Translate

الجمعة، 11 فبراير 2022

ج1 وج2. النُّكَت على كتاب ابن الصلاح للحافظ ابن حجر العسقلاني


النُّكَت على كتاب ابن الصلاح

للحافظ ابن حجر العسقلاني

 

المجلّد الأول

 

مُلتقى أهل الحديث

baljurashi.com.www

 

 

 

 


بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله الذي لا تنفد مع كثرة الإنفاق خزائنه . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يؤازره ، ولا نظير له يعاونه ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلى الناس كافة ، فقد فاز متابعة ومعاونه ، وخسر مضاده ومباينه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصحبه الين جمعت لهم غرر الدين القويم ومحاسنه .

أما بعد :

فإن الاشتغال بالعلوم الدينية النافعة أولى ما صرفت فيها فواضل الأوقات وأحرى بأن يهجر لها الملاذ والششهوات ، ولم آل جهداً منذ اشتغلت بطلب الحديث النبوي في تعرف صحيحه من معلوله ، ومنقطعه من موصوله ولم آلو عناناً عن الجري في ميدان نقلته والبحث عن أحوال حملته ، لأن ذلك هو المرقاة إلى معرفة سقيمة من صحيحه وتبيين راجحه من مرجوحه . ولكل مقام مقال . ولكل مجال رجال .

وكنت قد بحثت على شيخي العلامة حافظ الوقت أبي الفضل ابن الحسين الفوائد التي جمعها على مصنف الشيخ الإمام الأوحد الأستاذ أبي عمرو الن الصلاح ، وكنت في أثناء ذلك وبعده إذا وقعت النكتة الغربية ، والنادرة العجيبة والاعتراض القوي طوراً ، وتالضعيف مع الجواب عنه أخرةى ربما علقت بعض ذلك على هامش الأصل ، وربما أغفلته .

فرأيت الآن أن الصواب الاجتهاد في جمع ذلك ، وضم ما يليق به ويلتحق ب3 بهذا الغرض وهو تتمة التنكيت على كتاب ابن الصلاح ، فجمعت ما وقع لي من ذلك في هذه الأوراق .

ورقمت على أول كل مسألة إما (ص) وإما (ع) : الأولى : لابن الصلاح أو الأصل . والثانية للعراقي أو الفرع .

وغرضي بذلك جمع ما تفرق من الفوائد واقتناص ما لاح من الشوارد والأعمال بالنيات .

1- قوله (ص) في الخطبة : (( الواقي )) :

بالقاف وهو مشتق من وقال تعالى : ( فوقاه الله ) عملاً  بأحد المذهبين في الأسماء الحسنى . والأصح عند المحققين أنها توقيفية .

وأما قوله سبحانه وتعالى : ( وما لهم من الله من واق ) فلا توقيف فيه على ذلك ، لكن اختار الغزالي أن التوقيف مختص بالأسماء دون الصفات . وهو اختيار الإمام فخر الدين أيضاً . وعلى ذلك يحمل عمل المصنف وغيره من الأئمة .

2- قوله : (ص) : (( حمداً بالغاً أمد التمام ومنتهاه )) :

اعترض عليه بأن هذه دعوى لا تصح وكيف يتخيل شخص أنه يمكنه أن يحمد الله حمداً يبلغ

منتهىالتمام .

والفرض أن الخلق كلهم لو اجتمع حمدهم لم يبلغ بعض ما يستحقه تعالى من الحمد فضلاً عن تمامه .

والنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يقول : ((لا أحصي ثناء عليك )) . مع ما صح في حديث الشفاعة : ((أن الله يفتح عليه بمحامد لم يسبق إليه ))

والجواب : أن المصنف لم يدع أن الحمد الصادر منه بلغ ذلك ، وإنما أخبر أن الحمد الذي يجب لله هذه صفته وكأنه أراد أن الله مستحق لتمام الحمد . وهذا بين من سياق كلامه .

ومن هذا قول الشيخ محي الدين في خطبة المنهاج وغيره ـ أحمد أبلغ حمد وأكمله ، فمراده بذلك أنسب إلى ذاته المقدسة أبلغ المحامد . وليس مراده أن حمدي أبلغ الحمد ، وقد قال الأصحاب : (( إن أجل المحامد ـ أن يقول المرء ـ الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده )) . وهو راجع لما قلناه .

3- قوله (ص) : (( على نبينا )) :

اعترض عليه بأن النبي أعم مطلقاً من الرسول البشري ، والرسول البشري أخص ( فلم عدل ) عن الوصف بالرسالة إلى الوصف بالنبوة .

والجواب عنه : أنه اعتمد ذلك لتحصل المناسبة بين المعطوف والمعطوف عليه وهو قوله : والنبيين والتعبير بالصيغة الدالة على التعميم أولى .

وأيضاً فلو قال : على رسولنا لم يكن لائقاً ، لأن هذه الإضافة تصح على ما إذا كان المرسل هو القائل . وقد يدفع السؤال من أصله . بأن يقال : المقام مقان تعريف لا وصف . ومقام التعريف يحصل الاكتفاء فيه بأي صفة كانت .

4- قوله / (ص) : (( وآل كل )) :

إضافة إلى الظاهر خروجاً من الخلاف ، لأ، بعضهم لا يجيز إضافته إلى المضمر .

5- قوله (ص) : (( هذا وأن علم الحديث ... الخ )) :

هو فاصل عن الكلام السابق للدخول في غرض آخر . ومثاله في التخلص قوله سبحانه وتعالى : ( هذا وإن للطاغين لشر مآب ) .

فإن قلت : لم لم يأت بقوله : أما بعد مع أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ كام يأتي بها في خطبه . قلت : لا حجر في ذلك بل هو من التفتن .

[ تعريف علم الحديث ]

وأولى التعاريف لعلم الحديث : معرفة القواعد التي يتوصل بها إلى معرفة حال الراوي والمروي .

6- قوله (ص) : (( ولا يكرهه من الناس إلا رذالتهم )) :

وهو يضم الراء بعدها ذال معجمة ـ والرذالة ـ ما انتفى جيده فكأنه هنا وصف محذوف أي طائفة رذالة . والرذال بغير تاء : الدون الخسيس ، والردئ من كل شئ فيحتملأن تكون التاء في هذا للمبالغة . ولم أر رذل رذالة . وإنما ذكروا أرذال ورذول وأرذلون ورذال ـ والله أعلم .

7- قوله (ص) : (( وسفلتهم )) :

بفتح السين وكسر الفاء وفت اللام : وزن قرح جمع سفلة ـ بكسر السين وسكون الفاء ـ ويجوز أن يقرأ كذلك على إرادة الجنس .

8- قوله (ص) : (( وهو أكثر العلوم تولجاً ))

أي دخولاً في فنونها : والمراد بالعلوم هنا الشرعية وهي : التفسير ، والحديث ، والفقه . وإنما صار أكثر ، لاحتياج كل من العلوم الثلاثة إليه .

أما الحديث فظاهر . وأما التفسير ، فإن أولى ما فسر به كلام الله تعالى ـ ما ثبت عن نبيه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ( ويحتاج الناظر في ذلك إلى معرفة ما ثبت مما لم يثبت ) .

وأما الفق . فلا حتياج إلى الاستدلال بما ثبت من الحديث دون ما لم يثبت ، ولا يتبين ذلك إلا بعلم الحديث .

9- قوله / (ص) : (( وأفنان فنونه )) :

الأفنان : جمه فنن ـ بفتحتين ـ وهو الغصن . والفنون : جمع فن وهو الضرب من الشئ ، أي النوع وجيمع أيضاً على أفنان . لكن المراد هنا بالأفنان : جمع فنن كما تقدم .

10- قوله (ص) : (( غضة أي طرية )) :

وهي استعارة مناسبة للفنن وفيه الجناس بين أفنان وفنون .

11- قوله (ص) : ومغانية بأهله آهلة )) :

المغاني ـ بالغين المعجمة ـ جمع مغنى مقصور ، وهو المكان الذي كان مسكوناً ، ثم انتقل أهله عنه ، فكأنه أطلق عليه مغنى باعتبار ما آل إليه الأمر ، وكان قبل ذلك مسكوناً بأهله المستحقين له لا بغيرهم . وفيه جناس خطي في قوله : (( بأهله آهلة )) . بوزن فاعله .

12- قوله (ص) : (( شرذمة )) بالذال المعجمة :

وحكى ابن دحية جواز إهمالها ، وشذ بذلك .

13- قوله (ص) : (( من سماعه غفلاً )) بضم الغين المعجمة وسكون الفاء :

وهي استعارة يقال : أرض غفل لا علم بها ولا أثر عمارة فكأنه شبه الكتاب بالأرض ، والتقييد بالنقط والشكل والضبط بالعمران .

وقوله (ص) : (( عطلاً )) العاطل : ضد الحالي .

[ تقسيم أبي شامة علوم الحديث إلى ثلاثة : ]

وقد ذكر أبو شامة ـ في كتاب المبعث ـ شيئاً ينبغي تحريره فقال : يقال علوم الحديث الآن ثلاثة

1- أشرفها : حفظ متونها ومعرفة غريبها وفقهها .

2- والثاني : حفظ أسانيدها ومعرفة رجالها وتمييز صحيحها من سقيمها وهذا كان مهماً ، وقد كفيه المشتغل بالعلم بما وصف وألف من هـ 3ب الكتب / فلا فائدة تدعو إلى تحصيل ما هو حاصل .

 

3- الثالث : جمعه وكتابته وسماعه وتطريقه وطلب العلو فيه والرحلة إلى البلدان . والمشتغل بهذا مشتغل عما هو الأهم من علومه النافعة ، فضلاً ، عن ي6 العمل الذي هو المطلوب الأول وهو العبادة .

إلا أنه لا بأس للبطالين ، لما فيه من بقاء سلسلة الإسناد المتصلة بأشرف البشر ... ( إلى آخر كلامه )

[ رد الحافظ على أبي شامة : ]

قلت : وفي كلامه مباحث من أوجه :

الأول : قوله : (( وهذا كفيه المشتغل بالعمل بما صنف فيه )) .

يقال عليه : إن كان التصنيف في الفن يوجب الاتكال على ذلك وعدم الاشتغال به ، فالقول كذلك في الفن الأول .

فإن فقه الحديث وغريبه لا يحصى كم صنف في ذلك ، بل لو ادعى مدع (   ) / أن التصانيف التي جمعت في ذلك أجمع من التصانيف التي جمعت ب7 في تمييز الرجال وكذا في تمييز الصحيح من السقيم لما أبعد بل ذلك هو الواقع .

فإن كان الاشتغال بالأول مهماً فالاشتغال بالثاني أهم ، لأنه المرقاة إلى الأول . فمن أخل به خلط الصحيح بالسقيم والمعدل بالمجروح وهو لا يشعر وكفى بذلك عيباً بالمحدث .

فالحق أن كلاً منهما في علم الحديث مهم لا رجحان لأحدهما على الآخر . نعم لو قال : الاشتغال بالفن الأول أهم كان مسلماً مع ما فيه .

دولا شك أن من جمعهما حاز القدح المعلى . ومن أخل بهما فلا حظ له في اسم المحدث .

( ومن حرر الأول ، وأخل يالثاني كان بعيداً من اسم المحدث عرفاً ) . هذا لا ارتياب فيه .

بقي الكلام في الفن الثالث : وهو السماع وما ذكر معه ولا شك أن من جمعه مع الفن كان أوفر وأحظ قسماً لكن وإن كان من اقتصر عليه كان أنحس حظاً وأبعد حفظاً .

فمن جمع الأمور الثلاثة كان فقيهاً محدثاً كاملاً ، ( ومن انفرد باثنين منهما كان دونه . وإن كان لا بد من الاقتصار على اثنين ) فليكن الأول والثاني . أما من أخل بالأول واقتصر على الثاني والثالث فهو محدث صرف لا نزاع في ذلك .

ومن انفرد بالأول ، فلا حظ له في اسم المحدث كما ذكرنا . هذا تحرير المقال في هذا الفصل ـ والله أعلم .

14- قوله / (ص) : (( فهرست أنواعه )) .

الصواب أنها بالتاء المثناة وقوفاً وإدماجاً ، وربما وقف عليها بعضهم بالهاء وهو خطأ . قال صاحب تثقيف اللسان :

فهرست بإسكان السين والتاء فيه أصلية ومعناها في اللغة : جملة العدد للكتب / لفظة فارسي ، قال : واستعمل الناس منها فهرس الكتب يفهرسها ب8 فهرسة مثل : دحرج وإنما الفهرست : اسم جملة العدد .

والفهرسة المصدر : كالفذلكة يقال : فذلكت الحساب إذا وقفت على جملته .

15- قوله (ص) : (( هذا آخر أنواعه وليس بآخر الممكن ، لأنه قابل للتنويع )) :

فيه أمور :

أحدها : أنه اعترض عليه بأن كثيراً من هذه الأنواع متداخل ، لصدق رجوع بعضها إلى بعض : كالمتصل بالنسبة إلى الصحيح وكالمنقطع والمعضل والمعنعن والمرسل والشاذ والمنكر والمضطرب وغيرها من أقسام الضعف .

والجواب عن هذا أن المصنف لما كان في مقام تعريف الجزئيات انتفى التداخل ، لاختلاف حقائقها في أنفسها بالنسبة إلى الاصطلاح وإن كانت قد ترجع إلى قدر مشترك .

وقد أشار هو إلى ذلك في آخر الكلام على نوع الضعيف كما سيأتي .

وثانيهما : أنه لم يرتب الجميع على نسق واحد في المناسبة فكان يذكر ما يتعلق بالإسناد وحده ، وما يتعلق بالمتن خاصة وحده ، وما يجمعهما وحده .

وما يختص بهيئة السماع والأداء وحده / ، وما يختص بصفات الرواة وأحوالهم وحده .

والجواب عن ذلك : أنه جمع متفرقات هذا الفن من كتب مطولة في هذا الحجم اللطيف ، ورأى أن تحصيله وإلقاءه إلى طالبيه أهم من صرف العناية إلى حسن ترتيبه فإنني رأيت بخط المحدث فخر الدين : عمر بن يحيى الكرجي ما يصرح بأن الشيخ كان إذا حرر نوعاً من هذه الأنواع واستوفى التعريف به وأورد أمثلته وما يتعلق به أملاه ، ثم انتقل إلى تحرير نوع آخر ، فلأجل هذا احتاج إلى سرد أنواعه في خطبة الكتاب ، لأنه ي8 صنفها بعد فراغه من إملاء الكتاب ، ليكون عنواناً للأنواع ولوكانت محررة الترتيب على الوجه المناسب ما كان في سرده للأنواع في الخطبة كثير فائدة .

ثالثها : أنه أهمل أنواعاً أخر .

قال الحازمي ـ في كتاب العجالة له :

(( اعلم أن علم الحديث يشتمل على أنواع كثيرة تقرب من مائة نومع وكل نوع منها علم متسقل لو أنفق الطالب فيه عمره لما أدرك نهايته )) أهـ .

وقد فتح الله تعالى بتحرير أنواع زائدة على ما حرره المصنف تزيد على خمسة وثلاثين نوعاً . فإذا أضيفت إلى الأنواع التي ذكرها المصنف تمت مائة نوع كما أشار إليه الحازمي وزيادة .

وقد ذكر شيخنا شيخ الإسلام أبو حفص البلقيني منها في محاسن الإصلاح له خمسة أنواع : وزاد عليه بعض تلامذته ـ ممن أدركناه ومات قديماً ـ ثمانية أنواع .

وفتح الله بباقي ذلك من تتبع مصنفات أئمة الفن كما سنسردها إن شاء الله تعالى عند فراغ هذه النكت وتتكلم على كل نوع منها بما لا يقصر إن شاء الله تعالى عن طريقة المصنف ـ والله المستعان

[ تعريف الحديث الصحيح : ]

16- قوله (ص) : (( أما الحديث الصحيح فهو الحديث المسند الذي يتصل إسناده ... )) إلى آخره :

اعترض عليه بأنه لو قال : المسند المتصل لاستغنى عن تكرار لفظ الإسناد .

والجواب : عن ذلك أنه إنما أراد وصف الحديث المرفوع . لأنه الأصل الذي يتكلم عليه . والمختار في وصف المسند على ما سنذكره أنه الحديث الذي يرفعه الصحابي مع ظهور الاتصال ( في باقي الإسناد ) فعلى هذا لا بد من التعرض لاتصال الإسناد في شرط الصحيح ـ والله أعلم .

17- قوله (ص) في حد الصحيح : (( أن لا يكون شاذاً ولا معللاً )) :

اعترض عليه ، بأنه كان ينبغي أن يزيد فيه قيد القدح بأن يقول ولا معللاً بقادح .

وقد ذكره بعد هذا في قوله : وفي هذه / الأوصاف احتراز عن ما فيه علة ي9 قادحة فكان يتعين أن يذكره في نفس الحد لأن من مسمى العلل ما لا يقدح كما سيأتي .

ومن هنا اعترض الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد عليه بأن قال : وفي قوله : (( ولا شاذاً ولا معللاً )) نظر على مقتضى مذاهب الفقهاء ، فإن كثيراً من العلل التي يعلل بها المحدثون لا تجري على أصول الفقهاء ، انتهى .

فقوله : (( إن كثيراً )) يدل على أن من العلل ما يجري على أصول الفقهاء وهي العلل القادحة . وأما العلل التي يعلل بها كثير من المحدثين ولا تكون قادحة فكثيرة .

1- منها : أن يروي العدل الضابط عن تابعي مثلاً عن صحابي / ب11 حديثاً فيرويه عدل ضابط غير مساو له في عدالته وضبطه وغير ذلك من الصفات العلية عن ذلك التابعي بعينه عن صحابي آخر ، فإن مثل هذا يسمى على عندهم لوجود الاختلاف على ذلك التابعي في شيخه ، ولكنها غير قادحة

لجواز أن يكون التابعي سمعه من الصحابيين معاً من هذا جملة كثيرة / ر5/ب

والجواب عن المصنف : أن لم يخل باحتراز ذلك ، بل قوله : (( ولا يكون / هـ5ـ ب معللاً إنما يظهر من تعريفه المعلل ( وقد عرف ) فيمع بعد أنه الحديث الذي اطلع في إسناده الذي ظاهره السلامة على علة خفية قادحة …

فلما اشترط انتفاء المعلل دل على أنه انتفاء ما فيه خفية قادحة . فلهذا قال : (( فيه احتراز عما فيه علة قادة )) .

ويحتمل إنه إنما لم يقيد العلة بالقدح في نفس الحد ليكون الحد جامعاً للحديث الصحيح المتفق على قبوله عند الجميع ، لأن بعض المحدثين يرد الحديث بكل علة سواء كانت قادحة أو يغر قادحة ، ومع ذلك فاختياره أن لا يرد إلا بقادح بدليل قوله : بع

كلامه (( وفيه احتراز عما فيه علة قادحة )) فوصفه للعلة بالقادح يخرج غير القادح . هكذا أجاب به شيخنا في شرح منظموته والأول أوضح ـ والله أعلم .

تنبيهات

الأول : مراده بالشاذ هنا ما يخالف الراوي فيه من هو أحفظ منه أو أكثر كما فسره الشافعي . لا مطلق تفرد الثقة كما فسره به الخليلي . فافهم ذلك . وللمخالفة شرط يأتي في نوع زيادة الثقة .

الثاني سنبينه في الكلام على الحسن على موضع يتبين منه أن هذا التعريف للصحيح غير مستوف لأقسامه عند من خرج الصحيح حتى ولا الشيخين .

وذلك عند قوله : (( إن الحسن إذا تعددت طرقه ارتقى إلى الصحة )) . ـ والله الموفق ـ .

الثالث : إنما لم يشترط نفي النكارة ، لأن المنكر على قسميه عند من يخرج الشاذ هو أشد ضعفاً من الشاذ . فنسبه الشاذ من المنكر نسبه الحسن من الصحيح فكما يلزم من انتفاء الحسن  عن الإسناد انتفاء الصحة .

كذا يلزم من انتفاء الشذوذ عنه انتفاء النكارة . ولم يتفطن الشيخ تاج الدين التبريزي لهذا وزاد في حد الصحيح ، أن لا يكون شاذاً ولا منكراً . هـ

الرابع : زاد الحاكم في علوم الحديث في شرط الصحيح أن يكون راوية مشهوراً بالطلب ، وهذه الشهرة قدر زائد على مطلق الشهرة التي تخرجه من الجهالة . واستدل الحاكم على مشروطية الشهرة بالطلب بما أسنده عن عبد الله بن عون قال : (( لا يؤخذ العلم إلا ممن شهد له عندنا بالطلب )) . والظاهر من صاحبي الصحيح اعتبار ذلك .

إلا أنهما حيث يحصل للحديث طرق كثيرة يستغنون بذلك عن اعتبار ذلك ـ والله أعلم ـ

[ اشتراط العدد لقبول الحديث لم يصرح به أحد من المحدثين : ]

1- قوله ع : (( وكأن البيهقي رآه ي كلام أبي محمد الجويني فنبه على أنه لا يعرف عن أهل

الحديث )) .

يعني اشتراط العدد في الحديث المقبول بأن يرويه عدلان عن عدلين حتى يتصل مثنى مثنى برسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ انتهى .

وهذا إن كان الشيخ أراد بأنه لا يعرف التصريح به من أحد أهل الحديث فصحيح ، وإلا فذلك موجود في كلام الحاكم أبي عبد الله الحافظ في المدخل .

وقد نقله عنه الحازمي لما ذكر أن الحديث الصحيح ينقسم أقساماً وأعلاماً شرط البخاري ومسلم ، ، وهي الدرجة الأولى من الصحيح ، وهو أن يرويه عن رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ صحابي زائل عنه اسم الجهالة . بأن يروي عنه تابعيان عدلان ثم يرويه عنه التابعي المشهور بالرواية عن الصحابة ، وله روايان ثقتان ، ثم يرويه عنه من أتباع التابعين ، حافظ متقن ، وله رواة ثقات من الطبقة الرابعة ، ثم يكون شيخ البخاري أو مسلم حافظاً مشهوراً بالعدالة في روايته .

( وله رواة ثم يتداوله أهل الحديث بالقبول إلى وقتنا كالشهادة على الشهادة ) .

وقال في كتاب علوم الحديث له (( وصفة الحديث الصحيح أن يرويه )) ثم ساق نحو ذلك كن لم يتعرض لعدد معين فيمن بعد التابعين .

وقد فهم الحافظ أبو بكر الحازمي من كلام الحاكم أن ادعى أن الشيخين لا يخرجان الحديث إذا انفرد به أحد الرواة فنقض عليه بغرائب الصحيحين .

والظاهر أن الحاكم لم يرد ذلك وإنما أراد كل راو في الكتابين من الصحابة فمن بعدهم يشترط أن يكون له راويان في الجملة ، لا أنه يشترط أن يتفقا في رواية ذلك الحديث بعينه عنه ، إلا أن قوله في آخر الكلام . ثم يتداوله أهل الحديث كالشهادة على الشهادة .

إن أراد به تشبيه الرواية بالشهادة من كل وجه فيقوى اعتراض الحازمي وإن أراد به تشبيهها بها في الاتصال والمشافهة ، فقد ينتقض عليه بالإجازة والحاكم قائل بصحتها .

وأظنه إنما أراد بهذا التشبيه أصل الاتصال ( والإجازة عند المحدثين لها حكم الاتصال ) والله أعلم .

ولا شك أن الاعتراض عليه في علوم الحديث أشد من الاعتراض عليه بما في المدخل ، لأنه جعل في المدخل هذا شرطاً لأحاديث الصحيحين .

وفي العلوم جعله شرطاً للصحيح في الجملة . وقد جزم أبو حفص الميانجي بزيادة على ما فهمه الحازمي من كلام الحاكم .

[ زعم الميانجي أن الشيخين يشترطان العدد في صحة الحديث في كتابيهما : ]

فقال في ( كتاب ما لا يسع المحدث جهله ) إن شرط الشيخين في صحيحهما ـ أن لا يدخلا فيه إلا ما صح عندهما ، وذلك ما رواه عن رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ اثنان فصاعداً وما نقله عن كل واحد من الصحابة أربعة من التابعين فأكثر ، وأن يكون مستغن بحكايته عن الرد عليه فإنهما لم يشترطا ذلك ولا واحد منهما .

وكم في الصحيحين من حديث لم يروه إلا صحابي واحد ، وكم فيهما من حديث لم يروه إلا تابعي واحد .

وقد صرح مسلم في صحيحه ببعض ذلك . وإنما حكيت كلام الميانجي هنا ، لأتعقبه لئلا يغتر به .

[ اشتراط ابن علية وغيره العدد في صحة الحديث : ]

وأما اشتراط العدد في الحديث الصحيح ، فقد قال به قديماً إبراهيم بن إسماعيل بن علية وغيره .

وعقد الشافعي في (( الرسالة )) باباً محكماً لوجوب العمل بخبر الواحد ، وخبر الواحد عندهم هو : ما لم يبلغ درجة المشهور سواء رواه شخص واحد أو أكثر .

ورأيت في بعض تصانيف الجاحظ أحد المعتزلة أن الخبر لا يصح عندهم إلا إن رواه أربعة .

وعن أبي علي الجبائي أحد المعتزلة ـ أيضاً ـ فيما حكاه أبو الحسين البصري في المعتمد (( أن الخبر لا يقبل إذا رواه العدل الواحد إلا إذا انضم إليه خبر عدل آخر . أو عضده موافقة ظاهر الكتاب ، أو ظاهر خبر آخر . أو يكون منتشراً بين الصحابة ، أو عمل به بعضهم )) .

وأطلق الأستاذ أبو منصور التميمي عنه أنه اشترط الاثنين عن الاثنين والحق عنه التفصيل الذي حكيناه .

واحتج على ذلك :

1- بقصة ذي اليدين وكون النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ توقف في خبره حتى تابعه أبوبكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ وغيرهما .

2- وقصة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ حين توقف في حديث المغيرة بن شعبة ـ رضي الله عنه ـ في ميراث الجدة حتى تابعه محمد بن مسلمة .

3- وقصة عمر ـ رضي الله عنه ـ في توقفه في حديث أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ في الاستئذان حتى تابعه أبو سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ وغير ذلك .

4- وقول على بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ (( كنت إذا حدثني رجل استحلفته فإن حلف لي صدقته )) .

والجواب : عن ذلك كله واضح .

أما قصة ذي اليدين : فإن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إنما توقف فيه للريبة الظاهرة ، لأنه أخبر النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ عن فعل نفسه وكان ثم جماعة من أكابر الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ولم يذكره أحد منهم سواء ، فكان موجب التوقف قوياً . وقد قبل خبر غيره على انفراده عند انتفاء الريبة في جملة من الوقائع .

وأما قصة المغيرة ـ رضي الله عنه ـ فإن أبا بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ إنما توقف فيه ، لأنه أمر مشهور فأراد أن يثبت فيه ، وقد قبل أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ وحدها في القدر الذي كفن فهي رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إلى غير ذلك من الأخبار .

وأما عمر ـ رضي الله عنه ـ فإن أبا موسى ـ رضي الله عنه ـ أخبره بذلك الحديث عقب إنكاره عليه رجوعه ، فأراد عمر ـ رضي الله عنه ـ الاستثبات في خبره لهذه القرينة .

وقد قبل عمر ـ رضي الله عنه ـ حديث عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنه ـ وحده في أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ أخذ الجزية من مجوس هجر .

وحديثه وحده ـ رضي الله عنه ـ في النهي عن الفرار من الطاعون وعن دخول البلد التي وقع بها .

وحديث الضحاك بن سفيان في توريث امرأة أشيم من دية زوجها . وعدة أخبار من أخبار الآحاد في عدة من الوقائع .

وأما صنيع علي ـ رضي الله عنه ـ في الاستحلاف فقد أنر البخاري صحته وعلى تقدير ثبوته ، فهو مذهب تفرد به والحامل له على ذلك المبالغة في الاحتياط ، والله أعلم .

18- قوله (ص) : (( ولهذا نرى الإمساك عن الحكم لإسناد أو حديث بأنه الأصح على الإطلاق . على أن جماعة من أئمة الحديث خاضوا غمرة ذلك )) . (انتهى ) .

إما الإسناد فهو كما قال قد صرح جماعة من أئمة الحديث بإن إسناد كذا أًح الأسانيد .

وأما الحديث فلا يحفظ عن أحد من أئمة الحديث أنه قال : حديث كذا أصح الأحاديث على الإطلاق ، لأنه لا يلزم من كون الإسناد أصح من غيره أن يكون المتن المروي به أصح من المتن المروي بالإسناد المرجوح ، لاحتمال انتفاء العلة عن الثاني ووجودها في الأول .

أو كثرة المتابعات وتوافرها على الثاني دون الأول . فلأجل هذا ما خاض الأئمة إلا في الحكم على الإسناد خاصة . وليس الخوض فيه يمتنع ، لأن الرواة قد ضبطوا ، وعرفت أحوالهم وتفاريق مراتبهم ، فأمكن الاطلاع على الترجيح بينهم وسبب الاختلاف في ذلك إنما هو من جهة  أن كل من رجح إسناداً كانت أقوالهم ، لاختلاف اجتهادهم .

وتوضيح هذا أن كثيراً ممن نقل عنه الكلام في ذلك إنما يرجح إسناد أهل بلده ، وذلك لشدة اعتنائه .

فروينا في الجامع للخطيب من طريق أحمد بن سعيد الدارمي قال : سمعت محمود بن غيلان

يقول قيل لوكيع ابن الجراح :

هشام بن عروة يحدث عن أبيه عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ . وأفلح بن حميد عن القاسم عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ . وسفيان عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ . أيهم أحب إليك ؟

قا ل: لا نعدل بأهل بلدنا أحداً .

قال أحمد بن سعيد الدارمي : (( فأما أنا أقول : هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أحب إلى هكذا رأيت أصحابنا يقدمون )) .

ولكن يفيد مجموع ما نقل عنهم في ذلك ترجيح التراجم التي حكموا لها بالأصحية . على ما لم يقع له حكم من أحد منهم .

وللناظر المتقن في ذلك ترجيح بعضها على بعض ولو من حيث رجحان ( حفظ ) الإمام الذي رجح ذلك الإسناد على غيره .

وقد ذكر المسصنف من ذلك خمسة تراجم . ومما لم يذكره قال حجاج بن الشاعر أو غيره . أصح الأسانيد ـ شعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن شيوخه .

2- وقال يحيى بن معين : عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة ، ليس إسناد أثبت من هذا .

3- وقال سليمان بن داود الشاذكوني : أصح الأسانيد : يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ .

4- وقال النسائي : أصح الأسانيد التى تروى أربعة منها ـ غير ما تقدم الزهري عن عبيد الله بن عتبة عن ابن عباس عن عمر ـ رضي الله عنه ـ .

5- وقال ابن معين أيضاً : عبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ ترجمة مشبكة بالدر وفي رواية الذهب .

6- وقال أبو حاتم الرازي  : يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ كأنك تسمعها من في رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ .

7- وكذا رجح أحمد بن حنبل عبيد الله بن عمر عن نافع ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ على مالك وأيوب .

8- وقال ابن المبارك ووكيع ـ كما تقدم ـ والعجلي : (( أرجح الأسانيد وأحسنها : سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .

9- قال : أيوب عن نافع عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ فإن كان من حديث حماد بن زيد عن أيوب فيالك .

قلت : فعلى هذا فقد اختلف اجتهاد أحمد بن حنبل في هذه الترجمة . وكذا رجحها النسائي .

10- نعم ، وأخرج الترمذي عن محمد بن أبان عن وكيع . قال : الأعمش أحفظ لإسناد إ[راهيم من منصور .

11- وقال علي بن المديني : (( من أصح الأسانيد حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه )) .

12- وقال البخاري ـ فيما ذكره الحاكم عنه أيضاً ـ أصح الأسانيد أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه .

13- وروى ابن شاهين في الثقات عن أحمد بن صالح المصري قال : (( ومن أثبت أسانيد أهل المدينية إسماعيل بن أبي حكيم عن عبيدة بن سفيان ـ يعني عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه )) .

14- وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه : (( ليس بالكوفة أصح من هذا الإسناد يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري عن سليمان التيمي عن الحارث بن سويد عن علي ـ رضي الله عنه )) .

وروى عن يحيى بن معين نحوه .

15- وفي الترمذي في الدعوات (( عن سليمان بن داود الهاشمي أنه قال : في حديث الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي ـ رضي الله عنه ـ هذا مثل الزهري عن سالم عن أبيه ، ذكره عقب حديث الافتتاح قبل باب ما يقول في سجود القرآن .

وقال الحاكم أبو عبد الله ـ في معرفة علوم الحديث له : أصح الأسانيد أهل البيت : جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي عن أبيه عن جده عن علي ـ رضي الله عنه ـ إذا كان الراوي عن جعفر ثقة .

وأصح أسانيد الصديق ـ رضي الله عنه : إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن أبي بكر ـ رضي الله عنه .

وأصح أسانيد عائشة ـ رضي الله عنها ـ الزهري عن عروة عنه . وأصح أسانيد أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ مالك عن الزهري عنه .

وأصح أسانيد اليمانيين : معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه . وأصح أسانيد المكيين ـ سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر ـ رضي الله عنه .

وأثبت أسانيد المصريين ـ الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخبر عن عقبة بن عامر رضي الله عنه .

وأثبت أسانيد الشاميين ـ الأوزاعي عن حسان بن عطية عن الصحابة ـ رضي الله عنهم .

وأثبت أسانيد الخراسانيين ـ الحسن بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه ـ رضي الله عنه

قلت : وهذا الذي ذكره الحاكم قد ينازع في بعضه ، ولا سيما في أسانيد أنس ـ رضي الله تعالى عنه .

فإن قتادة وثابتاً البناني أقعد وأسعد بحديثه من الزهري ، ولهما من الرواة جماعة ، فأثبت أصحاب ثابت البناني حماد بن زيد ، وأثبت أصحاب قتادة شعبة وقيل غيره .

وإنما جزمت بشعبة ، لأنه لا يأخذ عن أحد ممن وصف بالتدليس إلا ما صرح فيه ذلك المدلس بسماعه من شيخه .

وقد تقدم النقل عن أحمد بن سعيد الدارمي في ترجيح هشام بن عروة عن أبيه . وكذا قوله في أسانيد أهل الشام فيه نظر . فإن جماعة من أئمتهم رجحوا رواية سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ذر ـ رضي الله عنه . فهذه بقية أقوال الأئمة في أصح الأسانيد .

وذكر البزار في مسنده أن رواية علي بن الحسين بن علي عن سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ أصح إسناد يروى عن سعد ـ رضي الله عنه .

وقال ابن حزم أصح طريق يروى في الدنيا عن عمر ـ رضي الله عنه ـ رواية الزهري عن السائب بن يزيد ـ ضي الله عنه .

فإذا أضيفت إلى ما ذكره المصنف أفادت ترجيح ما نص على أصحيته إذا عارضه ما لم ينص فيه على الأصحية وإن كان صحيحاً .

فإن عارضه من نص ـ أيضاً على أصحيته نظر إل المرجحين فإيمهما كان أرجح بقوله وإلا فيرجع إلى القرائن التي تحف أحد المحدثين فيقدم بها على غيره ـ والله أعلم .

تنبيه

الذي رجح رواية أيوب عن ابن سيرين هو سليمان بن حرب .

تذليل

قال البرديجي : أجمع أهل النقل على صحة حديث الزهري عن سالم عن أبيه ، وعن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ من رواية مالك وابن عيينة ومعمر والزبيدي ما لم ( يختلفوا ) . فإذا اختلفوا توقف فيه .

والذي رجح رواية ابن عون عن ابن سيرين ـ هو ابن المديني وعين الراوي عن أيوب فقال هو حماد بن زيد .

تنبيه

لم يذك المصنف أوهى الأسانيد ، وقد ذكره الحاكم وأظنه حذفه لقلة جدواه بالنسبة إلى مقابلة وسأشير إليه في الكلام على الحديث الموضوع إن شاء الله تعالى .

19- قوله (ص) : (( وبنى الإمام أبو منصور التميمي على ذلك أن أجل الأسانيد رواية الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ واحتج بإجماع أصحاب الحديث على أنه لم يكن في الرواة عن مالك أجل من الشافعي ، انتهى .

وقد اعترض الشيخ علاء الدين مغلطاي على ذلك برواية أبي حنيفة عن مالك وبأن ابن وهب والقعني عند المحدثين أوثق وأتقن من جميع من روى عن مالك ، انتهى .

فأما اعتراضه بأبي حنيفة ، فلا يحسن ، لأن أبا حنيفة لم تثبت روايته عنة مالك وإنما أروده الدار قطني والخطيب في الرواة عنه ، لروايتين وقعت لهما عنه بإسنادين فيما مقال . وهما لم يلتزما في كتابيهما الصحة وعلى تقدير الثبوت فلا يحسن أيضاً ـ الإيراد . لأن من يروي عن رجل حديثاً أو حديثين على سبيل المذاكرة ، لا يفاضل في الرواية عنه بينه وبين من روى عنه ألوفاً .

وقد قال الإمام أحمد : أنه سمع الموطأ من الشافعي عن مالك ـ رضي الله عنه ـ بعد أن كان سمعه من عبد الرحمن بن مهدي .

ولا يشك أحد أ ابن مهدي أعلم بالحديث من ابن وهب والقعني فما أدري من أين له هذا النقل عن المحدثين أن ابن وهب والقعني أثبت أصحاب مالك .

نعم قال بعضهم : إن القعني أثبت الناس في الموطأ هكذا أطلقه على ابن المديني والنسائي وكلاهما محمول على أهل عصره فإنه عاش بعد الشافعي بضع عشرة سنة .

ويحتمل أن يكون تقديمه عند من قدمه باعتبار أنه سمع كثيراً من الموطأ من لفظ مالك بناء على السماع من لفظ الشيخ أتقن من القراءة عليه .

وأما ابن وهب فقد قال غير واحد أنه كان غير جيد التحمل فكيف ينقل هذا الرجل أنه أوثق أو أتقن أصحاب مالك على أنه لا يحسن الإيراد على كلام أبي منصور أصلاً ، لأنه عبر بأجل . ولا يشك أحد أن الشافعي أجل من هؤلاء . ما أجل ما اجتمع له من الصفات العلية الموجبة لتقديمه وهذا لا ينازع فيه إلا جاهل أو متغافل ـ والله الموفق .

وعلى تسليم ما ذكره أبو منصور التميمي فبنى العلامة صلاح الدين العلائي وغيره على ذلك أن أجل الأسانيد رواية أحمد بن حنبل عن الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما .

وقد جمع الحافظ أبو بكر الحازمي في ذكل جزءاً سماه (( سلسلة الذهب )) لكنه في مطلق رواية أحمد عن الشافعي وفيه عدة أحاديث رواها أحمد عن سليمان بن داود الهاشمي عن الشافعي وهو جزء كبير مسموع لنا .

وليس في مسند أحمد على كبره من روايته عن الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ سوى أربعة أحاديث ـ جمعها في موضع واحد وساقها سياق الحديث الواحد . وقد ساقها شيخنا في شرح منظومته .

وجمعتها مع ما يشبهها من رواية أحمد عن الشافعي عن مالك ومع عدم التقييد بنافع في جزء مفرد فما بغلت عشرة ـ والله الموفق .

[ تعذر التصحيح في هذه الأعصار بمجرد اعتبار الأسانيد في نظر ابن الصلاح : ]

20- قوله (ص) : (( لقد تعذر في هذه الأعصار الاستقلال بإدراك الصحيح بنجرد اعتبار الأسانيد ، لأنه ما من إسناد من ذلك إلا وتجد في رجاله من اعتمد في روايته على ما في كتابه عرباً عما يشترط في الصحيح من الحفظ والضبط والاتقان فآل الأمر إذن في معرفة الصحيح والحسن إلى الاعتماد على ما نص عليه أئمة الحديث في تصانيفهم المعتمدة ... إلى آخر كلامه )) .

[ رد الحافظ عل ابن الصلاح : ]

وفيه أمور :

الأمر الأول : قوله : (( عما يشترط في الصحيح من الحفظ )) فيه نظر ، لأن الحفظ لم يعده أحد من أئمة الحديث شرطاً للصحيح وإن كان حكى عن بعض المتقدمين من الفقهاء . كما روينا عن يونس بن عبد الأعلى قال : سمعت أشهب يقول : سئل مالك عن الرجل الغير فهم يخرج كتابه ويقول : هذا سمعته ؟ .

قال : لا يؤخذ إلا عمن يحفظ حديثه أو يعرف .

ورواها الحاكم في (( علوم الحديث )) من طريق ابن عبد الحكم عن أشهب بلفظ آخر ، قال : (( سئل مالك أيؤخذ العلم ممن لا يحفظ حديثه وهو ثقة صحيح )) ؟ . قال : (( لا )) .

قيل : فإن أتى بكتب فقال : سمعتها وهو ثقة .

قال : لا يؤخذ عنه أخاف أن يزاد في حديثه بالليل .

