُسْرَ الّذِي حَمّلْتنِي حِمْلًا شَدِيدًا ، وَفِي كِتَابِ اللّهِ تَعَالَى : { فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا } [ الْكَهْفُ : 80 ] وَقَوْلُهُ { وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا } [ الْكَهْفُ : 73 ] . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ أَنّهُ حَدّثَ أَنّ [ ص 359 ] فَزِعَ لِلرّمْيِ بِالنّجُومِ - حِينَ رُمِيَ بِهَا - هَذَا الْحَيّ مِنْ ثَقِيفٍ ، وَأَنّهُمْ جَاءُوا إلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ أَحَدُ بَنِي عِلَاجٍ - قَالَ وَكَانَ أَدْهَى الْعَرَبِ وَأَنْكَرَهَا رَأْيًا - فَقَالُوا لَهُ يَا عَمْرُو : أَلَمْ تَرَ مَا حَدّثَ فِي السّمَاءِ مِنْ الْقَذْفِ بِهَذِهِ النّجُومِ ؟ قَالَ بَلَى فَانْظُرُوا ، فَإِنْ كَانَتْ مَعَالِمُ النّجُومِ الّتِي يُهْتَدَى بِهَا فِي الْبَرّ وَالْبَحْرِ وَتُعْرَفُ بِهَا الْأَنْوَاءُ مِنْ الصّيْفِ وَالشّتَاءِ لِمَا يُصْلِحُ النّاسَ فِي مَعَايِشِهِمْ هِيَ الّتِي يُرْمَى بِهَا ، فَهُوَ وَاَللّهِ طَيّ الدّنْيَا ، وَهَلَاكُ هَذَا الْخَلْقِ الّذِي فِيهَا ، وَإِنْ كَانَتْ نُجُومًا غَيْرَهَا ، وَهِيَ ثَابِتَةٌ عَلَى حَالِهَا ، فَهَذَا لِأَمْرِ أَرَادَ اللّهُ بِهِ هَذَا الْخَلْقَ فَمَا هُوَ ؟
S[ ص 358 ]
ابْنُ عِلَاطٍ وَالْجِنّ
فَصْلٌ وَأَمّا مَا ذَكَرَهُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { وَأَنّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنّ } الْآيَةُ [ الْجِنّ : 6 ] . فَقَدْ رُوِيَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ عَنْ حَجّاجِ بْنِ عِلَاطٍ السّلَمِيّ وَهُوَ وَالِدُ نَصْرِ بْنِ حَجّاجٍ الّذِي قِيلَ فِيهِ أَمْ لَا سَبِيلَ إلَى نَصْرِ بْنِ حَجّاجِ
أَنّهُ قَدِمَ مَكّةَ فِي رَكْبٍ فَأَجَنّهُمْ اللّيْلُ بِوَادٍ مَخُوفٍ مُوحِشٍ فَقَالَ لَهُ الرّكْبُ قُمْ خُذْ لِنَفْسِك أَمَانًا ، وَلِأَصْحَابِك ، فَجَعَلَ يَطُوفُ بِالرّكْبِ وَيَقُولُ أُعِيذُ نَفْسِي وَأُعِيذُ صَحْبِي
مِنْ كُلّ جِنّيّ بِهَذَا النّقْبِ
حَتّى أَءُوب سَالِمًا وَرَكْبِي
فَسَمِعَ قَارِئًا : { يَا مَعْشَرَ الْجِنّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلّا بِسُلْطَانٍ } الْآيَةُ [ الرّحْمَنُ 33 ] . فَلَمّا قَدِمَ مَكّةَ خَبّرَ كُفّارَ قُرَيْشٍ بِمَا سَمِعَ فَقَالُوا : أَصَبْت يَا أَبَا كِلَابٍ . إنّ هَذَا يَزْعُمُ مُحَمّدٌ أَنّهُ أُنْزِلَ عَلَيْهِ فَقَالَ وَاَللّهِ لَقَدْ سَمِعْته وَسَمِعَهُ هَؤُلَاءِ مَعِي ، ثُمّ أَسْلَمَ وَحَسُنَ إسْلَامُهُ وَهَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ ، وَابْتَنَى بِهَا مَسْجِدًا فَهُوَ يُعْرَفُ بِهِ .

وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَذَكَرَ مُحَمّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، عَنْ عَلِيّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْعَبّاسِ عَنْ نَفَرٍ مِنْ الْأَنْصَارِ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَهُمْ [ ص 360 ] مَاذَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِي هَذَا النّجْمِ الّذِي يُرْمَى بِهِ ؟ قَالُوا : يَا نَبِيّ اللّهِ كُنّا نَقُولُ حِينَ رَأَيْنَاهَا يُرْمَى بِهَا : مَاتَ مَلِكٌ مُلّكَ مَلِكٌ وُلِدَ مَوْلُودٌ مَاتَ مَوْلُودٌ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَيْسَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَلَكِنّ اللّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَانَ إذَا قَضَى فِي خَلْقِهِ أَمْرًا سَمِعَهُ حَمَلَةُ الْعَرْشِ فَسَبّحُوا ، فَسَبّحَ مَنْ تَحْتَهُمْ فَسَبّحَ لِتَسْبِيحِهِمْ مَنْ تَحْتَ ذَلِكَ فَلَا يَزَالُ التّسْبِيحُ يَهْبِطُ حَتّى يَنْتَهِيَ إلَى السّمَاءِ الدّنْيَا ، فَيُسَبّحُوا ثُمّ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ مِمّ سَبّحْتُمْ ؟ فَيَقُولُونَ سَبّحَ مَنْ فَوْقَنَا فَسَبّحْنَا لِتَسْبِيحِهِمْ فَيَقُولُونَ أَلَا تَسْأَلُونَ مَنْ فَوْقَكُمْ مِمّ سَبّحُوا ؟ فَيَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ حَتّى يَنْتَهُوا إلَى حَمَلَةِ الْعَرْشِ فَيُقَالُ لَهُمْ مِمّ سَبّحْتُمْ ؟ فَيَقُولُونَ قَضَى اللّهُ فِي خَلْقِهِ كَذَا وَكَذَا ، لِلْأَمْرِ الّذِي كَانَ فَيَهْبِطُ بِهِ الْخَبَرُ مِنْ سَمَاءٍ إلَى سَمَاءٍ حَتّى يَنْتَهِيَ إلَى السّمَاءِ الدّنْيَا ، فَيَتَحَدّثُوا بِهِ فَتَسْتَرِقُهُ الشّيَاطِينُ بِالسّمْعِ عَلَى تَوَهّمٍ وَاخْتِلَافٍ ثُمّ يَأْتُوا بِهِ الْكُهّانَ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ فَيُحَدّثُوهُمْ بِهِ فَيُخْطِئُونَ وَيُصِيبُونَ فَيَتَحَدّثُ بِهِ الْكُهّانُ فَيُصِيبُونَ بَعْضًا وَيُخْطِئُونَ بَعْضًا . ثُمّ إنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ حَجَبَ الشّيَاطِينَ بِهَذِهِ النّجُومِ الّتِي يَقْذِفُونَ بِهَا ، فَانْقَطَعَتْ الْكِهَانَةُ الْيَوْمَ فَلَا كِهَانَةَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَمْرُو بْن أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْن أَبِي لَبِيبَةَ عَنْ عَلِيّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْهُ .S[ ص 359 ]
حَوْلَ انْقِطَاعِ الْكِهَانَةِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ حَدِيثَ ابْنِ عَبّاسٍ وَفِيهِ كُنّا نَقُولُ إذَا رَأَيْنَاهُ يَمُوتُ عَظِيمٌ أَوْ يُولَدُ عَظِيمٌ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى مَا قَدّمْنَاهُ مِنْ أَنّ الْقَذْفَ بِالنّجُومِ كَانَ قَدِيمًا ، وَلَكِنّهُ إذْ بُعِثَ الرّسُولُ عَلَيْهِ السّلَامُ وَغَلّظَ وَشَدّدَ - كَمَا قَالَ الزّهْرِيّ - وَمُلِئَتْ السّمَاءُ حَرَسًا . وَقَوْلُهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ وَقَدْ انْقَطَعَتْ الْكِهَانَةُ الْيَوْمَ فَلَا كِهَانَةَ يَدُلّ قَوْلُهُ الْيَوْمَ عَلَى تَخْصِيصِ ذَلِكَ الزّمَانِ كَمَا قَدّمْنَاهُ وَاَلّذِي انْقَطَعَ الْيَوْمَ وَإِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَنْ تُدْرِكَ الشّيَاطِينُ مَا كَانَتْ تُدْرِكُهُ فِي الْجَاهِلِيّةِ الْجَهْلَاءِ وَعِنْدَ تَمَكّنِهَا مِنْ سَمَاعِ أَخْبَارِ السّمَاءِ وَمَا يُوجَدُ الْيَوْمَ مِنْ كَلَامِ الْجِنّ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمَجَانِينِ إنّمَا هُوَ خَبَرٌ مِنْهُمْ عَمّا يَرَوْنَهُ فِي الْأَرْضِ مِمّا لَا نَرَاهُ نَحْنُ كَسَرِقَةِ سَارِقٍ أَوْ خَبِيئَتِهِ فِي مَكَانٍ خَفِيّ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَإِنْ أَخْبَرُوا بِمَا سَيَكُونُ كَانَ تَخَرّصًا وَتَظَنّيًا ، فَيُصِيبُونَ قَلِيلًا ، وَيُخْطِئُونَ كَثِيرًا . [ ص 360 ] الْعَنَانِ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيّ ، فَيُطْرَدُونَ بِالنّجُومِ فَيُضِيفُونَ إلَى الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كِذْبَةٍ - كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ - فِي الْحَدِيثِ الّذِي قَدّمْنَاهُ فَإِنْ قُلْت : فَقَدْ كَانَ صَافُ بْنُ صَيّادٍ وَكَانَ يَتَكَهّنُ وَيَدّعِي النّبُوّةَ وَخَبّأَ لَهُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - خَبِيئًا ، فَعَلِمَهُ وَهُوَ الدّخّ فَأَيْنَ انْقِطَاعُ الْكِهَانَةِ فِي ذَلِكَ الزّمَانِ ؟ قُلْنَا : عَنْ هَذَا جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا ذَكَرَهُ الْخَطّابِيّ فِي أَعْلَامِ الْحَدِيثِ قَالَ الدّخّ نَبَاتٌ يَكُونُ مِنْ النّخِيلِ ، وَخَبّأَ لَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ { فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ } [ الدّخّانُ 10 ] ، فَعَلَى هَذَا لَمْ يُصِبْ ابْنُ صَيّادٍ مَا خَبّأَ لَهُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الثّانِي : أَنّ شَيْطَانَهُ كَانَ يَأْتِيهِ بِمَا خَفِيَ مِنْ أَخْبَارِ الْأَرْضِ وَلَا يَأْتِيهِ بِخَبَرِ السّمَاءِ لِمَكَانِ الْقَذْفِ وَالرّجْمِ فَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِالدّخّ الدّخَانَ بِقُوّةِ جُعِلَتْ لَهُمْ فِي أَسْمَاعِهِمْ لَيْسَتْ لَنَا ، فَأَلْقَى الْكَلِمَةَ عَنْ لِسَانِ صِافٍ وَحْدَهَا ، إذْ لَمْ يُمْكِنْ سَمَاعُ سَائِرِ الْآيَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ لَهُ النّبِيّ - عَلَيْهِ السّلَامُ - اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدَرَ اللّهِ فِيك أَيْ فَلَنْ تَعْدُوَ مَنْزِلَتَك مِنْ الْعَجْزِ عَنْ عِلْمِ الْغَيْبِ وَإِنّمَا الّذِي يُمْكِنُ فِي حَقّهِ هَذَا الْقَدَرُ دُونَ مَزِيدٍ عَلَيْهِ عَلَى هَذَا النّحْوِ فَسّرَهُ الْخَطّابِيّ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ امْرَأَةً مِنْ بَنِي سَهْمٍ يُقَالُ لَهَا الْغَيْطَلَةَ ، كَانَتْ كَاهِنَةً فِي الْجَاهِلِيّةِ فَلَمّا جَاءَهَا صَاحِبُهَا فِي لَيْلَةٍ مِنْ اللّيَالِي ، فَأَنْقَضَ [ ص 361 ] قَالَ أَدْرِ مَا أَدْرِ يَوْمَ عَقْرٍ وَنَحْرِ فَقَالَتْ قُرَيْشٌ حِينَ بَلَغَهَا ذَلِكَ مَا يُرِيدُ ؟ ثُمّ جَاءَهَا لَيْلَةً أُخْرَى ، فَأَنْقَضَ تَحْتَهَا ، ثُمّ قَالَ شُعُوبٌ مَا شُعُوبْ تُصْرَعُ فِيهِ كَعْبٌ لِجُنُوبْ فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا ، قَالُوا : مَاذَا يُرِيدُ ؟ إنّ هَذَا لَأَمْرٌ هُوَ كَائِنٌ فَانْظُرُوا مَا هُوَ ؟ فَمَا عَرَفُوهُ حَتّى كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ وَأُحُدٍ بِالشّعْبِ فَعَرَفُوا أَنّهُ الّذِي كَانَ جَاءَ إلَى صَاحِبَتِهِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْغَيْطَلَةُ مِنْ بَنِي مُرّةَ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ إخْوَةُ مُدْلِجِ بْنِ مُرّةَ وَهِيَ أُمّ الْغَيَاطِلِ الّذِينَ ذَكَرَ أَبُو طَالِبٍ فِي قَوْلِهِ
لَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلَامُ قَوْمٍ تَبَدّلُوا ... بَنِي خَلَفٍ قَيْضًا بِنَا وَالْغَيَاطِلِ
فَقِيلَ لِوَلَدِهَا : الْغَيَاطِلُ ، وَهُمْ مِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصٍ . وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَلِيّ بْنُ نَافِعٍ الْجَرْشِيّ أَنّ جَنْبًا بَطْنٌ مِنْ الْيَمَنِ ، كَانَ لَهُمْ كَاهِنٌ فِي الْجَاهِلِيّةِ فَلَمّا ذُكِرَ أَمْرُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَانْتَشَرَ فِي الْعَرَبِ ، قَالَتْ لَهُ جَنْبٌ اُنْظُرْ لَنَا فِي أَمْرِ هَذَا الرّجُلِ وَاجْتَمَعُوا لَهُ فِي أَسْفَلِ جَبَلِهِ فَنَزَلَ عَلَيْهِمْ حِينَ طَلَعَتْ الشّمْسُ فَوَقَفَ لَهُمْ قَائِمًا مُتّكِئًا عَلَى قَوْسٍ لَهُ فَرَفَعَ رَأْسَهُ إلَى السّمَاءِ طَوِيلًا ، ثُمّ جَعَلَ يَنْزُو ، ثُمّ قَالَ أَيّهَا النّاسُ إنّ اللّهَ أَكْرَمَ مُحَمّدًا وَاصْطَفَاهُ وَطَهّرَ قَلْبَهُ وَحَشَاهُ وَمُكْثُهُ فِيكُمْ أَيّهَا النّاسُ قَلِيلٌ ثُمّ اشْتَدّ فِي جَبَلِهِ رَاجِعًا مِنْ حَيْثُ جَاءَ [ ص 362 ] [ ص 363 ]
Sالْغَيْطَلَةُ الْكَاهِنَةُ وَكِهَانَتُهَا
فَصْلٌ
وَذَكَرَ حَدِيثَ الْغَيْطَلَةِ الْكَاهِنَةِ قَالَ وَهِيَ مِنْ بَنِي مُرّةَ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ أَخِي مُدْلِجٍ وَهِيَ أُمّ الْغَيَاطِلِ الّذِي ذَكَرَ أَبُو طَالِبٍ وَسَنَذْكُرُ مَعْنَى الْغَيْطَلَةِ عِنْدَ شِعْرِ أَبِي طَالِبٍ إنْ شَاءَ اللّهُ . وَنَذْكُرُهَا هَاهُنَا مَا أَلْفِيّتِهِ فِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . قَالَ الْغَيْطَلَةُ بِنْتُ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الصّعِقِ بْنِ شَنُوقِ بْنِ مُرّةَ وَشَنُوقٌ أَخُو مُدْلِجٍ وَهَكَذَا ذَكَرَ نَسَبَهَا الزّبَيْرُ . [ ص 361 ] وَذَكَرَ قَوْلَهَا : شُعُوبُ وَمَا شُعُوبْ تُصْرَعُ فِيهَا كَعْبٌ لِجُنُوبْ . كَعْبٌ هَاهُنَا هُوَ كَعْبُ بْنُ لُؤَيّ ، وَاَلّذِينَ صُرِعُوا لِجُنُوبِهِمْ بِبَدْرِ وَأُحُدٍ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ ، مُعْظَمُهُمْ مِنْ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، وَشُعُوبٌ هَاهُنَا أَحْسَبُهُ بِضَمّ الشّينِ وَلَمْ أَجِدْهُ مُقَيّدًا ، وَكَأَنّهُ جَمْعُ شَعْبٍ وَقَوْلُ ابْنِ إسْحَاقَ يَدُلّ عَلَى هَذَا حِينَ قَالَ فَلَمْ يَدْرِ مَا قَالَتْ حَتّى قُتِلَ مَنْ قُتِلَ بِبَدْرِ وَأُحُدٍ بِالشّعْبِ . وَذَكَرَ قَوْلَ التّابِعِ أَدْرِ مَا أَدْرِ وَقَيّدَ عَنْ أَبِي عَلِيّ فِيهِ رِوَايَةً أُخْرَى : وَمَا بَدْرٌ ؟ وَهِيَ أَبْيَنُ مِنْ هَذِهِ وَفِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْبَكّائِيّ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ فَاطِمَةَ بِنْتَ النّعْمَانِ النّجّارِيّةَ كَانَ لَهَا تَابِعٌ مِنْ الْجِنّ ، وَكَانَ إذَا جَاءَهَا اقْتَحَمَ عَلَيْهَا فِي بَيْتِهَا ، فَلَمّا كَانَ فِي أَوّلِ الْبَعْثِ أَتَاهَا ، فَقَعَدَ عَلَى حَائِطِ الدّارِ وَلَمْ يَدْخُلْ فَقَالَتْ لَهُ لِمَ لَا تَدْخُلُ ؟ فَقَالَ قَدْ بُعِثَ نَبِيّ بِتَحْرِيمِ الزّنَا ، فَذَلِكَ أَوّلُ مَا ذُكِرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْمَدِينَةِ [ ص 362 ]
ثَقِيفٌ وَلَهَبٌ وَالرّمْيُ بِالنّجُومِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ إنْكَارَ ثَقِيفٍ لِلرّمْيِ بِالنّجُومِ وَمَا قَالَهُ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ أَحَدُ بَنِي عِلَاجٍ إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ وَهُوَ كَلَامٌ صَحِيحُ الْمَعْنَى ، لَكِنّ فِيهِ إبْهَامًا لِقَوْلِهِ وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ هَذِهِ النّجُومُ فَهُوَ لِأَمْرِ حَدَثَ فَمَا هُوَ وَقَدْ فَعَلَ مَا فَعَلَتْ ثَقِيفٌ بَنُو لِهْبٍ عِنْدَ فَزَعِهِمْ لِلرّمْيِ بِالنّجُومِ فَاجْتَمَعُوا إلَى كَاهِنٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ خَطَرُ فَبَيّنَ لَهُمْ الْخَبَرَ ، وَمَا حَدَثَ مِنْ أَمْرِ النّبُوّةِ . رَوَى أَبُو جَعْفَرٍ الْعَقِيلِيّ فِي كِتَابِ الصّحَابَةِ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي لِهْبٍ يُقَالُ لَهُ لِهْبٌ أَوْ لُهَيْبٌ . وَقَدْ تَكَلّمْنَا عَلَى نَسَبِ لِهْبٍ فِي هَذَا الْكِتَابِ . قَالَ لُهَيْبٌ حَضَرْت مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَذَكَرْت عِنْدَهُ الْكِهَانَةَ فَقُلْت : بِأَبِي وَأُمّي : نَحْنُ أَوّلُ مَنْ عَرَفَ حِرَاسَةَ السّمَاءِ وَزَجْرَ الشّيَاطِينِ وَمَنْعَهُمْ مِنْ اسْتِرَاقِ السّمْعِ عِنْدَ قَذْفِ النّجُومِ وَذَلِكَ أَنّا اجْتَمَعْنَا إلَى كَاهِنٍ لَنَا يُقَالُ لَهُ خَطَرُ بْنُ مَالِكٍ وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا ، قَدْ أَتَتْ عَلَيْهِ مِائَتَا سَنَةٍ وَثَمَانُونَ سَنَةً وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ كُهّانِنَا ، فَقُلْنَا : يَا خَطَرُ هَلْ عِنْدَك عِلْمٌ مِنْ هَذِهِ النّجُومِ الّتِي يُرْمَى بِهَا ، فَإِنّا قَدْ فَزِعْنَا لَهَا ، وَخَشِينَا سُوءَ عَاقِبَتِهَا ؟ فَقَالَ ائْتُونِي بِسَحَرْ
أُخْبِرُكُمْ الْخَبَرْ
أَبِخَيْرِ أَمْ ضَرَرْ
أَوْ لِأَمْنِ أَوْ حَذَرْ
قَالَ فَانْصَرَفْنَا عَنْهُ يَوْمَنَا ، فَلَمّا كَانَ مِنْ غَد فِي وَجْهِ السّحَرِ أَتَيْنَاهُ فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ عَلَى قَدَمَيْهِ شَاخِصٌ فِي السّمَاءِ بِعَيْنَيْهِ فَنَادَيْنَاهُ أَخَطَرٌ يَا خَطَرُ ؟ فَأَوْمَأَ إلَيْنَا : أَنْ أَمْسِكُوا ، فَانْقَضّ نَجْمٌ عَظِيمٌ مِنْ السّمَاءِ وَصَرَخَ الْكَاهِنُ رَافِعًا صَوْتَهُ
أَصَابَهُ إصَابَة ... خَامَرَهُ عِقَابُهْ
عَاجَلَهُ عَذَابُهْ ... أَحْرَقَهُ شِهَابُهْ
زَايَلَهُ جَوَابُهْ
يَا وَيْلَهُ مَا حَالُهْ ... بَلْبَلَهُ بَلْبَالُهْ
عَاوَدَهُ خَبَالُهْ ... تَقَطّعَتْ حِبَالُهْ
وَغُيّرَتْ أَحْوَالُهْ
[ ص 363 ] أَمْسَكَ طَوِيلًا وَهُوَ يَقُولُ
يَا مَعْشَرَ بَنِي قَحْطَانِ ... أُخْبِرُكُمْ بِالْحَقّ وَالْبَيَانِ
أَقْسَمْت بِالْكَعْبَةِ وَالْأَرْكَانِ ... وَالْبَلَدِ الْمُؤْتَمَنِ السّدّانِ
لَقَدْ مُنِعَ السّمْعَ عُتَاةُ الْجَانّ ... بِثَاقِبِ بِكَفّ ذِي سُلْطَانِ
مِنْ أَجْلِ مَبْعُوثٍ عَظِيمِ الشّانِ ... يُبْعَثُ بِالتّنْزِيلِ وَالْقُرْآنِ
وَبِالْهُدَى وَفَاصِلِ الْقُرْآنِ ... تَبْطُلُ بِهِ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ
قَالَ فَقُلْنَا : وَيْحَك يَا خَطَرُ إنّك لَتَذْكُرُ أَمْرًا عَظِيمًا ، فَمَاذَا تَرَى لِقَوْمِك ؟ فَقَالَ
أَرَى لِقَوْمِي مَا أَرَى لِنَفْسِي ... أَنْ يَتّبِعُوا خَيْرَ نَبِيّ الْإِنْسِ
بُرْهَانُهُ مِثْلُ شُعَاعِ الشّمْسِ ... يُبْعَثُ فِي مَكّةَ دَارِ الْحُمْسِ
بِمُحْكَمِ التّنْزِيلِ غَيْرِ اللّبْسِ
فَقُلْنَا لَهُ يَا خَطَرُ وَمِمّنْ هُوَ ؟ فَقَالَ وَالْحَيَاةِ وَالْعَيْشِ . إنّهُ لَمِنْ قُرَيْشٍ ، مَا فِي حِلْمِهِ طَيْشٌ وَلَا فِي خُلُقِهِ هَيْشٌ يَكُونُ فِي جَيْشٍ وَأَيّ جَيْشٍ مِنْ آلِ قَحْطَانَ وَآلِ أَيْشٍ فَقُلْت لَهُ بَيّنِ لَنَا : مِنْ أَيّ قُرَيْشٍ هُوَ ؟ فَقَالَ وَالْبَيْتِ ذِي الدّعَائِمِ وَالرّكْنِ وَالْأَحَائِمِ إنّهُ لَمِنْ نَجْلِ هَاشِمٍ مِنْ مَعْشَرٍ كَرَائِمٍ يُبْعَثُ بِالْمَلَاحِمِ وَقَتْلِ كُلّ ظَالِمٍ ثُمّ قَالَ هَذَا هُوَ الْبَيَانُ أَخْبَرَنِي بِهِ رَئِيسُ الْجَانّ ثُمّ قَالَ اللّهُ أَكْبَرُ جَاءَ الْحَقّ وَظَهَرَ وَانْقَطَعَ عَنْ الْجِنّ الْخَبَرُ - ثُمّ سَكَتَ وَأُغْمِيَ عَلَيْهِ فَمَا أَفَاقَ إلّا بَعْدَ ثَلَاثَةٍ فَقَالَ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَقَدْ نَطَقَ عَنْ مِثْلِ نُبُوّةٍ وَإِنّهُ لَيُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أُمّةً وَحْدَهُ
أَصْلُ أَلْفِ إصَابَةٍ
قَالَ الْمُؤَلّفُ فِي هَذَا الْخَبَرِ قَوْلُهُ أَصَابَهُ إصَابَةً هَكَذَا قَيّدْته بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مِنْ إصَابَةٍ عَلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ طَاهِرٍ وَأَخْبَرَنِي بِهِ عَنْ أَبِي عَلِيّ الْغَسّانِيّ وَوَجْهُهُ أَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ بَدَلًا مِنْ وَاوٍ مَكْسُورَةٍ مِثْلُ وِشَاحٍ وَإِشَاحٍ [ وَوِسَادَةٍ وَإِسَادَةٍ ] ، وَالْمَعْنَى : أَصَابَهُ وَصَابَهُ جَمْعُ : وَصَبٍ مِثْلُ جَمَلٍ وَجِمَالَةٍ . [ ص 364 ]
مَعْنَى كَلِمَةِ أَيْشٍ وَالْأَحَائِمِ
وَقَوْلُهُ مِنْ آلِ قَحْطَانَ وَآلِ أَيْشٍ يَعْنِي بِآلِ قَحْطَانَ الْأَنْصَارَ ؛ لِأَنّهُمْ مِنْ قَحْطَانَ وَأَمّا آلُ أَيْشٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ قَبِيلَةً مِنْ الْجِنّ الْمُؤْمِنِينَ يُنْسَبُونَ إلَى أَيْشٍ فَإِنْ يَكُنْ هَذَا ، وَإِلّا فَلَهُ مَعْنًى فِي الْمَدْحِ غَرِيبٌ تَقُولُ فُلَانٌ أَيْشٌ هُوَ وَابْنُ أَيْشٍ وَمَعْنَاهُ أَيّ شَيْءٍ أَيْ شَيْءٌ عَظِيمٌ فَكَأَنّهُ أَرَادَ مِنْ آلِ قَحْطَانَ ، وَمِنْ الْمُهَاجِرِينَ الّذِي يُقَالُ فِيهِمْ مِثْلُ هَذَا ، كَمَا تَقُولُ هُمْ وَمَا هُمْ ؟ وَزَيْدٌ مَا زَيْدٌ وَأَيّ شَيْءٍ زَيْدٌ وَأَيْشٌ فِي مَعْنَى : أَيّ شَيْءٍ كَمَا يُقَالُ وَيْلُمّهِ فِي مَعْنَى : وَيْلُ أُمّهِ عَلَى الْحَذْفِ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَهَذَا كَمَا قَالَ هُوَ فِي جَيْشٍ أَيّمَا جَيْشٍ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَأَحْسَبُهُ أَرَادَ بِآلِ أَيْشٍ بَنِي أُقَيْشٍ وَهُمْ حُلَفَاءُ الْأَنْصَارِ مِنْ الْجِنّ ؛ فَحَذَفَ مِنْ الِاسْمِ حَرْفًا ، وَقَدْ تَفْعَلُ الْعَرَبُ مِثْلَ هَذَا ، وَقَدْ وَقَعَ ذِكْرُ بَنِي أُقَيْشٍ فِي السّيرَةِ فِي حَدِيثِ الْبَيْعَةِ . وَذِكْرُ الرّكْنِ وَالْأَحَائِمِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ الْأَحَاوِمَ بِالْوَاوِ فَهَمْزُ الْوَاوِ لِانْكِسَارِهَا ، وَالْأَحَاوِمُ جَمْعُ أَحْوَامٍ وَالْأَحْوَامُ جَمْعُ حَوْمٍ وَهُوَ الْمَاءُ فِي الْبِئْرِ فَكَأَنّهُ أَرَادَ مَاءَ زَمْزَمَ ، وَالْحَوْمُ أَيْضًا : إبِلٌ كَثِيرَةٌ تَرِدُ الْمَاءَ فَعَبّرَ بِالْأَحَائِمِ عَنْ وِرَادِ زَمْزَمَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهَا الطّيْرَ وَحَمَامَ مَكّةَ الّتِي تَحُومُ عَلَى الْمَاءِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْحَوَائِمِ وَقُلِبَ اللّفْظُ فَصَارَ بَعْدُ فَوَاعِلَ أَفَاعِلَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
حَيّ جَنْبٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ أَنّ جَنْبًا وَهُمْ حَيّ مِنْ الْيَمَنِ اجْتَمَعُوا إلَى كَاهِنٍ لَهُمْ فَسَأَلُوهُ عَنْ أَمْرِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ رَمَى بِالنّجُومِ إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ جَنْبٌ هُمْ مِنْ مَذْحِجَ ، وَهُمْ عَيّذُ اللّهِ وَأَنَسُ اللّهِ وَزَيْدُ اللّهِ وَأَوْسُ اللّهِ وَجُعْفِيّ وَالْحَكَمُ وَجِرْوَةُ بَنُو سَعْدِ الْعَشِيرَةِ بْنِ مَذْحِجَ ، وَمَذْحِجُ هُوَ مَالِكُ بْنُ أُدَدٍ وَسُمّوا : جَنْبًا لِأَنّهُمْ جَانَبُوا بَنِي عَمّهِمْ صُدَاءً وَيَزِيدَ ابْنَيْ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ بْنِ مَذْحِجَ . قَالَهُ الدّارَقُطْنِيّ . وَذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ خِلَافًا فِي أَسْمَائِهِمْ وَذَكَرَ فِيهِمْ بَنِي غَلِيّ بِالْغَيْنِ وَلَيْسَ فِي الْعَرَبِ غَلِيّ غَيْرُهُ قَالَ مُهَلْهِلٌ
أَنْكَحَهَا فَقْدُهَا الْأَرَاقِمَ فِي ... جَنْبٍ وَكَانَ الْحِبَاءُ مِنْ أَدَمْ

[ ص 364 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ كَعْبٍ [ ص 365 ] عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ ، أَنّهُ حَدّثَ أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ ، بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ، إذْ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ دَاخِلًا الْمَسْجِدَ يُرِيدُ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ ، فَلَمّا نَظَرَ إلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ إنّ هَذَا الرّجُلَ لَعَلَى شِرْكِهِ مَا فَارَقَهُ بَعْدُ أَوْ لَقَدْ كَانَ كَاهِنًا فِي الْجَاهِلِيّةِ . فَسَلّمَ عَلَيْهِ الرّجُلُ ثُمّ جَلَسَ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ هَلْ أَسْلَمْت ؟ قَالَ نَعَمْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ لَهُ فَهَلْ كُنْت كَاهِنًا فِي الْجَاهِلِيّةِ ؟ فَقَالَ الرّجُلُ سُبْحَانَ اللّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَقَدْ خِلْت فِيّ وَاسْتَقْبَلْتنِي بِأَمْرِ مَا أَرَاك قُلْته لِأَحَدِ مِنْ رَعِيّتِك مُنْذُ وُلّيت مَا وُلّيت ، فَقَالَ عُمَرُ اللّهُمّ غَفْرًا ، قَدْ كُنّا فِي الْجَاهِلِيّةِ عَلَى شَرّ مِنْ هَذَا ، نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَنَعْتَنِقُ الْأَوْثَانَ حَتّى أَكْرَمْنَا اللّهُ بِرَسُولِهِ وَبِالْإِسْلَامِ قَالَ نَعَمْ وَاَللّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَقَدْ كُنْت كَاهِنًا فِي الْجَاهِلِيّةِ قَالَ فَأَخْبِرْنِي مَا جَاءَك بِهِ صَاحِبُك ، قَالَ جَاءَنِي قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِشَهْرِ أَوْ شَيْعِهِ فَقَالَ أَلَمْ تَرَ إلَى الْجِنّ وَإِبْلَاسِهَا ، وَإِيَاسِهَا مِنْ دِينِهَا ، وَلُحُوقِهَا بِالْقِلَاصِ وَأَحْلَاسِهَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هَذَا الْكَلَامُ سَجْعٌ وَلَيْسَ بِشِعْرِ . قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ كَعْبٍ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ عِنْدَ ذَلِكَ يُحَدّثُ النّاسَ وَاَللّهِ إنّي لَعِنْدَ وَثَنٍ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيّةِ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، قَدْ ذَبَحَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ عِجْلًا ، فَنَحْنُ نَنْتَظِرُ قَسْمَهُ لِيَقْسِمَ لَنَا مِنْهُ إذْ سَمِعْت مِنْ جَوْفِ الْعِجْلِ صَوْتًا مَا سَمِعْت صَوْتًا قَطّ أَنْفَذَ مِنْهُ وَذَلِكَ قُبَيْلَ الْإِسْلَامِ بِشَهْرِ أَوْ شَيْعِهِ يَقُولُ يَا ذَرِيحُ أَمْرٌ نَجِيحٌ رَجُلٌ يَصِيحُ يَقُول : لَا إلَهَ إلّا اللّهُ [ ص 366 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ رَجُلٌ يَصِيحُ بِلِسَانِ فَصِيحٍ يَقُولُ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ . وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ .
عَجِبْت لِلْجِنّ وَإِبْلَاسِهَا ... وَشَدّهَا الْعِيسَ بِأَحْلَاسِهَا
تَهْوِي إلَى مَكّةَ تَبْغِي الْهُدَى ... مَا مُؤْمِنُو الْجِنّ كَأَنْجَاسِهَا
[ ص 367 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَهَذَا مَا بَلَغَنَا مِنْ الْكُهّانِ مِنْ الْعَرَبِ .
Sمَعْنَى خَلَتْ فِي وَشِيعَةٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ حَدِيثَ عُمَرَ وَقَوْلَهُ لِلرّجُلِ [ ص 365 ] أَكُنْت كَاهِنًا فِي الْجَاهِلِيّةِ ؟ فَقَالَ الرّجُلُ سُبْحَانَ اللّهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَقَدْ خِلْت فِيّ وَاسْتَقْبَلْتنِي بِأَمْرِ مَا أَرَاك اسْتَقْبَلْت بِهِ أَحَدًا مُنْذُ وُلّيت وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَقَوْلُهُ خِلْت فِيّ هُوَ مِنْ بَابِ حَذْفِ الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ بَعْدَ خِلْت وَظَنَنْت ، كَقَوْلِهِمْ فِي الْمَثَلِ مَنْ يَسْمَعْ يَخَلْ وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ أَحَدِ الْمَفْعُولَيْنِ مَعَ بَقَاءِ الْآخَرِ لِأَنّ حُكْمَهُمَا حُكْمُ الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ ، فَإِذَا حُذِفَتْ الْجُمْلَةُ كُلّهَا جَازَ لِأَنّ حُكْمَهُمَا حُكْمُ الْمَفْعُولِ وَالْمَفْعُولُ قَدْ يَجُوزُ حَذْفُهُ وَلَكِنْ لَا بُدّ مِنْ قَرِينَةٍ تَدُلّ عَلَى الْمُرَادِ فَفِي قَوْلِهِمْ مَنْ يَسْمَعْ يَخَلْ دَلِيلٌ يَدُلّ عَلَى الْمَفْعُولِ وَهُوَ يَسْمَعُ وَفِي قَوْلِهِ خِلْت فِيّ دَلِيلٌ أَيْضًا ، وَهُوَ قَوْلُهُ فِيّ كَأَنّهُ قَالَ خِلْت الشّرّ فِيّ أَوْ نَحْوَ هَذَا ، وَقَوْلُهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِشَهْرِ أَوْ شَيْعِهِ أَيْ دُونَهُ بِقَلِيلِ وَشَيْعُ كُلّ شَيْءٍ مَا هُوَ تَبَعٌ لَهُ وَهُوَ مِنْ الشّيَاعِ وَهِيَ حَطَبٌ صِغَارٌ تُجْعَلُ مَعَ الْكِبَارِ تَبَعًا لَهَا ، وَمِنْهُ الْمُشَيّعَةُ وَهِيَ الشّاةُ تَتْبَعُ الْغَنَمَ لِأَنّهَا دُونَهَا مِنْ الْقُوّةِ . [ ص 366 ]
جُلَيْحٌ وَسَوَادُ بْنُ قَارِبٍ
وَالصّوْتُ الّذِي سَمِعَهُ عُمَرُ مِنْ الْعِجْلِ يَا جُلَيْحٌ سَمِعْت بَعْضَ أَشْيَاخِنَا يَقُولُ هُوَ اسْمُ شَيْطَانٍ وَالْجُلَيْحُ فِي اللّغَةِ مَا تَطَايَرَ مِنْ رُءُوسِ النّبَاتِ وَخَفّ نَحْوَ الْقُطْنِ وَشِبْهِهِ وَالْوَاحِدَةُ جُلَيْحَةٌ وَاَلّذِي وَقَعَ فِي السّيرَةِ يَا ذَرِيحُ وَكَأَنّهُ نِدَاءٌ لِلْعِجْلِ الْمَذْبُوحِ لِقَوْلِهِمْ أَحْمَرُ ذَرِيحِيّ ، أَيْ شَدِيدُ الْحُمْرَةِ فَصَارَ وَصْفًا لِلْعِجْلِ الذّبِيحِ مِنْ أَجْلِ الدّمِ وَمَنْ رَوَاهُ يَا جُلَيْحُ فَمَآلُهُ إلَى هَذَا الْمَعْنَى ؛ لِأَنّ الْعِجْلَ قَدْ جُلِحَ أَيْ كُشِفَ عَنْهُ الْجِلْدُ فَاَللّهُ أَعْلَمُ وَهَذَا الرّجُلُ الّذِي كَانَ كَاهِنًا هُوَ سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ الدّوْسِيّ فِي قَوْلِ ابْنِ الْكَلْبِيّ وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ سَدُوسِيّ وَفِيهِ يَقُولُ الْقَائِلُ
أَلَا لِلّهِ عِلْمٌ لَا يُجَارَى ... إلَى الْغَايَاتِ فِي جَنْبَيْ سَوَادِ
أَتَيْنَاهُ نُسَائِلُهُ امْتِحَانًا ... فَلَمْ يَبْعَلْ وَأَخْبَرَ بِالسّدَادِ
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي شِعْرٍ وَخَبَرٍ ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيّ الْقَالِي فِي أَمَالِيهِ وَرَوَى غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ هَذَا الْخَبَرَ عَنْ عُمَرَ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ وَأَنّ عُمَرَ مَازَحَهُ فَقَالَ مَا فَعَلَتْ كِهَانَتُك يَا سَوَادُ ؟ فَغَضِبَ وَقَالَ قَدْ كُنْت أَنَا وَأَنْت عَلَى شَرّ مِنْ هَذَا مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَأَكْلِ الْمَيْتَاتِ أَفَتُعَيّرُنِي بِأَمْرِ تُبْت مِنْهُ ؟ فَقَالَ عُمَرُ حِينَئِذٍ اللّهُمّ غَفْرًا وَذَكَرَ غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ سِيَاقَةً حَسَنَةً وَزِيَادَةً مُفِيدَةً وَذَكَرَ أَنّهُ حَدّثَ عُمَرَ أَنّ رِئْيَهُ جَاءَ ثَلَاثَ لَيَالٍ مُتَوَالِيَاتٍ هُوَ فِيهَا كُلّهَا بَيْنَ النّائِمِ وَالْيَقْظَانِ فَقَالَ قُمْ يَا سَوَادُ وَاسْمَعْ مَقَالَتِي ، وَاعْقِلْ إنْ كُنْت تَعْقِلُ قَدْ بُعِثَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ يَدْعُو إلَى اللّهِ وَعِبَادَتِهِ وَأَنْشَدَهُ فِي كُلّ لَيْلَةٍ مِنْ الثّلَاثِ اللّيَالِي ثَلَاثَةَ أَبْيَاتٍ مَعْنَاهَا وَاحِدٌ وَقَافِيَتُهَا مُخْتَلِفَةٌ
عَجِبْت لِلْجِنّ وَتَطْلَابِهَا ... وَشَدّهَا الْعِيسَ بِأَقْتَابِهَا
تَهْوِي إلَى مَكّةَ تَبْغِي الْهُدَى ... مَا صَادِقُ الْجِنّ كَكَذّابِهَا
فَارْحَلْ إلَى الصّفْوَةِ مِنْ هَاشِمٍ ... لَيْسَ قُدَامَاهَا كَأَذْنَابِهَا
وَقَالَ لَهُ فِي الثّانِيَةِ [ ص 367 ]
عَجِبْت لِلْجِنّ وَإِبْلَاسِهَا ... وَشَدّهَا الْعِيسَ بِأَحْلَاسِهَا
تَهْوِي إلَى مَكّةَ تَبْغِي الْهُدَى ... مَا طَاهِرُ الْجِنّ كَأَنْجَاسِهَا
فَارْحَلْ إلَى الصّفْوَةِ مِنْ هَاشِمٍ ... لَيْسَ ذُنَابَى الطّيْرِ مِنْ رَأْسِهَا
وَقَالَ لَهُ فِي الثّالِثَةِ
عَجِبْت لِلْجِنّ وَتَنْفَارِهَا ... وَشَدّهَا الْعِيسَ بِأَكْوَارِهَا
تَهْوِي إلَى مَكّةَ تَبْغِي الْهُدَى ... مَا مُؤْمِنُ الْجِنّ كَكُفّارِهَا
فَارْحَلْ إلَى الْأَتْقَيْنِ مِنْ هَاشِمٍ ... لَيْسَ قُدَامَاهَا كَأَدْبَارِهَا
وَذَكَرَ تَمَامَ الْخَبَرِ ، وَفِي آخِرِ شِعْرِ سَوَادٍ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَأَنْشَدَهُ مَا كَانَ مِنْ الْجِنّيّ رِئْيَةَ ثَلَاثِ لَيَالٍ مُتَوَالِيَاتٍ وَذَلِكَ قَوْلُهُ
أَتَانِي نَجِيّي بَعْدَ هَدْءٍ وَرَقْدَةٍ ... وَلَمْ يَكُ فِيمَا قَدْ بَلَوْت بِكَاذِبِ
ثَلَاثَ لَيَالٍ قَوْلُهُ كُلّ لَيْلَةٍ ... أَتَاك نَبِيّ مِنْ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ
فَرَفّعْت أَذْيَالَ الْإِزَارِ وَشَمّرَتْ ... بِي الْعِرْمِسُ الْوَجْنَا هُجُولُ السّبَاسِبِ
فَأَشْهَدُ أَنّ اللّهَ لَا شَيْءَ غَيْرُهُ ... وَأَنّك مَأْمُونٌ عَلَى كُلّ غَائِبِ
وَأَنّك أَدْنَى الْمُرْسَلِينَ وَسِيلَةً ... إلَى اللّهِ يَا بْنَ الْأَكْرَمِينَ الْأَطَايِبِ
فَمُرْنَا بِمَا يَأْتِيك مِنْ وَحْيِ رَبّنَا ... وَإِنْ كَانَ فِيمَا جِئْت شَيْبُ الذّوَائِبِ
وَكُنْ لِي شَفِيعًا يَوْمَ لَا ذُو شَفَاعَةٍ ... بِمُغْنٍ فَتِيلًا عَنْ سَوَادِ بْنِ قَارِبِ
سَوَادٌ وَدَوْسٌ عِنْدَ وَفَاةِ الرّسُولِ " صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ "
وَلِسَوَادِ بْنِ قَارِبٍ هَذَا مَقَامٌ حَمِيدٌ فِي دَوْسٍ حِينَ بَلَغَهُمْ وَفَاةُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَامَ حِينَئِذٍ سَوَادٌ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الْأَزْدِ ، إنّ مِنْ سَعَادَةِ الْقَوْمِ أَنْ يَتّعِظُوا بِغَيْرِهِمْ وَمِنْ شَقَائِهِمْ أَلّا يَتّعِظُوا إلّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَنْ لَمْ تَنْفَعْهُ التّجَارِبُ ضَرّتْهُ وَمَنْ لَمْ يَسَعْهُ الْحَقّ لَمْ يَسَعْهُ الْبَاطِلُ وَإِنّمَا تُسْلِمُونَ الْيَوْمَ بِمَا أَسْلَمْتُمْ بِهِ أَمْسِ وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَدْ تَنَاوَلَ قَوْمًا أَبْعَدَ [ ص 368 ] فَظَفِرَ بِهِمْ وَأَوْعَدَ قَوْمًا أَكْثَرَ مِنْكُمْ فَأَخَافَهُمْ وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْكُمْ عِدّةٌ وَلَا عَدَدٌ وَكُلّ بَلَاءٍ مَنْسِيّ إلّا بَقِيَ أَثَرُهُ فِي النّاسِ وَلَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْبَلَاءِ إلّا أَنْ يَكُونُوا أَذْكَرَ مِنْ أَهْلِ الْعَافِيَةِ لِلْعَافِيَةِ وَإِنّمَا كَفّ نَبِيّ اللّهِ عَنْكُمْ مَا كَفّكُمْ عَنْهُ فَلَمْ تَزَالُوا خَارِجِينَ مِمّا فِيهِ أَهْلُ الْبَلَاءِ دَاخِلِينَ مِمّا فِيهِ أَهْلُ الْعَافِيَةِ حَتّى قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - خَطِيبُكُمْ وَنَقِيبُكُمْ فَعَبّرَ الْخَطِيبُ عَنْ الشّاهِدِ وَنَقّبَ النّقِيبُ عَنْ الْغَائِبِ وَلَسْت أَدْرِي لَعَلّهُ تَكُونُ لِلنّاسِ جَوْلَةٌ فَإِنْ تَكُنْ فَالسّلَامَةُ مِنْهَا : الْأَنَاةُ وَاَللّهُ يُحِبّهَا ، فَأَحِبّوهَا ، فَأَجَابَهُ الْقَوْمُ وَسَمِعُوا قَوْلَهُ فَقَالَ فِي ذَلِكَ سَوَادُ بْنُ قَارِبٍ
جَلّتْ مُصِيبَتُك الْغَدَاةَ سَوَادُ ... وَأَرَى الْمُصِيبَةَ بَعْدَهَا تَزْدَادُ
أَبْقَى لَنَا فَقْدُ النّبِيّ مُحَمّدٍ ... - صَلّى الْإِلَهُ عَلَيْهِ - مَا يُعْتَادُ
حُزْنًا لَعَمْرُك فِي الْفُؤَادِ مُخَامِرًا ... أَوْ هَلْ لِمَنْ فَقَدَ النّبِيّ فُؤَادُ ؟
كُنّا نَحُلّ بِهِ جَنَابًا مُمْرِعًا ... جَفّ الْجَنَابُ فَأَجْدَبَ الرّوّادُ
فَبَكَتْ عَلَيْهِ أَرْضُنَا وَسَمَاؤُنَا ... وَتَصَدّعَتْ وَجْدًا بِهِ الْأَكْبَادُ
قَلّ الْمَتَاعُ بِهِ وَكَانَ عِيَانُهُ ... حُلْمًا تَضَمّنَ سَكَرَتَيْهِ رُقَادُ
كَانَ الْعِيَانُ هُوَ الطّرِيفَ وَحُزْنُهُ ... بَاقٍ لَعَمْرُك فِي النّفُوسِ تِلَادُ
إنّ النّبِيّ وَفَاتُهُ كَحَيَاتِهِ ... الْحَقّ حَقّ وَالْجِهَادُ جِهَادُ
لَوْ قِيلَ تَفْدُونَ النّبِيّ مُحَمّدًا ... بُذِلَتْ لَهُ الْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ
وَتَسَارَعَتْ فِيهِ النّفُوسُ بِبَذْلِهَا ... هَذَا لَهُ الْأَغْيَابُ وَالْأَشْهَادُ
هَذَا ، وَهَذَا لَا يَرُدّ نَبِيّنَا ... لَوْ كَانَ يَفْدِيهِ فَدَاهُ سَوَادُ
أَنّى أُحَاذِرُ وَالْحَوَادِثُ جَمّةٌ ... أَمْرًا لِعَاصِفِ رِيحِهِ إرْعَادُ
إنْ حَلّ مِنْهُ مَا يُخَافُ فَأَنْتُمْ ... لِلْأَرْضِ - إنْ رَجَفَتْ بِنَا - أَوْتَادُ
لَوْ زَادَ قَوْمٌ فَوْقَ مُنْيَةِ صَاحِبٍ ... زِدْتُمْ وَلَيْسَ لِمُنْيَةِ مُزْدَادُ
[ ص 369 ]
كَاهِنَةُ قُرَيْشٍ
فَأَعْجَبَ الْقَوْمَ شِعْرُهُ وَقَوْلُهُ فَأَجَابُوا إلَى مَا أَحَبّ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ خَبَرُ سَوْدَاءَ بِنْتِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ ، وَذَلِكَ أَنّهَا حِينَ وُلِدَتْ وَرَآهَا أَبُوهَا زَرْقَاءَ شَيْمَاءَ أَمَرَ بِوَأْدِهَا ، وَكَانُوا يَئِدُونَ مِنْ الْبَنَاتِ مَا كَانَ عَلَى هَذِهِ الصّفَةِ فَأَرْسَلَهَا إلَى الْحَجُونِ لِتُدْفَنَ هُنَاكَ فَلَمّا حَفَرَ لَهَا الْحَافِرُ وَأَرَادَ دَفْنَهَا سَمِعَ هَاتِفًا يَقُولُ لَا تَئِدَنّ الصّبِيّة ، وَخَلّهَا فِي الْبَرّيّة ، فَالْتَفَتَ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا ، فَعَادَ لِدَفْنِهَا ، فَسَمِعَ الْهَاتِفَ يَهْتِفُ بِسَجْعِ آخَرَ فِي الْمَعْنَى ، فَرَجَعَ إلَى أَبِيهَا ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا سَمِعَ فَقَالَ إنّ لَهَا لَشَأْنًا ، وَتَرَكَهَا ، فَكَانَتْ كَاهِنَةَ قُرَيْشٍ ، فَقَالَتْ يَوْمًا لِبَنِي زُهْرَةَ إنّ فِيكُمْ نَذِيرَةً أَوْ تَلِدُ نَذِيرًا ، فَاعْرِضُوا عَلَيّ بَنَاتِكُمْ فَعُرِضْنَ عَلَيْهَا ، فَقَالَتْ فِي كُلّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنّ قَوْلًا ظَهَرَ بَعْدَ حِينٍ حَتّى عُرِضَتْ عَلَيْهَا آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبٍ فَقَالَتْ هَذِهِ النّذِيرَةُ أَوْ تَلِدُ نَذِيرًا ، وَهُوَ خَبَرٌ طَوِيلٌ ذَكَرَ الزّبَيْرُ مِنْهُ يَسِيرًا ، وَأَوْرَدَهُ بِطُولِهِ أَبُو بَكْرٍ النّقّاشُ وَفِيهِ ذَكَرَ جَهَنّمَ - أَعَاذَنَا اللّهُ مِنْهَا - وَلَمْ يَكُنْ اسْمُ جَهَنّمَ مَسُوغًا بِهِ عِنْدَهُمْ فَقَالُوا لَهَا : وَمَا جَهَنّمُ فَقَالَتْ سَيُخْبِرُكُمْ النّذِيرُ عَنْهَا .