هذا وإن كان صريحاً في أنه لا يؤخذ عمن لا يحفظ ، فإن العمل في القديم والحديث على خلافه ، لا سيما منذ دونت الكتب وقد ذكر المؤلف في (( النوع السادس والعشرين )) أن ذلك من مذاهب أهل التشديد . هذا إن أراد المصنف بالحفظ حفظ ما يحدث به الراوي يعينه ، وإن أراد أن الراوي شرطه أن يعد حافظاً ، فللحافظ في عرف المحدثين شروط إذا اجتمعت في الراوي سموه حافظاً

[ شروط التسمية بالحافظ : ]

1- وهو الشهرة بالطلب والأخذ من أفواه الرجال لا من الصحف .

2- والعرفة بطلبات الرواة ومراتبهم .

3- والمعرفة بالتجريح والتعديل وتمييز الصحيح من السقيم حتى يكون ما يستحضره من ذلك مما لا يستحضره مع استحضار الكثير من المتون .

فهذه شروط إذا اجتمعت في الراوي سموه حافظاً . ولم يجعله أحد من أئمة الحديث شرطاً للحديث الصحيح . نعم والمصنف لما ذكر حد الصحيح لم يتعرض للحفظ أصلاً فما باله يشعر هنا بمشروطيته

ومما يدل على أنه أراد حفظ ما يحديث به بعينه أنه قابل به من اعتمد على ما في كتابه فدل على أنه

يعيب من حدث من كتابه ويصوب من حدث عن ظهر قلبه . والمعروف عن أئمة الحديث

كالإمام أحمد وغيره خلاف ذلك .

الأمر الثاني : أن من اعتمد في روايته على ما في كتابه لا يعاب بل هو وصف أكثر رواة اصليحح من بعد الصحابة وكبار التابعين لأن الرواة الذين للصحيح على قسمين :

(أ) قسم كانوا يعتمدون على حفظ حديثهم ، فكان الواحد منهم يتعاهد حديثه ويكرر عليه فلا يزال مبيناً له ، وسهل ذلك عليهم قرب الإسناد وقلة ما عند الواحد منهم من المتون حتى كان من يحفظ منهم ألف حديث يار إليه بالأصابع . ومن هنا دخل الوهم والغلط على بعضهم لما جبل عليه الإنسان من السهو والنسيان .

(ب) وقسم كانوا يكتبون ما يسمعونه ويحافظون عليه ولا يخرجونه من أيديهم ويحدثون منه . وكان الوهم والغلط في حديثهم أقل من أهل القسم الأول إلا من تساهل منهم .

كمن حدث من غير كتابه ، أو أخرج من يده إلى غيره فزاد فيه ونقص وخفى عليه . فتكلم الأئمة فيمن وقع له ذلك منهم .

وإذا تقرر هذا ، فمن كان عدلاً ، لكنه لا يحفظ حديثه عن ظهر قلب واعتمد على ما في كتابه فحدث منه ، فقد فعل اللازم له وحديثه على هذه الصورة صحيح بلا خلاف . فكيف يكون هذا سبباً لعدم الحكم بالصحة على ما يحدث به . هذا مردود ـ والله سبحانه وتعالى أعلم ـ .

الأمر الثالث : قوله : (( فآل الأمر إلى الاعتماد على ما نص عليه أئمة الحديث في تصانيفهم المعتمد المشتهرة ... إلى آخره فيه نظر ، لأنه يشعر بالاقتصار على ما يوجد منصوصاً على صحته ورد ما جمع شروط الصة إذا لم يوجد النص على صحته من الأئمة المتقدمين .

فيلزم على الأول تصحيح ما ليس بصحيح ، لأن كثيراً من الأحاديث التي صححها المتقدمون اطلع غيرهم من الأئمة فيها على علل تحطها عن رتبة الصحة ولا سيما من كان لا يرى التفرقة بين الصحيح والحسن .

فمن في كتاب ابن خزيمة من حديث محكوم منه بصحته وهو لا يرتقي عن رتبة الحسن . وكذا في كتاب ابن حبان بل وفيما صححه الترمذي من ذلك جملة مع أن الترمذي ممن يفرق بين الصحيح والحسن ، لكنه قد يخفى على الحافظ بعض العلل في الحديث فيحكم ( عليه ) بالصحة بمقتضى ما ظهر له ويطلع عليها غيره فيرد بها الخبر .

وللحاذق الناقد بعدهما الترجيح بين كلاميهما بميزان العدل والعمل بما يقتضيه الانصاف ويعود الحال إلى النظر والتفتيش الذي يحاول المصنف سد بابا ، والله تعالى أعلم .

الأمر الرابع : كلامه يقتضي الحكم بصحة ما نقل عن الأئمة المتقدمين فيما حكموا بصحته في كتبهم المعتمدة المشتهرة .

والطريق التي وصل إلينا بها كلامهم على الحديث بالصحة وغيرها هي الطريق التي وصلت إلينا أحاديثهم .

فإن أفاد الإسناد صحة المقالة عنهم فليفد الصحة بأنهم حدثوا بذلك الحديث ويبقى النظر إنما هو في الرجال الذين فوقهم وأكثرهم رجال الصحيح كما سنقرره .

الأمر الخامس : ما استدل به على تعذر التصحيح في هذه الأعصار المتأخرة بما ذكره من كون الأسانيد ما منها إلا وفيه من لم يبلغ درجة الضبط والحفظ والاتقان ليس بدليل ينهض لصحة ما ادعاه من التعذر ، لأن الكتاب [ المشهور ] الغني بشهرته عن اعتبار الإسناد منا إلى مصنفه : كسنن النسائي مثلاً لا يحتاج في صحة نسبته إلى النسائي إل اعتبار حال رجال الإسناد منا إلى مصنفه .

[ مذهب الحافظ جواز التصحيح وغيره في الأعصار المتأخرة : ]

فإذا روى حديثاً ولم يعلله وجمع إسناده شروط الصحة ولم يطلع المحدث المطلع فيه على علة ـ ما المانع من الحكم بصحته ولو لم ينص على صحته أحد من المتقدمين ، ولا سيما وأكث ما يوجد من هذا القبيل ما رواته رواة الصحيح . هذا لا ينازع فيه من له ذوق في هذا الفن . وكأن المصنف إنما اختاره من ذلك بطريق نظري وهو :

أن المستدرك للحاكم كتاب كبير جداً يصفو له منه صحيح كثير زائد على ما في الصحيحين على ما ذكر المصنف بعد وهو مع حرصه على جمع الصحيح الزائد على الصحيحين واسع الحفظ كثير الاطلاع غزير الرواية ، فيبعد كل البعد أن يوجد حديث بشرط الصحة لم يخرجه في مستدركه

وهذا في الظاهر مقبول ، إلا أنه لا يحسن التعبير عنه بالتعذر ثم الاستدلال على صحة دعوى التعذر بدخول الخلل في رجال الإسناد . فقد بينا أن الخلل ، إذا سلّم إنما هو فيما بيننا وبين المصنفين

أما المصنفين فصاعداً فلا ـ والله الموفق .وأما ما استدل به شيخنا على صحة ما ذهب إليه الشيخ محي الدين من جواز الحكم بالتصحيح لمن تمكن وقويت معرفته ـ بأن من عاصر ابن الصلاح قد خاله فيما ذهب إليه وحكم بالصحة لأحاديث لم يوجد من المتقدمين الحكم بتصحيحها .

( فليس بدليل ينهض ) على رد ما اختار ابن الصلاح ، لأنه مجتهد وهو مجتهدون فكيف ينقص بالاجتهاد . وما أوردناه في نقص دعواه أوضح فيما يظهر ـ والله أعلم ـ .

2- قوله (ع) : (( صحيح المنذري حديثاً في غفران ما تقدم وتأخر )) (( والدمياطي حديثاً في ماء زمزم لما شرب له )) .

فيه نظر : وذلك أن المنذري أورد في الجزء المذكور عدة أحاديث بين ضعفها .

وأورد في أثنائه حديثاً من طريق بحر بن نصر عن ابن وهب عن مالك ويونس عن الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ .

وقال بعده : (( بحر بن نصر ثقة وابن وهب ومن فوقه محتج بهم في الصحيحين )) .

قلت : ولا يلزم في كون رجال الإسناد من رجال الصحيح أن يكون الحديث الوارد به صحيحاً ، لاحتمال أن يكون فيه شذوذ أو علة ، وقد وجد هذا الاحتمال هنا فإنها رواية شاذ وقد بينت بطرقه والكلام عليه في جزء مفرد ولخصته في كتاب بيان المدرج .

وأما الدمياطي فلفظة : هذا على رسم الصحيح لأن سويداً احتج به مسلم وعبد الرحمن بن أبي الموالي احتج به البخاري هذا لفظه .

وليس في حكم على الحديث بالصحة لما قدمناه من أنه لا يلزم من كون الإسناد محتجاً برواته في الصحيح أن يكون الحديث الذي يروى صحيحاً لما يطرأ عليه من العلل .

وقد صرح ابن الصلاح بهذا في مقدمة مسلم فقال : (( من حكم لشخص بمجرد رواية مسلم عنه في صحيحه : بأنه من شرط الصحيح عند مسلم فقد غفل وأخطأ بل ذلك يتوقف على النظر في أنه كيف روي عنه وعلى أي وجه روي عنه )) .

قلت : وذلك موجوداً هنا ، فإن سويد بن سعيد إنما احتج به مسلم فيما توبع عليه لا فيما تفرد به .

وقد اشتد إنكار أبي زرعة الرازي على مسلم في تخريجه لحديثه فاعتذر إليه من ذلك بما ذكرناه من أنه لم يخرج ما تفرد به وكان سويد بن سعيد مستقيم الأمر ، ثم طرأ عليه العمى فتغير وحدث في حال بمناكير كثيرة حتى قال يحيى بن معين : (( لو كان لي فرس ورمح لغزوته )) .

فليس ما ينفرد به على هذا صحيحاً فضلاً عن أن يخالف فيه غيره ، بل قد اختلف عليه هو في هذا الإسناد ، فروى عنه عن ابن المبارك عن عبد الله بن المؤمل على ما هو المشهور .

تنبيه

3- قول شيخنا : (( إن المعروف رواية عبد الله بن المؤمل عن محمد بن المنكدر كمارواه ابن ماجه )) :

وقع منه سبق قلم ، وإنما هو عند ابن ماجه وغيره من طريق ابن المؤمل عن أبي الزبير ـ والله المستعان

[ ... وأخرجه الطبراني في الأوسط عن علي بن سعيد الرازي عن إبراهيم البرانسي عن عبد الرحمن بن المغيرة عنه ] .

[ أول من صنف الصحيح : ]

21- قوله (ص) (( أول من صنف الصحيح البخاري )) انتهى .

اعترض عليه الشيخ علاء الدين مغلطاي فيما قرأت بخطه بأن مالكاً أول من صنف في الصحيح وتلاه أحمد بن حنبل وتلاه الدارمي قال : (( وليس لقائل أن يقول لعله أراد الصحيح المجرد ، فلا يرد كتاب مالك ، لأن يه البلاغ والموقوف والمنقطع والفقه وغير ذلك ، لوجود مثل ذلك في كتاب البخاري )) انتهى .

[ رد العراقي على مغلطاي : ]

4- وقد أجاب شيخنا ـ رضي الله عنه ـ عما يتعلق بالموطأ بما نصه : (( أن مالكاً لم يفرد الصحيح بل أدخل في كتابه المرسل والمنقطع ... )) إلى آخر كلامه . وكأن شيخنا لم يستوف النظر في كلام مغلطاي .

وإلا قوله مقبول بالنسبة إلى ما ذكره في البخاري من الأحاديث المعلقة وبعضها ليس على شرطه . بل وفي بعضها ما لا يصح كما سيأتي التنبيه عليه عند ذكر تقسيم التعليق ، فقد مزج بما ليس منه كما فعل مالك .

[ رد الحافظ على مغلطاي : ]

وكأن مغلطاي خشي أن يجاب عن اعتراضه بما أجاب به شيخنا من التفرقة فبادر إلى الجواب عنه ، لكن الصواب في الجواب عن هذه المسألة أن يقال : ما الذي أراده المؤلف بقوله : أول من صنف الصحيح . هل أراد الصححي من حيث هو ؟ أو أراد الصحيح العهود الذي فرغ من تعريفه ؟

الظاهر أنه لم يرد إلا المعهود . وحينئذ فلا يرد عليه ما ذكره في الموطأ وغيره ، لأن الموطأ وإن كان عند من يرى الاحتجاج بالمرسل والمنقطع وأقوال الصحابة صحيحاً .

فليس ذلك على شرط الصحة المعتبرة عند أهل الحديث والفرق بين ما فيه من المقطوع والمنقطع وبين ما في البخاري من ذلك واضح لأن الذي في الموطأ من ذلك ، هو مسموع لمالك كذلك في الغالب وهو حجة عنده وعند من تبعه .

والذي في البخاري من ذلك قد حذف البخاري أسانيدها عمداً ليخرجها عن موضوع الكتاب ، وإنما يسوقها في تراجم الأبواب تنبيهاً واستشهاداً واستئناساً وتفسيراً لبعض الآيات . وكأنه أراد أن يكون كتابه جامعاً لأبواب الفقه وغير ذلك من المعاني التي قصد ( جمعه فيها ) ، وقد بينت في كتاب تغليق التعليق كثيراً من الأحاديث التي يعلقها البخاري في الصحيح فيحذف إسنادها أو بعضها وتوجد موصولة عنده في موضع آخر من تصانيف التي هي خارج الصحيح .

( والحاصل من هذا أن أول من صنف في الصحيح ) يصدق على مالك باعتبار انتفائه وانتقاده للرجال ، فكتابه أصح من الكتب المصنفة في هذا الفن من أهل عصره وما قاربه كمصنفات سعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة والثوري وابن إسحاق ومعمر وابن جريج وابن المبارك وعبد الرزاق وغيرهم ، ولهذا قال الشافعي : (( ما بعد كتاب الله عز وجل أصح من كتاب مالك )) . فكتابه صحيح عنده وعند من تبعه ممن يحتج بالمرسل والموقوف .

وأما أول من صنف الصحيح المعتبر عند أئمة الحديث الموصوف بالاتصال وغير ذلك من الأوصاف . فأول من جمعه البخاري ثم مسلم كما جزم به ابن الصلاح .

وأما قول القاضي أبي بكر ابن العربي ، ي مقدمة شرح الترمذي : (( والموطأ هو الأصل الأول والبخاري هو الأصل الثاني . وعليهما بنى جميع من بعدهما كمسلم والترمذي وغيرهما .

فإن أراد مجرد السبق إلى التصنيف فهو كذلك ولا يلزم منه مخالفة لما تقدم . وإن أراد الأصل في الصحة فهو كذلك ، لكن على التأويل الذي أولناه .

وأما قول مغلطاي : إن أحمد أفرد الصحيح فقد أجابالشيخ عنه في التنبيه السادس من الكلام على الحديث الحسن .

وأما ما يتعلق بالدامي فتعقبه الشيخ بأن فيه الضعيف والمنقطع ، لكن بقي مطالبة مغلطاي بصحة دعواه بأن جماعة أطلقوا على مسند الدارمي كونه صحيحاً فإني لم أر ذلك في كلامه أحد ممن يعتمد عليه . ثم وجدت بخط مغلطاي أنه رأى بخط الحافظ أبي محمد المنذوري ترجمة كتاب الدارمي بالمسند الصحيح الجامع .

وليس كما زعم فقد وقفت على النسخة التي بخط المنذري وهي أصل سماعنا للكتاب المذكور ، والورقة الأولى منه مع عدة أوراق ليست بخط المنذري بل هو بخط أبي الحسن ابن أبي الحصني وخطه قريب من خط المنذري فاشتبه ذلك على مغلطاي وليس الحصني من أحلاس هذا الفن حتى يحتج بخطه في ذلك كيف ولو أطلق ذلك عليه من يعتمد عليه لكان الواقع يخالفه لما في الكتاب المذكور من الأحاديث الضعيفة والمنقطعة والمقطوعة .

والموطأ في الجملة أنظف أحاديث وأتقن رجالاً منه ومع ذلك كله فلست أسلم أن الرادي صنف كتابه قبل تضعيف البخاري الجامع . لتعاصرهما .

تنبيه

22- قوله (ص) : (( ومنهم من رواه بغير هذا اللفظ )) .

أملى المصنف حاشية على الأصل أنه روى عن الشافعي أنه قال : (( ما بعد كتاب الله تعالى أصح من موطأ مالك )) .

وروينا في جزء أبي بكر محمد بن إبراهيم الصفار من طريق هارون بن سعيد الأيلي قال : سمعت الشافعي يقول : (( ما بعد كتاب الله تعالى أنفع من موطأ مالك )) .

[ تفضيل بعض المغاربة صحيح مسلم على صحيح البخاري : ]

23- قوله (ص) : (( ثم إن كتاب البخاري أصح صحيحاً )) ... الح .

أقول : قد وجدت التصريح بما ذكره المصنف من الاحتمال عن بعض المغاربة فذكر أبو محمد بن القاسم النجيبي في فهرسته عن أبي محمد بن حزم : أنه كان يفضل كتاب مسلم على كتاب البخاري . لأنه ليس فيه بعد خطبته إلا الحديث السردة )) .

وقال القاضي عياض كان أبو مروان الطبني حكى عن بعض شيوخه أنه كان يفضل صحيح مسلم

على صحيح البخاري . انتهى .

قلت : وما فضله بع بعض المغاربة ليس راجعاًإلى الأصحية ، بل هو لأمور :

(أ) أحدها : ما تقدم عن ابن حزم .

(ب) والثاني : أن البخاري كان يرى جواز الرواية بالمعنى وجواز تقطيع الحديث من غير تنصيص على اختصاره بخلاف مسلم والسبب في ذلك أمران :

1- أحدهما : أن البخاري صنف كتابه في طول رحلته ، فقد روينا عنه أنه قال : رب حديث سمعته بالشام فكتبته بمصر ورب حديث سمعته بالبصرة فكتبته بخراسان . فكان ، لأجل هذا ربما كتب الحديث من حفظه فلا يسوق ألفاظه برمته بل يتصرف فيه ويسوقه بمعناه . ومسلم صنف كتابه في بلده بحضور أصوله في حياة كثير من مشايخه ، فكان يتحرز في الألفاظ ويتحرى في السياق .

2- الثاني : أن البخاري استنبط فقه كتابه من أحاديثه فاحتاج أن يقطع المتن الواحد إذا اشتمل على عدة أحكام ليورد كل قطعة منه في الباب الذي يستدل به على ذلك الحكم الذي استنبطه منه ، لأنه لو ساقه في المواضع كلها برمته لطال الكتاب .

ومسلم لم يعتمد ذلك ، بل يسوق أحاديث الباب كلها سرداً عاطفاً بعضها على بعض في موضع واحد ولو كان المتن مشتملاً على عدة أحكام ، فإنه يكره في أمس المواضع وأكثرها دخلاً فيه ويسوق المتون تامة محررة ، فلهذا ترى كثيراً ممن صنف في الأحكام بحدذف الأسانيد ( من المغاربة ) إنما يعتمدون على كتاب مسلم في نقل المتون هذا ما يتعلق بالمغاربةولا يحفظ عن أحد أنه منهم صرح بأن صحيح مسلم أصح من صحيح البخاري فيما يرجع إلى نفس الصحة .

وأما ما قاله أبو علي النيسابوري فلم تجد عنه تصريحاً بأن كتاب مسلم أصح من صحيح البخاري .

وإنما قال : ما حكاه المؤلف من أنه نفى الأصحية على كتاب مسلم ولا يلزم من ذلك أن يكون كتاب مسلم أصح من كتاب البخاري لأن قول القائل : فلان أعلم أهل البلد بفن كذا كقوله : ما في البلد أعلم من فلان بفن كذا ، لأنه  في الأول أثبت له الأعلمية وفي الثاني نفى أن يكون في البلد أحد أعلم منه فيجوز أن يكون فيها من يساويه فيه ، وإذا كان لفظ أبي علي محتملاً لكل من الأمرين فلم نجد ممن اختصر كلام ابن الصلاح فجزم بأن أبا علي قال : صحيح مسلم أصح من صحيح البخاري فقد رأيت هذه العبارة في كلام الشيخ محي الدين النووي والقاضي بدر الدين بن جماعة والشيخ تاج الديت التبريزي وتبعهم جماعة . وفي إطلاق ذلك نظر لما بيناه .

على أني رأيت في كلام الحافظ أبي سعيد العلائي ما يدل على أن أبا علي النيسابوري ما رأى صحيح البخاري . وفي ذلك ، بعد عندي .

أما اعتبار أبي علي بكتاب مسلم فواضح ، لأنه بلديه وقد خرّج هو على كتابه ، لكن قوله في وصفه معارض بقول من هو مثله وأعلم .

فقال الحاكم أبو أحمد النيسابوري وهو عصري أبي علي وأستاذ الحاكم أبي عبد الله ـ أيضاً ـ ما رويناه عنه في كتاب الإرشاد للخليلي بسنده عنه ـ قال : (( رحم الله تعالى محمد بن إسماعيل فإنه ألف الأصول وبين للناس وكل من عمل بعده فإنما أخذه من كتابه كمسلم بن الحجاج فإنه فرق أكثر كتابه في كتابه وتجلد فيه غاية الجلادة حيث لم ينسبه إليه ... )) .

إلى أن قال : فإن عاند الحق معاند فليس يخفى صورة ذلك على أولي الألباب . ويؤيد ما ما رويناه على الحافظ أبي الحسن الدار قطني أنه قال ، في كلام جرى عنده في ذكر الصحيحين : (( وأي شئ صنع مسلم إنما اخذ كتاب البخاري وعمل عليه مستخرجاً وزاد فيه زيادات )) .

وهذا المحكي عن الدار قطني جزم به أبو العباس القرطبي في أول كتابه (( المفهم في شرح صحيح مسلم )) .

وقال أبو عبد الرحمن النسائي وهو من مشايخ أبي علي النيسابوري : (( ما في هذه الكتب كلها أجود من كتاب محمد بن إسماعيل )) .

ونقل كلام الأئمة في تفضيل كتاب البخاري يكثر . ويكفي من ذلك اتفاقهم على أنه كان أعلم بالفن من مسلم . وأن مسلماً كان يتعلم منه ويشهد له بالتقدم والتفرد بمعرفة ذلك في عصره . فهذا من حيث الجملة .

وأما من حيث التفضيل فيترجح كتاب البخاري على كتاب مسلم فإن الإسناد الصحيح مداره على اتصاله وعدالة الرواة كما بيناه غير مرة وكتاب البخاري أعدل رواة وأشد اتصالاً من كتاب مسلم والدليل على ذلك من أوجه :

1- أحدها : أن الذين انفرد البخاري بالإخراج لهم دون مسلم أربعمائة وخمسة وثلاثون رجلاً . المتكلم فيهم بالضعف منهم ( نحو من ثمانين رجلاً )) .

والذين انفرد مسلم بإخراج حديثهم دون البخاري ستمائة وعشرون رجلاً . المتكلم فيهم بالضعف منهم مائة وستون رجلاً على الضعف من كتاب البخاري . ولا شك أن التخريج عن من لم يتكلم فيه أصلاً من التخريج عن من تكلم فيه ولو كان ذلك غير سديد .

2- الوجه الثاني : أن الذين انفرد بهم البخاري ممن تكلم فيه لم يكن يكثر من تخريج أحاديثهم وليس لواحد منهم نسخة كبيرة أخرجها أو أكثرها إلا نسخة عكرمة عن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ .

بخلاف مسلم فإنه يخرج أكثر تلك النسخ التي رواها عمن تكلم فيه كأبي الزير عن جابر ـ رضي الله تعالى عنه ـوسهيل عن أبيه عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ وحماد بن سلمة عن ثابت عن أنس ـ رضي الله تعالى عنه ـ  والعلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ونحوهم .

3- الوجه الثالث : أن الين انفرد بهم البخاري ممن تكلم فيه أكثرهم من شيوخه الذين لقيهم وعرف أحوالهم واطلع على أحاديثهم فميز جيد من رديها بخلاف مسلم ، فإن أكثر من تفرد بتخريج حديثه ممن تكلم فيه من المتقدمين ، وقد أخرج أكثر نسخهم كما قدمنا ذكره .

ولا شك أن المرء أشد معرفة بحديث شيوخه وبصحيح حديثهم من ضعيفه ممن تقدم عن عصرهم .

4- الوجه الرابع : أن أكثر هؤلاء الرجال الذين تكلم فيهم من المتقدمين يخرج البخاري أحاديثهم غالباً في الاستشهادات ، والمتابعات والتعليقات بخلاف مسلم ، فإنه يخرج لهم الكثير في الأصول والاحتجاج ولا يعرج البخاري في الغالب على من أخرج لهم مسلم في المتابعات ( فأكثر من يخرج لهم البخاري في المتابعات يحتج بهم مسلم وأكثر من يخرج لهم مسلم في المتابعات لا يعرج عليهم البخاري . فهاذ وجه من وجوه الترجيح ظاهر . والأوجه الأربعة المتقدمة كلها تتعلق بعدالة الرواة .

وبقي ما يتعلق بالاتصال : وهو الوجه الخامس :

وهو أن مسلماً كان مذهبه بل نقل الإجماع في أول صحيحه أن الإسناد المعنعن له حكم الاتصال إذا تعاصر المعنعن والمعنعن عنه وإن لم يثبت اجتماعهما .

والبخاري لا يحمله على الاتصال حتى يثبت اجتماعهما ولو مرة واحدة . وقد أظهر البخاري هذا المذهب في التأريخ وجرى عليه في الصحيح وهو مما يرجح به كتابه ، لأنا وإن سلمنا ما ذكره مسلم من الحكم بالاتصال فلا يخفى أن شرط البخاري أوضح في الاتصال .

وبهذا يتبين أن شرطه في كتابه أقوى اتصالاً وأشد تحرياً ـ والله أعلم ـ .

24- قوله (ص) : (( ثم إن الزيادة في الصحيح على ما في الكتابين يتلقاها طالبها مما اشتمل طالبها عليه أحد المصنفات المعتمدة ... )) إلى أن قال : (( ويكفي مجرد كونها في كتب من اشترط الصحيح فيما جمعه كابن خزمية ، وكذلك ما يوجد في الكتب المخرجة على الصحيحين : ككتاب أبي عوانة )) ، انتهى .

ومقتضى هذا أن يؤخذ ما يوجد في كتاب ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما ممن اشترط الصحيح ـ بالتسليم وكذا ما يوجد في الكتب المخرجة على الصحيحين وفي كل ذلك نظر .

أما الأول : فلم يلتزم ابن خزيمة وابن حبانن في كتابيهما أن يخرجا الصحيح الذي اجتمعت فيه الشروط التي ذكرها المؤلف ، لأنهما ممن لا يرى التفرقة بين الصحيح والحسن ، بل عندهما أن الحسن قسم من الصحيح لا قسيمه . وقد صرح ابن حبان بشرطه .

وحاصله : أن يكن راوي الحديث عدلاً مشهوراً بالطلب غير مدلس سمع ممن فوقه إلى أن ينتهي .

فإن كان يروي من حفظه فليكن عالماً بما يحيل المعاني فلم يشترط على الاتصال والعدالة ما اشترطه

المؤلف في الصحيح من وجود الضبط ومن عدم الشذوذ والعلة . وهذا وإن لم يتعرض ابن حبان

لاشتراطه فهو إن وجده كذلك أخرجه وإلا فهو ماش على ما أصل ، لأن وجود هذه الشروط لا

ينافي ما اشترطه .

وسمى ابن خزيمة كتابه (( المسند الصحيح المتصل بنقل العدل عن العدل من غير قطع في السند ولا جرح في النقلة )) .

وهذا الشرط مثل شرط ابن حبان سواء ، لأن ابن حبان تابع لابن خزيمة مغترف من بحره على منواله

ومما يعضد ما ذكرنا احتجاج ابن خزيمة وابن حبان بأحاديث أهل الطبقة الثانية الذين يخرج مسلم أحاديثهم في المتابعات كابن إسحاق وأسامة بن زيد الليثي ومحمد بن عجلان ومحمد بن عمرو بن علقمة وغير هؤلاء .

فإذا تقرر ذلك عرفت أن حكم الأحاديث التي في كتاب ابن خزيمة وابن حبان صلاحية الاحتجاج بها لكونها دائرة بين الصحيح والحسن ما لم يظهر في بعضها علة فادحة .

وأما أن يكون مراد من يسميها صحيحة أنها جمعت الشروط المذكورة في حد الصحيح فلا ـ والله أعلم ـ .

وأما الثاني : وهو ما يتعلق بالمستخرجات ففيه نظر ـ أيضاً ـ لأن كتاب أبي عوانة وإن سماه بعضهم مشتخرجاً على مسلم فإن له فيه أحاديث كثيرة مستقلة في أثناء الأبواب ( نبه هو على كثير منها ، ويوجد فيها الصحيح والحسن والضعيف ـ أيضاً ـ والموقوف ) .

وأما كتاب الإسماعيلي فليس فيه أحاديث زائدة وإنما تحصل الزيادة في أثناء بعض المتون ، والحكم بصحتها متوقف على أحوال رواتها . فرب حديث أخرجه البخاري من طريق بعض أصحاب الزهري عنه ـ مثلاً ـ فاستخرجه الإسماعيلي وساقه من طريق آخر من أصحاب الزهري بزيادة فيه وذلك الآخر ممن تكلم فيه فلا يحتج بزيادته .

وقد ذكر المؤلف ـ بعد ، أن أصحاب المستخرجات لم يلتزموا موافقة الشيخين في ألفاظ الحديث بعينها .

والسبب فيه أنهم أخرجوها من غير جهة البخاري ومسلم فحينئذ يتوقف الحكم بصحة الزيادة على ثبوت الصفات المشترطة في الصحيح للرواة الذين بين صاحب المستخرج وبين من اجتمع مع صاحب الأصل الذي استخرج عليه وكلما كثرت الرواة بينه وبين من اجتمع مع صاحب الأصل فيه افتقر إلى زيادة التنقير وكذا كلما بعد عصر المستخرج من عصر صاحب الأصل كان الإسناد كلما كثرت رجاله احتاج الناقد له إلى كثرة البحث عن أحوالهم . فإذا روى البخاري ـ مثلاً ـ عن علي بن المديني عن سفيان بن عيينة عن الزهري حديثاً ورواه الإسماعيلي ـ مثلاً ـ عن بعض مشايخه عن الحكم بن موسى عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن الزهري واشتمل حديث الأوزاعي على زيادة على حديث ابن عيينة ، وسماع الأوزاعي من الزهري ، لأن الوليد بن مسلم من المدلسين على

شيوخه وعلى شيوخ شيوخه .

وكذا يتوقف على ثبوت صفات الصحيح لشيخ الإسماعيلي وقس على هذا جميع ما في المستخرج . وكذا الحكم في باقي المستخرجات . فقد رأيت بعضهم حيث يجد أصل الحديث اكتفى بإخراجه ولو لم تجتمع الشروط في رواته .

بل رأيت في مستخرج أبي نعيم وغيره عن جماعة من الضعفاء لأن أصل مقصودهم بهذه المستخرجات أن يعلو إسنادهم ولم يقصدوا إخراج هذه الزيادات وإنما وقعت اتفاقاً ـ والله أعلم . ومن هنا يتبين أن المذهب الذي اختاره المؤلف من سد باب النظر عن التصحيح غير مرضي ، لأنه منع الحكم بتصحيح الأسانيد التي جمعت شروط الصحة فأداه ذلك إلى الحكم بتصحيح ما ليس بصحيح ، فكان الأولى ترك باب النظر والنقد مفتوحاً ، ليحكم على كل حديث بما يليق به ـ والله الموفق .

[ ادعاء العراقي تفاوت العدد روايات البخاري : ]

5- قوله ع : (( والمراد بهذا العدد يعني عدد أحاديث صحيح البخاري رواية محمد بن يوسف الفربري فأما رواية حماد بن شاكر فهي دونها بمائتي حديث ، وأنقص الروايات رواية إبراهيم بن معقل النسفي ، فإنها تنقص عن رواية الفربري ثلاثمائة حديث )) انتهى .

وظاهر هذا أن النقص في هاتين الروايتين وقع من أصل التصنيف أو مفرقاً من أثنائه ، لأنه اعترض على بن الصلاح في إطلاقه هذه العدة من غير تمييز قاعدة .

[ رد الحافظ على العراقي ادعاءه : ]

وليس كذلك بل كتاب البخاري في جميع الروايات في العدد سواء . وإنما حصل الاشتباه من جهة أن حماد بن شاكر وإبراهيم بن معقل لما سمعا الصحيح على البخاري فإنهما من أواخر الكتاب شئ ، فرواياه بالإجازة عنه .

وقد نبه على ذلك الحافظ أبو الفضل ابن ظاهر وكذا نبه الحافظ أبو علي الجياني في كتاب تقييد المهمل ، على ما تيعلق بإبراهيم بن معقل فروى بسنده إليه قال :

(( وأما من أول كتاب الأحكام إلى آخر الكتاب فأجازه لي البخاري )) . قال أبو علي الجياني : (( وكذا فإنه من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ في قصة الإفك في باب قوله تبارك وتعالى : ( يريدون أن يبدلوا كلام الله ) إلى آخر الباب )) .

وأما حماد بن شاكر ـ ففاته من أثناء كتابى الأحكام إلى آخر الكتاب فتبين أن النقص في رواية حماد بن شاكر وإبراهيم بن معقل إنما حصل من طريان الفوت لا من أصل التصنيف . فظهر أن العدة في الروايات كلها سواء .وغايته أن الكتاب جميعه عن الفربري بالسماع . وعند هذين بعضه بسماع وبعضه بإجازة . والعدة عند الجميع في أصل التصنيف سواء . فلا اعتراض على ابن الصلاح في شئ مما أطلقه ـ والله أعلم ـ .

6- قوله ع : (( ولم يذكر عدة كتاب مسلم بالمكرر وهو يزيد على عدة كتاب البخاري بكثرة طرق )) ، انتهى .

وذكر الشيخ في شرح الألفية عن أحمد بن سلمة أن عدة كتاب مسلم بالمكرر اثنا عشر ألف حديث

وعن الشيخ محي الدين النووي أن عدته بغير المكرر نحو أربعة الآف قلت : وعندي في هذا نظر . وإنما لم يتعرض المؤلف لذلك ، لأنه لم يقصد ذكر عدة ما في البخاري حتى يستدرك عليه عدة ما في كتاب مسلم ، بل السبب في ذكر المؤلف لعدة ما في البخاري أنه جعله من جملة البحث في أن الصحيح الذي ليس في الصحيحين غير قليل خلافاً لقول ابن الأخرم .

لأن المؤلف رتب بحثه على مقدمتين :

(أ) إحداهما : أن البخاري قا ل: أحفظ مائة ألف حديث صحيح )) .

(ب) والأخرى : أن جملة ما في كتابه بالمكرر سبعى الآف ومائتان وخمسة وسبعون حديثاً . فينتج أن الذي لم يخرجه البخاري من الصحيح أكثر مما أخرجه .

والجواب عن هذا حاصل عند المؤلف من قوله :

(( إنهم يطلقون هذه العبارة على الموقوفات والمقطوعات والمكررات فباعتبار ذلك يمكن صحة دعوى ابن الأخرم .

ويزيد ذلك وضوحاً أنا الحافظ أبا بكر محمد بن عبد الله الشيباني المعروف بالجوزقي ذكر في كتابه المسمى بالمتفق أنه استخرج على جميع ما في الصحيحين حديثاً حديثاً . فكان مجموع ذلك خمسة وعشرين ألف طريق وأربعمائة وثمانين طريقاً فإذا كان الشيخان مع ضيق شرطهما بلغ جماة ما في كتابيهما بالمكرر هذا القدر ، فما لم يخرجاه من الطرق للمتون التي أخرجاها لعله يبلغ هذا القدر ـ أيضاً ـ أو يزيد وما لم يخرجاه من المتون من الصحيح الذي لم يبلغ شرطهما لعله يبلغ هذا القدر ـ أيضاً ـ أو يقرب منه ، فإذا انضاف إلى ذلك ما جاء من الصحابة والتابعين تمت العدة التي ذكر البخاري أنه يحفظها بل ربما زادت على ذلك فصحت دعوى ابن الأخرم :

أن الذي يفوتهما من الحديث الصحيح قليل ( يعني مما يبلغ شرطهما ) بالنسبة إلى ما خرجاه ـ والله أعلم .

وأما قول النووي :

(( لم يفت الخمسة إلا القليل )) . فمراده من أحاديث الأحكام خاصة أما غير الأحكام فليس بقليل .

ومما يتعلق بالفائدة التي ذكرها الشيخ وهو عدة كتاب مسلم المكرر ما ذكر الجوزقي ـ أيضاً ـ في المتفق . أن جملة ما اتفق الشيخان على إخراجه من المتون في كتابيهما ألفان وثلاثمائة وستة وعشرون حديثاً .

فعلى هذا جملة ما في الصحيحين خمسة الآف حديث وستمائة حديث وخمسون حديثاً تقريباً [ هذا ] على مذهب الجوزقي ، لأنع بعد المتن إذا اتفقا على إخراجه ولو من حديث صحابيين حديثاً واحداً ، كما : إذا أخرج البخاري المتن من طريق أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ وخرجه مسلم من طريق أنس ـ رضي الله عنه ـ وهذا غير جار على اصطلاح جمهور المحدثين ، لأنهم لا يطلقون الاتفاق إلا على ما اتفقا على إخراج إسناده ومتنه معاً . وعلى هذا فتنقص العدة كما ذكر الجوزقي قليلاً ويزيد عدد الصحيحين في الجملة فلعله : يقرب من سبعة الآف بلا تكرير ـ والله أعلم ـ .

وهذه الجملة تشتمل على الأحكام الشرعية وغيرها من ذكر الأخبار عن الأحوال الماضية من بدء الخلق وصفة المخلوقات وقصص الأنبياء والأمم وسياق المغازي والمناقب والفضائل والأخبار عن الأحوال الآتية من الفتن والملاحم وأشراط الساعة والبرزخ والبعث وصفة النار وصفة الجنة وغير ذلك من هذا قد يدخل في الأحكام . وكثير منه لا يدخل فيها .

فأما ما يتعلق بالأحكام خاصة . فقد ذكر أبو جعفر محمد بن الحسين البغدادي في كتاب التمييز له عن الثوري وشبة ويحيى بن سعيد القطان وابن مهدي وأحمد بن حنبل : وغيرهم أن جملة الأحاديث المسندة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ( يعني الصحيحة بلا تكرير ) أربعة الآف وأربعمائة حديث .

وعن إسحاق بن راهوية أنه سبعة الآف ونيف .

وقال أحمد بن حنبل : وسمعت ابن مهدي يقول : الحلال والحرام من ذلك ثمانمائة حديث . وكذا قال إسحاق بن راهوية عن سعيد عن يحيى بن سعيد .

( وذكر القاضي أبو بكر ابن العربي ) أن الذي في الصحيحين من أحاديث الأحكام نحو ألفي حديث وقال أبو داود السجستاني عن ابن المبارك : تسعمائة ومرادهم بهذه العدة ما جاء عن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ من أقواله الصريحة في الحلال والحرام ـ والله أعلم .

وقال كل منهم بحسبي ما يصل إليه . ولهذا اختلفوا .

[ زعم العراقي أن الحميدي لم يذكر اصطلاحاً في الزيادات : ]

7- قوله ع : (( والزيادات الموجودة في كتاب الحميدي ليست في واحد من الكتابين ، ولم يروها الحميدي بإسناده فيكون حكمها حكم المستخرجات ولا أظهر لنا اصطلاحاً في زوائد التزم فيها الصحة فيقلد فيها )) ، انتهى .

وقد اعتمد شيخنا ـ رحمه الله تعالى ـ هذا في منظومته فقال : وليت إذ واد الحميدي ميزا .

وشرح ذلك بمعنى الذي ذكره هنا أن الحميدي لم يميز الزيادات التي زادها في الجمع ولا اصطلح على أنه لا يزيد إلا ما صح فيقلد في ذلك . وكان شيخنا ـ رضي الله عنه ـ قلد في هذا غيره وإلا فلو راجع كتاب الجمع بين الصحيحين لرأى في خطبته ما دل على ذكرع لاصطلاحه في هذه الزيادات وغيرها .

ولو تأمل المواضع الزائدة لرآها معزوة إلى من زادها من أصحاب المستخرجات وتبعه على ذلك الشيخ سراج الدين النحوي ، فألحق في كتابه (( المقنع )) ما صورته : (( هذه الزيادات ليس لها حكم الصحيح ، لأنه ما رواها بسنده كالمستخرج ولا ذكر أنه يزيد ألفاظاً واشترط فيها الصحة حتى يقلد في ذلك )) .

وقال شيخ شيخ الإسلام أبو حفص البلقيني في (( محاسن الاصطرح )) في هذا الموضع ما صورته : وفي (( الجمع بين الصحيحين )) للحميدي تتمات لا وجود لها في الصحيحين ، وهو كما قال ابن الصلاح . إلا أنه كان ينبغي التنبيه على حكم تلك التتمات لتكمل الفائدة .

والدليل على ما ذهبنا إليه من أن الحميدي أظهر اصطلاحه لما يتعلق بهذه الزيادات موجود في خطبة كتابه إذ قال في أثناء المقدمة ما نصه : (( وربما أضفنا إلى ذلك نبذاً مما بنهنا له من كتب أبي الحسن الدار قطني ، وأبي بكر الإسماعيلي وأبي الخوارزمي ( يعني البرقاني ) وأبي مسعود الدمشقي وغيرهم من الحفاظ الذين عنوا بالصحيح مما يتعلق بالكتابين من تنبيه على غرض أو تتميم لمحذوف أو زيادة من شرح أو بيان لاسم ونسب أو كلام على إسناد أو تتبع لوهم .