إنْذَارُ يَهُودَ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
[ ص 368 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي [ ص 369 ] عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِ قَالُوا : إنّ مِمّا دَعَانَا إلَى الْإِسْلَامِ ، مَعَ رَحْمَةِ اللّهِ تَعَالَى وَهُدَاهُ لَمّا كُنّا نَسْمَعُ مِنْ رِجَالِ يَهُودَ كُنّا أَهْلَ شِرْكٍ أَصْحَابَ أَوْثَانٍ وَكَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ لَيْسَ لَنَا ، وَكَانَتْ لَا تَزَالُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ شُرُورٌ فَإِذَا نِلْنَا مِنْهُمْ بَعْضَ مَا يَكْرَهُونَ قَالُوا لَنَا : إنّهُ تَقَارَبَ زَمَانُ نَبِيّ يُبْعَثُ الْآنَ نَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ ، فَكُنّا كَثِيرًا مَا نَسْمَعُ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَلَمّا بَعَثَ اللّهُ رَسُولَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَجَبْنَاهُ حِينَ دَعَانَا إلَى اللّهِ تَعَالَى ، وَعَرَفْنَا مَا كَانُوا يَتَوَعّدُونَنَا بِهِ فَبَادَرْنَاهُمْ إلَيْهِ فَآمَنّا بِهِ وَكَفَرُوا بِهِ فَفِينَا وَفِيهِمْ نَزَلَ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ مِنْ الْبَقَرَةِ { وَلَمّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ } [ الْبَقَرَةُ 79 ] . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : يَسْتَفْتِحُونَ يَسْتَنْصِرُونَ وَيَسْتَفْتِحُونَ أَيْضًا : يَتَحَاكَمُونَ وَفِي كِتَابِ اللّهِ تَعَالَى : { رَبّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } [ الْأَعْرَافُ 89 ] . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيَدٍ أَخِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ سَلَامَةَ بْنِ وَقّشٍ - وَكَانَ سَلَمَةُ مِنْ [ ص 370 ] أَصْحَابُ بَدْرٍ - قَالَ كَانَ لَنَا جَارٌ مِنْ يَهُودَ فِي بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ قَالَ فَخَرَجَ عَلَيْنَا يَوْمًا مِنْ بَيْتِهِ حَتّى وَقَفَ عَلَى بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ - قَالَ سَلَمَةُ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ أَحْدَثُ مَنْ فِيهِ سِنّا ، عَلَيّ بُرْدَةٍ لِي ، مُضْطَجِعٌ فِيهَا بِفِنَاءِ أَهْلِي - فَذَكَرَ الْقِيَامَةَ وَالْبَعْثَ وَالْحِسَابَ وَالْمِيزَانَ وَالْجَنّةَ وَالنّارَ قَالَ فَقَالَ ذَلِكَ لِقَوْمِ أَهْلِ شِرْكٍ أَصْحَابِ أَوْثَانٍ لَا يَرَوْنَ أَنّ بَعْثًا كَائِنٌ بَعْدَ الْمَوْتِ فَقَالُوا لَهُ وَيْحَك يَا فُلَانُ أَوَتَرَى هَذَا كَائِنًا ، أَنّ النّاس يُبْعَثْنَ بَعْدَ مَوْتِهِمْ إلَى دَارٍ فِيهَا جَنّةٌ وَنَارٌ يُجْزَوْنَ فِيهَا بِأَعْمَالِهِمْ ؟ قَالَ نَعَمْ وَاَلّذِي يَحْلِفُ بِهِ وَيَوَدّ أَنّ لَهُ بِحَظّهِ مِنْ تِلْكَ النّارِ أَعْظَمُ تَنّورٍ فِي الدّارِ يَحْمُونَهُ ثُمّ يُدْخِلُونَهُ إيّاهُ فَيُطِيعُونَهُ عَلَيْهِ بِأَنْ يَنْجُوَ مِنْ تِلْكَ النّارِ غَدًا ، فَقَالُوا لَهُ وَيْحَك يَا فُلَانُ فَمَا آيَةُ ذَلِكَ ؟ قَالَ نَبِيّ مَبْعُوثٌ مِنْ نَحْوِ هَذِهِ الْبِلَادِ - وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى مَكّةَ وَالْيَمَنِ - فَقَالُوا : وَمَتَى تَرَاهُ ؟ قَالَ فَنَظَرَ إلَيّ وَأَنَا مِنْ أَحْدَثِهِمْ سِنّا ، فَقَالَ إنْ يَسْتَنْفِدْ هَذَا الْغُلَامُ عُمْرَهُ يُدْرِكْهُ . قَالَ سَلَمَةُ فَوَاَللّهِ مَا ذَهَبَ اللّيْلُ وَالنّهَارُ حَتّى بَعَثَ اللّهُ مُحَمّدًا رَسُولَهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ حَيّ بَيْنَ أَظْهُرِنَا ، فَآمَنّا بِهِ وَكَفَرَ بِهِ بَغْيًا وَحَسَدًا . قَالَ فَقُلْنَا لَهُ وَيْحَك يَا فُلَانُ أَلَسْت الّذِي قُلْت لَنَا فِيهِ مَا قُلْت ؟ قَالَ بَلَى . وَلَكِنْ لَيْسَ بِهِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ شَيْخٍ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ قَالَ لِي : هَلْ تَدْرِي عَمّ كَانَ إسْلَامُ ثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْيَةَ وَأُسَيْدِ بْنِ سَعْيَةَ وَأَسَدِ بْنِ عُبَيْدٍ نَفَرٌ مِنْ بَنِي هَدَلْ إخْوَةُ بَنِي قُرَيْظَةَ كَانُوا مَعَهُمْ فِي جَاهِلِيّتِهِمْ ثُمّ كَانُوا سَادَاتِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ . قَالَ قُلْت : لَا ، قَالَ فَإِنّ رَجُلًا مِنْ يَهُودَ مِنْ أَهْلِ الشّامِ ، يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْهَيْبَانِ قَدِمَ عَلَيْنَا قُبَيْلَ الْإِسْلَامِ بِسِنِينَ فَحَلّ بَيْنَ أَظْهُرِنَا ، لَا وَاَللّهِ مَا رَأَيْنَا رَجُلًا قَطّ لَا يُصَلّي الْخَمْسَ [ ص 371 ] أَفْضَلَ مِنْهُ فَأَقَامَ عِنْدَنَا فَكُنّا إذَا قَحَطَ عَنّا الْمَطَرُ قُلْنَا لَهُ اُخْرُجْ يَا بْنَ الْهَيّبَانِ فَاسْتَسْقِ لَنَا ، فَيَقُولُ لَا وَاَللّهِ حَتّى تُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَيْ مَخْرَجِكُمْ صَدَقَةً فَنَقُولُ لَهُ كَمْ ؟ فَيَقُولُ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ مُدّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ . قَالَ فَنُخْرِجُهَا ، ثُمّ يَخْرُجُ بِنَا إلَى ظَاهِرِ حَرّتِنَا ، فَيَسْتَسْقِي اللّهَ لَنَا . فَوَاَللّهِ مَا يَبْرَحُ مَجْلِسَهُ حَتّى تَمُرّ السّحَابَةُ وَنُسْقَى ، قَدْ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرَ مَرّةٍ وَلَا مَرّتَيْنِ وَلَا ثَلَاثٍ . قَالَ ثُمّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ عِنْدَنَا . فَلَمّا عَرَفَ أَنّهُ مَيّتٌ قَالَ يَا مَعْشَرَ يَهُودَ مَا تَرَوْنَهُ أَخْرَجَنِي مِنْ أَرْضِ الْخَمْرِ وَالْخَمِيرِ إلَى أَرْضِ الْبُؤْسِ وَالْجُوعِ ؟ قَالَ قُلْنَا : إنّك أَعْلَمُ قَالَ فَإِنّي إنّمَا قَدِمْت هَذِهِ الْبَلْدَةَ أَتَوَكّفُ خُرُوجَ نَبِيّ قَدْ أَظَلّ زَمَانُهُ وَهَذِهِ الْبَلْدَةُ مُهَاجَرُهُ فَكُنْت أَرْجُو أَنْ يُبْعَثَ فَأَتّبِعُهُ وَقَدْ أَظَلّكُمْ زَمَانُهُ فَلَا تُسْبَقُنّ إلَيْهِ يَا مَعْشَرَ يَهُودَ فَإِنّهُ يُبْعَثُ بِسَفْكِ الدّمَاءِ وَسَبْيِ الذّرَارِيّ وَالنّسَاءِ مِمّنْ خَالَفَهُ فَلَا يَمْنَعُكُمْ ذَلِكَ مِنْهُ . فَلَمّا بُعِثَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَحَاصَرَ بَنِي قُرَيْظَةَ قَالَ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةُ وَكَانُوا شَبَابًا أَحْدَاثًا : يَا بَنِي قُرَيْظَةَ وَاَللّهِ إنّهُ لَلنّبِيّ الّذِي كَانَ عَهِدَ إلَيْكُمْ فِيهِ ابْنُ الْهَيّبَانِ قَالُوا : لَيْسَ بِهِ [ ص 372 ] قَالُوا : بَلَى وَاَللّهِ إنّهُ لَهُوَ بِصِفَتِهِ فَنَزَلُوا وَأَسْلَمُوا ، وَأَحْرَزُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَبِهَذَا مَا بَلَغَنَا عَنْ أَخْبَارِ يَهُودَ .
Sحَدِيثُ سَلَمَةَ فَصْلٌ وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ حَدِيثَ سَلَمَةَ بْنِ سَلَامَةَ بْنِ وَقّشٍ ، وَمَا سَمِعَ مِنْ الْيَهُودِيّ حِينَ ذَكَرَ الْجَنّةَ وَالنّارَ وَقَالَ آيَةُ ذَلِكَ نَبِيّ : مَبْعُوثٌ قَدْ أَظَلّ زَمَانُهُ إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ وَلَيْسَ فِيهِ إشْكَالٌ وَابْنُ وَقّشٍ يُقَالُ فِيهِ وَقَشٌ بِتَحْرِيكِ الْقَافِ وَتَسْكِينِهَا ، وَالْوَقْشُ الْحَرَكَةُ . [ ص 370 ]
حَدِيثُ ابْنِ الْهَيّبَانِ وَبَنُو سَعْيَةَ
فَصْلٌ وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ الْهَيّبَانِ وَمَا بَشّرَ بِهِ مِنْ أَمْرِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأَنّ ذَلِكَ كَانَ سَبَبَ إسْلَامِ ثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْيَةَ وَأُسَيْدِ بْنِ سَعْيَةَ وَأَسَدِ بْنِ سَعْيَةَ ، وَهُمْ مِنْ بَنِي هَدَلْ وَالْهَيْبَانُ مِنْ الْمُسَمّيْنَ بِالصّفَاتِ يُقَالُ قُطْنٌ هَيّبَانُ أَيْ مُنْتَفِشٌ وَأَنْشَدَ أَبُو حَنِيفَةَ
تُطِيرُ اللّغَامَ الْهَيّبَانَ كَأَنّهُ ... جَنَى عُشَرٍ تَنْفِيهِ أَشْدَاقُهَا الْهُدْلِ
وَالْهَيّبَانُ أَيْضًا : الْجَبَانُ وَقَدْ قَدّمْنَا الِاخْتِلَافَ فِي هَدَلْ وَأَمّا أُسَيْدُ بْنُ سَعْيَةَ ، فَقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الْمَدَنِيّ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَهُوَ أَحَدُ [ ص 371 ] أُسَيْدُ بْنُ سَعْيَةَ بِضَمّ الْأَلِفِ وَقَالَ يُونُسُ بْن بُكَيْرٍ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَهُوَ قَوْلُ الْوَاقِدِيّ وَغَيْرِهِ أَسِيدٌ بِفَتْحِهَا قَالَ الدّارَقُطْنِيّ : وَهَذَا هُوَ الصّوَابُ وَلَا يَصِحّ مَا قَالَهُ إبْرَاهِيمُ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَبَنُو سَعْيَةَ هَؤُلَاءِ فِيهِمْ أَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمّةٌ قَائِمَةٌ } [ آلُ عِمْرَانَ : 113 ] الْآيَةُ وَسَعْيَةُ أَبُوهُمْ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْعَرِيضِ ، وَهُوَ بِالسّينِ الْمُهْمَلَةِ وَالْيَاءِ الْمَنْقُوطَةِ بِاثْنَيْنِ .
سُعْنَةُ الْحَبْرِ وَإِسْلَامُهُ
وَأَمّا سُعْنَةُ بِالنّونِ فَزَيْدُ بْنُ سُعْنَةَ حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ يَهُودَ كَانَ قَدْ دَايَنَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَجَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ قَبْلَ الْأَجَلِ فَقَالَ أَلَا تَقْضِينِي يَا مُحَمّدُ فَإِنّكُمْ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ مُطْلٌ وَمَا أَرَدْت إلّا أَنْ أَعْلَمَ عِلْمَكُمْ فَارْتَعَدَ عُمَرُ وَدَارَ كَأَنّهُ فِي فَلَكٍ وَجَعَلَ يَلْحَظُ يَمِينًا وَشِمَالًا ، وَقَالَ تَقُولُ هَذَا لِرَسُولِ اللّهِ يَا عَدُوّ اللّهِ ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّا إلَى غَيْرِ هَذَا مِنْك أَحْوَجُ يَا عُمَرُ أَنْ تَأْمُرَنِي بِحُسْنِ الْأَدَاءِ وَتَأْمُرَهُ بِحُسْنِ التّبِعَةِ قُمْ فَاقْضِهِ عَنّي ، فَوَاَللّهِ مَا حَلّ الْأَجَلُ وَزِدْهُ عِشْرِينَ صَاعًا بِمَا رَوّعْته وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنّهُ قَالَ دَعْهُ فَإِنّ لِصَاحِبِ الْحَقّ مَقَالًا وَيُذْكَرُ أَنّهُ أَسْلَمَ لَمّا رَأَى مِنْ مُوَافَقَةِ وَصْفِ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ لِمَا كَانَ عِنْدَهُ فِي التّوْرَاةِ ، وَكَانَ يَجِدُهُ مَوْصُوفًا بِالْحِلْمِ فَلَمّا رَأَى مِنْ حِلْمِهِ مَا رَأَى أَسْلَمَ ، وَتُوُفّيَ غَازِيًا مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ ، وَيُقَالُ فِي اسْمِهِ سَعْيَةُ بِالْيَاءِ كَمَا فِي الْأَوّلِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ الدّارَقُطْنِيّ إلّا بِالنّونِ .

حَدِيثُ إسْلَامِ سَلْمَانَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيّ ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيَدٍ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ حَدّثَنِي سَلْمَانُ الْفَارِسِيّ مِنْ فِيهِ قَالَ كُنْت رَجُلًا فَارِسِيّا مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا : جَيّ ، وَكَانَ أَبِي دِهْقَانَ قَرْيَتِهِ وَكُنْت أَحَبّ خَلْقِ اللّهِ إلَيْهِ لَمْ يَزَلْ بِهِ حُبّهُ إيّايَ حَتّى حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ كَمَا تُحْبَسُ الْجَارِيَةُ وَاجْتَهَدْت فِي الْمَجُوسِيّةِ حَتّى كُنْت قَطَنَ النّارِ الّذِي يُوقِدُهَا ، لَا يَتْرُكُهَا تَخْبُو سَاعَةً . قَالَ وَكَانَتْ لِأَبِي ضَيْعَةٌ عَظِيمَةٌ قَالَ فَشُغِلَ فِي بُنْيَانٍ لَهُ يَوْمًا ، فَقَالَ لِي : يَا بُنَيّ إنّي قَدْ شُغِلْت فِي بُنْيَانِي هَذَا الْيَوْمَ عَنْ ضَيْعَتِي ، فَاذْهَبْ إلَيْهَا ، فَاطّلِعْهَا - وَأَمَرَنِي فِيهَا بِبَعْضِ مَا يُرِيدُ - ثُمّ قَالَ لِي : وَلَا تَحْتَبِسْ عَنّي ؛ فَإِنّك إنْ احْتَبَسْت عَنّي كُنْت أَهَمّ إلَيّ مِنْ ضَيْعَتِي ، وَشَغَلْتنِي عَنْ كُلّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِي . قَالَ فَخَرَجْت أُرِيدُ ضَيْعَتَهُ الّتِي بَعَثَنِي إلَيْهَا ، فَمَرَرْت بِكَنِيسَةِ مِنْ كَنَائِسِ النّصَارَى ، فَسَمِعْت أَصْوَاتَهُمْ فِيهَا وَهُمْ يُصَلّونَ وَكُنْت لَا أَدْرِي مَا أَمْرُ النّاسِ لِحَبْسِ أَبِي إيّايَ فِي بَيْتِهِ فَلَمّا سَمِعْت أَصْوَاتَهُمْ دَخَلْت عَلَيْهِمْ أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُونَ فَلَمّا رَأَيْتهمْ أَعْجَبَتْنِي صَلَاتُهُمْ وَرَغِبْت فِي أَمْرِهِمْ وَقُلْت : هَذَا وَاَللّهِ خَيْرٌ مِنْ الدّينِ الّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ فَوَاَللّهِ مَا بَرِحْتُهُمْ حَتّى غَرَبَتْ الشّمْسُ وَتَرَكْت ضَيْعَةَ أَبِي فَلَمْ آتِهَا ، ثُمّ قُلْت لَهُمْ أَيْنَ أَصِلُ هَذَا الدّينَ ؟ قَالُوا : بِالشّامِ . فَرَجَعْت إلَى أَبِي ، وَقَدْ بَعَثَ فِي طَلَبِي ، وَشَغَلْته عَنْ عَمَلِهِ كُلّهِ فَلَمّا جِئْته قَالَ أَيْ بُنَيّ أَيْنَ كُنْت ؟ أَوَلَمْ أَكُنْ عَهِدْت إلَيْك مَا عَهِدْت ؟ قَالَ قُلْت لَهُ يَا أَبَتْ مَرَرْت بِأُنَاسِ يُصَلّونَ فِي كَنِيسَةٍ لَهُمْ فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْت مِنْ دِينِهِمْ فَوَاَللّهِ مَا زِلْت عِنْدَهُمْ حَتّى غَرَبَتْ الشّمْسُ قَالَ أَيْ بُنَيّ لَيْسَ فِي ذَلِكَ الدّينِ خَيْرٌ دِينُك ، وَدِينُ آبَائِك خَيْرٌ مِنْهُ قَالَ قُلْت لَهُ كَلّا وَاَللّهِ إنّهُ لَخَيْرٌ مِنْ دِينِنَا . قَالَ فَخَافَنِي ، فَجَعَلَ فِي رِجْلِي قَيْدًا ، ثُمّ حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ . [ ص 373 ] قَالَ وَبَعَثْت إلَى النّصَارَى فَقُلْت لَهُمْ إذَا قَدِمَ عَلَيْكُمْ رَكْبٌ مِنْ الشّامِ فَأَخْبِرُونِي بِهِمْ . قَالَ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ رَكْبٌ مِنْ الشّامِ تُجّارٌ مِنْ النّصَارَى ، فَأَخْبَرُونِي بِهِمْ فَقُلْت لَهُمْ إذَا قَضَوْا حَوَائِجَهُمْ وَأَرَادُوا الرّجْعَةَ إلَى بِلَادِهِمْ فَآذِنُونِي بِهِمْ قَالَ فَلَمّا أَرَادُوا الرّجْعَةَ إلَى بِلَادِهِمْ أَخْبَرُونِي بِهِمْ فَأَلْقَيْت الْحَدِيدَ مِنْ رِجْلِي ، ثُمّ خَرَجْت مَعَهُمْ حَتّى قَدِمْت الشّامَ فَلَمّا قَدِمْتهَا قُلْت : مَنْ أَفْضَلُ أَهْلِ هَذَا الدّينِ عِلْمًا ؟ قَالُوا : الْأُسْقُفُ فِي الْكَنِيسَةِ . قَالَ فَجِئْته ، فَقُلْت لَهُ إنّي قَدْ رَغِبْت فِي هَذَا الدّينِ فَأَحْبَبْت أَنْ أَكُونَ مَعَك ، وَأَخْدُمَك فِي كَنِيسَتِك ، فَأَتَعَلّمُ مِنْك ، وَأُصَلّي مَعَك ، قَالَ اُدْخُلْ فَدَخَلْت مَعَهُ . قَالَ وَكَانَ رَجُلَ سَوْءٍ يَأْمُرُهُمْ بِالصّدَقَةِ وَيُرَغّبُهُمْ فِيهَا ، فَإِذَا جَمَعُوا إلَيْهِ شَيْئًا مِنْهَا اكْتَنَزَهُ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِهِ الْمَسَاكِينَ حَتّى جَمَعَ سَبْعَ قِلَالٍ مِنْ ذَهَبٍ وَوَرِقٍ . قَالَ فَأَبْغَضْته بُغْضًا شَدِيدًا ، لِمَا رَأَيْته يَصْنَعُ ثُمّ مَاتَ فَاجْتَمَعَتْ إلَيْهِ النّصَارَى ، لِيَدْفِنُوهُ فَقُلْت لَهُمْ إنّ هَذَا كَانَ رَجُلَ سَوْءٍ يَأْمُرُكُمْ بِالصّدَقَةِ وَيُرَغّبُكُمْ فِيهَا ، فَإِذَا جِئْتُمُوهُ بِهَا ، اكْتَنَزَهَا لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِ الْمَسَاكِينَ مِنْهَا شَيْئًا . قَالَ فَقَالُوا لِي : وَمَا عِلْمُك بِذَلِكَ ؟ قَالَ قُلْت لَهُمْ أَنَا أَدُلّكُمْ عَلَى كَنْزِهِ قَالُوا : فَدُلّنَا عَلَيْهِ قَالَ فَأَرَيْتهمْ مَوْضِعَهُ فَاسْتَخْرَجُوا سَبْعَ قِلَالٍ مَمْلُوءَةٍ ذَهَبًا وَوَرِقًا ، قَالَ فَلَمّا رَأَوْهَا قَالُوا : وَاَللّهِ لَا نَدْفِنُهُ أَبَدًا . قَالَ فَصَلَبُوهُ وَرَجَمُوهُ بِالْحِجَارَةِ وَجَاءُوا بِرَجُلِ آخَرَ فَجَعَلُوهُ مَكَانَهُ . قَالَ يَقُولُ سَلْمَانُ فَمَا رَأَيْت رَجُلًا لَا يُصَلّي الْخَمْسَ أَرَى أَنّهُ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ وَأَزْهَدَ فِي الدّنْيَا ، وَلَا أَرْغَبَ فِي الْآخِرَةِ وَلَا أَدْأَبَ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا مِنْهُ . قَالَ فَأَحْبَبْته حُبّا لَمْ أُحِبّهُ قَبْلَهُ مِثْلَهُ . قَالَ فَأَقَمْت مَعَهُ زَمَانًا ، ثُمّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَقُلْت لَهُ يَا فُلَانُ إنّي قَدْ كُنْت مَعَك ، وَأَحْبَبْتُك حُبّا لَمْ أُحِبّهُ شَيْئًا قَبْلَك ، وَقَدْ حَضَرَك مَا تَرَى مِنْ أَمْرِ اللّهِ تَعَالَى ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي ؟ وَبِمَ تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ أَيْ بُنَيّ وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُ الْيَوْمَ أَحَدًا عَلَى مَا كُنْت عَلَيْهِ فَقَدْ هَلَكَ النّاسُ وَبَدّلُوا وَتَرَكُوا أَكْثَرَ مَا كَانُوا عَلَيْهِ إلّا رَجُلًا بِالْمَوْصِلِ وَهُوَ فُلَانٌ وَهُوَ عَلَى مَا كُنْت عَلَيْهِ فَالْحَقْ بِهِ . [ ص 374 ] الْمَوْصِلِ ، فَقُلْت لَهُ يَا فُلَانُ إنّ فُلَانًا أَوْصَانِي عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ أَلْحَقَ بِك ، وَأَخْبَرَنِي أَنّك عَلَى أَمْرِهِ قَالَ فَقَالَ لِي : أَقِمْ عِنْدِي ، فَأَقَمْت عِنْدَهُ فَوَجَدْته خَيْرَ رَجُلٍ عَلَى أَمْرِ صَاحِبِهِ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ فَلَمّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قُلْت لَهُ يَا فُلَانُ إنّ فُلَانًا أَوْصَى بِي إلَيْك ، وَأَمَرَنِي بِاللّحُوقِ بِك ، وَقَدْ حَضَرَك مِنْ أَمْرِ اللّهِ مَا تَرَى ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي ؟ وَبِمَ تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ يَا بُنَيّ وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُ رَجُلًا عَلَى مِثْلِ مَا كُنّا عَلَيْهِ إلّا رَجُلًا بِنَصِيبِينَ وَهُوَ فُلَانٌ فَالْحَقْ بِهِ . فَلَمّا مَاتَ وَغُيّبَ لَحِقْت بِصَاحِبِ نَصِيبِينَ فَأَخْبَرْته خَبَرِي ، وَمَا أَمَرَنِي بِهِ صَاحِبَايَ فَقَالَ أَقِمْ عِنْدِي ، فَأَقَمْت عِنْدَهُ فَوَجَدْته عَلَى أَمْرِ صَاحِبَيْهِ . فَأَقَمْت مَعَ خَيْرِ رَجُلٍ فَوَاَللّهِ مَا لَبِثَ أَنْ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَلَمّا حَضَرَ قُلْت لَهُ يَا فُلَانُ إنّ فُلَانًا كَانَ أَوْصَى بِي إلَى فُلَانٍ ثُمّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إلَيْك ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي ؟ وَبِمَ تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ يَا بُنَيّ وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُهُ بَقِيَ أَحَدٌ عَلَى أَمْرِنَا آمُرُك أَنْ تَأْتِيَهُ إلّا رَجُلًا بِعَمّورِيَةَ مِنْ أَرْضِ الرّومِ ، فَإِنّهُ عَلَى مِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ فَإِنْ أَحْبَبْت فَأْتِهِ فَإِنّهُ عَلَى أَمْرِنَا . فَلَمّا مَاتَ وَغُيّبَ لَحِقْت بِصَاحِبِ عَمّورِيَةَ ، فَأَخْبَرْته خَبَرِي ، فَقَالَ أَقِمْ عِنْدِي ، فَأَقَمْت عِنْدَ خَيْرِ رَجُلٍ عَلَى هَدْيِ أَصْحَابِهِ وَأَمْرِهِمْ . قَالَ وَاكْتَسَبْت حَتّى كَانَتْ لِي بَقَرَاتٌ وَغُنَيْمَةٌ . قَالَ ثُمّ نَزَلَ بِهِ أَمْرُ اللّهِ فَلَمّا حَضَرَ قُلْت لَهُ يَا فُلَانُ إنّي كُنْت مَعَ فُلَانٍ فَأَوْصَى بِي إلَى فُلَانٍ ثُمّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إلَى فُلَانٍ ثُمّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إلَيْك ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِهِ ؟ وَبِمَ تَأْمُرُنِي ؟ قَالَ أَيْ بُنَيّ وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُهُ أَصْبَحَ الْيَوْمَ أَحَدٌ عَلَى مِثْلِ مَا كُنّا عَلَيْهِ مِنْ النّاسِ آمُرُك بِهِ أَنْ تَأْتِيَهُ وَلَكِنّهُ قَدْ أَظَلّ زَمَانُ نَبِيّ وَهُوَ مَبْعُوثٌ بِدِينِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ يَخْرُجُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ مُهَاجَرُهُ إلَى أَرْضٍ بَيْنَ حَرّتَيْنِ بَيْنَهُمَا نَخْلٌ ، بِهِ عَلَامَاتٌ لَا تَخْفَى ، يَأْكُلُ الْهَدِيّةَ وَلَا يَأْكُلُ الصّدَقَةَ وَبَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النّبُوّةِ فَإِنْ اسْتَطَعْت أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ الْبِلَادِ فَافْعَلْ . قَالَ ثُمّ مَاتَ وَغُيّبَ وَمَكَثْت بِعَمّورِيَةَ مَا شَاءَ اللّهُ أَنْ أَمْكُثَ ثُمّ مَرّ بِي نَفَرٌ مِنْ كَلْبٍ تُجّارٌ فَقُلْت لَهُمْ احْمِلُونِي إلَى أَرْضِ الْعَرَبِ ، وَأُعْطِيكُمْ بَقَرَاتِي هَذِهِ وَغُنَيْمَتِي [ ص 375 ] قَالُوا : نَعَمْ . فَأعْطَيْتُهُموهَا ، وَحَمَلُونِي مَعَهُمْ حَتّى إذَا بَلَغُوا وَادِيَ الْقُرَى ظَلَمُونِي ، فَبَاعُونِي مِنْ رَجُلٍ يَهُودِيّ عَبْدًا ، فَكُنْت عِنْدَهُ وَرَأَيْت النّخْلَ فَرَجَوْت أَنْ يَكُونَ الْبَلَدَ الّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي ، وَلَمْ يَحُقْ فِي نَفْسِي ، فَبَيْنَا أَنَا عِنْدَهُ إذْ قَدِمَ عَلَيْهِ ابْنُ عَمّ لَهُ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ مِنْ الْمَدِينَةِ ، فَابْتَاعَنِي مِنْهُ فَاحْتَمَلَنِي إلَى الْمَدِينَةِ ، فَوَاَللّهِ مَا هُوَ إلّا أَنْ رَأَيْتهَا ، فَعَرَفْتهَا بِصِفَةِ صَاحِبِي ، فَأَقَمْت بِهَا ، وَبُعِثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَقَامَ بِمَكّةَ مَا أَقَامَ لَا أَسْمَعُ لَهُ بِذِكْرِ مَعَ مَا أَنَا فِيهِ مِنْ شُغْلِ الرّقّ ثُمّ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ ، فَوَاَللّهِ إنّي لَفِي رَأْسِ عَذْقٍ لِسَيّدِي أَعْمَلُ لَهُ فِي بَعْضِ الْعَمَلِ وَسَيّدِي جَالِسٌ تَحْتِي ، إذْ أَقْبَلَ ابْنُ عَمّ لَهُ حَتّى وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ يَا فُلَانُ قَاتَلَ اللّهُ بَنِي قَيْلَةَ وَاَللّهِ إنّهُمْ الْآنَ لَمُجْتَمِعُونَ بِقُبَاءَ عَلَى رَجُلٍ قَدِمَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَكّةَ الْيَوْمَ يَزْعُمُونَ أَنّهُ نَبِيّ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَيْلَةُ بِنْتُ كَاهِلِ بْنِ عُذْرَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ لَيْثِ بْنِ سَوْدِ بْنِ أَسْلَمَ بْنِ الْحَافّ بْنِ قُضَاعَةَ ، أُمّ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ . قَالَ النّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ الْأَنْصَارِيّ يَمْدَحُ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ :
بِهَا لَيْلُ مِنْ أَوْلَادِ قَيْلَةَ لَمْ يَجِدْ ... عَلَيْهِمْ خَلِيطٌ فِي مُخَالَطَةٍ عَتْبَا
مَسَامِيحُ أَبْطَالٌ يُرَاحُونَ لِلنّدَى ... يَرَوْنَ عَلَيْهِمْ فِعْلَ آبَائِهِمْ نَحْبَا
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيّ ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيَدٍ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ قَالَ سَلْمَانُ فَلَمّا سَمِعْتهَا أَخَذَتْنِي الْعُرَوَاءُ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْعُرَوَاءُ الرّعْدَةُ مِنْ الْبَرْدِ وَالِانْتِفَاضُ فَإِنْ كَانَ مَعَ ذَلِكَ عَرَقٌ فَهِيَ الرّحَضَاءُ وَكِلَاهُمَا مَمْدُودٌ - حَتّى ظَنَنْت أَنّي سَأَسْقُطُ عَلَى سَيّدِي ، فَنَزَلْت عَنْ النّخْلَةِ فَجَعَلْت أَقُولُ لَابْن عَمّهِ ذَلِكَ مَاذَا تَقُولُ ؟ مَاذَا تَقُولُ ؟ فَغَضِبَ سَيّدِي ، فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً ثُمّ قَالَ مَا لَك وَلِهَذَا ؟ أَقْبِلْ عَلَى عَمَلِك ، قَالَ قُلْت : لَا شَيْءَ إنّمَا أَرَدْت أَنْ أَسْتَثْبِتَهُ عَمّا قَالَ . قَالَ وَقَدْ كَانَ عِنْدِي شَيْءٌ قَدْ جَمَعْته ، فَلَمّا أَمْسَيْت أَخَذْته ، ثُمّ ذَهَبْت بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ بِقُبَاءَ فَدَخَلْت عَلَيْهِ فَقُلْت لَهُ إنّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنّك رَجُلٌ صَالِحٌ [ ص 376 ] كَانَ عِنْدِي لِلصّدَقَةِ فَرَأَيْتُكُمْ أَحَقّ بِهِ مِنْ غَيْرِكُمْ قَالَ فَقَرّبْته إلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِأَصْحَابِهِ كُلُوا ، وَأَمْسَكَ يَدَهُ فَلَمْ يَأْكُلْ . قَالَ فَقُلْت فِي نَفْسِي : هَذِهِ وَاحِدَةٌ . قَالَ ثُمّ انْصَرَفْت عَنْهُ فَجَمَعْت شَيْئًا ، وَتَحَوّلَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى الْمَدِينَةِ ، ثُمّ جِئْته بِهِ فَقُلْت لَهُ إنّي قَدْ رَأَيْتُك لَا تَأْكُلُ الصّدَقَةَ فَهَذِهِ هَدِيّةٌ أَكْرَمْتُك بِهَا . قَالَ فَأَكَلَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْهَا ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا مَعَهُ . قَالَ فَقُلْت فِي نَفْسِي : هَاتَانِ ثِنْتَانِ قَالَ ثُمّ جِئْت رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ قَدْ تَبِعَ جِنَازَةَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَيّ شَمْلَتَانِ لِي ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ فَسَلّمْت عَلَيْهِ ثُمّ اسْتَدَرْت أَنْظُرُ إلَى ظَهْرِهِ هَلْ أَرَى الْخَاتَمَ الّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي ، فَلَمّا رَآنِي رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - اسْتَدْبَرْته ، عَرَفَ أَنّي أَسْتَثْبِتُ فِي شَيْءٍ وُصِفَ لِي ، فَأَلْقَى رِدَاءَهُ عَنْ ظَهْرِهِ فَنَظَرْت إلَى الْخَاتَمِ فَعَرَفْته ، فَأَكْبَبْت عَلَيْهِ أُقَبّلُهُ وَأَبْكِي . فَقَالَ لِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَحَوّلْ فَتَحَوّلْت فَجَلَسْت بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَصَصْت عَلَيْهِ حَدِيثِي ، كَمَا حَدّثْتُك يَا بْنَ عَبّاسٍ فَأَعْجَبَ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلّمَ - أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ . ثُمّ شَغَلَ سَلْمَانَ الرّقّ حَتّى فَاتَهُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بَدْرٌ وَأُحُدٌ . [ ص 377 ] قَالَ سَلْمَانُ ثُمّ قَالَ لِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَاتِبْ يَا سَلْمَانُ فَكَاتَبْت صَاحِبِي عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ نَخْلَةٍ أُحْيِيهَا لَهُ بِالْفَقِيرِ وَأَرْبَعِينَ أُوقِيّةً . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِأَصْحَابِهِ أَعِينُوا أَخَاكُمْ فَأَعَانُونِي بِالنّخْلِ الرّجُلُ بِثَلَاثِينَ وَدِيّةٍ وَالرّجُلُ بِعِشْرِينَ وَدِيّةً وَالرّجُلُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ وَدِيّةً وَالرّجُلُ بِعَشْرِ يُعِينُ الرّجُلُ بِقَدْرِ مَا عِنْدَهُ حَتّى اجْتَمَعَتْ لِي ثَلَاثُمِائَةِ وَدِيّةٍ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - اذْهَبْ يَا سَلْمَانُ فَفَقّرْ لَهَا ، فَإِذَا فَرَغْت فَأْتِنِي ، أَكُنْ أَنَا أَضَعُهَا بِيَدِي . قَالَ فَفَقّرْت ، وَأَعَانَنِي أَصْحَابِي ، حَتّى إذَا فَرَغْت جِئْته ، فَأَخْبَرْته ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَعِي إلَيْهَا ، فَجَعَلْنَا نُقَرّبُ إلَيْهِ الْوَدِيّ وَيَضَعُهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِيَدِهِ حَتّى فَرَغْنَا . فَوَاَلّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ مَا مَاتَتْ مِنْهَا وَدِيّةٌ وَاحِدَةٌ . قَالَ فَأَدّيْت النّخْلَ وَبَقِيَ عَلَيّ الْمَالُ . فَأُتِيَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِمِثْلِ بَيْضَةِ الدّجَاجَةِ مِنْ ذَهَبٍ مِنْ بَعْضِ الْمَعَادِنِ فَقَالَ مَا فَعَلَ الْفَارِسِيّ الْمُكَاتِبُ ؟ قَالَ فَدُعِيت لَهُ فَقَالَ خُذْ هَذِهِ فَأَدّهَا مِمّا عَلَيْك يَا سَلْمَانُ . قَالَ قُلْت : وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ يَا رَسُولَ اللّهِ مِمّا عَلَيّ ؟ فَقَالَ خُذْهَا ، فَإِنّ اللّهَ سَيُؤَدّي بِهَا عَنْك . قَالَ فَأَخَذْتهَا ، فَوَزَنْت لَهُمْ مِنْهَا - وَاَلّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ - أَرْبَعِينَ أُوقِيّةً فَأَوْفَيْتهمْ حَقّهُمْ مِنْهَا ، وَعَتَقَ سَلْمَانُ . فَشَهِدْت مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ - الْخَنْدَقَ حُرّا ، ثُمّ لَمْ يَفُتْنِي مَعَهُ مَشْهَدٌ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ عَنْ سَلْمَانَ أَنّهُ قَالَ لَمّا قُلْت : وَأَيْنَ تَقَعُ هَذِهِ مِنْ الّذِي عَلَيّ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ أَخَذَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَلّبَهَا عَلَى لِسَانِهِ ثُمّ قَالَ خُذْهَا فَأَوْفِهِمْ مِنْهَا . فَأَخَذْتهَا ، فَأَوْفَيْتهمْ مِنْهَا حَقّهُمْ كُلّهُ أَرْبَعِينَ أُوقِيّةً
S[ ص 372 ]
حَدِيثُ سَلْمَانَ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ حَدِيثَ سَلْمَانَ بِطُولِهِ وَقَالَ كُنْت مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ هَكَذَا قَيّدَهُ الْبَكْرِيّ فِي كِتَابِ الْمُعْجَمِ بِالْكَسْرِ فِي الْهَمْزَةِ وَإِصْبَهُ بِالْعَرَبِيّةِ فَرَسٌ وَقِيلَ هُوَ الْعَسْكَرُ فَمَعْنَى الْكَلِمَةِ مَوْضِعُ الْعَسْكَرِ أَوْ الْخَيْلِ أَوْ نَحْوَ هَذَا . وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ سَلْمَانَ عَلَى طُولِهِ إشْكَالٌ وَوَقَعَ فِي الْأَصْلِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَلَمّا رَآنِي رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - اسْتَدْبَرْته ، وَرَأَيْت فِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ أَسْتَدِيرُ بِهِ وَكَذَلِكَ وَقَعَ فِيهِ أُحْيِيهَا لَهُ بِالْفَقِيرِ وَفِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ الْوَجْهُ التّفْقِيرُ . [ ص 373 ]
أَسْمَاءُ النّخْلَةِ
وَالْفَقِيرُ لِلنّخْلَةِ . يُقَالُ لَهَا فِي الْكَرْمَةِ حَيِيّةُ وَجَمْعُهَا : حَيَايَا ، وَهِيَ الْحَفِيرَةُ وَإِذَا خَرَجَتْ النّخْلَةُ مِنْ النّوَاةِ فَهِيَ عَرِيسَةٌ ثُمّ يُقَالُ لَهَا : وَدِيّةٌ ثُمّ فَسِيلَةٌ ثُمّ أَشَاءَةٌ فَإِذَا فَاتَتْ الْيَدَ فَهِيَ جَبّارَةٌ وَهِيَ الْعَضِيدُ وَالْكَتِيلَةُ وَيُقَالُ لِلّتِي لَمْ تَخْرُجْ مِنْ النّوَاةِ لَكِنّهَا اُجْتُثّتْ مِنْ جَنْبِ أُمّهَا : قَلْعَةٌ وَجَثِيثَةٌ وَهِيَ الْجَثَائِثُ وَالْهِرَاءُ وَيُقَالُ لِلنّخْلَةِ الطّوِيلَةِ عَوَانَةٌ بِلُغَةِ عَمّان ، وَعَيْدَانَةٌ بِلُغَةِ غَيْرِهِمْ وَهِيَ فَيْعَالَةٌ مِنْ عَدَنَ بِالْمَكَانِ وَاخْتَلَفَ فِيهَا قَوْلُ صَاحِبِ كِتَابِ الْعَيْنِ فَجَعَلَهَا تَارَةً فَيْعَالَةً مِنْ عَدَنَ ، ثُمّ جَعَلَهَا فِي بَابِ الْمُعْتَلّ الْعَيْنِ فَعْلَانَةً . [ ص 374 ] أَنَسٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ إنْ قَامَتْ السّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَاسْتَطَاعَ أَنْ يَغْرِسَهَا قَبْلَ أَنْ تَقُومَ السّاعَةُ فَلْيَغْرِسْهَا مِنْ مُصَنّفِ حَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ . وَاَلّذِينَ صَحِبُوا سَلْمَانَ مِنْ النّصَارَى كَانُوا عَلَى الْحَقّ عَلَى دِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، وَكَانُوا ثَلَاثِينَ يُدَاوِلُونَهُ سَيّدًا بَعْدَ سَيّدٍ . [ ص 375 ]
مِنْ فِقْهِ حَدِيثِ سَلْمَانَ
وَذَكَرَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ أَنّهُ جَمَعَ شَيْئًا ، فَجَاءَ بِهِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِيَخْتَبِرَهُ أَيَأْكُلُ الصّدَقَةَ أَمْ لَا ، فَلَمْ يَسْأَلْهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَحُرّ أَنْتَ أَمْ عَبْدٌ وَلَا : مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا ، فَفِي هَذَا مِنْ الْفِقْهِ قَبُولُ الْهَدِيّةِ وَتَرْكُ سُؤَالِ الْمُهْدِي ، وَكَذَلِكَ الصّدَقَةُ . [ ص 376 ]
حُكْمُ الصّدَقَةِ لِلنّبِيّ وَمَصْدَرُ مَالِ سَلْمَانَ
وَفِي الْحَدِيثِ مَنْ قُدّمَ إلَيْهِ طَعَامٌ فَلْيَأْكُلْ وَلَا يَسْأَلْ وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ حَدِيثَ سَلْمَانَ حُجّةً عَلَى مَنْ قَالَ إنّ الْعَبْدَ لَا يَمْلِكُ وَقَالَ لَوْ كَانَ لَا يَمْلِكُ مَا قَبِلَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - صَدَقَتَهُ وَلَا قَالَ لِأَصْحَابِهِ كُلُوا صَدَقَتَهُ ذَكَرَ غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ فِي حَدِيثِ سَلْمَانَ الْوَجْهَ الّذِي جَمَعَ مِنْهُ سَلْمَانُ مَا أَهْدَى لِلنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ قَالَ سَلْمَانُ كُنْت عَبْدًا لِامْرَأَةِ فَسَأَلْت سَيّدَتِي أَنْ تَهَبَ لِي يَوْمًا ، فَعَمِلْت فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى صَاعٍ أَوْ صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ وَجِئْت بِهِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَلَمّا رَأَيْته لَا يَأْكُلُ الصّدَقَةَ سَأَلْت سَيّدَتِي أَنْ تَهَبَ لِي يَوْمًا آخَرَ فَعَمِلْت فِيهِ عَلَى ذَلِكَ ثُمّ جِئْت بِهِ هَدِيّةً لِلنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَبِلَهُ وَأَكَلَ مِنْهُ فَبَيّنَ فِي هَذِهِ الرّوَايَةِ الْوَجْهَ الّذِي جَمَعَ مِنْهُ سَلْمَانُ مَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَالصّدَقَةُ الّتِي قَالَ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ لَا تَحِلّ لِمُحَمّدِ وَلَا لِآلِ مُحَمّدٍ هِيَ الْمَفْرُوضَةُ دُونَ التّطَوّعِ قَالَهُ الشّافِعِيّ ، غَيْرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَمْ يَكُنْ تَحِلّ لَهُ صَدَقَةُ الْفَرْضِ وَلَا التّطَوّعِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ . وَقَالَ الثّوْرِيّ : لَا تَحِلّ الصّدَقَةُ لِآلِ مُحَمّدٍ فَرْضُهَا وَلَا نَفْلُهَا وَلَا لِمَوَالِيهِمْ لِأَنّ مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ بِذَلِكَ جَاءَ الْحَدِيثُ . وَقَالَ مَالِكٌ تَحِلّ لِمَوَالِيهِمْ وَقَالَتْ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أَبُو يُوسُفَ : لَا تَحِلّ لِآلِ مُحَمّدٍ صَدَقَةُ غَيْرِهِمْ وَتَحِلّ لَهُمْ صَدَقَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو عَبْدِ الْمُطّلِبِ . [ ص 377 ]
أَوّلُ مَنْ مَاتَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ
وَقَوْلُ سَلْمَانَ فَأَتَيْت رَسُولَ اللّهِ وَهُوَ فِي جِنَازَةِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ . صَاحِبُهُ الّذِي مَاتَ فِي تِلْكَ الْأَيّامِ كُلْثُومُ بْنُ الْهِدْمِ الّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ الطّبَرِيّ : أَوّلُ مَنْ مَاتَ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بَعْدَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ بِأَيّامِ قَلِيلَةٍ كُلْثُومُ بْنُ الْهِدْمِ ، ثُمّ مَاتَ بَعْدَهُ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ . فَصْلٌ وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي مُكَاتَبَةِ سَلْمَانَ أَنّهُ فَقّرَ لِثَلَاثِمِائَةِ وَدِيّةٍ أَيْ حَفَرَ وَأَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَضَعَهَا كُلّهَا بِيَدِهِ فَلَمْ تَمُتْ مِنْهَا وَدِيّةٌ وَاحِدَةٌ وَذَكَرَ الْبُخَارِيّ حَدِيثَ سَلْمَانَ كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ غَيْرَ أَنّهُ ذَكَرَ أَنّ سَلْمَانَ غَرَسَ بِيَدِهِ وَدِيّةً وَاحِدَةً وَغَرَسَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - سَائِرَهَا ، فَعَاشَتْ كُلّهَا إلّا الّتِي غَرَسَ سَلْمَانُ . هَذَا مَعْنَى حَدِيثِ الْبُخَارِيّ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 378 ] عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، قَالَ حَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ ، قَالَ حُدّثْت عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيّ : أَنّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ أَخْبَرَهُ خَبَرَهُ إنّ صَاحِبَ عَمّورِيَةَ قَالَ لَهُ ائْتِ كَذَا وَكَذَا مِنْ أَرْضِ الشّامِ ، فَإِنّ بِهَا رَجُلًا بَيْنَ غَيْضَتَيْنِ يَخْرُجُ فِي كُلّ سَنَةٍ مِنْ هَذِهِ الْغَيْضَةِ إلَى هَذِهِ الْغَيْضَةِ مُسْتَجِيزًا ، يَعْتَرِضُهُ ذَوُو الْأَسْقَامِ فَلَا يَدْعُو لِأَحَدِ مِنْهُمْ إلّا شُفِيَ فَاسْأَلْهُ عَنْ هَذَا الدّينِ الّذِي تَبْتَغِي ، فَهُوَ يُخْبِرُك عَنْهُ قَالَ سَلْمَانُ فَخَرَجْت حَتّى أَتَيْت حَيْثُ وَصَفَ لِي ، فَوَجَدْت النّاسَ قَدْ اجْتَمَعُوا بِمَرْضَاهُمْ هُنَالِكَ حَتّى خَرَجَ لَهُمْ تِلْكَ اللّيْلَةَ مُسْتَجِيزًا مِنْ إحْدَى الْغَيْضَتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى ، فَغَشِيَهُ النّاسُ بِمَرْضَاهُمْ لَا يَدْعُو لِمَرِيضِ إلّا شُفِيَ وَغَلَبُونِي عَلَيْهِ فَلَمْ أَخْلُصْ إلَيْهِ حَتّى دَخَلَ الْغَيْضَةَ الّتِي يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ إلّا مَنْكِبَهُ . قَالَ فَتَنَاوَلْته : فَقَالَ مَنْ هَذَا ؟ وَالْتَفَتَ إلَيّ فَقُلْت : يَرْحَمُك اللّهُ ، أَخْبِرْنِي عَنْ الْحَنِيفِيّةِ دِينِ إبْرَاهِيمَ . قَالَ إنّك لَتَسْأَلُنِي عَنْ شَيْءٍ مَا يَسْأَلُ عَنْهُ النّاسُ الْيَوْمَ قَدْ أَظَلّك زَمَانُ نَبِيّ يُبْعَثُ بِهَذَا الدّينِ مِنْ أَهْلِ الْحَرَمِ ، فَأْتِهِ فَهُوَ يَحْمِلُك عَلَيْهِ . قَالَ ثُمّ دَخَلَ . قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِسَلْمَانَ لَئِنْ كُنْت صَدَقْتنِي يَا سَلْمَانُ ، لَقَدْ لَقِيت عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَى نَبِيّنَا وَعَلَيْهِ السّلَامُSأُسْطُورَةُ نُزُولِ عِيسَى قَبْلَ بَعْثَةِ النّبِيّ
[ ص 378 ] دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ حَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ قَالَ سَلْمَانُ لِلنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَذَكَرَ خَبَرَ الرّجُلِ الّذِي كَانَ يَخْرُجُ مُسْتَجِيزًا مِنْ غَيْضَةٍ إلَى غَيْضَةٍ وَيَلْقَاهُ النّاسُ بِمَرْضَاهُمْ فَلَا يَدْعُو لِمَرِيضِ إلّا شُفِيَ وَأَنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ إنْ كُنْت صَدَقْتنِي يَا سَلْمَانُ فَقَدْ رَأَيْت عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ . إسْنَادُ هَذَا الْحَدِيثِ مَقْطُوعٌ وَفِيهِ رَجُلٌ مَجْهُولٌ وَيُقَالُ إنّ ذَلِكَ الرّجُلَ هُوَ الْحَسَنُ بْنُ عُمَارَةَ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ بِإِجْمَاعِ مِنْهُمْ فَإِنْ صَحّ الْحَدِيثُ فَلَا نَكَارَةَ فِي مَتْنِهِ فَقَدْ ذَكَرَ الطّبَرِيّ أَنّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السّلَامُ نَزَلَ بَعْدَمَا رُفِعَ وَأُمّهُ وَامْرَأَةٌ أُخْرَى عِنْدَ الْجِذْعِ الّذِي فِيهِ الصّلِيبُ يَتّكِئَانِ فَكَلّمَهُمَا ، وَأَخْبَرَهُمَا أَنّهُ لَمْ يُقْتَلْ وَأَنّ اللّهَ رَفَعَهُ وَأَرْسَلَ إلَى الْحَوَارِيّينَ وَوَجّهَهُمْ إلَى الْبِلَادِ وَإِذَا جَازَ أَنْ يَنْزِلَ مَرّةً جَازَ أَنْ يَنْزِلَ مِرَارًا ، وَلَكِنْ لَا يُعْلَمُ أَنّهُ هُوَ حَتّى يَنْزِلَ النّزُولَ الظّاهِرَ فَيَكْسِرُ الصّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ [ ص 379 ] أَعْلَمُ وَيُرْوَى أَنّهُ إذَا نَزَلَ تَزَوّجَ امْرَأَةً مِنْ جُذَامٍ ، وَيُدْفَنُ إذَا مَاتَ فِي الرّوْضَةِ الّتِي فِيهَا النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ .

ذِكْرُ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ الْعُزّى
وَعُبَيْدَ اللّهِ بْنِ جَحْشٍ وَعُثْمَانَ بْنَ الْحُوَيْرِثِ
وَزَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 379 ] عِنْدَ صَنَمٍ مِنْ أَصْنَامِهِمْ كَانُوا يُعَظّمُونَهُ وَيَنْحَرُونَ لَهُ وَيَعْكُفُونَ عِنْدَهُ وَيُدِيرُونَ بِهِ وَكَانَ ذَلِكَ عِيدًا لَهُمْ فِي كُلّ سَنَةٍ يَوْمًا ، فَخَلَصَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ نَجِيّا ، ثُمّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ تَصَادَقُوا ، وَلْيَكْتُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ قَالُوا : أَجَلْ وَهُمْ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، وَعُبَيْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابِ بْنِ يَعْمَرَ بْنِ صَبْرَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَبِيرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ دُودَانِ بْنِ أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ ، وَكَانَتْ أُمّهُ أُمَيْمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ . وَعُثْمَانُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ ، وَزَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ قُرْطِ بْنِ رِيَاحِ بْنِ رِزَاحِ بْنِ عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ تَعْلَمُوا وَاَللّهِ مَا قَوْمُكُمْ عَلَى شَيْءٍ لَقَدْ أَخْطَئُوا دِينَ أَبِيهِمْ إبْرَاهِيمَ مَا حَجَرٌ نُطِيفُ بِهِ لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يَضُرّ وَلَا يَنْفَعُ ؟ يَا قَوْمُ الْتَمِسُوا لِأَنْفُسِكُمْ فَإِنّكُمْ وَاَللّهِ مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْءٍ فَتَفَرّقُوا فِي الْبُلْدَانِ يَلْتَمِسُونَ الْحَنِيفِيّةَ دِينَ إبْرَاهِيمَ . [ ص 380 ] وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ فَاسْتَحْكَمَ فِي النّصْرَانِيّةِ ، وَاتّبَعَ الْكُتُبَ مِنْ أَهْلِهَا ، حَتّى عَلِمَ عِلْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَأَمّا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشٍ ، فَأَقَامَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ الِالْتِبَاسِ حَتّى أَسْلَمَ ، ثُمّ هَاجَرَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إلَى الْحَبَشَةِ ، وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ مُسْلِمَةٌ فَلَمّا قَدِمَهَا تَنَصّرَ وَفَارَقَ الْإِسْلَامَ حَتّى هَلَكَ هُنَالِكَ نَصْرَانِيّا . [ ص 381 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزّبَيْرِ ؛ قَالَ كَانَ عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشٍ - حِينَ تَنَصّرَ - يَمُرّ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُمْ هُنَالِكَ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، فَيَقُولُ فَقّحْنَا وَصَأْصَأْتُمْ أَيْ أَبْصَرْنَا وَأَنْتُمْ تَلْتَمِسُونَ الْبَصَرَ وَلَمْ تُبْصِرُوا بَعْدُ وَذَلِكَ أَنّ وَلَدَ الْكَلْبِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ عَيْنَيْهِ لِيَنْظُرَ صَأْصَأَ لِيَنْظُرَ . وَقَوْلُهُ فَقّحَ فَتَحَ عَيْنَيْهِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَخَلّفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدَهُ عَلَى امْرَأَتِهِ أُمّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَلِيّ بْنِ حُسَيْنٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعَثَ فِيهَا إلَى النّجَاشِيّ عَمْرَو بْنَ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ . فَخَطَبَهَا عَلَيْهِ النّجَاشِيّ ؛ فَزَوّجَهُ إيّاهَا ، وَأَصْدَقَهَا عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ فَقَالَ مُحَمّدُ بْنُ عَلِيّ : مَا نَرَى عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ وَقَفَ صَدَاقَ النّسَاءِ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِينَارٍ إلّا عَنْ ذَلِكَ . وَكَانَ الّذِي أَمْلَكَهَا لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَمّا عُثْمَانُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ ، فَقَدِمَ عَلَى قَيْصَرٍ مَلِكِ الرّومِ فَتَنَصّرَ وَحَسُنَتْ مَنْزِلَتُهُ عِنْدَهُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَلِعُثْمَانِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ عِنْدَ قَيْصَرٍ حَدِيثٌ مَنَعَنِي مِنْ ذِكْرِهِ مَا ذَكَرْت فِي حَدِيثِ حَرْبِ الْفِجَارِ .
Sذِكْرُ حَدِيثِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ حَدِيثَ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ ، وَعُبَيْدِ اللّهِ بْنِ جَحْشٍ ، وَعُثْمَانَ بْنِ الْحُوَيْرِثِ ، وَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وَمَا تَنَاجَوْا بِهِ وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ إلَى آخِرِ النّسَبِ وَالْمَعْرُوفُ فِي نَسَبِهِ وَنَسَبِ ابْنِ عَمّهِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ : نُفَيْلُ بْنُ رِيَاحِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ قُرْطِ بْنِ رِزَاحٍ بِتَقْدِيمِ رِيَاحِ عَلَى عَبْدِ اللّهِ وَرِزَاحٌ بِكَسْرِ الرّاءِ قَيّدَهُ الشّيْخُ أَبُو بَحْرٍ وَزَعَمَ الدّارَقُطْنِيّ أَنّهُ رَزَاحٌ بِالْفَتْحِ وَإِنّمَا رِزَاحٍ بِالْكَسْرِ رِزَاحُ بْنُ رَبِيعَةَ أَخُو قُصَيّ لِأُمّهِ الّذِي تَقَدّمَ ذِكْرُهُ .
الزّوَاجُ مِنْ امْرَأَةِ الْأَبِ فِي الْجَاهِلِيّةِ
وَأُمّ زَيْدٍ هِيَ الْحَيْدَاءُ بِنْتُ خَالِدٍ الْفَهْمِيّةُ وَهِيَ امْرَأَةُ جَدّهِ نُفَيْلٍ وَلَدَتْ لَهُ الْخَطّابَ فَهُوَ [ ص 380 ] أَخُو الْخَطّابِ لِأُمّهِ وَابْنُ أَخِيهِ وَكَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا فِي الْجَاهِلِيّةِ بِشِرْعِ مُتَقَدّمٍ وَلَمْ تَكُنْ مِنْ الْحُرُمَاتِ الّتِي انْتَهَكُوهَا ، وَلَا مِنْ الْعَظَائِمِ الّتِي ابْتَدَعُوهَا ، لِأَنّهُ أَمْرٌ كَانَ فِي عَمُودِ نَسَبِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَكِنَانَةُ تَزَوّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ خُزَيْمَةَ ، وَهِيَ بَرّةُ بِنْتُ مُرّ فَوَلَدَتْ لَهُ النّضْرَ بْنَ كِنَانَةَ ، وَهَاشِمٌ أَيْضًا قَدْ تَزَوّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ وَافِدَةً فَوَلَدَتْ لَهُ ضَعِيفَةَ وَلَكِنْ هُوَ خَارِجٌ عَنْ عَمُودِ نَسَبِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِأَنّهَا لَمْ تَلِدْ جَدّا لَهُ أَعْنِي : وَاقِدَةَ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ أَنَا مِنْ نِكَاحٍ لَا مِنْ سِفَاحٍ وَلِذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَهُ { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النّسَاءِ إِلّا مَا قَدْ سَلَفَ } [ النّسَاءُ 22 ] . أَيْ إلّا مَا سَلَفَ مِنْ تَحْلِيلِ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَفَائِدَةُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ أَلّا يُعَابَ نَسَبُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَلِيُعْلَمَ أَنّهُ لَمْ يَكُنْ فِي أَجْدَادِهِ مَنْ كَانَ لِغَيّةِ وَلَا مِنْ سِفَاحٍ . أَلَا تَرَى أَنّهُ لَمْ يَقُلْ فِي شَيْءٍ نَهَى عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ { إِلّا مَا قَدْ سَلَفَ } نَحْوَ قَوْلِهِ { وَلَا تَقْرَبُوا الزّنَا } وَلَمْ يَقُلْ إلّا مَا قَدْ سَلَفَ : { وَلَا تَقْتُلُوا النّفْسَ الّتِي حَرّمَ اللّهُ } [ الْإِسْرَاءُ 30ْ ] وَلَمْ يَقُلْ إلّا مَا قَدْ سَلَفَ ، وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَعَاصِي الّتِي نَهَى عَنْهَا إلّا فِي هَذِهِ وَفِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ لِأَنّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ قَدْ كَانَ مُبَاحًا أَيْضًا فِي شَرْعِ مَنْ قَبْلَنَا ، وَقَدْ جَمَعَ يَعْقُوبُ بَيْنَ رَاحِيلَ وَأُخْتِهَا لِيَا فَقَوْلُهُ { إِلّا مَا قَدْ سَلَفَ } الْتِفَاتَةٌ إلَى هَذَا الْمَعْنَى ، وَتَنْبِيهٌ عَلَى هَذَا الْمَغْزَى ، وَهَذِهِ النّكْتَةُ لُقّنْتهَا مِنْ شَيْخِنَا الْإِمَامِ الْحَافِظِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمّدِ بْنِ الْعَرَبِيّ - رَحِمَهُ اللّهُ - وَزَيْدٌ هَذَا هُوَ وَالِدُ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ أَحَدِ الْعَشْرَةِ الّذِينَ شُهِدَ لَهُمْ بِالْجَنّةِ وَأُمّ سَعِيدٍ فَاطِمَةُ بِنْتُ نَعْجَةَ بْنِ خَلَفٍ الْخُزَاعِيّ [ عِنْدَ الزّبَيْرِ بَعْجَةُ بْنُ أُمَيّةَ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ اليمعر بْنِ خُزَاعَةَ ] .
تَفْسِيرُ بَعْضِ قَوْلِ ابْنِ جَحْشٍ
وَذَكَرَ قَوْلَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَحْشٍ حِينَ تَنَصّرَ بِالْحَبَشَةِ فَقّحْنَا وَصَأْصَأْتُمْ وَشَرَحَ فَقّحْنَا بِقَوْلِهِ فَقّحَ الْجُرْوُ إذَا فَتَحَ عَيْنَيْهِ وَهَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ ، وَزَادَ جَصّصَ أَيْضًا ، وَذَكَرَ [ ص 381 ] عُبَيْدٍ : بَصّصَ بِالْبَاءِ حَكَاهَا عَنْ أَبِي زَيْدٍ وَقَالَ الْقَالِيّ إنّمَا رَوَاهُ الْبَصْرِيّونَ عَنْ أَبِي زَيْدٍ بِيَاءِ مَنْقُوطَةٍ بِاثْنَتَيْنِ لِأَنّ الْيَاءَ تُبْدَلُ مِنْ الْجِيمِ كَثِيرًا كَمَا تَقُولُ أَيَلٌ وَأَجَلٌ وَلِرِوَايَةِ أَبِي عُبَيْدٍ وَجْهٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَصّصَ مِنْ الْبَصِيصِ وَهُوَ الْبَرِيقُ .
بَعْضُ الّذِينَ تَنَصّرُوا
فَصْلٌ وَذَكَرَ عُثْمَانُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ مَعَ زَيْدٍ وَوَرَقَةَ وَعُبَيْدَ اللّهِ بْنَ جَحْشٍ ، ثُمّ قَالَ وَأَمّا عُثْمَانُ بْنُ الْحُوَيْرِثِ فَإِنّهُ ذَهَبَ إلَى الشّامِ ، وَلَهُ فِيهَا مَعَ قَيْصَرٍ خَبَرٌ وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ الْخَبَرَ ، وَذَكَرَ الْبَرْقِيّ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ عُثْمَانَ بْنَ الْحُوَيْرِثِ قَدِمَ عَلَى قَيْصَرٍ فَقَالَ لَهُ إنّي أَجْعَلُ لَك خَرْجًا عَلَى قُرَيْشٍ إنْ جَاءُوا الشّامَ لِتِجَارَتِهِمْ وَإِلّا مَنَعْتهمْ فَأَرَادَ قَيْصَرٌ أَنْ يَفْعَلَ فَخَرَجَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِي بْنِ أُمَيّةَ وَأَبُو ذِئْبٍ وَهُوَ هِشَامُ بْنُ شُعْبَةَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي قَيْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ إلَى الشّامِ ، فَأُخِذَا فَحُبِسَا ، فَمَاتَ أَبُو ذِئْبٍ فِي الْحَبْسِ وَأَمّا سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِي ، فَإِنّهُ خَرَجَ الْوَلِيد بْن الْمُغِيرَةَ ، وَهُوَ أُمَيّةُ فَتَخَلّصُوهُ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ رَوَاهُ ابْنُ إسْحَاقَ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ وَأَبُو ذِئْبٍ الّذِي ذُكِرَ هُوَ جَدّ الْفَقِيهِ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ذِئْبٍ يُكَنّى : أَبَا الْحَارِثِ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ ، وَأُمّهُ بُرَيْهَةُ بِنْتُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي ذِئْبٍ وَأَمّا الزّبَيْرُ فَذَكَرَ أَنّ [ ص 382 ] كَانَ قَدْ تَوّجَ عُثْمَانَ وَوَلّاهُ أَمْرَ مَكّةَ ، فَلَمّا جَاءَهُمْ بِذَلِكَ أَنِفُوا مِنْ أَنْ يَدِينُوا لِمَلِكِ وَصَاحَ الْأَسْوَدُ بْنُ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى : أَلَا إنّ مَكّةَ حَيّ لَقَاحٌ لَا تَدِينُ لِمَلِكِ فَلَمْ يَتِمّ لَهُ مُرَادُهُ قَالَ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ الْبِطْرِيقُ وَلَا عَقِبَ لَهُ وَمَاتَ بِالشّامِ مَسْمُومًا ، سَمّهُ عَمْرُو بْنُ جَفْنَةَ الْغَسّانِيّ الْمَلِكُ .

[ ص 382 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَمّا زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فَوَقَفَ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي يَهُودِيّةٍ وَلَا نَصْرَانِيّةٍ وَفَارَقَ دِينَ قَوْمِهِ فَاعْتَزَلَ الْأَوْثَانَ وَالْمَيْتَةَ وَالدّمَ وَالذّبَائِحَ الّتِي تُذْبَحُ عَلَى الْأَوْثَانِ وَنَهَى عَنْ قَتْلِ الْمَوْءُودَةِ وَقَالَ أَعْبُدُ رَبّ إبْرَاهِيمَ وَبَادَى قَوْمَهُ بِعَيْبِ مَا هُمْ عَلَيْهِ . [ ص 383 ] [ ص 384 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمّهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ لَقَدْ رَأَيْت زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ شَيْخًا كَبِيرًا مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إلَى الْكَعْبَةِ ، وَهُوَ يَقُولُ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، وَاَلّذِي نَفْسُ زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو بِيَدِهِ مَا أَصْبَحَ مِنْكُمْ أَحَدٌ عَلَى دِينِ إبْرَاهِيمَ غَيْرِي ، ثُمّ يَقُولُ اللّهُمّ لَوْ أَنّي أَعْلَمُ أَيّ الْوُجُوهِ أَحَبّ إلَيْك عَبَدْتُك بِهِ وَلَكِنّي لَا أَعْلَمُهُ ثُمّ يَسْجُدُ عَلَى رَاحَتِهِ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحُدّثْت أَنّ ابْنَهُ سَعِيدَ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وَعُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ ، وَهُوَ ابْنُ عَمّهِ قَالَا لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنَسْتَغْفِرُ لِزَيْدِ بْنِ عَمْرٍو ؟ قَالَ نَعَمْ فَإِنّهُ يُبْعَثُ أُمّةً وَحْدَهُSاعْتِزَالُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ الْأَوْثَانَ
فَصْلٌ وَذَكَرَ اعْتِزَالَ زَيْدٍ الْأَوْثَانَ وَتَرْكَهُ طَوَاغِيتَهُمْ وَتَرْكَهُ أَكْلَ مَا نُحِرَ [ عَلَى الْأَوْثَانِ ] وَالنّصُبِ . رَوَى الْبُخَارِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ، قَالَ أَخْبَرَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ أَخْبَرَنَا مُوسَى ، قَالَ حَدّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ : أَنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَقِيَ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ بِأَسْفَلَ بَلْدَحَ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَى النّبِيّ - عَلَيْهِ السّلَامُ - الْوَحْيُ فَقُدّمَتْ إلَى النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - سُفْرَةٌ أَوْ قَدّمَهَا إلَيْهِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَبَى أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا ، ثُمّ قَالَ زَيْدٌ إنّي لَسْت آكُلُ مَا تَذْبَحُونَ عَلَى أَنْصَابِكُمْ وَلَا آكُلُ إلّا مَا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَأَنّ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ كَانَ يَعِيبُ عَلَى قُرَيْشٍ ذَبَائِحَهُمْ وَيَقُولُ الشّاةُ خَلَقَهَا اللّهُ وَأَنْزَلَ لَهَا مِنْ السّمَاءِ الْمَاءَ وَأَنْبَتَ لَهَا مِنْ الْأَرْضِ الْكَلَأَ ثُمّ تَذْبَحُونَهَا عَلَى غَيْرِ اسْمِ اللّهِ ؟ إنْكَارًا لِذَلِك ، وَإِعْظَامًا لَهُ قَالَ مُوسَى بْنُ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ : وَلَا أَعْلَمُ إلّا مَا تَحَدّثَ بِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنّ زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ خَرَجَ إلَى الشّامِ يَسْأَلُ عَنْ الدّينِ وَيَتّبِعُهُ فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ الْيَهُودِ فَسَأَلَهُ عَنْ دِينِهِمْ وَقَالَ لَهُ إنّي لَعَلّي أَنْ أَدِينَ بِدِينِكُمْ فَأَخْبِرُونِي ، فَقَالَ لَا تَكُونُ عَلَى دِينِنَا ، حَتّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِك مِنْ غَضَبِ اللّهِ قَالَ زَيْدٌ مَا أَفِرّ إلّا مِنْ غَضَبِ اللّهِ وَلَا أَحْمِلُ مِنْ غَضَبِ اللّهِ شَيْئًا أَبَدًا ، وَأَنّى أَسْتَطِيعُهُ فَهَلْ تَدُلّنِي عَلَى غَيْرِهِ ؟ قَالَ مَا أَعْلَمُهُ إلّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا ، قَالَ وَمَا الْحَنِيفُ ؟ قَالَ دِينُ إبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيّا وَلَا نَصْرَانِيّا ، وَلَا يَعْبُدُ إلّا اللّهَ فَخَرَجَ زَيْدٌ فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ النّصَارَى ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَقَالَ لَنْ تَكُونَ عَلَى دِينِنَا ، حَتّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِك مِنْ لَعْنَةِ اللّهِ قَالَ مَا أَفِرّ إلّا مِنْ لَعْنَةِ اللّهِ وَلَا أَحْمِلُ مِنْ لَعْنَةِ اللّهِ وَلَا مِنْ غَضَبِهِ شَيْئًا أَبَدًا ، وَأَنّى أَسْتَطِيعُ فَهَلْ تَدُلّنِي عَلَى غَيْرِهِ ؟ قَالَ مَا أَعْلَمُهُ إلّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا ، قَالَ وَمَا الْحَنِيفُ ؟ [ ص 383 ] قَالَ دِينُ إبْرَاهِيمَ لَمْ يَكُنْ يَهُودِيّا وَلَا نَصْرَانِيّا ، وَلَا يَعْبُدُ إلّا اللّهَ فَلَمّا رَأَى زَيْدٌ قَوْلَهُمْ فِي إبْرَاهِيمَ خَرَجَ فَلَمّا بَرَزَ رَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ اللّهُمّ إنّي أُشْهِدُك أَنّي عَلَى دِينِ إبْرَاهِيمَ . وَقَالَ اللّيْثُ كَتَبَ إلَيّ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - قَالَتْ رَأَيْت زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ قَائِمًا مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إلَى الْكَعْبَةِ ، يَقُولُ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، وَاَللّهِ مَا مِنْكُمْ عَلَى دِينِ إبْرَاهِيمَ غَيْرِي ، وَكَانَ يُحْيِي الْمَوْءُودَةَ يَقُولُ لِلرّجُلِ إذَا أَرَادَ أَنّ يَقْتُلَ ابْنَتَهُ لَا تَقْتُلْهَا ، أَكَفّيْك مُؤْنَتَهَا ، فَيَأْخُذُهَا ، فَإِذَا تَرَعْرَعَتْ قَالَ لِأَبِيهَا : إنْ شِئْت دَفَعْتهَا إلَيْك ، وَإِنْ شِئْت كَفَيْتُك مُؤْنَتَهَا إلَى هَاهُنَا انْتَهَى حَدِيثُ الْبُخَارِيّ . وَفِيهِ سُؤَالٌ يُقَالُ كَيْفَ وَفّقَ اللّهُ زَيْدًا إلَى تَرْكِ أَكْلِ مَا ذُبِحَ عَلَى النّصُبِ وَمَا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَرَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَانَ أَوْلَى بِهَذِهِ الْفَضِيلَةِ فِي الْجَاهِلِيّةِ لِمَا ثَبّتَ اللّهُ ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنّهُ لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ حِينَ لَقِيَهُ بِبَلْدَحَ فَقُدّمَتْ إلَيْهِ السّفْرَةُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَكَلَ مِنْهَا ، وَإِنّمَا فِي الْحَدِيثِ أَنّ زَيْدًا قَالَ حِينَ قُدّمَتْ السّفْرَةُ لَا آكُلُ مِمّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ الْجَوَابُ الثّانِي : أَنّ زَيْدًا إنّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِرَأْيِ رَآهُ لَا بِشِرْعِ مُتَقَدّمٍ وَإِنّمَا تَقَدّمَ شَرْعُ إبْرَاهِيمَ بِتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ لَا بِتَحْرِيمِ مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللّهِ وَإِنّمَا نَزَلَ تَحْرِيمُ ذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ وَبَعْضُ الْأُصُولِيّينَ يَقُولُونَ الْأَشْيَاءُ قَبْلَ وُرُودِ الشّرْعِ عَلَى الْإِبَاحَةِ فَإِنْ قُلْنَا بِهَذَا ، وَقُلْنَا إنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَانَ يَأْكُلُ مِمّا ذُبِحَ عَلَى النّصُبِ فَإِنّمَا فَعَلَ أَمْرًا مُبَاحًا ، وَإِنْ كَانَ لَا يَأْكُلُ مِنْهَا فَلَا إشْكَالَ وَإِنْ قُلْنَا أَيْضًا : إنّهَا لَيْسَتْ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَلَا عَلَى التّحْرِيمِ وَهُوَ الصّحِيحُ فَالذّبَائِحُ خَاصّةٌ لَهَا أَصْلٌ فِي تَحْلِيلِ الشّرْعِ الْمُتَقَدّمِ كَالشّاةِ وَالْبَعِيرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمّا أَحَلّهُ اللّهُ تَعَالَى فِي دِينِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا ، وَلَمْ يَقْدَحْ فِي ذَلِكَ التّحْلِيلِ الْمُتَقَدّمِ مَا ابْتَدَعُوهُ حَتّى جَاءَ الْإِسْلَامُ وَأَنْزَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ { وَلَا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ } [ الْأَنْعَامُ 121 ] . أَلَا تَرَى كَيْفَ بَقِيَتْ ذَبَائِحُ أَهْلِ الْكِتَابِ عِنْدَنَا عَلَى أَصْلِ التّحْلِيلِ بِالشّرْعِ الْمُتَقَدّمِ وَلَمْ يَقْدَحْ فِي التّحْلِيلِ مَا أَحْدَثُوهُ مِنْ الْكُفْرِ وَعِبَادَةِ الصّلْبَانِ فَكَذَلِكَ كَانَ مَا ذَبَحَهُ أَهْلُ الْأَوْثَانِ مُحَلّا بِالشّرْعِ الْمُتَقَدّمِ حَتّى خَصّهُ الْقُرْآنُ بِالتّحْرِيمِ . [ ص 384 ]
زَيْدٌ وَصَعْصَعَةُ وَالْمَوْءُودَةُ
فَصْلٌ وَذَكَرَ خَبَرَ الْمَوْءُودَةِ وَمَا كَانَ زَيْدٌ يَفْعَلُ فِي ذَلِكَ وَقَدْ كَانَ صَعْصَعَةُ بْنُ مُعَاوِيَةَ جَدّ الْفَرَزْدَقِ رَحِمَهُ اللّهِ يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ وَلَمّا أَسْلَمَ سَأَلَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَلْ لِي فِي ذَلِكَ مِنْ أَجْرٍ ؟ فَقَالَ فِي أَصَحّ الرّوَايَتَيْنِ لَك أَجْرُهُ إذَا مَنّ اللّهُ عَلَيْك بِالْإِسْلَامِ وَقَالَ الْمُبَرّدُ فِي الْكَامِلِ عَنْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَلَامًا لَمْ يَصِحّ لَفْظُهُ وَلَا مَعْنَاهُ وَلَا يَشْهَدُ لَهُ أَصْلٌ . وَالْأُصُولُ تَشْهَدُ لَهُ بِهَذِهِ الرّوَايَةِ الّتِي ذَكَرْنَاهَا ؛ لِمَا ثَبَتَ أَنّ الْكَافِرَ إذَا أَسْلَمَ ، وَحَسُنَ إسْلَامُهُ كُتِبَ لَهُ كُلّ حَسَنَةٍ كَانَ زَلَفَهَا ، وَهَذَا الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ كُلّ حَسَنَةٍ كَانَ زَلَفَهَا ، وَذَكَرهَا الدّارَقُطْنِيّ وَغَيْرُهُ ثُمّ يَكُونُ الْقِصَاصُ بَعْدَ ذَلِكَ الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ، وَالْمَوْءُودَةُ مَفْعُولَةٌ مِنْ وَأَدَهُ إذَا أَثْقَلَهُ قَالَ الْفَرَزْدَقُ :
وَمِنّا الّذِي مَنَعَ الْوَائِدَا ... تِ وَأَحْيَا الْوَئِيدَ فَلَمْ يُوأَدِ
يَعْنِي : جَدّهُ صَعْصَعَةَ بْنَ مُعَاوِيَةَ بْنِ نَاجِيَةَ بْنِ عِقَالِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ مُجَاشِعٍ . وَقَدْ قِيلَ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ غَيْرَةً عَلَى الْبَنَاتِ وَمَا قَالَهُ اللّهُ فِي الْقُرْآنِ هُوَ الْحَقّ مِنْ قَوْلِهِ خَشْيَةَ إمْلَاقٍ وَذَكَرَ النّقّاشُ فِي التّفْسِيرِ أَنّهُمْ كَانُوا يَئِدُونَ مِنْ الْبَنَاتِ مَا كَانَ مِنْهُنّ زَرْقَاءَ أَوْ بَرْشَاءَ أَوْ شَيْمَاءَ أَوْ كَشْحَاءَ تَشَاؤُمًا مِنْهُمْ بِهَذِهِ الصّفَاتِ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ } [ التّكْوِيرُ 8 - 9 ] .

[ ص 385 ] وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فِي فِرَاقِ دِينِ قَوْمِهِ وَمَا كَانَ لَقِيَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ [ ص 386 ]
أَرَبّا وَاحِدًا ، أَمْ أَلْفُ رَبّ ... أَدِينُ إذَا تَقَسّمَتْ الْأُمُورُ
عَزَلْت اللّاتَ وَالْعُزّى جَمِيعًا ... كَذَلِكَ يَفْعَلُ الْجَلْدُ الصّبُورُ
فَلَا الْعُزّى ، أَدِينُ وَلَا ابْنَتَيْهَا ... وَلَا صَنَمَيْ بَنِي عَمْرٍو أَزُورُ
وَلَا هُبَلًا أَدِينُ وَكَانَ رَبّا ... لَنَا فِي الدّهْرِ إذْ حِلْمِي يَسِيرُ
عَجِبْت . وَفِي اللّيَالِي مُعْجَبَاتٌ ... وَفِي الْأَيّامِ يَعْرِفُهَا الْبَصِيرُ
بِأَنّ اللّهَ قَدْ أَفْنَى رِجَالًا ... كَثِيرًا كَانَ شَأْنُهُمْ الْفُجُورُ
وَأَبْقَى آخَرِينَ بِبَرّ قَوْمٍ ... فَيَرْبُلُ مِنْهُمْ الطّفْلُ الصّغِيرُ
وَبَيْنَا الْمَرْءُ يَعْثُرُ ثَابَ يَوْمًا ... كَمَا يَتَرَوّحُ الْغُصْنُ الْمَطِيرُ
وَلَكِنْ أَعْبُدُ الرّحْمَنَ رَبّي ... لِيَغْفِرَ ذَنْبِي الرّبّ الْغَفُورُ
فَتَقْوَى اللّهِ رَبّكُمْ احْفَظُوهَا ... مَتَى مَا تَحْفَظُوهَا . لَا تَبُورُوا
تَرَى الْأَبْرَارَ . دَارَهُمْ جِنَانٌ ... وَلِلْكُفّارِ حَامِيَةٌ سَعِيرُ
وَخِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ وَإِنْ يَمُوتُوا ... يُلَاقُوا مَا تَضِيقُ بِهِ الصّدُورُ
S[ ص 385 ]
الْعُزّى
فَصْلٌ وَذَكَرَ شِعْرَ زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو وَفِيهِ عَزَلْت اللّاتَ وَالْعُزّى جَمِيعًا . فَأَمّا اللّاتُ فَقَدْ تَقَدّمَ ذِكْرُهَا ، وَأَمّا الْعُزّى ، فَكَانَتْ نَخَلَاتٍ مُجْتَمِعَةً وَكَانَ عَمْرُو بْنُ لُحَيّ قَدْ أَخْبَرَهُمْ - فِيمَا ذُكِرَ - أَنّ الرّبّ يُشْتِي بِالطّائِفِ عِنْدَ اللّاتِ ، وَيُصَيّفُ بِالْعُزّى ، فَعَظّمُوهَا وَبَنَوْا لَهَا بَيْتًا ، وَكَانُوا يَهْدُونَ إلَيْهِ كَمَا يَهْدُونَ إلَى الْكَعْبَةِ ، وَهِيَ الّتِي بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ لِيَكْسِرَهَا ، فَقَالَ لَهُ سَادَتُهَا : يَا خَالِدُ احْذَرْهَا ؛ فَإِنّهَا تَجْدَعُ وَتُكَنّعُ فَهَدَمَهَا خَالِدُ وَتَرَكَ مِنْهَا جَذْمَهَا وَأَسَاسَهَا ، فَقَالَ قَيّمُهَا : وَاَللّهِ لِتَعُودُنّ وَلَتَنْتَقِمُنّ مِمّنْ فَعَلَ بِهَا هَذَا ، فَذَكَرَ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لِخَالِدِ " هَلْ رَأَيْت فِيهَا شَيْئًا " ؟ فَقَالَ لَا ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَرْجِعَ وَيَسْتَأْصِلَ بَقِيّتَهَا بِالْهَدْمِ فَرَجَعَ خَالِدٌ فَأَخْرَجَ أَسَاسَهَا ، فَوَجَدَ فِيهَا امْرَأَةً سَوْدَاءَ مُنْتَفِشَةَ الشّعْرِ تَخْدِشُ وَجْهَهَا ، فَقَتَلَهَا ، وَهَرَبَ الْقَيّمُ وَهُوَ يَقُولُ لَا تُعْبَدُ الْعُزّى بَعْدُ الْيَوْمَ . هَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرَ أَبُو سَعِيدٍ النّيْسَابُورِيّ فِي الْمَبْعَثِ . وَذَكَرَهُ الْأَزْرَقِيّ أَيْضًا وَرَزِينٌ .
مَعْنَى يَرْبُلُ
وَقَوْلُهُ فَيَرْبُلُ مِنْهُمْ الطّفْلُ الصّغِيرُ . أَلْفَيْت فِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ رَبَلَ الطّفْلُ يَرْبُلُ [ ص 386 ] شَبّ وَعَظُمَ . يَرْبَلُ بِفَتْحِ الْبَاءِ أَيْ يَكْبَرُ وَيَنْبُتُ وَمِنْهُ أُخِذَ تَرْبِيلُ الْأَرْضِ . وَقَوْلُهُ كَمَا يَتَرَوّحُ الْغُصْنُ أَيْ يَنْبُتُ وَرَقُهُ بَعْدَ سُقُوطِهِ . إعْرَابُ نَعْتِ النّكِرَةِ الْمُتَقَدّمِ وَقَوْلُهُ وَلِلْكُفّارِ حَامِيَةً سَعِيرُ . نَصَبَ حَامِيَةً عَلَى الْحَالِ مِنْ سَعِيرٍ لِأَنّ نَعْتَ النّكِرَةِ إذَا تَقَدّمَ عَلَيْهَا نُصِبَ عَلَى الْحَالِ وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ فِي مِثْلِهِ لِمَيّةَ مُوحِشًا طَلَلُ
وَأَنْشَدَ أَيْضًا [ لَذِي الرّمّةِ ] :
وَتَحْتَ الْعَوَالِي وَالْقَنَا مُسْتَكِنّةٌ ... ظِبَاءٌ أَعَارَتْهَا الْعُيُونُ الْجَآذِرُ
وَالْعَامِلُ فِي هَذَا الْحَالِ الِاسْتِقْرَارُ الّذِي يَعْمَلُ فِي الظّرْفِ وَيَتَعَلّقُ بِهِ حَرْفُ الْجَرّ وَهَذَا الْحَالُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَخْفَشِ لَا اعْتِرَاضَ فِيهَا ؛ لِأَنّهُ يَجْعَلُ النّكِرَةَ الّتِي بَعْدَهَا مُرْتَفِعَةً بِالظّرْفِ ارْتِفَاعَ الْفَاعِلِ وَأَمّا عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ ، فَالْمَسْأَلَةُ عَسِيرَةٌ جِدّا ؛ لِأَنّهُ يَلْزَمُهُ أَنْ يَجْعَلَهَا حَالًا مِنْ الْمُضْمَرِ فِي الِاسْتِقْرَارِ لِأَنّهُ مَعْرِفَةٌ فَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ نَكِرَةٍ فَإِنْ قُدّرَ الِاسْتِقْرَارُ آخِرَ الْكَلَامِ وَبَعْدَ الْمَرْفُوعِ كَانَ ذَلِكَ فَاسِدًا ؛ لِتَقَدّمِ الْحَالِ عَلَى الْعَامِلِ الْمَعْنَوِيّ وَلِلِاحْتِجَاجِ لَهُ وَعَلَيْهِ مَوْضِعٌ غَيْرَ هَذَا .

وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ أَيْضًا - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هِيَ لِأُمَيّةِ بْنِ أَبِي الصّلْتِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . إلّا الْبَيْتَيْنِ الْأَوّلَيْنِ وَالْبَيْتَ الْخَامِسَ وَآخِرُهَا بَيْتًا . وَعَجُزُ الْبَيْتِ الْأَوّلِ عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ : [ ص 387 ]
إلَى اللّهِ أَهْدِي مِدْحَتِي وَثَنَائِيَا ... وَقَوْلًا رَصِينًا لَا يَنِي الدّهْرَ بَاقِيَا
إلَى الْمَلِكِ الْأَعْلَى الّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ ... إلَهٌ وَلَا رَبّ يَكُونُ مُدَانِيَا
أَلَا أَيّهَا الْإِنْسَانُ إيّاكَ وَالرّدَى ... فَإِنّك لَا تُخْفِي مِنْ اللّهِ خَافِيَا
وَإِيّاكَ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ غَيْرَهُ ... فَإِنّ سَبِيلَ الرّشْدِ أَصْبَحَ بَادِيَا
حَنَانَيْكَ إنّ الْجِنّ كَانَتْ رَجَاءَهُمْ ... وَأَنْتَ إلَهِي رَبّنَا وَرَجَائِيَا
رَضِيت بِك - اللّهُمّ - رَبّا فَلَنْ أَرَى ... أَدِينُ إلَهًا غَيْرَك اللّهُ ثَانِيَا
وَأَنْتَ الّذِي مِنْ فَضْلِ مَنّ وَرَحْمَةٍ ... بَعَثْت إلَى مُوسَى رَسُولًا مُنَادِيَا
فَقُلْت لَهُ يَا اذْهَبْ وَهَارُونَ فَادْعُوَا ... إلَى اللّهِ فِرْعَوْنَ الّذِي كَانَ طَاغِيَا
وَقُولَا لَهُ آأَنْتَ سَوّيْت هَذِهِ ... بِلَا وَتَدٍ حَتّى اطْمَأَنّتْ كَمَا هِيَا
وَقُولَا لَهُ آأَنْتَ رَفّعْت هَذِهِ ... بِلَا عَمَدٍ أَرْفِقْ - إذًا - بِك بَانِيَا
وَقُولَا لَهُ آأَنْتَ سَوّيْت وَسَطهَا ... مُنِيرًا ، إذَا مَا جَنّهُ اللّيْلُ هَادِيَا
وَقُولَا لَهُ مَنْ يُرْسِلُ الشّمْسَ غَدْوَةً ... فَيُصْبِحُ مَا مَسّتْ مِنْ الْأَرْضِ ضَاحِيَا
وَقُولَا لَهُ مَنْ يُنْبِتُ الْحَبّ فِي الثّرَى ... فَيُصْبِحُ مِنْهُ الْبَقْلُ يَهْتَزّ رَابِيَا
وَيَخْرُجُ مِنْهُ حَبّهُ فِي رُءُوسِهِ ... وَفِي ذَاكَ آيَاتٌ لِمَنْ كَانَ وَاعِيَا
وَأَنْتَ بِفَضْلِ مِنْك نَجّيْت يُونُسًا ... وَقَدْ بَاتَ فِي أَضْعَافِ حُوتٍ لَيَالِيَا
وَإِنّيَ لَوْ سَبّحْت بِاسْمِك رَبّنَا ... لَأُكْثِرُ - إلّا مَا غَفَرْت - خَطَائِيَا
فَرَبّ الْعِبَادِ أَلْقِ سَيْبًا وَرَحْمَةً ... عَلَيّ وَبَارِكْ فِي بَنِيّ وَمَالِيَا
Sمِنْ مَعَانِي شِعْرِ زَيْدٍ
[ ص 387 ] أَهْدِي مِدْحَتِي وَثَنَائِيَا . وَفِيهِ أَلَا أَيّهَا الْإِنْسَانُ إيّاكَ [ ص 388 ] قَالَ فَإِنّك لَا تُخْفِي مِنْ اللّهِ خَافِيَا . وَفِيهِ
وَإِنّي وَإِنْ سَبّحْت بِاسْمِك رَبّنَا ... لَأُكْثِرُ إلّا مَا غَفَرْت خَطَائِيَا
مَعْنَى الْبَيْتِ إنّي لَأُكْثِرُ مِنْ هَذَا الدّعَاءِ الّذِي هُوَ بِاسْمِك رَبّنَا إلّا مَا غَفَرْت " وَمَا " بَعْدَ إلّا زَائِدَةٌ وَإِنْ سَبّحْت : اعْتِرَاضٌ بَيْنَ اسْمِ إنّ وَخَبَرِهَا ، كَمَا تَقُولُ إنّي لَأُكْثِرُ مِنْ هَذَا الدّعَاءِ الّذِي هُوَ بِاسْمِك رَبّنَا إلّا وَاَللّهِ يَغْفِرُ لِي لَأَفْعَلُ كَذَا ، وَالتّسْبِيحُ هُنَا بِمَعْنَى الصّلَاةِ أَيْ لَا أَعْتَمِدُ وَإِنْ صَلّيْت إلّا عَلَى دُعَائِك وَاسْتِغْفَارِك مِنْ خَطَايَايَ .
تَفْسِيرُ حَنَانَيْكَ
وَقَوْلُهُ حَنَانَيْكَ بِلَفْظِ التّثْنِيَةِ قَالَ النّحْوِيّونَ يُرِيدُ حَنَانًا بَعْدَ حَنَانٍ كَأَنّهُمْ ذَهَبُوا إلَى التّضْعِيفِ وَالتّكْرَارِ لَا إلَى الْقَصْرِ عَلَى اثْنَيْنِ خَاصّةً دُونَ مَزِيدٍ . قَالَ الْمُؤَلّفُ رَحِمَهُ اللّهُ وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ حَنَانًا فِي الدّنْيَا ، وَحَنَانًا فِي الْآخِرَةِ وَإِذَا قِيلَ هَذَا لِمَخْلُوقِ نَحْوَ قَوْلِ طَرَفَةَ
أَبَا مُنْذِرٍ أَفْنَيْت فَاسْتَبْقِ بَعْضَنَا ... حَنَانَيْكَ بَعْضُ الشّرّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضٍ
فَإِنّمَا يُرِيدُ حَنَانَ دَفْعٍ وَحَنَانَ نَفْعٍ لِأَنّ كُلّ مَنْ أَمّلَ مَلِكًا ، فَإِنّمَا يُؤَمّلُهُ لِيَدْفَعَ عَنْهُ ضَيْرًا ، أَوْ لِيَجْلِبَ إلَيْهِ خَيْرًا .
شَرِيعَةُ أَدِينُ
وَقَوْلُهُ فَلَنْ أَرَى أَدِينُ إلَهًا . أَيْ أَدِينُ لِإِلَهِ وَحَذَفَ اللّامَ وَعَدّى الْفِعْلَ لِأَنّهُ فِي مَعْنَى : أَعْبُدُ إلَهًا .
حَوْلَ اسْمِ اللّهِ
وَقَوْلُهُ غَيْرَك اللّهُ بِرَفْعِ الْهَاءِ أَرَادَ يَا أَللّهُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ فِيمَا فِيهِ الْأَلِفُ وَاللّامُ إلّا أَنّ حُكْمَ الْأَلِفِ وَاللّامِ فِي هَذَا اللّفْظِ الْمُعَظّمِ يُخَالِفُ حُكْمَهَا فِي سَائِرِ الْأَسْمَاءِ أَلَا تَرَى أَنّك تَقُولُ يَا أَيّهَا الرّجُلُ وَلَا يُنَادَى اسْمُ اللّهِ بِيَا أَيّهَا ، وَتُقْطَعُ هَمْزَتُهُ فِي النّدَاءِ فَتَقُولُ يَا أَللّهُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي اسْمِ غَيْرِهِ إلَى أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ يُخَالِفُ فِيهَا هَذَا الِاسْمُ لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُعَرّفَةِ [ ص 389 ] شَاءَ اللّهُ - وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ وَفِيهِ بَيْتٌ حَسَنٌ لَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ إسْحَاقَ ، وَذَكَرَهُ أَبُو الْفَرَجِ فِي أَخْبَارِ زَيْدٍ وَهُوَ
أَدِينُ إلَهًا يُسْتَجَارُ وَلَا أَرَى ... أَدِينُ لِمَنْ لَمْ يَسْمَعْ الدّهْرَ دَاعِيَا
حَذَفَ الْمُنَادَى مَعَ بَقَاءِ الْيَاءِ
وَفِيهِ فَقُلْت : أَلَا يَا اذْهَبْ عَلَى حَذْفِ الْمُنَادَى ، كَأَنّهُ قَالَ أَلَا يَا هَذَا اذْهَبْ كَمَا قُرِئَ أَلَا يَا اُسْجُدُوا ، يُرِيدُ يَا قَوْمُ اُسْجُدُوا ، وَكَمَا قَالَ غَيْلَانُ أَلَا يَا اسْلَمِي يَا دَارَ مَيّ عَلَى الْبِلَى
وَفِيهِ اذْهَبْ وَهَارُونَ عَطْفًا عَلَى الضّمِيرِ فِي اذْهَبْ وَهُوَ قَبِيحٌ إذَا لَمْ يُؤَكّدْ وَلَوْ نَصَبَهُ عَلَى الْمَفْعُولِ مَعَهُ لَكَانَ جَيّدًا .
تَصْرِيفُ اطْمَأَنّتْ وَأَشْيَاءَ
وَقَوْلُهُ اطْمَأَنّتْ كَمَا هِيَا ، وَزْنُهُ افْلَعَلّتْ لِأَنّ الْمِيمَ أَصْلُهَا أَنْ تَكُونَ بَعْدَ الْأَلِفِ لِأَنّهُ مِنْ تَطَأْمَنَ أَيْ تَطَأْطَأَ وَإِنّمَا قَدّمُوهَا لِتَبَاعُدِ الْهَمْزَةِ الّتِي هِيَ عَيْنُ الْفِعْلِ مِنْ هَمْزَةِ الْوَصْلِ فَتَكُونُ أَخَفّ عَلَيْهِمْ فِي اللّفْظِ كَمَا فَعَلُوا فِي أَشْيَاءَ حِينَ قَلَبُوهَا فِي قَوْلِ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ فِرَارًا مِنْ تَقَارُبِ الْهَمْزَتَيْنِ . كَمَا هِيَا . مَا : زَائِدَةٌ لِتَكُفّ الْكَافَ عَنْ الْعَمَلِ وَتُهَيّئُهَا لِلدّخُولِ عَلَى الْجُمَلِ وَهِيَ اسْمٌ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ التّقْدِيرُ كَمَا هِيَ عَلَيْهِ وَالْكَافُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ مِنْ الْمَصْدَرِ الّذِي دَلّ عَلَيْهِ اطْمَأَنّ كَمَا تَقُولُ سِرْت مِثْلَ سَيْرِ زَيْدٍ فَمِثْلُ حَالٌ مِنْ سَيْرِك الّذِي سِرْته ، وَفِيهِ أَرْفِقْ إذًا بِك بَانِيَا . أَرْفِقْ تَعَجّبٌ وَبِك فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ لِأَنّ الْمَعْنَى : رَفَقْت ، وَبَانِيًا تَمْيِيزٌ لِأَنّهُ يَصْلُحُ أَنْ يُجَرّ بِمِنْ كَمَا تَقُولُ أَحْسِنْ بِزَيْدِ مِنْ رَجُلٍ وَحَرْفُ الْجَرّ مُتَعَلّقٌ بِمَعْنَى التّعَجّبِ إذْ قَدْ عُلِمَ أَنّك مُتَعَجّبٌ مِنْهُ وَلِبَسْطِ هَذَا الْمَعْنَى وَكَشْفِهِ مَوْضِعٌ غَيْرَ هَذَا - إنْ شَاءَ اللّهُ - وَبَعْدَ قَوْلِهِ وَقَدْ بَاتَ فِي أَضْعَافِ حُوتٍ لَيَالِيَا
بَيْتٌ لَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ إسْحَاقَ ، وَوَقَعَ فِي جَامِعِ ابْنِ وَهْبٍ وَهُوَ
وَأَنْبَتَ يَقْطِينًا عَلَيْهِ بِرَحْمَةِ ... مِنْ اللّهِ لَوْلَا ذَاكَ أَصْبَحَ ضَاحِيَا

وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو يُعَاتِبُ امْرَأَتَهُ صَفِيّةَ بِنْتَ الْحَضْرَمِيّ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاسْم الْحَضْرَمِيّ عَبْدُ اللّهِ أَحَدُ الصّدِفِ ، وَاسْمُ الصّدِفِ عَمْرُو بْنُ مَالِكٍ أَحَدُ السّكُونِ بْنِ أَشْرَسَ بْنِ كِنْدِيّ وَيُقَالُ كِنْدَةُ بْنُ ثَوْرِ بْنِ مُرَتّعِ بْنِ عُفَيْرِ بْنِ عَدِيّ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُرّةَ بْنِ أُدَدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مِهْسَعِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَرِيبِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ ، وَيُقَالُ مُرْتِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ . [ ص 388 ] [ ص 389 ] [ ص 390 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو قَدْ أَجْمَعَ الْخُرُوجَ مِنْ مَكّةَ ، لِيَضْرِبَ فِي الْأَرْضِ يَطْلُبُ الْحَنِيفِيّةَ دِينَ إبْرَاهِيمَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَكَانَتْ صَفِيّةُ بِنْتُ الْحَضْرَمِيّ كُلّمَا رَأَتْهُ قَدْ تَهَيّأَ لِلْخُرُوجِ وَأَرَادَهُ آذَنَتْ بِهِ الْخَطّابَ بْنَ نُفَيْلٍ ، وَكَانَ الْخَطّابُ بْنُ نُفَيْلٍ عَمّهُ وَأَخَاهُ لِأُمّهِ وَكَانَ يُعَاتِبُهُ عَلَى فِرَاقِ دِينِ قَوْمِهِ وَكَانَ الْخَطّابُ قَدْ وَكّلَ صَفِيّةَ بِهِ وَقَالَ إذَا رَأَيْتِيهِ قَدْ هَمّ بِأَمْرِ فَآذِنِينِي بِهِ - فَقَالَ زَيْدٌ
لَا تَحْبِسِينِي فِي الْهَوَا ... نِ صَفِيّ مَا دَابِي وَدَابُهْ
إنّي إذَا خِفْت الْهَوَا ... نَ مُشَيّعٌ ذُلُلٌ رِكَابُهُ
دُعْمُوصُ أَبْوَابِ الْمُلُوّ ... كِ وَجَائِبٌ لِلْخَرْقِ نَابُهْ
قَطّاعُ أَسْبَابٍ تَذِلّ ... بِغَيْرِ أَقْرَانٍ صِعَابُهْ
وَإِنّمَا أَخَذَ الْهَوَا ... نَ الْعِيرُ إذْ يُوهَى إهَابُهْ
وَيَقُولُ إنّي لَا أَذِلّ ... بِصَكّ جَنْبَيْهِ صِلَابُهْ
وَأَخِي ابْنُ أُمّي ، ثُمّ عَمّ ... يَ لَا يُوَاتِينِي خِطَابُهْ
وَإِذَا يُعَاتِبُنِي بِسُو ... ءٍ قُلْت : أَعْيَانِي جَوَابُهْ
وَلَوْ أَشَاءُ لَقُلْت : مَا ... عِنْدِي مَفَاتِحُهُ وَبَابُهْ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحُدّثْت عَنْ بَعْضِ أَهْلِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ : أَنّ زَيْدًا إذَا كَانَ اسْتَقْبَلَ الْكَعْبَةَ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ قَالَ لَبّيْكَ حَقّا حَقّا ، تَعَبّدًا وَرِقّا . [ ص 391 ] قَالَ
أَنْفِي لَك اللّهُمّ عَانٍ رَاغِمُ ... مَهْمَا تُجَشّمُنِي فَإِنّي جَاشِمُ
الْبِرّ أَبْغِي لَا الْخَالَ ... لَيْسَ مُهَجّرٌ كَمِنْ قَالَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ
الْبِرّ أَبْقَى لَا الْخَالُ ... لَيْسَ مُهَجّرٌ كَمَنْ قَالَ
قَالَ وَقَوْلُهُ " مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ " عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ :
وَأَسْلَمْت وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الْأَرْضُ تَحْمِلُ صَخْرًا ثِقَالَا
دَحَاهَا فَلَمّا اسْتَوَتْ ... عَلَى الْمَاءِ أَرْسَى عَلَيْهَا الْجِبَالَا
وَأَسْلَمْت وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الْمُزْنُ تَحْمِلُ عَذْبًا زُلَالَا
إذَا هِيَ سِيقَتْ إلَى بَلْدَةٍ ... أَطَاعَتْ فَصَبّتْ عَلَيْهَا سِجَالَا
[ ص 392 ] وَكَانَ الْخَطّابُ قَدْ آذَى زَيْدًا ، حَتّى أَخْرَجَهُ إلَى أَعْلَى مَكّةَ ، فَنَزَلَ حِرَاءَ مُقَابِلَ مَكّةَ ، وَوَكّلَ بِهِ الْخَطّابُ شَبَابًا مِنْ شَبَابِ قُرَيْشٍ وَسُفَهَاءَ مِنْ سُفَهَائِهِمْ فَقَالَ لَهُمْ لَا تَتْرُكُوهُ يَدْخُلُ مَكّةَ ، فَكَانَ لَا يَدْخُلُهَا إلّا سِرّا مِنْهُمْ فَإِذَا عَلِمُوا بِذَلِكَ آذَنُوا بِهِ الْخَطّابَ فَأَخْرَجُوهُ وَآذَوْهُ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُفْسِدَ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَأَنْ يُتَابِعَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى فِرَاقِهِ . فَقَالَ وَهُوَ يُعَظّمُ حُرْمَتَهُ عَلَى مَنْ اسْتَحَلّ مِنْهُ مَا اسْتَحَلّ مِنْ قَوْمِهِ
لَاهُمّ إنّي مُحْرِمٌ لَا حِلّهْ ... وَإِنّ بَيْتِي أَوْسَطُ الْمَحَلّهْ
عِنْدَ الصّفَا لَيْسَ بِذِي مَضَلّهْ
ثُمّ خَرَجَ يَطْلُبُ دِينَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ وَيَسْأَلُ الرّهْبَانَ وَالْأَحْبَارَ حَتّى بَلَغَ الْمَوْصِلَ وَالْجَزِيرَةَ كُلّهَا ، ثُمّ أَقْبَلَ فَجَالَ الشّامَ كُلّهُ حَتّى انْتَهَى إلَى رَاهِبٍ بِمَيْفَعَةَ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ ، كَانَ يَنْتَهِي إلَيْهِ عِلْمُ أَهْلِ النّصْرَانِيّةِ فِيمَا يَزْعُمُونَ فَسَأَلَهُ عَنْ الْحَنِيفِيّةِ دِينِ إبْرَاهِيمَ فَقَالَ إنّك لَتَطْلُبُ دِينًا مَا أَنْتَ بِوَاجِدِ مَنْ يَحْمِلُك عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَلَكِنْ قَدْ أَظَلّ زَمَانُ نَبِيّ يَخْرُجُ مِنْ بِلَادِك الّتِي خَرَجْت مِنْهَا ، يُبْعَثُ بِدِينِ إبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِيّةِ فَالْحَقْ بِهَا ، فَإِنّهُ مَبْعُوثٌ الْآنَ هَذَا زَمَانُهُ وَقَدْ كَانَ شَامَ الْيَهُودِيّةَ والنصرانية ، فَلَمْ يَرْضَ شَيْئًا مِنْهُمَا ، فَخَرَجَ سَرِيعًا ، حِينَ قَالَ لَهُ ذَلِكَ الرّاهِبُ مَا قَالَ يُرِيدُ مَكّةَ ، حَتّى إذَا تَوَسّطَ بِلَادَ لَخْمٍ ، عَدَوْا عَلَيْهِ فَقَتَلُوهُ - فَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدٍ يَبْكِيهِ
رَشَدْت ، وَأَنْعَمْت ابْنَ عَمْرٍو ، وَإِنّمَا ... تَجَنّبْت تَنّورًا مِنْ النّارِ حَامِيَا
بِدِينِك رَبّا لَيْسَ رَبّ كَمِثْلِهِ ... وَتَرْكِك أَوْثَانَ الطّوَاغِي كَمَا هِيَا
وَإِدْرَاكِك الدّينَ الّذِي قَدْ طَلَبْته ... وَلَمْ تَكُ عَنْ تَوْحِيدِ رَبّك سَاهِيَا
فَأَصْبَحْت فِي دَارٍ كَرِيمٍ مُقَامُهَا ... تُعَلّلُ فِيهَا بِالْكَرَامَةِ لَاهِيَا
تُلَاقِي خَلِيلَ اللّهِ فِيهَا ، وَلَمْ تَكُنْ ... مِنْ النّاسِ جَبّارًا إلَى النّارِ هَاوِيَا
وَقَدْ تُدْرِكُ الْإِنْسَانَ رَحْمَةُ رَبّهِ ... وَلَوْ كَانَ تَحْتَ الْأَرْضِ سَبْعِينَ وَادِيَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : يُرْوَى لِأُمَيّةِ بْنِ أَبِي الصّلْتِ الْبَيْتَانِ الْأَوّلَانِ مِنْهَا ، وَآخِرُهَا بَيْتًا فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَقَوْلُهُ " أَوْثَانَ الطّوَاغِي " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ . [ ص 393 ]
Sصَفِيّةُ بِنْتُ الْحَضْرَمِيّ
وَذَكَرَ صَفِيّةَ بِنْتَ الْحَضْرَمِيّ وَاسْمُ الْحَضْرَمِيّ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمّارٍ وَسَيَأْتِي [ ص 390 ] أَخِيهَا بَعْدَ . الدّعْمُوصِ وَالْخَرْمُ فِي الشّعْرِ وَقَوْلُهُ دُعْمُوصُ أَبْوَابِ الْمُلُوكِ . يُرِيدُ وَلّاجًا فِي أَبْوَابِ الْمُلُوكِ وَأَصْلُ الدّعْمُوصِ سَمَكَةٌ صَغِيرَةٌ كَحَيّةِ الْمَاءِ فَاسْتَعَارَهُ هُنَا ، وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ صِغَارُكُمْ دَعَامِيصُ الْجَنّةِ وَكَمَا اسْتَعَارَتْ عَائِشَةُ الْعُصْفُورَ حِينَ نَظَرَتْ إلَى طِفْلٍ صَغِيرٍ قَدْ مَاتَ [ ص 391 ] فَقَالَتْ طُوبَى لَهُ عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنّةِ لَمْ يَعْمَلْ سُوءًا ، فَقَالَ لَهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " وَمَا يُدْرِيك ؟ إنّ اللّهَ خَلَقَ الْجَنّةَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلًا ، وَخَلَقَ النّارَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلًا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَفِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ خَرْمٌ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا قَوْله :
وَلَوْ أَشَاءُ لَقُلْت مَا ... عِنْدِي مَفَاتِحُهُ وَبَابُهْ
وَالْآخَرُ قَوْلُهُ
وَإِنّمَا أَخَذَ الْهَوَانَ الْ ... عِيرُ إذْ يُوهَى إهَابُهْ
وَقَدْ تَقَدّمَ مِثْلُ هَذَا فِي شِعْرِ ابْنِ الزّبَعْرَى ، وَتَكَلّمْنَا عَلَيْهِ هُنَالِكَ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ . وَقَوْلُهُ وَيَقُولُ إنّي لَا أَذِلّ أَيْ يَقُولُ الْعِيرُ ذَلِكَ بِصَكّ جَنْبَيْهِ صِلَابُهْ أَيْ صِلَابُ مَا يُوضَعُ عَلَيْهِ وَأَضَافَهَا إلَى الْعِيرِ لِأَنّهَا عَبْؤُهُ وَحَمْلُهُ .
لُغَوِيّاتٌ وَنَحْوِيّاتٌ
وَذَكَرَ قَوْلَهُ الْبِرّ أَبْغِي لَا الْخَالَ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْبِرّ أَبْغِي : بِالنّصْبِ وَالْخَالُ [ ص 392 ] قَالَ أَيْ لَيْسَ مَنْ هَجَرَ وَتَكَيّسَ كَمَنْ آثَرَ الْقَائِلَةَ وَالنّوْمَ فَهُوَ مِنْ قَالَ يَقِيلُ وَهُوَ ثُلَاثِيّ ، وَلَكِنْ لَا يُتَعَجّبُ مِنْهُ . لَا يُقَالُ مَا [ ص 393 ] قَالَ أَهْلُ النّحْوِ اسْتَغْنَوْا عَنْهُ بِمَا أَنْوَمَهُ وَلِذِكْرِ السّرّ فِي امْتِنَاعِ التّعَجّبِ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ مَوْضِعٌ غَيْرَ هَذَا . وَقَوْلُ زَيْدٍ إنّي مُحْرِمٌ لَا حِلّهْ . مُحْرِمٌ أَيْ سَاكِنٌ بِالْحَرَمِ وَالْحِلّةُ : أَهْلُ الْحِلّ . يُقَالُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمِيعِ حِلّةٌ . ذَكَرَ لِقَاءَ زَيْدٍ الرّاهِبَ بِمَيْفَعَةَ هَكَذَا تَقَيّدَ فِي الْأَصْلِ بِكَسْرِ الْمِيمِ مِنْ مَيْفَعَةَ وَالْقِيَاسُ فِيهَا : الْفَتْحُ لِأَنّهُ اسْمٌ لِمَوْضِعِ أُخِدَ مِنْ الْيَفَاعُ وَهُوَ الْمُرْتَفِعُ مِنْ الْأَرْضِ . وَقَوْلُهُ شَامَ الْيَهُودِيّةَ والنصرانية ، هُوَ فَاعِلٌ مِنْ الشّمّ كَمَا قَالَ يَزِيدُ بْنُ شَيْبَانَ حِينَ سَأَلَ النّسّابَةَ مَنْ قُضَاعَةُ ، ثُمّ انْصَرَفَ فَقَالَ لَهُ النّسّابَةُ شَامَمْتَنَا مُشَامّةُ الذّئْبِ الْغَنَمَ ثُمّ تَنْصَرِفُ . فِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ أَبُو عَلِيّ فِي النّوَادِرِ وَمَعْنَاهُ اسْتَخْبَرَ فَاسْتَعَارَهُ مِنْ الشّمّ فَنَصَبَ الْيَهُودِيّةَ والنصرانية نَصْبَ الْمَفْعُولِ وَمَنْ خَفَضَ جَعَلَ شَامّ اسْمَ فَاعِلٍ مِنْ شَمَمْت ، وَالْفِعْلُ أَوْلَى بِهَذَا الْمَوْضِعِ كَمَا تَقَدّمَ وَقَوْلُ وَرَقَةَ رَشَدْت وَأَنْعَمْت ابْنَ عَمْرٍو ، أَيْ رَشَدْت وَبَالَغْت فِي الرّشَدِ كَمَا يُقَالُ أَمْعَنْت النّظَرَ وَأَنْعَمْته ، وَقَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ تَحْتَ الْأَرْضِ سَبْعِينَ وَادِيًا بِالنّصْبِ . نَصَبَ سَبْعِينَ عَلَى الْحَالِ لِأَنّهُ قَدْ يَكُونُ صِفَةً لِلنّكِرَةِ كَمَا قَالَ فَلَوْ كُنْت فِي جُبّ ثَمَانِينَ قَامَةً وَمَا [ يَكُونُ ] صِفَةً لِلنّكِرَةِ يَكُونُ حَالًا مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَهُوَ هُنَا حَالٌ مِنْ الْبُعْدِ كَأَنّهُ قَالَ وَلَوْ بَعُدَ تَحْتَ الْأَرْضِ سَبْعِينَ . كَمَا تَقُولُ بَعُدَ طَوِيلًا ، أَيْ بُعْدًا طَوِيلًا ، وَإِذَا حَذَفْت الْمَصْدَرَ وَأَقَمْت الصّفَةَ مَقَامَهُ لَمْ تَكُنْ إلّا حَالًا ، وَقَدْ تَقَدّمَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ فِي ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ سَارُوا رُوَيْدًا وَنَحْوِ هَذَا : دَارِي خَلْفَ دَارِك فَرْسَخًا ، أَيْ تَقْرُبُ مِنْهَا فَرْسَخًا إنْ أَرَدْت الْقُرْبَ وَكَذَلِكَ إنْ أَرَدْت الْبُعْدَ فَالْبُعْدُ وَالْقُرْبُ مُقَدّرَانِ بِالْفَرْسَخِ فَلَوْ قُلْت : دَارِي تَقْرُبُ مِنْك قُرْبًا مُقَدّرًا بِفَرْسَخِ لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَقُولُ قُرْبًا كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا ، فَالْفَرْسَخُ مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ كَثِيرٍ أَوْ قَلِيلٍ فَإِعْرَابُهُ كَإِعْرَابِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ الشّاعِرِ
لَا تَعْجَبُوا فَلَوْ انّ طُولَ قَنَاتِهِ ... مِيلٌ إذَا نَظَمَ الْفَوَارِسَ مِيلًا
أَيْ نَظَمَهُمْ نَظْمًا مُسْتَطِيلًا ، وَوَضَعَ مِيلًا مَوْضِعَ مُسْتَطِيلًا ، فَإِعْرَابُهُ كَإِعْرَابِهِ فَهُوَ وَصْفٌ لِلْمَصْدَرِ وَإِذَا أُقِيمَ الْوَصْفُ مَقَامَ الْمَوْصُوفِ فِي هَذَا الْبَابِ لَمْ يَكُنْ حَالًا مِنْ الْفَاعِلِ لَكِنْ مِنْ الْمَصْدَرِ الّذِي يَدُلّ الْفِعْلُ عَلَيْهِ بِلَفْظِهِ نَحْوَ سَارُوا طَوِيلًا ، وَسَقَيْتهَا أَحْسَنَ مِنْ سَقْيِ إبِلِك ، وَنَحْوَ ذَلِكَ .

صِفَةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْإِنْجِيل
[ ص 394 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَ - فِيمَا بَلَغَنِي عَمّا كَانَ وَضَعَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فِيمَا جَاءَهُ مِنْ اللّهِ فِي الْإِنْجِيلِ لِأَهْلِ الْإِنْجِيلِ - مِنْ صِفَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِمّا أَثْبَتَ يُحَنّسُ الْحَوَارِيّ لَهُمْ حِينَ نَسَخَ لَهُمْ الْإِنْجِيلَ عَنْ عَهْدِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَيْهِمْ أَنّهُ قَالَ مَنْ أَبْغَضَنِي فَقَدْ أَبْغَضَ الرّبّ ، وَلَوْلَا أَنّي صَنَعْت بِحَضْرَتِهِمْ صَنَائِعَ لَمْ يَصْنَعْهَا أَحَدٌ قَبْلِي ، مَا كَانَتْ لَهُمْ خَطِيئَةٌ وَلَكِنْ مِنْ الْآنَ بَطِرُوا وَظَنّوا أَنّهُمْ يَعُزّونَنِي ، وَأَيْضًا لِلرّبّ وَلَكِنْ لَا بُدّ مِنْ أَنْ تَتِمّ الْكَلِمَةُ الّتِي فِي النّامُوسِ أَنّهُمْ أَبْغَضُونِي مَجّانًا ، أَيْ بَاطِلًا . فَلَوْ قَدْ جَاءَ الْمُنْحَمَنّا هَذَا الّذِي يُرْسِلُهُ اللّهُ إلَيْكُمْ مِنْ عِنْدِ الرّبّ وَرُوحُ الْقُدْسِ هَذَا الّذِي مِنْ عِنْدِ الرّبّ خَرَجَ فَهُوَ شَهِيدٌ عَلَيّ وَأَنْتُمْ أَيْضًا ؛ لِأَنّكُمْ قَدِيمًا كُنْتُمْ مَعِي فِي هَذَا ، قُلْت لَكُمْ لِكَيْمَا لَا تَشُكّوا [ ص 395 ]
Sيُحَنّسُ الْحَوَارِيّ
[ ص 394 ] الْعَوْجَاءَ ، فَيَفْتَحَ بِهِ عُيُونًا عُمْيًا وَآذَانًا صُمّا ، وَقُلُوبًا غُلْفًا ؛ بِأَنْ يَقُولُوا : لَا إلَهَ إلّا اللّهُ .
مِنْ صِفَاتِ النّبِيّ عِنْدَ الْأَحْبَارِ
وَمِمّا وُجِدَ مِنْ صِفَتِهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عِنْدَ الْأَحْبَارِ مَا ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيّ مِنْ حَدِيثِ النّعْمَانِ [ ص 395 ] التّيْمِيّ . قَالَ وَكَانَ مِنْ أَحْبَارِ يَهُودَ بِالْيَمَنِ فَلَمّا سَمِعَ بِذَلِكَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَدِمَ عَلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ ثُمّ قَالَ إنّ أَبِي كَانَ يَخْتِمُ عَلَى سِفْرٍ وَيَقُولُ [ لَا تَقْرَأْهُ ] عَلَى يَهُودَ حَتّى تَسْمَعَ بِنَبِيّ قَدْ خَرَجَ بِيَثْرِبَ فَإِذَا سَمِعْت بِهِ فَافْتَحْهُ . قَالَ نُعْمَانُ فَلَمّا سَمِعْت بِك فَتَحْت السّفْرَ فَإِذَا فِيهِ صِفَتُك كَمَا أَرَاك السّاعَةَ وَإِذَا فِيهِ مَا تُحِلّ وَمَا تُحَرّمُ وَإِذَا فِيهِ إنّك خَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمّتُك خَيْرُ الْأُمَمِ وَاسْمُك : أَحْمَدُ وَأُمّتُك الْحَامِدُونَ . قُرْبَانُهُمْ دِمَاؤُهُمْ وَأَنَاجِيلُهُمْ صُدُورُهُمْ وَهُمْ لَا يَحْضُرُونَ قِتَالًا إلّا وَجِبْرِيلُ مَعَهُمْ يَتَحَنّنُ اللّهَ عَلَيْهِمْ كَتَحَنّنِ النّسْرِ عَلَى فِرَاخِهِ ثُمّ قَالَ لِي : إذَا سَمِعْت بِهِ فَاخْرُجْ إلَيْهِ وَآمِنْ بِهِ وَصَدّقْ بِهِ فَكَانَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يُحِبّ أَنْ يَسْمَعَ أَصْحَابُهُ حَدِيثَهُ فَأَتَاهُ يَوْمًا ، فَقَالَ لَهُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَا نُعْمَانُ حَدّثْنَا " ، فَابْتَدَأَ النّعْمَانُ الْحَدِيثَ مِنْ أَوّلِهِ فَرُئِيَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَوْمَئِذٍ يَتَبَسّمُ ثُمّ قَالَ " أَشْهَدُ أَنّي رَسُولُ اللّهِ وَهُوَ الّذِي قَتَلَهُ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيّ ، وَقَطّعَهُ عُضْوًا عُضْوًا ، وَهُوَ يَقُولُ إنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ وَإِنّك كَذّابٌ مُفْتَرٍ عَلَى اللّهِ ثُمّ حَرّقَهُ بِالنّارِ " .

مَبْعَثُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ تَسْلِيمًا
[ ص 396 ] قَالَ حَدّثَنَا أَبُو مُحَمّدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ قَالَ حَدّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَكّائِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ الْمُطّلِبِيّ قَالَ فَلَمّا بَلَغَ مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَرْبَعِينَ سَنَةً بَعَثَهُ اللّهُ تَعَالَى رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وَكَافّةً لِلنّاسِ بَشِيرًا ، وَكَانَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى كُلّ نَبِيّ بَعَثَهُ قَبْلَهُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَالتّصْدِيقِ لَهُ وَالنّصْرِ لَهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ وَأَخَذَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤَدّوا ذَلِكَ إلَى كُلّ مَنْ آمَنَ بِهِمْ وَصَدّقَهُمْ فَأَدّوْا مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْحَقّ فِيهِ . يَقُولُ اللّهُ تَعَالَى لِمُحَمّدِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلّمَ [ ص 397 ] { وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي } أَيْ ثِقَلَ مَا حَمّلْتُكُمْ مِنْ عَهْدِي : { قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشّاهِدِينَ } [ آلُ عِمْرَانَ 81 ] فَأَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّينَ جَمِيعًا بِالتّصْدِيقِ لَهُ وَالنّصْرِ لَهُ مِمّنْ خَالَفَهُ وَأَدّوْا ذَلِكَ إلَى مَنْ آمَنَ بِهِمْ وَصَدّقَهُمْ مِنْ أَهْلِ هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ .
Sكِتَابُ الْمَبْعَثِ
[ ص 396 ] ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاق َ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بُعِثَ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ مِنْ مَوْلِدِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ وَهَذَا مَرْوِيّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، وَجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ وَقَبَاثِ بْنِ أَشْيَمَ وَعَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَهُوَ صَحِيحٌ عِنْدَ أَهْلِ السّيَرِ وَالْعِلْمِ بِالْأَثَرِ وَقَدْ رُوِيَ أَنّهُ نُبّئَ لِأَرْبَعِينَ وَشَهْرَيْنِ مِنْ مَوْلِدِهِ وَقِيلَ لِقَبَاثِ بْنِ أَشْيَمَ مَنْ أَكْبَرُ أَنْتَ أَمْ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ أَكْبَرُ مِنّي ، وَأَنَا أَسَنّ مِنْهُ وَوُلِدَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَامَ الْفِيلِ وَوَقَفَتْ بِي أُمّي عَلَى رَوْثِ الْفِيلِ وَيُرْوَى : خَزْقِ الطّيْرِ فَرَأَيْته أَخْضَرَ مُحِيلًا ، أَيْ قَدْ أَتَى عَلَيْهِ حَوْلٌ وَفِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْبَكّائِيّ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لِبِلَالِ لَا يَفُتْك صِيَامُ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ فَإِنّي قَدْ وُلِدْت فِيهِ وَبُعِثْت فِيهِ وَأَمُوتُ فِيهِ
إعْرَابُ لَمَا آتَيْتُكُمْ
[ ص 397 ] وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ قَوْلَ اللّهِ سُبْحَانَهُ { وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النّبِيّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ } الْآيَةُ . وَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ اسْمٌ مُبْتَدَأٌ بِمَعْنَى : الّذِي ، وَالتّقْدِيرُ لَلّذِي آتَيْنَاكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ وَلَا يَصِحّ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى إضْمَارِ فِعْلٍ كَمَا يَنْتَصِبُ مَا يَشْتَغِلُ عَنْهُ الْفِعْلُ بِضَمِيرِهِ لِأَنّ مَا بَعْدَ اللّامِ الثّانِيَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيمَا قَبْلَهَا ، وَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ مَا قَبْلَهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِمَا يَعْمَلُ فِيهِ وَقَدْ قِيلَ إنّ مَا هَذِهِ شَرْطٌ . وَالتّقْدِيرُ لَمَهْمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ لَتُؤْمِنُنّ بِهِ وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ لِأَنّهُ جَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ إنّ وَقَوْلُ الْخَلِيلِ إنّهَا بِمَنْزِلَةِ الّذِي ، أَيْ إنّهَا اسْمٌ لَا حَرْفٌ وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلَيْهِمَا عَلَى هَذَا ، فَتَكُونُ اسْمًا ، وَتَكُونُ شَرْطًا ، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ عَلَى قَوْلِ الْخَلِيلِ خَبَرِيّةً فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ وَيَكُونَ الْخَبَرُ لَتُؤْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنّهُ وَإِنْ كَانَ الضّمِيرَانِ عَائِدَيْنِ عَلَى الرّسُولِ لَا عَلَى الّذِي ، وَلَكِنْ لَمّا قَالَ رَسُولُ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَكُمْ ارْتَبَطَ الْكَلَامُ بَعْضُهُ بِبَعْضِ وَاسْتَغْنَى بِالضّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى الرّسُولِ عَنْ ضَمِيرٍ يَعُودُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ وَلَهُ نَظِيرٌ فِي التّنْزِيلِ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَالّذِينَ يُتَوَفّوْنَ مِنْكُمْ } [ الْبَقَرَةُ 234 ] خَبَرُهُ يَتَرَبّصْنَ بِأَنْفُسِهِنّ وَلَمْ يَعُدْ عَلَى الْمُبْتَدَإِ شَيْءٌ لِتَشَبّثِ الْكَلَامِ بَعْضُهُ بِبَعْضِ وَقَدْ لَاحَ لِي بَعْدَ نَظَرِي الْكِتَابَ أَنّ الّذِي قَالَهُ الْخَلِيلُ وَقَوْلَ سِيبَوَيْهِ قَوْلٌ وَاحِدٌ غَيْرَ أَنّهُ قَالَ وَدُخُولُ اللّامِ عَلَى مَا ، كَدُخُولِهَا عَلَى إنّ يَعْنِي : فِي الْجَزَاءِ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يُعْمِلَ مَا جَزَاءً وَإِنّمَا تَكَلّمَ عَلَى اللّامِ خَاصّةً وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
النّبُوءَةُ وَأُولُو الْعَزْمِ
[ ص 398 ] وَذَكَرَ قَوْلَ ابْنِ إسْحَاق َ وَالنّبُوءَةُ أَثْقَالٌ وَمُؤْنَةٌ لَا يَحْمِلُهَا وَلَا يَسْتَطِيعُهَا إلّا أَهْلُ الْقُوّةِ وَالْعَزْمِ مِنْ الرّسُلِ وَوَقَعَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرّحْمَنِ قَالَ سَمِعْت وَهْبَ بْنَ مُنَبّهٍ وَهُوَ فِي مَسْجِدِ مِنًى - وَذَكَرَ لَهُ يُونُسَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا ، وَكَانَ فِي خُلُقِهِ ضِيقٌ فَلَمّا حُمّلَتْ عَلَيْهِ أَثْقَالُ النّبُوءَةِ وَلَهَا أَثْقَالٌ تَفَسّخَ تَحْتَهَا تَفَسّخَ الرّبُعِ تَحْتَ الْحِمْلِ الثّقِيلِ فَأَلْقَاهَا عَنْهُ وَخَرَجَ هَارِبًا ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ ابْنِ إسْحَاق َ إنّ أُولِي الْعَزْمِ مِنْ الرّسُلِ مِنْهُمْ نُوحٌ وَهُودٌ وَإِبْرَاهِيمُ أَمّا نُوحٌ فَلِقَوْلِهِ { يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ } [ يُونُسُ 71 ] وَأَمّا هُودٌ فَلِقَوْلِهِ { إِنّي أُشْهِدُ اللّهَ وَاشْهَدُوا أَنّي بَرِيءٌ مِمّا تُشْرِكُونَ } [ هُودٌ 54 ] وَأَمّا إبْرَاهِيمُ فَلِقَوْلِهِ هُوَ وَاَلّذِينَ مَعَهُ { إِنّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ } وَأَمَرَ اللّهُ نَبِيّنَا أَنْ يَصْبِرَ كَمَا صَبَرَ هَؤُلَاءِ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَذَكَرَ الزّهْرِيّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّهَا حَدّثَتْهُ أَنّ أَوّلَ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ النّبُوّةِ حِينَ أَرَادَ اللّهُ كَرَامَتَهُ وَرَحْمَةَ الْعِبَادِ بِهِ الرّؤْيَا الصّادِقَةُ لَا يَرَى رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - رُؤْيَا فِي نَوْمِهِ إلّا جَاءَتْ كَفَلَقِ الصّبْحِ قَالَتْ وَحَبّبَ اللّهُ تَعَالَى إلَيْهِ الْخَلْوَةَ فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبّ إلَيْهِ مِنْ أَنْ يَخْلُوَ وَحْدَهُ . [ ص 398 ] ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْعَلَاءِ ابْنِ جَارِيَةَ الثّقَفِيّ ، وَكَانَ وَاعِيَةً عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ أَرَادَهُ اللّهُ بِكَرَامَتِهِ وَابْتَدَأَهُ بِالنّبُوّةِ كَانَ إذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ أَبْعَدَ حَتّى تُحْسَرَ عَنْهُ الْبُيُوتُ وَيُفْضِي إلَى شِعَابِ مَكّةَ وَبُطُونِ أَوْدِيَتِهَا ، فَلَا يَمُرّ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِحَجَرِ وَلَا شَجَرٍ إلّا قَالَ السّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ فَيَلْتَفِتُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَوْلَهُ وَعَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ وَخَلْفَهُ فَلَا يَرَى إلّا الشّجَرَ وَالْحِجَارَةَ . فَمَكَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَذَلِكَ يَرَى وَيَسْمَعُ مَا شَاءَ اللّهُ أَنْ يَمْكُثَ ثُمّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ بِمَا جَاءَهُ مِنْ كَرَامَةِ اللّهِ وَهُوَ بِحِرَاءِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ . [ ص 399 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ مَوْلَى آلِ الزّبَيْرِ . قَالَ سَمِعْت عَبْدَ اللّهِ بْنَ الزّبَيْرِ وَهُوَ يَقُولُ لِعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ قَتَادَةَ اللّيْثِيّ حَدّثْنَا يَا عُبَيْدُ ، كَيْفَ كَانَ بَدْءُ مَا اُبْتُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ النّبُوّةِ حِينَ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ ؟ قَالَ فَقَالَ عُبَيْدٌ - وَأَنَا حَاضِرٌ يُحَدّثُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ الزّبَيْرِ ، وَمَنْ عِنْدَهُ مِنْ النّاسِ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُجَاوِرُ فِي حِرَاءٍ مِنْ كُلّ سَنَةٍ شَهْرًا ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمّا تَحَنّثُ بِهِ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيّةِ . وَالتّحَنّثُ التّبَرّزُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ
وَثَوْرٍ وَمَنْ أَرْسَى ثَبِيرًا مَكَانَهُ ... وَرَاقٍ لِيَرْقَى فِي حِرَاءٍ وَنَازِلِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : تَقُولُ الْعَرَبُ : التّحَنّثُ وَالتّحَنّفُ يُرِيدُونَ الْحَنِيفِيّةَ فَيُبْدِلُونَ الْفَاءَ مِنْ الثّاءِ كَمَا قَالُوا : جَدَفٌ وَجَدَثٌ يُرِيدُونَ الْقَبْرَ . قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ : لَوْ كَانَ أَحْجَارِي مَعَ الْأَجْدَافِ
يُرِيدُ الْأَجْدَاثَ وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ . وَبَيْتُ أَبِي طَالِبٍ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللّهُ فِي مَوْضِعِهَا . [ ص 400 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ أَنّ الْعَرَبَ تَقُولُ فُمّ فِي مَوْضِعِ ثُمّ يُبْدِلُونَ الْفَاءَ مِنْ الثّاءِ .
Sأَوّلُ مَا بُدِئَ بِهِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ النّبُوءَةِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ : مَا بُدِئَ بِهِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ النّبُوءَةِ إذْ كَانَ لَا يَمُرّ بِحَجَرِ وَلَا شَجَرٍ إلّا قَالَ السّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللّه وَفِي مُصَنّفِ التّرْمِذِيّ وَمُسْلِمٍ أَيْضًا أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ إنّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكّةَ كَانَ يُسَلّمُ عَلَيّ قَبْلَ أَنْ يُنَزّلَ عَلَي وَفِي بَعْضِ الْمُسْنَدَاتِ زِيَادَةُ أَنّ هَذَا الْحَجَرَ الّذِي كَانَ يُسَلّمُ عَلَيْهِ هُوَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ ، وَهَذَا التّسْلِيمُ [ ص 399 ] يَكُونَ حَقِيقَةً وَأَنْ يَكُونَ اللّهُ أَنْطَقَهُ إنْطَاقًا كَمَا خَلَقَ الْحَنِينَ فِي الْجِذْعِ وَلَكِنْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْكَلَامِ الّذِي هُوَ صَوْتٌ وَحَرْفٌ الْحَيَاةُ وَالْعِلْمُ وَالْإِرَادَةُ لِأَنّهُ صَوْتٌ كَسَائِرِ الْأَصْوَاتِ وَالصّوْتُ عَرَضٌ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ إلّا النّظّامُ فَإِنّهُ زَعَمَ أَنّهُ جِسْمٌ وَجَعَلَهُ الْأَشْعَرِيّ اصْطِكَاكًا فِي الْجَوَاهِرِ بَعْضُهَا لِبَعْضِ وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الطّيّبِ لَيْسَ الصّوْتُ نَفْسَ الِاصْطِكَاكِ وَلَكِنّهُ مَعْنًى زَائِدٌ عَلَيْهِ وَلِلِاحْتِجَاجِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَلَهُمَا مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا ، وَلَوْ قَدّرْت الْكَلَامَ صِفَةً قَائِمَةً بِنَفْسِ الْحَجَرِ وَالشّجَرِ وَالصّوْتُ عِبَارَةً عَنْهُ لَمْ يَكُنْ بُدّ مِنْ اشْتِرَاطِ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ مَعَ الْكَلَامِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ أَكَانَ كَلَامًا مَقْرُونًا بِحَيَاةِ وَعِلْمٍ فَيَكُونُ الْحَجَرُ بِهِ مُؤْمِنًا ، أَوْ كَانَ صَوْتًا مُجَرّدًا غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِحَيَاةِ ؟ وَفِي كِلَا الْوَجْهَيْنِ هُوَ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النّبُوءَةِ وَأَمّا حَنِينُ الْجِذْعِ فَقَدْ سُمّيَ حَنِينًا ، وَحَقِيقَةُ الْحَنِينِ يَقْتَضِي شَرْطَ الْحَيَاةِ وَقَدْ يَحْتَمِلُ تَسْلِيمَ الْحِجَارَةِ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا فِي الْحَقِيقَةِ إلَى مَلَائِكَةٍ يَسْكُنُونَ تِلْكَ الْأَمَاكِنَ يُعَمّرُونَهَا ، فَيَكُونُ مَجَازًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } وَالْأَوّلُ أَظْهَرُ وَإِنْ كَانَتْ كُلّ صُورَةٍ مِنْ هَذِهِ الصّوَرِ الّتِي ذَكَرْنَاهَا فِيهَا عَلَمٌ عَلَى نُبُوّتِهِ - عَلَيْهِ السّلَامُ - غَيْرَ أَنّهُ لَا يُسَمّى مُعْجِزَةً فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلّمِينَ إلّا مَا تَحَدّى بِهِ الْخَلْقَ فَعَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ .
مَدْلُولُ تَفَعّلَ
[ ص 400 ] وَذَكَرَ حَدِيثَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَانَ يُجَاوِرُ بِغَارِ حِرَاءٍ وَيَتَحَنّثُ فِيهِ قَالَ وَالتّحَنّثُ التّبَرّزُ . تَفَعّلٌ مِنْ الْبِرّ وَتَفَعّلَ يَقْتَضِي الدّخُولَ فِي الْفِعْلِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ فِيهَا مِثْلُ تَفَقّهَ وَتَعَبّدَ وَتَنَسّكَ وَقَدْ جَاءَتْ فِي أَلْفَاظٍ يَسِيرَةٍ تُعْطِي الْخُرُوجَ عَنْ الشّيْءِ وَاطّرَاحِهِ كَالتّأَثّمِ وَالتّحَرّجِ . وَالتّحَنّثُ بِالثّاءِ الْمُثَلّثَةِ لِأَنّهُ مِنْ الْحِنْثِ وَهُوَ الْحِمْلُ الثّقِيلُ وَكَذَلِكَ التّقَذّرُ إنّمَا هُوَ تَبَاعُدٌ عَنْ الْقَذَرِ وَأَمّا التّحَنّفُ بِالْفَاءِ فَهُوَ مِنْ بَابِ التّبَرّرِ لِأَنّهُ مِنْ الْحَنِيفِيّةِ دِينِ إبْرَاهِيمَ وَإِنْ كَانَ الْفَاءُ مُبْدَلَةً مِنْ الثّاءِ فَهُوَ مِنْ بَابِ التّقَذّرِ وَالتّأَثّمِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ هِشَامٍ ، وَاحْتَجّ بِجَدَفٍ وَجَدَثٍ وَأَنْشَدَ قَوْلَ رُؤْبَةَ لَوْ كَانَ أَحْجَارِي مَعَ الْأَجْدَافِ وَفِي بَيْتِ رُؤْبَةَ هَذَا شَاهِدٌ وَرَدّ عَلَى ابْنِ جِنّي حَيْثُ زَعَمَ فِي سِرّ الصّنَاعَةِ أَنّ جَدَفَ بِالْفَاءِ لَا يُجْمَعُ عَلَى أَجْدَافٍ وَاحْتَجّ بِهَذَا لِمَذْهَبِهِ فِي أَنّ الثّاءَ هِيَ الْأَصْلُ وَقَوْلُ رُؤْبَةَ رَدّ عَلَيْهِ وَاَلّذِي نَذْهَبُ إلَيْهِ أَنّ الْفَاءَ هِيَ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْحَرْفِ لِأَنّهُ مِنْ الْجَدْفِ وَهُوَ الْقَطْعُ وَمِنْهُ مِجْدَافُ السّفِينَةِ وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ فِي وَصْفِ الْجِنّ : شَرَابُهُمْ الْجَدَفُ وَهِيَ الرّغْوَةُ لِأَنّهَا تُجْدَفُ عَنْ الْمَاءِ وَقِيلَ هِيَ نَبَاتٌ يُقْطَعُ وَيُؤْكَلُ . وَقِيلَ كُلّ إنَاءٍ كُشِفَ عَنْهُ غِطَاؤُهُ جَدَفٌ وَالْجَدَفُ الْقَبْرُ مِنْ هَذَا ، فَلَهُ مَادّةٌ وَأَصْلٌ فِي الِاشْتِقَاقِ فَأَجْدَرُ بِأَنْ تَكُونَ الْفَاءُ هِيَ الْأَصْلَ وَالِثَاءُ دَاخِلَةً عَلَيْهَا .
حَوْلَ مُجَاوَرَتِهِ فِي حِرَاءٍ
وَقَوْلُهُ يُجَاوِرُ فِي حِرَاءٍ إلَى آخِرِ الْكَلَامِ . الْجِوَارُ بِالْكَسْرِ فِي مَعْنَى الْمُجَاوَرَةِ وَهِيَ الِاعْتِكَافُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْجِوَارِ وَالِاعْتِكَافِ إلّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنّ الِاعْتِكَافَ لَا يَكُونُ إلّا دَاخِلَ الْمَسْجِدِ وَالْجِوَارَ قَدْ يَكُونُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرّ ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُسَمّ جِوَارُهُ بِحِرَاءِ اعْتِكَافًا ، لِأَنّ حِرَاءَ لَيْسَ مِنْ الْمَسْجِدِ وَلَكِنّهُ مِنْ جِبَالِ الْحَرَمِ ، وَهُوَ الْجَبَلُ الّذِي نَادَى رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ قَالَ لَهُ ثَبِيرٌ وَهُوَ عَلَى ظَهْرِهِ اهْبِطْ عَنّي ؛ فَإِنّي أَخَافُ أَنْ تُقْتَلَ عَلَى ظَهْرِي فَأُعَذّبُ فَنَادَاهُ حِرَاءٌ : إلَيّ إلَيّ يَا رَسُولَ اللّهِ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ قَالَ قَالَ عُبَيْدُ [ بْنُ عُمَيْرٍ ] : فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُجَاوِرُ ذَاتَ الشّهْرِ مِنْ كُلّ سَنَةٍ يُطْعِمُ مَنْ جَاءَهُ مِنْ الْمَسَاكِينِ فَإِذَا قَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جِوَارَهُ مِنْ شَهْرِهِ ذَلِكَ كَانَ أَوّلَ مَا يَبْدَأُ بِهِ - إذَا انْصَرَفَ مِنْ جِوَارِهِ - الْكَعْبَةُ ، [ ص 401 ] شَاءَ اللّهُ مِنْ ذَلِك ، ثُمّ يَرْجِعُ إلَى بَيْتِهِ حَتّى إذَا كَانَ الشّهْرُ الّذِي أَرَادَ اللّهُ تَعَالَى بَهْ فِيهِ مَا أَرَادَ مِنْ كَرَامَتِهِ مِنْ السّنَةِ الّتِي بَعَثَهُ اللّهُ تَعَالَى فِيهَا ، وَذَلِكَ الشّهْرُ شَهْرُ رَمَضَانَ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى حِرَاءٍ ، كَمَا كَانَ يَخْرُجُ لِجِوَارِهِ وَمَعَهُ أَهْلُهُ حَتّى إذَا كَانَتْ اللّيْلَةُ الّتِي أَكْرَمَهُ اللّهُ فِيهَا بِرِسَالَتِهِ وَرَحِمَ الْعِبَادَ بِهَا ، جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ بِأَمْرِ اللّهِ تَعَالَى . قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ وَأَنَا نَائِمٌ [ ص 402 ] [ ص 403 ] فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ قُلْت : مَا أَقْرَأُ ؟ قَالَ فَغَتّنِي بِهِ حَتّى ظَنَنْت [ ص 404 ] أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ قُلْت : مَا أَقْرَأُ ؟ قَالَ فَغَتّنِي بِهِ حَتّى ظَنَنْت أَنّهُ الْمَوْتُ . ثُمّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ قُلْت : مَاذَا أَقْرَأُ ؟ قَالَ فَغَتّنِي بِهِ حَتّى ظَنَنْت أَنّهُ الْمَوْتُ ثُمّ أَرْسَلَنِي ، فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ فَقُلْت : مَاذَا أَقْرَأُ ؟ مَا أَقُولُ ذَلِكَ إلّا افْتِدَاءً مِنْهُ أَنْ يَعُودَ لِي بِمِثْلِ مَا صَنَعَ بِي ، فَقَالَ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبّكَ الْأَكْرَمُ الّذِي عَلّمَ بِالْقَلَمِ عَلّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } قَالَ فَقَرَأَتْهَا ، ثُمّ انْتَهَى ، فَانْصَرَفَ عَنّي ، وَهَبَبْت مِنْ نَوْمِي ، فَكَأَنّمَا كَتَبْت فِي قَلْبِي كِتَابًا . قَالَ فَخَرَجْت حَتّى إذَا كُنْت فِي وَسَطٍ مِنْ الْجَبَلِ سَمِعْت صَوْتًا مِنْ السّمَاءِ يَقُولُ يَا مُحَمّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللّهِ وَأَنَا [ ص 405 ] [ ص 406 ] مَكّةَ ، وَرَجَعُوا إلَيْهَا ، وَأَنَا وَاقِفٌ فِي مَكَانِي ذَلِكَ ثُمّ انْصَرَفَ عَنّي . وَانْصَرَفْت رَاجِعًا إلَى أَهْلِي ، حَتّى أَتَيْت خَدِيجَةَ فَجَلَسْت إلَى فَخِذِهَا مُضِيفًا إلَيْهَا ، فَقَالَتْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ أَيْنَ كُنْت ؟ فَوَاَللّهِ لَقَدْ بَعَثْت رُسُلِي فِي طَلَبِك ، حَتّى بَلَغُوا مَكّةَ وَرَجَعُوا لِي ، ثُمّ حَدّثْتهَا بِاَلّذِي رَأَيْت ، فَقَالَتْ أَبْشِرْ يَا بْنَ عَمّ وَاثْبُتْ فَوَاَلّذِي نَفْسُ خَدِيجَةَ بِيَدِهِ إنّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ نَبِيّ هَذِهِ الْأُمّةِ [ ص 407 ] قَامَتْ فَجَمَعَتْ عَلَيْهَا ثِيَابَهَا ، ثُمّ انْطَلَقَتْ إلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ ، وَهُوَ ابْنُ عَمّهَا ، وَكَانَ وَرَقَةُ قَدْ تَنَصّرَ وَقَرَأَ الْكُتُبَ وَسَمِعَ مِنْ أَهْلِ التّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ، فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا أَخْبَرَهَا بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ رَأَى وَسَمِعَ فَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ : قُدّوسٌ قُدّوسٌ وَاَلّذِي نَفْسُ وَرَقَةَ بِيَدِهِ لَئِنْ كُنْت صَدّقْتِينِي يَا خَدِيجَةُ لَقَدْ جَاءَهُ النّامُوسُ الْأَكْبَرُ الّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى . وَإِنّهُ لَنَبِيّ هَذِهِ الْأُمّةِ فَقَوْلِي لَهُ فَلْيَثْبُتْ . فَرَجَعَتْ خَدِيجَةُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَتْهُ بِقَوْلِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ ، فَلَمّا قَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جِوَارَهُ وَانْصَرَفَ صَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ بَدَأَ بِالْكَعْبَةِ ، فَطَافَ بِهَا ، فَلَقِيَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ ، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ ، فَقَالَ يَا بْنَ أَخِي أَخْبِرْنِي بِمَا رَأَيْت وَسَمِعْت ، [ ص 408 ] فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنّك لَنَبِيّ هَذِهِ الْأُمّةِ وَلَقَدْ جَاءَك النّامُوسُ الْأَكْبَرُ الّذِي جَاءَ مُوسَى ، وَلَتُكَذّبَنّهْ وَلَتُؤْذَيَنّهْ وَلَتُخْرَجَنّهْ وَلَتُقَاتَلَهْ وَلَئِنْ أَنَا أَدْرَكْت ذَلِكَ الْيَوْمَ لَأَنْصُرَنّ اللّهَ نَصْرًا يَعْلَمُهُ ثُمّ أَدْنَى رَأْسَهُ مِنْهُ فَقَبّلَ يَافُوخَهُ ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى مَنْزِلِهِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي حَكِيمٍ مَوْلَى آلِ الزّبَيْرِ : أَنّهُ حَدّثَ عَنْ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا أَنّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَيْ ابْنَ عَمّ أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُخْبِرَنِي بِصَاحِبِك هَذَا الّذِي يَأْتِيك إذَا جَاءَك ؟ قَالَ " نَعَمْ " . قَالَتْ فَإِذَا جَاءَك فَأَخْبِرْنِي بِهِ . فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ ، كَمَا كَانَ يَصْنَعُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِخَدِيجَةَ " يَا خَدِيجَةُ هَذَا جِبْرِيلُ قَدْ جَاءَنِي " ، قَالَتْ قُمْ يَا ابْنَ عَمّ فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِي الْيُسْرَى ، قَالَ فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَجَلَسَ عَلَيْهَا ، قَالَتْ هَلْ تَرَاهُ ؟ قَالَ " نَعَمْ " ، قَالَتْ فَتَحَوّلْ فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِي الْيُمْنَى ، قَالَتْ فَتَحَوّلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَجَلَسَ عَلَى فَخِذِهَا الْيُمْنَى ، فَقَالَتْ هَلْ تَرَاهُ ؟ قَالَ " نَعَمْ " ، قَالَتْ فَتَحَوّلْ فَاجْلِسْ فِي حِجْرِي ، قَالَتْ فَتَحَوّلَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَجَلَسَ فِي حِجْرِهَا ، قَالَتْ هَلْ تَرَاهُ ؟ قَالَ " نَعَمْ " ، قَالَ فَتَحَسّرَتْ وَأَلْقَتْ خِمَارَهَا - وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَالِسٌ فِي حِجْرِهَا - ثُمّ قَالَتْ لَهُ هَلْ تَرَاهُ ؟ قَالَ " لَا " ، قَالَتْ يَا ابْنَ عَمّ اُثْبُتْ وَأَبْشِرْ فَوَاَللّهِ إنّهُ لَمَلَكٌ وَمَا هَذَا بِشَيْطَانِ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ حَدّثْت عَبْدَ اللّهِ بْنَ حَسَنٍ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ قَدْ سَمِعْت أُمّيّ فَاطِمَةَ بِنْتَ حُسَيْنِ تُحَدّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ خَدِيجَةَ إلّا أَنّي سَمِعْتهَا تَقُولُ أَدَخَلْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ دِرْعِهَا ، فَذَهَبَ عِنْدَ ذَلِكَ جِبْرِيلُ فَقَالَتْ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ هَذَا لَمَلَكٌ وَمَا هُوَ بِشَيْطَان [ ص 409 ] [ ص 410 ] [ ص 411 ]Sكَيْفِيّةُ الْوَحْيِ
[ ص 401 ] وَذَكَرَ نُزُولَ جِبْرِيلَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ فِي الْحَدِيثِ فَأَتَانِي وَأَنَا نَائِمٌ وَقَالَ فِي آخِرِهِ فَهَبَبْت مِنْ نَوْمِي ، فَكَأَنّمَا كَتَبْت فِي قَلْبِي كِتَابًا ، وَلَيْسَ ذِكْرُ النّوْمِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَلَا غَيْرِهَا ، بَلْ فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ مَا يَدُلّ ظَاهِرُهُ عَلَى أَنّ نُزُولَ جِبْرِيلَ حِينَ نَزَلَ بِسُورَةِ اقْرَأْ كَانَ فِي الْيَقِظَةِ لِأَنّهَا قَالَتْ فِي أَوّلِ الْحَدِيثِ أَوّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الرّؤْيَا الصّادِقَةُ كَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إلّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصّبْحِ ثُمّ حَبّبَ اللّهُ إلَيْهِ الْخَلَاءَ - إلَى قَوْلِهَا - حَتّى جَاءَهُ الْحَقّ ، وَهُوَ بِغَارِ حِرَاءٍ ، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ . فَذَكَرَتْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنّ الرّؤْيَا كَانَتْ قَبْلَ نُزُولِ جِبْرِيلَ عَلَى النّبِيّ - عَلَيْهِ السّلَامُ - بِالْقُرْآنِ وَقَدْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِأَنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - جَاءَهُ جِبْرِيلُ فِي الْمَنَامِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ فِي الْيَقِظَةِ تَوْطِئَةً وَتَيْسِيرًا عَلَيْهِ وَرِفْقًا بَهْ لِأَنّ أَمْرَ النّبُوءَةِ عَظِيمٌ وَعِبْؤُهَا ثَقِيلٌ وَالْبَشَرُ ضَعِيفٌ وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مِنْ مَقَالَةِ الْعُلَمَاءِ مَا يُؤَكّدُ هَذَا وَيُصَحّحُهُ وَقَدْ ثَبَتَ بِالطّرُقِ الصّحَاحِ عَنْ عَامِرٍ الشّعْبِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وُكّلَ بَهْ إسْرَافِيلُ فَكَانَ يَتَرَاءَى لَهُ ثَلَاثَ سِنِينَ وَيَأْتِيهِ بِالْكَلِمَةِ مِنْ الْوَحْيِ وَالشّيْءِ ثُمّ وُكّلَ بَهْ جِبْرِيلُ فَجَاءَهُ بِالْقُرْآنِ وَالْوَحْيِ فَعَلَى هَذَا كَانَ نُزُولُ الْوَحْيِ عَلَيْهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ فَمِنْهَا : النّوْمُ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَكَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ أَيْضًا : أَوّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الرّؤْيَا الصّادِقَةُ وَقَدْ قَالَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السّلَامُ { إِنّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى } فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ { افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } [ الصّافّاتُ 102 ] ، فَدَلّ عَلَى أَنّ الْوَحْيَ كَانَ يَأْتِيهِمْ فِي الْمَنَامِ كَمَا يَأْتِيهِمْ فِي الْيَقَظَةِ . وَمِنْهَا : أَنْ يَنْفُثَ فِي رَوْعِهِ الْكَلَامَ نَفْثًا ، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ إنّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعِي أَنّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتّى تَسْتَكْمِلَ أَجَلَهَا وَرِزْقَهَا ، فَاتّقُوا اللّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطّلَبِ [ ص 402 ] مُجَاهِدٌ ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسّرِينَ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { وَمَا كَانَ لِبَشَرِ أَنْ يُكَلّمَهُ اللّهُ إلّا وَحْيًا } [ الشّورَى : 51 ] . قَالَ هُوَ أَنْ يَنْفُثَ فِي رَوْعِهِ بِالْوَحْيِ . وَمِنْهَا : أَنْ يَأْتِيَهُ الْوَحْيُ فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدّهُ عَلَيْهِ وَقِيلَ إنّ ذَلِكَ لَيَسْتَجْمِعُ قَلْبُهُ عِنْدَ تِلْكَ الصّلْصَلَةَ ، فَيَكُونُ أَوْعَى لِمَا يَسْمَعُ وَأَلْقَنِ لِمَا يَلْقَى . وَمِنْهَا : أَنْ يَتَمَثّلَ لَهُ الْمَلَكُ رَجُلًا ، فَقَدْ كَانَ يَأْتِيهِ فِي صُورَةِ دِحْيَةِ بْنِ خَلِيفَةَ وَيُرْوَى أَنّ دِحْيَةَ إذَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ لَمْ تَبْقَ مُعْصِرٌ إلّا خَرَجَتْ تَنْظُرُ إلَيْهِ لِفَرْطِ جَمَالِهِ . وَقَالَ ابْنُ سَلّامٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا } [ الْجُمُعَةُ 11 ] . قَالَ كَانَ اللّهْوُ نَظَرَهُمْ إلَى وَجْهِ دِحْيَةَ لِجَمَالِهِ . وَمِنْهَا : أَنْ يَتَرَاءَى لَهُ جِبْرِيلُ فِي صُورَتِهِ الّتِي خَلَقَهُ اللّهُ فِيهَا ، لَهُ سِتّمِائَةِ جَنَاحٍ يَنْتَشِرُ مِنْهَا اللّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ . وَمِنْهَا : أَنْ يُكَلّمَهُ اللّهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ إمّا فِي الْيَقَظَةِ كَمَا كَلّمَهُ فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ وَإِمّا فِي النّوْمِ كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ الّذِي رَوَاهُ التّرْمِذِيّ ، قَالَ أَتَانِي رَبّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ فَقَالَ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى ، فَقُلْت : لَا أَدْرِي . فَوَضَعَ كَفّهُ بَيْنَ كَتِفَيْ فَوَجَدَتْ بَرْدَهَا بَيْنَ ثُنْدُوَتَيّ وَتَجَلّى لِي عَلَمُ كُلّ شَيْءٍ وَقَالَ يَا مُحَمّدُ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى ، فَقُلْت : فِي الْكَفّارَاتِ فَقَالَ وَمَا هُنّ ؟ فَقُلْت : الْوُضُوءُ عِنْدَ الْكَرِيهَاتِ وَنَقْلُ الْأَقْدَامِ إلَى الْحَسَنَاتِ وَانْتِظَارُ الصّلَوَاتِ بَعْدَ الصّلَوَاتِ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَاشَ حَمِيدًا ، وَمَاتَ حَمِيدًا ، وَكَانَ مِنْ ذَنْبِهِ كَمَنْ وَلَدَتْهُ أُمّهُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ . فَهَذِهِ سِتّةُ أَحْوَالٍ وَحَالَةُ سَابِعَةٌ قَدْ قَدّمْنَا ذِكْرَهَا ، وَهِيَ نُزُولُ إسْرَافِيلَ عَلَيْهِ بِكَلِمَاتِ مِنْ الْوَحْيِ قِيلَ جِبْرِيلُ فَهَذِهِ سَبْعُ صُوَرٍ فِي كَيْفِيّةِ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَى مُحَمّدٍ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَمْ أَرَ أَحَدًا جَمَعَهَا كَهَذَا الْجَمْعِ وَقَدْ اسْتَشْهَدْنَا عَلَى صِحّتهَا بِمَا فِيهِ غنية ، وَقَدْ أَمْلَيْنَا أَيْضًا فِي حَقِيقَةِ رُؤْيَتِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ رَبّهُ فِي الْمَنَامِ عَلَى أَحْسَنِ صُورَةٍ وَيُرْوَى : عَلَى صُورَةِ شَابّ مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ كَاشِفَةٌ لِقِنَاعِ اللّبْسِ فَلْتُنْظَرْ هُنَالِكَ .
مِنْ تَفْسِيرِ حَدِيثِ الْوَحْيِ
[ ص 403 ] وَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ أَنّ جِبْرِيلَ أَتَاهُ بِنَمَطِ مِنْ دِيبَاجٍ فِيهِ كِتَابٌ فَقَالَ اقْرَأْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسّرِينَ فِي قَوْلِهِ وَقَالَ ابْنُ سَلّامٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رِيبَ فِيه } إنّهَا إشَارَةٌ إلَى الْكِتَابِ الّذِي جَاءَهُ بِهِ جِبْرِيلُ حِينَ قَالَ اقْرَأْ وَفِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ غَيْرُ هَذِهِ مِنْهَا : أَنّهَا إشَارَةٌ إلَى مَا تَضَمّنَهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ الم ؛ لِأَنّ هَذِهِ الْحُرُوفُ الْمُقَطّعَةُ تَضَمّنَتْ مَعَانِيَ الْكِتَابِ كُلّهِ فَهِيَ كَالتّرْجَمَةِ لَهُ .
مَعْنَى { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ }
وَقَوْلِهِ مَا أَنَا بِقَارِئِ أَيْ إنّي أُمّيّ ، فَلَا أَقْرَأُ الْكُتُبَ قَالَهَا ثَلَاثًا فَقِيلَ لَهُ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ } أَيْ إنّك لَا تَقْرَؤُهُ بِحَوْلِك ، وَلَا بِصِفّةِ نَفْسِك ، وَلَا بِمَعْرِفَتِك ، وَلَكِنْ اقْرَأْ مُفْتَتِحًا بِاسْمِ رَبّك مُسْتَعِينًا بِهِ فَهُوَ يُعَلّمُك كَمَا خَلَقَك وَكَمَا نَزَعَ عَنْك عَلَقَ الدّمِ وَمَغْمَزَ الشّيْطَانِ بَعْدَمَا خَلَقه فِيك ، كَمَا خَلَقَهُ فِي كُلّ إنْسَانٍ . وَالْآيَتَانِ المتقدمتان لِمُحَمّدِ وَالْآخِرَتَانِ لِأُمّتِهِ وَهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى : الّذِي عَلّمَ بِالْقَلَمِ عَلّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ لِأَنّهَا كَانَتْ أُمّةٌ أُمّيّةٌ لَا تَكْتُبُ فَصَارُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَأَصْحَابَ قَلَمٍ فَتَعَلّمُوا الْقُرْآنَ بِالْقَلَمِ وَتَعَلّمَهُ نَبِيّهُمْ تَلْقِينًا مِنْ جِبْرِيلَ نَزّلَهُ عَلَى قَلْبِهِ بِإِذْنِ اللّهِ لِيَكُونَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ .
حَوْلَ بِسْمِ اللّهِ
فَصْلٌ وَفِي قَوْلِهِ { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ } مِنْ الْفِقْهِ وُجُوبُ اسْتِفْتَاحِ الْقِرَاءَةِ بِبَسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ غَيْرَ أَنّهُ أَمْرٌ مُبْهَمٌ لَمْ يُبَيّنْ لَهُ بِأَيّ اسْمٍ مِنْ أَسَمَاء رَبّهِ يَفْتَتِحُ حَتّى جَاءَ الْبَيَانُ بَعْدُ فِي قَوْلِهِ { بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا } [ هُود : 41 ] ثُمّ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنّهُ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ } [ النّمْلُ 30 ] . ثُمّ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْزِلُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ بِبَسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مَعَ كُلّ سُورَةٍ وَقَدْ ثَبَتَتْ فِي سَوَادِ الْمُصْحَفِ بِإِجْمَاعِ مِنْ الصّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ وَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ مِنْ مُصْحَفِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيّ ، فَشُذُوذٌ فَهِيَ عَلَى هَذَا مِنْ الْقُرْآنِ إذْ لَا يُكْتَبُ فِي الْمُصْحَفِ مَا لَيْسَ بِقُرْآنِ وَلَا يَلْتَزِمُ قَوْلُ الشّافِعِيّ أَنّهَا آيَةٌ مِنْ كُلّ سُورَةٍ وَلَا أَنّهَا آيَةٌ مِنْ الْفَاتِحَةِ بَلْ نَقُولُ إنّهَا آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللّهِ تَعَالَى ، مُقْتَرِنَةٌ مَعَ السّورَةِ وَهُوَ قَوْلُ دَاوُد وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَهُوَ [ ص 404 ] فَقَالَتْ قُرَيْشٌ : سَحَرَ مُحَمّدٌ الْجِبَالَ ذَكَرَهُ النّقّاشُ وَإِنْ صَحّ مَا ذَكَرَهُ فَلِمَعْنَى مَا سَبّحَتْ عِنْدَ نُزُولِهَا خَاصّةً وَذَلِكَ أَنّهَا آيَةٌ أُنْزِلَتْ عَلَى آلِ دَاوُد ، وَقَدْ كَانَتْ الْجِبَالُ تُسَبّحُ مَعَ دَاوُد ، كَمَا قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { إِنّا سَخّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبّحْنَ بِالْعَشِيّ وَالْإِشْرَاقِ } [ ص : 18 ] وَقَالَ { إِنّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنّهُ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ } [ النّمْلُ 30 ] . وَفِي الْحَدِيثِ ذَكَرَ نَمَطَ الدّيبَاجِ مِنْ الْكِتَابِ وَفِيهِ دَلِيلٌ وَإِشَارَةٌ إلَى أَنّ هَذَا الْكِتَابَ يُفْتَحُ عَلَى أُمّتِهِ مُلْكَ الْأَعَاجِمِ ، وَيَسْلُبُونَهُمْ الدّيبَاجَ وَالْحَرِيرَ الّذِي كَانَ زَيّهُمْ وَزِينَتَهُمْ وَبَهْ أَيْضًا يُنَالُ مُلْكُ الْآخِرَةِ وَلِبَاسُ الْجَنّةِ وَهُوَ الْحَرِيرُ وَالدّيبَاجُ وَفِي سِيَرِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ ، وَسِيَرِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُعْتَمِرِ زِيَادَةٌ وَهُوَ أَنّ جِبْرِيلَ أَتَاهُ بدرنوك مِنْ دِيبَاجٍ مَنْسُوجٍ بِالدّرّ وَالْيَاقُوتِ فَأَجْلَسَهُ عَلَيْهِ غَيْرَ أَنّ مُوسَى بْنَ عُقْبَةَ قَالَ بِبِسَاطِ وَلَمْ يَقُلْ دَرِنُوك ، وَقَالَ فِي سِيَرِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ إنّ اللّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَيْهِ { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } الْآيَاتِ كَأَنّهُ يُشِيرُ بِهِ فَمَسَحَ جِبْرِيلُ صَدْرَهُ وَقَالَ اللّهُمّ اشْرَحْ صَدْرَهُ وَارْفَعْ ذِكْرَهُ وَضَعْ عَنْهُ وِزْرَهُ وَيُصَحّحُ مَا رَوَاهُ ابْنُ الْمُعْتَمِرِ أَنّ اللّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَيْهِ { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } الْآيَاتِ كَأَنّهُ يُشِيرُ إلَى ذَلِكَ الدّعَاءِ الّذِي كَانَ مِنْ جِبْرِيلَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
الْغَطّ
وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ فَغَطّنِي ، وَيُرْوَى : فَسَأَبَنِي ، وَيُرْوَى : سأتني ، وَأَحْسَبُهُ أَيْضًا يُرْوَى : فَذَعَتَنِي وَكُلّهَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ وَهُوَ الْخَنْقُ وَالْغَمّ ، وَمِنْ الذّعْتِ حَدِيثُهُ الْآخَرُ أَنّ الشّيْطَانَ عَرَضَ لَهُ وَهُوَ يُصَلّي قَالَ فَذَعْتهُ حَتّى وَجَدْت بَرْدَ لِسَانِهِ عَلَى يَدَيْ ثُمّ ذَكَرْت قَوْلَ أَخِي [ ص 405 ] وَقَالَ ابْنُ سَلّامٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : رَبّ هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ مِنْ بَعْدِي الْحَدِيثُ وَكَانَ فِي ذَلِكَ إظْهَارٌ لِلشّدّةِ وَالْجَدّ فِي الْأَمْرِ وَأَنْ يَأْخُذَ الْكِتَابَ بِقُوّةِ وَيَتْرُكُ الْأَنَاةَ فَإِنّهُ أَمْرٌ لَيْسَ بِالْهُوَيْنَى ، وَقَدْ انْتَزَعَ بَعْضُ التّابِعِينَ وَهُوَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي مِنْ هَذَا : أَلّا يُضْرَبَ الصّبِيّ عَلَى الْقُرْآنِ إلّا ثَلَاثًا كَمَا غَطّ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ مُحَمّدًا - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ثَلَاثًا ، وَعَلَى رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ ذَلِكَ فِي نَوْمِهِ كَانَ يَكُونُ فِي تِلْكَ الْغَطّاتِ الثّلَاثِ مِنْ التّأْوِيلِ ثَلَاثُ شَدَائِدَ يُبْتَلَى بِهَا أَوّلًا ، ثُمّ يَأْتِي الْفَرَجُ وَالرّوحُ وَكَذَلِك كَانَ لَقِيَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ شِدّةً مِنْ الْجُوعِ فِي شِعْبِ الْخَيْفِ ، حِينَ تَعَاقَدَتْ قُرَيْشٌ أَلّا يَبِيعُوا مِنْهُمْ وَلَا يَتْرُكُوا مِيرَةً تَصِلُ إلَيْهِمْ وَشِدّةٌ أُخْرَى مِنْ الْخَوْفِ وَالْإِيعَادِ بِالْقَتْلِ وَشِدّةٌ أُخْرَى مِنْ الْإِجْلَاءِ عَنْ أَحَبّ الْأَوْطَانِ إلَيْهِ ثُمّ كَانَتْ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ .
مَا أَنَا بِقَارِئِ
وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ إسْحَاقَ : اقْرَأْ قَالَ مَا أَقْرَأُ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامًا ، يُرِيدُ أَيّ شَيْءٍ أَقْرَأُ ؟ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ نَفْيًا ، وَرِوَايَةُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِمٍ تَدُلّ عَلَى أَنّهُ أَرَادَ النّفْيَ أَيْ مَا أُحْسِنُ أَنْ أَقْرَأَ كَمَا تَقَدّمَ مِنْ قَوْلِهِ مَا أَنَا بِقَارِئِ .
رُؤْيَةُ جِبْرِيلَ وَمَعْنَى اسْمِهِ
[ ص 406 ] وَذَكَرَ رُؤْيَتَهُ لِجِبْرِيلَ وَهُوَ صَافّ قَدَمَيْهِ وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنّهُ رَآهُ عَلَى رَفْرَفٍ بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَيُرْوَى : عَلَى عَرْشٍ بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيّ الّذِي ذَكَرَهُ فِي آخِرِ الْجَامِعِ أَنّهُ حِينَ فَتَرَ عَنْهُ الْوَحْيُ كَانَ يَأْتِي شَوَاهِقَ الْجِبَالِ يُهِمّ بِأَنْ يُلْقِي نَفْسَهُ مِنْهَا ، فَكَانَ جِبْرِيلُ يَتَرَاءَى لَهُ بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ يَقُولُ لَهُ أَنْتَ رَسُولُ اللّهِ وَأَنَا جِبْرِيلُ . وَاسْمُ جِبْرِيلَ سُرْيَانِيّ ، وَمَعْنَاهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ أَوْ عَبْدُ الْعَزِيزِ . هَكَذَا جَاءَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا أَيْضًا ، وَالْوَقْفُ أَصْلُهُ . وَأَكْثَرُ النّاسِ عَلَى أَنّ آخِرَ الِاسْمِ مِنْهُ هُوَ اسْمُ اللّهِ وَهُوَ إيّلُ وَكَانَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللّهُ يَذْهَبُ مَذْهَبِ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ إضَافَتُهَا مَقْلُوبَةٌ وَكَذَلِكَ الْإِضَافَةُ فِي كَلَامِ الْعَجَمِ ، يَقُولُونَ فِي غُلَامِ زَيْدٍ زَيْدٌ غُلَامٌ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ إيل عَبّارَةً عَنْ الْعَبْدِ وَيَكُونُ أَوّلَ الِاسْمِ عَبّارَةً عَنْ اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللّهِ تَعَالَى ، أَلَا تَرَى كَيْفَ قَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ : جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ كَمَا تَقُولُ عَبْدُ اللّهِ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ أَلَا تَرَى أَنّ لَفْظَ عَبْدٍ يَتَكَرّرُ بِلَفْظِ وَاحِدٍ وَالْأَسْمَاءُ أَلْفَاظُهَا مُخْتَلِفَةٌ . حَوْلَ مَعْنَى إلْ وَخَرَافَةُ الرّهْبَانِ وَأَمّا إلْ بِالتّشْدِيدِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : { إِلّا وَلَا ذِمّةً } [ التّوْبَةُ 10 ] فَحَذَارِ حَذَارِ مِنْ أَنْ تَقُولَ فِيهِ هُوَ اسْمُ اللّهِ فَتُسَمّي اللّهَ بِاسْمِ لَمْ يُسَمّ بِهِ نَفْسَهُ أَلَا تَرَى أَنّ جَمِيعَ أَسْمَاءِ اللّهِ تَعَالَى [ ص 407 ] نَكِرَةٌ وَحَاشَا لِلّهِ أَنْ يَكُونَ اسْمُهُ نَكِرَةً وَإِنّمَا الْأَلّ كُلّ مَا لَهُ حُرْمَةٌ وَحَقّ ، فَمِمّا لَهُ حَقّ وَيَجِبُ تَعْظِيمُهُ الْقَرَابَةُ وَالرّحِمُ وَالْجِوَارُ وَالْعَهْدُ وَهُوَ مِنْ أَلَلْت : إذَا اجْتَهَدْت فِي الشّيْءِ وَحَافَظْت عَلَيْهِ وَلَمْ تُضَيّعْهُ وَمِنْهُ الْأَلّ فِي السّيْرِ وَهُوَ الْجَدّ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْكُمَيْتِ [ يَصِفُ رَجُلًا ] :
وَأَنْتَ مَا أَنْتَ فِي غَبْرَاءَ مُجْدِبَةٍ ... إذَا دَعَتْ أَلَلَيْهَا الْكَاعِبُ الْفُضُلُ
يُرِيدُ اجْتَهَدْت فِي الدّعَاءِ وَإِذَا كَانَ الْأَلّ بِالْفَتْحِ الْمَصْدَرَ فَالْإِلّ بِالْكَسْرِ الِاسْمُ كَالذّبْحِ فِي الذّبْحِ فَهُوَ إذًا الشّيْءُ الْمُحَافَظُ عَلَيْهِ وَقَوْلُ الصّدّيقِ [ عَنْ كَلَامِ مُسَيْلِمَةَ ] : هَذَا كَلَامٌ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ إلّ وَلَا بِرّ أَيْ لَمْ يَصْدُرْ عَنْ رُبُوبِيّةٍ لِأَنّ الرّبُوبِيّةَ حَقّهَا وَاجِبٌ مُعَظّمٌ وَكَذَلِكَ فَسّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ ، وَاتّفِقَ فِي اسْمِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ أَنّهُ مُوَافِقٌ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيّةِ لِمَعْنَاهُ وَإِنْ كَانَ أَعْجَمِيّا ، فَإِنّ الْجَبْرَ هُوَ إصْلَاحُ مَا وَهَى ، وَجِبْرِيلُ مُوَكّلٌ بِالْوَحْيِ وَفِي الْوَحْيِ إصْلَاحُ مَا فَسَدَ وَجَبْرُ مَا وَهَى مِنْ الدّينِ وَلَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بِمَكّةَ وَلَا بِأَرْضِ الْعَرَبِ فَلَمّا أَخْبَرَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَدِيجَةَ بِهِ انْطَلَقَتْ تَسْأَلُ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ كَعَدّاسِ وَنَسْطُور الرّاهِبِ فَقَالَ لَهَا : قُدّوسٌ قُدّوسٌ أَنّى لِهَذَا الِاسْمِ أَنْ يُذْكَرَ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ وَقَدْ قَدّمْنَا هَذَا الْخَبَرَ عَنْهَا ، وَهُوَ فِي سِيَرِ التيمي لَمّا ذَكَرْنَاهُ قَبْلَ وَفِي كِتَابِ الْمُعَيّطِي عَنْ أَشْهَبَ قَالَ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ التّسَمّي بِجِبْرِيلَ أَوْ مَنْ يُسَمّي بِهِ وَلَدَهُ فَكَرِهَ ذَلِكَ وَلَمْ يُعْجِبْهُ .
مَعْنَى النّامُوسِ
[ ص 408 ] كَانَ يَأْتِي مُوسَى . النّامُوسُ صَاحِبُ سِرّ الْمَلَكِ قَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ صَاحِبُ سِرّ الْخَيْرِ وَالْجَاسُوسُ هُوَ صَاحِبُ سِرّ الشّرّ وَقَدْ فَسّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَنْشَدَ
فَأَبْلِغْ يَزِيدَ إنْ عَرَضْت وَمُنْذِرًا ... عَمّهُمَا وَالْمُسْتَشِزّ الْمُنَامِسَا
لِمَ ذُكِرَ مُوسَى وَلَمْ يُذْكَرْ عِيسَى
[ ص 409 ] ذَكَرَ وَرَقَةُ مُوسَى وَلَمْ يَذْكُرْ عِيسَى ، وَهُوَ أَقْرَبُ لِأَنّ وَرَقَةَ كَانَ قَدْ تَنَصّرَ وَالنّصَارَى لَا يَقُولُونَ فِي عِيسَى : إنّهُ نَبِيّ يَأْتِيهِ جِبْرِيلُ إنّمَا يَقُولُونَ فِيهِ إنّ أُقْنُومًا مِنْ الْأَقَانِيمِ الثّلَاثَةِ اللّاهُوتِيّةِ حَلّ بِنَاسُوتِ الْمَسِيحِ وَاتّحَدَ بِهِ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ الْحُلُولِ وَهُوَ أُقْنُومُ الْكَلِمَةِ وَالْكَلِمَةُ عِنْدَهُمْ عِبَارَةٌ عَنْ الْعِلْمِ فَلِذَلِكَ كَانَ الْمَسِيحُ عِنْدَهُمْ يَعْلَمُ الْغَيْبَ وَيُخْبِرُ بِمَا فِي غَدٍ فَلَمّا كَانَ هَذَا مِنْ مَذْهَبِ النّصَارَى الْكَذَبَةِ عَلَى اللّهِ الْمُدّعِينَ الْمُحَالِ عَدَلَ عَنْ ذِكْرِ عِيسَى إلَى ذِكْرِ مُوسَى لِعِلْمِهِ أَوْ لِاعْتِقَادِهِ أَنّ جِبْرِيلَ كَانَ يَنْزِلُ عَلَى مُوسَى ، لَكِنْ وَرَقَةُ قَدْ ثَبَتَ إيمَانُهُ بِمُحَمّدِ عَلَيْهِ السّلَامُ وَقَدْ قَدّمْنَا حَدِيثَ التّرْمِذِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - رَآهُ فِي الْمَنَامِ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ بِيضٌ إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ .
حَوْلَ هَاءِ السّكْتِ وَالْفِعْلِ تُدْرِكُ
وَقَوْلُ وَرَقَةَ لَتُكَذّبَنّهْ وَلَتُؤْذَيَنّهْ وَلَا يُنْطَقُ بِهَذِهِ الْهَاءِ إلّا سَاكِنَةً لِأَنّهَا هَاءُ السّكْتِ وَلَيْسَتْ بِهَاءِ إضْمَارٍ . وَقَوْلُهُ إنْ أُدْرِكْ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَنْصُرْك نَصْرًا مُؤَزّرًا ، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ إنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُك وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنّ وَرَقَةَ سَابِقٌ بِالْوُجُودِ وَالسّابِقُ هُوَ الّذِي يُدْرِكُهُ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَشْقَى النّاسِ مَنْ أَدْرَكَتْهُ السّاعَةُ وَهُوَ حَيّ ، وَرِوَايَةُ ابْنِ إسْحَاقَ أَيْضًا لَهَا وَجْهٌ لِأَنّ الْمَعْنَى : أَتَرَى ذَلِكَ الْيَوْمَ فَسَمّى رُؤْيَتَهُ إدْرَاكًا ، وَفِي التّنْزِيلِ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ أَيْ لَا تَرَاهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ . وَقَوْلُهُ مُؤَزّرًا مِنْ الْأَزْرِ وَهُوَ الْقُوّةُ وَالْعَوْنُ .
شَرْحُ أَوَمُخْرِجِيّ ؟
فَصْلٌ وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لِوَرَقَةِ أَوَمُخْرِجِيّ هُمْ لَا بُدّ مِنْ تَشْدِيدِ الْيَاءِ فِي مُخْرِجِيّ لِأَنّهُ جَمْعٌ ، وَالْأَصْلُ مُخْرِجُوِيَ فَأُدْغِمَتْ الْوَاوُ فِي الْيَاءِ وَهُوَ خَبَرُ ابْتِدَاءٍ مُقَدّمٌ وَلَوْ كَانَ الْمُبْتَدَأُ اسْمًا ظَاهِرًا لَجَازَ تَخْفِيفُ الْيَاءِ وَيَكُونُ الِاسْمُ الظّاهِرُ فَاعِلًا لَا مُبْتَدَأً كَمَا تَقُولُ أَضَارِبٌ قَوْمُك ، أَخَارِجٌ إخْوَتُك فَتَفَرّدَ لِأَنّك رَفَعْت بِهِ فَاعِلًا ، وَهُوَ حَسَنٌ فِي مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشِ وَلَوْلَا الِاسْتِفْهَامُ مَا جَازَ الْإِفْرَادُ إلّا عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ فَإِنّهُ يَقُولُ قَائِمٌ الزّيْدُون دُونَ اسْتِفْهَامٍ فَإِنْ كَانَ الِاسْمُ الْمُبْتَدَأُ مِنْ الْمُضَمّرَاتِ نَحْوُ أَخَارِجٌ أَنْتَ [ ص 401 ] وَأَقَائِمٌ هُوَ ؟ لَمْ يَصِحّ فِيهِ إلّا الِابْتِدَاءُ لِأَنّ الْفَاعِلَ إذَا كَانَ مُضْمَرًا لَمْ يَكُنْ مُنْفَصِلًا لَا تَقُولُ قَامَ أَنَا ، وَلَا ذَهَبَ أَنْتَ وَكَذَلِكَ لَا تَقُولُ أَذَاهِبٌ أَنْتَ عَلَى حَدّ الْفَاعِلِ وَلَكِنْ عَلَى الْمُبْتَدَإِ وَإِذَا كَانَ عَلَى حَدّ الْمُبْتَدَإِ فَلَا بُدّ مِنْ جَمْعِ الْخَبَرِ ، فَعَلَى هَذَا تَقُولُ أَمُخْرِجِيّ هُمْ تُرِيدُ مُخْرِجُونَ ثُمّ أُضِيفَ إلَى الْيَاءِ وَحُذِفَتْ النّونُ وَأُدْغِمَتْ الْوَاوُ كَمَا يَقْتَضِي الْقِيَاسُ .
حَوْلَ الْيَافُوخِ وَالذّهَابِ إلَى وَرَقَةَ
فَصْلٌ وَذُكِرَ أَنّ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ لَقِيَ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ فَقَبّلَ يَافُوخَهُ قَدْ تَقَدّمَ ذِكْرُ الْيَافُوخِ وَأَنّهُ يَفْعُولُ مَهْمُوزٌ وَأَنّهُ لَا يُقَالُ فِي رَأْسِ الطّفْلِ يَافُوخٌ حَتّى يَشْتَدّ وَإِنّمَا يُقَالُ لَهُ الْغَاذِيَةُ وَذَكَرْنَا قَوْلَ الْعَجّاجِ ضَرْبٌ إذَا أَصَابَ الْيَآفِيخَ حَفَرٌ . وَلَوْ كَانَ يَافُوخٌ فَاعُولًا ، كَمَا ظَنّ بَعْضُهُمْ لَمْ يَجُزْ هَمْزُهُ فِي الْوَاحِدِ . وَلَا فِي الْجَمْعِ وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ بِسَنَدِهِ إلَى أَبِي مَيْسَرَةَ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ لِخَدِيجَةَ إنّي إذَا خَلَوْت وَحْدِي سَمِعْت نِدَاءً وَقَدْ خَشِيت وَاَللّهِ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا أَمْرٌ " . قَالَتْ مَعَاذَ اللّهِ مَا كَانَ اللّهُ لِيَفْعَلَ ذَلِكَ بِك . فَوَاَللّهِ إنّك لَتُؤَدّي الْأَمَانَةَ وَتَصِلُ الرّحِمَ . وَتُصَدّقُ الْحَدِيثَ فَلَمّا دَخَلَ أَبُو بَكْر ، وَلَيْسَ [ عِنْدَهَا ] رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ثُمّ ذَكَرَتْ خَدِيجَةُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَتْ يَا عَتِيقُ اذْهَبْ مَعَ مُحَمّدٍ إلَى وَرَقَةَ فَلَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَخَذَ أَبُو بَكْر بِيَدِهِ . فَقَالَ انْطَلِقْ بِنَا إلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ . فَقَالَ " وَمَنْ أَخْبَرَك " ؟ قَالَ خَدِيجَةُ فَانْطَلَقَا إلَيْهِ فَقَصّا عَلَيْهِ فَقَالَ إنّي إذَا خَلَوْت وَحْدِي سَمِعْت نِدَاءً خَلْفِي : يَا مُحَمّدُ يَا مُحَمّدُ فَأَنْطَلِقُ هَارِبًا فِي الْأَرْضِ فَقَالَ لَهُ لَا تَفْعَلْ إذَا أَتَاك فَاثْبُتْ حَتّى تَسْمَعَ مَا يَقُولُ لَك . ثُمّ ائْتِنِي ، فَأَخْبَرَنِي ، فَلَمّا خَلَا نَادَاهُ يَا مُحَمّدُ قُلْ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ . الْحَمْدُ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ . حَتّى بَلَغَ وَلَا الضّالّينَ . قُلْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ . فَأَتَى وَرَقَةَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ أَبْشِرْ ثُمّ أَبْشِرْ فَأَنَا أَشْهَدُ أَنّك الّذِي بَشّرَ بِهِ ابْنُ مَرْيَمَ ، وَأَنّك عَلَى مِثْلِ نَامُوسِ مُوسَى ، وَأَنّك نَبِيّ مُرْسَلٌ وَأَنّك سَتُؤْمَرُ بِالْجِهَادِ بَعْدَ يَوْمِك هَذَا . وَلَئِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ لَأُجَاهِدَنّ مَعَك . فَلَمّا تُوُفّيَ وَرَقَةُ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَقَدْ رَأَيْت الْقَسّ فِي الْجَنّةِ وَعَلَيْهِ ثِيَابُ الْحَرِيرِ لِأَنّهُ آمَنْ بِي وَصَدّقَنِي يَعْنِي : وَرَقَةَ وَفِي رِوَايَةٍ [ ص 411 ] قَالَ لِرَجُلِ سَبّ وَرَقَةَ أَمَا عَلِمَتْ أَنّي رَأَيْت لِوَرَقَةِ جَنّةً أَوْ جَنّتَيْنِ وَهَذَا الْحَدِيثُ الْأَخِيرُ قَدْ أَسْنَدَهُ الْبَزّارُ .
لَقَدْ خَشِيت عَلَى نَفْسِي
فَصْلٌ وَفِي الصّحِيحِ أَنّهُ قَالَ لِخَدِيجَةَ لَقَدْ خَشِيت عَلَى نَفْسِي وَتَكَلّمَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْخَشْيَةِ بِأَقْوَالِ كَثِيرَةٍ فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيّ إلَى أَنّ هَذِهِ الْخَشْيَةَ كَانَتْ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ الْعِلْمُ بِأَنّ الّذِي جَاءَهُ مَلَكٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ وَكَانَ أَشَقّ شَيْءٍ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ عَنْهُ مَجْنُونٌ وَلَمْ يَرَ الْإِسْمَاعِيلِيّ أَنّ هَذَا مُحَالٌ فِي مَبْدَإِ الْأَمْرِ لِأَنّ الْعِلْمَ الضّرُورِيّ قَدْ لَا يَحْصُلُ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَضَرَبَ مَثَلًا بِالْبَيْتِ مِنْ الشّعْرِ تَسْمَعُ أَوّلَهُ فَلَا تَدْرِي أَنَظْمٌ هُوَ أَمْ نَثْرٌ فَإِذَا اسْتَمَرّ الْإِنْشَادُ عَلِمْت قَطْعًا أَنّهُ قَصَدَ بِهِ قَصْدَ الشّعْرِ كَذَلِكَ لَمّا اسْتَمَرّ الْوَحْيُ وَاقْتَرَنَتْ بِهِ الْقَرَائِنُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْعِلْمِ الْقَطْعِيّ حَصَلَ الْعِلْمُ الْقَطْعِيّ ، وَقَدْ أَثْنَى اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِهَذَا الْعِلْمِ فَقَالَ { آمَنَ الرّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ } إلَى قَوْلِهِ { وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } فَإِيمَانُهُ بِاَللّهِ وَبِمَلَائِكَتِهِ إيمَانٌ كَسْبِيّ مَوْعُودٌ عَلَيْهِ بِالثّوَابِ الْجَزِيلِ كَمَا وَعَدَ عَلَى سَائِرِ أَفْعَالِهِ الْمُكْتَسِبَةِ كَانَتْ مِنْ أَفْعَالِ الْقَلْبِ أَوْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ لَقَدْ خَشِيت عَلَى نَفْسِي أَيْ خَشِيت أَلّا أَنْهَضَ بِأَعْبَاءِ النّبُوّةِ وَأَنْ أَضْعُفَ عَنْهَا ، ثُمّ أَزَالَ اللّهُ خَشْيَتَهُ وَرَزَقَهُ الْأَيْدَ وَالْقُوّةَ وَالثّبَاتَ وَالْعِصْمَةَ وَقَدْ قِيلَ إنّ خَشْيَتَهُ كَانَتْ مِنْ قَوْمِهِ أَنْ يَقْتُلُوهُ وَلَا غَرْوَ فَإِنّهُ بَشَرٌ يَخْشَى مِنْ الْقَتْلِ وَالْإِذَايَةِ الشّدِيدَةِ مَا يَخْشَاهُ الْبَشَرُ ثُمّ يُهَوّنُ عَلَيْهِ الصّبْرُ فِي ذَاتِ اللّهِ كُلّ خَشْيَةٍ وَيَجْلِبُ إلَى قَلْبِهِ كُلّ شَجَاعَةٍ وَقُوّةٍ وَقَدْ قِيلَ فِي مَعْنَى الْخَشْيَةِ أَقْوَالٌ غَيْرُ هَذِهِ رَغِبْت عَنْ التّطْوِيلِ بِذِكْرِهَا .

ابْتِدَاءُ تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ
[ ص 412 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَابْتُدِئَ رَسُولُ اللّهِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُنّ بِالتّنْزِيلِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ بِقَوْلِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ { شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنّاسِ وَبَيّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ } [ الْبَقَرَةُ 185 ] . وَقَالَ اللّهُ تَعَالَى : { إِنّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِمْ مِنْ كُلّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ } الْقَدْرُ . وَقَالَ اللّهُ تَعَالَى : { حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنّا كُنّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنّا كُنّا مُرْسِلِينَ } [ الدّخَانُ 1 - 5 ] . وَقَالَ تَعَالَى : { إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ } [ الْأَنْفَالُ 41 ] . وَذَلِكَ مُلْتَقَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْمُشْرِكِينَ بِبَدْرِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمّدُ بْنُ عَلِيّ بْنِ حُسَيْنٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ بِبَدْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ . صَبِيحَةَ سَبْعَ عَشَرَةَ مِنْ رَمَضَانَ [ ص 413 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ تَتَامّ الْوَحْيُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَهُوَ مُؤْمِنٌ بِاَللّهِ مُصَدّقٌ بِمَا جَاءَهُ مِنْهُ قَدْ قَبِلَهُ بِقَبُولِهِ وَتَحَمّلَ مِنْهُ مَا حَمّلَهُ عَلَى رِضَا الْعِبَادِ وَسَخَطِهِمْ وَالنّبُوّةُ أَثْقَالٌ وَمُؤْنَةٌ لَا يَحْمِلُهَا ، وَلَا يَسْتَطِيعُ بِهَا إلّا أَهْلُ الْقُوّةِ وَالْعَزْمِ مِنْ الرّسُلِ بِعَوْنِ اللّهِ تَعَالَى وَتَوْفِيقِهِ لِمَا يَلْقَوْنَ مِنْ النّاسِ وَمَا يَرُدّ عَلَيْهِمْ مِمّا جَاءُوا بِهِ عَنْ اللّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى . قَالَ فَمَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى أَمْرِ اللّهِ عَلَى مَا يَلْقَى مِنْ قَوْمِهِ مِنْ الْخِلَافِ وَالْأَذَى
Sمَتَى نَزَلَ الْقُرْآنُ ؟
[ ص 412 ] وَذَكَرَ قَوْلَ اللّهِ تَعَالَى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ } [ الْبَقَرَةُ 185 ] . إلَى آخِرِ الْآيَةِ مُسْتَشْهِدًا بِذَلِكَ عَلَى أَنّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَفِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْ رَمَضَانَ وَهَذَا يَحْمِلُ تَأْوِيلَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بَدْءَ النّزُولِ وَأَوّلَهُ لِأَنّ الْقُرْآنَ نَزَلَ فِي أَكْثَرَ مِنْ عِشْرِينَ سَنَةً فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ وَالثّانِي : مَا قَالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ : أَنّهُ نَزَلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً إلَى سَمَاءِ الدّنْيَا ، فَجَعَلَ فِي بَيْتِ الْعِزّةِ مَكْنُونًا فِي الصّحُفِ الْمُكَرّمَةِ الْمَرْفُوعَةِ الْمُطَهّرَةِ ثُمّ نَزَلَتْ مِنْهُ الْآيَةُ بَعْدَ الْآيَةِ وَالسّورَةُ بَعْدَ السّورَةِ فِي أَجْوِبَةِ السّائِلِينَ وَالنّوَازِلِ الْحَادِثَةِ إلَى أَنْ تُوُفّيَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهَذَا التّأْوِيلُ أَشْبَهُ بِالظّاهِرِ وَأَصَحّ فِي النّقْلِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
حَوْلُ إضَافَةِ شَهْرٍ إلَى رَمَضَانَ
[ ص 413 ] { شَهْرُ رَمَضَانَ } فَذَكَرَ الشّهْرَ مُضَافًا إلَى رَمَضَانَ وَاخْتَارَ الْكُتّابُ وَالْمُوَثّقُونَ النّطْقَ بِهِ بِهَذَا اللّفْظِ دُونَ أَنْ يَقُولُوا : كُتِبَ فِي رَمَضَانَ وَتَرْجَمَ الْبُخَارِيّ وَالنّسَوِيّ عَلَى جَوَازِ اللّفْظَيْنِ جَمِيعًا وَأَوْرَدَا حَدِيثَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - " مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَإِذَا جَاءَ رَمَضَانُ " ، وَلَمْ يَقُلْ شَهْرَ رَمَضَانَ وَقَدْ بَيّنْت أَنّ لِكُلّ مَقَامٍ مَقَامُهُ وَلَا بُدّ مِنْ ذِكْرِ شَهْرٍ فِي مَقَامٍ وَمَنْ حَذَفَهُ فِي مَقَامٍ آخَرَ وَالْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِهِ إذَا ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ وَالْحِكْمَةُ أَيْضًا فِي حَذْفِهِ إذَا حُذِفَ مِنْ اللّفْظِ وَأَيْنَ يَصْلُحُ الْحَذْفُ وَيَكُونُ أَبْلَغَ مِنْ الذّكْرِ كُلّ هَذَا مُبَيّنٌ فِي كِتَابِ " نَتَائِجِ الْفِكْرِ " ، فَهُنَاكَ أَوْرَدْنَا فِيهِ فَوَائِدَ تَعْجِزُ عَنْهَا هِمَمُ أَهْلِ هَذَا الْعَصْرِ . أَدْنَاهَا تُسَاوِي رِخْلَةً عِنْدَ مَنْ عَرَفَ قَدْرَهَا ، غَيْرَ أَنّا نُشِيرُ إلَى بَعْضِهَا ، فَنَقُولُ قَالَ سِيبَوَيْهِ : وَمِمّا لَا يَكُونُ الْعَمَلُ إلّا فِيهِ كُلّهِ الْمُحَرّمُ وَصَفَرٌ يُرِيدُ أَنّ الِاسْمَ الْعَلَمَ يَتَنَاوَلُ اللّفْظَ كُلّهُ وَذَلِكَ إذَا قُلْت : الْأَحَدُ أَوْ الِاثْنَيْنِ فَإِنْ قُلْت يَوْمَ الْأَحَدِ أَوْ شَهْرُ الْمُحَرّمِ كَانَ ظَرْفًا ، وَلَمْ يَجْرِ مَجْرَى الْمَفْعُولَاتِ وَزَالَ الْعُمُومُ مِنْ اللّفْظِ لِأَنّك تُرِيدُ فِي الشّهْرِ وَفِي الْيَوْمِ وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَلَمْ يَقُلْ شَهْرَ رَمَضَانَ لِيَكُونَ الْعَمَلُ فِيهِ كُلّهِ وَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى بَعْضِ تِلْكَ الْفَوَائِدِ الّتِي أَحَكَمْنَاهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ .
حُبّ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَطَنَهُ
بَقِيّةٌ مِنْ حَدِيثِ وَرَقَةَ وَذَلِكَ أَنّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَتُكَذّبَنّهْ فَلَمْ يَقُلْ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَيْئًا ، ثُمّ قَالَ وَلَتُؤْذَيَنّهْ فَلَمْ يَقُلْ لَهُ شَيْئًا ، ثُمّ قَالَ وَلَتُخْرَجَنّهْ فَقَالَ أَوَمُخْرَجِيّ هُمْ ؟ فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى حُبّ الْوَطَنِ وَشِدّةِ مُفَارَقَتِهِ عَلَى النّفْسِ وَأَيْضًا فَإِنّهُ حَرَمُ اللّهِ وَجِوَارُ بَيْتِهِ [ ص 414 ] أَبِيهِ إسْمَاعِيلَ فَلِذَلِكَ تَحَرّكَتْ نَفْسُهُ عِنْدَ ذِكْرِ الْخُرُوجِ مِنْهُ مَا لَمْ تَتَحَرّكْ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَالَ أَوَمُخْرَجِيّ هُمْ ؟ وَالْمَوْضِعُ الدّالّ عَلَى تَحَرّكِ النّفْسِ وَتَحَرّقِهَا إدْخَالُ الْوَاوِ بَعْدَ أَلِفِ الِاسْتِفْهَامِ مَعَ اخْتِصَاصِ الْإِخْرَاجِ بِالسّؤَالِ عَنْهُ وَذَلِكَ أَنّ الْوَاوَ تُرَدّ إلَى الْكَلَامِ الْمُتَقَدّمِ وَتُشْعِرُ الْمُخَاطَبَ بِأَنّ الِاسْتِفْهَامَ عَلَى جِهَةِ الْإِنْكَارِ أَوْ التّفَجّعِ لِكَلَامِهِ أَوْ التّأَلّمِ مِنْهُ .
ذِكْرُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ حَسَنٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَقَوْلُهُ حَدّثَتْنِي أُمّي فَاطِمَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ أَنّ خَدِيجَةَ أَدَخَلَتْهُ بَيْنَ ثَوْبِهَا . الْحَدِيثَ عَبْدُ اللّهِ هَذَا هُوَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ حَسَنِ بْنِ حَسَنِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَأُمّهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْحُسَيْنِ أُخْتُ سُكَيْنَةَ وَاسْمُهَا : آمِنَةُ وَسُكَيْنَةُ لَقَبٌ لَهَا الّتِي كَانَتْ ذَاتَ دُعَابَةٍ وَمَزْحٍ وَفِي سُكَيْنَةَ وَأُمّهَا الرّبَابِ يَقُولُ الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيّ - رَضِيَ اللّهُ عَنْ جَمِيعِهِمْ
كَأَنّ اللّيْلَ مَوْصُولٌ بِلَيْلِ ... إذَا زَارَتْ سُكَيْنَةُ وَالرّبَابُ
أَيْ زَادَتْ قَوْمُهَا ، وَهُمْ بَنُو عُلَيْمِ بْنِ جَنَابٍ مِنْ كَلْبٍ ، ثُمّ مِنْ بَنِي كَعْبِ بْنِ عُلَيْمٍ وَيُعْرَفُ بَنُو كَعْبِ بْنِ عُلَيْمٍ بِبَنِي زَيْدَ غَيْرُ مَصْرُوفٍ لِأَنّهُ اسْمُ أُمّهِمْ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ حَسَنٍ هُوَ وَالِدُ الطّالِبِيّيْنِ الْقَائِمَيْنِ عَلَى بَنِي الْعَبّاسِ وَهُمْ مُحَمّدٌ وَيَحْيَى وَإِدْرِيسُ مَاتَ إدْرِيسُ بِإِفْرِيقِيّةَ فَارّا مِنْ الرّشِيدِ وَمَاتَ مَسْمُومًا فِي دُلَاعَةٍ أَكَلَهَا ، وَوَقَعَ فِي كِتَابِ الزّبَيْرِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ : قَالَ آدَمُ عَلَيْهِ السّلَامُ مِمّا فَضَلّ بِهِ عَلِيّ ابْنَيْ صَاحِبِ الْبَعِيرِ أَنّ زَوْجَهُ كَانَتْ عَوْنًا لَهُ عَلَى تَبْلِيغِ أَمْرِ اللّهِ وَأَنّ زَوْجِي كَانَتْ عَوْنًا لِي عَلَى الْمَعْصِيَةِ .