فقوله : (( تتميم لمحذوف أو زيادة هو غرضنا هنا وهو يختص بكتابي الإسماعيلي والبرقاني ، لأنهما استخرجا على البخاري . واستخرج البرقاني على مسلم .

وقوله : (( من تنبيه على غرض أو كلام على إسناد أو تتبع لوهم أو بيان لاسم أو نسب )) ، يختص بكتابي الدار قطني وأبي مسعود . داك في (( كتاب التتبع )) وهذا في (( كتاب الأطراف )) .

وقوله : (( مما يتعلق بالكتابين )) . احترز به عن تصانيفهم التي لا تتعلق بالصحيحين ، فإنه لم ينقل منها شيئاً هنا .

فهذا الحميدي قد أظهر اصطلاحه في خطبة كتابه . ثم أنه فيما تتبعته من كتابه إذا ذكر الزيادة في المتن يعزوها لمن زادها من أصحاب المستخرجات وغيرها فإن عزاها لمن استخرج أقرها وإن عزاها لمن لم يستخرج اعقبها غالباً ، لكنه تارة يسوق الحديث من الكتابين أو من أحدهما ثم يقول : مثلاً : زاد فيه فلان كذا .

وهذا لا إشكال فيه وتارة يسوق الحديث والزيادة جميعاً في نسق واحد ثم يقول في عقبه مثلاً : اقتصر منه البخاري على كذا وزاد فيه الإسماعيلي كذا وهذا يشكل على الناظر غير المميز ، لأنه إذا نقل منه حديثاً برمته وأغفل كلامه بعده وقع في المحذور الذي حذر منه ابن الصلاح ، لأنه حينئذ يعزو إلى أحد الصحيحين ما ليس فيه هذا الحامل لابن الصلاح على الاستثناء المذكور . حيث قال عن الحميدي ... إلى آخره .

1- فمن أمثلة ذلك : أنه قال في مسند العشرة في حديث طارق بن شهاب عن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ في قصة وفد بزاخة من أسد وغطفان وأن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ خيرهم بين الحرب المجلية والسلم المخزية ـ فساق الحديث بطوله وقال في آخره : (( اختصره البخاري فأخرج طرفاً منه )) . وأخرجه بطوله أبو بكر البرقاني .

2- ومن ذلك : قوله في مسند أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ عن أبي صالح عن أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : (( مثلي ومثل النبيين كمثل رجل بنى داراً وأتمها إلا لبنة قال فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة )) .

قال الحميدي : أحال به مسلم على حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ في هذا المعنى ولم يسبق من حديث أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ إلا قوله : مثلي ومثل النبيين ثم قال ؛ فذكر نحوه .

قال الحميدي : وحديث أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ الذي أحال عليه أزيد لفظاً وأتم معنى ، ومتن حديث أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ هو الذي أوردناه بينه أبو بكر البرقاني .

3- ومنها : ما ذكره في مسند عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ في إفراد البخاري عن هزيل عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : (( إن أهل الإسلام لا يسيبون وإن أهل الجاهلية كانول يسيبون )) .

قال الحميدي : (( اختصره البخاري ولم يزد على هذا )) . وأخرجه بطوله أبو بكر البرقاني من تلك الطرق عن هزيل قال : جاء رجل إلى عبد الله ـ رضي الله عنه ـ فقال : إني أعتقت عبداً لي سائبة فمات وترك مالاً ولم يدع وارثاً . فقال عبد الله ـ رضي الله عنه ـ : إن أهل الإسلام لا يسيبون كأهل الجاهلية ، فإنهم كانوا يسيبون ، فأنت ولي نعمته ولك ميراثه ، فإن تأثمت أو تحرجت في شئ فنحن نقبله ونجعله في بيت المال .

4- ومنها ما ذكره في مسند أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال : الحديث الحادي والثلاثون ( يعني من أفراد البخاري ) عن أبي سعيد المقبري كيسان عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : (( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه )) .

قال الحميدي : أخرجه أبو بكر البرقاني في كتابه من حديث أحمد بن يونس عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبيه وهو الذي أخرجه البخاري من طريقه فزاد فيه والجهل بعد قوله والعمل به )) ، انتهى .

فانظر كيف لم يسامح بزيادة لفظة واحدة في المتن حتى بينها وأوضح أنها مخرجة من الطريق التي

أخرجها البخاري . فمن يفصل هذا التفصيل كيف يظن به أنه لا يميز بين ألفاظ الصحيحين اللذين جمعهما وبين الألفاظ المزيدة في رواية غيرهما .

5- ومنها : ما ذكره في مسند عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في أفراد البخاري عن أبي السفر بن يحمد قال : سمعت ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ يقول : يا أيها الناس اسمعوا مني ما أقول واسمعوني ما تقولون ولا تذهبوا فتقولوا : قال ابن عباس : من طاف بالبيت ، فليطف من وراء الحجر ولا تقولوا الحطيم ، لإإن الرجل في الجاهلية كان يحلف فيلقي سوطه أو نعله أو قوسه لم يزد ( يعني البخاري ) .

وزاد البرقاني في الحديث بالإسناد المخرج به : (( وأيما صبي حج به أهله فقد قضت حجته عنه ما دام صغيراً فإذا بلغ فعليه حجة أخرى .

وأيما عبد حج به أهله ، فقد قضت [ حجته ] عنه ما دام عبداً فإذا أعتق فعليه حجة أخرى .

ومن المواضع التي تعقبها على غير أصحاب المستخرجات ما حكاه في مسند جابر عن أبي مسعود الدمشقي أنه قال ـ في الأطراف : حديث أبي خيثمة زهير بن معاوية عن أبي الزبير عن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال : جاء سراقة فقال : يا رسول الله ! بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن . أرأيت عمرتنا هذه لعامنا أو للأبد ؟ قال رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : (( بل للأبد )) .

قالوا يا رسول الله ! فبين لنا ديننا كأن خلقنا الآن فيم العمل اليوم ... ؟ الحديث .

قال أبو مسعود : رواه مسلم عن أحمد ( يعني ابن يونس ) ويحيى ( يعني ابن يحيى ) يعني كلاهما عن زهير .

قال الحميدي : كذا قال أبو مسعود : والحديث عند مسلم في القدر ، كما قال عن أحمد ويحيى ، وليس فيه هذه القصة التي في العمرة .

قال الحميدي : والحديث في الأصل أطول من هذا ، وإنما أخرج مسلم منه ما أراد وحذف الباقي .

وقد أورده بطوله أبو بكر البرقاني في كتابه بالإسناد من حديث زهير ثم ساقه الحميدي من عند البرقاني بتمامه . وهذا غاية في التمييز والتبيين والتحري .

6- ونظير هذا سواء . قال أبو مسعود ـ أيضاً ـ في ترجمة قرة بن خالد عن أبي الزبير عن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : (( من لقي الله تعالى لا يشرك به شيئاً دخل الجنة ومن لقيه يشرك به دخل النار )) .

قال : ودعا رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بصحيفة عند موته ، فأراد أن يكتب لهم كتاباً لا يضلوا بعده ، فكثر اللغط وتكلم عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ فرفضها رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم .

قال الحميدي : من قوله : ودعارسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إلى آخره ليس عند

مسلم وهو في الحديث أخرجه بطوله البرقاني من حديث قرة ولكن مسلماً اقتصر على ما أراد منه .

7- ومن ذلك : ما ذكره في حديث ابن عباس عن علي ـ رضي الله عنهم ـ قا ل: نهاني رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ عن القراءة في الركوع والسجود قال : وزاد في الأطراف في رواية ابن عباس عن علي ـ رضي الله عنهم ـ النهي عن : خاتم الذهب وليس ذلك عندنا في أصل كتاب مسلم .

قال الحميدي : ولعله قد وجد في نسخة أخرى .

8- وقال في مسند أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ في الحديث الثالث عن أنس بن مالك عن أبي هريرة ـ رضي الله عنهما ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قال : قال الله عز وجل : إذا تقرب عبداً مني شبراً تقربت منه ذراعاً وإذا تقرب مني ذراعاً منه باعاً وإذا أتاني يمشي أتيه هروله لفظ حديث مسلم ، زاد أبو مسعود ـ رضي الله عنه ـ : (( وإن هرول سعيت إليه والله تعالى أسرع بالمغفرة )) .

قال الحميدي : لم أر هذه الزيادة في الكتابين .

قلت : والزيادة المذكور تفرد بها محمد عن أبي السري العسقلاني ولم بخرجا له . وقد بينت في تعليق التعليق .

فهذه الأمثلة توضح أن الحميدي بميز الزيادات التي يزيدها هو أو غيره خلافاً لمن نفى ذلك ، والله أعلم .

وقد قرأت في كتاب ( الحافظ أبي سعيد ) العلائي في علوم الحديث له قال ـ لما ذكر المستخرجات ـ : ومنها المستخرج على البخاري للإسماعيلي . والمستخرج على الصحيحين للبرقاني وهو مشتمل على زيادات كثيرة في تضاعيف متون الأحاديث وهي التي ذكرها الحميدي في الجمع بين الصحيحين منبهاً عليها . هذا لفظه بحروفه وهو عين المدعي ـ ولله الحمد .

25- قوله (ص) : (( فليس لك أن تنقل حديثاً منها وتقول : هو على هذا الوجه في كتاب البخاري ومسلم إلا أن تقابل لفظه أو يكون الذي أخرجه قد قال : أخرجه البخاري )) بهذا اللفظ .

قلت : محصل هذا أن مخرج الحديث إذا نسبه إل تخريج بعض المصنفين فلا يخلو : إما أن يصرح بالمرادفة أو بالمساواة أو لا يصرح : إن صرح فذاك وإن لم يصرح كان على الاحتمال . فإذا كان على الاحتمال فليس لأحد أن ينقل الحديث منها . ويقول : هو على هذا الوجه فيهما ، لكن هل له أن ينقل منه ويطلق كما أطلق ؟ هذا محل بحث وتأمل .

فائدة

استنكر ابن دقيق العيد عزو المصنفين على أبواب الأحكام الأحاديث إلى تخريج البخاري ومسلم مع

تفاوت المعنى . لأن من شأن من هذه حاله أن يستدل على صحة ما بوب فإذا ساق الحديث بإسناده ثم عزاه لتخريج أحدهما أوهم الناظر فيه أنه عند صاحب الصحيح كذلك ، ولو كان ما أخرجه صاحب الصحيح لا يدل على مقصود التبويب فيكون فيه تلبيس غير لائق ثم أن فيه ( مفسدة أيضاً ) من جهة أخرى وهو احتمال أن يكون في إسناد صاحب المستخرج من لا يحتج به كما بيناه غير مرة ، فإذا ظن الظان أن صاحب الصحيح أخرجه بلفظه قطع نظره عن البحث عن أحوال رواته اعتماداً على صاحب الصحيح ، والحال أن صاحب الصحيح لم يخرج ذلك فيوهم فاعل ذلك ما ليس بصحيح صحيحاً هذا معنى كلامه .

ثم قال : ولا ينكر هذا على من صنف على غير الأبواب كأصحاب المعاجم والمشيخات ، فإن مقصودهم أصل الإسناد لا الاستدلال بألفاظ المتون ـ والله أعلم .

26- قوله (ص) : (( بخلاف الكتب المختصرة من الصحيحين ، فإن منفيها نقلوا فيها ألفاظ الصحيحين أو أحدهما )) .

محصلة أن اللفظ إن كان متفقاً فذاك وإن كان مختلفاً يحكيه على وجهه وتارة يقتصر على لفظ أحدهما . ويبقى ما إذا كان كل منهما أخرج من الحديث جملة ولم يخرجها الآخر فهل للمختصر أن يسوق الحديث مساقاً واحداً وينسبه إليهما ويطلق ذلك أو عليه أن يبين ؟ هذا محل تأمل ، ولا يخفى الجواز وقد فعله غير واحد ـ والله أعلم ـ .

27- قوله (ص) يف ذكر المستدرك للحاكم : (( وهو واسع الخطو في شرط الصحيح متساهل في القضاء به فالأولى أن نتوسط في أمره ... )) إلى آخر كلامه .

[ زعم الماليني أنه ليس في المستدرك حديث على شرط الشخين : ]

أقول : حكى الحافظ أبو عبد الله الذهبي عن أبي سعد الماليني أنه قال : (( طالعت المستدرك على الشيخين الذي صنفه الحاكم من أوله إلى آخره فلم أر فيه حديثاً على شرطهما )) .

وقرأت بخط بعض الأئمة أنه رأى بخط عبد الله بن زيادن المسكي قال : أملى على الحافظ أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي سنة خمس وتسعين وخمسمائة قال : (( نظرت إلى  وقت إملائي عليك هذا الكلام فلم أجد حديثاً على شرط البخاري ومسلم لم يخرجاه إلا أحاديث :

1- حديث أنس (( يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة )) .

2- وحديث الحجاج بن علاط لما أسلم .

3- وحديث علي ـ رضي الله عنه ـ (( لا يؤمن العبد حتى يؤمن بأربع )) ، انتهى .

وتعقب الذهبي قول الماليني فقال : هذا غلو وإسراف وإلا ففي المستدرك جملة وافرة على شرطهما وجملة كثيرة على شرط أحدهما وهو قدر النصف . وفيه نحو الربع مما صح مسنده أو حسن . وفيه بعض العلل . وباقيه مناكير وفي بعضها موضوعات قد ألإردتها في جزء  انتهى كلامه .

وهو كلام مجمل يحتاج إلى أيضاح وتبيين . من الإيضاح أنه ليس أنه جميعه كما قال ، فنقول :

(أ) ينقسم المستدرك أقساماً كل قسم منها يمكن تقسيمه :

1- الأول : أن يكون إسناد الحديث الذي يخرجه محتجاً برواته في الصحيحين أو أحدهما على صورة الاجتماع سالماً من العلل واحترزنا بقولنا على صورة الاجتماع عما احتجا برواته على صورة الانفراد . كسفيان بن حسين عن الزهري ، فإنهما احتجا بكل منهما على الانفراد ، ولم يحتجا برواية سفيان بن حسين عن الزهري ، لأن سماعه من الزهري ضعيف لا يقال دون بقية مشايخه .

فإذا وجد من روايته عن الزهري لا يقال على شرط الشيخين . لأنهما بكل منهما . بل لا يكون على شرطهما إلا إذا احتجا بكل منهما على صورة الاجتماع ، وكذا إذا كان الإسناد قد احتج كل منهما برجل منه ولم يحتج بآخر منه كالحديث الذي يروى عن طريق شعبة مثلاً عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ فإن مسلماً احتج بحديث سماك إذا كان من رواية الثقات عنه ولم يحتج بعكرمة واحتج البخاريبعكرمة دون سماك ، فلا يكون الإسناد والحالة هذه على شرطهما حتى يجتمع فيه صورة الاجتماع . وقد صرح بذلك الإمام أبو الفتح القشيري وغيره .

وحترزت بقولي أن يكون سالماً من العلل بجميع رواته على صورة الاجتماع إلا أن فيهم من وصف بالتدليس أو اختلط في آخر عمره فإنا نعلم في الجملة أن الشيخين لم يخرجا من رواية المدلسين بالعنعنة إلا ما تحققا أنه مسموع لهم من جهة أخرى وكذا لم يخرجا من حديث المختلطين عمن سمع منهم بعد الاختلاط إلا ما تحققا أنه من صحيح حديثهم قبل الاختلاط . فإذا كان كذلك لم يجز الحكم للحديث الذي فيه مدلس قد عنعنه أو شيخ سمع ممن اختلط بعد اختلاطه ، بأنه على شرطهما وإن كانا قد أخرجا ذلك الإسناد بعينه .

إلا إذا صرح المدلس من جهة أخرى بالمساع وصح أن الراوي سمع من شيخه قبل اختلاطه ، فهاذ القسم يوصف بكونه على شرطهما أو على شرط أحدهما .

ولا يوجد في المستدرك حديث بهذه الشروط لم يخرجا له نظيراً أو أصلاً إلا القليل كما قدمناه . نعم وفيه جملة مستكثرة بهذه الشروط ، لكنها مما أخرجها الشيخان أو أحدهما ـ استدركها الحاكم واهماً في ذلك ظاناً أنهما لم يخرجاها .

(ب) القسم الثاني : أن يكون إسناد الحديث قد أخرجا لجميع رواته لا على سبيل الاحتجاج بل في الشواهد والمتابعات والتعاليق أو مقروناً بغيره . ويلتحق بذلك ما إذا أخرجا لرجل وتجنباً ما تفرد به أو ما خالف فيه . كما أخرج مسلم من نسخه العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ ما لم يتفرد به .

فلا يحسن أن يقال : إن باقي النسخة على شرط مسلم ، لأنه ما خرج بعضها إلا بعد أن تبين أن ذلك مما لم ينفرد به . فما كان بهذه المثابة لا يلتحق أفراده بشرطهما .

وقد عقد الحاكم في كتاب المدخل باباً مستقلاً ذكر فيه من أخرج له الشيخان في المتابعات وعدد ما أخرجا من ذلك ، ثم أنه مع هذا الاطلاع يخرج أحاديث هؤلاء في المستدرك زاعماً أنها على شرطهما . ولا شك في نزول أحاديثهم عن درجة الصحيح بل ربما كان فيها الشاذ والضعيف لكن أكثرها لا ينزل عن درجة الحسن .

والحاكم وإن ممن لا يفرق بين الصحيح والحسن بل يجعل الجميع صحيحاً تبعاً لمشايخه كما قدمناه عن ابن خزيمة وابن حبان . فإنما يناقش في دعواه أن أحاديث هؤلاء على شرط الشيخين أو أحدهما . وهذا القسم هو عمدة الكتاب .

(ج) القسم الثالث : أن يكون الإسناد لم يخرجا له لا في الاحتجاج ولا في المتابعات . وهذا قد أكثر منه الحاكم فيخرج أحاديث عن خلق ليسوا في الكتابين ويصححها ، لكن لا يدعي أنها على شرط واحد منهما وربما ادعى ذلك على سبيل الوهم . وكثير منها يعلق القول بصحتها على سلامتها من بعض رواتها . كالحديث الذي أخرجه من طريق الليث عن إسحاق بن بزرج عن الحسن بن علي في التزين للعيد . قال في أثره :

(( لولا جهالة إسحاق لحكمت بصحته وكثير منها لا يتعرض للكلام عليه أصلاً .

ومن هنا دخلت الآفة كثيراً فيما صححه وقل أن تجد في هذا القسم حديثاً يلتحق بدرجة الصحيح فضلاً عن أن يرتفع إلى درجة الشيخين ـ والله أعلم ـ .

ومن عجب ما وقع للحاكم أنه أخرج لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال ـ بعد روايته :

هذا صحيح الإسناد ، وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمن . مع أنه قال ـ في كتابه الذي جمعه في الضعفاء : عبد الرحمن بن زيد بن أسلم روى عن أبيه أحاديث موضوعة لا يخفى على من تأملها من أهل الصنعة أن الحمل فيها عليه .

وقال في آخر هذا الكتاب : فهؤلاء الذي ذكرتهم قد ظهر عندي جرحهم ، لأن الجرح لا أستحله تقليداً . انتهى .

فكان هذا من عجائب ما وقع لع من التساهل والغفلة . ومن هنا يتبين صحة ( قول ابن الأخرم التي قدمناها ) . وأن قول المؤلف أن يصفوا له منه صحيح كثير ـ غير جيد بل هو قليل بالنسبة إلى أحاديث الكتابين لأن المكرر يقرب من ستة الآف .

والذي يسلم من المستدرك على شرطهما أو شرط أحدهما مع الاعتبار الذي حررناه دون الألف فهو

قليل بالنسبة إلى ما في الكتابين ـ والله أعلم ـ .

وقد بالغ ابن عبد البر ، فقال : ما معناه أن البخاري ومسلماً إذا اجتمعا على ترك إخراج أصل من الأصول فإنه لا يكون له طريق صحيحه وإن وجدت فهي معلولة .

وقال في موضع آخر : (( وهذا الأصل لم يخرج البخاري ومسلم شيئاً منه وحسبك بذلك ضعفاً )) . هذا وإن كان لا يقبل منه فهو يعضد قول ابن الأخرم ـ والله أعلم .

8- قوله (ع) : وكلام الحاكم مخالف لما فهموه ( يعني ابن الصلاح وابن دقيق العيد والذهبي ) من أنهم يعترضون على تصحيحه على شرط الشيخين أو أحدهما ، بأن البخاري ـ مثلاً ـ ما أخرج لفلان وكلام الحاكم ظاهر أنه لا يتقيد بذلك حتى يتعقب به عليه .

قلت : لكن تصرف الحاكم يقوي أحد الاحتمالين اللذين ذكرهما شيخنا ـ رحمه الله تعالى ـ فإنه إذا كان عنده الحديث [ قد ] أخرجا أو أحدهما لرواته قال : صحيح على شرط الشيخين أو أحدهما وإذا كان بعض رواته لم يخرجا له قال : صحيح الإسناد حسب .

ويوضح ذل قوله ـ في باب التوبة ـ لما أورد حديث أبي عثمان عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ مرفوعاً (( لا تنزع الرحمة إلا من شقي )) قال : هذا حديث صحيح الإسناد (( وأبو عثمان هذا ليس هو النهدي ولو كان هو النهدي لحكمت بالحديث على شرط الشيخين .

فدل هذا على أنه إذا لم يخرجا رواة الحديث لا يحكم به على شرطهما وهو عين ما ادعى ابن دقيق العيد وغيره .

وإن كان الحاكم قد يغفل عن هذا بعض الأحيان ، فيصبح على شرطهما بعض ما لم يخرجا لبعض رواته ، فيحمل ذلك على السهو والنسيان ويتوجه به حينئذ عليه الاعتراض . والله أعلم .

[ فوائد المستخرجات : ]

28- قوله (ص) : (( ثم إن التخاريح على الكتابين يستفاد منها فائدتان )) فذكرهما قال شيخنا في التعقب عليه : (( لو قال : إن هاتين الفائدتين من فوائد المستخرجات لكان أولى )) .

ثم زاد عليه فائدة ثالثة وهي تكثر طرق الحديث ليرجح بها عند المعارضة . وهذه قد ذكرها المصنف في مقدمة شرح مسلم له . وتلقاها عنه الشيخ محي الدين النووي ، فاستدركها عليه في فختصره في علوم الحديث .

وللمستخرجات فوائد أخرى لم يتعرض أحد منهم لذكرها :

1- أحدها : الحكم بعدالة من أخرج له فيه ، لأن المخرج على شرط الصحيح يلزمه أن لا يخرج إلا عن ثقة عنده .

فالرجال الذين في المستخرج ينقسمون أقساماً منهم :

(أ) من ثبتت عدالته قبل هذا المخرج ، فلا كلام فيهم .

(ب) ومنهم من طعن فيه غير هذا المخرج فينظر في ذلك الطعن إن كان مقبولاً قادحاً فيقدم ( وإلا فلا ) .

(ج) ومنهم من لا يعرف لأحد قبل هذا المخرج فيه توثيق ولا تجريح فتخريج من يشترط الصحة لهم ينقلهم من درجة من هو مستور إلى درجة هو موثوق . فيستفاد من ذلك صحة أحاديثهم التي يروونها بهذا الإسناد ولو لم يكن في ذلك المستخرج ـ والله أعلم ـ .

2- الثانية : ما يقع فيها من حديث المدلسين بتصريح السماع وهي في الصحيح بالعنعنة ، فقد قدمنا أنها نعلم في الجملة أن الشيخين اطلعا على أنه مما سمعه المدلس من شيخه ، لكن ليس اليقين كالاحتمال فوجود ذلك في المستخرج بالتصريح ينفي أحد الاحتمالين .

3- الثالثة : ما يقع فيها من حديث المختلطين عن سمع منهم قبل الاختلاط ( وهو في الصحيح في حديث من سمع منهم قبل ذلك ) والحال فيها كالحال في التي قبلها سواء بسواء .

4- الرابعة : ما يقع فيها من التصريح بالأسماء والمهملة في الصحيح في الإسناد أو في المتن .

5- الخامسة : ما يقع فيها من التمييز للمتن المحال به على المتن المحال عليه وذلك في (( كتاب مسلم )) كثير جداً ، فإنه يخرج على لفظ بعض الرواة ويحيل بباقي ألفاظ الرواة على ذلك اللفظ الذي يورده فتارة يقول : مثله فيحمل على أنه نظير سواء . وتارة يقول : : نحوه أو معناه ، [ فتوجد ] بينهما مخالفة بالزيادة والنقص وفي ذلك من الفوائد ما لا يخفى .

6- السادسة : ما يقع فيها من الفصل للكلام المدرج في الحديث مما ليس في الحديث ويكون في الصحيح غير مفصل .

7- السابعة : ما يقع من الأحاديث المصرح برفعها وتكون في أصل الصحيح موقوفة أو كصورة الموقوف ، كحديث ابن عون عن نافع عن ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال : (( اللهم بارك لنا في يمننا ... الحديث أخرجه البخاري في أواخر الاستسقاء هكذا موقوفاً ورواه الإسماعيلي وأبو نعيم في مستخرجهما من هذا الوجه مرفوعاً بذكر النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فيه ، في أمثلة كثيرة لذلك .

وكملت فائدة المستخرجات بهذه الفوائد السبعة التي ذكرناها عشر فوائد ـ والله الموفق ـ .

29- قوله (ص) : (( لما ذكر التعليق الممرض ـ : (( وليس في شئ منه حكم منه بصحة ذلك عمن ذكر منه ... ومع ذلك فإيراده له في أثناء الصحيح مشعر بصحة أصله إشعاراص يؤنس به ويركن إليه .

وقال في ذكر التعليق الجازم :

(( ثم إن ما يتقاعد من ذلك على شرط الصحيح قليل يوجد في (( كتاب البخاري )) في مواضع

من تراجم الأبواب دون مقاصد الكتاب وموضوعه )) ... انتهى .

أقول : بل الذي يتقاعد على شرط البخاري ليس بالقليل إلا أن يريد بالقلة قلة نسبية إلأى باقي ما في الكتاب فيتجه ، بل جزم أبو الحسن ابن القطان بأن التعاليق التي لم يوصل البخاري إسنادها ليست على شرطه ، وإن كان ذلك لا يقبل من ابن القطان على ما ستوضحه .

وأما قول ابن الصلاح ـ في التعليق الممرض ـ :

(( ليس في شئ منه حكم بالصحة على من غفله عنه )) فغير مسلم لأن جميعه صحيح عنده وإنما يعدل عن الجزم لعلة ترحزحه عن شرطه .

وهذا يشترط أن يسوقه مساق الاحتجاج به ، فأما ما أورده من ذلك على سبيل التعليل له والرد أو صرح بضعفه ، فلا . وقد بينت ذلك على وجوهه وأقسامه في كتابي تغليق التعليق . أشير هنا إلى طرف من ذلك يكون إنموذجاً لما وراءه فأقول :

[ تقسيم التعليق في البخاري : ]

الأحاديث المرفوعة التي لم يوصل البخاري إسنادها في صحيحه .

(أ) منها : ما يوجد في موضع آخر من كتابه .

(ب) ومنها : ما لا يوجد إلا معلقاً .

فأما الأول : فالسبب في تعليقه أن البخاري من عادته في صحيحه أن لا يكرر شيئاً إلا لفائدة ، فإذا كان المتن يشتمل على أحكام كرره في الأبواب بحسبها أو قطعه في الأبواب إذا كانت الجملة يمكن انفصالها من الجملة الأخرى . ومع ذلك فلا يكرر الإسناد بل يغاير بين رجاله أما شيوخه أو شيوخ شيوخه ونحو ذلك .

فإذا ضاق مخرج الحديث ولم يكن له إلا إسناد واحد واشتمل على أحكام واحتاج إلى تكريرها ، فإنه والحالة هذه إما أن يختصر المتن أو يختصر الإسناد . وهذا أحد الأسباب في تعليقه الحديث الذي وصله في موضع آخر .

وأما الثاني : وهو ما لا يوجد فيه إلا معلقاً ، فهو على صورتين :

إما بصيغة الجزم وإما بصيغة التمريض .

فأما الأول : فهو صحيح إلى من علقه عنه ، وبقي النظر فيما أبرز من رجاله فبعضه يلتحق بشرطه .

والسبب في تعليقه له إما لكونه لم يحصل له مسموعاص وإنما أخذه على طريق المذاكرة أو الإجازة أو كان قد خرج ما يقوم مقام ، فاستغنى بذلك عن إيراد هذا المعلق مستوفي السياق أو لمعنى غير ذلك ، [ وبعضه ] يتقاعد عن شرطه ، وإن صححه غيره أو حسنه ، وبعضه يكون ضعيفاً من جهة الانقطاع خاصة .

وأما الثاني : وهو المعلق بصيغة التمريض مما لم يورده في موضع آخر فلا يوجد فيه ما يلتحق بشرطه

إلا مواضع يسيرة قد أوردها بهذه الصيغة لكونه ذكرها بالمعنى كما نبه عليه شيخنا ـ رضي الله تعالى عنه . نعم ، فيه ما هو صحيح وإن تقاعد عن شرطه إما لكونه لم يخرج لرجاله أو لوجود علة فيه عنده ، ومنه : ما هو حسن ، ومنها ما هو ضعيف وهو على قسمين :

أحدهما : ما ينجبر بأمر آخر . وثانيهما : ما لا يرتقي عن مرتبة الضعيف وحيث يكون بهذه المثابة ، فإنه يبين ضعفه ويصرح به حيث يورده في كتابه .

ولنذكر أمثلة لما ذكرناه :

فمثال التعليق الجازم الذي يبلغ شرطه ولم يذكره في موضع آخر :

(أ) قوله ـ في كتاب الصلاة : (( وقال إبراهيم بن طهمان عن حسين المعلم عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : (( كان رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يجمع بين صلاة الظهر والعصر إذا كان على ظهر مسير ويجمع بين المغرب والعشاء )) .

وهو حديث صحيح على شرط البخاري ، فقد رويناه من طريق أحمد ابن حفص النيسابوري عن أبيه عن إبراهيم بن طهمان هكذا . وأحمد وأبوه ومن فوقهما قد أخرج لهم البخاري في صحيحه محتجاً به .

(ب) وقوله ـ في الوكالة وغيرها : (( وقال عثمان بن الهيثم ثنا عوف ثنا محمد بن سيرين عن أبي هريرةـ رضي الله تعالى عنه ـ قال :

(( وكلني رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بزكاة رمضان ... الحديث بطوله وقد أورده في مواضع مطولاً ومختصراً )) .

وعثمان من مشايخه الذين سمع منهم الكثير ولم يصرح بسماعه منه لهذا الحديث ـ فالله أعلم هل سمعه أم لا . ومن الأحاديث التي علقها بحذف جميع الإسناد وهي على شرطه ولم يخرجها في موضع آخر .

(ج) قوله في الصيام : (( وقال أبو هريرة عن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : (( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء )) . وأخرجه النسائي قال : ثنا محمد بن يحيى ثنا بشر بن عمر ثنا مالك ، عن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ بهذا

وأصل هذا الحديث عند البخاري بلفظ آخر من حديث الأعرج عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قال : (( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بتأخير العشاء والسواك عند كل صلاة )) .

(د) ومثال التعليق الجازم الذي لا يبلغ شرطه وإن كان صحيحاً قوله ـ في الطهارة ـ وقال بهز ( بن

حكيم ) عن أبيه عن جده ( عن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ) (( الله أحق أن يستحي منه

من الناس )) .

وهو حديث مشهور أخرجه أصحاب السنن الأربعة من حديث بهز . وبهز وأبوه وثقهما جماعة . وصحح حديث بهز غير واحد من الأئمة . نعم وتكلم في بهز غير واحد ، لكنه لم يتهم ولم يترك .

وقد علق البخاري حديثاً آخر من نسخة من بهز بن حكيم فلم يذكر إلا الصحابي وهو معاوية بن حيدة جد بهز فأتى بصيغة التمريض وقوله ـ في الطهارة ـ أيضاً ـ وقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : (( كان النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يذكر الله تعالى على كل أحيانه )) . وقد أخرج مسلم هذا الحديث من طريق خالد بن سلمة عن عبد الله البهي عن عروة عن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ واستغربه الترمذي .

وخالد تكلم فيه بعض الأئمة وليس هو من شرط البخاري وقد تفرد بهذا الحديث ـ والله أعلم .

(هـ) ومثل التعليق الجازم يضعف بسبب الانقطاع :

قوله ـ في كتاب الزكاة وقال طاووس : قال معاذ ( يعني ابن جبل ـ رضي الله عنه ) لأهل اليمن : (( ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس في الصدقة مكان الشعير والذرة لأهون عليكم وخير لأصحاب محمد ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ . والإسناد صحيح إلى طاووس ، قد رويناه في كتاب الخراج ليحيى بن آدم عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار وإبراهيم بن ميسرة عن طاووس ، لكنه منقطع ، لأن طاووساً لم يسمع من معاذ ـ رضي الله عنه ـ والله سبحانه وتعالى أعلم .

 

فائدة

سمى الدمياطي : ما يعلقه البخاري عن شيوخه حوالة ، فقال في كلامه على حديث أبي أيوب في الذكر : (( أخرجه البخاري حوالة فقال : قال موسى بن إسماعيل : ثنا وهيب عن داود عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن أبي أويوب .

(و) ومثال التعليق الممرض الذي يصح إسناده ولا يبلغ شرط البخاري لكونه لم يخرج لبعض رجاله .

قوله ـ في الصلاة ـ : (( ويذكر عن عبد الله بن السائب ـ رضي الله عنه ـ قال : (( قرأ النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ المؤمنين في صلاة الصبح حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون ـ عليهما الصلاة والسلام ـ أو ذكر عيسى ـ عليه السلام ـ أخذته سعلة فركع )) .

وهو حديث صحيح رواه مسلم من طريق محمد بن عباد بن جعفر عن أبي سلمة بن سفيان وعبد الله بن عمرو القاري وعبد الله بن المسيب ـ ثلاثتهم عن عبد الله بن السائب ـ رضي الله تعالى عنه ـ به . ولم يخرج البخاري بهذا الإسناد شيئاً يبلغ شرطه ، لكونه معللاً .

وقوله ـ في الصيام ـ (( ويذكر عن أبي خالد ( يعني الأحمر ) عن الأعمش عن الحكم ومسلم البطين وسلمة بن كهيل عن سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : قالت امرأة للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : (( إن أختي ماتت ... الحديث . وهذا الإسناد صحيح . إلا أنه معلل بالاضطراب لكثرة الاختلاف في إسناده ولتفرد أبي خالد بهذه السياقة وقد خالفه فيها من هو أحفظ وأتقن فصار حديثه شاذاً للمخالفة .

وقد أخرجه مع ذلك ابن خزيمة في صحيحه وأصحاب السنن وأخرجه مسلم في المتابعات ولم يسق لقظه .

(ز) ومثال التعليق الممرض الذي يكون إسناده حسناً قوله في الزكاة : (( ويذكر عن سالم عن ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : (( لا يفرق بين مجتمع ولا يجمع بين متفرق )) .

وهذا الحديث وصله هكذا سفيان بن حسين عن الزهري عن سالم عن أبيه في حديث طويل في الزكاة .

وقد قدمنا أن رواية سفيان بن حسين عن الزهري ليست على شرط الصحيح ، لأنه ضعيف فيه وإن كان كل منهما ثقة . لكن له شاهد من حديث أبي بكر الصديث ـ رضي الله تعالى عنه ـ وغيره فاعتضد به حديث سفيان بن حسين وصار حسناً .

وقوله ـ في كتاب البيوع ـ : (( ويذكر عن عثمان ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قال له : (( إذا بعث فكل وإذا ابتعت فاكتل )) وهذا الحديث رواه أحمد والبزار من طريق ابن ليهعة عن موسى بن وردان عن سعيد بن المسيب عن عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ وابن ليهعة ضعيف ، لكنه اعتضد برواية يحيى بن أيوب المصري وهو من رجال البخاري .

عن عبيد الله بن المغيرة وهو ثقة عن منقذ مولى ابن سراقة وهو مستور ولم يضعفه أحد عن عثمان ـ رضي الله تعالى عنه ـ . كذلك رويناه في فوائد سمويه وفي سنن الدار قطني . فاعتضد هذا الإسناد بهذا الإسناد فصار حسناً .

(ح) ومثال التعليق الممرض الذي يكون إسناده ضعيفاً فرداً لكنه انجبر بأمر آخر . قوله في الوصايا : (( ويذكر أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قضى بالدين قبل الوصية )) .

وهذا الحديث رواه الترمذي وغيره من رواية أبي إسحاق السبيعي عن الحارث عن علي رضي الله تعالى عنه ، والحارث ضعيف جداً وقد استغربه الترمذي ثم حكى إجماع أهل العلم على القول بذلك فاعتضد الحديث بالإجماع ـ والله أعلم .

(ط) ومثال التعليق الممرض الذي لا يرتقي عن درجة الضعيف ولم ينجبر بأمر آخر ، وعقبه البخاري بالتضعيف ـ قوله في الصلاة : (( ويذكر عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ رفعه (( لا يتطوع الإمام في مكانه )) . ولم يصح .

وكأنه أشار إلى ما أخرجه أبو داود من طريق ليث بن أبي سليم عن الحجاج عن بن عبيد عن إبراهيم

بن إسماعيل عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ نحوه . وليث بن أبي سليم ضعيف وقد تفرد وشيخ شيخه لا يعرف .

وقوله ـ في كتاب الهدية : (( ويذكر عن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ مرفوعاً . (( إن جلساءه شركاؤه ولم يصح )) .

وهذا الحديث لا يصح رفعه ، فقد رويناه في مسند عبد بن حميد وفي كتاب الحلية وغيرها ـ من طريق مندل بن علي عن ابن جريج عن عمرو بن دينار عن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : (( من أهديت له هدية وعنده قوم فهم شركاؤه فيها )) .

ومندل بن علي ضعيف . والمحفوظ عن عمرو بن دينار عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ، موقوفاً كذلك رويناه في مصنف عبد الرزاق وفي فوائد الحسن بن رشيق من طريقه . عن محمد بن مسلم الطائفي عن عمرو بن دينار موقوفاً .

وروى عن عبد الرزاق مرفوعاً ولم يثبت عنه . ومحمد بن مسلم الطائفي فيه مقال ولكنه أرجح من مندل . وقد صحح كونه مرفوعاً أبو حاتم الرازي فيما ذكره ابنه في العلل فقال : إن رفعه منكر .

فقد لاح بهذه الأمثلة واتضح أن الذي يتقاعد عن شرط البخاري من التعليق الجازم جملة كثيرة وأن الذي علقه بصيغة التمريض متى أورده في معرض الاحتجاج والاستشهاد فهو صحيح أو حسن أو ضعيف منجبر وإن أورده في معرض الرد فهو ضعيف عنده ، وقد بينا أنه يبين كونه ضعيفاً ـ والله الموفق . وجميع ما ذكرناه يتعلق بالأحاديث المرفوعة .

أما الموقوفات فإنه بما صح منها ولو لم يبلغ شرطه ويمرض ما كان فيه ضعف وانقطاع . وإذا علق على شخصين وكان لهما ( إسنادان مختلفان ) مما يصح أحدهما ويضعف الآخر فإنه يعبر فيما هذا سبيله بصيغة التمريض ـ والله أعلم ـ .

وهذا كله فيما صرح بإضافته إلى النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وإلى أصحابه .

أما ما لم يصرح بإضافته إلأى قائل وهي الأحاديث التي يوردها في تراجم الأبواب من غير أن يصرح بكونها أحاديث .

فمنها : ما يكون صحيحاً وهو الأكثر . ومنها ما يكون ضعيفاً . كقوله ، في باب اثنان فما فوقهما جماعة ولكن ليس شئ من ذلك ملتحقاً بأقسام التعليق التي قدمناها إذا لم يسقها مساق الأحاديث وهي قسم مستقل ينبغي الاعتناء بجمعه والكلام عليه وبه وبالتعليق يظهر كثرة ما اشتمل عليه جامع البخاري من الحديث ويوضح سعة اطلاعه ومعرفته بأحاديث الأحكام جملة وتفصيلاً ـ رحمه الله تعالى ـ .

تنبيه

30- قول ابن الصلاح ، في هذه المسألة : (( وأما الذي حذف من مبتدأ إسناده واحد أو أكثر ... ففي بعضه نظر )) .

إنما خص النظر ببعضه ، لأنه كما أو ضحته على قسمين :

أحدهما : ما أورده موصولاً ومعلقاً كان ذلك في موضع واحد أو موضعين فهذا لا نظر فيه ، لأن الاعتماد على الموصول ويكون المعلق شاهداً له .

وثانيهما : ما لا يوجد في كتابه إلا معلقاً فهذا هو موضع النظر وقد أفردته بتأليف مستقل لطيف الحجم جم الفوائد ، ولله الحمد .

9- قوله (ع) : (( وفيه بقية أربعة عشر موضعاً رواه متصلاً ثم عقبه بقوله : (( ورواه فلان )) . وقد جمعها الرشيد العطاء في الغرر المجموعة وقد بينت ذلك كله في جزء مفرد )) انتهى .

وفيه أمور :

(أ) الأول : فيه بقية أربعة عشر . ليس فيه عند الرشيد إلا ثلاثة عشر . والذي أوقع الشيخ في ذلك أن أبا علي الجياني ـ وتبعه المازري ـ ذكر أنه أربعة عشر لكن لما سردها أورد منها حديثاً مكرراً وهو حديث ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ (( أرأيتكم ليلتكم هذه )) هذا هو الذي كرر فصارت العدة ثلاثة عشر منا سأذكرها مفصلة .

(ب) والثاني : قوله : إنه يرويه متصلاً بقوله (( ورواه فلان )) . ليس ذلك في جمعي الأحاديث المذكورة وإنما وقع ذلك منه في ستة أحاديث منها .

(1) أحدها : في حديث أبي جهيم كما ذكره الشيخ .

(2) ، (3) الثاني والثالث في حديثي الليث كما ذكرها الشيخ وأن مسلماً وصلهما من طريق أخرى

(4) والرابع : في حديث أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ في قصة ماعز قال : ورواه عن الليث عن عبد الرحمن بن خالد بعد أن أورده من طريق غيره .

(5) والخامس : في حديث البراء بن عازب ـ رضي الله تعالى عنهما ـ في الصلاة الوسطى قال : ورواه الأشجعي عن سفيان عن الأسود بن قيس بعد أن أورده من طريق أخرى عن البراء بن عازب ـ رضي الله تعالى عنه .

(6) والسادس : في حديث عوف بن مالك حديث (( خيار أئمتكم الذين تحبونهم )) .

قال : ورواه معاوية بن صالح .

وأما السبعة الثانية :

1- فأحدها : في الجنائز في حديث عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ في خروجه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إلى البقيع .

قال ـ فيه ـ حدثني من سمع حجاجاً الأعور ، ثنا ابن جريج . أورده عقب حديث ابن وهب عن

ابن جريج .

2- وثانيها : في صفة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ حدثت عن أبي أسامة وممن روى ذلك عنه إبراهيم بن سعيد الجوهري وهذا وصله الجلودي صاحب ابن سفيان قال : ثنا محمد بن المسيب ثنا إبراهيم بن سعيد .

3- وثالثها : في باب السكوت بين التكبير والقراءة حديث أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ .

قال : حدثت عن يحيى بن حسان ويونس بن محمد وغيرهما ، قالوا : ثنا عبد الواحد . أورده عقب حديث أبي كامل الجحدري عن عبد الواحد .

4- رابعها : في باب وضع الجوائح من حيدث عمرة عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت (( سمع النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ صوت خصوم بالباب ... )) الحديث قال فيه حدثني غير واحد من أصحابنا قالوا : ثنا إسماعيل بن أويس وهذا لم يورده إلا من طريق عمرة .

5- خامسها : في باب احتكار الطعام في حديث معمر العدوي قال : حدثني بعض أصحابنا عن عمرو بن عون وقد وصله من أطريق أخرى . عن سعيد بن المسيب .

6- سادسها : في آخر كتاب القدر في حديث أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ (( لتركبن سنن من كان قبلكم )) .

قال : وحدثني عدة من أصحابنا عن سعيد بن أبي مريم عن أبي غسان عن زيد بن أسلم . وقد وصله من طريق حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم .

7- سابعها : في كتاب الصلاة في حديث كعب بن عجرة قال فيه : ثنا صاحل لنا : ثنا إسماعيل بن زكريا كذا ذكر الجياني أنه وقع في روايتهم . وأما الذي في رواية الجلودي عند المشارقفة فقال مسلم فيه : ثنا محمد بن بكار ثنا إسماعيل بن زكريا . والحديث المذكور عنده من طرق أخرى من غير هذا الوجه . فعلى هذا فهي اثنا عشر حديثاً فقط .

ستة منها بصيغة التعليق وستة منها بصيغة الاتصال  لكن أيهم في كل واحد منها اسم من حدثه فإن كان الشيخ يرى أنها منقطعة كما يقوله الجياني ومن تبعه ، فكان حق العبارة أن يقول : وفيه بقية ثلاثة عشر موضعاً منقطعة . لا كما قال : إنه يقول : ورواه فلان .

وإن كان يرى أنها متصلة كما هو المعروف عند جمهور أهل الحديث وكما صرح هو به في موضع آخر ، فكان حق العبارة أن يقول : وفيه بقية ستة مواضع رواه متصلاً ثم عقبه يقول : وروه فلان . وفيه مواضع أخرى قيل إنها منقطعة وليست بمنقطعة .

3- الثالث : قوله (( إنه ليس في مسلم بعد المقدمة حديث معلق لم يوصله من طريق أخرى إلا

حديث أبي الجهيم )) . هذا صحيح يفيد التعليق لكن قد بينا أن الذي بصيغة التعليق إنما هو ستة لا

أكثر . أما على رأي الجياني ومن تبعه في تسميتهم المهم منقطعاً فإن فيها حديثين آخرين لم يوصلهما في مكان آخر .

1- أحدهما : حديث عمرة عن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ في الجوائح كما بيناه فإنه ما أورده إلا من تلك الطريق .

2- وثانيهما : حديث أبي موسى الأشعري ـ رضي الله تعالة عنه ـ الذي قال فيه حدثت عن أبي أسامة ـ رضي الله عنه ـ وقد تقدم أن الجلودي وصله عندي أنه ملتحق بما صورته التعليق وهو موصول على رأي ابن الصلاح . فإن مسلماً قال : (( حدثت عن أبي موسى )) .

فلو اقتصر على هذا لكان متصلاً في إسناده مبهم على ما قررناه . منقطع على رأي الجياني . لكن زاد بعد ذلك فقال : وممن روى ذلك عنه إبراهيم بن سعيد الجوهري )) وإبراهيم هذا من شيوخ مسلم ، قد سمع منه غير هذا وأخرج عنه مما سمعه في صحيحه غير هذا  مصرحاً به .

وقد قرر ابن الصلاح أن المعليق إذا سمي بعض شيوخه وكان غير مدلس حمل على أنه سمعه منه كما ذكر ذلك في حديث هشام بن عمار الذي أخرجه البخاري في تحريم المعازف ولا فرق بين أن يقول المعلق : قال أو روى أو ذكر أو ما أشبه ذلك من الصيغ التي ليست بصريحة . فهاذ منها ـ والله الموفق . وقد عثرت في (( صحيح مسلم )) على شئ غير هذا مما يلتحق بهذا وبينته فيما كتبته من النكت على شرح مسلم للنووي ـ والله أعلم ـ .

10- قوله (ع) : (( بل أزيد على هذا وأقول : الظاهر أن البخاري لم يرد برد الصدقة حديث جابر ـ رضي الله تعالى عنه ـ المذكور في بيع المدبر وإنما أراد ـ والله أعلم ـ حديث جابر ـ رضي الله تعالى عنه في الرجل الذي دخل والنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يخطب ، فأمرهم فتصدقوا عليه ... )) الحديث . وهو حديث ضعيف رواه الدار قطني وغيره انتهى .

فيه أمور :

1- أحدها : أن الدار قطني لم يرو قصة الداخل والنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يخطب ، فأمرهم فتصدقوا عليه ـ من حديث جابر ـ رضي الله تعالى عنه ـ أصلاً وإنما رواه من حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله تعالى عنه .

وسبب هذا الاشتباه في هذا أن القصة شبيهة بحديث جابر ـ رضي الله تعالى عنه ـ في قصة سليك الغطفاني التي أخرجها أصحاب الحديث الصحيح والدار قطني وغيره من حديث جابر ـ رضي الله تعالى عنه ـ لكن ليس فيها قصة المتثدق ورد الصدقة عليه .

2- ثانيها : أن الحديث المذكور عند الدار قطني مع كونه ليس من حديث جابر ـ رضي الله تعالى

عنه ـ وإنما هو من حديث أبي سعيد ـ رضي الله تعالى عنه ـ ليس ضعيفاً ، بل هو صحيح أخرجه

النسائي وابن ماجه والترمذي وصححه ابن حبان ي صحيحه والحاكم كلهم من حديث محمد بن عجلان عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال : جاء رجل يوم الجمعة ـ والنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يخطب بهيئة بذة فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : أصليت ؟ قال : لا . قال : صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ صلي ركعتين .

وحث الناس على الصدقة قال : فألقى أحد ثوبيه ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ جاء هذا يوم الجمعة ( يعني التي قبلها ) بهيئة بذة ، فأمرت الناس بالصدقة ( فألقوا ثياباً فأمرت له منها يثوبين ثم جاء الآن فأمرت الناس بالصدقة فألقى أحدهما فانتهزه وقال : خذ ثوبك ) لفظ النسائي .

3- ثالثها : نفيه أن يكون البخاري أراد بحديث جابر ـ رضي الله تعالى عنه ـ حديثه في بيع المدبر ليس بجيد . بل الظاهر أنه أراده وقد سبق مغلطاي إلى ذلك ابن بطال في شرح البخاري وعبد الحق في أواخر الجمع بين الصحيحين وغيرهما ولا يلزمه به منه ما ألزمه المعترض الذي تعقب الشيخ كلامه على ما سنبينه .

وبيان ذلك : أن حديث جابر ـ رضي الله تعالى عنه ـ في بيع المدبر قد اتفق الشيخان على تخريجه من طرق عن عطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار عنه وأخرجه البخاري من طريق محمد بن المنكدر عن جابر ـ رضي الله تعالى عنه .

وليس في رواية واحد منهم زيادة على قصة بيعه وإعطائه الثمن لصاحبه . ورواه مسلم منفرداً من طريق أبي الزبير عن جابر ـ رضي الله تعالى عنه ـ فزاد فيه زيادة ليست عند البخاري .

ولفظه : (( أعتق رجل من بني عذرة عبداً له من دبر فبلغ ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فقال : (( ألك مال غيره ؟ قال : لا . فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ من يشتريه مني ؟ فاشتراه نعيم بن عبد الله العدوي ـ رضي الله عنه ـ بثمانمائة درهم فجاء بها إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فدفعها إليه ثم قال : ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شئ فلأهلك فإن فضل عن أهلك شئ فلذي قرابتك ، فإن فضل عن ذي قرابتك شئ فهكذا وهكذا )) .

فهذه الزيادة من حديث أبي الزبير عن جابر ـ رضي الله تعالى عنه ـ في قصة المدبر فيها إشعار بمعنى ما علقه البخاري من أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ رد على المتصدق صدقته قبل النهي ثم نهاه ، لكن ليس في هذا تصريح بالنهي .

فإن كان هو الذي أراده البخاري فلا حرج عليه في عدم جزمه به لأن راوي الزيادة وهو أبو

الزبير ليس ممن يحتج به على شرطه وعلى تقدير صلاحيته عنده للحجة فقد تقدم أنه ربما علق الحديث بالمعنى أو بالاختصار فلا يجزم به بل يذكره بصيغة التمريض للاختلاف في ذلك كما قرره الشيخ فعل ذلك تقدير للمعترض اعتراضه .

4- رابعها : ظهر لي مراد البخاري بالتعليق السابق عن جابر ـ رضي الله تعالى عنه ـ حديث آخر غير حديث المدبر .

وهو ما أخبرني به إبراهيم بن محمد المؤذن بمكة أن أحمد بن أبي طالب أخبرهم أنا عبد الله بن عمر نا أبو الوقت أنا أبو الحسن بن داود ( أنا عبد الله بن أحمد أنا إبراهيم بن خريم ) أنا عبد بن حميد ، ثنا يعلى بن عبيد ثنا محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة عن محمود بن لبيد عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال :

بينما نحن عند رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إذ جاءه رجل بمثل البيضة من الذهب أصابها في بعض المعادن ، فجاء بها إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ من ركنه الأيمن فقال لرسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : خذها مني صدقة فوالله مالي مال غيرها ، فأعرض ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ عنه ثم جاء من ركنه الأيسر فقال : مثل ذلك ، فجاءه من بين يديه فقال : مثل ذلك فقال ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : هاتها مغضباً فحذفه بها فلو أصابه بها لعقره أو أوجعه ، ثم قال ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : (( يأتي أحدكم بماله كله لا يملك غيره فيتصدق به ثم يقعد يتكفف الناس )) . (( إنما الصدقة عن ظهر غني خذه لا حاجة لنا به )) [ قال ] فأخذ الرجل ماله فذهب )) .

وهذا الحديث رواه أحمد في مسنده والدارمي وأبو داود في السنن وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والحاكم في مستدركه كلهم من طريق محمد بن إسحاق به . يزيد بعضهم على بعض في سياقه ورواه إسناده ثقات ومحمد بن إسحاق مشهور ولم أره من حديثه إلا معنعناً ثم رأيته في مسند أبي يعلى مصرحاً فيه بالتحديث . وسياقه أنسب وأشبه بمراد البخاري من الذي قبله . والمتن الذي أروده الشيخ مناسب للمراد إلا أنه ليس من حديث جابر ـ رضي الله تعالى عنه ـ كما بيناه ـ والله أعلم ـ .

لطيفة

الرجل الذي جاء بالبيضة هو الحجاج بن علاط السهمي ـ رضي الله تعالى عنه ـ رواه عبد الغني الأزدي من رواية بعض أحفاده عن أبيه عن جده إلى أن انتهى إلى الحجاج بن علاط ـ رضي الله عنه ـ أنه أتى النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ بلبنة من ذهب أصابها من كنز فذكر الحديث .

11- قوله : ع (( وأما الإتيان بصيغة الجزم فيما ليس بصحيح فهذا لا يجوز ولا يظن بالبخاري

... )) إلخ .

أقول : هذا يكاد أن يكون مصادرة على المطلوب ، لأن الخصم ينكر أن يكون البخاري التزم أن لا يأتي باللفظ الجازم إلا في الطرق الصحيحة يستدل على ذلك بالمثال الذي ذكره ، لأنه أخرج حديثاً باللفظ الجازم وهو معلول كما ذكره أبو مسعود .

فكيف يكون جوابه : لا يظن ذلك بالبخاري ولا يأتي البخاري باللفظ الجازم إلا فيما عله له .

فالجواب السديد عن ذلك أن يقول :

ما ادعاه أبو مسعود من كون ذلك الحديث لا يعرف إلا من رواية عبد الله بن الفضل عن الأعرج عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ مردود . فإن الحديث المذكور معروف من رواية عبد الله بن الفضل ـ أيضاً ـ عن أبي سلمة عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ كما علقه البخاري . فقد رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن عبد الله بن الفضل ، فيهاذ يتضح أن لعبد الله بن الفضل فيه شيخين كما ذكره الشيخ احتمالاً .

[ عادة البخاري في الأسانيد المختلفة : ]

ومن عادة البخاري أنه إذا كان في بعض الأسانيد التي يحتج بها خلاف على بعض رواتها ساق الطريق الراجحة عنده مسندة متصلة ، وعلق الطريق الأخرى إشعاراً بأن هذا الاختلاف لا يضره ، لأنه إما أن يكون للراوي فيه طريقان فحدث به تارة عن هذا وإما أن لا يكون له فيه إلا طريق واحدة والذي أتى عنه بالطريق الأخرى واهم عليه ولا يضر الطريق الصحيحة الراجحة وجود الطريق الضعيفة المرجوحة ـ والله أعلم .

31- قوله (ص):عند ذكر أقسام الصحيح ـ(( أولها : صحيح أخرجه البخاري ومسلم جميعاً ))

اعترض عليه بأن الأولى أن يكون القسم الأول : ما بلغ مبلغ التواتر أو قاربه في الشهرة والاستقامة .

والجواب عن ذلك أنا لا نعرف حديثاً وصف بكونه متواتراً ليس أصله في الصحيحين أو أحدهما . وقد رد شيخنا اعتراض من قال : الأولى أن القسم الأول ما رواه أصحاب الكتب السنة ( من له فيه نظر ) . والحق أن يقال : أن القسم الأول وهو : ما اتفقا عليه يتفرع فروعاً :

(أ) أحدها : ما وصف بكونه متواتراً .

(ب) ويليه : ما كان مشهوراً كثير الطرق .

(ج) ويليه : ما وافقهما الأئمة الذين التزموا على تخريجه الذين خرجوا السنن والذين انتقوا المسند .

(د) ويليه : ما وافقهما عليه بعض من ذكر .

(هـ) ويليه : ما انفردا بتخريجه .

فهذه أنواع للقسم الأول وهو ما اتفقا عليه إذ يصدق على كل منها أنهما اتفقا على تخريجه . وكذا

نقول في ما انفرد به أحدهما أنه يتفرع على هذا الترتيب فيتبين بهذا أن ما اعترض به عليه أولاً وآخراً

مردود ـ والله أعلم ـ .

تنبيه

جميع ما قدمنا الكلام عليه من المتفق هو : ما اتفقا على تخريجه من حديث صحابي واحد . أما إذا كان المتن الواحد عند أحدهما من حديث صحابي غير الصحابي الذي أخرجه عنه الآخر مع اتفاق لفظ المتن أو معناه . فهل يقال في هذا أنه من المتفق ؟ فيه نظر على طريقة المحدثين .

والظاهر : من تصرفاتهم أنهم لا يعدونه من المتفق إلا أن الجوزقي منهم استعمل ذلك في (( كتاب المتفق )) له في عدة أحاديث وقد قدمنا حكاية ذلك عنه وما يتمشى له ذلك إلا على طريقة الفقهاء ولننظر مأخذ ذلك . وذلك أن كون ما اتفقا على تخريجه أقوى مما انفرد به واحد منهما له فائدتان :

1- احداهما : أن اتفاقهما على التخريج عن راو من الراوة يزيده قوة فحينئذ ما يأتي من رواية ذلك الراوي الذي اتفقا على التخريج عنه أقوى مما يأتي من رواية من انفرد به أحدهما .

2- والثاني : أن الإسناد الذي اتفقا على تخريجه يكون متنه أقوى من الإسناد الذي انفرد به واحد منهما . ومن هنا يتبين أن فائدة المتفق إنما تظهر فيما إذا خرجا الحديث من حديث صحابي واحد .

نعم ، قد يكون في ذلك الجانب ـ أيضاً ـ قوة من جهة أخرى وهو أن المتن الذي تتعدد طرقه أقوى من المتن الذي ليس له إلا طريق واحدة فالذي يظهر من هذا أن لا يحكم لأحد الجانبين بحكم كلي . بل قد يكون ما اتفقا عليه من حديث صحابي واحد إذا لم يكن فرداً غريباً أقوى مما أخرجه أحدهما من حديث صحابي غير الصحابي الذي أخرجه الأخر ، وقد يكون العكس إذا كان ما اتفقا عليه من صحابي واحد فرداً غريباً ، فيكون ذلك أقوى منه ، ـ والله أعلم ـ .

تنبيه آخر

هذه الأقسام التي ذكرها المصنف للصحيح ماشية على قواعد الأئمة ومحققي النقاد إلا أنها قد لا تطرد ، لأن الذي يتفرد به مسلم ـ مثلاً ـ إذا فرض مجيئه من طرق كثيرة حتى تبلغ التواتر أو الشهرة القوية ويوافقه على تخريجه مشترطو الصحة ـ مثلاً ـ لا يقال فيه : إن ما انفرد البخاري بتخريجه إذا كان فرداً ليس له إلا مخرج واحد أقوى من ذلك فليحمل إطلاق ما تقدم من تقسيمه على الأغلب الأكثر ـ والله أعلم ـ .

أقسام الحديث الصحيح :

وأما ما ذكره الحاكم في كتاب المدخل له أن للصحيح من الحديث ينقسم عشرة أقسام : خمسة متفق عليها وخمسة مختلف فيها :

1- فالأول : ـ من المتفق عليها ـ اختيار البخاري ومسلم فذكر ما نقلناه في أوائل هذه الفوائد .

2- الثاني : أن لا يكون للصحابي إلا راو واحد . قال : (( ولم يخرجا هذا النوع في الصحيح )) .

3- الثالث : ( أن لا يكون للتابعي إلا راو واحد ) .

4- الرابع : الأحاديث الأفراد الغرائب التي يتفرد بها ثقة من الثقات .

5- الخامس : أحاديث جماعة عن آبائهم عن أجدادهم لم يأت عن آبائهم إلا عنهم .

قال : فهذه الخمسة الأقسام مخرجة في كتب الأئمة محتج بها ولن يخرج منها في الصحيحين غير القسم الأول .

وأما الأقسام المختلف فيها :

1- المراسيل .

2- وأحاديث المدلسين إذا لم يذكروا السماع .

3- والمختلف في وصله وإرساله بين الثقات .

4- وروايات الثقات غير الحفاظ .

5- ورواية المبتدعة إذا كانوا صادقين .

هذا حاصل ما ذكره الحاكم مبسوطاً مطولاً في (( كتاب المدخل إلى معرفة الإكليل ))  وكل هذه الأقسام التي ذكرها في هذا المدخل مدخول .

ولولا أن جماعة من المصنفين كالمجد ابن الأثير في مقدمة جامع الأصول تلقوا كلامه فيها بالقبول ، لقلة اهتمامهم بمعرفة هذا الشأن واسترواحهم إلى تقليد المتقدم دون البحث والنظر لأعرضت عن تعقب كلامه في هذا فإن حكايته خاصة تغني اللبيب عن التعقب .

فأقول : أما القسم [ الأول ] الذي ادعى أنه شرط فمنقوض بأنهما لم يشترطا ذلك ولا يقتضيه تصرفهما وهو ظاهر بين لن نظر في كتابيهما .

وأما زعمه : بأنه ليس في الصيححين شئ من رواية صحابي ليس له إلا راو واحد فمردود بأن البخاري أخرج حديث مرداس الأسلمي ـ رضي الله تعالى عنه ـ وليس له راو إلا قيس بن أبي حازم في أمثلة كثيرة مذكورة في أثناء الكتاب .

وأما قوله : بأنه ليس في الصحيحين من رواية تابعي ليس له إلا راو واحد فمردود ـ أيضاً ـ [ فقد ] خرج البخاري حديث الزهري عن عمر بن محمد بن جبير بن مطعم ولم يرز عنه غير الزهري فيأمثلة قليلة لذلك .

وأما قوله : (( إن الغرائب الأفراد ليس في الصحيحين منها شئ فليس كذلك بل فيهما مائتي حديث قد جمعها الحافظ ضياء الدين المقدسي في جزء مفرد .

وأما قوله : إنه ليس فيهما من روايات من روى عن أبيه عن جده مع تفرد الابن بذلك عن أبيه فمنتقض برواية سعيد بن المسيب عن أبيه عن جده وبرواية عبد الله والحسن ابني محمد بن علي عن أبيهما عن علي وغير ذلك . وفي تفرد به بعضهم وهو في الصحيحين أو أحدهما .

وأما الأقسام الخمسة التي ذكر أنه مختلف فيها وليس في الصحيحين منها شئ فالأول كما قال ؛ نعم ، قد يخرجان منه في الشواهد . وفي الثاني نظر يعرف من كلامنا في التدليس .

وأما ما اختلف في إرساله ووصله بين الثقات ، ففي الصحيحين منه جملة وقد تعقب الدارقطني بعضه في كتاب التتبع له وأجبنا عن أكثره .

وأما روايات الثقات غير الحفاظ ، ففي الصحيحين منه جملة ـ أيضاً ـ لكنه حيث يقع مثل ذلك عندهما يكونان قد أخرجا له أصلاً يقويه وأما روايات المتبدعة إذا كانوا صادقين ، ففي الصحيحين عن خلق كثير من ذلك ، لكنهم من غير الدعاة ولا الغلاة ، وأكثر ما يخرجان من هذا القسم في غير الأحكام .

نعم ، وقد أخرجا لبعض الدعاة الغلاة كعمران بن حطان وعباد بن يعقوب وغيرهما ، إلا أنهما لم يخرجا لأحد منهم إلا ما توبع عليه . وقد فات الحاكم من الأقسام المختلف فيها قسم آخر نبه عليه القاضي عياض ـ رحمه الله تعالى ـ وهو : رواية المستورين ، فإن رواياتهم مما اختلف في قبوله ورده . ولكن يمكن الجواب عن الحاكم في ذلك بأن هذا القسم وإن كان ممن اختلف في قبول حديثهم ورده ، إنه لم يطلق أحد على حديثهم اسم الصحة . بل الذين قبلوه جعلوه من جملة الحسن بشرطين :

1- أحدهما : أن لا تكون رواياتهم شاذة .

2- وثانيهما : أن لا يوافقهم غيرهم على رواية ما رووه .

فقبولها حينئذ إنما هو باعتبار المجموعية ـ كما قرر في الحسن ـ والله أعلم .

[ دعوى ابن عبد السلام والنووي أن أخبار الصحيحين لا تفيد إلا الظن : ]

12- قوله ع :

وقد غاب ابن عبد السلام على ابن الصلاح هذا وذكر أن بعض المعتزلة يرون أن الأمة إذا عملت بحديث اقتضى ذلك القطع بصحته .

وقال النووي : خالف ابن الصلاح المحققون والأكثرون . فقالوا : يفيد الظن ما لم يتواتر ، وقال في شرح مسلم : لا يلزم من إجماع الأمة على العمل بما فيهما إجماعهم على أنه مقطوع بأنه من كلام النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ .

[ رد الحافظ على النووي وابن عبد السلام : ]

أقول : أقر شيخنا هذا من كلام النووي ، وفيه نظر وذلك أن ابن الصلاح لم يقل : إن الأمة أجمعت على العمل ( بما فيهما ) ، وكيف يسوغ له أن يطلق ذلك والأمة لم تجمع على العمل بما فيهما لا من حيث الجملة ولا من حيث التفضيل ، لأن فيهما أحاديث ترك العمل بما دلت عليه لوجود معارض من ناسخ أو مخصص .

وإنما نقل ابن الصلاح أن الأمة أجمعت على تلقيهما بالقبول من حيث الصحة ويؤيد ذلك أنه قال في شرح مسلم ـ ما صورته :

(( ما اتفقا عليه مقطوع بصدقه لتلقي الأمة له بالقبول وذلك يفيد العلم النظري وهو في إفادة العلم كالمتواتر إلا أن المتواتر يفيد العلم الضروري وتلقي الأمة بالقبول يفيد العلم النظري )) .

ثم حكى عن إمام الحرمين مقالته المشهورة أنه لو اختلف إنسان بطلاق امرأته أن ما في (( كتاب البخاري ومسلم )) مما حكا بصحته من قول النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لما ألزمته الطلاق ولا حنثته لإجماع علماء المسلمين على صحتهما .

فهذا يؤيد ما قلنا أنه ما أراد أنهم اتفقوا على العمل وإنما اتفقوا على الصحة . وحينئذ فلا بد لاتفاقهم من مزية ، لأن اتفاقهم على تلقي خبر غير ما في الصحيحين بالقبول ، ولو كان سنده ضعيفاً يوجب العمل بمدلوله . فاتفاقهم على تلقي ما صح سنده ماذا يفيد ؟

فأما متى قلنا يوجب العمل فقط لزم تساوي الضعيف والصحيح فلا بد للصحيح من مزية . وقد وجدت فيما حكاه إمام الحرمين في البرهان عن الأستاذ أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك ما يصرح بهذا التفضيل الذي أشرت إليه فإنه قال في الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول مقطوع بصحته .

ثم فصل ذلك فقال : إن اتفقوا على العمل به لم يقطع بصدقه وحمل الأمر على اعتقادهم وجوب العمل بخبر الواحد .

وإن تلقوه بالقبول قولاً وفعلاً حكم بصدقه قطعاً . وحكى أبو نصر القشيري عن القاضي أبي بكر الباقلاني أنه بيم في (( كتاب التقريب )) أن الأمة إذا اجتمعت أو أجمع أقوام لا يجوز عليهم التواطؤ على الكذب من غير أن يظهر منهم ذلك التواطؤ على أن الخبر صدق ـ كان ذلك دليلاً على الصدق . قال أبو نصر وحكى إمام الحرمين عن القاضي أن تلقي الأمة لا يقتضي القطع بالصدق .

ولعل هذا فيما أذا تلقته بالقبول ، ولكن يحصل على تصديق الخبر فهذا وجه الجمع بين كلامي القاضي . وجزم القاضي أبو نصر عبد الوهاب المالكي في (( كتاب الملخص )) بالصحة فيما إذا تلقوه بالقبول . قال : وإنما اختلفوا فيما إذا أجمعت على العمل بخبر المخبر هل يدل ذلك على صحته أم لا ؟ على قولين :

قال : وكذلك إذا عمل بموجبه أكثر الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ وأنكروا على من عدل عنه فهل

يدل على صحته وقيام الحجة به ؟

ذهب الجمهور إلى أنه لا يكون صحيحاً بذلك . وذهب عيسى بن أبان إلى أنه يدل على صحته ، انتهى .

فقول الشيخ محي الدين النووي : (( خالف ابن الصلاح المحققون والأكثرون )) . غير متجه . بل تعقبه شيخنا شيخ الإسلام في محاسن الاصطلاح فقال : (( هذا ممنوع فقد نقل المتأخرين عن جمع من الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة أنهم يقطعون بصحة الحديث الذي تلقته الأمة بالقبول )) .

قلت : وكأنه عني بهذا تقي الدين ابن تيمية فإني رأيت فيما حكاه عنه بعض ثقات أصحابه ما ملخصه : الخبر إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقاً له وعملاً بموجبه أفاد العلم عند جماهير العلماء من السلف والخلف وهو الذي ذكره جمهور المصنفين في أصول الفقه كشمس الأئمة السرخسي وغيره من الحنفية والقاضي عبد الوهاب وأمثاله من المالكية .

والشيخ أبي حامد الاسفرائيني والقاضي أبي الطيب الطبري والشيخ أبي إسحاق الشيرازي وسليم الرازي وأمثالهم من الشافعية . وأبي عبد الله ابن حامد والقاضي أبي يعلى وأبي الخطاب وغيرهم من الحنبلية وهو قول أكثر أهل الكلام من الأشاعرة وغيرهم كأبي إسحاق الاسفرائيني وأبي بكر بن فورك وأبو منصور التميمي وابن السمعاني وأبي هاشم الجبائي وأبي عبد الله البصري قال : وهو مذهب أهل الحديث قاطبة وهو معنى ما ذكره ابن الصلاح في مدخله إلى علوم الحديث ـ فذكر ذلك استنباطاً وافق فيه هؤلاء الأئمة وخالفه في ذلك من ظن أن الجمهور على خلاف قوله لكونه لم يقف إلا على تصانيف من خالف في ذلك كالقاضي أبي بكر الباقلاني والغزالي وابن عقيل وغيرهم ، لأن هؤلاء يقولون إنه لا يفيد العل مطلقاً وعمدتهم أن خبر الواحد لا يفيد العلم بمجرده . والأمة إذا عملت بموجبه فلوجوب العمل بالظن عليهم وأنه لا يمكن جزم الأمة بصدقه في الباطن ، لأن هذا جزم بلا علم .

والجواب : إن إجماع الأمور معصوم عن الخطأ في الباطن .. وإجماعهم على تصديق الخبر كإجماعهم على وجوب العمل به والواحد منهم وإن جاز عليه أن يصدق في نفس الأمر من هو كاذب أو غالط فمجموعهم معصوم عن هذا الواحد من أهل التواتر يجوز عليه بمجرده الكذب والخطأ ومع انضمامه إلى أهل التواتر ينتفي الكذب والخطأ عن مجموعهم ولا فرق . ( انتهى كلامه )

وأصرح من رأيت كلامه في ذلك ممن نقل الشيخ تقي الدين عنه ذلك فيما نحن بصدده ـ الأستاذ أبو إسحاق الاسفرائيني فإنه قال : (( أهل الصنعة مجمعون على أن الأخبار التي اشتمل عليها الصحيحان مقطوع بها عن صاحب الشرع وإن حصل الخلاف في بعضها فذلك خلاف في طرقها ورواتها )) .

كأنه يشير بذلك إلى ما نقده بعض الحفاظ . وقد احترز ابن الصلاح عنه . وأما قول الشيخ محي

الدين : (( لا يفيد العلم إلا إن تواتر )) فمنقوض بأشياء :

1- أحدها : الخبر المحتف بالقرائن يفيد العلم النظري وممن صرح به إمام الحرمين والغزالي ، والسيف الآمدي وابن الحاجب ومن تبعهم .

2- ثانيها : الخبر المستفيض الوارد من وجوه كثيرة لا مطعن فيها يفيد العلم النظري للمتبحر في هذا الشأن . وممن ذهب إلى هذا الإسناد أبو إسحاق الاسفرائيني والأستاذ أبو منصور التميمي والأستاذ أبو بكر بن فورك .

وقال الأيباري ـ شارح البرهان ـ بعد أن حكى عن إمام الحرمين أنه ضعف هذه المقالة : (( بأن العرف وإطراد الاعتبار لا يقتضي الصدق قطعاً بل فصاراه غلبة الظن لغلبة الإسناد )) . أراد أن النظر في أحوال المخبرين من أهل الثقة والتجربة يحصل ذلك ومال إليه الغزالي . وإذا قلنا أنه يفيد العلم فهو نظري لا ضروري وبالغ أبو منصور التميمي في الرد على من أبى ذلك فقال : المستفيض وهو الحديث الذي له طرق كثيرة صحيحة لكنه لم يبلغ مبلغ التواتر ، يوجب العلم المكتسب ولا عبرة بمخالفة أهل الأهواء في ذلك .

3- ثالثها : ما قدمنا نقله عن الأئمة في الخبر إذا تلقته الأمة بالقبول . ولا شك أن إجماع الأمة على القول بصحة الخبر أقوى من إفادة العلم من القرائن المحتفة ومن مجرد كثرة الطرق .

ثم بعد تقرير ذلك كله جميعاً لم يقل ابن الصلاح ولا من تقدمه أن هذه الأشياء تفيد العلم القطعي كما يفيده الخبر المتواتر لأن المتواتر يفيد العمل الضروري الذي لا يقبل التشكيك وما عداه مما ذكر يفيد العلم النظري الذي يقبل التشكيك . ولهذا تختلف إفادة العلم عن الأحاديث التي عللت في الصحيحين ـ والله أعلم . وبعد تقرير هذا فقول ابن الصلاح (( والعلم اليقيني النظري حاصل به )) لو اقتصر على قوله العلم النظري لكان أليق بهذا المقام .

أما اليقيني فمنعناه القطعي ، فلذلك أنكر عليه من أنكر ، لأن المقطوع به لا يمكن الترجيح بين آحاده وإنما يقع الترجيح في مفهوماته . ونحن نجد علماء هذا الشأن قديماً وحديثاً يرجحون بعض أحاديث الكتابين على بعض بوجوه من الترجيحات النقلية فلو كان الجميع مقطوعاً به ( ما بقي للترجيح مسلك وقد سلم ابن الصلاح هذا القدر فيما مضى ) لما رجح بين صحيحي البخاري ومسلم ، فالصواب الاقتصار في هذه المواضع على أنه يفيد العلم النظري كما قررناه ـ والله أعلم .

13- قوله ع : (( ما ادعاه من أن ما أخرجه الشيخان مقطوع بصحته قد سبقه إليه أبو الفضل بن طاهر وأبو نصر بن يوسف )) .

أقول : أراد الشيخ بذكر هذين الرجلين كونهما من أهل الحديث وإلا فقد قدمنا من كلام جماعة من أشمة الأصول موافقته على ذلك وهم قبل ابن الصلاح .

نعم وسبق ابن طاهر إلى القول بذلك جماعة من المحدثين كأبي بكر الجوزقي وأبي عبد الله الحميدي بل

نقله ابن تيمية كما تقدم عن أهل الحديث قاطبة .

14- قوله ع : (( إن ما استثناه من المواضع قد أجاب العلماء عنها ومع ذلك ليست يسيرة بل هي كثيرة جمعتها مع الجواب عنه في تصنيف )) .

أقول : كأن سودة هذا التصنيف ضاعت وقد طال بحثي عنها وسؤالي من الشيخ أن يخرجها لي فلم أظفر بها ، ثم جكى ولده أنه ضاع منها كراسان أولان فكان ذلك سبب إهمالها وعدم انتشارها .

قلت : وينبغي الاعتناء بمقاصد ما لعلها اشتملت عليه .

فأقول : أولاً اعتراض الشيخ على ابن الصلاح استثناء المواضع اليسيرة بأنها ليست يسيرة بل كثيرة وبكونه قد جمعها وأجاب عنها لا يمنع استثناءها . أما كونها ليست يسيرة فهذا أنر نسبي . نعم هي بالنسبة إلى ما لا مطعن فيه من الكتابين يسيرة جداً . وأما كونها يمكن الجواب عنها فلا يمنع ذلك استثناءها ، لأن من تعقبها من جملة من ينسب إليه الإجماع على التلقي .

[ تعين اسثتناء الأحاديث المنتقدة في الصحيحين من تلقيها بالقبول : ]

فالمواضع المذكورة متخلفة عنده من التلقي فيتعين استثناؤها وقد اعتنى أبو الحسن الدار قطني بتتبع ما فيهما من الأحاديث فزادت على المائتين . ولأبي مسعود الدمشقي في أطرافه انتقاد عليهما . ولأبي الفضل ابن عمار تصنيف لطيف في ذلك وفي كتاب التقييد لأبي علي الجياني جملة من ذلك .

والكلام على هذه الانتقادات من حيث التفضيل من وجوه :

منها : ما هو مندفع بالكلية .

ومنها : ما قد يندفع .

1- فمنها : الزيادة التي تقع في بعض الأحاديث إذا انفرد بها ثقة من الثقات ولم يذكرها من هو مثله أو أحفظ منه فاحتمال دون هذا الثقة غلط ظن مجرد وغايتها أنها زيادة ثقة فليس فيها منافاة لما رواه الأحفظ والأكثر فهي مقبولة .

2- ومنها : الحديث المروى من حديث تابعي مشهور عن صحابي سمع منه . فيعلل بكونه روي عنه بواسطة كالذي يورى عن سعيد المقبري عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه . ويروى عن سعيد عن أبيه عن أبي هريرة . وأن مثل هذا لا مانع أن يكون التابعي بواسطة ثم سمعه بدون ذلك الواسطة .

ويلتحق بهذا ما يرويه التابعي عن صحابي ، فيروى من روايته عن صحابي آخر ، فإن هذا يكون سمعه منهما فيحدث به تارة عن هذا وتارة عن هذا .

كما قال علي بن المديني في حديث رواه عاصم عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن شداد بن أوس . ورواه يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان رضي الله تعالى عنه .

قال : ما أرى الحديثين إلا صحيحين ، لإمكان أن يكون أبو قلابة سمعه من كل منهما .

قلت : هذا إنما يطرد حيث يحصل الاستواء في الضبط والاتقان .

3- ومنها : ما يشير صاحب الصحيح إلى علته كحديث يرويه مسنداً ثم يشير إلى أنه يروي مرسلاً فذلك مصير منه إلى ترجيح رواية من أسنده على من أرسله .

4- ومنها : ما تكون علته مرجوحة بالنسبة إلى صحته كالحديث الذي يرويه ثقات متصلاً ويخالفهم ثقة فيرويه منقطعاً أو يرويه ثقة متصلاً ويرويه ضعيف منقطعاً .

ومسألة التعليل بالانقطاع وعدم اللحاق قل أن تقع في البخاري بخصوصه لأنه معلوم أن مذهبه عدم الاكتفاء في الإسناد المعنعن بمجرد إمكان اللقاء وإذا اعتبرت هذه الأمور من جملة الأحاديث التي انتقدت عليهما لم يبق بعد ذلك مما نتقد عليهما سوى  مواضع يسيرة جداً ومن أراد حقيقة ذلك فليطالع المقدمة التي كتبتها لشرح صحيح البخاري فقد بينت فيها ذلك بياناً شافياً ـ بحمد الله تعالى .

15- قوله ع : (( وما اشترطه المصنف من المقابلة بأصول متعددة ـ قد خالفه فيه الشيخ محي الدين ـ ثم قال : وفي كلام ابن الصلاح في موضع آخر ما يدل على عد اشتراطه ذلك )) .

أقول : ليس بين كلامه مناقضة . بل كلامه هنا مبني على ما ذهب إليه من عدم الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرد اعتبار الأسانيد ، لأنه علل صحة ذلك بأنه ما من إسناد إلا ونجد فيه خللاً ، فقضية ذلك أن لا يعتمد على أحدهما بل يعتمد على مجموع ما تتفق عليه الأصول المتعددة ، ليحصل بذلك جبر الخلل الواقع في أثناء الأسانيد .

وأما قوله في الموضع الآخر ينبغي أن تصحح أصلك بعدة أصول فلا ينافي قوله المتقدم ، لأن هذه العبارة تستعمل في اللازم ـ والله أعلم .

النوع الثاني : الحسن

32- قوله (ص) : ( قال الخطابي ... الخ ) .

نازعه الشيخ تقي الدين ابن تيمية فقال :

( إنما هذا اصطلاح : للترمذي . وغير الترمذي من أهل الحديث ليس عندهم إلا صحيح وضعيف ، والضعيف عندهم ما انحط عن درجة الصحيح ، ثم قد يكون متروكاً وهو أن يكون راويه متهماً أو كثير الغلط ، وقد يكون حسناً بأن لا يتهم بالكذب ، قال : وهذا معنى قول أحمد العمل بالضعيف أولى من القياس .