إسْلَامُ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ
وَآمَنَتْ [ ص 414 ] خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ، وَصَدّقَتْ بِمَا جَاءَهُ مِنْ اللّهِ وَوَازَرَتْهُ عَلَى أَمْرِهِ وَكَانَتْ أَوّلَ مَنْ آمَنَ بِاَللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَصَدّقَ بِمَا جَاءَ مِنْهُ فَخَفّفَ اللّهُ بِذَلِكَ عَنْ نَبِيّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يَسْمَعُ شَيْئًا مِمّا يَكْرَهُهُ مِنْ رَدّ عَلَيْهِ وَتَكْذِيبٍ لَهُ فَيَحْزُنُهُ ذَلِكَ إلّا فَرّجَ اللّهُ عَنْهُ بِهِ إذَا رَجَعَ إلَيْهَا ، تُثَبّتُهُ وَتُخَفّفُ عَلَيْهِ وَتُصَدّقُهُ وَتُهَوّنُ عَلَيْهِ أَمْرَ النّاسِ رَحِمَهَا اللّهُ تَعَالَى [ ص 415 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ ، عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرْت أَنْ أُبَشّرَ خَدِيجَةَ بِبَيْتِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبٌ فِيهِ وَلَا نَصَبٌ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْقَصَبُ هَاهُنَا : اللّؤْلُؤُ الْمُجَوّفُ [ ص 416 ] [ ص 417 ] [ ص 418 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ أَقْرِئْ خَدِيجَةَ السّلَامَ مِنْ رَبّهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا خَدِيجَةُ هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُك السّلَامَ مِنْ رَبّك [ ص 419 ] فَقَالَتْ خَدِيجَةُ اللّهُ السّلَامُ وَمِنْهُ السّلَامُ وَعَلَى جِبْرِيلَ السّلَام
Sحَدِيثُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَعْفَرٍ وَغَيْرِهِ عَنْ خَدِيجَةَ
فَصْلٌ وَذِكْرُ حَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَمَرَ أَنّ [ ص 415 ] خَدِيجَةَ بِبَيْتِ مِنْ قَصَبٍ لَا صَخَبٍ فِيهِ وَلَا نَصَبٍ . هَذَا حَدِيثٌ مُرْسَلٌ وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مُتّصِلًا عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ مَا غِرْت عَلَى أَحَدٍ مَا غِرْت عَلَى خَدِيجَةَ وَلَقَدْ هَلَكْت قَبْلَ أَنْ يَتَزَوّجَنِي رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِثَلَاثِ سِنِينَ وَلَقَدْ أَمَرَ أَنْ يُبَشّرُهَا بِبَيْتِ مِنْ قَصَبٍ فِي الْجَنّةِ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنّ عَائِشَةَ قَالَتْ مَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ حَمْرَاءَ الشّدْقَيْنِ هَلَكَتْ فِي الدّهْرِ قَدْ أَبْدَلَك اللّهُ خَيْرًا مِنْهَا ، فَغَضِبَ وَقَالَ " وَاَللّهِ مَا أَبْدَلَنِي اللّهُ خَيْرًا مِنْهَا ؛ آمَنَتْ بِي حِينَ كَذّبَنِي النّاسُ وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا حِينَ حَرَمَنِي النّاسُ وَرُزِقْت الْوَلَدَ مِنْهَا ، وَحُرِمْته مِنْ غَيْرِهَا وَرَوَى يُونُسُ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَيْمَنَ الْمَخْزُومِيّ قَالَ حَدّثَنَا أَبُو نَجِيحٍ قَالَ أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَزُورٌ أَوْ لَحْمٌ فَأَخَذَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَظْمًا مِنْهَا ، فَنَاوَلَهُ الرّسُولُ بِيَدِهِ فَقَالَ اذْهَبْ بِهَذَا إلَى فُلَانَةَ فَقَالَتْ عَائِشَةُ لِمَ غَمَرْت يَدَك ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مُغْضَبًا : " إنّ خَدِيجَةَ أَوْصَتْنِي بِهَا " ، فَغَارَتْ عَائِشَةُ وَقَالَتْ لَكَأَنّهُ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ امْرَأَةٌ إلّا خَدِيجَةَ فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مُغْضَبًا ، فَلَبِثَ مَا شَاءَ اللّهُ ثُمّ رَجَعَ فَإِذَا أُمّ رُومَانَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا لَك وَلِعَائِشَةَ ؟ إنّهَا حَدَثَةٌ وَإِنّك أَحَقّ مَنْ تَجَاوَزَ عَنْهَا ، فَأَخَذَ بِشِدْقِ عَائِشَةَ وَقَالَ أَلَسْت الْقَائِلَةَ " كَأَنّمَا لَيْسَ عَلَى الْأَرْضِ امْرَأَةٌ إلّا خَدِيجَةُ وَاَللّهِ لَقَدْ آمَنَتْ بِي إذْ كَفَرَ قَوْمُك ، وَرُزِقْت مِنّي الْوَلَدُ وَحُرِمْتُمُوهُ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ خَيْرُ نِسَائِهَا : مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَخَيْرُ نِسَائِهَا : خَدِيجَةُ وَالْهَاءُ فِي نِسَائِهَا حِينَ ذَكَرَ مَرْيَمَ عَائِدَةً عَلَى السّمَاءِ وَالْهَاءُ فِي نِسَائِهَا حِينَ ذَكَرَ خَدِيجَةَ عَائِدَةٌ عَلَى الْأَرْضِ وَذَلِكَ أَنّ هَذَا الْحَدِيثَ رَوَاهُ وَكِيعٌ وَأَبُو أُسَامَةَ وَابْنُ نُمَيْرٍ فِي آخَرَيْنِ وَأَشَارَ وَكِيعٌ مِنْ بَيْنَهُمْ حِينَ حَدّثَ بِالْحَدِيثِ بِإِصْبَعِهِ إلَى السّمَاءِ عِنْدَ ذِكْرِ مَرْيَمَ ، وَإِلَى الْأَرْضِ عِنْدَ ذِكْرِ [ ص 416 ] خَدِيجَةَ ، وَهَذِهِ إشَارَةٌ لَيْسَتْ مِنْ رَأْيِهِ وَإِنّمَا هِيَ زِيَادَةٌ مِنْ حَدِيثِهِ عَنْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى إشَارَتِهِ إلَى السّمَاءِ وَالْأَرْضِ عِنْدَ ذِكْرِهِمَا ، أَيْ هُمَا خَيْرُ نِسَاءٍ بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهَذَا أَثْبَتُ عِنْدِي بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ . وَلَعَلّنَا أَنْ نَذْكُرَ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي التّفْضِيلِ بَيْنَ مَرْيَمَ وَخَدِيجَةَ وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُنّ - وَأَزْوَاجِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَمَا نَزَعَ بِهِ كُلّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ .
حَوْلَ مَا بُشّرَتْ بِهِ خَدِيجَةُ
وَأَمّا قَوْلُهُ بِبَيْتِ مِنْ قَصَبٍ فَقَدْ رَوَاهُ الْخَطّابِيّ مُفَسّرًا ، وَقَالَ فِيهِ قَالَتْ خَدِيجَةُ : يَا رَسُولَ اللّهِ هَلْ فِي الْجَنّةِ قَصَبٌ ؟ فَقَالَ " إنّهُ قَصَبٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ مُجَبّى قَالَ الْخَطّابِيّ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ مُجَوّبًا مِنْ قَوْلِك : جُبْت الثّوْبَ إذَا خَرَقْته ، فَيَكُونُ مِنْ الْمَقْلُوبِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ مُجَبّبًا بِبَاءَيْنِ مِنْ الْجُبّ وَهُوَ الْقَطْعُ أَيْ قُطِعَ دَاخِلُهُ وَقُلِبَتْ الْبَاءُ يَاءً كَمَا قَالُوا : تَظَنّيْتُ مِنْ الظّنّ وَتَقَصّيْت أَظْفَارِي ، وَتَكَلّمَ أَصْحَابُ الْمَعَانِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَقَالُوا : كَيْفَ لَمْ يُبَشّرْهَا إلّا بِبَيْتِ وَأَدْنَى أَهْلِ الْجَنّةِ مَنْزِلَةً مَنْ يُعْطَى مَسِيرَةَ أَلْفِ عَامٍ فِي الْجَنّةِ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ خَرّجَهُ التّرْمِذِيّ ، وَكَيْفَ لَمْ يُنْعِتْ هَذَا الْبَيْتَ بِشَيْءِ مِنْ أَوْصَافِ النّعِيمِ وَالْبَهْجَةِ أَكْثَرَ مِنْ نَفْيِ الصّخَبِ وَهُوَ رَفْعُ الصّوْتِ فَأَمّا أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ فَقَالَ فِي كِتَابِ فَوَائِدِ الْأَخْبَارِ لَهُ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنّهُ بُشّرَتْ بِبَيْتِ زَائِدٍ عَلَى مَا أَعَدّ اللّهُ لَهَا مِمّا هُوَ ثَوَابٌ لِإِيمَانِهَا وَعَمَلِهَا ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ أَيْ لَمْ تَنْصِبْ فِيهِ وَلَمْ تَصْخَبْ . أَيْ إنّمَا أَعْطَيْته زِيَادَةً عَلَى جَمِيعِ الْعَمَلِ الّذِي نَصَبَتْ فِيهِ . قَالَ الْمُؤَلّفُ رَحِمَهُ اللّهُ لَا أَدْرِي مَا هَذَا التّأْوِيلُ وَلَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ وَلَا يُوجَدُ شَاهِدٌ يُعَضّدُهُ وَأَمّا الْخَطّابِيّ ، فَقَالَ الْبَيْتُ هَاهُنَا عِبَارَةٌ عَنْ قَصْرٍ وَقَدْ يُقَالُ لِمَنْزِلِ الرّجُلِ بَيْتُهُ وَاَلّذِي قَالَهُ صَحِيحٌ يُقَالُ فِي الْقَوْمِ هُمْ أَهْلُ بَيْتِ شَرَفٍ وَبَيْتِ عِزّ وَفِي التّنْزِيلِ غَيْرُ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَكِنْ لِذِكْرِ الْبَيْتِ هَاهُنَا بِهَذَا اللّفْظِ وَلِقَوْلِهِ بِبَيْتِ وَلَمْ يَقُلْ بِقِصَرِ مَعْنًى لَائِقٍ بِصُورَةِ الْحَالِ وَذَلِكَ أَنّهَا كَانَتْ رَبّةَ بَيْتِ إسْلَامٍ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْأَرْضِ بَيْتُ إسْلَامٍ إلّا بَيْتَهَا حِينَ آمَنَتْ وَأَيْضًا فَإِنّهَا أَوّلُ مَنْ بَنَى بَيْتًا فِي الْإِسْلَامِ بِتَزْوِيجِهَا رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَرَغْبَتِهَا فِيهِ وَجَزَاءُ الْفِعْلِ يُذْكَرُ بِلَفْظِ الْفِعْلِ وَإِنْ كَانَ أَشْرَفَ مِنْهُ لِمَا جَاءَ مَنْ كَسَا مُسْلِمًا عَلَى عُرْيٍ كَسَاهُ اللّهُ مِنْ حُلَلِ الْجَنّةِ وَمَنْ سَقَى مُسْلِمًا عَلَى ظَمَإِ سَقَاهُ اللّهُ مِنْ الرّحِيق وَمِنْ [ ص 417 ] مَنْ بَنَى لِلّهِ مَسْجِدًا بَنَى اللّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنّةِ لَمْ يَرِدْ مِثْلُهُ فِي كَوْنِهِ مَسْجِدًا ، وَلَا فِي صِفّتِهِ وَلَكِنْ قَابِلٌ الْبُنْيَانِ بِالْبُنْيَانِ أَيْ كَمَا بَنَى يُبْنَى لَهُ كَمَا قَابِلُ الْكِسْوَةِ بِالْكِسْوَةِ وَالسّقْيَا بِالسّقْيَا ، فَهَاهُنَا وَقَعَتْ الْمُمَاثَلَةُ لَا فِي ذَاتِ الْمَبْنِيّ أَوْ الْمَكْسُوّ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَمِنْ هَاهُنَا اقْتَضَتْ الْفَصَاحَةُ أَنْ يُعَبّرَ لَهَا عَمّا بُشّرَتْ بِهِ بِلَفْظِ الْبَيْتِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَا لَا عَيْنَ رَأَتْهُ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْهُ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ وَمِنْ تَسْمِيَةِ الْجَزَاءِ عَلَى الْفِعْلِ بِالْفِعْلِ فِي عَكْسِ مَا ذَكَرْنَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ } { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللّهُ } وَأَمّا قَوْلُهُ لَا صَخَبَ فِيهِ وَلَا نَصَبَ فَإِنّهُ أَيْضًا مِنْ بَابِ مَا كُنّا بِسَبِيلِهِ لِأَنّهُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - دَعَاهَا إلَى الْإِيمَانِ فَأَجَابَتْهُ عَفْوًا ، لَمْ تُحْوِجْهُ إلَى أَنْ يَصْخَبَ كَمَا يَصْخَبُ الْبَعْلُ إذَا تَعَصّتْ عَلَيْهِ حَلِيلَتُهُ وَلَا أَنْ يَنْصِبَ بَلْ أَزَالَتْ عَنْهُ كُلّ نَصَبٍ وَآنَسَتْهُ مِنْ كُلّ وَحْشَةٍ وَهَوّنَتْ عَلَيْهِ كُلّ مَكْرُوهٍ وَأَرَاحَتْهُ بِمَا لَهَا مِنْ كُلّ كَدّ وَنَصَبٍ فَوَصَفَ مَنْزِلَهَا الّذِي بُشّرَتْ بِهِ بِالصّفّةِ الْمُقَابِلَةِ لِفَعَالِهَا وَصُورَتِهِ . وَأَمّا قَوْلُهُ مِنْ قَصَبٍ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى وَاحِدًا ، وَلَكِنْ فِي اخْتِصَاصِهِ هَذَا اللّفْظِ مِنْ الْمُشَاكَلَةِ الْمَذْكُورَةِ وَالْمُقَابِلَةِ بِلَفْظِ الْجَزَاءِ لِلَفْظِ الْعَمَلِ أَنّهَا - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - كَانَتْ قَدْ أَحْرَزَتْ قَصَبَ السّبْقِ إلَى الْإِيمَانِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ الرّجَالِ وَالنّسْوَانِ . وَالْعَرَبُ تُسَمّي السّابِقَ مُحْرِزًا لِلْقَصْبِ . قَالَ الشّاعِرُ
مَشَى ابْنُ الزّبَيْرِ الْقَهْقَرَى ، وَتَقَدّمَتْ ... أُمَيّةُ حَتّى أَحْرَزُوا الْقَصَبَاتِ
فَاقْتَضَتْ الْبَلَاغَةُ أَنْ يَعْبُرَ بِالْعِبَارَةِ الْمُشَاكِلَةِ لِعَمَلِهَا فِي جَمِيعِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ فَتَأَمّلْهُ .
الْمُوَازَنَةُ بَيْنَ خَدِيجَةَ وَعَائِشَةَ
[ ص 418 ] وَذَكَرَ قَوْلَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِخَدِيجَةَ : " هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُك السّلَامَ مِنْ رَبّك الْحَدِيثُ يُذْكَرُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ داود أَنّهُ سُئِلَ أَعَائِشَةُ أَفَضْلُ أَمْ خَدِيجَةَ ؟ فَقَالَ " عَائِشَةُ أَقْرَأَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ السّلَامَ مِنْ جِبْرِيلَ وَخَدِيجَةُ أَقْرَأَهَا جِبْرِيلُ السّلَامَ مِنْ رَبّهَا عَلَى لِسَانِ مُحَمّدٍ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَهِيَ أَفَضْلُ " ، قِيلَ لَهُ فَمَنْ أَفْضَلُ أَخَدِيجَةُ أَمْ فَاطِمَةُ ؟ فَقَالَ إنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ إنّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنّي فَلَا أَعْدِلُ بِبَضْعَةِ مِنْ رَسُولِ اللّهِ أَحَدًا وَهَذَا اسْتِقْرَاءٌ حَسَنٌ وَيَشْهَدُ لِصِحّةِ هَذَا الِاسْتِقْرَاءِ أَنّ أَبَا لُبَابَةَ حِينَ ارْتَبَطَ نَفْسُهُ وَحَلَفَ أَلّا يَحِلّهُ إلّا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ لِتَحِلّهُ فَأَبَى مِنْ أَجْلِ قَسَمِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - " إنّمَا فَاطِمَةُ مُضْغَةٌ مِنّي فَحَلّتْهُ وَسَنَذْكُرُ الْحَدِيثَ بِإِسْنَادِهِ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى ، وَيَدُلّ أَيْضًا عَلَى تَفْضِيلِ فَاطِمَةَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - لَهَا : أَمَا تَرْضَيْنَ أَنْ تَكُونِي سَيّدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنّةِ إلّا مَرْيَمَ ؟ فَدَخَلَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أُمّهَا وَأَخَوَاتُهَا ، وَقَدْ تَكَلّمَ النّاسُ فِي الْمَعْنَى الّذِي سَادَتْ بِهِ فَاطِمَةُ غَيْرَهَا دُونَ أَخَوَاتِهَا ، فَقِيلَ إنّهَا وَلَدَتْ سَيّدَ هَذِهِ الْأُمّةِ وَهُوَ الْحَسَنُ الّذِي يَقُولُ فِيهِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إنّ ابْنِي هَذَا سَيّدٌ وَهُوَ خَلِيفَةٌ بَعْلُهَا خَلِيفَةٌ أَيْضًا ، وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ مَنْ قَالَ سَادَتْ أَخَوَاتُهَا وَأُمّهَا ، لِأَنّهُنّ مُتْنَ فِي حَيَاةِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَكُنّ فِي صَحِيفَتِهِ وَمَاتَ أَبُوهَا وَهُوَ سَيّدُ الْعَالَمِينَ فَكَانَ رُزْؤُهُ فِي صَحِيفَتِهَا وَمِيزَانِهَا ، وَقَدْ رَوَى الْبَزّارُ مِنْ طَرِيقِ عَائِشَةَ أَنّهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لِفَاطِمَةَ هِيَ خَيْرُ بَنَاتِي ، إنّهَا أُصِيبَتْ بِي فَحَقّ لِمَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُ أَنْ يَسُودَ نِسَاءُ أَهْلِ الْجَنّةِ وَهَذَا حَسَنٌ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَمِنْ سُؤْدُدِهَا أَيْضًا أَنّ الْمَهْدِيّ الْمُبَشّرَ بِهِ آخِرَ الزّمَانِ مِنْ ذُرّيّتِهَا ، فَهِيَ مَخْصُوصَةٌ بِهَذَا كُلّهِ وَالْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِي أَمْرِ الْمَهْدِيّ كَثِيرَةٌ وَقَدْ جَمَعَهَا أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ فَأَكْثَرَ وَمِنْ أَغْرَبِهَا إسْنَادًا مَا ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ فِي فَوَائِدِ الْأَخْبَارِ مُسْنَدًا إلَى مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 419 ] مَنْ كَذّبَ بِالدّجّالِ فَقَدْ كَفَرَ وَمَنْ كَذّبَ بِالْمَهْدِيّ فَقَدْ كَفَرَ وَقَالَ فِي طُلُوعِ الشّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا مِثْلَ ذَلِكَ فِيمَا أَحْسَبُ .
اللّهُ السّلَامُ
وَقَوْلُ خَدِيجَةَ : اللّهُ السّلَامُ وَمِنْهُ السّلَامُ وَعَلَى جِبْرِيلَ السّلَامُ عَلِمَتْ بِفِقْهِهَا أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ لَا يَرِدُ عَلَيْهِ السّلَامُ كَمَا يَرِدُ عَلَى الْمَخْلُوقِ لِأَنّ السّلَامَ دُعَاءٌ بِالسّلَامَةِ فَكَانَ مَعْنَى قَوْلِهَا : اللّهُ السّلَامُ فَكَيْفَ أَقُولُ عَلَيْهِ السّلَامُ وَالسّلَامُ مِنْهُ يُسْأَلُ وَمِنْهُ يَأْتِي ؟ وَلَكِنْ عَلَى جِبْرِيلَ السّلَامُ فَاَلّذِي يَحْصُلُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ الْفِقْهِ أَنّهُ لَا يَلِيقُ بِاَللّهِ سُبْحَانَهُ إلّا الثّنَاءُ عَلَيْهِ فَجَعَلَتْ مَكَانَ رَدّ التّحِيّةِ عَلَى اللّهِ ثَنَاءً عَلَيْهِ كَمَا عَمِلُوا فِي التّشَهّدِ حِينَ قَالُوا : السّلَامُ عَلَى اللّهِ مِنْ عِبَادِهِ السّلَامُ عَلَى فُلَانٍ فَقِيلَ لَهُمْ لَا تَقُولُوا هَذَا ، وَلَكِنْ قُولُوا : التّحِيّاتُ لِلّهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ فَوَائِدَ جَمّةً فِي مَعْنَى التّحِيّاتِ إلَى آخِرِ التّشَهّدِ . وَقَوْلُهَا : وَمِنْهُ السّلَامُ إنْ كَانَتْ أَرَادَتْ السّلَامَ التّحِيّةَ فَهُوَ خَبَرٌ يُرَادُ بِهِ التّشَكّرُ كَمَا تَقُولُ هَذِهِ النّعْمَةُ مِنْ اللّهِ وَإِنْ كَانَتْ أَرَادَتْ السّلَامَ بِالسّلَامَةِ مِنْ سُوءٍ فَهُوَ خَبَرٌ يُرَادُ بِهِ الْمَسْأَلَةُ كَمَا تَقُولُ مِنْهُ يُسْأَلُ الْخَيْرُ . وَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ اللّغَةِ إلَى أَنّ السّلَامَ وَالسّلَامَةَ بِمَعْنَى وَاحِدٍ كَالرّضَاعِ وَالرّضَاعَةِ وَلَوْ تَأَمّلُوا كَلَامَ الْعَرَبِ وَمَا تُعْطِيهِ هَاءُ التّأْنِيثِ مِنْ التّحْدِيدِ لَرَأَوْا أَنّ بَيْنَهُمَا فُرْقَانًا عَظِيمًا ، وَأَنّ الْجَلَالَ أَعَمّ مِنْ الْجَلَالَةِ بِكَثِيرِ وَأَنّ اللّذَاذَ أَبْلَغُ مِنْ اللّذَاذَةِ وَأَنّ الرّضَاعَةَ تَقَعُ عَلَى الرّضْعَةِ الْوَاحِدَةِ وَالرّضَاعُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ السّلَامُ وَالسّلَامَةُ وَقِسْ عَلَى هَذَا : تَمْرَةً وَتَمْرًا ، وَلَقَاةً وَلَقًى ، وَضَرْبَةً وَضَرْبًا ، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَتَسَمّى سُبْحَانَهُ بِالسّلَامِ لِمَا شَمِلَ جَمِيعَ الْخَلِيقَةِ ، وَعَمّهُمْ مِنْ السّلَامَةِ مِنْ الِاخْتِلَالِ وَالتّفَاوُتِ إذْ الْكُلّ جَارٍ عَلَى نِظَامِ الْحِكْمَةِ كَذَلِكَ سَلِمَ الثّقَلَانِ مِنْ جَوْرٍ وَظُلْمٍ أَنْ يَأْتِيَهُمْ مِنْ قِبَلِهِ سُبْحَانَهُ فَإِنّمَا الْكُلّ مُدَبّرٌ بِفَضْلِ أَوْ عَدْلٍ أَمّا الْكَافِرُ فَلَا يَجْرِي عَلَيْهِ إلّا عَدْلُهُ وَأَمّا الْمُؤْمِنُ فَيَغْمُرُهُ فَضْلُهُ فَهُوَ سُبْحَانَهُ فِي جَمِيعِ أَفْعَالِهِ سَلَامٌ لَا حَيْفَ وَلَا ظُلْمَ وَلَا تَفَاوُتَ وَلَا اخْتِلَالَ وَمَنْ زَعَمَ مِنْ الْمُفَسّرِينَ لِهَذَا الِاسْمِ أَنّهُ تَسَمّى بِهِ لِسَلَامَتِهِ مِنْ الْآفَاتِ وَالْعُيُوبِ فَقَدْ أَتَى بِشَنِيعِ مِنْ الْقَوْلِ إنّمَا السّلَامُ مَنْ سُلِمَ مِنْهُ وَالسّالِمُ مَنْ سَلِمَ مِنْ غَيْرِهِ وَانْظُرْ إلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا } [ ص 420 ] { سَلَامٌ هِيَ } وَلَا يُقَالُ فِي الْحَائِطِ : سَالِمٌ مِنْ الْعَمَى ، وَلَا فِي الْحَجَرِ أَنّهُ سَالِمٌ مِنْ الزّكَامِ أَوْ مِنْ السّعَالِ إنّمَا يُقَالُ سَالِمٌ فِيمَنْ تَجُوزُ عَلَيْهِ الْآفَةُ وَيَتَوَقّعُهَا ثُمّ يَسْلَمُ مِنْهَا ، وَالْقُدّوسُ سُبْحَانَهُ مُتَعَالٍ عَنْ تَوَقّعِ الْآفَاتِ مُتَنَزّهٍ عَنْ جَوَازِ النّقَائِصِ وَمِنْ هَذِهِ صِفّتُهُ لَا يُقَالُ سَلِمَ وَلَا يَتَسَمّى بِسَالِمِ وَهُمْ قَدْ جَعَلُوا سَلَامًا بِمَعْنَى سَالِمٍ وَاَلّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوّلَ هُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَكْثَرِ السّلَفِ وَالسّلَامَةُ خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ خِصَالِ السّلَامِ .

[ ص 420 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ فَتَرَ الْوَحْيُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَتْرَةً مِنْ ذَلِكَ حَتّى شَقّ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَأَحْزَنَهُ فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ بِسُورَةِ الضّحَى ، يَقْسِمُ لَهُ رَبّهُ وَهُوَ الّذِي أَكْرَمَهُ بِمَا أَكْرَمَهُ بِهِ مَا وَدّعَهُ وَمَا قَلَاهُ فَقَالَ تَعَالَى : { وَالضّحَى وَاللّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدّعَكَ رَبّكَ وَمَا قَلَى } يَقُولُ مَا صَرَمَكَ فَتَرَكَك ، وَمَا أَبْغَضَك مُنْذُ أَحَبّك . { وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى } أَيْ لِمَا عِنْدِي مِنْ مَرْجِعِك إلَيّ خَيْرٌ لَك مِمّا عَجّلْت لَك مِنْ الْكَرَامَةِ فِي الدّنْيَا . { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبّكَ فَتَرْضَى } مِنْ الْفَلْجِ فِي الدّنْيَا ، وَالثّوَابِ فِي الْآخِرَةِ { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالّا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى } يُعَرّفُهُ اللّهُ مَا ابْتَدَأَهُ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ فِي عَاجِلِ أَمْرِهِ وَمَنّهِ عَلَيْهِ فِي يُتْمِهِ وَضَلَالَتِهِ وَاسْتِنْقَاذِهِ مِنْ ذَلِكَ كُلّهِ بِرَحْمَتِهِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : سَجَى : سَكَنَ . قَالَ أُمَيّةُ بْنُ أَبِي الصّلْتِ الثّقَفِيّ :
إذْ أَتَى مَوْهِنًا وَقَدْ نَامَ صَحْبِي ... وَسَجَا اللّيْلُ بِالظّلّامِ الْبَهِيمِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ وَيُقَالُ لِلْعَيْنِ إذَا سَكَنَ طَرْفُهَا : سَاجِيَةً وَسَجَا طَرْفُهَا [ ص 421 ] قَالَ جَرِيرُ بْنُ الْخَطَفِيّ
وَلَقَدْ رَمَيْنَك - حِينَ رُحْنَ - بِأَعْيُنِ ... يَقْتُلْنَ مِنْ خَلَلِ السّتُورِ سَوَاجِي
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَالْعَائِلُ الْفَقِيرُ قَالَ أَبُو خِرَاشٍ الْهُذَلِيّ
إلَى بَيْتِهِ يَأْوِي الضّرِيكُ إذَا شَتَا ... وَمُسْتَنْبَحٌ بَالِي الدّرِيسَيْنِ عَائِلُ
وَجَمْعُهُ عَالَةٌ وَعَيْلٌ وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا - إنْ شَاءَ اللّهُ وَالْعَائِلُ أَيْضًا : الّذِي يَعُولُ الْعِيَالَ . وَالْعَائِلُ أَيْضًا : الْخَائِفُ . وَفِي كِتَابِ اللّهِ تَعَالَى : { ذَلِكَ أَدْنَى أَلّا تَعُولُوا } [ النّسَاءُ 3 ] . وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ
بِمِيزَانِ قِسْطٍ لَا يُخِسّ شَعِيرَةً ... لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا - إنْ شَاءَ اللّهُ - فِي مَوْضِعِهَا . وَالْعَائِلُ أَيْضًا : الشّيْءُ الْمُثْقَلُ الْمُعْيِي . يَقُولُ الرّجُلُ قَدْ عَالَنِي هَذَا الْأَمْرُ أَيْ أَثْقَلَنِي وَأَعْيَانِي ، قَالَ الْفَرَزْدَقُ :
تَرَى الْغُرّ الْجَحَاجِحَ مِنْ قُرَيْشٍ ... إذَا مَا الْأَمْرُ فِي الْحَدَثَانِ عَالَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . [ ص 422 ] { فَأَمّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ وَأَمّا السّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ } أَيْ لَا تَكُنْ جَبّارًا وَلَا مُتَكَبّرًا ، وَلَا فَحّاشًا فَظّا عَلَى الضّعَفَاءِ مِنْ عِبَادِ اللّهِ . { وَأَمّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ } أَيْ بِمَا جَاءَك مِنْ اللّهِ مِنْ نِعْمَتِهِ وَكَرَامَتِهِ مِنْ النّبُوّةِ فَحَدّثْ أَيْ اُذْكُرْهَا ، وَادْعُ إلَيْهَا ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَذْكُرُ مَا أَنْعَمَ اللّهُ بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْعِبَادِ بِهِ مِنْ النّبُوّةِ سِرّا إلَى مَنْ يَطْمَئِنّ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ .
Sفَتْرَةَ الْوَحْيِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ فَتْرَةَ الْوَحْيِ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَلَمْ يَذْكُرْ مِقْدَارَ مُدّةِ الْفَتْرَةِ وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الْمُسْنَدَةِ أَنّهَا كَانَتْ سَنَتَيْنِ وَنِصْفِ سَنَةٍ فَمِنْ هُنَا يَتّفِقُ مَا قَالَهُ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنّ مُكْثَهُ بِمَكّةَ كَانَ عَشَرَ سِنِينَ وَقَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ : ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَكَانَ قَدْ اُبْتُدِئَ بِالرّؤْيَا الصّادِقَةِ سِتّةَ أَشْهُرٍ فَمَنْ عَدّ مُدّةَ الْفَتْرَةِ وَأَضَافَ إلَيْهَا الْأَشْهُرَ السّتّةَ كَانَتْ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ ، وَمَنْ عَدّهَا مِنْ حِينِ حَمِيَ الْوَحْيِ وَتَتَابَعَ كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ كَانَتْ عَشْرَ سِنِينَ . وَوَجْهٌ آخَرُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ أَيْضًا ، وَهُوَ أَنّ الشّعْبِيّ قَالَ وَكّلَ إسْرَافِيلَ بِنُبُوّةِ مُحَمّدٍ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ثَلَاثَ سِنِينَ ثُمّ جَاءَهُ بِالْقُرْآنِ جِبْرِيلُ وَقَدْ قَدّمْنَا هَذَا الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ أَبُو عُمَرَ فِي كِتَابِ الِاسْتِيعَابِ وَإِذَا صَحّ فَهُوَ أَيْضًا وَجْهٌ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . [ ص 421 ]
شَرْحُ شِعْرِ الْهُذَلِيّ وَالْفَرَزْدَقِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ قَوْلَ أَبِي خِرَاشٍ خُوَيْلِدِ بْنِ مُرّةَ الْهُذَلِيّ
إلَى بَيْتِهِ يَأْوِي الضّرِيكُ إذَا شَتَا ... وَمُسْتَنْبَحٌ بَالِي الدّرِيسَيْنِ عَائِلُ
الضّرِيكُ الضّعِيفُ الْمُضْطَرّ وَالْمُسْتَنْبَحُ الّذِي يَضِلّ عَنْ الطّرِيقِ فِي ظُلْمَةِ اللّيْلِ فَيَنْبَحُ لِيَسْمَعَ نُبَاحَ كَلْبٍ وَالدّرِيسُ الثّوْبُ الْخَلَقُ وَقَوْلُ الْفَرَزْدَقِ :
تَرَى الْغُرّ الْجَحَاجِحَ مِنْ قُرَيْشٍ ... إذَا مَا الْأَمْرُ فِي الْحَدَثَانِ عَالَا
قِيَامًا يَنْظُرُونَ إلَى سَعِيدٍ ... كَأَنّهُمْ يَرَوْنَ بِهِ هِلَالًا
يَعْنِي : سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِي بْنِ أُمَيّةَ ، وَيُقَال : إنّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ حِينَ سَمِعَ الْفَرَزْدَقَ يُنْشِدُ هَذَا الْبَيْتَ حَسَدَهُ فَقَالَ لَهُ قُلْ قُعُودًا يَنْظُرُونَ إلَى سَعِيدٍ يَا أَبَا فِرَاسٍ . فَقَالَ لَهُ الْفَرَزْدَقُ : وَاَللّهِ يَا أَبَا عَبْدِ الْمَلِكِ إلّا قِيَامًا عَلَى الْأَقْدَامِ . وَذَكَرَ سَبَبَ نُزُولِ سُورَةِ الضّحَى ، وَأَنّ ذَلِكَ لِفَتْرَةِ الْوَحْيِ عَنْهُ وَخَرّجَ الْبُخَارِيّ مِنْ طَرِيقِ جُنْدُبِ بْنِ سُفْيَانَ أَنْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 422 ] فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَةٌ إنّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ شَيْطَانُك قَدْ تَرَكَك ، فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى سُورَةَ الضّحَى .

ابْتِدَاءُ مَا افْتَرَضَ اللّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الصّلَاةِ وَأَوْقَاتِهَا
[ ص 423 ] فَصَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَالسّلَامُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ اُفْتُرِضَتْ الصّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوّلَ مَا اُفْتُرِضَتْ عَلَيْهِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ كُلّ صَلَاةٍ ثُمّ إنّ اللّهَ تَعَالَى أَتَمّهَا فِي الْحَضَرِ أَرْبَعًا ، وَأَقَرّهَا فِي السّفَرِ عَلَى فَرْضِهَا الْأَوّلِ رَكْعَتَيْنِ [ ص 424 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ الصّلَاةَ حِينَ اُفْتُرِضَتْ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ بِأَعْلَى مَكّةَ ، فَهَمَزَ لَهُ بِعَقِبِهِ فِي نَاحِيَةِ الْوَادِي ، فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ عَيْنٌ فَتَوَضّأَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ ، وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَنْظُرُ إلَيْهِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ الطّهُورُ لِلصّلَاةِ ثُمّ تَوَضّأَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَمَا رَأَى جِبْرِيلُ تَوَضّأَ ثُمّ قَامَ بِهِ جِبْرِيلُ فَصَلّى بِهِ وَصَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِصَلَاتِهِ ثُمّ انْصَرَفَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ فَجَاءَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَدِيجَةَ فَتَوَضّأَ لَهَا لِيُرِيَهَا كَيْفَ الطّهُورُ لِلصّلَاةِ كَمَا أَرَاهُ جِبْرِيلُ فَتَوَضّأَتْ كَمَا تَوَضّأَ لَهَا رَسُولُ اللّهِ عَلَيْهِ الصّلَاةُ وَالسّلَامُ ثُمّ صَلّى بِهَا رَسُولُ اللّهِ عَلَيْهِ الصّلَاةُ وَالسّلَامُ كَمَا صَلّى بِهِ جِبْرِيلُ فَصَلّتْ بِصَلَاتِهِ [ ص 425 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عُقْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ مَوْلَى بَنِي تَمِيمٍ ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ - وَكَانَ نَافِعٌ كَثِيرُ الرّوَايَةِ - عَنْ ابْنِ عَبّاسَ قَالَ لَمّا اُفْتُرِضَتْ الصّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ ، فَصَلّى بِهِ الظّهْرَ حِينَ مَالَتْ الشّمْسُ ثُمّ صَلّى بِهِ الْعَصْرَ حِينَ كَانَ ظِلّهُ مِثْلَهُ ثُمّ صَلّى بِهِ الْمَغْرِبَ حِينَ غَابَتْ الشّمْسُ ثُمّ صَلّى بِهِ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ حِينَ ذَهَبَ الشّفَقُ ثُمّ صَلّى بِهِ الصّبْحَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ ثُمّ جَاءَهُ فَصَلّى بِهِ الظّهْرَ مِنْ غَد حِينَ كَانَ ظِلّهُ مِثْلَهُ ثُمّ صَلّى بِهِ الْعَصْرَ حِينَ كَانَ ظِلّهُ مِثْلِيّهُ ثُمّ صَلّى بِهِ الْمَغْرِبَ حِينَ غَابَتْ الشّمْسُ لِوَقْتِهَا بِالْأَمْسِ ثُمّ صَلّى بِهِ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ حِينَ ذَهَبَ ثُلُثُ اللّيْلِ الْأَوّلُ ثُمّ صَلّى بِهِ الصّبْحَ مُسْفِرًا غَيْرَ مُشْرِقٍ ثُمّ قَالَ يَا مُحَمّدُ الصّلَاةُ فِيمَا بَيْنَ صَلَاتِك الْيَوْمَ ، وَصَلَاتُك بِالْأَمْسِ [ ص 426 ]
Sفَرْضُ الصّلَاةِ
[ ص 423 ] وَذَكَرَ حَدِيثَ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ فُرِضَتْ الصّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرّتْ صَلَاةُ السّفَرِ وَذَكَرَ الْمُزَنِيّ أَنّ الصّلَاةَ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ كَانَتْ صَلَاةً قَبْلَ غُرُوبِ الشّمْسِ وَصَلَاةً قَبْلَ طُلُوعِهَا ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ { وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ بِالْعَشِيّ وَالْإِبْكَارِ } [ غَافِر : 55 ] . وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَلّامٍ مِثْلَهُ وَقَالَ كَانَ الْإِسْرَاءُ وَفُرِضَ الصّلَوَاتُ الْخَمْسُ قَبْلَ الْهُجْرِ بِعَامِ فَعَلَى هَذَا يُحْتَمَلُ قَوْلُ عَائِشَةَ فَزِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ أَيْ زِيدَ فِيهَا حِينَ أُكْمِلَتْ خَمْسًا ، فَتَكُونُ الزّيَادَةُ فِي الرّكَعَاتِ وَفِي عَدَدِ الصّلَوَاتِ وَيَكُونُ قَوْلُهَا : فُرِضَتْ الصّلَاةُ رَكْعَتَيْن أَيْ قَبْلَ الْإِسْرَاءِ وَقَدْ قَالَ بِهَذَا طَائِفَةٌ مِنْ السّلَفِ مِنْهُمْ ابْنُ عَبّاسٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهَا : فُرِضَتْ الصّلَاةُ أَيْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ حِينَ فُرِضَتْ الْخَمْسُ فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ثُمّ زِيدَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ بَعْدَ ذَلِكَ وَهَذَا هُوَ الْمَرْوِيّ عَنْ [ ص 424 ] عَائِشَةَ وَمَنْ رَوَاهُ هَكَذَا الْحَسَنُ وَالشّعْبِيّ أَنّ الزّيَادَةَ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ كَانَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِعَامِ أَوْ نَحْوِهِ وَقَدْ ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيّ مِنْ رِوَايَةِ مُعْمَرٍ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ فُرِضَتْ الصّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ثُمّ هَاجَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْمَدِينَةِ ، فَفُرِضَتْ أَرْبَعًا هَكَذَا لَفْظُ حَدِيثِهِ وَهَاهُنَا سُؤَالٌ يُقَالُ هَلْ هَذِهِ الزّيَادَةُ فِي الصّلَاةِ نُسِخَ أَمْ لَا ؟ فَيُقَالُ أَمّا زِيَادَةُ رَكْعَتَيْنِ أَوْ رَكْعَةٍ إلَى مَا قَبْلَهَا مِنْ الرّكُوعِ حَتّى تَكُونَ صَلَاةً وَاحِدَةً فَنُسِخَ لِأَنّ النّسْخَ رَفْعُ الْحُكْمِ وَقَدْ ارْتَفَعَ حُكْمُ الْإِجْزَاءِ مِنْ الرّكْعَتَيْنِ وَصَارَ مَنْ سَلّمَ مِنْهُمَا عَامِدًا أَفْسَدَهُمَا ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمّ صَلَاتَهُ بَعْدَمَا سَلّمَ وَتَحَدّثَ عَامِدًا لَمْ يَجُزْهُ إلّا أَنْ يَسْتَأْنِفَ الصّلَاةَ مِنْ أَوّلِهَا ، فَقَدْ ارْتَفَعَ حُكْمُ الْإِجْزَاءِ بِالنّسْخِ وَأَمّا الزّيَادَةُ فِي عَدَدِ الصّلَوَاتِ حِينَ أُكْمِلَتْ خَمْسًا بَعْدَمَا كَانَتْ اثْنَتَيْنِ فَيُسَمّى نَسْخًا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَإِنّ الزّيَادَةَ عِنْدَهُ عَلَى النّصّ نَسْخٌ وَجُمْهُورُ الْمُتَكَلّمِينَ عَلَى أَنّهُ لَيْسَ بِنَسْخِ وَلِاحْتِجَاجِ الْفَرِيقَيْنِ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا .
الْوُضُوءُ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ نُزُولَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ بِأَعْلَى مَكّةَ حِينَ هَمَزَ لَهُ بِعَقِبِهِ فَأَنْبَعَ الْمَاءَ وَعَلّمَهُ الْوُضُوءَ وَهَذَا الْحَدِيثُ مَقْطُوعٌ فِي السّيرَةِ وَمِثْلُهُ لَا يَكُونُ أَصْلًا فِي الْأَحْكَامِ الشّرْعِيّةِ وَلَكِنّهُ قَدْ رُوِيَ مُسْنَدًا إلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ - يَرْفَعُهُ - غَيْرَ أَنّ هَذَا الْحَدِيثَ الْمُسْنَدَ يَدُورُ عَلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ لَهِيعَةَ وَقَدْ ضَعُفَ وَلَمْ يُخَرّجْ عَنْهُ مُسْلِمٌ وَلَا الْبُخَارِيّ ؛ لِأَنّهُ يُقَالُ إنّ كُتُبَهُ احْتَرَقَتْ فَكَانَ يُحَدّثُ مِنْ حِفْظِهِ وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ يُحْسِنُ فِيهِ الْقَوْلَ وَيُقَالُ إنّهُ [ ص 425 ] عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ ، فَيُقَالُ إنّ الثّقَةَ هَاهُنَا ابْنُ لَهِيعَةَ وَيُقَالُ إنّ ابْنَ وَهْبٍ حَدّثَ بِهِ عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ وَحَدِيثُ ابْنِ لَهِيعَةَ هَذَا ، أَخْبَرَنَا بِهِ أَبُو بَكْرٍ الْحَافِظُ مُحَمّدُ بْنُ الْعَرَبِيّ قَالَ نا أَبُو الْمُطّهِرِ سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي الرّجَاءِ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ الْحَافِظُ قَالَ نا أَبُو بَكْرٍ أَحَمْدُ بْنُ يُوسُفَ الْعَطّارُ قَالَ نا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ ، قَالَ نا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى عَنْ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ عُقَيْلِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ الزّهْرِيّ ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ حَدّثَنِي أَبِي زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي أَوّلِ مَا أُوحِيَ إلَيْهِ أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ ، فَعَلّمَهُ الْوُضُوءَ فَلَمّا فَرَغَ مِنْ الْوُضُوءِ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَنَضَحَ بِهَا فَرْجَهُ وَحَدّثَنَا بِهِ أَيْضًا أَبُو بَكْرٍ مُحَمّدُ بْنُ طَاهِرٍ ، عَنْ أَبِي عَلِيّ الْغَسّانِيّ عَنْ أَبِي عُمَرَ النّمَرِيّ عَنْ أَحَمْدَ بْنِ قَاسِمٍ عَنْ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ ، عَنْ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدّمِ فَالْوُضُوءُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مَكّيّ بِالْفَرْضِ مَدَنِيّ بِالتّلَاوَةِ لِأَنّ آيَةَ الْوُضُوءِ مَدَنِيّةٌ وَإِنّمَا قَالَتْ عَائِشَةُ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى آيَةَ التّيَمّمِ وَلَمْ تَقُلْ آيَةَ الْوُضُوءِ وَهِيَ هِيَ لِأَنّ الْوُضُوءَ قَدْ كَانَ مَفْرُوضًا قَبْلَ غَيْرَ أَنّهُ لَمْ يَكُنْ قُرْآنًا يُتْلَى ، حَتّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمَائِدَةِ .
إمَامَةُ جِبْرِيلَ
وَذَكَرَ حَدِيثَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ فِي إمَامَةِ جِبْرِيلَ لِلنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَتَعْلِيمِهِ إيّاهُ أَوْقَاتَ الصّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي الْيَوْمَيْنِ وَهَذَا الْحَدِيثُ لَمْ يَكُنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَذْكُرُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ [ ص 426 ] كَانَتْ فِي الْغَدِ مِنْ لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ وَذَلِكَ بَعْدَمَا نُبّئَ بِخَمْسَةِ أَعْوَامٍ وَقَدْ قِيلَ إنّ الْإِسْرَاءَ كَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِعَامِ وَنِصْفٍ وَقِيلَ بِعَامِ فَذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي بَدْءِ نُزُولِ الْوَحْيِ وَأَوّلِ أَحْوَالِ الصّلَاةِ .

ذَكَرَ أَنّ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
أَوّلُ ذَكَرٍ أَسْلَمَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ كَانَ أَوّلَ ذَكَرٍ مِنْ النّاسِ آمَنَ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَصَلّى مَعَهُ وَصَدّقَ بِمَا جَاءَهُ مِنْ اللّهِ تَعَالَى : عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ - رِضْوَانُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - وَهُوَ يَوْمئِذٍ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ . وَكَانَ مِمّا أَنْعَمَ اللّهُ عَلَى عَلِيّ بْن أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ فِي حِجْرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرِ بْنِ أَبِي الْحَجّاجِ قَالَ كَانَ مِنْ نِعْمَةِ اللّهِ عَلَى عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَمِمّا صَنَعَ اللّهُ لَهُ وَأَرَادَهُ بِهِ مِنْ الْخَيْرِ أَنّ قُرَيْشًا أَصَابَتْهُمْ أَزْمَةٌ شَدِيدَةٌ وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ ذَا عِيَالٍ كَثِيرٍ فَقَالَ رَسُولُ [ ص 427 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِلْعَبّاسِ عَمّهِ وَكَانَ مِنْ أَيْسَرِ بَنِي هَاشِمٍ : يَا عَبّاسُ إنّ أَخَاك أَبَا طَالِبٍ كَثِيرُ الْعِيَالِ وَقَدْ أَصَابَ النّاسُ مَا تَرَى مِنْ هَذِهِ الْأَزِمّةِ فَانْطَلِقْ بِنَا إلَيْهِ فَلْنُخَفّفْ عَنْهُ مِنْ عِيَالِهِ آخُذُ مِنْ بَنِيهِ رَجُلًا ، وَتَأْخُذُ أَنْتَ رَجُلًا ، فَنَكِلُهُمَا عَنْهُ فَقَالَ الْعَبّاسُ نَعَمْ فَانْطَلَقَا ، حَتّى أَتَيَا أَبَا طَالِبٍ فَقَالَا لَهُ إنّا نُرِيدُ أَنْ نُخَفّفَ عَنْك مِنْ عِيَالِك حَتّى يَنْكَشِفَ عَنْ النّاسِ مَا هُمْ فِيهِ فَقَالَ لَهُمَا أَبُو طَالِبٍ إذَا تَرَكْتُمَا لِي عَقِيلًا ، فَاصْنَعَا مَا شِئْتُمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ عَقِيلًا وَطَالِبًا . فَأَخَذَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلِيّا ، فَضَمّهُ إلَيْهِ وَأَخَذَ الْعَبّاسُ جَعْفَرًا فَضَمّهُ إلَيْهِ فَلَمْ يَزَلْ عَلِيّ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى بَعَثَهُ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَبِيّا ، فَاتّبَعَهُ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَآمَنَ بِهِ وَصَدّقَهُ وَلَمْ يَزَلْ جَعْفَرٌ عِنْدَ الْعَبّاسِ حَتّى أَسْلَمَ وَاسْتَغْنَى عَنْهُ .
أَبُو طَالِبٍ يَكْتَشِفُ إيمَانَ عَلِيّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ إذَا حَضَرَتْ الصّلَاةُ خَرَجَ إلَى شِعَابِ مَكّةَ ، وَخَرَجَ مَعَهُ عَلِيّ بْن أَبِي طَالِبٍ مُسْتَخْفِيًا مِنْ أَبِيهِ أَبِي طَالِبٍ وَمِنْ جَمِيعِ أَعْمَامِهِ وَسَائِرِ قَوْمِهِ فَيُصَلّيَانِ الصّلَوَاتِ فِيهَا ، فَإِذَا أَمْسَيَا رَجَعَا ، فَمَكَثَا كَذَلِكَ إلَى مَا شَاءَ اللّهُ أَنْ يَمْكُثَا . ثُمّ إنّ أَبَا طَالِبٍ عَثَرَ عَلَيْهِمَا يَوْمًا وَهُمَا يُصَلّيَانِ فَقَالَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا بْنَ أَخِي مَا هَذَا الدّينُ الّذِي أَرَاك تَدِينُ بِهِ ؟ قَالَ أَيْ عَمّ هَذَا دِينُ اللّهِ ، وَدِينُ مَلَائِكَتِهِ وَدِينُ رُسُلِهِ وَدِينُ أَبِينَا إبْرَاهِيمَ " - أَوْ كَمَا قَالَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - " بَعَثَنِي اللّهُ بِهِ رَسُولًا إلَى الْعِبَادِ وَأَنْتَ أَيْ عَمّ أَحَقّ مَنْ بَذَلْت لَهُ النّصِيحَةَ وَدَعَوْته إلَى الْهُدَى ، وَأَحَقّ مَنْ أَجَابَنِي إلَيْهِ وَأَعَانَنِي عَلَيْهِ أَوْ كَمَا قَالَ . فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ أَيْ ابْنَ أَخِي ، إنّي لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُفَارِقَ دِينَ آبَائِي ، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ وَلَكِنْ وَاَللّهِ لَا يَخْلُصُ إلَيْك بِشَيْءِ تَكْرَهُهُ مَا بَقِيت . وَذَكَرُوا أَنّهُ قَالَ لِعَلِيّ أَيْ بُنَيّ مَا هَذَا الدّينُ الّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ ؟ فَقَالَ يَا أَبَتْ آمَنْت بِاَللّهِ وَبِرَسُولِ اللّهِ وَصَدّقْته بِمَا جَاءَ بِهِ وَصَلّيْت مَعَهُ لِلّهِ وَاتّبَعْته . فَزَعَمُوا أَنّهُ قَالَ لَهُ أَمّا إنّهُ لَمْ يَدَعْك إلّا إلَى خَيْرٍ فَالْزَمْهُ .
Sأَوّلُ مَنْ آمَنَ
وَذَكَرَ أَنّ أَوّلَ ذَكَرٍ آمَنَ بِاَللّهِ عَلِيّ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - وَسَيَأْتِي قَوْلُ مَنْ قَالَ أَوّلُ مَنْ أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ وَلَكِنْ ذَلِكَ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - مِنْ الرّجَالِ لِأَنّ عَلِيّا كَانَ حِينَ أَسْلَمَ صَبِيّا لَمْ يُدْرِكْ وَلَا يَخْتَلِفُ أَنّ خَدِيجَةَ هِيَ أَوّلُ مَنْ آمَنَ بِاَللّهِ وَصَدّقَ رَسُولَهُ وَكَانَ عَلِيّ أَصْغَرَ مِنْ جَعْفَرٍ بِعَشْرِ سِنِينَ وَجَعْفَرٌ أَصْغَرُ مِنْ عَقِيلٍ بِعَشْرِ سِنِينَ وَعَقِيلٌ أَصْغَرُ مِنْ طَالِبٍ بِعَشْرِ سِنِينَ وَكُلّهُمْ أَسْلَمَ إلّا طَالِبًا اخْتَطَفَتْهُ الْجِنّ ، فَذَهَبَ وَلَمْ يُعْلَمْ بِإِسْلَامِهِ وَأُمّ عَلِيّ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدِ بْنِ هَاشِمٍ وَقَدْ أَسْلَمَتْ وَهِيَ إحْدَى الْفَوَاطِمِ الّتِي قَالَ فِيهِنّ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِعَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ اقْسِمْهُ بَيْنَ الْفَوَاطِمِ الثّلَاثِ يَعْنِي ثَوْبَ حَرِيرٍ قَالَ الْقُتَبِيّ . يَعْنِي : [ ص 427 ] فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدٍ ، وَلَا أَدْرِي مَنْ الثّالِثَةُ وَرَوَاهُ عَبْدُ الْغَنِيّ بْنُ سَعِيدٍ اقْسِمْهُ بَيْنَ الْفَوَاطِمِ الْأَرْبَعِ وَذَكَرَ فَاطِمَةَ بِنْتَ حَمْزَةَ مَعَ اللّتَيْنِ تَقَدّمَتَا ، وَقَالَ لَا أَدْرِي مَنْ الرّابِعَةُ قَالَهُ فِي كِتَابِ الْغَوَامِضِ وَالْمُبْهَمَاتِ .

إسْلَامُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ ثَانِيًا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 428 ] ثُمّ أَسْلَمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ شُرَحْبِيلَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ امْرِئِ الْقِيسِ الْكَلْبِيّ ، مَوْلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَ أَوّلَ ذَكَرٍ أَسْلَمَ ، وَصَلّى بَعْدَ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ شَرَاحِيلَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ امْرِئِ الْقِيسِ بْنِ النّعْمَانِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ عَوْفِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُذْرَةَ بْنِ زَيْدِ اللّاتِ بْنِ رُفَيْدَة بْنِ ثَوْرِ بْنِ كَلْبِ بْنِ وَبْرَةَ . وَكَانَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامِ بْنِ خُوَيْلِدِ قَدِمَ مِنْ الشّامِ بِرَقِيقِ فِيهِمْ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَصِيفٌ . فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ عَمّتُهُ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ، وَهِيَ يَوْمئِذٍ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَهَا : اخْتَارِي يَا عَمّةُ أَيّ هَؤُلَاءِ الْغِلْمَانِ شِئْت فَهُوَ لَك ، فَاخْتَارَتْ زَيْدًا فَأَخَذَتْهُ فَرَآهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِنْدَهَا ، فَاسْتَوْهَبَهُ مِنْهَا ، فَوَهَبَتْهُ لَهُ فَأَعْتَقَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَبَنّاهُ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إلَيْهِ . وَكَانَ أَبُوهُ حَارِثَةُ قَدْ جَزَعَ عَلَيْهِ جَزَعًا شَدِيدًا ، وَبَكَى عَلَيْهِ حِينَ فَقَدَهُ فَقَالَ [ ص 429 ]
بَكَيْت عَلَى زَيْدٍ وَلَمْ أَدْرِ مَا فَعَلَ ... أَحَيّ ، فَيُرْجَى أَمْ أَتَى دُونَهُ الْأَجَلْ
فَوَاَللّهِ مَا أَدْرِي ، وَإِنّي لَسَائِلٌ ... أَغَالَك بَعْدِي السّهْلُ أَمْ غَالَك الْجَبَلْ
وَيَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ لَك الدّهْرُ أَوْبَةٌ ... فَحَسْبِي مِنْ الدّنْيَا رُجُوعُك لِي بَجَلْ
تُذَكّرُنِيهِ الشّمْسُ عِنْدَ طُلُوعِهَا ... وَتَعْرِضُ ذِكْرَاه إذَا غَرْبهَا أَفَلْ
وَإِنْ هَبّتْ الْأَرْوَاحُ هَيّجْنَ ذِكْرَهُ ... فَيَا طُولُ مَا حُزْنِي عَلَيْهِ وَمَا وَجَلْ
سَأُعْمِلُ نَصّ الْعِيسِ فِي الْأَرْضِ جَاهِدًا ... وَلَا أَسْأَمُ التّطْوَافَ أَوْ تَسْأَمُ الْإِبِلْ
حَيَاتِي أَوْ تَأْتِي عَلَيّ مَنِيّتِي ... فَكُلّ امْرِئِ فَانٍ وَإِنْ غَرّهُ الْأَمَلْ
ثُمّ قَدِمَ عَلَيْهِ - وَهُوَ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إنْ شِئْت فَأَقِمْ عِنْدِي ، وَإِنْ شِئْت فَانْطَلِقْ مَعَ أَبِيك فَقَالَ بَلْ أُقِيمُ عِنْدَك فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حَتّى بَعَثَهُ اللّهُ فَصَدّقَهُ وَأَسْلَمَ ، وَصَلّى مَعَهُ فَلَمّا أَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } [ الْأَحْزَابُ : 5 ] قَالَ أَنَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ .
Sإسْلَامُ زَيْدٍ
فَصْلٌ
[ ص 428 ] وَذَكَرَ حَدِيثَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ ، وَقَالَ فِيهِ حَارِثَةُ بْنُ شُرَحْبِيلَ وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ شَرَاحِيلُ قَالَ أَصْحَابُ النّسَبِ كَمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ ، وَرُفِعَ نَسَبُهُ إلَى كَلْبِ بْنِ وَبْرَةَ وَوَبْرَةُ هُوَ ابْنُ ثَعْلَبِ بْنِ حُلْوَانَ بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ ، وَأُمّ زَيْدٍ سُعْدَى بِنْتُ ثَعْلَبَةَ [ بْنِ عَبْدِ عَامِرٍ ] مِنْ بَنِي مَعْنٍ مِنْ طَيّءٍ ، وَكَانَتْ قَدْ خَرَجَتْ بِزَيْدِ لِتُزِيرَهُ أَهْلَهَا ، فَأَصَابَتْهُ خَيْلٌ مِنْ بَنِي الْقَيْنِ بْنِ جِسْرٍ ، فَبَاعُوهُ بِسُوقِ حُبَاشَةَ وَهُوَ مِنْ أَسْوَاقِ الْعَرَبِ ، وَزَيْدٌ يَوْمُئِذٍ ابْنُ ثَمَانِيّةِ أَعْوَامٍ ثُمّ كَانَ مِنْ حَدِيثِهِ مَا ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ ، وَلَمّا بَلَغَ زَيْدًا قَوْلُ أَبِيهِ بَكَيْت عَلَى زَيْدٍ وَلَمْ أَدْرِ مَا فَعَلْ . الْأَبْيَاتَ . قَالَ بِحَيْثُ يَسْمَعُهُ الرّكْبَانُ
أَحِنّ إلَى أَهْلِي ، وَإِنْ كُنّ نَائِيًا ... بِأَنّي قَعِيدُ الْبَيْتِ عِنْدَ الْمَشَاعِرِ
فَكُفّوا مِنْ الْوَجْدِ الّذِي قَدْ شَجَاكُمْ ... وَلَا تُعْمِلُوا فِي الْأَرْضِ نَصّ الْأَبَاعِرِ
فَإِنّي بِحَمْدِ اللّهِ فِي خَيْرِ أُسْرَةٍ ... كِرَامِ مَعَدّ كَابِرًا بَعْدَ كَابِرِ
[ ص 429 ] أَبَاهُ قَوْلُهُ فَجَاءَ هُوَ وَعَمّهُ كَعْبٌ حَتّى وَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِمَكّةَ وَذَلِكَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَقَالَا لَهُ يَا بْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، يَا بْنَ سَيّدِ قَوْمِهِ أَنْتُمْ جِيرَانُ اللّهِ وَتَفُكّونَ الْعَانِيَ وَتُطْعِمُونَ الْجَائِعَ وَقَدْ جِئْنَاكُمْ فِي ابْنِنَا عَبْدِك ، لِتُحْسِنَ إلَيْنَا فِي فِدَائِهِ فَقَالَ " أَوَغَيْرُ ذَلِكَ " ؟ فَقَالَا : وَمَا هُوَ ؟ فَقَالَ اُدْعُوهُ وَأُخَيّرُهُ فَإِنْ اخْتَارَكُمَا فَذَاكَ وَإِنْ اخْتَارَنِي فَوَاَللّهِ مَا أَنَا بِاَلّذِي أَخْتَارُ عَلَى مَنْ اخْتَارَنِي أَحَدًا " ، فَقَالَا لَهُ قَدْ زِدْت عَلَى النّصْفِ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَلَمّا جَاءَ قَالَ " مِنْ هَذَانِ " ؟ فَقَالَ هَذَا أَبِي حَارِثَةُ بْنُ شَرَاحِيلَ وَهَذَا عَمّي : كَعْبُ بْنُ شَرَاحِيلَ ، فَقَالَ " قَدْ خَيّرْتُك إنْ شِئْت ذَهَبْت مَعَهُمَا ، وَإِنْ شِئْت أَقَمْت مَعِي " ، فَقَالَ بَلْ أُقِيمُ مَعَك ، فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ يَا زَيْدُ أَتَخْتَارُ الْعُبُودِيّةَ [ عَلَى الْحُرّيّةِ وَ ] عَلَى أَبِيك وَأُمّك وَبَلَدِك وَقَوْمِك ؟ فَقَالَ إنّي قَدْ رَأَيْت مِنْ هَذَا الرّجُلِ شَيْئًا ، وَمَا أَنَا بِاَلّذِي أُفَارِقُهُ أَبَدًا فَعِنْدَ ذَلِكَ أَخَذَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِيَدِهِ وَقَامَ بِهِ إلَى الْمَلَإِ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَقَالَ " اشْهَدُوا أَنّ هَذَا ابْنِي ، وَارِثًا وَمَوْرُوثًا فَطَابَتْ نَفْسُ أَبِيهِ عِنْدَ ذَلِكَ وَكَانَ يُدْعَى : زَيْدَ بْنِ مُحَمّدٍ حَتّى أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } [ الْأَحْزَابُ : 5 ] . وَفِي الشّعْرِ الّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ لِحَارِثَةَ بَعْدَ قَوْلِهِ
حَيَاتِي وَإِنْ تَأْتِي عَلَيّ مُنْيَتِي ... فَكُلّ امْرِئِ فَانٍ وَإِنْ غَرّهُ الْأَمَلْ
سَأُوصِي بِهِ قَيْسًا وَعَمْرًا كِلَيْهِمَا ... وَأُوصِي يَزِيدَ ثُمّ أُوصِي بِهِ جَبَلْ
يَعْنِي : يَزِيدَ بْنَ كَعْبِ [ بْنِ شَرَاحِيلَ ] وَهُوَ ابْنُ عَمّ زَيْدٍ وَأَخُوهُ [ لِأُمّهِ ] وَيَعْنِي بِجَبَلِ جَبَلَةَ بْنَ حَارِثَةَ أَخَا زَيْدٍ وَكَانَ أَسَنّ مِنْهُ . سُئِلَ جَبَلَةُ : مَنْ أَكْبَرُ أَنْتَ أَمْ زَيْدٌ ؟ فَقَالَ زَيْدًا أَكْبَرُ مِنّي ، وَأَنَا وُلِدْت قَبْلَهُ يُرِيدُ أَنّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ بِسَبْقِهِ لِلْإِسْلَامِ .

إسْلَامُ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
[ ص 430 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ أَسْلَمَ أَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ ، وَاسْمُهُ عَتِيقٌ وَاسْمُ أَبِي قُحَافَةَ عُثْمَانُ بْنُ عَامِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاسْمُ أَبِي بَكْرٍ عَبْدُ اللّهِ وَعَتِيقٌ لَقَبٌ لِحُسْنِ وَجْهِهِ وَعِتْقِهِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا أَسْلَمَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَظْهَرَ إسْلَامَهُ وَدَعَا إلَى اللّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ . وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا مُؤَلّفًا لِقَوْمِهِ مُحَبّبًا سَهْلًا ، وَكَانَ أَنْسَبَ قُرَيْشٍ لِقُرَيْشِ وَأَعْلَمَ قُرَيْشٍ بِهَا ، وَبِمَا كَانَ فِيهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرّ وَكَانَ رَجُلًا تَاجِرًا ، ذَا خُلُقٍ وَمَعْرُوفٍ وَكَانَ رِجَالُ قَوْمِهِ يَأْتُونَهُ وَيَأْلَفُونَهُ لِغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرِ لِعِلْمِهِ وَتِجَارَتِهِ وَحُسْنِ مُجَالَسَتِهِ فَجَعَلَ يَدْعُو إلَى اللّهِ وَإِلَى الْإِسْلَامِ مَنْ وَثِقَ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ مِمّنْ يَغْشَاهُ وَيَجْلِسُ إلَيْهِ [ ص 430 ]
Sإسْلَامُ أَبِي بَكْرٍ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ إسْلَامَ أَبِي بَكْرٍ وَنَسَبَهُ قَالَ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللّهِ وَسُمّيَ عَتِيقًا لِعَتَاقَةِ وَجْهِهِ وَالْعَتِيقُ : الْحَسَنُ كَأَنّهُ أُعْتِقَ مِنْ الذّمّ وَالْعَيْبِ - وَقِيلَ سُمّيَ عَتِيقًا ؛ لِأَنّ أُمّهُ كَانَتْ لَا يَعِيشُ لَهَا وَلَدٌ فَنَذَرَتْ إنْ وُلِدَ لَهَا وَلَدٌ أَنْ تُسَمّيَهُ عَبْدَ الْكَعْبَةِ ، وَتَتَصَدّقُ بِهِ عَلَيْهَا ، فَلَمّا عَاشَ وَشَبّ سُمّيَ عَتِيقًا ، كَأَنّهُ أُعْتِقَ مِنْ الْمَوْتِ وَكَانَ يُسْمَى أَيْضًا : عَبْدَ الْكَعْبَةِ إلَى أَنْ أَسْلَمَ ، فَسَمّاهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَبْدَ اللّهِ وَقِيلَ سُمّيَ عَتِيقًا ؛ لِأَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لَهُ حِينَ أَسْلَمَ : أَنْتَ عَتِيقٌ مِنْ النّارِ وَقِيلَ كَانَ لِأَبِيهِ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ مُعْتَقٌ وَمُعَيْتِقٌ وَعَتِيقٌ وَهُوَ أَبُو بَكْرٍ وَسُئِلَ ابْنُ مَعِينٍ عَنْ أُمّ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ أُمّ الْخَيْرِ عِنْدَ اسْمِهَا ، وَهِيَ أُمّ الْخَيْرِ بِنْتُ صَخْرِ بْنِ عَمْرِو بِنْتِ عَمّ أَبِي قُحَافَةَ وَاسْمُهَا : سَلْمَى ، وَتُكَنّى : أُمّ الْخَيْرِ وَهِيَ مِنْ الْمُبَايَعَاتِ وَأَمّا أَبُوهُ عُثْمَانُ أَبُو قُحَافَةَ فَأُمّهُ قَيْلَةُ - بِيَاءِ بِاثْنَتَيْنِ مَنْقُوطَةٍ مِنْ أَسْفَلَ - بِنْتُ أَذَاةَ بْنُ رِيَاحِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ قُرْطِ بْنِ رَزَاحِ بْنِ عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ . وَامْرَأَةُ أَبِي بَكْرٍ أُمّ ابْنِهِ [ ص 431 ] قَتْلَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْعُزّى بِتَاءِ مَنْقُوطَةٍ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ فَوْقٍ وَقِيلَ فِيهَا : بِنْتُ عَبْدِ أَسْعَدَ بْنِ نَصْرِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ وَهُوَ قَوْلُ الزّبَيْرِ وَذَكَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ فَمَا عَكَمَ عِنْدَ ذَلِكَ أَيْ مَا تَرَدّدَ وَكَانَ مِنْ أَسْبَابِ تَوْفِيقِ اللّهِ إيّاهُ - فِيمَا ذَكَرَ - رُؤْيَا رَآهَا قَبْلَ ذَلِكَ وَذَلِكَ أَنّهُ رَأَى الْقَمَرَ يَنْزِلُ إلَى مَكّةَ ، ثُمّ رَآهُ قَدْ تَفَرّقَ عَلَى جَمِيعِ مَنَازِلِ مَكّةَ وَبُيُوتِهَا ، فَدَخَلَ فِي كُلّ بَيْتٍ مِنْهُ شُعْبَةٌ ، ثُمّ كَأَنّهُ جُمِعَ فِي حِجْرِهِ فَقَصّهَا عَلَى بَعْضِ الْكِتَابِيّينَ فَعَبَرَهَا لَهُ بِأَنّ النّبِيّ الْمُنْتَظَرَ الّذِي قَدْ أَظَلّ زَمَانُهُ تَتْبَعُهُ وَتَكُونُ أَسْعَدَ النّاسِ بِهِ فَلَمّا دَعَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْإِسْلَامِ لَمْ يَتَوَقّفْ وَفِي مَدْحِ حَسّانَ الّذِي قَالَهُ فِيهِ وَسَمِعَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنّهُ أَوّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الرّجَالِ وَفِيهِ
خَيْرُ الْبَرّيّةِ أَتْقَاهَا ، وَأَفْضَلَهَا ... بَعْدَ النّبِيّ وَأَوْفَاهَا بِمَا حَمَلَا
وَالثّانِي التّالِي الْمَحْمُودُ مَشْهَدُهُ ... وَأَوّلُ النّاسِ قَدَمَا صَدّقَ الرّسُلَا

الّذِينَ أَسْلَمُوا بِدَعْوَةِ أَبِي بَكْرٍ
فَأَسْلَمَ [ ص 431 ] عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِب ِ ، وَالزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَسَعْدُ بْنِ أَبِي وَقَاصّ ، وَاسْمُ أَبِي وَقَاصّ مَالِكُ بْنُ أُهَيْب بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، فَجَاءَ بِهِمْ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ اسْتَجَابُوا لَهُ فَأَسْلَمُوا وَصَلّوْا ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَقُولُ فِيمَا بَلَغَنِي : مَا دَعَوْت أَحَدًا إلَى الْإِسْلَامِ إلّا كَانَتْ فِيهِ عِنْدَهُ كَبْوَةٌ وَنَظَرٌ وَتَرَدّدٌ إلّا مَا كَانَ مِنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ مَا عَكَمَ عَنْهُ حِينَ ذَكَرْته لَهُ وَمَا تَرَدّدَ فِيهِ [ ص 432 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْلُهُ " بِدُعَائِهِ " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْلُهُ عَكَمَ تَلَبّثَ . قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ : وَانْظَاع وَثّابٌ بِهَا وَمَا عَكَمَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَكَانَ هَؤُلَاءِ النّفَرُ الثّمَانِيّةُ الّذِينَ سَبَقُوا النّاسَ بِالْإِسْلَامِ فَصَلّوْا وَصَدّقُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَا جَاءَهُ مِنْ اللّهِ . ثُمّ أَسْلَمَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَاسْمُهُ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْجَرّاحِ بْنِ هِلَالِ بْنِ أُهَيْب بْنِ ضَبّةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ . وَأَبُو سَلَمَةَ وَاسْمُهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرِ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَالْأَرْقَمُ بْنُ أَبِي الْأَرْقَمِ . وَاسْمُ أَبِي الْأَرْقَمِ عَبْدُ مَنَافِ بْنِ أَسَدٍ - وَكَانَ أَسَدٌ يُكَنّى : أَبَا جُنْدُبِ - بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْص بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَأَخَوَاهُ قُدَامَة وَعَبْدُ اللّهِ ابْنَا مَظْعُونِ بْنِ حَبِيبٍ . وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْل بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ قُرْطِ بْنِ رِيَاحِ بْنِ رَزَاحِ بْنِ عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، وَامْرَأَتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْخَطّابِ بْنِ نُفَيْل بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ قُرْطِ بْنِ رِيَاحِ بْنِ رَزَاحِ بْنِ عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، أُخْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ . وَأَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ . وَعَائِشَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ ، وَهِيَ يَوْمئِذٍ صَغِيرَةٌ . وَخَبّابُ بْنُ الْأَرَتّ ، حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : خَبّابُ بْنُ الْأَرَتّ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ ، وَيُقَالُ هُوَ مِنْ خُزَاعَةَ [ ص 433 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَعُمَيْرُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ ، أَخُو سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ . وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ شَمْخِ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ صَاهِلَةَ بْنِ كَاهِلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ تَمِيمِ بْنِ سَعْدِ بْنِ هُذَيْلٍ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ وَمَسْعُودُ بْنُ الْقَارّيّ وَهُوَ مَسْعُودُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ حَمَالَةَ بْنِ غَالِبِ بْنِ مُحَلّمِ بْنِ عَائِذَةَ بْنِ سُبَيْعِ بْنِ الْهَوْنِ بْنِ خُزَيْمَةَ مِنْ الْقَارّةِ [ ص 434 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَالْقَارَةُ : لَقَبٌ وَلَهُمْ يُقَالُ قَدْ أَنْصَفَ الْقَارَةَ مَنْ رَامَاهَا
وَكَانُوا قَوْمًا رُمَاةً . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَسَلِيطُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ . وَعَيّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ الْمُغِيرَة بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرِ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَامْرَأَتُهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ سَلّامَةَ بْنِ مُخَرّبَةَ التّمِيمِيّةُ . وَخُنَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْص بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ عَنْزِ بْنِ وَائِلِ ، حَلِيفُ آلِ الْخَطّابِ بْنِ نُفَيْل بْنِ عَبْدِ الْعُزّى . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : عَنْزُ بْنُ وَائِلٍ أَخُو بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ ، مِنْ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابِ بْنِ يَعْمَرِ بْنِ صَبِرَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَبِيرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ دُودَانَ بْنِ أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ . وَأَخُوهُ أَبُو أَحَمْدَ بْنُ جَحْشٍ ، حَلِيفَا بَنِي أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ . وَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَامْرَأَتُهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسِ بْنِ النّعْمَانِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ قُحَافَةَ ، مِنْ خَثْعَمٍ ، وَحَاطِبُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مَعْمَرِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْص بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، وَامْرَأَتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُجَلّلِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ أَبِي قَيْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ . وَأَخُوهُ خَطّابُ بْنُ الْحَارِثِ ، وَامْرَأَتُهُ فُكَيْهَةُ بِنْتُ يَسَارٍ . وَمَعْمَرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مَعْمَرِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْص بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَالسّائِبُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ . وَالْمُطّلِبُ بْنُ أَزْهَرَ بْنِ عَبْدِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، وَامْرَأَتُهُ رَمْلَةُ بِنْتُ أَبِي عَوْفِ بْنِ صُبَيْرَةَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْص بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَالنّحّامُ ، وَاسْمُهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَسِيدٍ أَخُو بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ [ ص 435 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هُوَ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَسِيدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُوَيْجِ بْنِ عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، وَإِنّمَا سُمّيَ النّحّامَ ، لِأَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لَقَدْ سَمِعْت نَحْمَةً فِي الْجَنّةِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : نَحْمُهُ صَوْتُهُ وَحِسّهُ [ ص 436 ]
Sإسْلَامُ أَبِي عُبَيْدَةَ وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ
وَذَكَرَ إسْلَامَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرّاحِ وَاسْمَهُ وَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ فَقِيلَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَامِرٍ [ ص 432 ] وَقِيلَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ . وَأُمّهُ أُمَيْمَةُ بِنْتُ غَنْمِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ عَامِرَةَ بْنِ وَدِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ ، قَالَهُ الزّبَيْرُ . وَذَكَرَ إسْلَامَ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا مَضَى ، وَذَكَرْنَا أُمّهُ فَاطِمَةَ بِنْتَ بَعْجَةَ بْنِ خَلَفٍ الْخُزَاعِيّةَ وَمَا وَقَعَ فِي نَسَبِهِ مِنْ التّقْدِيمِ وَالتّأْخِيرِ وَمِنْ الْفَتْحِ فِي رَزَاحِ بْنِ عَدِيّ وَالْكَسْرِ وَأَنّ رَزَاحَ بْنَ رَبِيعَةَ هُوَ الّذِي لَمْ يُخْتَلَفْ فِي كَسْرِ الرّاءِ مِنْهُ وَيُكَنّى سَعِيدًا : أَبَا الْأَعْوَرِ تُوُفّيَ بِأَرْضِهِ بِالْعَقِيقِ وَدُفِنَ بِالْمَدِينَةِ فِي أَيّامِ مُعَاوِيَةَ سَنَةَ خَمْسِينَ أَوْ إحْدَى [ ص 433 ] وَعَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ ، وَأَبُو الطّفَيْلِ عَامِرُ بْنُ وَاثِلَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ التّابِعِينَ وَلَمْ يَرْوِ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلّا حَدِيثَيْنِ . أَحَدُهُمَا : مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ طُوّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ وَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الّذِينَ شَهِدَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِالْجَنّةِ وَأَحَدُ الّذِينَ رَجَفَ بِهِمْ الْجَبَلُ فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اُثْبُتْ حِرَاءُ ؛ فَإِنّمَا عَلَيْك نَبِيّ أَوْ صِدّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ . وَيُرْوَى : " اُثْبُتْ أُحُدُ " ، وَأَنّ الْقِصّةَ كَانَتْ فِي جَبَلِ أُحُدٍ ، وَيُرْوَى أَنّهَا كَانَتْ فِي جَبَلِ ثَبِيرٍ ذَكَرَهُ التّرْمِذِيّ ، وَأَنّهُمْ كَانُوا أَرْبَعَةً مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُمْ الْخُلَفَاءُ الْأَرْبَعَةُ وَلَعَلّ هَذَا أَنْ يَكُونَ مِرَارًا ، فَتَصِحّ الْأَحَادِيثُ كُلّهَا ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
إسْلَامُ سَعْدٍ وَابْنُ عَوْفٍ وَالنّحّامِ
وَذَكَرَ فِيمَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقّاصٍ ، وَاسْمُ أَبِي وَقّاصٍ مَالِكُ بْنُ أُهَيْب ، وَأُهَيْبٌ هُوَ عَمّ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ أُمّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَالْوَقّاصُ فِي اللّغَةِ هُوَ وَاحِدُ الْوَقَاقِيصِ وَهِيَ شِبَاكٌ يَصْطَادُ بِهَا الطّيْرُ وَهُوَ أَيْضًا فَعَالٍ مِنْ وُقِصَ إذَا انْكَسَرَ عُنُقُهُ وَأُمّ سَعْدٍ حَمْنَةُ بِنْتُ سُفْيَانَ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ، يُكَنّى : أَبَا إسْحَاقَ وَهُوَ أَحَدُ الْعَشَرَةِ دَعَا لَهُ النّبِيّ - صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنْ يُسَدّدَ اللّهُ سَهْمَهُ وَأَنْ يُجِيبَ دَعْوَتَهُ فَكَانَ دُعَاؤُهُ أَسْرَعَ الدّعَاءِ إجَابَةً . وَفِي الْحَدِيثِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ احْذَرُوا دَعْوَةَ سَعْدٍ مَاتَ فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ . [ ص 434 ] وَذَكَرَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ ، وَهُوَ أَيْضًا أَحَدُ الْعَشَرَةِ يُكَنّى : أَبَا مُحَمّدٍ أُمّهُ الشّفَاءُ بِنْتُ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ بْنِ الْحَارِثِ وَهِيَ بِنْتُ عَمّ عَوْفٍ وَالِدِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، فَأَبُوهَا : عَوْفٌ عَمّ عَوْفٍ وَأَخُو عَبْدِ عَوْفٍ . [ ص 435 ] وَذَكَرَ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ النّحّامُ ، وَقَوْلُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - سَمِعْت نِحْمَةً فِي الْجَنّةِ وَلَمْ يُفَسّرْ النّحْمَ مَا هُوَ وَهِيَ سُعْلَةٌ مُسْتَطِيلَةٌ وَيُقَال لِلْبَخِيلِ نَحّامٌ لِأَنّهُ يَسْعَلُ إذَا سُئِلَ يَتَشَاغَلُ بِذَلِكَ وَأَنْشَدَ الزّبَيْرُ
مَا لَك لَا تَنْحِمُ يَا رَواحَهْ ... إنّ النّحِيمَ لِلسّقَاةِ رَاحَهْ
قَالَ وَيُقَالُ لِلنّحْمَةِ نَحْطَةٌ وَقَالَ غَيْرُهُ النّحْطَةُ فِي الصّدْرِ وَالنّحْمَةُ فِي الْحَلْقِ وَالنّحّامُ أَيْضًا طَائِرٌ أَحْمَرُ فِي عَظْمِ الْإِوَزّ .
عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَمَسْعُودٌ الْقَارِيّ
وَذَكَرَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ شَمْخِ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ صَاهِلَةَ بْنِ كَاهِلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ تَمِيمِ بْنِ سَعْدِ بْنِ هُذَيْلٍ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ ، وَقَالَ فِي نَسَبِهِ كَاهِلٌ وَقَيّدَهُ الْوَقَشِيّ بِفَتْحِ الْهَاءِ مِنْ كَاهِلٍ كَأَنّهُ سُمّيَ بِالْفِعْلِ مِنْ كَاهَلَ يُكَاهِلُ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ السّلَامُ لِرَجُلِ اسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ - وَاسْمُهُ جَاهِمَةُ - فَقَالَ هَلْ فِي أَهْلِك مِنْ كَاهِلٍ أَيْ مِنْ قَوِيّ عَلَى التّصَرّفِ وَالِاكْتِهَالُ الْقُوّةُ . وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : كَاهَلَ أَيْ أَسَنّ وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيّ : إنّمَا لَفْظُ الْحَدِيثِ هَلْ فِي أَهْلِك مِنْ كَاهِنٍ وَغَيّرَهُ الرّاوِي لَهُ فَقَالَ مِنْ كَاهِلٍ قَالَ وَكَاهِنُ الرّجَالِ هُوَ الّذِي يَخْلُفُ الرّجُلَ فِي أَهْلِهِ يَقُومُ بِأَمْرِهِمْ بَعْدُ يُقَالُ مِنْهُ كَهُنَ يَكْهُنُ كَهَانَةً . وَذَكَرَ فِي نَسَبِهِ أَيْضًا شَمْخًا وَهُوَ مَنْ شَمَخَ بِأَنْفِهِ إذَا رَفَعَهُ عِزّةً . وَأُمّ عَبْدِ اللّهِ هِيَ أُمّ عَبْدِ بِنْتِ سَوْدِ بْنِ قَدِيمِ بْنِ صَاهِلَةَ هُذَلَيّة . وَذَكَرَ مَسْعُودًا الْقَارِيّ وَهُوَ مَسْعُودُ بْنُ رَبِيعَةَ وَرَفَعَ نَسَبَهُ إلَى الْهُونِ بْنِ خُزَيْمَةَ ، وَهُمْ الْقَارَةُ وَفِيهِمْ جَرَى الْمَثَلُ الْمَثَلُ قَدْ أَنْصَفَ الْقَارَةَ مَنْ رَامَاهَا . قَالَ الرّاجِزُ
قَدْ عَلِمَتْ سَلْمَى ، وَمَنْ وَالَاهَا ... أَنّا نَرُدّ الْخَيْلَ عَنْ هَوَاهَا
نَرُدّهَا دَامِيَةً كُلَاهَا ... قَدْ أَنْصَفَ الْقَارَةَ مَنْ رَامَاهَا
إنّا إذَا مَا فِئَةٌ نَلْقَاهَا ... نَرُدّ أُولَاهَا عَلَى أُخْرَاهَا
وَسُمّيَ بَنُو الْهُونِ بْنِ خُزَيْمَةَ قَارَةً لِقَوْلِ الشّاعِرِ مِنْهُمْ فِي بَعْضِ الْحُرُوبِ
دَعُونَا قَارَةً لَا تُذْعِرُونَا ... فَنُجْفِلُ مِثْلَ إجْفَالِ الظّلِيمِ
[ ص 436 ] عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَنْسَابِ وَأَنْشَدَهُ قَاسِمٌ فِي الدّلَائِلِ
دَعُونَا قَارَةً لَا تُذْعِرُونَا ... فَتَنْبَتِكَ الْقَرَابَةُ وَالذّمَامُ
وَكَانُوا رُمَاةَ الْحَدَقِ فَمَنْ رَامَاهُمْ فَقَدْ أَنْصَفَهُمْ وَالْقَارَةُ : أَرْضٌ كَثِيرَةُ الْحِجَارَةِ وَجَمْعُهَا قُورٌ فَكَأَنّ مَعْنَى الْمَثَلِ عِنْدَهُمْ أَنّ الْقَارَةَ لَا تَنْفَدُ حِجَارَتُهَا إذَا رُمِيَ بِهَا ، فَمَنْ رَامَاهَا فَقَدْ أَنْصَفَ .
وَهُمْ فِي نَسَبِ أَبِي حُذَيْفَةَ
وَذَكَرَ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاسْمُهُ مُهَشّمٌ وَهُوَ وَهْمٌ عِنْدَ أَهْلِ النّسَبِ فَإِنّ مُهَشّمًا إنّمَا هُوَ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ الْمُغِيرَةِ أَخُو هَاشِمٍ وَهِشَامٌ ابْنَيْ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ ، وَأَمّا أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ فَاسْمُهُ قَيْسٌ فِيمَا ذَكَرُوا .
عُمَيْسٌ
وَذَكَرَ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ امْرَأَةَ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، وَعُمَيْس أَبُوهَا هُوَ ابْنُ مَعَدّ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ تَيْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ قُحَافَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ نَسْرِ بْنِ وَهْبِ بْنِ شَهْرَانِ بْنِ عِقْرِسِ بْنِ حُلْفِ بْنِ أَفْتَلَ وَهُوَ جَمَاعَةُ خَثْعَمِ بْنِ أَنْمَارٍ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي أَنْمَارِ هَذَا ، وَقَدْ تَقَدّمَ . وَأُمّهَا : هِنْدُ بِنْتُ عَوْفِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ الْحَارِثِ مِنْ كِنَانَةَ وَهِيَ أُخْت مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ الْهِلَالِيّةِ زَوْجِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أُمّهُمَا وَاحِدَةٌ وَأُخْتُ لُبَابَةَ أُمّ الْفَضْلِ امْرَأَةُ الْعَبّاسِ وَكُنّ تِسْعَ أَخَوَاتٍ فِيهِنّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الْأَخَوَاتُ مُؤْمِنَات وَكَانَتْ قَبْلَ جَعْفَرٍ عِنْدَ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، فَوَلَدَتْ لَهُ أَمَةَ اللّهِ ثُمّ كَانَتْ عِنْدَ شَدّادِ بْنِ الْهَادِ ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ اللّهِ وَعَبْدَ الرّحْمَنِ وَقَدْ قِيلَ بَلْ الّتِي كَانَتْ عِنْدَ حَمْزَةَ ثُمّ عِنْدَ شَدّادٍ هِيَ أُخْتُهَا : سَلْمَى ، لَا أَسْمَاءَ وَتَزَوّجَهَا بَعْدَ حَمْزَةَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ ، فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ ، وَتَزَوّجَهَا بَعْدَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، فَوَلَدَتْ لَهُ يَحْيَى . قَالَ الْكَلْبِيّ : وَلَدَتْ لَهُ مَعَ يَحْيَى عَوْنَ بْنَ عَلِيّ وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَنّهَا وَلَدَتْ لِجَعْفَرِ ابْنًا اسْمُهُ عَوْنٌ وَوَلَدَتْ لَهُ أَيْضًا عَبْدَ اللّهِ بْنَ جَعْفَرٍ ، وَكَانَ جَوَادَ الْعَرَبِ فِي الْإِسْلَامِ وَبَنَاتُ عُمَيْسٍ أَسْمَاءُ وَسَلَامَةَ وَسَلْمَى ، وَهُنّ أَخَوَاتُ مَيْمُونَةَ وَسَائِرُ أَخَوَاتِهَا لِأُمّ .
تَصْوِيبٌ فِي نَسَبِ بَنِي عَدِيّ
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي السّابِقِينَ إلَى الْإِسْلَامِ مِنْ بَنِي سَهْمٍ : [ ص 437 ] قَيْسِ بْنِالْحَارِثُ بْنُ عَدِيّ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَهْمٍ وَحَيْثُمَا تَكَرّرَ نَسَبُ بَنِي عَدِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمِ يَقُولُ فِيهِ ابْنُ إسْحَاقَ : سُعَيْد ، وَالنّاسُ عَلَى خِلَافِهِ وَإِنّمَا هُوَ سَعْدٌ وَسَيَأْتِي فِي شِعْرِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ قَيْسِ شَاهِدٌ عَلَى ذَلِكَ وَإِنّمَا سُعَيْد بْنُ سَهْمٍ أَخُو سَعْدٍ وَهُوَ جَدّ آلِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ سُعَيْد بْنِ سَهْمٍ وَفِي سَهْمٍ سَعِيدٌ آخَرَ وَهُوَ ابْنُ سَعْدٍ الْمَذْكُورُ وَهُوَ جَدّ الْمُطّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ ، وَاسْمُ أَبِي وَدَاعَةَ عَوْفُ بْنُ صُبَيْرَةَ ابْنُ سُعَيْد بْنُ سَعْدٍ وَقَدْ قِيلَ فِي صُبَيْرَةَ ضُبَيْرَةَ بِالضّادِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ الّذِي كَانَ شَابّا جَمِيلًا يَلْبَسُ حُلّةً وَيَقُولُ لِلنّاسِ هَلْ تَرَوْنَ بِي بَأْسًا إعْجَابًا بِنَفْسِهِ فَأَصَابَتْهُ الْمَنِيّةُ بَغْتَةً فَقَالَ الشّاعِرُ فِيهِ
مَنْ يَأْمَنُ الْحَدَثَانِ بَعْدَ صُبَ ... يْرَةَ الْقُرَشِيّ مَاتَا
سَبَقَتْ مُنْيَتُهُ الْمَشِي ... بَ وَكَانَ مَنِيّتُهُ افْتِلَاتَا
عَنْزٌ
وَذَكَرَ عَامِرَ بْنَ رَبِيعَةَ ، وَقَالَ هُوَ مِنْ عَنْزِ بْنِ وَائِلٍ . عَنْزٌ بِسُكُونِ النّونِ وَيَذْكُرُ عَنْ عَلِيّ بْنِ الْمَدِينِيّ أَنّهُ قَالَ فِيهِ عَنَزٌ بِفَتْحِ النّونِ وَالسّكُونُ أَعْرَفُ . ذَكَرَ أَهْلُ النّسَبِ أَنّ وَائِلًا [ بْنَ قَاسِطٍ ] كَانَ إذَا وُلِدَ لَهُ وَلَدٌ خَرَجَ مِنْ خِبَائِهِ فَمَا وَقَعَتْ عَيْنُهُ عَلَيْهِ سَمّاهُ بِهِ فَلَمّا وُلِدَ لَهُ بَكْرٌ وَقَعَتْ عَيْنُهُ عَلَى بَكْرٍ مِنْ الْإِبِلِ فَسَمّاهُ بِهِ فَلَمّا وُلِدَ لَهُ تَغْلِبُ رَأَى نَفْسَيْنِ يَتَغَالَبَانِ فَسَمّاهُ تَغْلِبَ ، فَلَمّا وُلِدَ لَهُ عَنْزٌ ، رَأَى عَنْزًا - وَهِيَ الْأُنْثَى مِنْ الْمَعْزِ - فَسَمّاهُ عَنْزًا ، فَلَمّا وُلِدَ لَهُ الشّخَيْصِ خَرَجَ فَرَأَى شَخْصًا عَلَى بُعْدٍ صَغِيرًا ، فَسَمّاهُ الشّخَيْصَ بِهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعِ هُمْ قَبَائِلُ وَائِلٍ وَهُمْ مُعْظَمُ رَبِيعَةَ ، وَهُوَ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ الْعَنْزِيّ الْعَدَوِيّ حَلِيفٌ لَهُمْ وَيُقَالُ هُوَ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ رُفَيْدَة بْنِ عَنْزِ بْنِ وَائِلِ بْنِ قَاسِطٍ ، وَقِيلَ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ حُجَيْرِ بْنِ سَلَامَانِ بْنِ هِنْبِ بْنِ أَفْضَى بْنِ دُعْمِيّ بْنِ جَدِيلَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدّ بْنِ عَدْنَانَ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 437 ] وَعَامِرُ بْنُ فَهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ [ ص 438 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مُوَلّدٌ مِنْ مُوَلّدِي الْأَسْدِ أَسْوَدَ اشْتَرَاهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ مِنْهُمْ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، وَامْرَأَتُهُ أَمِينَةُ بِنْتُ خَلَفِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ عَامِرِ بْنِ بَيَاضَةَ بْنِ سُبَيْعِ بْنِ جِعْثِمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُلَيْحِ بْنِ عَمْرٍو ، مِنْ خُزَاعَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ هُمَيْنَةُ بِنْتُ خَلَفٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَاطِبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ . وَأَبُو حُذَيْفَةَ وَاسْمُهُ مِهْشَمٍ - فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ - بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَرِينِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ يَرْبُوعِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ ، حَلِيفُ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : جَاءَتْ بِهِ بَاهِلَةُ ، فَبَاعُوهُ مِنْ الْخَطّابِ بْنِ نُفَيْل ، فَتَبَنّاهُ فَلَمّا أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } [ الْأَحْزَابُ : 5 ] قَالَ أَنَا وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ ، فِيمَا قَالَ أَبُو عَمْرٍو الْمَدَنِيّ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَخَالِدٌ وَعَامِرٌ وَعَاقِلٌ وَإِيَاسٌ بَنُو الْبُكَيْرِ بْنِ عَبْدِ يَالَيلَ بْنِ نَاشِبِ بْنِ غِيرَةَ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ حُلَفَاءُ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ . وَعَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ ، حَلِيفُ بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ عَنْسِيّ مِنْ مَذْحِجٍ [ ص 439 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَصُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ ، أَحَدُ النّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ ، حَلِيفُ بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرّةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : النّمِرُ بْنُ قَاسِطِ بْنِ هِنْبِ بْنِ أَفْصَى بْنِ جَدِيلَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ ، وَيُقَالُ أَفَصَى بْنُ دُعْمِيّ بْنِ جَدِيلَةَ بْنِ أَسَدٍ ، وَيُقَالُ صُهَيْبٌ مَوْلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ جُدْعَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمٍ [ ص 440 ] وَيُقَالُ إنّهُ رُومِيّ . فَقَالَ بَعْضُ مَنْ ذَكَرَ أَنّهُ مِنْ النّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ : إنّمَا كَانَ أَسِيرًا فِي أَرْضِ الرّومِ ، فَاشْتُرِيَ مِنْهُمْ وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صُهَيْبٌ سَابِقُ الرّومِSإسْلَامُ عَامِرِ بْنِ فَهَيْرَةَ
وَذَكَرَ عَامِرَ ابْنَ فَهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ وَفُهَيْرَةَ أُمّهُ هِيَ تَصْغِيرُ فِهْرٍ ، لِأَنّ الْفِهْرَ مُؤَنّثَةٌ وَكَانَ عَبْدًا أَسْوَدَ لِلطّفَيْلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ صَخْرَةَ اشْتَرَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَعْتَقَهُ وَأَسْلَمَ قَبْل دُخُولِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - دَارَ الْأَرْقَمِ ، وَسَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ نُبَذٌ مِنْ أَخْبَارِهِ مِنْهَا : أَنّهُ قَتَلَهُ عَامِرُ بْنُ الطّفَيْلِ [ ص 438 ] بِئْرِ مَعُونَةَ ، فَلَمّا طَعَنَهُ خَرَجَ مِنْ الطّعْنَةِ نُورٌ وَكَانَ عَامِرٌ يَقُولُ مَنْ رَجُلٌ لَمّا طَعَنْته رُفِعَ حَتّى حَالَتْ السّمَاءُ دُونَهُ هَذِهِ رِوَايَةُ الْبَكّائِيّ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ عَامِرًا سَأَلَ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ قَدِمَ عَلَيْهِ وَقَالَ يَا مُحَمّدُ مَنْ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِك لَمَا طَعَنْته رُفِعَ إلَى السّمَاءِ ؟ فَقَالَ " هُوَ عَامِرُ ابْنُ فُهَيْرَةَ " ، وَرَوَى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنّ عَامِرًا اُلْتُمِسَ فِي الْقَتْلَى يَوْمئِذٍ فَلَمْ يُوجَدْ فَكَانُوا يَرَوْنَ أَنّ الْمَلَائِكَةَ رَفَعَتْهُ أَوْ دَفَنَتْهُ ذَكَرَهُ ابْنُ الْمُبَارَكِ . [ ص 439 ]
اصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَمَا الْمَصْدَرِيّةُ وَاَلّذِي
فَصْلٌ
وَذَكَرَ قَوْلَ اللّهِ سُبْحَانَهُ { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } [ الْحِجْرُ : 94 ] . وَالْمَعْنَى : اصْدَعْ بِاَلّذِي تُؤْمَرُ بِهِ وَلَكِنّهُ لَمّا عَدّى الْفِعْلَ إلَى الْهَاءِ حَسُنَ حَذْفُهَا ، وَكَانَ الْحَذْفُ هَاهُنَا أَحْسَنَ مِنْ ذِكْرِهَا ؛ لِأَنّ مَا فِيهَا مِنْ الْإِبْهَامِ أَكْثَرُ مِمّا تَقْتَضِيهِ الّذِي ، وَقَوْلُهُمْ مَا مَعَ الْفِعْلِ بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ رَاجِعٌ إلَى مَعْنَى الّذِي إذَا تَأَمّلْته ، وَذَلِكَ أَنّ الّذِي تَصْلُحُ فِي كُلّ مَوْضِعٍ تَصْلُحُ فِيهِ مَا الّتِي يُسَمّونَهَا الْمَصْدَرِيّةَ نَحْوُ قَوْلِ الشّاعِرِ
عَسَى الْأَيّامُ أَنْ يَرْجِعْ ... نْ يَوْمًا كَاَلّذِي كَانُوا
أَيْ كَمَا كَانُوا ، فَقَوْلُ اللّهِ عَزّ وَجَلّ إذًا : { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } إمّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ بِاَلّذِي تُؤْمَرُ بِهِ مِنْ التّبْلِيغِ وَنَحْوِهِ وَإِمّا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ اصْدَعْ بِالْأَمْرِ الّذِي تُؤْمَرُهُ كَمَا تَقُولُ عَجِبْت مِنْ الضّرْبِ الّذِي تَضْرِبُهُ فَتَكُونُ مَا هَاهُنَا عِبَارَةٌ عَنْ الْأَمْرِ الّذِي هُوَ أَمْرُ اللّهِ تَعَالَى ، وَلَا يَكُونُ لِلْبَاءِ فِيهِ دُخُولٌ وَلَا تَقْدِيرٌ وَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوّلِ تَكُونُ مَا مَعَ صِلَتِهَا عِبَارَةٌ عَمّا هُوَ فِعْلٌ لِلنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَالْأَظْهُرُ أَنّهَا مَعَ صِلَتِهَا عِبَارَةٌ عَنْ الْأَمْرِ الّذِي هُوَ قَوْلُ اللّهِ وَوَحْيُهُ بِدَلِيلِ حَذْفِ الْهَاءِ الرّاجِعَةِ إلَى : مَا ، وَإِنْ كَانَتْ بِمَعْنَى الّذِي فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ، إلّا أَنّك إذَا أَرَدْت مَعْنَى الْأَمْرِ لَمْ تَحْذِفْ إلّا الْهَاءُ وَحْدَهَا ، وَإِذَا أَرَدْت مَعْنَى الْمَأْمُورِ بِهِ حُذِفَتْ بَاءٌ وَهَاءٌ فَحَذْفُ وَاحِدٍ أَيْسَرُ مِنْ حَذْفَيْنِ مَعَ أَنّ صَدْعَهُ وَبَيَانَهُ إذَا عَلّقْته بِأَمْرِ اللّهِ وَوَحْيِهِ كَانَ حَقِيقَةً وَإِذَا عَلّقْته بِالْفِعْلِ الّذِي أَمَرَ بِهِ كَانَ مَجَازًا ، وَإِذَا صَرّحْت بِلَفْظِ الّذِي ، لَمْ يَكُنْ حَذْفُهَا بِذَلِكَ الْحَسَنِ وَتَأَمّلْهُ فِي الْقُرْآنِ تَجِدْهُ كَذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } [ الْبَقَرَةُ 33 ] { وَيَعْلَمُ مَا تُسِرّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } [ التّغَابُنُ 4 ] . و { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ } [ ص : 75 ] . و { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } [ الْكَافِرُونَ ] . وَلَمْ يَقُلْ خَلَقْته ، وَحَذَفَ الْهَاءَ فِي ذَلِكَ كُلّهِ وَقَالَ فِي الّذِي : { الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } [ الْبَقَرَةُ 121 ] و { الّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنّاسِ سَوَاءً } [ الْحَجّ : 25 ] وَمَا أَشَبَهُ ذَلِكَ وَإِنّمَا كَانَ الْحَذْفُ مَعَ مَا أَحْسَنَ لِمَا قَدّمْنَاهُ مِنْ [ ص 440 ] تَرَى أَنّ مَا إذَا كَانَتْ شَرْطًا تَقُولُ فِيهَا : مَا تَصْنَعْ أَصْنَعَ مِثْلَهُ وَلَا تَقُولُ مَا تَصْنَعُهُ لِأَنّ الْفِعْلَ قَدْ عَمِلَ فِيهَا ، فَلَمّا ضَارَعَتْهَا هَذِهِ الّتِي هِيَ مَوْصُولَةٌ وَهِيَ بِمَعْنَى الّذِي أُجْرِيَتْ فِي حَذْفِ الْهَاءِ مَجْرَاهَا فِي أَكْثَرِ الْكَلَامِ وَهَذِهِ تَفْرِقَةٌ فِي عَوْدِ الضّمِيرِ عَلَى مَا ، وَعَلَى " الّذِي " يَشْهَدُ لَهَا التّنْزِيلُ وَالْقِيَاسُ الّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْإِبْهَامِ وَمَعَ هَذَا لَمْ نَرَ أَحَدًا نَبّهَ عَلَى هَذِهِ التّفْرِقَةِ وَلَا أَشَارَ إلَيْهَا ، وَقَارِئُ الْقُرْآنِ مُحْتَاجٌ إلَى هَذِهِ التّفْرِقَةِ . وَقَدْ يَحْسُنُ حَذْفُ الضّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى الّذِي ؛ لِأَنّهُ أَوْجَزُ وَلَكِنّهُ لَيْسَ كَحَسَنِهِ مَعَ مَنْ وَمَا ، فَفِي التّنْزِيلِ { وَالنّورِ الّذِي أَنْزَلْنَا } [ التّغَابُنُ 8 ] فَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ مُتَعَدّيًا إلَى اثْنَيْنِ كَانَ إبْرَازُ الضّمِيرِ أَحْسَنَ مِنْ حَذْفِهِ لِئَلّا يُتَوَهّمُ أَنّ الْفِعْلَ وَاقِعٌ إلَى الْمَفْعُولِ الْوَاحِدِ وَأَنّهُ مُقْتَصَرٌ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنّاسِ سَوَاءً } [ الْحَجّ : 25 ] { الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } [ الْبَقَرَةُ 121 ] وَشَرَحَ ابْنُ هِشَامٍ مَعْنَى قَوْلِهِ اصْدَعْ شَرْحًا صَحِيحًا ، وَتَتِمّتُهُ أَنّهُ صَدْعٌ عَلَى جِهَةِ الْبَيَانِ وَتَشْبِيهٌ لِظُلْمَةِ الشّكّ وَالْجَهْلِ بِظُلْمَةِ اللّيْلِ . وَالْقُرْآنُ نُورٌ فَصَدَعَ بِهِ تِلْكَ الظّلْمَةَ وَمِنْهُ سُمّيَ الْفَجْرُ صَدِيعًا ، لِأَنّهُ يَصْدَعُ ظُلْمَةَ اللّيْلِ وَقَالَ الشّمّاخُ
تَرَى السّرْحَانَ مُفْتَرِشًا يَدَيْهِ ... كَأَنّ بَيَاضَ لَبّتِهِ صَدِيعُ
عَلَى هَذَا تَأَوّلَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْمَعَانِي ، وَقَالَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ الصّدِيعُ فِي هَذَا الْبَيْتِ ثَوْبٌ أَسْوَدُ تَلْبَسُهُ النّوّاحَةُ تَحْتَهُ ثَوْبٌ أَبْيَضُ وَتَصْدَعُ الْأَسْوَدَ عِنْدَ صَدْرِهَا فَيَبْدُو الْأَبْيَضُ وَأَنْشَدَ
كَأَنّهُنّ إذْ وَرَدْنَ لِيعَا ... نَوّاحَةٌ مُجْتَابَةٌ صَدِيعًا
.