قال : وهذا كضعف المريض فقد يكون ضعفه قاطعاً فيكون صاحب فراش عطاياه من الثلث ، وقد يكون ضعف غير قاطع له فيكون عطاؤه من رأس المال كوجع الضرس والعين . ونحو ذلك ... ) انتهى .

ويؤيده قول البيهقي ـ في رسالته إلى أبي محمد الجويني : (( الأحاديث المروية ثلاثة أنواع :

1- نوع اتفق أهل العلم على صحته .

2- ونوع اتفقوا على ضعفه .

3- ونوع اختلفوا في ثبوته فبعضهم صححه وبعضهم يضعفه لعلة تظهر له بها أما أن يكون خفيت العلة على من صححه ، وأما أن يكون لا يراها معتبرة قادحة )) .

قلت : وأبو الحسن بن القطان في الوهم والإيهام يقصر نوع الحسن على هذا كما سيأتي البحث في قول المصنف أن الحسن يجتج به .

23- قوله (ص) : (( وكأن الترمذي ذكر أحد نوعي الحسن وذكر الخطابي النوع الآخر مقتصراً كل واحد منهما على ما رأى أن يشكل ... الخ )) .

أقول : بين الخطابي والترمذي في ذلك فرق ، وذلك أن الخطابي قصد تعريف الأنواع الثلاثة عند أهل الحديث ، فذكر الصححي ثم الحسن ثم الضعيف . وأما الذي سكت عنه وهو : حديث المستور إذا أتى من غير وجه فإنما سكت عنه لأنه ليس عنده من قبيل الحسن . فقد صرح بأن رواية المجهول من قسم الضعيف وأطلق ذلك ولم يفصل ، والمستور قسم من المجهول .

وأما الترمذي : فلم يقصد التعريف بالأنواع المذكورة عند أهل الحديث بدليل أنه لم يعرف بالصحيح ولا بالضعيف بل ولا بالحسن المتفق على كونه حسناً بل المعرف به عنده وهو حديث المستور على ما فهمه المصنف ـ لا يعده كثير من أهل الحديث من قبيل الحسن وليس هو في التحقيق عند الترمذي مقصوراً على رواية المستور ، بل يشترك معه الضعيف بسبب سوء الحفظ والموصوف بالغلط والخطأ وحديث المختلط بعد اختلاطه والمدلس إذا عنعن وما في إسناده انقطاع خفيف . فكل ذلك عنده من قبيل الحسن بالشروط الثلاثة وهي :

1- أن يكون فيهم من يتهم بالكذب .

2- ولا يكون الإسناد شاذاً .

3- وأن يروى مثل ذلك الحديث أو نحوه من وجه آخر فصاعداً وليس كلها في المرتبة على حد سواء بل بعضها أقوى من بعض .

ومما يقوي هذا ويعضده أنه لم يتعرض لمشروطية اتصال الإسناد أصلاً ، بل أطلق ذلك ، فلهذا وصف كثيراً من الأحاديث المنقطعة بكونها حساناً .

[ أمثلة لما يحسنه الترمذي : ]

ولنذكر لكل نوع من ذلك مثلاً من كلامه ، يؤيد ما قلناه فأما أمثلة ما وصفه بالحسن وهو من رواية المستور فكثيرة لا نحتاج إلى الإطالة بها ، وإنما نذكر أمثلة لما زدناه على ما عند المصنف ـ رحمه الله .

1- فمن أمثلة ما وصفه بالحسن وهو من رواية الضعيف السيئ الحفظ ما رواه من طريق شعبة عن

عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه قال :

(( إن امرأة بني فزارة تزوجت على نعلين ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ : أرضيت من نفسك ومالك بنعلين ؟ قالت : نعم . قال : فأجازه النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ قال الترمذي : هذا حديث حسن .

وفي الباب عن عمر وأبي هريرة وعائشة وأبي حدرد ـ رضي الله عنهم ـ . وذكر جماعة غيرهم . وعاصم بن عبيد الله قد ضعفه الجمهور ووصفوه بسوء الحفظ وغاب ابن عيينة على شعبة الرواية عنه

وقد حسن الترمذي حديثه هذا لمجيئه من غير وجه كما شرط ـ والله ـ أعلم .

2- ومن أمثلة ما وصفه بالحسن وهو من رواية الضعيف الموصوف بالغلط والخطأ ما أخرجه من طريق عيسى بن يونس عن مجالد عن أب الوداك ، عن أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ قال : كان عندنا خمر ليتيم ، فلما نزلت المائدة سألت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : فقلت : (( إنه ليتيم )) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( أهريقوه )) .

قال : هذا حديث حسن .

قلت : ومجالد ضعفه جماعة ووصفوه بالغلط والخطأ وإنما وصفه بالحسن لمجيئه من غير وجه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من حديث أنس وغيره رضي الله تعالى عنهم . وأشد من هذا مار واه من طريق الأعمش عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن ، عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه في الأمر بقتل الكلاب وغيره ذلك قال : (( هذا حديث حسن )) .

قلت : وإسماعيل اتفقوا على تضعيفه ووصفه بالغلط وكثرة الخطأ لكنه عضده بأن قال : (( روى هذا الحديث من غير وجه عن الحسن مثله )) . يعني لمتابعة إسماعيل بن مسلم عن الحسن .

ومثله مارواه من طريق علي بن مسهر ، عن عبيدة بن معتب عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة ـ رضي الله عنها قالت : (( كنا نحيض عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم نطهر فيأمرنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقضاء الصيام ، ولا يأمرنا بقضاء الصلاة )) .

قال : (( هذا حديث حسن )) .

قلت : وعبيدة ضعيف جداً قد اتفق أئمة النقل على تضعيفه إلا أنهم لم يتهموه بالكذب . ولحديثه أصل من حديث معاذة ، عن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها مخرج في الصحيح ، فلهذا وصفه بالحسن . ويؤيد هذا ما رويناه عن أبي زرعة أنه سئل عن أبي صالح كاتب الليث ، فقال : لم يكن ممن يتعمد الكذب ، ولكنه كان يغلط وهو عندي حسن الحديث .

3- ومن أمثلة ما وصفه بالحسن وهو من رواية من سمع من مختلط بعد اختلاطه ، ما رواه من طريق يزيد بن هارون عن المسعودي عن زياد بن علافة قال :

صلى بنا المغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنه فلما صلى ركعتين قام فلم يجلس فسبح به من

خلفه ، فأشار إليهم أن قوموا ، فلما فرغ من صلاته سلم وسجد سجدتي السهو وسلم .

وقال : هكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .

قال : هذا حديث حسن .

قلت : والمسعودي اسمه : عبد الرحمن وهو ممن وصف بالاختلاط وكان سماع يزيد منه بعد أن اختلط .

وإنما وصفه بالحسن لمجيئه من أوجه أخر بعضها عند المصنف أيضاً رحمه الله تعالى والله أعلم .

4- ومن أمثلة ما وصفه بالحسن وهو رواية مدلس قد عنعن ما رواه من طريق يحيى بن سعيد عن المثنى بن سعيد عن قتادة عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : المؤمن يموت بعرق الجبين .

قال : هذا حديث حسن .

وقد قال بعض أهل العلم : لم يسمع قتادة من عبد الله بن بريدة رضي الله تعالى عنه قلت : وهو عصرية وبلدية كلاهما من أهل البصرة ولو صح أنه سمع منه فقتاد مدلس معروف بالتدليس وقد روى هذا بصيغة العنعنة ، وإنما وصفه بالحسن لأنه له شواهد من حديث عبد الله بن مسعود وغيره رضي الله عنهم .

ومن ذلك ما رواه من طريق هشيم عن يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : إن حقاً على المسلمين أن يغتسلوا يوم الجمعة وليمس أحدهم من طيب أهله فإن لم يجد فالماء له طيب .

قال : (( هذا حديث حسن )) .

قلت : وهشيم موصوف بالتدليس ، لكن تابعه عنده أبو يحيى التيمي . وللمتن شواهد من حديث أبي سعيد الخدري وغيره رضي الله تعالى عنهم .

5- ومن أمثلة ما وصفه بالحسن وهو منقطع الإسناد ما رواه من طريق عمرو بن مرة عن أبي البختري عن علي رضي الله تعالى عنه قال : (( إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لعمر في العباس رضي الله تعالى عنه : (( إن عم الرجل صنوا أبيه )) . وكان عمر رضي الله عنه تكلم في صدقته وقال : هذا حديث حسن .

قلت : أبو البختري : اسمه سعيد بن فيروز ولم يسمع من علي رضي الله تعالى عنه . فالإسناد منقطع ووصفه بالحسن لأنه له شواهد مشهورة من حديث أبي هريرة وغيره وأمثلة ذلك عنده كثيرة . وقد صرح هو ببعضها .

فمن ذلك ما رواه من طريق الليث عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن إسحاق بن عمر

عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : (( ما صلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلاة

لوقتها الآخر مرتين حتى قبضه الله عز وجل )) .

قال : هذا حديث حسن وليس إسناده بمتصل .

وإنما وصفه بالحسن لما عضده من الشواهد من حديث أبي برزة الأسلمي وغيره . وقد حسن عدة أحاديث من رواية أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه وهو لم يسمع منه عند الجمهور . وحديثاً من رواية أبي قلابة الجرمي عن عائشة رضي الله تعالى عنها .

ورأيت لأبي عبد الرحمن النسائي نحو ذلك ، فإنه روى حديثاً من رواية أبي عبيدة عن أبيه ثم قال : أبو عبيدة لم يسمع من أبيه إلا أن هذا الحديث جيد .

وكذا قال في حديث رواه من رواية عبد الجبار بن وائل بن حجر : عبد الجبار لم يسمع من أبيه لكن الحديث في نفسه جيد . إلى غير ذلك من الأمثلة . وذلك مصير منهم إلى أن الصورة الاجتماعية لها تأثر في التقوية .

وإذا تقرر ذلك كان من رأيه أي الترمذي أن جميع ذلك إذا اعتضد لمجيئه من وجه آخر أو أكثر نزل منزلة الحسن احتمل أن لا يوافقه غيره على هذا الرأي أو يبادر للإنكار عليه إذا وصف حديث الراوي الضعيف أو ما إسناده منقطع بكونه حسناً فاحتاج إلى التنبيه على اجتهاده في ذلك وأفصح عن مقصده فيه ولهذا أطلق الحسن لما عرف به فلم يقيده بغرابة ولا غيرها ونسبه إلى نفسه وإلى من يرى رأيه قال : (( عندنا كل حديث إلى آخر كلامه الذي ساقه شيخنا بلفظه .

وإذا تقر ذلك بقي وراءه أمر آخر . وذلك أن المصنف وغير واحد نقلوا الاتفاق على أن الحديث الحسن يحتج به كما يحتج بالصحيح ، وإن كان دونه في المرتبة . فما المراد على هذا بالحديث الحسن الذي اتفقوا فيه على ذلك هل هو القسم الذي حرره المصنف وقال : إن كلام الخطابي ينزل عليه . وهو رواية الصدوق المشهور بالأمانة ... إلى آخر كلامه أو القسم الذي ذكرناه آنفاً عن الترمذي مع مجموع أنواعه التي ذكرنا أمثلتها ، أو ا هو أعم من ذلك ؟

لم أر من تعرض لتحرير هذا ، والذي يظهر لي أن دعوى الاتفاق إنما نصح على الأول دون الثاني وعيه أيضاً يتنزل قول المصنف أن كثيراً من أهل الحديث لا يفرق بين الصحيح والحسن كالحاكم كما سيأتي وكذا قول المصنف : (( إن الحسن إذا جاء ارتقى إلى الصحة ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى .

فأما ما حررناه عن الترمذي أنه يطلق عليه اسم الحسن من الضعيف والمنقطع إذا اعتضد ، فلا يتجه إطلاق الاتفاق على الاحتجاج به جميعه ولا دعوى الصحة فيه إذا أتى من طرق . ويؤيد هذا قول الخطيب : (( أجمع أهل العلم أن الخبر لا يجب قبوله إلا من العاقل الصدوق المأمون على ما يخبر به ))    وقد صرح أبو الحسن ابن القطان أحد الحفاظ النقاد من أهل المغرب في كتابه (( بيان الوهم والإيهام )) بأن هذا القسم لا يحتج به كله بل يعمل به في فضائل الأعمال ويتوقف عن العمل به في الأحكام إلا إذا كثرت طرقه أو عضده اتصال عمل أو موافقة شاهد صحيح أو ظاهر القرآن .

وهذا حسن قوي رايق ما أظن يأباه والله الموفق . ويدل على أن الحديث إذا وصفه الترمذي بالحسن لا يلزم [ عنده ] أن يحتج به أنه أخرج حديثاً من طريق خيثمة البصري عن الحسن عن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه وقال بعده حديث حسن وليس إسناده بذاك .

وقال في كتاب العلم بعده : أن أخرج حديثاً في فضل العلم : (( هذا حديث حسن قال : وإنما لم نقل لهذا الحديث : صحيح ، لأنه يقال : إن الأعمش دلس فيه فرواه بعضهم عنه ، قال : حدثت عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه )) انتهى .

فحكم له بالحسن المتردد الواقع فيه وامتنع عن الحكم عليه بالصحة لذلك ، لكن في كل المثالين نظر ، لاحتمال أن يكون سبب تحسينه لهعما كونهما جاءا من وجه آخر كما تقدم تقريره . لكن محل بحثنا هنا هل يلزم من الوصف بالحسن الحكم له بالحجة أم لا ؟ .

( هذا الذي يتوقف فيه والقلب إلى ما حرره ابن القطان أميل ) والله أعلم .

16- قوله (ع) : حكاية عن أي الفتح القشيري أنه قال : (( ليس في عبارة الخطابي كثير تلخيص والصحيح أيضاً قد عرف مخرجه واشتهر رجاله )) .

أقول : أجاب الحافظ أبو سعيد الهلائي عن ذلك فقال : (( إنما يتوجه الاعتراض على الخطابي أن لو كان بالحسن فقط أما وقد عرف بالصحيح أولاً ثم عرف بالحسن فيتعين حمل كلامه على أنه أراد بقوله : ما عرف مخرجه واشتهر رجاله (( ما لم يبلغ درجة الصحيح ، ويعرف هذا من مجموع كلامه )) .

قلت : وعلى تقدير تسليم هذا الجواب فهذا القدر غير منضبط فيصح القرب الذي في كلام ابن الجوزي رحمه الله تعالى غير منضبط فيصح ما قال القشيري أنه على غير صناعة الحدود والتعريفات . وقد رأيت لبعض المتأخرين في الحسن كلاماً يقتضي أنه الحديث الذي في رواته مقال ، لكن لم يظهر فيه مقتضى الرد فيحكم على حديثه بالضعف ولا يسلم من غوائل الطعن ، فيحكم لحديثه بالصحة .

وقال ابن دحية : (( الحديث الحسن هو : ما دون الصحيح مما فيه ضعف قريب محتمل عن راو ينتهي إلى درجة العدالة ولا ينحط إلى درجة الفسق )) .

قلت : وهو جيد بالنسبة إلى النظر في الراوي لكن صحة الحديث وحسنه ليس تابعاً لحال الراوي فقط ، بل لأمور تنضم إلى ذلك من المتابعات والشواهد وعدم الشذوذ ةالنكارة ، فإذا اعتبر في مثل هذا سلامة راويه الموصوف بذلك من الشذوذ والإنكار كان من أحسن ما عرف به الحديث الحسن الذاتي لا المجبور على رأي الترمذي والله أعلم .

تنبيه

فسر القاضي أبو بكر بن العربي مخرج الحديث بأن يكون من رواية راو قد اشتهر برواية حديث أهل

بلده ، كقتادة في البصريين وأبي إسحاق السبيعي في الكوفيين وعطاء في المكيين وأمثالهم . فإن حديث البصريين مثلاً إذا جاء عن قتادة ونحوه كان مخرجه معروفاً وإذا جاء عن غير قتادة ونحوه كان شاذاً ـ والله أعلم .

17- قوله (ع) ـ حكاية عن التاح التبريزي : أنه تعقب على ابن دقيق العبد قوله : (( إن الصحيح أخص من الحسن ، فإن من لازم ذلك أن يدخل الصحيح في حد الحسن ، لأن دخول الخاص في حد العام ضروري )) .

أقول : بين الصحيح والحسن خصوص وعموم من وجه ، وذلك بيّن واضح لمن تدبره ، فلا يرد اعتراض التبريزي إذ لا يلزم من كون الصحيح أخص من الحسن من وجه أن يكون أخص منه مطلقاً حتى يدخل الصحيح في الحسن .

وقد سألت شيخنا إمام الأئمة عنه ـ والله الموفق .

18- قوله (ع) : حكاية عن بعض المتأخرين أنه زعم أن قول الترمذي : ولا يكون شاذاً (( زيادة لا حاجة إليها،لأن قوله يروى من غير وجه يغني عنه ، ثم قال : فكأنه كرره بلفظ مباين )).

أقول : ليس في كلامه تكرار بل الشاذ عنده ما خالف فيه الراوي من هو أحفظ منه أو أكثر سواء انفرد به أو لم ينفرد ، كما صرح به الشافعي ـ رضي الله عنه .

وقوله : يروى من غير وجه شرط زايد على ذلك . وإنما يتمشى ذلك على رأي من يزعم أن الشاذ ما تفرد به الراوي مطلقاً . وحمل كلام الترمذي على الأول أليق ، لأن الحمل على التأسيس أولى من الحمل على التأكيد ، ولا سيما في التعارف ـ والله أعلم .

19- قوله (ع) : حكاية عن بعض المتأخرين أنه يرد على ابن الصلاح في القسم الأول ( يعني الذي نزل كلام الترمذي عليه ) المنقطع والمرسل الذي في رجاله مستور وروي مثله أو نحوه من وجه آخر .

أقول : المتأخر المذكور هو القاضي بدر الدين بن جماعة ، كذلك قال في مختصره وأقرّ شيخنا كلامه ، وهو غير وارد لما قدمنا ذكره أن الترمذي يحكم للمنقطع إذا روي من وجه آخر بالحسن .

[ تعريف ابن جماعة للحسن : ]

وأما قول ابن جماعة : (( الأحسن في حد الحسن أن يقال : هو ما في إسناده المتصل مستور له به شاهد أو مشهور قاصر عن درجة الاتقان وخلا من العلة والشذوذ )) .

[ رد الحافظ على ابن جماعة : ]

فليس يحسن في حد الحسن فضلاً عن أن يكون أحسن ، لأوجه :

1- أحدها : أن قيد الاتصال إنما يشترط في رواية الصدوق الذي لم يوصف بتمام الضبط والاتقان ،

وهذا هو الحسن لذاته وهو الذي لم يتعرض الترمذي لوصفه . بخلاف القسم الثاني الذي وصفه ، فلا

يشترط الاتصال في جميع أقسامه كما قررناه .

2- ثانيها : اقتصاره على رواية المستور مشعر بأن رواية الضعيف السيئ الحفظ ومن ذكرنا معه من الأمثلة المتقدمة ليست تعد حساناً إذا تعددت طرقها ، وليس الأمر في تصرف الترمذي كذلك ، فلا يكون الحد الذي ذكره جامعاً .

3- ثالثها : اشتراط نفي العلة لا يصلح هنا ، لأن الضعيف في الراوي علة في الخبر والانقطاع في الإسناد علة في الخبر ، وعنعنة المدلس علة في الخبر ، وجهالة حال الراوي علة في الخبر ، ومع ذلك ، فالترمذي يحكم على ذلك كله بالحسن إذا جمع الشروط الثلاثة التي ذكرها ، فالتقييد بعدم العلة بناقض ذلك ـ والله أعلم .

4- رابعها : القصور الذي ذكر غير منضبط فيرد عليه ما يرد على ابن الجوزي ـ والله أعلم .

34- قوله (ص) : (( وإذا استبعد ذلك من الفقهاء الشافعية متبعد ذكرنا له نص الشافعي ـ رضي الله عنه ـ في قبول مراسيل التابعين )) ... إلى آخره .

أقول : إنما اقتصر على الشافعية دون غيرهم ، لأنهم هم الذين يردون المرسل دون من الفقهاء ومع ذلك فالشافعي ـ رضي الله تعالى عنه ـ لا يرده مطلقاً ولكن اقتصاره على الفقهاء في استبعاد ذلك عجيب فإن جمهور المحدثين لا يقبلون رواية المستور وهو قسم من المجهول فروايته بمفردها ليست بحجة عندهم وإنما يحتج بها عند بعضهم بالشروط التي ذكرها الترمذي ، فلا معنى لتخصيص ذلك بالفقهاء .

35- قوله (ص) : (( ومن ذلك ضعف لا يزول بمجيئه من وجه آخر لقوة الضعف وتقاعد الجابر ، عن جبره ومقاومته ، كالضعف الذي ينشأ من كون الراوي متهماً بالكذب أو كون الحديث شاذاً وهذه جملة يدرك تفاصيلها بالمباشرة )) .

أقول : لم يذكر للجابر ضابطاً يعلم منه ما يصلح أن يكون جائزاً أولاً ، والتحرير فيه أن يقال : أنه

يرجع إلى الاحتمال في طرفي القبول والرد ، فحيث يستوي الاحتمال فيهما الذي يصلح لأن ينجبر

وحيث يقوى جانب الرد فهو الذي لا ينجبر .

وأما إذا رجح جانب القبول فليس من هذا بل ذاك في الحسن الذاتي ـ والله أعلم .

وقوله : قبل ذلك : (( إنا نجد أحاديث محكوماً بضعفها مع كونها قد رويت بأسانيد كثيرة . ثم مثل ذلك بحديث (( الأذنان من الرأس )) .

وقد تعقب ذلك عليه الإمام تقي الدين ابن دقيق العيد في شرح الإلمام فقال : (( هذا الذي ذكره قد

لا يوافق عليه ، فقد ذكرنا رواية ابن ماجه وأن رواتها ثقات ، ورواية الدار قطني  وأن ابن القطان

حكم لها بالصحة وعلى الجملة فإن كان الحكم له بالقبول متوقفاً على طريق لا علة لها ولا كلام في

أحد من رواتها ، فقد يتوقف ذلك هنا لكن اعتبار ذلك صعب ينتقض عليهم في كثير مما صححوه أو حسنوه . ولو شرط ذلك لما كان لهم حاجة إلى الحكم بالحسن فمقتضى المتابعة والمجىء من طرق للإسناد الضعيف ، لأن الضعيف علة ـ والله أعلم .

وقال الحافظ صلاح الدين العلائي : (( في التمثيل بذلك نظر ، لأن الحديث المشار إليه ربما ينتهي ببعض طرقه إلى درجة الحسن )) .

وذكر شيخنا ـ في كلامه على هذا الموضع ـ أن أبا الفرج ابن الجوزي ذكر طرقه في العلل المتناهية وضعفها كلها .

قلت : وقد راجعت (( كتاب العلل المتناهية لابن الجوزي ، فلم أره تعرض لهذا الحديث ، بل رأيته في كتاب التحقيق له قد احتج به وقواه فينظر في هذا .

وقد جمعت طرقه فيما كتبته على جامع الترمذي ، فرأيت في الحاشية : أمثلها حديث عبد الله بن زيد وحديث عبد الله بن عباس وحديث عبد الله بن عمر وأبي أمامة ـ رضي الله تعالى عنهم ـ وفي كل واحد منها مع ذلك مقال ـ والله أعلم .

أما حديث عبد الله بن زيد ـ رضي الله عنه ـ فرواه ابن ماجه قال : ثنا سويد بن سعيد . ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة عن شعبة عن حبيب بن زيد . عن عباد عن عبد الله بن زيد ـ رضي الله تعالى عنه ت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( الأذنان من الرأس )) .

قال المنذري : (( هذا الإسناد متصل ورواته محتج بهم وهو أمثل إسناد في هذا الباب [ قلت هذا لإسناد ] رجاله رجال مسلم ، إلا أن له علة فإنه من رواية سويد بن سعيد كما ترى . وقد وهم فيه . وذكر الترمذي في العلل الكبير أنه سأل البخاري عن هذا الحديث فضعف سويداً .

قلت : وهو وإن أخرج له مسلم في صحيحه فقه ضعف الأئمة واعتذر مسلم عن تخريج حديثه ، بأنه ما أخرج له إلا ما له أصل من رواية غيره . وقد كان مسلم لقيه وسمع منه قبل أن يعمى ويتلقن ما ليس من حديثه . وإنما كثرت المناكير في روايته به عماه .

وقد حدث بهذا الحديث في حال صحته فأتى به على الصواب . فرواه البيهقي من رواية عمران بن

موسى السختياني عن سويد بسنده إلى عبد الله بن زيد ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال : رأين رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ توضأ بثلثي مد وجعل يدلك . قال : (( والأذنان من الرأس )) ، انتهى .

وقوله : قال والأذنان من الرأس هو من قول عبد الله بن زيد ـ رضي الله تعالى عنه ـ والمرفوع منه

ذكر الوضوء بثلثي مد والدلك .

وكذا أخرجه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والحاكم من حديث أبي كريب عن ابن أبي زائدة

دون الموقوف . وقد أوضحت ذلك بدلائله وطرقه في الكتاب الذي جمعته في المدرج .

وأما حديث عبد الله بن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ فرواه أبو بكر البزار في مسنده والحسن بن علي المعمري في (( اليوم والليلة )) كلاهما عن أبي كامل الجحدري قال : ثنا غندر . ثنا ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( الأذنان من الرأس )) .

ومن هذا الوجه رواه الدار قطني وهذا رجاله رجال مسلم أيضاً ـ إلا أن له علة فإن أبا كامل به عن غندر وتفرد به غندر عن ابن جريج . وخالفه من هو أحفظ منه وأكثر عدداً .

فرووه عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ معضلاً والعلة فيه من جهتين :

1- أحداهما : أن سماع غندر عن ابن جريج كان بالبصرة وابن جريج لما حدث بالبصرة حدث بأحاديث وهم فيها ، وسماع من سمع منه بمكة أصح .

2- ثانيهما : أن أبا كامل قال : ـ فيما رواه أبو أحمد بن عدي عنه ـ : (( لم أكتب عن غندر إلا هذا الحديث أفادنيه عنه عبد الله بن سلمة الأفطس )) . انتهى . والأفطس ضعيف جداً فلعله أدخله على أبي كامل .

وقد مال أبو الحسن ابن القطان إلى الحكم بصحته لثقة رجاله واتصاله وقال ابن دقيق العيد : لعله أمثل إسناد في هذا الباب .

قلت : وليس بجيد ، لأن فيه العلة التي وصفناها ، والشذوذ ، فلا يحكم له بالصحة . كما تقرر ـ والله أعلم .

وأما حديث ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ فرواه البيهقي في الخلافيات من طريق ضمرة بن ربيعة عن إسماعيل بن عياش عن يحيى بن سعيد عن نافع عن ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنها ـ ورجاله ثقات ، إلا أن رواية إسماعيل بن عياش عن الحجازيين فيها مقال وهذا منها ، والمحفوظ من حديث نافع عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ من قوله . وكذا رواه عبد الرزاق وأبوبكر بن أبي شيبة من طرق عنه . وكذا رواه بن أبي شيبة ـ أيضاً من رواية سعيد بن مرجانة

وهلال بن أسامة كلاهما عن ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ موقوفاً .

وأما حديث : أبي أمامة ـ رضي الله تعالى عنه ـ فقد أشار إليه شيخنا وقوله : إن ابن حبان أخرجه في صحيحه من رواية شهر عن أبي أمامة ـ رضي الله تعالى عنه ـ فيه نظر ، بل ليس هو في صحيح ابن حبان البتة لا من طريق أبي أمامة ولا من طريق غيره بل لم يخرج ابن حبان في

صحيحه شيئاً .

وقد ذكرت طرق حديث شهر هذا في (( كتاب المدرج )) بدلائله وكيفية الإدراج فيه بحمد الله تعالى .

وإذا نظر المصنف إلى مجموع هذه الطرق علم أن للحديث أصلاً ، وأنه ليس مما يطرح ، وقد حسنوا أحاديث كثيرة باعتبار طرق لها دون هذه ـ والله أعلم ـ .

تنبيهان

الأول : معنى هذا المتن أن الأذنين حكمهما حكم الرأس في المسح لا أنهما جزء من الرأس ، بدليل أنه لا يجزئ المسح على ما عليهما من شعر عند من يجتزئ بمسح بعض الرأس بالاتفاق ، وكذلك لا يجزئ المحرم أن يقصر مما عليهما من شعر بالإجماع . ـ والله الموفق ـ .

الثاني : ينبغي أن يمثل في هذا المقام بحديث من حفظ على أمتي أربعين حديثاً . فقد نقل النووي اتفاق الحفاظ على ضعفه مع كثرة طرقه ـ والله أعلم ـ .

36- قوله (ص) : (( إذا كان راوي الحديث متأخراً عن درجة أهل الحفظ والاتقان غير أنه من المشهورين ( بالصدق والستر ) ، وروي حديثه من غير وجه ، فقد اجتمعت له القوة من الجهتين وذلك يرقي حديثه من درجة الحسن إلى درجة الصحيح .

مثاله : حديث ( محمد بن عمرو بن علقمة ) عن أبي سلمة عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه )) … إلى آخر كلامه .

وفيه أمور :

1- أحدها : أن ظاهر كلامه أن شرط الصحيح أن يكون راويه حافظاً متقناً وقد بينا ما فيه فيما سبق .

2- وثانيهما : أن وصف الحديث بالصحة إذا قصر عن رتبة الصحيح وكان على شرط الحسن إذا روي من وجه آخر لا يدخل في التعريف الذي عرف به الصحيح أولاً .

فإما أن يزيد في حد الصحيح ما يعطي أن هذا أيضاً يسمى صحيحاً وإما أن لا يسمي هذا صحيحاً ، والحق أنه من طريق النظر أنه يسمى صحيحاً وينبغي أن يزاد في التعريف بالصحيح فيقال : هو الحديث الذي يتصل إسناده نقل العدل [ التام ] الضبط أو القاصر عنه إذا اعتضد عن مثله إلى منتهاه

ولا يكون شاذاً ولا معللاً .

وإنما قلت ذلك لأنني اعتبرت كثيراً من أحاديث الصحيحين فوجدتها لا يتم الحكم عليها بالصحة إلا بذلك .

ومن ذلك حديث أبي بن العباس بن سهل بن سعد عن أبيه عن جده ـ رضي الله تعالى عنه ـ في

ذكر خيل النبي صلى الله عليه وسلم .

وأبي هذا قد ضعفه لسوء حفظه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين والنسائي ، ولكن تابعه عليه أخوه عبد

المهيمن بن العباس ـ أخرجه ابن ماجه من طريقه . وعبد المهمين ـ أيضاً ـ فيه ضعف ، فاعتضد .

وانصاف إلى ذلك أنه ليس من أحاديث الأحكام ، فلهذه الصورة المجموعية حكم البخاري بصحته .

وكذا حكم بصحة حديث معاوية بن إسحاق بن طلحة عن عمته عائشة بنت طلحة عن عاشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ أنه سألت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الجهاد ، فقال صلى الله عليه وسلم : (( جهادكن الحج والعمرة )) . ومعاوية ضعفه أبو زرعة ووثقه أحمد والنسائي . وقد تابعه عليه عنده حبيب بن أبي عمرة فاعتضد . في أمثلة كثيرة قد ذكرت الكثير منها في مقدمة شرح البخاري . ويوجد في كتاب مسلم منها أضعاف ما في البخاري ـ والله أعلم .

[ الحسن قسمان : ]

وقياس ما ذكر ابن الصلاح أن الحسن قسمان :

أحدهما : ما هو لذاته . والآخر ما هو لجابره .

وكون الصحيح كذلك . ويكون القسم الذي هو صحيح أو حسن لذاته أقوى من الآخر ، وتظهر فائدة ذلك عند التعارض وكذلك أقول في الضعيف إذا روي بأسانيد كلها قاصرة عن درجة الاعتبار حيث لا يجبر بعضها ببعض أنه أمثل من ضعيف روي بإسناد واحد كذلك ، وتظهر فائدة ذلك في جواز العمل به أو منعه مطلقاً ـ والله أعلم ـ .

3- ثالثها : أنه اعترض عليه في المثال الذي مثل به وهو حديث : (( لولا أن أشق … )) من طريق محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ بأن الحكم بصحته إنما جاء من جهة أن روي من طريق أخرى صحيحة لا مطعن فيها . منها في الصحيحين من طريق الأعرج عن أبي هريرة ـ رضي الله تعالى عنه ـ والمثال اللائق هنا أن يذكر حديث له أسانيد كل منها لا يرتقي عن درجة الحسن قد حكم له بالصحة باعتبار تلك الطرق .

والجواب عن المصنف أن المثال الذي أورده مستقيم والذي طولب به قسم من المسألة . وذلك أن الحديث الذي يروى بإسناد حسن لا يخلو إما أن يكون فرداً أو له متابع .

الثاني لا يخلو المتابع إما أن يكون دونه أو مثله أو فوقه فإن كان دونه فإنه لا يرقيه عن درجته .

قلت : قد يفيده إذا كان عن غير متهم بالكذب قوة ما يرجح بها لو عارضه حسن آخر

بإسناد غريب . وإن كان مثله أو فوقه فكل منهما يرقيه إلى درجة الصحة . فذكر المصنف مثالاً لما فوقه ولم يذكر مثالاً لما هو مثله .

وإذا كانت الحاجة ماسة إليه فلنذكره نيابة عنه وأمثلة كثيرة قد ذكرنا منها الحديثين اللذين أوردناهما من الصحيح قبل هذا .

ومنها : ما رواه الترمذي من طريق إسرائيل عن عامر بن شقيق عن أبي وائل عن عثمان بن عفان ـ

رضي الله عنه ـ قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم ـ كلن يخلل لحيته .

تفرد بها عامر بن شقيق ، وقد قواه البخاري والنسائي وابن حبان ولينه ابن معين وأبو حاتم وحكم البخاري فيما حكاه الترمذي في العلل بأن حديثه هذا حسن ، وكذا قال أحمد فيما حكاه عنه أبو داود : أحسن شئ في هذا الباب حديث عثمان ـ رشي الله تعالى عنه ـ . وصححه مطلقاً الترمذي والدار قطني وابن خزيمة والحاكم وغيرهم . وذلك لما عضده من الشواهد ، كحديث أبي المليح الرقي عن الوليد بن زوران عن أنس ـ رضي الله عنه .

أخرجه أبو داود وإسناده حسن ، لأن الوليد وثقه ابن حبان ولم يضعفه أحد وتابعه عليه ثابت البناني عن أنس ـ رضي الله عنه .

أخرجه الطبراني في الكبير من رواية  عمر بن إبراهيم العبدي وعمر لا بأس به . ورواه الذهلي في الزهريات من طريق الزبيدي عن الزهري ـ رضي الله عنه ـ إلا أن له علة غير قادحة ، كما قال ابن القطان .

ورواه الترمذي والحاكم من طريق قتادة عن حسان بن بلال عن عمار بن ياسر وهو معلول ولو شولهد أخرى دون ما ذكر في المرتبة وبمجموع ذلك حكموا على أصل الحديث بالصحة وكل طريق منها بمفردها لا يبلغ درجة الصحيح ـ والله أعلم .

[ إطلاق لفظ الحسن قبل شيوخ الترمذي : ]

20- قوله (ع) : (( وقد وجد التعبير بالحسن في كلام الشيوخ الطبقة التي قبل الترمذي كالشافعي )) .

أقول : قد وجد التعبير بالحسن في كلام من هو أقدم من الشافعي .

قال إبراهيم النخعي : كانوا إذا اجتمعوا كلاهوا أن يخرج الرجل حسان حديثه . وقيل لشعبة كيف تركت أحاديث العرزمي وهي حسان ؟ قال : من حسنها فررت .

ووجد (( هذا من أحسن الأحاديث إسناداً )) في كلام علي بن المديني وأبي زرعة الرازي وأبي حاتم ويعقوب بن شيبة وجماعة . لكن منهم من يريد بإطلاق ذلك المعنى الاصطلاحي .

ومنهم من لا يريده . فأما ما وجد في ذلك في عبارة الشافعي ومن قبله بل وفي عبارة أحمد بن حنبل فلم يتبين لي منهم إرادة المعنى الإصطلاحي ، بل ظاهر عبارتهم خلاف ذلك .

فإن حكم الشافعي على حديث ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ في استقبال بيت المقدس حال قضاء الحاجة بكونه حسناً خلاف الاصطلاح بل هو صحيح متفق على صحته . وكذا قال الشافعي ـ رضي الله تعالى عنه ـ في حديث منصور عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود ـ رضي الله تعالى عنه ـ في السهو .

وأما أحمد : فإنه سئل فيما حكاه الخلال عن أحاديث نقض الوضوء بمس الذكر فقال : أصح ما فيها

حديث أم حبيبة ـ رضي الله تعالى عنها .

قال : وسئل عن حديث بسرة ـ رضي الله عنها ـ فقال : صحيح .

قال الخلال : حدثنا أحمد بن أصرم أنه سأل أحمد عن حديث أم حبيبة ـ رضي الله عنها ـ في مس الذكر فقال : هو حديث حسن . فظاهر هذا أنه لم يقصد المعنى الاصطلاحي ، لأن الحسن لا يكون أصح من الصحيح .

وأما أبو حاتم ، فذكر ابنه في كتاب الجرح والتعديل في باب اسمه عمرو من حرف العين عمرو بن محمد ـ روى عن سعيد بن جبير وأبي زرعة بن عمرو بن جرير ـ روى عنه إبراهيم بن طهمان سألت أبي عنه فقال هو مجهول والحديث الذي رواه عن سعيد بن جبير حسن .

قلت : وكلام أبي حاتم هذا محتمل ، فإنه يطلق المجهول على ما هو أعم من المستور وغيهر ، فيحتمل أن يكون حكم على الحديث بالحسن لأنه روي من وجه آخر ، فيوافق كلام الترمذي ، ويحتمل أن يكون حكم بالحسن وأراد المعنى اللغوي [ أي ] أن متنه حسن ـ والله أعلم .

وأما علي بن المديني فقد أكثر من وصف الأحاديث بالصحة والحسن في مسنده وفي علله ، فظاهر عبارته قصد المعنى الاصطلاحي وكأنه الإمام السابق لهذا الاصطلاح ، وعنه أخذ البخاري ويعقوب بن شيبة وغير واحد . وعن البخاري أخذ الترمذي .

فمن ذلك : ما ذكر الترمذي في العلل الكبير أنه سأل البخاري عن أحاديث التوقيت في السمح على الخفين ، فقال : حديث صفوان بن عسال صحيح ، وحديث أبي بكرة ـ رضي الله عنه ـ حسن وحديث صفوان الذي أشار أليه موجود في شرائط الصحة .

وحديث أبي بكرة الذي أشار إليه ـ رواه ابن ماجه من رواية المهاجر أبي مخلد عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه ـ رضي الله عنه ـ به والمهاجر قال وهيب : إنه كان غير حافظ .

وقال ابن معين : صالح . وقال الساجي : صدوق .

وقال أبو حاتم : لين الحديث يكتب حديثه . فهذا على شرط الحسن لذاته . كما تقرر .

وإن كان ابن حبان أخرجه في (( صحيحه )) ، فذالك جري على قاعدته في عدم التفرقة بين الصحيح والحسن ، فلا يعترض به . وذكر الترمذي ـ أيضاً ـ في (( الجامع )) أنه سأله عن حديث شريك بن عبد الله النخعي ، عن أبي إسحاق ، عن عطاء بن أبي رباح عن رافع بن خديج ـ رضي الله عنه ـ قال : أن النبي صلى الله عليه وسلم ـ قال : (( من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شئ وله نفقته )) .

وهو من أفراد شريك عن أبي إسحاق ، فقال البخاري : هو حديث حسن . انتهى .

وتفرد شريك بمثل هذا الأصل عن أبي إسحاق ( مع كثرة الرواة ) عن أبي إسحاق مما يوجب التوقف

عن الاحتجاج به ، ولكنه اعتضد بما رواه الترمذي أيضاً من طريق عقبة بن الأصم ، عن عطاء بن

رافع رضي الله عنه فوصفه بالحسن لهذا . وهذا على شرط القسم الثاني فبان أن استمداد الترمذي لذلك إنما هو من البخاري ولكن الترمذي أكثر منه وأشاذ بذكره وأظهر الاصطلاح فيه فصار أشهر به من غيره والله أعلم .

21- قوله (ع) : (( ويعقوب بن شيبة وأبو عيل إنما صنفا كتابيهما بعد الترمذي )) .

أقول : فيه نظر بالنسبة إلى يعقوب بن شيبة ( فقط ) فإنه من طبقة شيوخ الترمذي وهو أقدم سناً وسماعاً وأعلى رجالاً من البخاري إمام الترمذي وإن تأخرت وفاته بعده ست سنين .

وذكر الخطيب أنه أقام في تصنيف مسنده مدة طويلة وأنه لم يكمله مع ذلك ومات قبل الترمذي بنحو عشرين سنة . فكيف يقال إنه صنف كتابه بعد الترمذي ؟ ظاهر الحال يأبى ذلك .

وأما قوله حكاية عن المعترض على ابن الصلاح بأن أبا علي الطوسي كان شيخاً لأبي حاتم الرازي ، فقد رأيت ذلك في كتاب العلامة علاء الدين مغلطاي في مواضع كثيرة من شرح البخاري وغيره فلا يذكر أبا علي الطوسي إلا ويصفه بأنه شيخ أبي حاتم الرازي وليس ذلك بوصف صحيح بل الصواب العكس . وأبو حاتم شيخ أبي علي وإن كان أبو حاتم حكى عن أبي علي شيئاً ، فذلك من باب رواية الأكابر عن الأصاغر فقد قال الخليلي في الإرشاد : روى عنه أبو حاتم شيوخه حكايات . وهذا كرواية البخاري عن الترمذي فإن أبا حاتم والبخاري من طبقة واحدة كما أن الترمذي وأبا علي من طبقة واحدة وهذا بين من معرفة شيوخهم ووقت وفاتهم ، فسماع أبي حاتم قبل أبي علي بنحو من ثلاثين سنة . ومات أبو حاتم قبل أبي علي بنحو من هذا القدر .

وكانت رحلة أبي علي الطوسي بعد رحلة الترمذي ، فلم يلق عوالي شيوخه كقتيبة ، ولكنه شاركه في أكثر مشايخه واستخرج على كتابه كما قال شيخنا وسمى كتابه كتاب الأحكام .

والدليل على صحة كون كتابه مستخرجاً على الترمذي أنه يحكم على كل حديث بنظير ما يحكم عليه الترمذي سواء إلا أنه يعبر بقوله : يقال : ( هذا حديث حسن ) يقال : حديث حسن صحيح لا يجزم بشئ من ذلك .

وهذا مما يقوي أنه نقل كلام غيره فيه وهو الترمذي ، لأنها عبارته بعينها . وإذا تقرر ذلك ، فقول ابن الصلاح : إن (( كتاب الترمذي أصل في معرفة الحديث الحسن )) لا اعتراض عليه فيه ، لأنه نبه مع ذلك على أنه يوجد في متفرقات كلام من تقدمه . وهو كما قال والله أعلم .

تنبيه

أبو علي الطوسي المذكور : اسمه الحسن بن علي بن نصر الحافظ له تصانيف ورحلة ذكره الحاكم في تاريخ نيسابور وأثنى عليه وأبو علي الخليلي في الإرشاد وقال : سمعت من عشرة من أصحابه وله تصانيف تدل على معرفته . وأبو أحمد الحاكم في الكنى وقال : إنه سمع منه وغيرهم . وكانت وفاته

سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة والله أعلم .

37- قوله (ص) : (( ومن مظانه )) :

أي من مظان الحسن والمظان جمع مظنة بكسر الظاء وهي مفعلة من الظن . وقال المطرزي : المظنة العم من ظن بمعنى علم .

22- قوله (ع) : (( ولم ينقل لما عن أبي داود يقول بذلك ( يعني الحسن الاصطلاحي ) أم لا ))؟

أقول : حكى ابن كثير في مختصره أنه رأى في بعض النسخ من رسالة أبي داود ما نصه : (( وما سكت عليه فهو حسن وبعضها أصح من بعض )) . فهذه النسخة إن كانت معتمدة فهو نص في موضع النزاع ، فيتعين المصير إليه ، ولكن نسخة روايتنا والنسخ المعتمدة التي وفقنا عليها ليس فيها هذا والله الموفق .

23- قوله (ع) :

في الجواب من اعتراض أبي الفتح اليعمري إذ زعم أن شرط أبي داود كشرط مسلم إلا في الأحاديث التي بين أبو داود بأن مسلماً شرط الصحيح ، فليس لنا أن نحكم على حديث في كتابع بأنه حسن وأبو داود إنما قال : (( ما سكت عنه فهو صالح والصاح يجوز أن يكون صحيحاً وأن يكون حسناً فالاحتياط أن يحكم عليه بالحسن )) .

أقول : أجاب الحافظ صلاح الدين العلائي عن كلام أبي الفتح اليعمري بجواب أمتن من هذا فقال : ما نصه : (( هذا الذي قاله ضعيف ، وقل ابن الصلاح أقوى ، لأن درجات الصحيح إذا تفاوتت ( لا نعني بالحسن إلا ) الدرجة الدنيا منها .

والدرجة الدنيا منها لم يخرج مسلم منها شيئاً في الأصول ، وإنما يخرجها في المتابعات والشواهد .

[ الرواة عند مسلم ثلاثة أقسام : ]

قلت : وهو تعقب صحيح وهو مبني عل أمر اختلف نظر الأئمة فيه وهو قول مسلم ما معناه أن الرواة ثلاثة أقسام :

الأول : كمالك وشعبة وأنظارهما .

الثاني : مثل عطاء بن السائب ويزيد بن أبي زياد وأمثالهما .

وكل من القسمين مقبول ، ( لما اشتمل الكل ) من اسم الصدق .

والطبقة الثالثة : أحاديث المتروكين .

فقال القاضي عياض وتبعه النووي وغيره : (( إن مسلماً أخرج أحاديث القسمين الأولين ولم يخرج شيئاً من أحاديث القسم الثالث )) .

وقال الحاكم والبيهقي وغيرهما : (( لم يخرج مسلم إلا أحاديث القسم الأول فقط فلما حدث به

اخترمته المنية قبل إخراج القسمين الآخرين )) .

ويزيد هذا ما رواه البيهقي بسند صحيح عن إبراهيم بن محمد بن سفيان صاحب مسلم قال : ((

صنف مسلم ثلاثة كتب أحدها هذا الذي قرأه الناس ( يعني الصحيح ) والثاني يدخل فيه عكرمة وابن إسحاق وأمثالهما والثالث يدخل فيه الضعفاء .

قلت : وإنما اشتبه الأمر على القاضي عياض ومن تبعه بأن الرواية عن أهل القسم الثاني موجودة في صحيحه لكن فرض المسألة هل احتج ( بهم كما احتج ) بأهل القسم الأول أم لا ؟

والحق : أنه لم يخرج شيئاً مما انفرد به الواحد منهم وإنما احتج بأهل القسم الأول سواء تفردوا أم لا .

ويخرج من أحاديث أهل القسم الثاني ما يرفع به التفرد عن أحاديث أهل القسم الأول . وكذلك إذا كان لحديث أهل القسم الثاني طرق كثيرة يعضد بعضها بعضاً فإنه قد يخرج ذلك . وهذا ظاهر بين كتابه ولو كان يخرج جميع أحاديث أهل القسم الثاني في الأصول بل وفي المتابعات لكان كتابه أضعاف ما هو عليه . ألا تراه أخرج لعطاء بن السائب في المتابعات وهو من المكثرين ومع ذلك فبه له عنده سوى مواضع يسيرة .

وكذا محمد بن إسحاق وهو من بحور الحديث وليس عنده في المتابعات إلا ستة أو سبعة . ولم يخرج لليث بن أبي سليم ولا ليزيد بن أبي زياد ولا لمجالد بن سعيد إلا مقروناً . وهذا بخلاف أبي داود ، فإنه يخرج أحاديث هؤلاء في الأصول محتجاً بها ، ولأجل ذا تخلف كتابه عن شرط الصحة وفي قول أبي داود : (( وما كان فيه وهن شديد بينته )) ( ما يفهم أن الذي يكون فيه وهن غير شديد ) أنه لا يبينه .

ومنه يتبين أن جميع ما سكت عليه أبو داود لا يكون من قبيل الحسن الاصطلاحي . بل هو على أقسام :

1- منه ما هو في الصحيحين أو على شرط الصحة .

2- ومنه ما هو من قبيل الحسن لذاته .

3- ومنه ما هو من قبيل الحسن إذا اعتضد .

وهذان القسمان كثير في كتابه جداً .

4- ومنه ما هو ضعيف ، لكنه من رواية من لم يجمع على تركه غالباً . وكل هذه الأقسام عنده تصلح للاحتجاج بها .

كما نقل ابن منده عنه أنه يخرج الحديث الضعيف إذا لم يجد في الباب غيره وأنه أقوى عنده من رأي الرجال . وكذلك قال ابن عبد البر : (( كل ما سكت عليه أبو داود فهو صحيح عنده لا سيما إن كان لم يذكر في الباب غيره )) .

ونحو هذا ما روينا عن الإمام أحمد بن حنبل فيما نقله ابن المنذر عنه أنه كان يحتج بعمرو بن شعيب

عن أبيه عن جده إذا لم يكن في الباب غيره .

وأصرح من هذا ما رويناه عنه فيما حكاه أبو العز بن كادش أنه قال لابنه : (( لو أردت أن أقتصر على ما صح عندي لم أرو من هذا المسند إلا الشئ بعد الشئ ، ولكنك يا بني تعرف طريقتي في الحديث أني لا أخالف ما يضعف إلا إذا كان في الباب شئ يدفعه )) .

ومن هذا ما روينا من طريق عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل بالإسناد الصحيح إليه قال : سمعت أبي يقول:((لا تكاد ترى أحداً ينظر في الرأي إلا وفي قلبه دغل والحديث الضعيف أحب إلى من الرأي ))

[ موقف أحمد من الرأي : ]

قال : فسألته عن الرجل يكون ببلد لا يجد فيها إلا صاحب حديث لا يدري صحيحه من سقيمه وصاحب رأي فمن يسأل ؟

قال : يسأل صاحب الحديث ولا يسأل صاحب الرأي .

فهذا نحو مما حكي عن أبي داود . ولا عجب ، فإنه كان من تلامذه الإمام أحمد فغير مستنكر أن يقول قوله .

بل حكى النجم الطوفي عن العلامة تقي الدين ابن تيمية أنه قال : (( اعتبرت مسند أحمد ، فوجدته موافقاً لشرط أبي داود )) .

وقد أشار شيخنا في النوع الثالث والعشرين إلى شئ من هذا ومن هنا يظهر ضعف طريقة من يحتج بكل ما سكت عليه أبو داود فإنه يخرج أحاديث جماعة من الضعفاء في الاحتجاج ويسكت عنها مثل ابن ليهعة ، وصالح مولى التوأمة ، وعبد الله بن محمد بن عقيل ، وموسى بن وردان ، وسلمة بن الفضل ، ودلهم بن صالح وغيرهم .

فلا ينبغي للناقد أن يقلده في السكوت على أحاديثهم ويتابعه في الاحتجاج بهم ، بل طريقه أن ينظر هل لذلك الحديث متابع فيعتضد به أو هو غريب فيتوقف فيه ؟

لا سيما إن كان مخالفاً لرواية من هو أوثق منه ، فإنه ينحط إلى قبيل المنكر وقد يخرج لمن هو أضعف من هؤلاء بكثير كالحارث بن وجيه وصدقة الدقيقي وعثمان بن واقد العمري ومحمد بن عبدالرحمن البيلماني وأبي جناب الكلبي وسليمان بن أرقم وإسحاق بن عبد الله بن أبي فروة وأمثالهم من المتروكين .

وكذلك ما فيه من الأسانيد المنقطعة وأحاديثهم المدلسين بالعنعنة والأسانيد التي فيها من أبهمت أسماؤهم ، فلا يتجه الحكم لأحاديث هؤلاء بالحسن من أجل سكوت أبي داود ، لأن سكوته تارة يكون اكتفاء بما تقدم له من الكلام في ذلك الراوي في نفس كتابه ويكون لذهول منه .

وتارة يكون لشدة وضوح ضعف ذلك الراوي واتفاق الأئمة على طرح روايته . كأبي الحويرث

ويحيى بن العلاء وغيرهما . وتارة يكون من اختلاف الرواة عنه وهو الأكثر .

فإن في رواية أبي الحسن بن العبد عنه في الكلام على جماعة من الرواة والأسانيد ما ليس في رواية

اللؤلؤي وإن كانت روايته أشهر . ومن أمثل ذلك ما رواه من طريق الحارث بن وجيه عن مالك بن دينار عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه حديث : (( إن تحت كل شعرة جنابة )) الحديث .

فإنه تكلم عليه في بعض الروايات فقال : هذا حديث ضعيف والحارث حديثه منكر وفي بعضها اقتصر على بعض هذا الكلام . وفي بعضها لم يتكلم فيه وقد يتكلم على الحديث بالتضعيف البالغ خارج السنن ويسكت عنه فيها .

ومن أمثلته : ما رواه في السنن من طريق محمد بن ثابت العبدي عن نافع قال : انطلقت مع ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في حاجة إلى ابن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فذكر الحديث في الذي سلم على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه حتى تيمم ، ثم رد السلام وقال : (( إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني لم أكن على طهر )) . لم يتكلم عليه في السنن ، ولما ذكره في (( كتاب التفرد )) قال : (( لم يتابع أحد محمد بن ثابت على هذا )) . ثم حكى عن أحمد بن حنبل أنه قال : (( هو حديث منكر )) .

[ كثرة الانقطاع والإبهام في سنن أبي داود : ]

وأما الأحاديث التي في إسنادها انقطاع أو إبهام ففي الكتاب من ذلك أحاديث كثيرة :

منه : وهو ثالث حديث في كتابه ما رواه من طريق أبي التياح قال : حدثني شيخ قال : لما قدم ابن عباس البصرة كان يحدث عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه فذكر حديث (( إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله )) . لم يتكلم عليه في جميع الروايات ، وفيه هذا الشيخ المبهم . إلى غير ذلك من الأحاديث التي يمنع من الاحتجاج بها ما فيها من العلل .

فالصواب عدم الاعتماد على مجرد سكوته لما وصفنا أنه يحتج بالأحاديث الضعيفة ، ويقدمها على القياس إن ثبت ذلك عنه . والمعتمد على مجرد سكوته لا يرى الاحتجاج بذلك فكيف يقلده فيه ؟

وهذا جميعه إن حملنا قوله : (( وما لم أقل فيه فهو صالح )) . على أن مراده أنه صالح للحجة . وهو الظاهر . وإن حملناه على ما هو أعم من ذلك وهو الصلاحية للحجة أو للاستشهاد أو للمتابعة ، فلا يلزم منه أنه يحتج بالضعيف . ويحتاج إلى تأمل تلك المواضع التي يسكت عليها وهي ضعيفة هل فيها أفراد أم لا ؟ إن وجد فيها أفراد تعين الحمل على الأول وإلا حمل على الثاني وعلى كل تقدير ، فلا يصلح ما سكت عليه للاحتجاج مطلقاً .

وقد نبه على ذلك الشيخ محي الدين النووي رحمه الله تعالى فقال : (( في سنن أبي داود أحاديث

ظاهرة الضعف لم يبينها مع أنه متفق على ضعفها ، فلا بد من تأويل كلامه .

ثم قال : والحق أن ما وجدناه في سننه ما لم يبينه ، ولم ينص على صحته أو حسنه أحد ممن يعتمد

فهو حسن ، وإن نص على ضعفه من يعتمد أو رأى العارف في سنده ما يقتضي الضعف ولا جابر له

حكم بضعفه ولم يلتفت إلى سكوت أبي داود )) .

قلت : وهذا هو التحقيق ، لكنه خالف ذلك في مواضع من شرح المهذب وغيره من تصانيفه ، فاحتج بأحاديث كثيرة من أجل سكوت أبي داود عليها فلا يغتر بذلك والله أعلم .

38-قوله (ص) : (( ما صار إليه صاحب المصابيح من تقسيم أحاديثه إلى نوعين : الصحاح والحسان إلى أن قال : فهذا اصطلاح غير معروف )) . وتبعه الشيخ محي الدين في مختصره فقال : (( هذا الكلام من البغوي ليس بصواب )) .

وقد تعقب العلامة تاج الدين التبريزي في مختصره هذا الكلام فقال : (( ليس من العادة المشاحة في الاصطلاح والتخطئة عليه مع نص الجمهور على أن من اصطلح في أول الكتاب فليس ببعيد عن الصواب . والبغوي قد نص في ابتداء المصابيح بهذه العبارة : (( وأعني بالصحاح ما أخرجه الشيخان إلى آخره )) .

ثم قال : وأعني بالحسان ما أورده أبو داود والترمذي وغيرهما من الأئمة إلى آخره .

ثم قال : وما كان من ضعيف أو غريب أشرت إليه وأعرضت عما كان منكراً أو موضوعاً . هذه عبارته ولم يذكر قط أن مراد الأئمة بالصحاح كذا وبالحسان كذا . قال : ومع هذا فلا يعرف لتخطئة الشخين ( يعني ابن الصلاح والنووي ) إياه وجه .

قلت : ومما يشهد لصحة كونه أراد بقوله الحسان اصطلاحاً خاصاً له أن يقول في مواضع من قسم الحسان : هذا صحيح تارة ، وهذا ضعيف تارة بحسب ما يظهر له من ذلك .

ولو كان أراد بالحسان الاصطلاح العام ما نوه في كتابه إلى الأنواع الثلاثة وحتى لو كان عليه في بعض ذلك مناقشة بالنسبة إلى الإطلاق فذلك يكون لأمر خارجي حتى يرجع إلى الذهول ولا يضر فيما نحن فيه والله أعلم .

39- قوله (ص) : (( كتب المسانيد غير ملتحقة بالكتب الخمسة وما جرى مجراها في الاحتجاج بها والركون إلى ما يورد فيها مطلقاً كمسند أحمد وغيره )) إلى أن قال : (( فهذه عادتهم أن يخرجوا في مسند كل صحابي ما رووه من حديثه غير متقيدين بأن يكون حديثاً محتجاً به أم لا )) .

قلت : هذا هو الأصل في وضع هذين الصنفين ، فإن ظاهر حال من يصنف على الأبواب أنه ادعى على أن الحكم في المسألة التي بوب عليها ما بوب به فيحتاج إلى مستدل لصحة دعواه والاستدلال إنما ينبغي أن يكون بما يصلح أن يحتج به وأما من يصنف على المسانيد فإن ظاهر قصده

جمع حديث كل صحابي على حده سواء أكان يصلح للاحتجاج به أم لا .

وهذا هو ظاهر من أصل الوضع بلا شك ، لكن جماعة من المصنفين في كل من الصنفين خالف أصل

موضوعه فانحط أو ارتفع ، فإن بعض من صنف الأبواب قد أخرج فيها الأحاديث الضعيفة بل

والباطلة إما لذهول عن ضعفها وإما لقلة معرفة بالنقد .

وبعض من صنف على المسانيد انتقى أحاديث كل صحابي فأخرج أصح ما وجد من حديثه . كما روينا عن إسحاق بن راهويه أنه انتقى في مسنده أصح ما وجده من حديث كل صحابي إلا أن لا يجد ذلك المتن إلا من تلك الطريق ، فإنه يخرجه . ونحى بقي بن مخلد في مسنده نحو ذلك . وكذا صنع أبو بكر البزار قريباً من ذلك وقد صرح ببعض ذلك في عدة مواضع من مسنده فيخرج الإسناد الذي فيه ويذكر علته ، ويعتذر عن تخريجه بأنه لم يعرفه إلا من ذلك الوجه .

وأما الإمام أحمد ، فقد صنف أبو موسى المديني جزءاً كبيراً ذكر فيه أدلة كثيرة تقتضي أن أحمد انتفى مسنده وأنه كله صحيح عنده وأن ما أخرجه فيه عن الضعفاء إنما هو في المتابعات ، وإن كان أبو موسى قد ينازع في بعض ذلك ، لكنه لا يشك منصف أن مسنده أنقى أحاديث وأتقن رجالاً من غيره . وهذا يدل على أنه انتخبه .

ويؤيد هذا ما يحكيه ابنه عنه أنه كان يضرب على بعض الأحاديث التي يستنكرها .

وروى أبو موسى في هذا الكتاب من طريق حنبل بن إسحاق قال : (( جمعنا أحمد أنا وأبناء عبد الله وصالح وقال : انتقيته من أكثر من سبعمائة ألف وخمسين ألفاً فما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فارجعوا إليه ، فإن وجدتموه وإلا فليس بحجة )) .

فهذا صريح فيما قلناه إنه انتقاه ولو وقعت فيه الأحاديث الضعيفة والمنكرة ، فلا يمنع ذلك صحة هذه الدعوى ، لأن هذه أمور نسبية بل هذا كاف فيما قلناه أنه لم يكتف بمطلق جمع حديث كل صحابي

وظاهر كلام المصنف أن الأحاديث التي في الكتب الخمسة وغيرها يحتج بجها جميعها ، وليس كذلك فإن فيها شيئاً كثيراً لا يصلح للاحتجاج به بل وفيها ما لا يصلح للاستشهاد به من حديث المتروكين

وليست الأحاديث الزائدة على الصحيحين من سنن أبي داود وجامع الترمذي .

وإذا تقرر هذا فسبيل من أراد أن يحتج بحديث من السنن أو بأحاديث من المسانيد واحد إذ جميع ذلك لم يشترط من جمعه الصحة ولا الحسن خاصة ، فهذا المحتج إن كان متأهلاً لمعرفة الصحيح من غيره ، فليس له أن يحتج بحديث من السنن من غير أن ينظر في اتصال إسناده وحال رواته كما أنه ليس له أن يحتج بحديث من المسانيد حتى يحيط علماً بذلك .

وإن كان غير متأهل لدرك ذلك فسبيله أن ينظر في الحديث إن كان خرج في الصحيحين أو صرح أحد من الأئمة بصحته ، فله أن يقلد في ذلك . وإن لم يجد أحداً صححه ولا حسنه فما له أن يقدم على الاحتجاج به فيكون كحاطب ليل فلعله يحتج بالباطل وهو لا يشعر .

ولم أر للمصنف سلفاً في أن جميع ما صنف على الأبواب يحتج به مطلقاً ولو كان اقتصر على الكتب الخمسة لكان أقرب من حيث الأغلب لكنه قال مع ذلك : (( وما جرى مجراها )) . فيدخل في عبارته غيرها من الكتب المصنفة على الأبواب كسنن ابن ماجه بل ومصنف ابن أبي شيبة وعبد

الرزاق وغيرهم ، فعليه في إطلاق ذلك من التعقب ما أوردناه والله أعلم .

24- قوله (ع) : (( لا نسلم أن أحمد اشترط الصحة في كتابه )) .

أقول : حرف الجواب أن المراد بصحة ماذا ؟ إن قيل باعتبار الشرائط التي تقدم ذكرها ، فلا يمكن دعوى ذلك في المسند مع ما فيه من الأحاديث المعللة والمضعفة .

وإن قيل باعتبار ما يراه أحمد من التمسك بالأحاديث ولو كانت ضعيفة ما لم يكن ضعفها شديداً . كما تقدم في الكلام على أبي داود فهذا يمكن دعواه .

25- قوله (ع) : (( على أن ثمة أحاديث صحيحة مخرجه في الصحيح وليست في مسند أحمد ))

أقول : أجاب بعضهم عن هذا بأن الأحاديث الصحيحة التي خلا عنها المسند لا بد أن يكن لها فيه أصول أو نظائر أو شواهد أو ما يقوم مقامها .

قلت : فلعل هذا إنما يتم النقض أن لو وجد حديث محكوم بصحته سالم من التعليل ليس هو في المسند وإلا فلا والله أعلم .

[ أحاديث منتقدة في مسند أحمد : ]

26- قوله (ع) : (( بل فيه ( أي المسند ) أحاديث موضوعة وقد جمعتها في جزء )) .

أقول : ذكر الشيخ تقي الدين ابن تيمية أن أًل هذه القصة أن الحافظين أبا العلاء الهمذاني وأبا الفرج ابن الجوزي سئلا هل في المسند أحاديث موضوعة أم لا ؟ . فأنكر ذلك أبو العلاء أشد الإنكار . وأثبت ذلك أبو الفرج وبين ما فيه من ذلك بحسب ما ظهر له .

قلت : ثم انتدب أبو موسى المديني فانتصر لشيخه أبي العلاء الهمذاني وصنف الجزء الذي أشار إليه شيخنا .

وأما الجزء المذكور فهو مشتمل على تسعة أحاديث وهي الستة التي ساقها الشيخ هنا من المسند والحديثان المساقان من زيادات عبد الله والتاسع حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مثل حديث أنس رضي الله عنه فيمن عمر أربعين سنة .

والحكم على الأحاديث التسعة بكونها موضوعة محل نظر وتأمل ثم إنها كلها في الفضائل أو الترغيب والترهيب . ومن عادة المحدثين التساهل في مثل ذلك . وفي الجملة لا يتأتى الحكم على جميعها بالوضع .

1- فمن ذلك : حديث ابن عمر رضي الله عنهما في احتكار الطعام الحديث . فقد ذكر شيخنا أن في الحكم بوضعه نظراً وأن الحاكم صححه وهو كما قال شيخنا .

فقد رواه الإمام أحمد قال : حدثنا يزيد بن هارون ثنا أصبغ بن زيد ثنا أبو بشر عن أبي

الزاهرية ، عن كثير بن مرة ، عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((

من احتكر طعاماً أربعين ليلة فقد برئ من الله تعالى )) .

وهكذا رواه أبو يعلى في مسنده عن أبي خيثمة زهير بن حرب عن يزيد به . ومن طريقهما أخرجه

الحافظ الضياء في الأحاديث المختارة مما ليس في الصحيحين .

وأما الحاكم فإنه أخرجه من طريق عمرو بن الحصين عن أصبغ وعمر بن الحصين أحد المتروكين المتهمين ، فالمعتمد عليه فيه هو يزيد بن هارون ولم يعله ابن الجوزي إلا بأصبغ بن زيد ، وقد ساق ابن عدي له ثلاثة أحاديث هذا منها . وقال : إنها غير محفوظة وأنه لم يرو عنه غير يزيد بن هارون .

وقد وهم ابن عدي في ذلك فإنه روى عنه عشرة أنفس غيره ووثقه يحيى بن معين وأبو داود وغيرهما

وقال النسائي : (( ليس به بأس )) وكذا قال أحمد وزاد ما أحسن رواية يزيد عنه . وقال الدار قطني : (( تكلما فيه وهو ثقة عندي )) .

قلت : لم أر للمتقدمين فيه كلاماً سوى لابن سعد وهو محجوج بما تقدم والله أعلم . وللمتن شواه تدل على صحته . فإن قيل : إنما حكم عليه بالوضع نظراً إلى لفظ المتن وكون ظاهره مخالفاً للقواعد قلنا : ليست هذه وظيفة المحدث ، وعلى التنزل ، فالجواب عنه أنه من جملة الأحاديث التي سبقت في معنى الزجر الشديد والتغليظ ولفظ البراءة وإن كان مستشكلاً فقد صحت بمثله أحاديث أخر . ففي صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( أنا برئ ممن سلق وحلق وخرق )) . فمهما أجيب عنه فهو جوابنا .

2- ومنها : حديث عمر رضي الله تعالى عنه : (( ليكونن في هذه الأمة رجل يقال له الوليد )) الحديث .

رواه أحمد قال : حدثنا أبو المغيرة ، ثنا إسماعيل بن عياش الأوزاعي وغيره عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال : ولد لأخي أم سلمة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم (( سميتموه بأسماء فراعنتكم ؟ ليكونن في هذه الأمة رجل يقال له الوليد لهو شر على هذه الأمة من فرعوه لقومه )) .

ورجال إسناده ثقات ، وإسماعيل بن عياش ، صدوق إنما تكلموا في حديثه من غير الشاميين ، ولم يعله ابن الجوزي إلا بقول ابن حبان : (( هذا خبر باطل ، ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا ولا عمر رضي الله عنه ولا سعيد ولا الزهري حدث به ولا هو من حديث الأوزاعي [ قال ] : وكان إسماعيل من الحفاظ المتقنين في حداثته ، فلما كبر تغير حفظه فما حفظه في صباه حدث به على جهته ، وما حفظ به على الكبر من حديث الغرباء خلط فيه .

قلت : وليس هذا الحديث مما حفظه إسماعيل من حديث الغرباء بل هو من حديثه عن الشاميين وقد قال جمع من الأئمة : إن حديث إسماعيل عن الشاميين قوي وصحح الترمذي وغيره من عدة أحاديث . على أنه لم ينفرد بهذا .

فقد رواه يعقوب بن سفيان في تاريخه عن محمد بن خالد بن العباس السكسكي قال : ثنا الوليد بن مسلم . ثنا عمرو الأوزاعي فذكره إلا أنه لم يذكر عمر في إسناده : فكانوا يرون أنه الوليد بن عبدالملك ، ثم رأينا أنه الوليد بن يزيد لفتتة الناس به حين خرجوا عليه ، فقاتلوه فانفتحت الفتن على الأمة والهرج .

قلت : وتابع الوليد على إرساله بشر بن بكر أخرجه البيهقي في الدلائل عن الحاكم وغيره عن أبي العباس ( وهو الأصم ) عن سعيد بن عثمان التنوخي عن ( بشر بن بكر ) قال حدثني الزهري فذكره وزاد في المتن غيروا اسمه فسموه عبد الله . وزاد أيضاً أنه ولد لأخي أم سلمة رضي الله عنها من أمها .

قال البيهقي : هذا مرسل حسن وهو كما قال ، بل هو على شرط الصحيح لولا إرساله . وكذا أرسله معمر عن الزهري بسنده في الجزء الثاني من أمالي عبد الرزاق عن معمر .

فبان بهذا أن قول ابن حبان : أن ابن المسيب ما حدث به قط ولا ابن شهاب ما حدث به أيضاً ولا الأوزاعي . لا يخلو من مجازفة .

وقد صرحت ( رواية بشر بن بكر ) بسماع الأوزاعي له من الزهري فأمن ما يخشى من أن الوليد بن مسلم دلس فيه تدليس التسوية . على أن الأوزاعي لم ينفرد به ، فقد رواه الزبيدي عن الزهري مثله . وفي الباب عن أن أم سلمة رضي الله تعالى عنها .

رواه ابن إسحاق عن محمحد بن عمرو بن عطاء ، عن زبيب بنت أم سلمة عن أنعا رضي الله تعالى عنها قالت : دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وعندي غلام من آل المغيرة اسمه الوليد فقال صلى الله عليه وسلم : من هذا ؟ قال صلى الله عليه وسلم : قد اتخذتم الوليد حناناً غيروا اسمه ، فإنه سيكون في هذه الأمة فرعون يقال له الوليد . ورواه محمد بن سلام الجمحي عن حماد بن سلمة نحوه منقطعاً .

3- ومنها : حديث أنس رضي الله تعالى عنه : (( ما من معمر يعمر في الإسلام أربعين سنة إلا صرف الله عنه أنواعاً من البلاء : الجنون والجذام )) الحديث .

قال الإمام أحمد : ثنا أنس بن عياض ، قال : ثنا يوسف بن أبي ذرة عن جعفر بن عمرو بن أنية عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ما من معمر يعمر في الإسلام أربعين سنة إلا صرف الله عنه ثلاثة أنواع من البلاء : الجنون والجذام والبرص ، فإذا بلغ الخمسين لين الله عليه الحساب الحديث .

ورواه أبو يعلى وغيره من حديث أبي ضمرة أنس بن عياض به . ورواه أحمد أيضاً عن أبي النضر ، عن فرج بن فضالة عن محمد بن عامر عن محمد بن عبد الله عن عمرو بن جعفر عن أنس رضي الله عنه موقوفاً . وهو معروف بيوسف بن أبي ذرة .

ورواه عنه أيضاً الحارث بن أبي الزبير ويوسف ضعفه يحيى بن معين ولم ينفرد به . فقد رواه محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان ، عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري . كذا رويناه في مسند أبي يعلى رواية ابن المقري .

وفي تفسير ابن مردويه أيضاً من طريق عبد الرحمن بن أبي الموالي عن محمد بن موسى بن أبي عبيدة الزمعي عن محمد بن عبد الله بن عبد الله بن عمرو بن عثمان به . وما وقع في رواية أحمد الموقوفة عن عمرو بن جعفر وهم من فرج بن فضالة انقلب اسمه وإنما هو جعفر بن عمرو .

ولم ينفرد به جعفر بن عمرو ، فقد رويناه من طريق عبد الواحد بن راشد وأبي طوالة عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر بن حزم وعبيد الله بن أنس وزيد بن أسلم وغيرهم كلهم عن أنس رضي الله عنه وفي الباب عن عثمان بن عفان وعبد الله بن أبي بكر الصديق وأبي هريرة رضي الله عنهم .

وأجودها إسناداً طريق زيد بن أسلم وقد أوردها البيهقي في كتاب الزهد له عن الحاكم عن الأصم عن بكر بن سهل عن عبد الله بن محمد بن رمح عن عبد الله بن وهب عن حفص بن ميسرة عنه به .

وليس في إسناده من ينظر في أمره إلا بكر بن سهل ، فقد ضعفه النسائي وقواه غيره . ولم يتهمه أحد بالكذب . فقد رويناه من وجه آخر عن حفص بن ميسرة .

وفي الجملة فالحكم على هذا الحديث بالوضع مردود وقد جمعت طرقه بأسانيدها وعللها في الجزء الذي جمعته فيما ورد في غفران ما تقدم وما تأخر من الذنوب غفر الله ذنوبنا كلها بمنه وكرمه .

4- ومنها : حديث ابن عمر رضي الله عنهما في سد الأبواب إلا باب علي رضي الله تعالى عنه وهو في المسند من رواية الإمام أحمد عن وكيع ،عن هشام بن سعد ، عن عمرو بن أسيد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : (( كنا نقول في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الناس ثم أبو بكر ثم عمر رضي الله تعالى عنهما ولقد أوتي ابن أبي طالب رضي الله تعالة عنه ثلاث خصال لأن يكون لي واحدة منهن أحب إلى من حمر النعم . زوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته . وولدت له وسد الأبواب إلا بابه في المسجد وأعطاه الراية يوم خيبر .

ورواته ثقات إلا أن هشام بن سعد ق

ضعف من قبل حفظه وأخرج له مسلم فحديثه في رتبة الحسن لا سيما ما له من الشواهد وقد تبين أنه من رواية أحمد لا من رواية ابنه . وله شاهد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أيضاً أورده النسائي في الخصائص بسند صحيح عن أبي إسحاق عن العلاء بن عرار قال : قلت لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما : أخبرني عن علي وعثمان رضي الله تعالى عنهما فقال : أما علي رضي الله عنه فلا تسأل عنه أحداً وانظر إلى منزلته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه سد أبوابنا في المسجد وأقر بابه . والعلاء وثقه ابن معين .

ورواه ابن أبي عاصم من طريق عبيد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن أبي إسحاق سألت ابن

عمر رضي الله عنهما فذكره . وأما حديث سعد بن مالك في ذلك فهو من رواية أحمد أيضاً لا من رواية ابنه وإسناده حسن أيضاً .

وأما إدعاء ابن الجوزي : أنهما من وضع الرافضة فكلامه في ذلك دعوى عربة عن البرهان . وقد أخرج النسائي في خصائص على رضي الله عنه حديث سعد رضي الله عنه وأخرج فيه أيضاً حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه بإسناد صحيح .

قلت : وأخرج أيضاً من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : وسد أبواب المسجد غير باب علي رضي الله عنه قال : فيدخل المسجد جنباً وهو طريقه ليس له طريق غيره في حديث طويل وقد أخرج أحمد في مسنده أيضاً هذين الحديثين .

وكذا أخرجهما الترمذي ، لكنه قال في حديث ابن عباس رضي الله عنهما بعد أن أخرجه عن محمد بن حميد عن إبراهيم بن المختار عن شعبة عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون عنه : غريب لا نعرفه عن شعبة إلا من هذا الوجه .

وتعقبه الحافظ الضياء في المختارة بأن الحاكم والطبراني روياه من طريق مسكين بن بكير عن شعبة وهي أصح من طريق الترمذي ورواية أحمد هي من طريق أبي عوانة عن أبي بلج . وأبو بلج وثقه يحيى بن معين وأبو حاتم .

وقال البخاري فيه نظر. انتهى . والحديث الذي أشار إليه من رواية الحاكم رويناه أيضاً .. في المجلس الرابع من أمالي أبي جعفر محمد بن عمرو بن البختري .

قال : ثنا أبو الأصبغ القرقساني . ثنا أبو جعفر النفيلي ، ثنا مسكين بن بكير : ثنا شعبة به . ويشهد له حديث أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي : لا يحل لأحد أن يطرق هذا المسجد جنباً غيرب وغيرك . رواه الترمذي .

ذلك أن بيت علي رضي الله عنه كان مع بيوت النبي صلى الله عليه وسلم فكان يحتاج إلى استطراق المسجد وشاهد ذلك ما أخرجه إسماعيل القاضي في أحكام القرآن قال : ثنا إبراهيم بن حمزة : ثن سفيان بن حمزة عن كثير بن زيد عن المطلب أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أذن لأحد أن يمر في المسجد ولا يجلس فيه وهو جنب إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأن بيته كان في المسجد وهذا مرسل قوي .

وإذا تقرر ذلك فهذا هو السبب في استشنائه ، ودعوى كون هذا المتن يعارض حديث أبي سعيد : (( لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت إلا خوخة أبي بكرة المخرج في الصحيحين ممنوعة .

وبيانه أن الجمع ممكن ، لأن أحدهما فيما يتعلق بالأبواب ، وقد بينا سببه والآخر فيما يتعلق بالخوخ ، ولا سبب له إلا الاختصاص المحض . فلا تعارض ولا وضع .

ولو فتح الناس هذا الباب لرد الأحاديث لادعي في [ كثير من ] أحاديث الصحيحين البطلان ، ولكن

يأبى الله تعالى ذلك والمؤمنون .

5- ومنها : حديث بريدة بن الحصيب في فضل مرو . وهو حديث تفرد به حفيده سهل بن عبد الله بن بريدة . وتكلم الناس فيه بسببه ، ولا يتبين فيه صحة الحكم بالوضع . ثم إنه ليس من أحاديث الأحكام ، فيطلب المبالغة في التنقيب عنه .

6- وكذا حديث أنس رضي الله عنه (( في فضل عسقلان )) مشتمل على ترغيب في المرابطة وليس فيه [ في ] الذي قبله ما يحيله الشرع ولا العقل .

وما بقي من لجزء كله سوى حديث عائشة في قصة عبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنه والجواب عنه ممكن ، لكن كفانا المؤنة شهادة أحمد بكونه كذاب فقد أبان علته ، فلا حرج عليه في إيراده مع بيان علته ولعله مما أمر بالضرب عليه ، لأن هذه عادته في الأحاديث التي تكون شديدة النكارة يأمر بالضر عليها من المسند وغيره . أو يكون مما غفل عنه وذهل ، لأن الإنسان محل السهو والنسيان والكمال لله تعالى .

وإذا انتهى القول إلى هذا المقام ينبغي أن ينشد هذا الإمام

شخص الأنام إلى كمالك فاستعذ             من شر أعينهم بعيب واحد

وقد روينا عن العلامة تقي الدين ابن تيمية قال :

ليس في (( المسند )) عن الكذابين المتعمدين شئ بل ليس فيه من الدعاة إلى البدع شئ ، فلا أريد بالموضوع ، ما يتعمد صاحبه الكذب ، فاحمد لا يعتمد رواية هؤلاء في (( مسنده )) ومتى وقع منه شئ فيه ذهولاً أمر بالضرب عليه حال القراءة . وإن أريد بالموضوع ما يستدل على بطلانه بدليل منفصل فيجوز والله أعلم .

قلت : وما حررنا من الكلام على الأحاديث المتقدمة يؤيد صحة هذا التفصيل والله أعلم . وقد تحرر من مجموع [ ما ذكر ] أن المسند مشتمل على أنواع الحديث لكنه مع مزيد انتقاء وتحرير بالنسبة إلى غيره من الكتب التي لم يلتزم الصحة في جميعها والله أعلم .

40- قوله (ص) : (( السابع : قولهم : هذا حديث صحيح الإسناد دون قولهم حديث صحيح ، لأنه قد يقال : صحيح الإسناد فلا يصح [ أي ] المتن لكونه أي الإسناد شاذاً أو معللاً قال غير أن المصنف المعتمد منهم إذا اقتصر على ذلك ولم يقدح فيه ، فالظاهر منه الحكم له بأنه صحيح ، لأن عدم العلة والقادح هو الأصل )) .

قلت : لا نسلم أن عدم العلة هو الأصل ، إذ لو كان هو الأصل ما اشترط عدمه في شرط الصحيح ، فإذا كان قولهم : صحيح الإسناد يحتمل أن يكون مع وجود العلة لم يتحقق عدم العلة ، فكيف يحكم له بالصحة .

وقوله : إن المصنف المعتمد إذا اقتصر الخ يوهم أن التفرقة التي فرقها أولاً مختصة بغير المعتمد وهو

كلام ينبو عنه السمع ، لأن المعتمد هو قول المعتمد وغير المعتمد لا يعتمد . والذي يظهر لي أن الصواب التفرقة من يفرق في وصفه الحديث بالصحة بين التقييد والإطلاق وبين من لا يفرق .

فمن عرف من حاله بالاستقراء التفرقة يحكم له بمقتضى ذلك ويحمل إطلاقه على الإسناد والمتن معاً وتقييده على الإسناد فقط ومن عرف من حاله أنه لا يصف الحديث دائماً وغالباً إلا بالتقييد فيحتمل أن يقال في حقه ما قال المصنف آخراً والله أعلم .

41- قوله : (ص) : (( الثامن في قول الترمذي وغيره )) عني بالغير البخاري فقد وقع ذلك في كلامه .

27- قوله (ع) : (( ورد ابن دقيق العيد الجواب الثاني )) .