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
مُبَادَأَةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَوْمَهُ
[ ص 3 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ دَخَلَ النّاسُ فِي الْإِسْلَامِ أَرْسَالًا مِنْ الرّجَالِ وَالنّسَاءِ حَتّى فَشَا ذِكْرُ الْإِسْلَامِ بِمَكّةَ وَتُحُدّثَ بِهِ . ثُمّ إنّ اللّهَ - عَزّ وَجَلّ - أَمَرَ رَسُولَهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنْ يَصْدَعَ بِمَا جَاءَهُ مِنْهُ وَأَنْ يُبَادِيَ النّاسَ بِأَمْرِهِ وَأَنْ يَدْعُوَ إلَيْهِ وَكَانَ بَيْنَ مَا أَخْفَى رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَمْرَهُ وَاسْتَتَرَ بِهِ إلَى أَنْ أَمَرَهُ اللّهُ تَعَالَى بِإِظْهَارِ دِينِهِ ثَلَاثُ سِنِينَ - فِيمَا بَلَغَنِي - مِنْ مَبْعَثِهِ ثُمّ قَالَ اللّهُ تَعَالَى لَهُ { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } [ الْحِجْرِ : 94 ] . وَقَالَ تَعَالَى : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } { وَقُلْ إِنّي أَنَا النّذِيرُ الْمُبِينُ } [ الحجر : 89 ] . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَاصْدَعْ اُفْرُقْ بَيْنَ الْحَقّ وَالْبَاطِلِ . قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيّ ، وَاسْمُهُ خُوَيْلِدُ بْنُ خَالِدٍ يَصِفُ أُتُنَ وَحْشٍ وَفَحْلَهَا :
وَكَأَنّهُنّ رِبَابَةٌ وَكَأَنّهُ ... يَسَرٌ يَفِيضُ عَلَى الْقِدَاحِ وَيَصْدَعُ
[ ص 4 ] قَصِيدَةٍ لَهُ . وَقَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ :
أَنْتَ الْحَلِيمُ وَالْأَمِيرُ الْمُنْتَقِمْ ... تَصْدَعُ بِالْحَقّ وَتَنْفِي مَنْ ظَلَمْ
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ .
صَلَاةُ الرّسُولِ وَأَصْحَابِهِ فِي الشّعَابِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا صَلّوْا ، ذَهَبُوا فِي الشّعَابِ فَاسْتَخْفَوْا بِصَلَاتِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ فَبَيْنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي شِعْبٍ مِنْ شِعَابِ مَكّةَ ، إذْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ نَفَرٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ - وَهُمْ يُصَلّونَ - فَنَاكَرُوهُمْ وَعَابُوا عَلَيْهِمْ مَا يَصْنَعُونَ حَتّى قَاتَلُوهُمْ فَضَرَبَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ يَوْمَئِذٍ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِلَحْيِ بَعِيرٍ فَشَجّهُ فَكَانَ أَوّلَ دَمٍ هُرِيقَ فِي الْإِسْلَامِ .
عَدَاوَةُ الشّرْكِ لِلرّسُولِ وَمُسَاوَمَتُهُ لِعَمّهِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا بَادَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ قَوْمَهُ بِالْإِسْلَامِ وَصَدَعَ بِهِ كَمَا أَمَرَهُ اللّهُ لَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ قَوْمُهُ وَلَمْ يَرُدّوا عَلَيْهِ - فِيمَا بَلَغَنِي - حَتّى ذَكَرَ آلِهَتَهُمْ وَعَابَهَا ، فَلَمّا فَعَلَ ذَلِك أَعْظَمُوهُ وَنَاكَرُوهُ وَأَجْمَعُوا خِلَافَهُ وَعَدَاوَتَهُ إلّا مَنْ عَصَمَ اللّهُ تَعَالَى مِنْهُمْ بِالْإِسْلَامِ وَهُمْ قَلِيلٌ مُسْتَخْفُونَ وَحَدِبَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَمّهُ أَبُو طَالِبٍ ، وَمَنَعَهُ وَقَامَ دُونَهُ وَمَضَى رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَلَى أَمْرِ اللّهِ مُظْهِرًا لِأَمْرِهِ لَا يَرُدّهُ [ ص 5 ]
Sمُبَادَأَةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَوْمَهُ
أَصْلُ الصّلَاةِ لُغَةً
[ ص 3 ] أَبَا طَالِبٍ حَدِبَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَقَامَ دُونَهُ أَصْلُ الْحَدَبِ انْحِنَاءٌ فِي الظّهْرِ ثُمّ اُسْتُعِيرَ فِيمَنْ عَطَفَ عَلَى غَيْرِهِ وَرَقّ لَهُ كَمَا قَالَ النّابِغَةُ
حَدِبَتْ عَلَيّ بُطُونُ ضَبّةَ كُلّهَا ... إنْ ظَالِمًا فِيهِمْ وَإِنْ مَظْلُومَا
[ ص 4 ] قَالُوا : صَلّى عَلَيْهِ أَيْ انْحَنَى عَلَيْهِ ثُمّ سَمّوْا الرّحْمَةَ حُنُوّا وَصَلَاةً إذَا أَرَادُوا الْمُبَالَغَةَ فِيهَا ، فَقَوْلُك : صَلّى اللّهُ عَلَى مُحَمّدٍ هُوَ أَرَقّ وَأَبْلَغُ مِنْ قَوْلِك : رَحِمَ اللّهُ مُحَمّدًا فِي الْحُنُوّ وَالْعَطْفِ . وَالصّلَاةُ أَصْلُهَا فِي الْمَحْسُوسَاتِ عُبّرَ بِهَا عَنْ هَذَا الْمَعْنَى مُبَالَغَةً وَتَأْكِيدًا كَمَا قَالَ الشّاعِرُ
فَمَا زِلْت فِي لِينِي [ لَهُ ] وَتَعَطّفِي ... عَلَيْهِ كَمَا تَحْنُو عَلَى الْوَلَدِ الْأُمّ
وَمِنْهُ قِيلَ صَلّيْت عَلَى الْمَيّتِ أَيْ دَعَوْت لَهُ دُعَاءَ مَنْ يَحْنُو عَلَيْهِ وَيَتَعَطّفُ عَلَيْهِ . وَلِذَلِكَ لَا تَكُونُ الصّلَاةُ بِمَعْنَى الدّعَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لَا تَقُولُ صَلّيْت عَلَى الْعَدُوّ أَيْ دَعَوْت عَلَيْهِ . إنّمَا يُقَالُ . صَلّيْت عَلَيْهِ فِي مَعْنَى الْحُنُوّ وَالرّحْمَةِ وَالْعَطْفِ لِأَنّهَا فِي الْأَصْلِ [ ص 5 ] أَجْلِ ذَلِكَ عُدّيَتْ فِي اللّفْظِ بِعَلَى ، فَتَقُولُ صَلّيْت عَلَيْهِ أَيْ حَنَوْت عَلَيْهِ وَلَا تَقُولُ فِي الدّعَاءِ إلّا : دَعَوْت لَهُ فَتُعَدّي الْفِعْلَ بِاللّامِ إلّا أَنْ تُرِيدَ الشّرّ وَالدّعَاءَ عَلَى الْعَدُوّ فَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ الصّلَاةِ وَالدّعَاءِ وَأَهْلُ اللّغَةِ لَمْ يُفَرّقُوا ، وَلَكِنْ قَالُوا : الصّلَاةُ بِمَعْنَى الدّعَاءِ إطْلَاقًا ، وَلَمْ يُفَرّقُوا بَيْنَ حَالٍ وَحَالٍ وَلَا ذَكَرُوا التّعَدّيَ بِاللّامِ وَلَا بِعَلَى ، وَلَا بُدّ مِنْ تَقْيِيدِ الْعِبَارَةِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَقَدْ يَكُونُ الْحَدَبُ أَيْضًا مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى الْمُخَالَفَةِ إذَا قُرِنَ بِالْقَعْسِ كَقَوْلِ الشّاعِرِ
وَإِنْ حَدِبُوا ، فَاقْعَسْ وَإِنْ هُمْ تَقَاعَسُوا ... لِيَنْتَزِعُوا مَا خَلْفَ ظَهْرِك فَاحْدَبْ
وَكَقَوْلِ الْآخَرِ
وَلَنْ يُنَهْنِهَ قَوْمًا أَنْتَ خَائِفُهُمْ ... كَمِثْلِ وَقْمِك جُهّالًا بِجُهّالِ
فَاقْعَسْ إذَا حَدِبُوا ، وَاحْدَبْ إذَا قَعِسُوا ... وَوَازِنِ الشّرّ مِثْقَالًا بِمِثْقَالِ
أَنْشَدَهُ الْجَاحِظُ فِي كِتَابِ الْحَيَوَانِ لَهُ .

فَلَمّا رَأَتْ قُرَيْشٌ ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يَعْتِبُهُمْ مِنْ شَيْءٍ أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ مِنْ فِرَاقِهِمْ وَعَيْبِ آلِهَتِهِمْ وَرَأَوْا أَنّ عَمّهُ أَبَا طَالِبٍ قَدْ حَدِبَ عَلَيْهِ وَقَامَ دُونَهُ فَلَمْ يُسْلِمْهُ لَهُمْ مَشَى رِجَالٌ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ إلَى أَبِي طَالِبٍ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ . وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاسْمُ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرٌ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَبُو الْبَخْتَرِيّ ، وَاسْمُهُ الْعَاصُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . [ ص 6 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَبُو الْبَخْتَرِيّ الْعَاصُ بْنُ هَاشِمٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَالْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَأَبُو جَهْلٍ - وَاسْمُهُ عَمْرٌو ، وَكَانَ يُكَنّى أَبَا الْحَكَمِ - ابْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، وَنَبِيهٌ وَمُنَبّهٌ ابْنَا الْحَجّاجِ بْنِ عَامِرِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْعَاصُ بْنُ وَائِلِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : أَوْ مَنْ مَشَى مِنْهُمْ . فَقَالُوا : يَا أَبَا طَالِبٍ إنّ ابْنَ أَخِيك قَدْ سَبّ آلِهَتَنَا ، وَعَابَ دِينَنَا ، وَسَفّهَ أَحْلَامَنَا ، وَضَلّلَ آبَاءَنَا ، فَإِمّا أَنْ تَكُفّهُ عَنّا ، وَإِمّا أَنْ تُخَلّيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فَإِنّك عَلَى مِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِهِ فَنَكْفِيكَهُ فَقَالَ لَهُمْ أَبُو طَالِبٍ قَوْلًا رَفِيقًا ، وَرَدّهُمْ رَدّا جَمِيلًا ، فَانْصَرَفُوا عَنْهُ . وَمَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ يُظْهِرُ دِينَ اللّهِ وَيَدْعُو إلَيْهِ ثُمّ شَرِيَ الْأَمْرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ حَتّى تَبَاعَدَ الرّجَالُ وَتَضَاغَنُوا ، وَأَكْثَرَتْ قُرَيْشٌ ذِكْرَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بَيْنَهَا ، فَتَذَامَرُوا فِيهِ وَحَضّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَيْهِ ثُمّ إنّهُمْ مَشَوْا إلَى أَبِي طَالِبٍ مَرّةً أُخْرَى ، فَقَالُوا لَهُ يَا أَبَا طَالِبٍ إنّ لَك سِنّا وَشَرَفًا وَمَنْزِلَةً فِينَا ، وَإِنّا قَدْ اسْتَنْهَيْنَاكَ مِنْ ابْنِ أَخِيك فَلَمْ تَنْهَهُ عَنّا ، وَإِنّا وَاَللّهِ لَا نَصْبِرُ عَلَى هَذَا مِنْ شَتْمِ آبَائِنَا ، وَتَسْفِيهِ أَحْلَامِنَا ، وَعَيْبِ آلِهَتِنَا ، حَتّى تَكُفّهُ عَنّا ، أَوْ نُنَازِلَهُ وَإِيّاكَ فِي ذَلِكَ حَتّى يَهْلَكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ أَوْ كَمَا قَالُوا لَهُ . ثُمّ انْصَرَفُوا عَنْهُ فَعَظُمَ عَلَى أَبِي طَالِبٍ فِرَاقُ قَوْمِهِ وَعَدَاوَتُهُمْ وَلَمْ يَطِبْ نَفْسًا بِإِسْلَامِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَهُمْ وَلَا خِذْلَانِهِ .Sأَبُو الْبَخْتَرِيّ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ مَجِيءَ النّفَرِ مِنْ قُرَيْشٍ إلَى أَبِي طَالِبٍ فِي أَمْرِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَذَكَرَ أَنْسَابَهُمْ [ ص 6 ] وَذَكَرَ فِيهِمْ أَبَا الْبَخْتَرِيّ بْنَ هِشَامٍ قَالَ وَاسْمُهُ الْعَاصِي بْنُ هِشَامٍ وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هُوَ الْعَاصِي بْنُ هَاشِمٍ وَاَلّذِي قَالَهُ ابْنُ إسْحَاقَ هُوَ قَوْلُ ابْنِ الْكَلْبِيّ وَاَلّذِي قَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ هُوَ قَوْل الزّبَيْرِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَقَوْلُ مُصْعَبٍ وَهَكَذَا وَجَدْت فِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ سُفْيَانَ بْنَ الْعَاصِي .

مُنَاصَرَةُ أَبِي طَالِبٍ لِلرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
[ ص 7 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ أَنّهُ حُدّثَ أَنّ قُرَيْشًا حِينَ قَالُوا لِأَبِي طَالِبٍ هَذِهِ الْمَقَالَةَ بَعَثَ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ لَهُ يَا ابْنَ أَخِي ، إنّ قَوْمَك قَدْ جَاءُونِي ، فَقَالُوا لِي كَذَا وَكَذَا ، لِلّذِي كَانُوا قَالُوا لَهُ فَأَبْقِ عَلَيّ وَعَلَى نَفْسِك ، وَلَا تُحَمّلْنِي مِنْ الْأَمْرِ مَا لَا أُطِيقُ فَظَنّ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنّهُ قَدْ بَدَا لِعَمّهِ فِيهِ أَنّهُ خَاذِلُهُ وَمُسْلِمُهُ وَأَنّهُ قَدْ ضَعُفَ عَنْ نُصْرَتِهِ وَالْقِيَامِ مَعَهُ . قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَا عَمّ وَاَللّهِ لَوْ وَضَعُوا الشّمْسَ فِي يَمِينِي ، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتّى يُظْهِرَهُ اللّهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ مَا تَرَكْته [ ص 8 ] قَالَ ثُمّ اسْتَعْبَرَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَبَكَى ثُمّ قَامَ فَلَمّا وَلّى نَادَاهُ أَبُو طَالِبٍ فَقَالَ أَقْبِلْ يَا ابْنَ أَخِي ، قَالَ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ اذْهَبْ يَا ابْنَ أَخِي ، فَقُلْ مَا أَحْبَبْت ، فَوَاَللّهِ لَا أُسْلِمْك لِشَيْءِ أَبَدًا .
Sلَوْ وَضَعُوا الشّمْسَ فِي يَمِينِي
فَصْلٌ
[ ص 7 ] وَذَكَرَ قَوْلَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَاَللّهِ لَوْ وَضَعُوا الشّمْسَ فِي يَمِينِي ، وَالْقَمَرَ فِي شِمَالِي عَلَى أَنْ أَدَعَ هَذَا الّذِي جِئْت بِهِ مَا تَرَكْته أَوْ كَمَا قَالَ . خَصّ الشّمْسَ بِالْيَمِينِ لِأَنّهَا الْآيَةُ الْمُبْصِرَةُ وَخَصّ الْقَمَرَ بِالشّمَالِ لِأَنّهَا الْآيَةُ الْمَمْحُوّةُ وَقَدْ قَالَ عُمَرُ - رَحِمَهُ اللّهُ - لِرَجُلِ قَالَ لَهُ إنّي رَأَيْت فِي الْمَنَامِ كَأَنّ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ يَقْتَتِلَانِ وَمَعَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نُجُومٌ فَقَالَ عُمَرُ مَعَ أَيّهِمَا كُنْت ؟ فَقَالَ مَعَ الْقَمَرِ قَالَ كُنْت مَعَ الْآيَةِ الْمَمْحُوّةِ اذْهَبْ فَلَا تَعْمَلْ لِي عَمَلًا ، وَكَانَ عَامِلًا لَهُ فَعَزَلَهُ فَقُتِلَ الرّجُلُ فِي صِفّينَ مَعَ مُعَاوِيَةَ وَاسْمُهُ حَابِسُ بْنُ سَعْدٍ ، وَخَصّ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - النّيّرَيْنِ حِينَ ضَرَبَ الْمَثَلَ بِهِمَا ؛ لِأَنّ نُورَهُمَا مَحْسُوسٌ وَالنّورُ الّذِي جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللّهِ - وَهُوَ الّذِي أَرَادُوهُ عَلَى تَرْكِهِ - هُوَ لَا مَحَالَةَ أَشْرَفُ مِنْ النّورِ الْمَخْلُوقِ قَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ { يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلّا أَنْ يُتِمّ نُورَهُ } [ التّوْبَةِ 33 ] . فَاقْتَضَتْ بَلَاغَةُ النّبُوّةِ - لِمَا أَرَادُوهُ عَلَى تَرْكِ النّورِ الْأَعْلَى - أَنْ يُقَابِلَهُ بِالنّورِ الْأَدْنَى ، وَأَنْ يَخُصّ أَعْلَى النّيّرَيْنِ وَهِيَ الْآيَةُ الْمُبْصِرَةُ بِأَشْرَفِ الْيَدَيْنِ وَهِيَ الْيُمْنَى بَلَاغَةٌ لَا مِثْلُهَا ، وَحِكْمَةٌ لَا يَجْهَلُ اللّبِيبُ فَضْلَهَا .
الْبَدَاءُ
وَقَوْلُ ابْنِ إسْحَاقَ : ظَنّ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنْ قَدْ بَدَا لِعَمّهِ بَدَاءٌ أَيْ ظَهَرَ لَهُ رَأْيٌ [ ص 8 ] بَدَاءً لِأَنّهُ شَيْءٌ يَبْدُو بَعْدَ مَا خَفِيَ وَالْمَصْدَرُ الْبَدْءُ وَالْبَدْوُ وَالِاسْمُ الْبَدَاءُ وَلَا يُقَالُ فِي الْمَصْدَرِ بَدَا لَهُ بُدُوّ ، كَمَا لَا يُقَالُ ظَهَرَ لَهُ ظُهُورٌ بِالرّفْعِ لِأَنّ الّذِي يَظْهَرُ وَيَبْدُو هَاهُنَا هُوَ الِاسْمُ نَحْوَ الْبَدَاءِ وَأَنْشَدَ أَبُو عَلِيّ لَعَلّك وَالْمَوْعُودُ حَق ّ وَفَاؤُهُ بَدَا لَك فِي تِلْكَ الْقُلُوصِ بَدَاءُ
وَمِنْ أَجْلِ أَنّ الْبُدُوّ هُوَ الظّهُورُ كَانَ الْبَدَاءُ فِي وَصْفِ الْبَارِي - سُبْحَانَهُ - مُحَالًا ؛ لِأَنّهُ لَا يَبْدُو لَهُ شَيْءٌ كَانَ غَائِبًا عَنْهُ وَالنّسْخُ لِلْحُكْمِ لَيْسَ بِبَدَاءِ كَمَا تَوَهّمَتْ الْجَهَلَةُ مِنْ الرّافِضَةِ وَالْيَهُودِ ، إنّمَا هُوَ تَبْدِيلُ حُكْمٍ بِحُكْمِ بِقَدَرِ قَدّرَهُ وَعِلْمٍ عَلِمَهُ وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ بَدَا لَهُ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَرَادَ . وَهَذَا مِنْ الْمَجَازِ الّذِي لَا سَبِيلَ إلَى إطْلَاقِهِ إلّا بِإِذْنِ مِنْ صَاحِبِ الشّرْعِ وَقَدْ صَحّ فِي ذَلِكَ مَا خَرّجَهُ الْبُخَارِيّ فِي حَدِيثِ الثّلَاثَةِ الْأَعْمَى وَالْأَقْرَعِ وَالْأَبْرَصِ وَأَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ قَالَ بَدَا لِلّهِ أَنْ يَبْتِلَهُمْ فَبَدَا هُنَا بِمَعْنَى : أَرَادَ وَذَكَرْنَا الرّافِضَةَ ، لِأَنّ ابْنَ أَعْيَنَ وَمَنْ اتّبَعَهُ مِنْهُمْ يُجِيزُونَ الْبَدَاءَ عَلَى اللّهِ تَعَالَى ، وَيَجْعَلُونَهُ وَالنّسْخَ شَيْئًا وَاحِدًا ، وَالْيَهُودُ لَا تُجِيزُ النّسْخَ يَحْسَبُونَهُ بَدَاءً وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَ الْبَدَاءَ كَالرّافِضَةِ وَيُرْوَى أَنّ عَلِيّا - رَحِمَهُ اللّهُ - صَلّى يَوْمًا ، ثُمّ ضَحِكَ فَسُئِلَ عَنْ ضَحِكِهِ فَقَالَ تَذَكّرْت أَبَا طَالِبٍ حِينَ فُرِضَتْ الصّلَاةُ وَرَآنِي أُصَلّي مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِنَخْلَةَ فَقَالَ " مَا هَذَا الْفِعْلُ الّذِي أَرَى " ؟ فَلَمّا أَخْبَرْنَاهُ قَالَ " ذَا حَسَنٌ وَلَكِنْ لَا أَفْعَلُهُ أَبَدًا ، لَا أُحِبّ أَنْ تَعْلُوَنِي اسْتِي " فَتَذَكّرْت الْآنَ قَوْلَهُ فَضَحِكْت .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ قُرَيْشًا حِينَ عَرَفُوا أَنّ أَبَا طَالِبٍ قَدْ أَبَى خِذْلَانَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَإِسْلَامَهُ وَإِجْمَاعَهُ لِفِرَاقِهِمْ فِي ذَلِكَ وَعَدَاوَتِهِمْ مَشَوْا إلَيْهِ [ ص 9 ] بِعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، قَالُوا لَهُ - فِيمَا بَلَغَنِي - يَا أَبَا طَالِبٍ هَذَا عُمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ أَنْهَدُ فَتًى فِي قُرَيْشٍ وَأَجْمَلُهُ فَخُذْهُ فَلَك عَقْلُهُ وَنَصْرُهُ وَاِتّخِذْهُ وَلَدًا فَهُوَ لَك ، وَأَسْلِمْ إلَيْنَا ابْنَ أَخِيك هَذَا ، الّذِي قَدْ خَالَفَ دِينَك وَدِينَ آبَائِك ، وَفَرّقَ جَمَاعَةَ قَوْمِك ، وَسَفّهَ أَحْلَامَهُمْ فَنَقْتُلُهُ فَإِنّمَا هُوَ رَجُلٌ بِرَجُلِ فَقَالَ وَاَللّهِ لَبِئْسَ مَا تَسُومُونَنِي أَتُعْطُونَنِي ابْنَكُمْ أَغْذُوهُ لَكُمْ وَأُعْطِيكُمْ ابْنِي تَقْتُلُونَهُ هَذَا وَاَللّهِ مَا لَا يَكُونُ أَبَدًا . قَالَ فَقَالَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ : وَاَللّهِ يَا أَبَا طَالِبٍ لَقَدْ أَنْصَفَك قَوْمُك ، وَجَهَدُوا عَلَى التّخَلّصِ مِمّا تَكْرَهُهُ فَمَا أَرَاك تُرِيدُ أَنْ تَقْبَلَ مِنْهُمْ شَيْئًا ، فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ لِلْمُطْعِمِ وَاَللّهِ مَا أَنْصَفُونِي ، وَلَكِنّك قَدْ أَجْمَعْت خِذْلَانِي وَمُظَاهَرَةَ الْقَوْمِ عَلَيّ فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَك أَوْ كَمَا قَالَ . قَالَ فَحَقِبَ الْأَمْرُ وَحَمِيَتْ الْحَرْبُ وَتَنَابَذَ الْقَوْمُ وَبَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا . فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ عِنْدَ ذَلِكَ - يُعَرّضُ بِالْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيّ - وَيَعُمّ مَنْ خَذَلَهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَمَنْ عَادَاهُ مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ ، وَيَذْكُرُ مَا سَأَلُوهُ وَمَا تَبَاعَدَ مِنْ أَمْرِهِمْ [ ص 10 ] [ ص 11 ]
أَلَا قُلْ لِعَمْرِو وَالْوَلِيدِ وَمُطْعِمٍ ... أَلَا لَيْتَ حَظّي مِنْ حِيَاطَتِكُمْ بَكْرُ
مِنْ الْخُورِ حَبْحَابٌ كَثِيرٌ رُغَاؤُهُ ... يُرَشّ عَلَى السّاقَيْنِ مِنْ بَوْلِهِ قَطْرُ
تَخَلّفَ خَلْفَ الْوِرْدِ لَيْسَ بِلَاحِقِ ... إذَا مَا عَلَا الْفَيْفَاءَ قِيلَ لَهُ وَبْرُ
أَرَى أَخَوَيْنَا مِنْ أَبِينَا وَأُمّنَا ... إذَا سُئِلَا قَالَا : إلَى غَيْرِنَا الْأَمْرُ
بَلَى لَهُمَا أَمْرٌ وَلَكِنْ تَجَرْجُمَا ... كَمَا جَرْجَمَتْ مِنْ رَأْسِ ذِي عَلَقَ صَخْرُ
أَخُصّ خُصُوصًا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا ... هُمَا نَبَذَانَا مِثْلَ مَا يُنْبَذُ الْجَمْرُ
هُمَا أَغْمَزَا لِلْقَوْمِ فِي أَخَوَيْهِمَا ... فَقَدْ أَصْبَحَا مِنْهُمْ أَكُفّهُمَا صِفْرُ
وَتَيْمٌ وَمَخْزُومٌ وَزُهْرَةُ مِنْهُمْ ... وَكَانُوا لَنَا مَوْلًى إذَا بُغِيَ النّصْرُ
فَوَاَللّهِ لَا تَنْفَكّ مِنّا عَدَاوَةٌ ... لَا مِنْهُمْ مَا كَانَ مِنْ نَسْلِنَا شَفْرُ
فَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلَامُهُمْ وَعُقُولُهُمْ ... وَكَانُوا كَجَفْرِ بِئْسَ مَا صَنَعَتْ جَفْرُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : تَرَكْنَا مِنْهَا بَيْتَيْنِ أَقْذَعَ فِيهِمَا .
Sعَرْضُ قُرَيْشٍ عَلَى أَبِي طَالِبٍ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ قَوْلَ الْمَلَأِ مِنْ قُرَيْشٍ لِأَبِي طَالِبٍ هَذَا عُمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ أَنْهَدُ فَتًى فِي قُرَيْشٍ ، وَأَجْمَلُهُ فَخُذْهُ مَكَانَ ابْنِ أَخِيك . أَنْهَدُ . أَيْ أَقْوَى وَأَجْلَدُ وَيُقَالُ فَرَسٌ نَهْدٌ لِلّذِي يَتَقَدّمُ الْخَيْلَ وَأَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ التّقَدّمُ وَمِنْهُ يُقَالُ نَهَدَ ثَدْيُ الْجَارِيَةِ أَيْ بَرَزَ قُدُمًا . [ ص 9 ] وَعُمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ هَذَا الْمَذْكُورُ هُوَ الّذِي أَرْسَلَتْهُ قُرَيْشٌ مَعَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فَسُحِرَ هُنَاكَ وَجُنّ وَسَنَزِيدُ فِي خَبَرِهِ شَيْئًا بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللّهُ . وَذَكَرُوا أَنّ أَبَا طَالِبٍ قَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ أَنْ يَأْخُذَ عُمَارَةَ بَدَلًا مِنْ مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرَأَيْتُمْ نَاقَةً تَحِنّ إلَى غَيْرِ فَصِيلِهَا وَتَرْأَمُهُ لَا أُعْطِيكُمْ ابْنِي تَقْتُلُونَهُ أَبَدًا ، وَآخُذُ ابْنَكُمْ أَكْفُلُهُ وَأَغْذُوهُ وَهُوَ مَعْنَى مَا ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فَحَقِبَ الْأَمْرُ عِنْدَ ذَلِكَ يُرِيدُ اشْتَدّ وَهُوَ مِنْ قَوْلِك : حَقِبَ الْبَعِيرُ إذَا رَاغَ عَنْهُ الْحَقَبُ مِنْ شِدّةِ الْجَهْدِ وَالنّصَبِ وَإِذَا عَسُرَ عَلَيْهِ الْبَوْلُ أَيْضًا لِشَدّ الْحَقَبِ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَيُقَالُ مِنْهُ حَقِبَ الْبَعِيرُ ثُمّ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَمْرِ إذَا عَسُرَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فَشَرِيَ الْأَمْرُ عِنْدَ ذَلِكَ أَيْ انْتَشَرَ الشّرّ ، وَمِنْهُ الشّرَى ، وَهِيَ قُرُوحٌ تَنْتَشِرُ عَلَى الْبَدَنِ يُقَالُ مِنْهُ شَرِيَ جِلْدُ الرّجُلِ يَشْرَى شَرًى .
شِعْرُ أَبِي طَالِبٍ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ شِعْرَ أَبِي طَالِبٍ [ ص 10 ] أَلَا لَيْتَ حَظّي مِنْ حِيَاطَتِكُمْ بَكْرُ
أَيْ إنّ بَكْرًا مِنْ الْإِبِلِ أَنْفَعُ لِي مِنْكُمْ فَلَيْتَهُ لِي بَدَلًا مِنْ حِيَاطَتِكُمْ كَمَا قَالَ طَرَفَةُ فِي عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ :
فَلَيْتَ لَنَا مَكَانَ الْمَلْكِ عَمْرٍو ... رَغُوثًا حَوْلَ قُبّتِنَا تَخُورُ
وَقَوْلُهُ مِنْ الْخُورِ حَبْحَابٌ . الْخُورُ الضّعَافُ وَالْحَبْحَابُ بِالْحَاءِ الصّغِيرُ . وَفِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ جِبْجَابٌ بِالْجِيمِ وَفَسّرَهُ فَقَالَ هُوَ الْكَثِيرُ الْهَدْرِ وَفِي الشّعْرِ إذَا مَا عَلَا الْفَيْفَاءَ قِيلَ لَهُ وَبْرُ
أَيْ يُشَبّهُ بِالْوَبْرِ لِصِغَرِهِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ يَصْغُرُ فِي الْعَيْنِ لِعُلُوّ الْمَكَانِ وَبُعْدِهِ وَالْفَيْفَاءُ فَعْلَاءُ وَلَوْلَا قَوْلُهُمْ الْفَيْفُ لَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى بَابِ الْقَضْقَاضِ وَالْجَرْجَارِ أَوْلَى ، وَلَكِنْ سُمِعَ الْفَيْفُ فَعُلِمَ أَنّ الْأَلِفَيْنِ زَائِدَتَانِ وَأَنّهُ مِنْ بَابِ قَلِقَ وَسَلِسَ الّذِي ضُوعِفَتْ فِيهِ فَاءُ الْفِعْلِ دُونَ عَيْنِهِ وَهِيَ أَلْفَاظٌ يَسِيرَةٌ نَحْوَ قَلِقَ وَسَلِسَ وَثُلُثٌ وَسُدُسٌ وَقَدْ اعْتَنَيْنَا بِجَمْعِهَا مِنْ الْكَلَامِ وَلَعَلّ لَهَا مَوْضِعًا تُذْكَرُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى ، وَلَا تَكُونُ أَلِفُ فَيْفَاءَ لِلْإِلْحَاقِ فَيُصْرَفُ لِأَنّهُ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ فَعْلَالٌ فَإِنْ قِيلَ يَكُونُ مُلْحَقًا بِقَضْقَاضٍ وَبَابِهِ قُلْنَا : قَضْقَاضٌ ثُنَائِيّ مُضَاعَفٌ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ الثّلَاثِيّ ، كَمَا لَا يُلْحَقُ الرّبَاعِيّ بِالثّلَاثِيّ وَلَا الْأَكْبَرُ بِالْأَقَلّ وَقَدْ حُكِيَ فَيْفَاةٌ بِالْقَصْرِ وَلَيْسَتْ أَلِفُهَا لِلتّأْنِيثِ إذْ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ عَلَامَتَيْ تَأْنِيثٍ فَهِيَ إذًا مِنْ بَابِ أَرْطَاةَ وَنَحْوِهَا ، كَأَنّهَا مُلْحَقَةٌ بِسَلْهَبَةَ . وَفِي الشّعْرِ كَمَا جَرْجَمَتْ مِنْ رَأْسِ ذِي عَلَقَ صَخْرُ
[ ص 11 ] وَتُرِكَ صَرْفُ عَلَقَ إمّا لِأَنّهُ جَعَلَهُ اسْمَ بُقْعَةٍ وَإِمّا لِأَنّهُ اسْمُ عَلَمٍ وَتَرْكُ صَرْفِ الِاسْمِ الْعَلَمِ سَائِغٌ فِي الشّعْرِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُؤَنّثًا وَلَا عَجَمِيّا نَحْوَ قَوْلِ عَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ
وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ ... يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ
وَنَحْوَ قَوْلِ الْآخَرِ
يَا مَنْ جَفَانِي وَمَلّا ... نَسِيت أَهْلًا وَسَهْلَا
وَمَاتَ مَرْحَبُ لَمّا ... رَأَيْت مَا لِي قَلّا
فَلَمْ يَصْرِفْ مَرْحَبَا ، وَسَيَأْتِي فِي هَذَا الْكِتَابِ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ عَلَى هَذَا ، وَنَشْرَحُ الْعِلّةَ فِيهِ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى ، وَلَوْ رُوِيَ مِنْ رَأْسِ ذِي عَلَقَ الصّخْرُ بِحَذْفِ التّنْوِينِ لِالْتِقَاءِ السّاكِنِينَ لَكَانَ حَسَنًا ، كَمَا قُرِئَ { قُلْ هُوَ اللّهُ أَحَدٌ اللّهُ الصّمَدُ } بِحَذْفِ التّنْوِينِ مِنْ " أَحَدُ " ، وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ وَقَالَ الشّاعِرُ حُمَيْدُ الّذِي أَمُجّ دَارَهُ
[ ص 12 ] وَقَالَ آخَرُ وَلَا ذَاكِرُ اللّهِ إلّا قَلِيلَا

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ قُرَيْشًا تَذَامَرُوا بَيْنَهُمْ عَلَى مَنْ فِي الْقَبَائِلِ مِنْهُمْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الّذِينَ أَسْلَمُوا مَعَهُ فَوَثَبَتْ كُلّ قَبِيلَةٍ عَلَى مَنْ فِيهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُعَذّبُونَهُمْ وَيَفْتِنُونَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَمَنَعَ اللّهُ رَسُولَهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْهُمْ بِعَمّهِ أَبِي طَالِبٍ وَقَدْ قَامَ أَبُو طَالِبٍ ، حِينَ رَأَى قُرَيْشًا يَصْنَعُونَ مَا يَصْنَعُونَ فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِيّ الْمُطّلِبِ ، فَدَعَاهُمْ إلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ مَنْعِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَالْقِيَامِ دُونَهُ فَاجْتَمَعُوا إلَيْهِ وَقَامُوا مَعَهُ وَأَجَابُوهُ إلَى مَا دَعَاهُمْ إلَيْهِ إلّا مَا كَانَ مِنْ أَبِي لَهَبٍ عَدُوّ اللّهِ الْمَلْعُونِ . [ ص 12 ] سَرّهُ فِي جَهْدِهِمْ مَعَهُ وَحَدَبِهِمْ عَلَيْهِ جَعَلَ يَمْدَحُهُمْ وَيَذْكُرُ قَدِيمَهُمْ وَيَذْكُرُ فَضْلَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيهِمْ وَمَكَانَهُ مِنْهُمْ لِيَشُدّ لَهُمْ رَأْيَهُمْ وَلِيَحْدَبُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرِهِ فَقَالَ
إذَا اجْتَمَعَتْ يَوْمًا قُرَيْشٌ ... لِمَفْخَرِ فَعَبْدُ مَنَافٍ سِرّهَا وَصَمِيمُهَا
فَإِنْ حُصّلَتْ أَشْرَافُ عَبْدِ مَنَافِهَا ... فَفِي هَاشِمٍ أَشْرَافُهَا وَقَدِيمُهَا
تَدَاعَتْ قُرَيْشٌ غَثّهَا وَسَمِينُهَا ... عَلَيْنَا فَلَمْ تَظْفَرْ وَطَاشَتْ حُلُومُهَا
وَكُنّا قَدِيمًا لَا نُقِرّ ظُلَامَةً ... إذَا مَا ثَنَوْا صُعْرَ الْخُدُودِ نُقِيمُهَا
وَنَحْمِي حِمَاهَا كُلّ يَوْمٍ كَرِيهَةً ... وَنَضْرِبُ عَنْ أَجْحَارِهَا مَنْ يَرُومُهَا
بِنَا انْتَعَشَ الْعُودُ الذّوَاءُ وَإِنّمَا ... بِأَكْنَافِنَا تَنْدِي وَتَنْمِي أُرُومُهَا
Sوَأَنْشَدَ قَوْلَ أَبِي طَالِبٍ
إذَا اجْتَمَعَتْ يَوْمًا قُرَيْشٌ لِمَفْخَرِ ... فَعَبْدُ مَنَافٍ سِرّهَا وَصَمِيمُهَا
قَوْلُهُ سِرّهَا ، أَيْ وَسَطُهَا ، وَسِرّ الْوَادِي وَسَرَارَتُهُ وَسَطُهُ وَقَدْ تَقَدّمَ مَتَى يَكُونُ الْوَسَطُ مَدْحًا ، وَأَنّ ذَلِكَ فِي مَوْضِعَيْنِ فِي وَصْفِ الشّهُودِ وَفِي النّسَبِ وَبَيّنّا السّرّ فِي ذَلِكَ . وَقَالَ فِي الْقَصِيدَةِ وَنَضْرِبُ عَنْ أَحْجَارِهَا مَنْ يَرُومُهَا . أَيْ نَدْفَعُ عَنْ حُصُونِهَا وَمَعَاقِلِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ الرّوَايَةُ أَجْحَارُهَا بِتَقْدِيمِ الْجِيمِ فَهُوَ جَمْعُ جُحْرٍ وَالْجُحْرُ هُنَا مُسْتَعَارٌ وَإِنّمَا يُرِيدُ عَنْ بُيُوتِهَا وَمَسَاكِنِهَا .

مَوْقِفُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ مِنْ الْقُرْآنِ
ثُمّ إنّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ اجْتَمَعَ إلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ - وَكَانَ ذَا سِنّ فِيهِمْ وَقَدْ حَضَرَ [ ص 13 ] فَقَالَ لَهُمْ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إنّهُ قَدْ حَضَرَ هَذَا الْمَوْسِمُ وَإِنّ وُفُودَ الْعَرَبِ سَتَقْدَمُ عَلَيْكُمْ فِيهِ وَقَدْ سَمِعُوا بِأَمْرِ صَاحِبِكُمْ هَذَا ، فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا وَاحِدًا ، وَلَا تَخْتَلِفُوا ، فَيُكَذّبُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ، وَيَرُدّ قَوْلُكُمْ بَعْضُهُ بَعْضًا ، قَالُوا : فَأَنْتَ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ ، فَقُلْ وَأَقِمْ لَنَا رَأْيًا نَقُولُ بِهِ قَالَ بَلْ أَنْتُمْ فَقُولُوا أَسْمَعُ قَالُوا : نَقُولُ كَاهِنٌ قَالَ لَا وَاَللّهِ مَا هُوَ بِكَاهِنِ لَقَدْ رَأَيْنَا الْكُهّانَ فَمَا هُوَ بِزَمْزَمَةِ الْكَاهِنِ وَلَا سَجْعِهِ قَالُوا : فَنَقُولُ مَجْنُونٌ قَالَ مَا هُوَ بِمَجْنُونِ لَقَدْ رَأَيْنَا الْجُنُونَ وَعَرَفْنَاهُ فَمَا هُوَ بِخَنِقِهِ وَلَا تَخَالُجِهِ وَلَا وَسْوَسَتِهِ قَالُوا : فَنَقُولُ شَاعِرٌ قَالَ مَا هُوَ بِشَاعِرِ لَقَدْ عَرَفْنَا الشّعْرَ كُلّهُ رَجَزَهُ وَهَزَجَهُ وَقَرِيضَهُ وَمَقْبُوضَهُ وَمَبْسُوطَهُ فَمَا هُوَ بِالشّعْرِ قَالُوا : فَنَقُولُ سَاحِرٌ قَالَ مَا هُوَ بِسَاحِرِ لَقَدْ رَأَيْنَا السّحّارَ وَسِحْرَهُمْ فَمَا هُوَ بِنَفْثِهِمْ وَلَا عَقْدِهِمْ قَالُوا : فَمَا نَقُولُ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ ؟ قَالَ وَاَللّهِ إنّ لِقَوْلِهِ لَحَلَاوَةً ، وَإِنّ أَصْلَهُ لَعَذْقٌ وَإِنّ فَرْعَهُ لَجَنَاةٌ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ لَغَدَقٌ - وَمَا أَنْتُمْ بِقَائِلِينَ مِنْ هَذَا شَيْئًا إلّا عُرِفَ أَنّهُ بَاطِلٌ وَإِنّ أَقْرَبَ الْقَوْلِ [ ص 14 ] وَأَبِيهِ وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَأَخِيهِ وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجَتِهِ وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَعَشِيرَتِهِ . فَتَفْرُقُوا عَنْهُ بِذَلِكَ فَجَعَلُوا يَجْلِسُونَ بِسُبُلِ النّاسِ حِينَ قَدِمُوا الْمَوْسِمَ لَا يَمُرّ بِهِمْ أَحَدٌ إلّا حَذّرُوهُ إيّاهُ وَذَكَرُوا لَهُمْ أَمْرَهُ .
Sمَوْقِفُ الْوَلِيدِ مِنْ الْقُرْآنِ
وَذَكَرَ خَبَرَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَقَوْلَهُ فِيمَا جَاءَ بِهِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ الْوَحْيِ وَالْقُرْآنِ قَدْ سَمِعْنَا الشّعْرَ فَمَا هُوَ بِهَزَجِهِ وَلَا رَجَزِهِ . وَالْهَزَجُ مِنْ أَعَارِيضِ الشّعْرِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ [ ص 13 ] يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِمْ فِي وَصْفِ الذّبَابِ هَزِجٌ أَيْ مُتَرَنّمٌ وَأَمّا الرّجَزُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ رَجَزْت الْحَمْلَ إذَا عَدَلْته بِالرّجَازَةِ وَهُوَ شَيْءٌ يُعْدَلُ بِهِ الْحَمْلُ وَكَذَلِكَ الرّجَزُ فِي الشّعْرِ أَشْطَارٌ مُعَدّلَةٌ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ رَجَزَتْ النّاقَةُ إذَا أَصَابَتْهَا رِعْدَةٌ عِنْدَ قِيَامِهَا ، كَمَا قَالَ الشّاعِرُ حَتّى تَقُومَ تَكَلّفَ الرّجْزَاءِ فَالْمُرْتَجِزُ كَأَنّهُ مُرْتَعِدٌ عِنْدَ إنْشَادِهِ لِقِصَرِ الْأَبْيَاتِ . وَقَوْلُهُ قَدْ سَمِعْنَا الْكُهّانَ فَمَا هُوَ بِزَمْزَمَةِ الْكَاهِنِ وَلَا سَجْعِهِ الزّمْزَمَةُ صَوْتٌ ضَعِيفٌ كَنَحْوِ مَا كَانَتْ الْفُرْسُ تَفْعَلُهُ عِنْدَ شُرْبِهَا الْمَاءَ وَيُقَالُ أَيْضًا : زَمْزَمَ الرّعْدُ وَهُوَ صَوْتٌ لَهُ قَبْلَ الْهَدْرِ وَكَذَلِكَ الْكُهّانُ كَانَتْ لَهُمْ زَمْزَمَةٌ اللّهُ أَعْلَمُ بِكَيْفِيّتِهَا ، وَأَمّا زَمْزَمَةُ الْفُرْسِ ، فَكَانَتْ مِنْ أُنُوفِهِمْ . وَقَوْلُ الْوَلِيدِ إنّ أَصْلَهُ لَعَذْقٌ وَإِنّ فَرْعَهُ لَجَنَاةٌ . اسْتِعَارَةٌ مِنْ النّخْلَةِ الّتِي ثَبَتَ أَصْلُهَا ، [ ص 14 ] وَطَابَ فَرْعُهَا إذَا جَنَى ، وَالنّخْلَةُ هِيَ الْعَذْقُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَرِوَايَةُ ابْنِ إسْحَاقَ أَفْصَحُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ ؛ لِأَنّهَا اسْتِعَارَةٌ تَامّةٌ يُشْبِهُ آخِرُ الْكَلَامِ أَوّلَهُ وَرِوَايَةُ ابْنِ هِشَامٍ : إنّ أَصْلَهُ لَغَدْقٌ وَهُوَ الْمَاءُ الْكَثِيرُ وَمِنْهُ يُقَالُ غَيْدَقَ الرّجُلُ إذَا كَثُرَ بُصَاقُهُ وَأَحَدُ أَعْمَامِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَانَ يُسَمّى : الْغَيْدَاقُ لِكَثْرَةِ عَطَائِهِ وَالْغَيْدَقُ أَيْضًا وَلَدُ الضّبّ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ الْحِسْلِ قَالَهُ قُطْرُبٌ فِي كِتَابِ الْأَفْعَالِ وَالْأَسْمَاءِ لَهُ .

مَا نَزَلَ فِي حَقّ الْوَلِيدِ مِنْ الْقُرْآنِ
فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا وَبَنِينَ شُهُودًا وَمَهّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ثُمّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلّا إِنّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا } [ الْمُدّثّرِ 11 - 16 ] أَيْ خَصِيمًا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : عَنِيدًا : مُعَانِدٌ مُخَالِفٌ . قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ : وَنَحْنُ ضَرّابُونَ رَأْسَ الْعُنّدِ [ ص 15 ] { سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا إِنّهُ فَكّرَ وَقَدّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ ثُمّ قُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ ثُمّ نَظَرَ ثُمّ عَبَسَ وَبَسَرَ } [ الْمُدّثّرِ 17 - 22 ] . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : بَسَرَ كَرِهَ وَجْهَهُ . قَالَ الْعَجّاجُ مُضَبّرُ اللّحْيَيْنِ بَسْرًا مِنْهَا يَصِفُ كَرَاهِيَةَ وَجْهِهِ . وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ { ثُمّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلّا قَوْلُ الْبَشَرِ } [ الْمُدّثّرِ 23 - 25 ] . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : فِي رَسُولِهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَفِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ اللّهِ تَعَالَى ، وَفِي النّفَرِ الّذِينَ كَانُوا مَعَهُ يُصَنّفُونَ الْقَوْلَ فِي رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ اللّهِ تَعَالَى : { كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ فَوَرَبّكَ لَنَسْأَلَنّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الْحِجْرِ : 90 - 93 ] . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاحِدَةُ الْعِضِينَ عِضَةٌ يَقُولُ عَضّوْهُ فَرّقُوهُ . قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ : وَلَيْسَ دِينُ اللّهِ بِالْمُعَضّى [ ص 16 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَجَعَلَ أُولَئِكَ النّفَرُ يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِمَنْ لَقُوا مِنْ النّاسِ وَصَدَرَتْ الْعَرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْسِمِ بِأَمْرِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَانْتَشَرَ ذِكْرُهُ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ كُلّهَا .
S{ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا }
فَصْلٌ وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ قَوْلَ اللّهِ تَعَالَى : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا } الْآيَاتِ الّتِي نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ وَفِيهَا لَهُ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ لِأَنّ مَعْنَى : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ } أَيْ دَعْنِي وَإِيّاهُ فَسَتَرَى مَا أَصْنَعُ بِهِ كَمَا قَالَ { فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ } [ الْقَلَمِ 44ْ ] وَهِيَ كَلِمَةٌ يَقُولُهَا الْمُغْتَاظُ إذَا اشْتَدّ غَيْظُهُ وَغَضَبُهُ وَكَرِهَ أَنْ يَشْفَعَ لِمَنْ اغْتَاظَ عَلَيْهِ فَمَعْنَى الْكَلَامِ أَيْ لَا شَفَاعَةَ تَنْفَعُ لِهَذَا الْكَافِرِ وَلَا اسْتِغْفَارَ يَا مُحَمّدٌ مِنْك ، وَلَا مِنْ غَيْرِك وَقَوْلُهُ { وَبَنِينَ شُهُودًا } أَيْ مُقِيمِينَ مَعَهُ غَيْرَ مُحْتَاجِينَ إلَى الْأَسْفَارِ وَالْغَيْبَةِ عَنْهُ لِأَنّ مَالَهُ مَمْدُودٌ وَالْمَالُ الْمَمْدُودُ عِنْدَهُمْ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ ، فَصَاعِدًا { وَمَهّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا } أَيْ هَيّأْت لَهُ وَقَدّمْت لَهُ مُقَدّمَاتٍ اسْتِدْرَاجًا لَهُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا } هِيَ عَقَبَةٌ فِي جَهَنّمَ يُقَالُ لَهَا : الصّعُودُ مَسِيرُهَا سَبْعُونَ سَنَةً يُكَلّفُ الْكَافِرُ أَنْ يَصْعَدَهَا ، فَإِذَا صَعِدَهَا بَعْدَ [ ص 15 ] صُبّ مِنْ أَعْلَاهَا ، وَلَا يَتَنَفّسُ ثُمّ لَا يَزَالُ كَذَلِكَ أَبَدًا ، كَذَلِكَ جَاءَ فِي التّفْسِيرِ . وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ { فَقُتِلَ كَيْفَ قَدّرَ } أَيْ لُعِنَ كَيْفَمَا كَانَ تَقْدِيرُهُ فَكَيْفَ هَاهُنَا مِنْ حُرُوفِ الشّرْطِ وَقِيلَ مَعْنَى قُتِلَ أَيْ هُوَ أَهْلٌ أَنْ يُدْعَى عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ وَقَدْ فَسّرَ ابْنُ هِشَامٍ : بَسَرَ وَالْبَسْرُ أَيْضًا : الْقَهْرُ وَالْبَسْرُ حَمْلُ الْفَحْلِ عَلَى النّاقَةِ قَبْلَ وَقْتِ الضّرَابِ . وَفَسّرَ عِضِينَ [ ص 16 ] وَجَعَلَهُ مِنْ عَضّيْت أَيْ فَرّقْت ، وَفِي الْحَدِيثِ " لَا تَعْضِيَةَ فِي مِيرَاثٍ إلّا مَا احْتَمَلَهُ الْقَسْمُ " وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَرَأْيِهِ فِي كُلّ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إذَا قُسِمَ أَوْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الشّرِيكَيْنِ أَلّا يُقْسَمَ وَهُوَ خِلَافُ رَأْيِ مَالِكٍ ، وَحُجّةُ مَالِكٍ قَوْلُ اللّهِ تَعَالَى : { مِمّا قَلّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا } [ النّسَاءِ 7 ] . وَقَدْ قِيلَ فِي عِضِينَ إنّهُ جَمْعُ عِضَةٍ وَهِيَ السّحْرُ وَأَنْشَدُوا :
أَعُوذُ بِرَبّي مِنْ النّافِثَيْا ... ت فِي الْعُقَدِ الْعَاضِهِ الْمُعْضِهِ
وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ يَا لِلْعَضِيهَةِ وَيَا لِلْأَفِيكَةِ [ وَيَا لِلْبَهِيتَةِ ]

====

=

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

البرص و العميان-أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ

البرص و العميان-أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ  المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله عليه محمد وسلم وهب الله لك حسن الاستماع وأشعر ...