( يعني قوله أنه غير مستنكر أن بعض من قال ذلك أراد معناه اللغوي ) بأنه يلزم عليه أن يطلق على الحديث الموضوع إذا كان حسن اللفظ بأنه حسن . وذلك لا يقوله أحد من المحدثين إذا جروا على اصطلاحهم إلى آخر الفصل .

قلت : وهذا الإلزام عجيب ، لأن ابن الصلاح إنما فرض المسألة حيث يقول القائل حسن صحيح فحكمه عليه بالصحة يمتنع معه أن يكون موضوعاً .

وأما قول الشيخ بعد ذلك : (( أن بعض المحدثين أطلق الحسن أراد به معناه اللغوي دون الاصطلاحي )) ثم أورد الحديث الذي ذكر ابن عبد البر إلى آخر كلامه عليه وهو عجيب ، فإن ابن دقيق العيد قد يد كلامه بقوله إذا جروا على اصطلاحهم وهنا لم يجر ابن عبد البر في ذلك الحكم على اصطلاح المحدثين باعترافه بعدم قوة إسناده فكيف يحسن التعقب بذلك على ابن دقيق العيد .

وأما قول ابن المواق : إن الترمذي لم يخص الحسن بصفة تميزه عن الصحيح وما اعترض به أبو الفتح اليعمري من أنه اشترط في الحسن أن يجئ من غير وجه ولم يشترط ذلك في الصحيح .

قلت : وهو تعقب وارد [ ورد ] واضح على زاعم التداخل بين النوعين وكأن ابن المواق فهم التداخل من قول الترمذي وأن لا يكون راويه متهماً بالكذب . وذلك ليس بلازم للتداخل لأن الصحيح لا يشترط فيه أن لا يكون متهماً بالكذب فقط ، بل بانضمام أمر آخر وهو : ثبوت العدالة والضبط بخلاف قسم الحسن الذي عرف به الترمذي . فبان التباين بينهما .

وأما جواب الشخ عماد الدين ابن كثير وقول شيخنا أنه تحكم لا دليل عليه . فقد استدل هو عليه فيما وجدته عنه بما حاصله : أن الجمع بين الحسن والصحة رتبة متوسطة . فللقبول ثلاث مراتب :

الصحيح أعلاها ، والحسن أدناها .

والثالثة ما يتشرب من كل منهما ، فإن كل ما كان فيه شبه من شيئين ولم يتمحض لأحدهما اختص برتبة مفرده كقولهم للمز وهو : ما فيه حلاوة وحموضة : هذا حلو حامض .

قلت : لكن هذا يقتضي إثبات قسم ثالث ولا قائل به . ثم إنه يلزم عليه أن لا يكون في كتاب

الترمذي حديث صحيح إلا النادر لأنه قل ما يعبر إلا بقوله حسن صحيح . وإذا أردت تحقيق ذلك ، فانظر إلى ما حكم به على الأحاديث المخرجة من الصحيحين كيف يقول فيها حسن صحيح غالباً .

وأجاب بعض المتأخرين عن أصل الإشكال بأنه باعتبار صدق الوصفين على الحديث بالنسبة إلى أحوال رواته عند أئمة الحديث فإذا كان فيهم من يكون حديثه صحيحاً عند قوم وحسناً عند قوم يقال فيه ذلك .

ويتعقب هذا بأنه لو أراد ذلك لأتى بالواو التي للجمع فيقول : حسن وصحيح أو أتى بأو التي هي للتخيير أو التردد فقال حسن أو صحيح ، ثم إن الذي يتبادر إلى الفهم أن الترمذي إنما يحكم على الحديث بالنسبة إلى ما عنده لا بالنسبة إلى غيره ، فهذا يقدح في هذا الجواب ويتوقف أيضاً على اعتبار الأحاديث التي جمع الترمذي فيها بين الوصفين فإن كان في بعضها ما لا اختلاف فيه عند جميعهم في صحته ، فيقدح في الجواب أيضاً لكن لو سلم هذا الجواب من التعقب لكان أقرب إلى المراد من غيره ، وإني لأميل إليه وأرتضيه . والجواب عما يرد عليه ممكن والله أعلم .

وقيل : يجوز أن يكون مراده أن ذلك باعتبار وصفين مختلفين وهما الإسناد والحكم ، فيجوز أن يكون قوله : حسن أي باعتبار إسناده صحيح أي باعتبار حكمه ، لأنه من قبيل المقبول ، وكل مقبول يجوز أن يطلق عليه اسم الصحة .

وهذا يمشي على قول من لا يفرد الحسن من الصحيح ، بل يسمي الكل صحيحاً ، لكن يرد عليه ما أوردناه أولاً من أن الترمذي أكثر من الحكم بذلك على الأحاديث الصحيحة الإسناد . واختار بعض من أدركنا أن اللفظين عنده مترادفان ، ويكون إتيانه باللفظ الثاني بعد الأول على سبيل التأكيد . كما يقال : صحيح ثابت أو جيد قوي أو غير ذلك .

وهذا قد يقدح فيه القاعدة بأن الحمل على التأسيس خير من الحمل على التأكيد لأن الأصل عدم التأكيد ، لكن قد يندفع القدح بوجود القرينة الدالة على ذلك . وقد وجدنا في عبارة غير واحد كالدار قطني : هذا حديث صحيح ثابت . وفي الجملة أقوى الأجوبة ما أجاب به ابن دقيق العيد ، والله أعلم .

42- قوله (ص) : (( من أهل الحديث من لا يفرد نوع الحسن )) .

هذا ينبغي أن يقيد به إطلاقه في أول الكلام على نوع الصحيح وهو قوله : (( الحديث ينقسم عنده أهله إلى صحيح وحسن وضعيف )) .

43- قوله (ص) : (( وهو الظاهر من تصرف الحاكم وإليه يومئ في تسميته (( كتاب الترمذي )) بالجامع الصحيح )) .

إنما جعله يومئ إليه ، لأن ذلك مقتضاه ، وذلك أن كتاب الترمذي مشتمل على الأنواع الثلاثة ، كلن المقبول فيه وهو الصحيح والحسن أكثر من المردود فحكم للجميع بالصحة بمقتضى الغلبة .

فلو كان ممن يرى التفرقة بين الصحيح والحسن لكان في حكمه ذلك مخالفاً للواقع ، لأن الصحيح الذي فيه أقل من مجموع الحسن والضعيف فلا يعتذر عنه بأنه أراد الغالب ، فاقتضى توجيه كلامه أن يقال : أنه لا يرى التفرقة بين الصحيح والحسن ، ليصح ما ادعاه من التسمية .

وقد وجدت في (( المستدرك )) له أثر حديث أخرجه قال : أخرجه أبو داود في (( كتاب السنن )) الذي هو صحيح على شرطه .

وهذا أيضاً محمول على أنه أراد به عدم التفرقة بين الصحيح والحسن ولم يعتبر الضعيف الذي فيه لقلته بالنسبة إلى النوعين .

من هنا أجاب بعض المتأخرين عن الإشكال الماضي وهو قول الترمذي (( حسن صحيح )) . أنه أراد حسن على طريقة من يفرق بين النوعين لقصور رتبة راويه عن درجة الصحة المصطلحة ، صحيح على طريقة من لا يفرق . ويرد عليه ما أوردنا فيما سبق .

[ أكثر أهل الحديث لا يفرقون بني الحسن والصحيح : ]

واعلم أن أكثر أهل الحديث لا يفردون الحسن من الصحيح ، فمن ذلك ما رويناه عن الحميدي شيخ البخاري قال : (( الحديث الذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( هو ) أن يكون متصلاً غير مقطوع معروف الرجال )) .

وروينا عن محمد بن يحيى الذهلي قال : (( ولا يجوز الاحتجاج إلا بالحديث المتصل غير المنقطع الذي ليس فيه رجل مجهول ولا رجل مجروح )) . فهذا التعريف يشمل الصحيح والحسن معاً . وكذا شرط ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما لم يتعرضا فيه لمزيد أمر آخر على ما ذكره الذهلي .

44- قوله (ص) : (( أطلق الخطيب والسلفي الصحة على كتاب النسائي )) .

قلت : وقد أطلق عليه أيضاً اسم الصحة أبو علي النيسابوري وأبو أحمد بن عدي وأبو الحسن الدارقطني وابن منده وعبد الغني بن سعيد وأبو يعلى الخليلي وغيرهم . وأطلق الحاكم اسم الصحة عليه وعلى كتابي أبي داود والترمذي كما سبق .

وقال أبو عبد الله ابن منده : (( الذين خرجوا الصحيح أربعة : البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي )) . وأشار إلى مثل ذلك أبو علي ابن السكن .

وما حكاه ابن الصلاح عن البارودي أن النسائي يخرج أحاديث من لم يجمع على تركه ، فإنما أراد بذلك إجماعاً خاصاً .

[ طبقات النقاد : ]

وذلك أن كل طبقة من نقاد الرجال لا تخلو من متشدد ومتوسط .

فمن الأولى : شعبة وسفيان الثوري أشد منه .

ومن الثانية : يحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي ويحيى أشد من عبد الرحمن .

ومن الثالثة : يحيى بن معين وأحمد . ويحيى أشد من أحمد .

ومن الرابعة : أبو حاتم والبخاري . وأبو حاتم أشد من البخاري .

وقال النسائي : لا يترك رجل عندي حتى يجتمع الجميع على تركه . فأما إذا وثقه ابن مهدي وضعفه يحيى القطان مثلاً فإنه لا يترك لما عرف من تشديد يحيى ومن هو مثله في النقد .

وإذا تقرر ذلك ظهر أن الذي يتبادر إلى الذهن من أن مذهب النسائي في الرجال مذهب متسع ليس كذلك فكم من رجل أخرج له أبو داود والترمذي تجنب النسائي إخراج حديثه . كالرجال الذين ذكرنا ، قيل أن أبا داود يخرج أحاديثهم وأمثال من ذكرنا . بل تجنب النسائي إخراج حديث جماعة من رجال الصحيحين .

وحكى أبو الفضل ابن طاهر قال : سألت سعد بن علي الزنجاني عن رجل فوثقه فقلت له : إن النسائي لم يحتج به فقال : يا بني ! إن لأبي عبد الرحمن شرطاً في الرجال أشد من شرط البخاري ومسلم .

وقال أبو بكر البرقاني الحافظ في جزء له معروف : (( هذه أسماء رجال تكلم فيهم النسائي ممن أخرج له الشيخان في صحيحيهما سألت عنهم أبا الحسن الدار قطني فدون كلامه في ذلك وقال أحمد بن محبوب الرملي : سمعت النسائي يقول : لما عزمت على جمع السنن استخرت الله تعالى في الرواية عن شيوخ كان في القلب منهم بعض الشئ ، فوقعت الخيرة على تركهم فنزلت في جملة من الحديث كنت أعلو فيها عنهم .

وقال الحافظ أبو طالب : أحمد بن نصر شيخ الدار قطني : (( من يصبر على ما يصبر عليه النسائي ؟ كان عنده حديث ابن ليهعة ترجمة ترجمة فما حدث منها بشئ )) .

قلت : وكان عنده عالياً عن قتيبة عنه ولم يحدث به ولا في السنن ولا في غيرها . وقال محمد بن معاوية الأحمر الراوي عن النسائي ما معناه قال النسائي : كتاب السنن كله صحيح وبعضه معلول إلا أنه لم يبين علته والمنتخب منه المسمى بالمجتبى صحيح كله .

وقال أبو الحسن المعافري : إذا نظرت إلى ما يخرجه أهل الحديث فما خرجه النسائي أقرب إلى الصحة مما خرجه غيره .

وقال ابن رشد : كتاب النسائي أبدع الكتب المصنفة في السنن تصنيفاً وأحسنها ترصيفاً وكأن كتابه جامع بين طريقتي البخاري وسملم مع حظ كبير من بيان العلل . وفي الجملة فكتاب النسائي أقل الكتب بعد الصحيحين ( حديثاً ) ضعيفاً ورجلاً مجروحاً ، ويقاربه كتاب أبي داود وكتاب الترمذي ويقابله في الطرف الآخر كتاب ابن ماجه فإنه تفرد فيه بإخراج أحاديث عن رجال متهمين بالكذب وسرقة الأحاديث وبعض تلك الأحاديث لا تعرف إلا من جهتهم مثل حبيب بن أبي حبيب كاتب مالك والعلاء بن زيدل وداود بن المحبر وعبد الوهاب بن الضحاك وإسماعيل بن زياد السكوني وعبد

السلام بن أبي الجنوب وغيرهم .

وأما ما حكاه ابن طاهر عن أبي زرعة الرازي أنه نظر فيه فقال لعله لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثاً مما فيه ضعف . فهي حكاية لا تصح لانقطاع إسنادها ، وإن كانت محفوظة فلعله أراد ما فيه من الأحاديث الساقطة إلى الغاية أو كان ما رأى من الكتاب إلا جزءاً منه فيه هذا القدر .

وقد حكم أبو زرعة على أحاديث كثيرة منه بكونها باطلة أو ساقطة أو منكرة ، وذلك محكي في كتاب العلل لابن أبي حاتم وكان الحافظ صلاح الدين العلائي يقول : ينبغي أن يعد كتاب الدارمي سادساً للكتب الخمسة بدل كتاب ابن ماجه فإنه قليل الرجال الضعفاء نادر الأحاديث المنكرة والشاذة وإن كانت فيه أحاديث مرسلة وموقوفة فهو مع ذلك أولى من كتاب ابن ماجه .

قلت : وبعض أهل العلم لا يعد السادس إلا الموطأ . كما صنع رزين السرقسطي وتبعه المجد بن الأثير في جامع الأصول .

[ أول من أضاف ابن ماجه إلى الأصول : ]

وكذا غيره . وحكى ابن عساكر أن أول من أضاف كتاب ابن ماجه إلى الأصول أبو الفضل ابن طاهر وهو كما قال ، فإنه عمل أطرافه معها وصنف جزءاً آخر في شروط الأئمة الستة فعدة معهم . ثم عمل الحافظ عبد الغني كتاب الكمال في أسماء الرجال الذين هذبه الحافظ أبو الحجاج المزي فذكره فيهم .

وإنما عدل ابن طاهر ومن تبعه عن عد الموطأ إلى عد ابن ماجه لكون زيادات الموطأ على الكتب الخمسة من الأحاديث المرفوعة يسيرة جداً بخلاف ابن ماجه ، فإن زياداته أضعاف زيادات الموطأ فأرادوابضم كتاب ابن ماجه إلى الخمسة تكثير الأحاديث المرفوعة والله أعلم .

ومن هنا يتبين ضعف طريقة من صنف في الأحكام بحذف الأسانيد من الكتب المذكورة كأبي البركات ابن تيمية ، فإنه يخرجون الحديث منها ويعزونه إليها من غير بيان صحته أو ضعفه . وأعجب من ذلك أن الحديث يكون في الترمذي وقد ذكر علته فيخرجونه منه مقتصرين على قولهم رواه الترمذي ، معرضين عما ذكر من علته . وقد تتبع أبو الحسن ابن القطان الأحاديث التي سكت عبد الحق في أحكامه عن ذكر عللها بما فيه مقنع . وهو وإن كانت قد تعنت في كثير منه فهو مع ذلك جم الفائدة والله سبحانه الموفق .

28- قوله (ع) : (( وإنما قال السلفي : (( والحكم بصحة أصولها ولا يلزم من كون الشئ له أصل صحيح أن يكون هو صحيحاً )) .

قلت : وحاصله توهيم ابن الصلاح في نقله للكلام السلفي وهو في ذلك تابع للعلامة مغلطاي وما تضمنه من الإنكار ليس بجيد إذا العبارتان جميعاً موجودتان في كلام السلفي ، لكن ما نقله مغلطاي وتبعه شيخنا سابق .

ثم عاد السلفي وقال : ما نقله ابن الصلاح عنه بزيادة ، ولفظه (( وأما السنن )) فكتاب له صدر في الآفاق ولا نرى مثله على الإطلاق وهو أحد الكتب الخمسة التي اتفق على صحتها علماء الشرق والغرب والمخالفين لهم كالمتخلفين عنهم بدار الحرب إذ كل من رد ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتلقه بالقبول قد ضل إذ كان صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى .

وإذا تقرر هذا ينبغي حمل كلام السلفي على نحو ما حملنا عليه الكلام الحاكم . وقد سبق إلى نحو ذلك الشيخ محي الدين فقال إثر كلام السلفي : مراده بهذا أن معظم الكتب الثلاثة يحتج به أي صالح لأن يحتج به لئلا على إطلاق عبارته المنسوخ أو المرجوح عند المعارضة والله أعلم .

تنبيه

السلفي بكسر السين نسبة إلى جده وهو لقب له .

قال منصور بن سليم الحافظ كان إحدى شفتيه عريضة مفروقة فكان له ثلاث شفاه . فقيل له بالفارسية سي لبه أي ثلاث شفات ، ثم عرب فقيل له : سلفة . ووهم أبو محمد بن حوط الله وهما شنيعاً فقال في فهرسته : هو منسوب إلى سلفه قرية من قرى أصبهان .

وكذا رأيته في فهرست ابن بشكوال نقلاً عن بعض مشايخه رحمه الله عليهم .

خاتمة

للكلام على الحديث الصحيح والحسن . قد قررنا أنهما في حيز القبول ، وقد وجدنا في عبارة جماعة من أهل الحديث ألفاظاً يوردونها في مقام القبول ينبغي الكلام عليها وهي :

الثابت والجيد والقوي والمقبول والصالح وسنستوفي الكلام على هذه الأنواع في آخر الكتاب إن شاء الله كما وعدنا في الخطبة والله أعلم .

النوع الثالث : الضعيف

45- قوله (ص) : (( كل حديث لم تجتمع فيه صفات الحديث الصحيح ولا صفات الحسن فهو ضعيف )) .

اعترض عليه بأنه لو اقتصر على نفي صفات الحسن لكان أخصر لأن نفي صفات الحسن مستلزم لنفي صفات الصحيح وزيادة ، وأجاب بعض من عاصرناه بأن مقام التعريف يقتضي ذلك إذ لا يلزم من عدم وجود وصف الحسن عدم وجود وصف الصحيح إذ الصحيح بشرطه السابق لا يسمى حسناً ، فالترديد متعين قال : ونظيره قول النحوي إذا عرف الحرف بعد تعريف الاسم والفعل : الحرف ما لا يقبل شيئاً من علامات الاسم ولا علامات الفعل ، انتهى .

وأقول : والتنظير غير مطايق ، لأنه ليس بين الاسم والفعل والحرف هموم ولا خصوص بخلاف الصحيح والحسن ، فقد قررنا فيما مضى أن بينهما عموماً وخصوصاً ، وأنه يمكن اجتماعهما وانفراد كل منهما بخلاف الاسم والفعل والحرف .

والحق أن كلام المصنف معترض وذلك أن كلامه يعطي أن الحديث حيث ينعدم فيه صفة من صفات الصحيح يسمى ضعيفاً وليس كذلك ، لأن تمام الضبط مثلاً إذا تخلف صدق أن صفات الصحيح لم تجتمع ، ويسمى الحديث الذي اجتمعت فيه الصفات سواء حسناً لا ضعيفاً .

[ تعريف الحافظ للضعيف : ]

وما من صفة من صفات الحسن إلا وهي إذا انعدمت كان الحديث ضعيفاً ولو عبر بقوله : [ كل ]حديث لم يجتمع فيه صفات القبول لكان أسلم من الاعتراض وأخصر والله أعلم .

46- قوله (ص) : (( وأطنب أبو حاتم ابن حبان في تقسيمه )) ... إلى آخره .

أقول : لم أقف على كلام ابن حبان في ذلك . وتجاسر بعض من عاصرناه فقال : هو : في أ لكتابه في الضعفاء ولم يصب في ذلك ، فإن الذي قسمه ابن حبان في مقدمة كتاب الضعفاء له تقسيم الأسباب الموجبة لتضعيف الرواة ، لا تقسيم الحديث الضعيف ثم أنه أبلغ الأسباب المذكورة عشرين قسماً لا تسعة وأربعين والحاصل ( أن الموضع ) الذي ذكر ابن حبان فيه ذلك ما عرفنا مظنته والله أعلم .

47- قوله (ص) : (( وسبيل من أراد البسط أن يعمد إلى صفة معينة )) .. إلى آخره .

أقول : شرح هذا شيخنا في شرح منظومته ولم يتعرض له هنا فرأيت الإشارة إلى ذلك عنا :

[ صفات القبول : ]

قال رضي الله عنه : (( صفات القبول ستة )) :

1- اتصال السند .

2- وعدالة الرجال .

3- والسلامة من كثرة الخطأ والغفلة .

قلت : بل التعبير هنا باشتراط الضبط أولى . انتهى .

4- قال ويجئ الحديث من وجه آخر حيث كان في الإسناد مستور لم تعرف أهليته وليس متهمااً كثيرا الغلط .

قلت : وكذا إذا كان فيه ضعيف بسبب سوء لحفظ أو كان في الإسناد انقطاع خفيف أو خفي أو كان مرسلاً . كما قررنا ذلك في الكلام على الحسن المجبور . انتهى .

5- قال والسلامة من الشذوذ .

6- والسلامة من العلة القادحة )) .

قلت : وتلخيص التقسيم المطلوب إن فقد الأوصاف راجع إلأى ما في رايوه طعن أو في سنده فالسقط إما أن يكون في أوله أو في آخره أو في أثنائه ويدخل تحت ذلك المرسل والمعلق والمدلس

والمنقطع والمعضل وكل واحد من هذه إذا انضم إليه وصف من أوصاف الطعن وهي : تكذيب

الراوي أو تهمته بذلك أو فحش غلطه أو مخالفته أو بدعته أو جهالة عينة أو جهالة حاله ، فباعتبار ذلك يخرج منه أقسام مع الاحتراز من التداخل المقضي إلى التكرار فإذا فقد ثلاثة أوصاف من مجموع ما ذكر حصلت منها أقسام أخرى مع الاحتراز مما ذكر . ثم إذا فقد أربعة أوصاف ، فكذلك ثم كذلك إلى آخره ، فكلما عدمت فيه صفة واحدة يكون أخف مما عدمت فيه صفتان بشرط أن لا تكون الصفة المتقدمة قد جبرتها صفة قوية ، وهكذا إلى أن ينتهي الحديث إلى درجة الموضوع المختلق بأن تنعدم فيه شروط القبول ويوجد فيه ما يشترط انعدامه من جميع أسباب الطعن والسقط .

لكن قال شخنا : إنه لا يلزم من ذلك ثبوت الحكم بالوضع وهو متجه ، لكن مدار الحكم في الأنواع على غلبة الظن ، وهي موجودة هنا والله أعلم .

تنبيهات

الأول : قولهم : ضعيف الإسناد أسهل من قولهم : ضعيف على ما تقدم في قولهم صحيح الإسناد وصحيح ، ولا فرق .

الثاني : من جملة صفات القبول التي لم يتعرض لها شيخنا أن يتفق العلماء على العمل بمدلول حديث ، فإنه يقبل حتي يجب العمل به . وقد صرح بذلك جماعة من أئمة الأصول . ومن أمثلته قول الشافعي رضي الله عنه : (( وما قلت من أنه إذا غير طعم الماء وريحه ولونه ـ يروى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من وجه لا يثبت أهل الحديث مثله ، ولكنه قول العامة لا أعلم بينهم فيه خلافاً . وقال في حديث (( لا وصية لوارث )) .

لا يثبته أهل العلم بالحديث ، ولكن العامة تلقته بالقبول وعملوا به حتى جعلوه ناسخاً لآية الوصية للوارث .

[ أوهى الأسانيد : ]

الثالث : لم يتعرض المصنف للكلام على أوهى الأسانيد كما تكلم على أصح الأسانيد مع أن الحاكم قد ذكر الفصلين معاً ، وتبعه أبو نعيم فيما خرجه على كتابه والأستاذ أبو منصور البغدادي ، وأورده الشيخ تقي الدين القشيري في الاقتراح وغير واحد ممن تأخر عنه ، وليس هو عرباً عن الفائدة ، بل يستفاد من معرفته ترجيح بعض الأسانيد على بعض وتمييز ما يصلح للاعتبار مما لا يصلح .

قال الحاكم : أوهى أسانيد الصديق رضي الله عنه صدقة الدقيقي عن فرقد السبخي عن مرة الطيب عن أبي بكر رضي الله عنه .

وأوهى أسانيد العمرييين محمد بن القاسم بن عبد الله بن عمر عن حفص بن عاصم بن عمر عن أبيه عن جده ، فإن محمداً والقاسم وعبد الله لم يحتج بهم .

وأوهى أسانيد أهل البيت عمرو بن شمر عن جابر الجعفي عن الحارث الأعور عن علي رضي الله

تعالى عنه .

( وأوهى أسانيد أبي هريرة رضي الله عنه السري بن إسماعيل عن داود بن يزيد الأودي ، عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ) .

وأوهى أسانيد عائشة رضي الله تعالى عنها الحارث بن شبل عن أم النعمان عن عائشة رضي الله عنها

وأوهى أسانيد ابن مسعود رضي الله تعالى عنه شريك عن أبي فزارة عن أبي زيد عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه .

( وأوهى أسانيد أنس رضي الله عنه داود بن المحبر بن قحذم عن أبيه عن أبان عن أنس رضي الله عنه)

وأوهى أسانيد المكيين : عبد الله بن ميمون القداح عن شهاب بن خراش عن إبراهيم بن يزيد الخوزي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .

وأوهى أسانيد اليمانيين حفص بن عمر العدني عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعال عنهما .

وأوهى أسانيد المصريين أحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدين بن سعد عن أبيه عن جده عن قرة بن عبد الرحمن عن شيوخه .

وأوهى أسانيد الشاميين محمد بت سعيد المصلوب عن عبيد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أماة رضي الله تعالى عنه .

وأوهى أسانيد الخراسانيين عبد الله بن عبد الرحمن بن مليحة وإبراهيم عن نهشل بن سعيد عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .

قلت : وهذا الذي ذكره الحاكم وتبعه من ذكر عليه غالبه لا تنتهي نسخته إلى الوصف بالوضع ، وإنما هو بالنسبة إلى اشتمال الترجمة على اثنين فأزيد من الضفعاء .

ووراء هذه التراجم نسخ كثيرة موضوعة هي أولى بإطلاق أوهى الأسانيد كنسخ أبي هدية إبراهيم بن هدبة ونعيم بن سالم بن قنبر ودينار أبي مكيس . وسمعان وغير هؤلاء من الشيوخ المتهمين بالوضع كلهم عن أنس رضي الله تعالى عنه . ونسخة يرويها بقية عن مبشر بن عبيد عن حجاج بن أرطأة عن الشيوخ ومبشر متهم بالكذب والوضع .

ونسخة رواها إبراهيم بن عمرو بن بكر السكسكي عن أبيه عن عبد العزيز عن أبي داود عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه وإبراهيم متهم بالوضع وأبوه متروك الحديث .

ونسخة رواها أبو سعيد أبان بن جعفر البصري أرودها كلها من حديث أبي حنيفة وهي نحو ثلاثمائة حديث . ما حدث أبو حنيفة منها بحديث وفي سردها كثرة .

ومن أراد استيفاءها فليطالع كتابي لسان الميزان الذي اختصرت فيه كتاب الذهبي في أحوال الرواة المتكلم فيهم وزدت فيه تحريراًَ وتراجم على شرطه والله الموفق .

48- قوله (ص) : (( وهلم جرا )) .

قرأت بخط أبي يعقوب النجيرمي : أن أصله مأخوذ عن سوق الإبل ( يعني سيروا على هينتكم لا تجهدوا أنفسكم ) أخذاً من الجر في السوق وهو أن تترك الإبل ترعى في السير .

[ إعراب هلم جرا : ]

أما إعرابها فقال ابن الأنباري : في نصبه ثلاثة أوجه :

1- الأول : هو مصدر في موضع الحال أي هلم جارين أي متأنين كقولهم : جاء عبد الله مشياً وأقبل ركضاً .

2- والثاني : هو مصدر على بابه لأن هلم جرا ( بمعنى ) جروا جراً .

3- والثالث : أنه منصوب على التمييز .

قال : ويقال للرجل : هلم جرا وللرجلين هلما جرا وللجمع هلموا جرا . والاختيار الأفراد في الجميع . لأن هلم ليست [ فعلاً ] تتصرف وبه جاء القرآن في قوله تبارك وتعالى :

( والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ) .

49- قوله (ص) : (( والملحوظ فيا نورده ( أي فيما يأتي ) عموم أنواع علوم الحديث لا خصوص أنواع التقسيم الذي فرغنا منه الآن )) .

وهذا جواب عن سؤال مقدر وهو أنه ذكر في أول الكتاب أن الحديث ينقسم إلى ثلاثة أقسام ، ثم سمى الأقسام الثلاثة أنواعاً ثم ذكر بعد ذلك أشياء أخر سماها أنواعاً ، فأين صحة دعوى الحصر في الثلاثة .

والجواب : بأن هذه الأنواع التي يذكرها بعد الثلاثة المراد بها أنواع علم الحديث لا أنواع أقسام الحديث .

وحاصله : بأن هذه الأنواع ترجع إلى تلك الثلاثة :

منها : ما يرجع إلى أحدها .

ومنها : ما يرجع إلى مجموع وذلك واضح والله أعلم .

النوع الرابع : المسند

29- قوله (ع) : (( وإنما حكى ( يعني ابن الصلاح ) كلام الخطيب ، ثم قال : وأكثر ما يستعمل في ذلك )) إلى آخر كلامه .

أقول : مقتضاه أن يكون في السياق إدراجاً ، وعند التأمل يتبين أن الأمر بخلاف ذلك ، لأن ابن الصلاح لم ينقل عبارة الخطيب بلفظها .

وبيان ذلك أن الخطيب قال في الكفاية :

(( ووصفهم للحديث بأنه مسند يريدون أن إسناده متصل بين راويه وبين من أسند عنه ، إلا أن أكثر

استعمالهم هذه العبارة هو : فيما أسند عن النبي صلى الله عليه وسلم )) انتهى . فذكر [ هذا ] كله ابن الصلاح بالمعنى .

وقوله : (( وأكثر ما يستعمل ذلك فيما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم دون ما جاء عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم . هو معنى قول الخطيب : (( إلا أن أكثر استعمالهم هذه العبارة هو فيما أسند عن النبي صلى الله عليه وسلم خاصة .

[ المسند عند الخطيب : ]

فالحاصل أن المسند عند الخطيب ينظر فيه إلى ما يتعلق بالسند فيشترط فيه الاتصال ، وإلى ما يتعلق بالمتن فلا يشترط فيه الرفع إلا من حيث الأغلب في الاستعمال ، فمن لازم ذلك أن الموقوف إذا اتصل سنده قد يسمى مسنداً ، ففي الحقيقة لا فرق عند الخطيب بين المسند والمتصل إلا في غلبة الاستعمال فقط .

[ المرسل عند ابن عبد البر : ]

وأما ابن عبد البر فلا فرق بين المسند مطلقاً فيلزم على قوله أن يتحد المرسل والمسند . وهو مخالف للمستفيض من عمل أئمة الحديث في مقابلتهم بين المرسل والمسند ، فيقولون : (( أسنده فلان وأرسله فلان )) .

وأما الحاكم وغيره : ففرقوا بين المسند والمرفوع بأن المرفوع ينظر إلى المتن مع قطع النظر عن الإسناد فحيث صح إضافته إلى النبي صلى الله عليه وسلم كان مرفوعاً سواء اتصل سنده أم لا . ومقابلة المتصل ، فإنه ينظر إلى حال الإسناد مع قطع النظر عن المتن سواء كان مرفوعاً أو موقوفاً .

وأما المسند ، فينظر فيه إلى الحالين معاً ، فيجتمع شرطا الاتصال والرفع ، فيكون بينه وبين كل من الرفع والاتصال عموم وخصوص مطلق ، فكل مسند مرفوع وكل مسند متصل ، ولا عكس فيهما .

على هذا رأي الحاكم وبه جزم أبو عمرو الداني ، وأبو الحسن ابن الحصار في (( المدارك )) له والشيه تقي الدين في الاقتراح والذي يظهر لي بالاستقراء من كلام أئمة الحديث وتصرفهم أن المسند عندهم ما أضافه من سمع النبي صلى الله عليه وسلم [ إليه ] بسند ظاهره الاتصال .

[ تعريف المسند ]

فمن سمع أعم من أن يكون صحابياً أو تحمل كفره وأسلم بعد النبي صلى الله عليه وسلم .

[ لكنه يخرج ] من لم يسمع كالمرسل ( والمعضل ) . وبسند يخرج ما كان بلا سند . كقول القائل من المصنفين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن هذا من قبيل المعلق وظهور الاتصال يخرج المنقطع ، لكن يدخل منه ما فيه انقطاع خفي كعنعنة المدلس والنوع المسمى بالمرسل الخفي فلا يخرج ذلك عن كون الحديث يسمى مسنداً ومن تأمل مصنفات الأئمة في المسانيد لم يرها تخرج عن اعتبار

هذه الأمور .

وقد راجعت كلام الحاكم بعد هذا فوجدت عبارته : (( والمسند ما رواه المحدث عن شيخ يظهر سماعه منه ( لسن يحتمله ) وكذلك سماع شيخه من شيخه متصلاً إلى صحابي [ مشهور ] إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يشترط حقيقة الاتصال بل اكتفى بظهور ذلك . كما قلته تفقهاً ولله الحمد .

وبهذا يتبين الفرق بين الأنواع وتحصل السلامة من تداخلها واتحادها إذ الأصل عدم لترادف والاشتراك والله أعلم .  وأمثلة هذا في تصرفهم كثيرة من ذلك :

قال ابن أبي حاتم سألت أبي عن خالد بن كثير يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ليست لي صحبة ؟ قال : فقلت : أن أحمد بن سنان أخرج حديثه في المسند ؟ فقال [ أبي ] خالد بن كثير من أتباع التابعين ، فكيف يخرج حديث في المسند ؟

وقال البيهقي عقب حديث رواه من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم : هذا حديث غير مسند .

النوع الخامس : المتصل

50- قوله (ص) : (( ويقال له الموصول )) .

قلت : ويقال له : المؤتصل بالفك والهمز . وهي عبارة الشافعي في الأم في مواضع .

وقال ابن الحاجب في التصريف له : (( هي لغة الشافعي وهي عبارة عن ما سمعه كل راو من شيخه في سياق الإسناد من أوله إلى منتهاه )) . فهو أعم من المرفوع . كما قررناه وسيأتي شرح صيغ ذلك إن شاء الله تعالى .

تنبيه

اعلم أن الشيخ أول ما ذكر ما ينظر إلى الإسناد والمتن معاً وهو المسند ثم تلاه بما ينظر فيه إلى الإسناد فقط وهو الاتصال فكان ينبغي أن يتلوه بما ينظر فيه إلى الإسناد فقط وهو الانقطاع ولكنه كما قلنا غير مرة إنه لم يراع فيه تحسين الترتيب .

النوع السادي : المرفوع

51- قوله (ص) : (( وهو المسند عند قوم سواء )) .

يعني ابن عبد البر كما تقدم في الكلام على المسند فكان ينبغي أن يذكر نظير هذا في المتصل ولا فرق

52- قوله (ص) : حكاية عن الخطيب : (( المرفوع : ما أخبر فيه الصحابي عن قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله فخصه بالصحابة رضي الله عنهم فيخرج عنه مرسل التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم )) .

قلت : يجوز أن يكون الخطيب أورد ذلك على سبيل المثال لا على سيل التقييد فلا يخرج

عنه شئ ، وعلى تقدير أن يكون أراد جعل ذلك قيداً فالذي يخرج عنه أعم من مرسل التابعي ، بل يكون كل ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمى مرفوعاً إلا إذا ذكر فيه الصحابي رضي الله عنه . والحق خلاف ذلك بل الرفع كما قررناه إنما ينظر فيه إلى المتن دون الإسناد والله أعلم .

النوع السابع : الموقوف

53- قوله (ص) : (( وهو ما يروى عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم من أقوالهم وأفعالهم )) .

أما أقوالهم فالمراد به هنا ما خلت عن قرينة تدل على أن حكم ذلك الرفع كما سيأتي .

وأما أفعالهم المجردة فهل تكون أحكاماً عند من يحتج بقول الصحابي رضي الله عنه أم لا ؟ فيه نظر ، ثم سكت عما يعمل أو يقال بحضرتهم فلا ينكرونه والحكم فيه أنه إذا نقل في مثل ذلك حضور أهل الإجماع فيكون نقلاً للإجماع ، وإن لم يكن فإن خلا عن سبب ما نع من السكوت والإنكار فحكمه حكم الموقوف والله أعلم .

تنبيه

شرط الحاكم في الموقوف أن يكون إسناده غير منقطع إلى الصحابي رضي الله عنه وهو شرط لم يوافقه عليه أحد والله أعلم .

54- قوله (ص) : (( وموجود في اصطلاح الخراسانيين تعريف الموقوف باسم الأثر )) .

[ ما المراد بالأثر : ]

هذا وقد وجد في عبارة الشافعي رضي الله تعالى عنه في مواضع والأثر في الأصل العلامة والبقية والرواية ونقل النووي عن أهل الحديث أنهم يطلقون الأثر على المرفوع والموقوف معاً .

ويؤيده تسمية أبي جعفر الطبري كتابه (( تهذيب الآثار )) وهو مقصور على المرفوعات وإنما يورد فيه الموقوفات تبعاً .

وأما كتابه (( شرح معاني الآثار )) للطحاوي فمشتمل على المرفوع والموقوف أيضاً والله تعالى الموفق . = 

النُّكَت على كتاب ابن الصلاح للحافظ ابن حجر العسقلاني

 

المجلّد الثاني 

مُلتقى أهل الحديث

www.ahlalhdeeth.com

النوع الثامن : المقطوع

55- قوله (ص) : (( ويقال في جمعة : المقاطيع والمقاطع )) .

( يعني كالمسانيد والمساند ) .

والمنقول عن جمهور البصريين من النحاة إثبات الياء جزماً وعن الكوفيين والجرمي من البصريين تجويز إسقاطها واختاره ابن مالك .

وذكر الخطيب أن الفائدة في كتابه المقاطيع ليتخير المجتهد من أقوالهم ولا يخرج عن جملتهم والله أعلم

56- قوله (ص) : (( وغيرهما )) عني به الدار قطني والحميدي .

فقد وجد التعبير في كلامهما بالمقطوع في مقام المنقطع . وأفاد شيخنا في منظومته أنه وجد التعبير بالمنقطع ( في كلام البرديجي ) في مقام المقطوع على عكس الأول وسيأتي نقل المصنف لذلك مبهماً لقائله والله أعلم .

57- قوله (ص) : (( قول الصحابي رضي الله عنه : كنا نفعل )) إلى آخره .

حاصل كلامه حكاية قولين :

1- أحدهما : أنه موقوف جزماً .

2- وثانيهما : التفصيل بين أن يضيفه إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم فيكون مرفوعاً . وبه صرح الجمهور .

ويدل عليه احتجاج أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه على جواز العزل بفعلهم له في زمن نزول الوحي فقال : (( كنا نعزل والقرآن ينزل لو كان شئ ينهى عنه لنهى عنه القرآن )) .

وهو استدلال واضح ، لأن الزمان كان زمان التشريع . وإن لم يضفه إلى زمنه فموقوف .

[ مذاهب العلماء في قول الصحابي كنا نفعل كذا : ]

وأهمل المصنف مذاهب :

الأول : أنه مرفوع مطلقاً وقد حكاه شيخنا وهو الذي اعتمده الشيخان في صحيحهما وأكثر منه البخاري .

والثاني : التفصيل بين أن يكون ذلك الفعل مما لا يخفى غالباً فيكون مرفوعاً أو يخفى فيكون موقوفاً . وبع قطع الشيخ أبو إسحاق الشيرازي . وزاد ابن السمعاني في كتاب القواطع فقال :

(( إذا قال الصحابي : كانوا يفعلون كذا وأضافه إلى عصر النبي صلى الله عليه وسلم وكان مما لا يخفى مثله ، فيحمل على تقرير النبي صلى الله عليه وسلم ويكون شرعاً . وإن كان مثله يخفى فإن تكرر منهم حمل أيضاً على تقريره لأن الأغلب فيما يكثر أنه لا يخفى والله أعلم .

الثالث : إن أورده الصحابي في معرض الحجة حمل على الرفع وإلا فموقوف حكاه القرطبي .

قلت : وينقدح أن يقال إن كان قائل كنا نفعل من أهل الاجتهاد احتمل أن يكون موقوفاً وإلا فهو

مرفوع ولم أر من صرح بنقله .

قلت : ومع كونه موقوفاً فهل هو من قبيل نقل الإجماع أو لا ؟ فيه خلاف مذكور في الأصول جزم بعضهم بأن أن كان في اللفظ ما يشعر به مثل : كان الناس يفعلون كذا فمن قبيل نقل الإجماع وإلا فلا .

تنبيهات

الأول : قول الصحابي رضي الله عنه كنا نرى كذا ينقدح فيها من الاحتمال أكثر مما ينقدح في قوله كنا نقول أو نفعل لأنها الرأي ومستنده قد يكون تنصيصاً أو استنباطاً .

الثاني : قوله : كان يقال : كذا .

قال الحافظ المنذري : اختلفوا هل يلتحق بالمرفوع أو الموقوف ؟

قال : ومما يؤيد أن حكمها الرفع مطلقاً ما رواه النسائي من حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال : (( كذا يقال : صائم رمضان في السفر كالمفطر في الحضر )) .

فإن ابن ماجه رواه من الوجه الذي أخرجه منه النسائي بلفظ (( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم )) . فدل على أنها عندهم من صيغ الرفع والله أعلم .

الثالث : لا يختص جميع ما تقدم بالاثبات ، بل يلتحق بع النفي كقولهم : كانوا لا يفعلون كذا . ومنه قول عائشة رضي الله عنها (( كانوا لا يقطعون اليد في الشئ التافه )) والله أعلم .

58- قوله (ص) : (( وذكر الخطيب نحو ذلك في جامعه ( يعني حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه ) كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرعون بابه بالأظافير )) .

اعترض مغلطاي ،بأن الخطيب ، إنما رواه من حديث أنس رضي الله عنه .

قلت : وهو اعتراض ساقط ، لأن المصنف إنما قصد أن الحاكم والخطيب ذكرا أن ذلك من قبيل الموقوف ، وإن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيه . وقد حقق المصنف المناط فيه بما حاصله : أن له جهتين :

(أ) جهة الفعل وهو صادر من الصحابة رضي الله عنهم فيكون موقوفاً .

(ب) وجهة التقرير وهو مضافة إلى النبي صلى الله عليه وسلم من حيث أن فائدة قرع بابه أنه يعلم أنه قرع .

ومن لازم علمه بكونه قرع مع عدم إنكار ذلك على فاعله التقرير على ذلك الفعل فيكون مرفوعاً . لكن يخدش في كلام المصنف أنه يلزمه أن يكون جميع قسم التقرير يجوز أن يسمى موقوفاً ، لأن فاعله غير النبي صلى الله عليه وسلم قطعاً وإلا فما اختصاص حديث القرع بهذا الإطلاق .

تنبيه

الظاهر أنم كانوا يقرعونه بالأظافير تأدباً وإجلالاً .

وقيل : إن بابه لم يكن له حلق يطرق بها قاله السهيلي . والأول أولى والله أعلم .

59- قوله (ص) : وخالف في ذلك فريق منهم : الإسماعيلي ( يعني في كون قول الصحابي رضي الله عنه أمرنا بكذا ونحوه مرفوعاً ) .

قلت : من الفريق المذكور أبو الحسن الكرخي من الحنفية . وعلل ذلك بأنه متردد كونه مضافاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى أمر القرآن أو الأمة أو بعض الأئمة أو القياس أو الاستنباط وسوغ إضافته إلى صاحب الشرع بناء على أن القياس مأمور باتباعه من الشارع . قال : وهذه الاحتمالات تمنع كونه مرفوعاً .

وأجيب بأن هذه الاحتمالات بعيدة ، لأن أمر الكتاب ظاهر للكل فلا يختص بمعرفته الواحد دون غيره . وعلى تقدير التنزل فهو مرفوع ، لأن الصحابي وغيره إنما تلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم . وأمر الأمة لا يمكن الحمل عليه لأنهم لا يأمرون أنفسهم . وبعض الأئمة إن أراد الصحابة فبعيد ، لأنه قوله ليس بحجة على غيره منهم .

وإن أراد من الخلفاء فكذلك ، لأن الصحابي في مقام تعريف الشرع بهذا الكلام فيجب حمله على من صدر عنه الشرع .

قلت : إلا أن يكون قائل ليس من مجتهدي الصحابة فيحتمل أن يريد بالأمر أحد المجتهدين منهم والله أعلم . وأما حمله على القياس والاستنباط فبعيد ، لأن قوله : أمرنا بكذا يفهم منه حقيقة الأمر ( لا خصوص الأمر باتباع القياس ) .

تنبيهات

الأول : قيل : محل خلاف في هذه المسألة فيما إذا كان قائل ذلك من الصحابة غير أبي بكر رضي الله عنه وعنهم . أما إذا قال أبو بكر رضي الله عنه فيكون مرفوعاً قطعاً .

لأن غير النبي صلى الله عليه وسلم لا يأمره ولا ينهاه ، لأنه تأمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم ووجب على غيره امتثال أمره . حكى هذا المذهب أبو السعادات ابن الأثير في مقدمة جامع الأصول وهو مقبول .

الثاني : لا اختصاص لذلك بقوله : أمرنا أو نهينا . بل يلحق به ما إذا قال : أمر فلان بكذا أو نهى فلان عن كذا أو أمر أو نهى بلا إضافة وكذا مثل قول عائشة رضي الله تعالى عنها (( كنا نؤمر بقضاء الصوم )) الحديث .

وأما إذا قال الصحابة رضي الله عنه أوجب علينا كذا أو حرم علينا كذا أو أبيح لنا كذا ، فهو

مرفوع . ويبعد تطرق الاحتمالات المتقدمة إليه بعداً قوياً جداً .

الثالث : إذا قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا أو سمعته يأمر بكذا ، فهو مرفوع بلا خلاف ، لانتفاء الاحتما لالمتقدم . لكن حكى القاضي أبو الطيب وغيره عن داود وبعض المتكلمين أنه لا يكون حجة حتى ينقل لفظه لاختلاف الناس في صيغ الأمر والنهي فيحتمل أن يكون سمع صيغة ظنها أمراً أو نهياً وليس كذلك في نفس لأمر .

وأجيب بأن الظاهر من حال الصحابة رضي الله عنه مع عدالته ومعرفته بأوضاع اللغة أنه لا يطلق ذلك إلا فيما تحقق أنه أمر أو نهي من غير شك نفياً للتدليس عنه بنقل ما يوجب على سامعه اعتقاد الأمر والنهي فيما ليس هو أمر ولا نهي .

الرابع : نفي الخلاف المذكور عن أهل الحديث ، فقال البيهقي : لا خلاف بين أهل النقل أن الصحابي رضي الله تعالى عنه إذا قال : أمرنا أو نهينا أو من السنة كذا أنه يكون حديثاً مسنداً والله أعلم .

[ قول الصحابي من السنة كذا : ]

60- قوله (ص) : (( وهكذا قول الصحابي رضي الله عنه (( من السنة كذا فالأصح أنه مرفوع )) إلى آخره .

قال القاضي أبو الطيب : هو ظاهر مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه .

وقال ابن عبد البر : (( إذا أطلق الصحابي رضي الله تعالى عنه السنة فالمراد بها سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يضعفها إلى صاحبها كقولهم : سنة العمرين . ومقابل الأصح خلاف الصيرفي من الشافعية والكرخي والرازي من الحنفية وابن حزم الظاهري . بل حكاه إمام الحرمين في البرهان عن المحققين . وجرى عليه ابن القشيري ، وجزم بن فورك وسليم الرازي وأبو الحسين بن القطان والصيدلاني من الشافعية بأنه الجديد من مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه . وكذا حكاه المازري في شرح البرهان .

وحكوا كلهم أن الشافعي رضي الله تعالى عنه كذا في القديم يراه مرفوعاً وحكوا تردده ذلك [ في ] الجديد ، لكن نص الشافعي رضي الله عنه في الأم وهو من الكتب الجديدة على ذلك . فقال في باب عدد الكفن بعد ذكر ابن عباس والضحاك بن قيس رضي الله عنهما : (( رجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : لا يقولان السنة إلا السنة إلا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم )) .

وروى في الأم أيضاً عن سفيان عن أبي الزناد قال : سئل سعيد بن المسيب عن الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته ؟ قال : يفرق بينهما .

قال أبو الزناد : فقلت : سنة ؟

فقال سعيد : سنة .

قال الشافعي : الذي يشبه قول سعيد سنة أن يكون أراد سنة النبي صلى الله عليه وسلم . انتهى . وحينئذ قله في الجديد قولان . وبه جزم الرافعي . ومستندهم أن اسم السنة متردد بين سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة غيره . كما قال صلى الله عليه وسلم : (( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين )) . وأجيب بأن احتمال إرادة النبي صلى الله عليه وسلم أزهر لوجهين :

1- أحدهما : أن إسناد ذلك إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم هو المتبادر إلى الفهم ، فكان الحمل عليه أولى .

2- الثاني : أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم أصل . وسنة الخلفاء الراشدين تبع لسنته .

والظاهر من مقصود الصحابي رضي الله تعالى عنه إنما هو بيان الشريعة ونقلها ، فكان إسناد ما قصد بيانه إلى الأصل أولى من إسناده إلى التابع والله أعلم . وما يؤيد مذهب الجمهور : ما رواه البخاري في صحيحه عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما .

أن الحجاج عام نزل بابن الزبير رضي الله تعالى عنهما سأل عبد الله ( يعني ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ) كيف يصنع في الموقف يوم عرفة ، فقال سالم رضي الله تعالى عنه : إن كنت تريد السنة فهجر بالصلاة يوم عرفة .

فقال ابن عمر رضي الله عنهما : صدق .

قال الزهري : فقلت لسالم : أفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟

قال : وهل يتبعون في ذلك ( إلا سنته ) صلى الله عليه وسلم ؟ . واستدل ابن حزن على أن قول الصحابي رضي الله عنه . من السنة كذا ليس بمرفوع بما في البخاري من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما .

قال : أليس حسبكم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم إن حبس أحدكم في الحج فطاف بالبيت وبالصفا والمروة ، ثم حل من كل شئ حتى يحج قابلاً فيهدي أو يصوم إن لم يجد هدياً .

قال ابن حزم : (( لا خلاف بين أحد من الأمة أنه صلى الله عليه وسلم إذ صد عن البيت لم يطف به ولا بالصفا والمروة بل حيث كان بالحديبية ، وإن هذا الذي ذكره ابن عمر رضي الله تعالى عنه لم يقع منه قط .

قلت : إن أراد بأنه لم يقع من فعله ، فمسلم ولا يفيده وإن أراد لم يقع من قوله فممنوع . وما المانع منه ؟ بل الدائرة أوسع من القول أو الفعل وغيرهما وبه ينتقض استدلاله ويستمر ما كان على ما كان

تنبيهات

أحدها : إذا أضاف الصحابي رضي الله عنه السنة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومثل ذلك بقول عمر رضي الله عنه للصبي بن معبد هديت لسنة نبيك )) . وجزم شيخنا شيخ الإسلام في محاسن

قال : فارفعها مثل قول ابن عباس رضي الله عنهما : الله أكبر سنة بأبي القاسم صلى الله عليه وسلم

ودونها قول عمرو بن العاص رضي الله عنه : (( لا تلبسوا علينا سنة نبينا صلى الله عليه عدة أم الوليد كذا )) . ودونها قول عمر رضي الله عنه لعقبة بن عامر رضي الله عنه : (( أصبت السنة )) .

إذ الأول أبعد احتمالاً والثاني أقرب احتمالاً ، والثالث لا إضافة فيه .

ثانيها : نفي البيهقي الخلاف ، عن أهل النقل في ذلك كما تقدم قبل وسبقه إلى ذلك الحاكم فقال: في الجنائز من المستدرك أجمعوا على أن قول الصحابي رضي الله عنه السنة كذا حديث مسند .

[ حكم ما ينسب الصحابي فاعله إلى الكفر والعصيان : ]

ثالثها : لم يتعرض ابن الصلاح إلى بيان حكم ما ينسب الصحابي فاعله إلى الكفر أو العصيان ، كقول ابن مسعود رضي الله عنه : (( من أتى عرافاً أو كاهناً أو ساحراً فصدقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على [ قلب ] محمد صلى الله عليه وسلم )) .

وفي رواية ؟: بما أنزل الله على محمد صلى اله عليه وسلم . وكقول أبي هريرة رضي الله عنه : (( ومن لم يحب الدعوة ، فقد عصى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم )) . وقوله في الخارج من المسجد بعد الأذان : (( أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم )) . وقول عمار بن ياسر رضي الله عنه : (( من صام اليوم الذي يشك فيه ، فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم )) . فهذا ظاهره أن له حكم الرفع ، ويحتمل أن يكون موقوفاً لجواز إحالة الإثم على ما ظهر من القواعد . والأول أظهر بل حكى ابن عبد البر الإجماع على أنه مسند . وبذلك جزم الحاكم في علوم الحديث والإمام فخر الدين في المحصول .

[ ما يعد مسنداً من تفسير الصحابي : ]

61- قوله (ص) : (( ما قيل من أن تفسير الصحابي رضي الله عنه مسند إنما هو في تفسير يتعلق بسبب نزول آية أو نحو ذلك )) .

قلت : تبع المصنف في ذلك الخطيب ، وكذا قال الأستاذ أبو منصور البغدادي : (( إذا أخبر الصحابي رضي الله عنه عن سبب وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو أخبر عن نزول آية له بذلك مسند .

لكن أطلق الحاكم النقل عن البخاري ومسلم أن تفسير الصحابي رضي الله عنه الذي شهد الوحي والتنزيل حديث مسند . والحق أن ضابط ما يفسره الصحابي رضي الله عنه إن كان مما لا مجال للاجتهاد [ فيه ] ولا منقولاً عن لسان العرب فحكمه الرفع وإلا فلا ، كالإخبار عن الأمور الماضية من بدء الخلق وقصص الأنبياء وعن الأمور الآتية :

كالملاحم والفتن والبعث وصفة الجنة والنار والإخبار عن عمل يحصل به ثواب مخصوص أو عقاب مخصوص ، فهذه الأشياء لا مجال للاجتهاد [ فيها ] فيحكم لها بالرفع .

قال أبو عمر الداني :

(( قد يحكي الصحابي رضي الله عنه قولاً يوقفه ، فيخرجه أهل الحديث في المسند ، لامتناع أن يكون الصحابي رضي الله عنه قاله إلا بتوقيف ، كما روى أبو صالح السمان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : (( نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات لا يجدن عرف الجنة )) الحديث . لأن مثل هذا لا يقال : بالرأي ، فيكون من جملة المسند .

وأما إذا فسر آية تتعلق بحكم شرعي فيحتمل أن يكون ذلك مستفاداً عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن القواعد ، فلا يجزم برفعه وكذا إذا فسر مفرداً فهذا نقل عن اللسان خاصة فلا يجزم برفعه وهذا التحرير الذي حررناه هو معتمد خلق كثير من كبار الأئمة كصحابي الصحيح والإمام الشافعي وأبي جعفر الطبري وأبي جعفر الطحاوي وأبي بكر بن مردويه في تفسيره المسند والبيهقي وابن عبد البر في آخرين .

[ إذا كان الصحابي في الإسرائيليات فلا يعطى تفسيره حكم الرفع : ]

إلا أن يستثنى من ذلك ما كان المفسر له من الصحابة رضي الله تعالى عنهم من عرف بالنظر في الإسرائيليات ، كمسلمة أهل الحديث مثل عبد الله بن سلام وغيره . وكعبد الله بن عمرو بن العاص

فإنه كان حصل له في وقعة اليرموك كتب كثيرة من ( كتب ) أهل الكتاب فكان يخبر بما فيها من الأمور المغيبة حتى كان بعض أصحابه ربما قال له : حدثنا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا تحدثنا عن الصحيفة ، فمثل هذا لا يكون حكم ما يخبر (به) من الأمور التي قدمنا ذكرها الرفع ، لقوة الاحتمال والله أعلم .

تنبيه

إذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حكماً يحتاج إلى شرح ، فشرحه الصحابي رضي الله عنه سواء كان من روايته أو من رواية غيره هل يكون ذلك مرفوعاً أم لا ؟

ذهب الحاكم إلى أنه مرفوع ، فقال :

(عقب) حديث أورده عن عائشة رضي الله تعالى عنها في تفسير التميمة : هذا ليس بموقوف ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد ذكر التميمة في أحاديث كثيرة ، فإذا فسرتها عائشة رضي الله تعالى عنها كان ذلك حديثاً مسنداً . والتحقيق أنه لا يجزم بكون جميع ذلك يحكم برفعه . بل الاحتمال فيه واقع ، فيحكم برفع ما قامت القرائن الدالة على رفعه وإلا فلا والله أعلم .

وهكذا إذا كان اللفظ معنيان فحمله الصحابي رضي الله عنه على أحدهما كتفسير ابن عمر رضي الله عنه التفرق بالأبدان دون الأقوال .

وقال القاضي أبو الطيب : يجب قبوله على المذهب . وكذا حمل عمر رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم : (( الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء )) على القبض في المجلس . وتردد في ذلك الشيخ أبو إسحاق والله أعلم .

62- قوله (ص) : (( من قبيل المرفوع ( ما قيل ) عند ذكر الصحابي رضي الله عنه : يرفعه أو يبلغ به أو بتمية أو رواية )) .

قلت : وكذا قوله يرويه أو رفعه أو مرفوعاً أو بسنده . وكذا قوله رواه . رونيا في أمالي المحاملي من طريق ابن عيينة عن ابن جدعان عن أبي نضرة عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه رواه قال :

قول إبراهيم عليه الصلاة والسلام من هذا الوجه ، فقال عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فذكره .وأمثلة باقي ما ذكرنا مشهورة ، فلا نطيل بذكرها .

ومن أغرب ذلك سقوط الصيغة مع الحكم بالرفع بالقرينة كالحديث الذي رويناه من طريق الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : احفظوا عني ولا تقولوا : قال ابن عباس رضي الله عنه إيما عبد حج به أهله ، ثم أعتق فعليه حجة أخرى الحديث . رواه ابن أبي شيبة من هذا الوجه فزعم أبو الحسن ابن القطان أن ظاهره الرفع وأخذه من نهي ابن عباس رضي الله عنهما لهم عن إضافة القول إليه .

فكأنه قال لهم : لا تضيفوه إلى وأضيفوه إلى الشارع .

لكن يعكر عليه أن البخاري رواه من طريق أبي السفر سعيد بن يحمد قال : سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول : يا أيها الناس اسمعوا مني ما أقول لكم واسمعوني ما تقولون ، ولا تذهبوا فتقولوا : قال ابن عباس قال ابن عباس ، فذكر الحديث .

وظاهر هذا أنه إنما طلب منهم أن يعرضوا عليه قوله ليصححه لهم خشية أن يزيدوا فيه أو ينقصوا والله أعلم .

تنبيهان

أحدهما : قد يقال : ما الحكمة في عدول التابعي عن قول الصحابي رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحوها إلى يرفعه وما ذكر معها .

قال الحافظ المنذري : شيبه أن يكون التابعي مع تحققه بأن الصحابي رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم شك في الصيغة بعينها فلما لم يمكنه الجزم بما قاله له أتى بلفظ يدل على رفع الحديث .

قلت : وإنما ذكر الصحابي رضي الله عنه كالمثال وإلا فهو جار في حق من بعده ولا فرق ، ويحتمل أن يكون من صنع ذلك صنعه طلباً للتخفيف وإيثار للإختصار . ويحتمل أيضاً أن يكون شك في ثبوت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجزم بلفظ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا بل كنى عنه تحرزاً وسيأتي إن شاء الله تعالى في النوع الحادي والعشرين .

وما أجاب به المنذري انتزعه من قول أبي قلابة الجرمي لما روي عن أنس رضي الله عنه قال : (( من السنة إذا تزوج البكر عندها سبعاً )) .

( قال أبو قلابة : لو شئت لقلت : أنساً رضي الله عنه رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ) .

( فإن معنى ذلك أنني لو قلت رفعه ) لكنت صادقاً . بناء على الرواية بالمعنى لكنه تحرز عن ذلك ، لأن قوله : من السنة إنما يحكم له بالرفع بطريق نظري . كما تقدم . وقوله رفعه نص في رفعه وليس للرواي أن ينقل ما هو محتمل إلى ما هو نص غير محتمل .

ثانيهما : ذكر المصنف ما إذا قال التابعي عن الصحابي رضي الله عنه يرفعه ولم يذكر ما إذا قال الصحابي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم يرفعه وهو في حكم قوله ( عن الله ) عز وجل

ومثاله : الحديث الذي رواه الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه .

قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعه (( إن المؤمن عندي بمنزلة كل خير يحمدني وأنا أنزع نفسه من بين جنبيه )) .

حديث حسن رواته من أهل الصدق . أخرجه البزار في مسنده وهو من الأحاديث الإلهية ، وقد أفردها جمع بالجمع والله الموفق .

النوع التاسع : المرسل

63- قوله (ص) : (( تعريف المرسل وصورته التي لا خلاف فيها ( حديث التابعي الكبير الذي لقي جماعة من الصحابة وجالسهم ، كعبيد الله بن عدي بن الخيار ثم سعيد بن المسيب وأمثالهما إذا قال ) : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم )) إلى آخره .

ليس المراد حصر ذلك في القول لو ذكر الفعل أو التقرير بأي صيغة كان داخلاً فيه . وإنما خص القول ، لكونه أكثر . والأولى فيما أرى التعبير بالإضافة ، لكونهما أشمل . والله الموفق .

30- قوله (ع) : (( لأن عبيد الله بن عدي ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينقل أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم )) .

قلت : عدي بن الخيار مات قبل فتح مكة بمدة وابنه عبيد الله كان بمكة لما دخلها النبي صلى الله عليه وسلم وقد وجد في منقولات كثيرة أن الصحابة من النساء والرجال كانوا يحضرون أولادهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتبركون بذلك وهذا منهم ، لكن هل يلزم من ثبوت الرؤية له الموجبة لبلوغه شريف التربة بدخوله في حد الصحبة ، أن يكون ما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعد مرسلاً ؟

هذا محل نظر وتأمل . والحق الذي جزم به أبو حاتم الرازي وغيره من الأئمة أن مرسله كمرسل غيره ، وأن قولهم : مراسيل الصحابة رضي الله تعالى عنهم مقبولة بالاتفاق إلا عند بعض من شذ إنما يعنون بذلك من أمكنة التحمل والسماع أما من لا يمكنه ذلك فحكم حديثه حكم غيره من المخضرمين الذين لم يسمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم .

وبالجملة فإن تمثيل ابن الصلاح بعبيد الله بن عدي معترض ، لأنه كان يمكنه أن يحفظ عن النبي صلى

الله عليه وسلم وهو تابع في ذلك لابن عبد البر فإنه قال لما ذكر المرسل :

(( هذا الاسم واقع بالإجماع على حديث التابعي الكبير عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل أن يقول عبيد الله بن عدي بن الخيار أو أبو أمامة بن سهل ومن كان مثلهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكذلك دون هؤلاء كسعيد بن المسيب إلى آخر كلامه .

قلت : ولو مثل بمحمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهما الذي ما أدرك من حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة أشهر لكان أولى وقول شيخنا : (( لكونهم عاصروه على القول الضعيف في حد الصحابة رضي الله تعالى عنهم )) . سيأتي إن شاء الله تعالى في معرفة الصحابة رضي الله عنهم قدح في ثبوت هذا القول عن أحد الأئمة مطلقاً إن شاء الله تعالى .

64- قوله (ص) : (( والمشهور التسوية بين التابعين )) .

أقول : لم يمعن المؤلف في الكلام على المرسل في حكاية الخلاف في حده والتفريغ عليه .

[ جمع الحافظ لأقوال أهل العلم في المرسل : ]

وقد جمعت كثيراً من أقوال أهل العلم فيه يحتاج إليه المحدث وغيره .

أما أصله : فقيل مأخوذ من الإطلاق وعدم المنع كقوله تعالى : ( إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين ) . فكأن المرسل أطلق الإسناد .

وقيل : مأخوذ من قولهم : (( جاء القوم أرسالاً أي متفرقين )) ، لأن بعض الإسناد منقطع عن بقيته وقيل : مأخوذ من قولهم : (( ناقة رسل )) أي سريعة السير كأن المرسل للحديث أسرع فيه فحذف بعض إسناده .

[ حد المرسل اصطلاحاً : ]

وأما حده : فاختلفت عباراتهم فيه على أربعة أوجه :

الأول : هو ما أضافه التابعي الكبير إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيخرج بذلك ما أضافه صغار التابعين ومن بعدهم .

والثاني : هو ما أضافه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم من غير تقييد بالكبير .

وهذا الذي عليه جمهور المحدثين ، ولم أر تقييده بالكبير صريحاً عن أحد ، لكن نقله ابن عبد البر عن قوم ، بخلاف ما يوهمه كلام المصنف . نعم قيد الشافعي المرسل الذي يقبل إذا اعتضد بأن يكون من رواية التابعي الكبير . ولا يلزم من ذلك ، أن لا يسمى مار واه التابعي الصغير مرسلاً .

والشافعي مصرح بتسمية رواية من دون كبار التابعين مرسلة وذلك في قوله : (( ومن نظر في العلم بخبرة وقلة غفلة استوحش من مرسل كل من دون كبار التابعين بدلائل ظاهرة )) .

والثالث : ما سقط منه رجل وهو على هذا هو المنقطع سواء . وهذا مذهب أكثر الأصوليين .

قال الأستاذ أبو منصور :

(( المرسل : ما سقط من إسناده واحد ، فإن سقط أكثر من واحد فهو معضل )) .

وقال أبو الحسن بن القطان :

((المرسل : أن يروي بعض التابعين عن النبي صلى الله عليه وسلم خبراً أو يروي رجل عمن لم يره )) قلت : وهذا اختيار أبي داود في مراسيله ، والخطيب وجماعة ، لكن الذي قبله أكثر في الاستعمال .

والرابع : قول غير الصحابي رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهذا التعريف أطلق ابن الحاجب وقبله الآمدي والشيخ الموفق وغيرهم ، فيدخل في عمومه كل من لم تصح له صحبة ولو تأخر عصره .

وقال الغزالي : (( وصورة المرسل أن يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يعاصره )) .

وهذا أخص قليلاً من الذي قبله ، لأنه يدخل فيه من سمع من النبي صلى الله عليه وسلم في حال الكفر ، ثم استمر كافراً فلم يسلم إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فإن هذا لا تصح له صحبة وهو على تعريف الغزالي لا يكون حديثه مرسلاً .

وقال الحافظ العلائي :

(( إطلاق ابن الحاجب وغيره ، يظهر عند التأمل في أثناء استدلالهم أنهم لا يريدونه ، بل إنما مرادهم ما سقط منه التابعي مع الصحابي أو ما سقط منه اثنان بعد الصحابي ونحو ذلك ، ويدل عليه قول إمام الحرمين في (( البرهان )) : مثاله : أن يقول الشافعي رضي الله تعالى عنه : قال رسول الله صل الله عليه وسلم كذا .

قال : ولم أر من صرح بحمله على إطلاقه إلا بعض المتأخرين من غلاة الحنفية . وهو اتساع غير مرضي ، لأنه يلازم منه بطلان اعتبار الاسناد الذي هو من خصائص هذه الأمة ، وترك النظر في أحوال الرواة ، والإجماع في كل عصر على خلاف ذلك فظهور فساده ( غنى ) عن الإطالة فيه )) .

قلت : ويؤيده قول الأستاذ أبي إسحاق الاسفرائيني في كتابه [ في الأصول ] : (( المرسل رواية التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم أو تابع التابعي ( عن الصحابي ) فأما إذا قال تابع التابعي أو واحد منا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يعد شيئاً ، ولا يقع به ترجيح [ فضلاً ] عن الاحتجاج به . وهذا ظاهر كلام ابن برهان أيضاً . وممن قيد الإطلاق الأستاذ أبو بكر ابن فورك ، فقال : (( المرسل : قول التابعي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا . نقله عنه المازري .

فإن قيل ما احترز به الغزالي رحمه الله تعالى كما قدمته ، قد ينقدح منه قدح في صحة التعريف الذي أخبرت أنه قول الجمهور ، وذلك لأن قولهم : المرسل ما أضافه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يدخل فيه ما سمعه بعض الناس في حال كفره من النبي صلى الله عليه وسلم ( ثم أسلم ) بعده وحدث عنه بما سمعه منه ، فإن هذا والحالة هذه تابعي قطعاً وسماعه منه صحيح متصل وهو داخل في حد

المرسل الذي ذكرته .

[ تعريف الحافظ للمرسل : ]

قلت : وهذا عندي نقض صحيح واعتراض وارد لا محيد عنه ولا انفصال منه إلا أن يزاد في الحد ما يخرجه ، وهو : أن يقول : المرسل : ما أضافه التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم مما سمعه من غيره

[ أقوال العلماء في حكم المرسل : ]

وأما حكم المرسل :

فاختلفوا في الاحتجاج به على أقوال :

أحدها : الرد مطلقاً حتى لمراسيل الصحابة رضي الله تعالى عنهم وحكي ذلك عن الأستاذ أبي إسحاق الاسفرائيني .

وظن قوم أنه تفرد بذلك ، فاحتجوا عليه بالإجماع ، وليس بجيد لأن القاضي أبا بكر الباقلاني قد صرح في التقريب بأن المرسل لا يقبل مطلقاً حتى مراسيل الصحابة رضي الله عنهم لا لأجل الشك في عدالتهم ، بل لأجا أنهم قد يروون عن التابعين . قال : إلا أن يخبر عن نفسه بأنه لا يروي إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن صحابي فحينئذ يجب العمل بمرسله .

قلت : نقل عنه الغزاي في المنخول أن المختار عنده ، أن الإمام العدل إذا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أخبرني الثقة قبل . فأما الفقهاء والمتوسعون في كلامهم فقد يقولونه لا عن تثبت فلا يقبل منهم ، لأن الرواية قد كثر وطال البحث واتسعت الطرق ، فلا بد من ذكر اسم الرجل ))

قال الغزالي : والأمر كما ذكر ، لكن لو صادفنا في زماننا متقناً في نقل الأحاديث مثل مالك قبلنا قوله ولا يختلف ذلك بالإعصار ( يعني أن الحكم لا يختلف جوازاً ) وأن الواقع أن الأعصار المتأخرة ليس فيهم من هو بتلك المثابة وقد قال القاضي عبد الجبار رضي الله تعالى عنه إذا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا قبل إلا أن علم أنه أرسله )) . وهذا النقل مخالف للمشهور من مذهب الشافعي .

فقد قال ابن برهان في الوجيز : (( مذهب الشافعي : إن المراسل لا يجوز الاحتجاج بها إلا مراسيل الصحابة رضي الله عنهم ومراسل سعيد بن المسيب وما انعقد الإجماع على العمل به .

وكذا ما نقله ابن بطال في أوائل شرح البخاري عن الشافعي أن المرسل عنده ليس بحجة حتى مرسل الصحابة .

ثم اغرب ابن برهان فقال في الأوسط : إن الصحيح أنه لا فرق بين مراسيل الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومراسيل غيرهم .

فتلخص من هذا أن الأستاذ أبا إسحاق لم ينفرد برد مراسيل الصحابة رضي الله عنهم وأن مأخذه في ذلك احتمال كون الصحاب رضي الله عنه أخذه عن تابعي .

وجوابه : أن الظاهر فيما رووه أنهم سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم أو من صحابي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم . وأما روايتهم عن التابعي فقليلة نادرة ، فقد تتبعت وجمعت لقلتها .

قلت : وقد سردها شيخنا رحمه الله في النكت فأفاد وأجاد ..

ثانيها : القبول مطلقاً في جميع الأعصار والأمصار ، كما قدمنا حكايته ورده .

ثالثها : قبول مراسيل الصحابة رضي الله عنهم فقد ورد ما عداها مطلقاً حكاه عبد الجبار في شرح كتاب العمدة .

قلت : وهو الذي عليه عمل أئمة الحديث . واحتجوا بأن العلماء قد أجمعوا على طلب عدالة المخبر . وإذا روى التابعي عمن لم يلقه لم يكن بد من معرفة الواسطة .

ولم يتقيد التابعون بروايتهم عن الصحابة رضي الله عنهم بل رووا عن الصحابة وغيرهم . ( ولم يتقيدوا ) بروايتهم عن ثقات التابعين بل رووا عن الثقات والضعفاء . فهذه النكتة في رد المرسل قاله بمعناه ابن عبد البر .

وقال صاحب المحصول : (( الحجة في رد المرسل أن عدالة الأصل غير معلومة ، لأنه لم يوجد إلا من رواية الفرع منه .ورواية الفرع عنه لا تكون بمجردها تعديلاً ، لأنهم قد أرسلوا عمن سئلوا عنه فجرحوه أو توقفوا فيه .

قال : وعلى تقدير أن يكون تعديلاً ، فلا يقتضي أن يكون عدلاً في نفس الأمر ، لاحتمال أنه لو سماه لعرف بالجرح فتبين أن العدالة غير معلومة )) .

فإن قيل : إن أردتم نفي العلم القطعي ، فالعلم القطعي بثبوت عدالة الراوي غير مشروط ، بل يكفي غلبة الظن وهي حاصلة لأن ظاهر حال الراوي أنه لما روى عنه وسكت كان عدلاً عنده وإلا كان ذلك قدحاً فيه . وإذا كان معتقداً عدالة من أرسل عنه فالظاهر أنه كذلك في نفس الأمر .

والجواب : المنع بإنه إذا اعتقد عدالته يكون عدلاً في نفس الأمر وسنده عدم التلازم بينهما بل الواقع خلافه .

قال القاضي أبو بكر : (( من المعلوم أن المحدثين لم يتطابقوا على أن لا يحدثوا إلا عن عدل . بل نجد الكثير منهم يحدثون عن رجال ، فإذا سئل الواحد عنهم عن ذلك الرجل قال : لا أعرف حاله بل ربما جزم بكذبه فمن أين يصح الحكم على الراوي أنه لا يرسل إلا عن ثقة عنده )) . انتهى كلامه .

فقد اختار رد المرسل مع كونه مالكياً ، لكن تعليله يقتضي أن من عرف من عادته أو صريح عبارته أنه لا يرسل إلا عن ثقة أنه يقبل . وسيأتي تقرير هذا المذهب آخراً .

وما قاله القاضي صحيح فإن كثيراً من الأئمة وثقوا خلقاً من الرواة بحسب اعتقادهم فيهم وظهر لغيرهم فيهم الجرح المعتبر وهذا بيّن واضح في كتب الجرح والتعديل . فإذا كان مع التصريح بالعدالة فكيف مع السكوت عنها . وقد فتشت كثير من المراسيل فوجدت عن غير العدول . بل سئل كثير منهم عن مشايخهم ، فذكروهم بالجرح كقول أبي حنيفة : ما رأيت أكذب من جابر الجعفي وحديثه عنه موجود .

وقول الشعبي : حدثني الحارث الأعور وكان كذاباً وحديثه عنه موجود . فمن أين يصح الحكم ( على ) الراوي أنه لا يرسل إلا ع ثقة عنده على الإطلاق .

رابعها : قبول مراسيل الصحابة وكبار التابعين .

ويقال : أنه مذهب أكثر المتقدمين . وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه لكن شرط في مرسل كبار التابعين أن يعتضد بأحد الأوجه المشهورة .

خامسها : كالرابع لكن من غير قيد بالكبار وهو قول مالك وأصحابه واحدى الروايتين عن أحمد .

سادسها : كالخامس ، لكن بشرط أن يعتضد ونقله الخطيب عن أكثر الفقهاء .

سابعها : إن كان الذي أرسل من أئمة النقل المرجوح إليهم في التعديل والتجريح قبل مرسله وإلا فلا ، وهو قول عيسى بن أبان من الحنفية واختاره أبو بكر الرازي منهم ، وكثير من متأخيرهم والقاضي عبد الوهاب من المالكية ، بل جعله أبو الوليد الباجي شرطاً عند من يقبل المرسل مطلقاً .

ثامنها : قبول مراسيل الصحابة رضي الله عنهم وبقية القرون الفاضلة دون غيرهم وهو محكي عن محمد بن الحسن ويشير إليه تمثيل إمام الحرمين بما قال فيه الشافعي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم .

تاسعها : كالثامن بزيادة من كان من أئمة النقل أيضاً .

عاشرها : يقبل مراسيل من عرف منه النظر في أحوال شيوخه والتحري في الراوية عنه دون من لم يعرف منه ذلك .

حادي عشرها : لا يقبل المرسل إلا إذا وافقه الإجماع فحينئذ يحصل الاستغناء عن السند ويقبل المرسل قاله ابن حزم في الأحكام .

ثاني عشرها : إن كان المرسل موافقاً في الجرح والتعديل قبل مرسله وإن كان مخالفاً ي شروطها لم يقبل . قاله ابن برهان وهو غريب .

ثالث عشرها : إن كان المرسل عرف من عادته أو صريح عبارته أنه لا يرسل إلا عن ثقة قبل وإلا فلا .

قال الحافظ صلاح الدين العلائي في مقدمة كتاب الأحكام ما حاصله : (( إن هذا المذهب الأخير أعدل المذاهب في هذه المسألة ، فإن قبول السلف للمراسيل مشهور إذا كان المرسل لا يرسل إلا عن عدل . وقد بالغ ابن عبد البر فنقل اتفاقهم على ذلك فقال : لم يزل الأئمة يحتجون بالمرسل إذا تقارب عصر المرسل والمرسل عنه ولم يعرف المرسل بالرواية عن الضعفاء .

ونقل أبو الوليد الباجي الاتفاق في الشق الآخر فقال : (( لا خلاف أنه لا يجوز العمل بالمرسل إذا

كان مرسله غير متحرز يرسل عن الثقات وعن غير الثقات )) .

وهذا وإن كان في صحة نقل الاتفاق من الطرفين نظر فإن قبول مثل ذلك عن جمهورهم مشهور ، وكذا مقابله ففي مقدمة صحيح مسلم عن محمد بن سيرين قال : (( كانوا لا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة سألوا عنه ليتجنبوا رواية أهل البدع )) .

وفيها أيضاً عن ابن عباس رضي الله تعال عنهما أنه أنكر على بشير بن كعب أحد التابعين أحاديث أرسلها وقال : كنا نقبل الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل أحد ، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نقبل منه إلا ما نعرف .

وكذا أنكر الزهري على إسحاق بن أبي فروة أحاديث أرسلها فقال : تأتينا بأحاديث لا خطم لها ولا أزمة ألا تسند حديثك ؟ .

ونقل إمام الحرمين أن ذلك مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه أعني التفصيل السابق فقال : إذا كان المرسل من كبار التابعين وعادته الرواية عن الدل فليس بحجة وإن لم يرو إلا عن العدل فحجة . قال : ولذلك قبل الشافعي مراسيل سعيد بن المسيب ، لأنه تفرد بهذه المزية .

قلت : وهذا مقتضى ما علل به الشافعي قبوله لمراسيل سعيد فإنه قال في جواب سائل سأله فقال له : كيف قبلتم عن ابن المسيب منقطعاً ولم تقبلوه عن غيره ؟ فقال : لأنا لا نحفظ لسعيد منقطعاً إلا وجدنا ما يدل على تسديده ولا أثره عن أحد عرفنا عنه إلا عن ثقة معروف . فمن كان بمثل حاله أحببنا قبول مرسله .

فهذا يدل على أنه قبل مراسيل سعيد بن المسيب ، لكونه كان لا يسمي إلا (عن) ثقة ، وأما غيره ، فلم يتبين له ذلك منه ، فلم يقبله مطلقاً وأحال الأمر في قبوله على وجود الشرط المذكور .

وقال الغزالي في (( المستصفى )) :

(( المختار على قياس رد المرسل أن التابعي إذا عرف بصريح خبره أو عادته أنه يروي إلا عن صحابي قبل مرسله وإلا فلا ، لأنهم قد يروون عن غير الصحابة رضي الله عنهم )) .

قلت : (ويؤيد) ذلك نقل ابن حبان الاتفاق على قبوله عنعنة سفيان بن عيينة ، مع أنه كان يدلس ، لكنه كان مع ذلك لا يدلس إلا عن ثقة ، فقبلوا عنعنته لذلك . وقد تقدم عن القاضي أبي بكر وغيره ما يعضد ذلك والله أعلم . وبهذا المذهب يحصل الجمع بين الأدلة (لطرفي) القبول والرد والله أعلم .

[ أسباب الإرسال : ]

فإن قيل : فما الحامل لمن كان لا يرسل إلا عن ثقة على الإرسال ؟ قلنا : إن لذلك أسباباً منها :

أن يكون سمع الحديث عن جماعة ثقات وصح عنده ، فيرسله اعتماداً على صحته عن شيوخه . كما

صح عن إبراهيم النخعي أنه قال : ما حدثتكم عن ابن مسعود رضي الله عنه فقد سمعته من غير واحد

وما حدثتكم فسميت فهو عمن سميت .

ومنها : أن يكون نسي من حدثه به وعرف المتن ، فذكره مرسلاً لأن أًل طريقته أنه لا يحمل إلا عن ثقة .

ومنها : أن لا يقصد التحديث بأن يذكر الحديث على وجه المذاكرة أو على جهة الفتوى ، فيذكر المتن ، لأنه المقصود في تلك الحالة دون السند ولا سيما إن كان السامع عارفاً بمن طوى لشهرته أو غير ذلك من الأسباب . وهذا كله في حق من لا يرسل إلا عن ثقة .

وأما من كان يرسل عن كل أحد فربما كان الباعث له على الإرسال ضعف من حدثه ، لكن هذا يقتضي القدح في فاعله لما تترتب له عليه من الخيانة والله أعلم .

فإن قيل : فهل عرف أحد غير ابن المسيب لا يرسل إلا عن ثقة . قلنا : نعم . فقد صحح الإمام أحمد مراسيل إبراهيم النخعي لكن خصه غيره بحديثه عن ابن مسعود رضي الله عنه كما تقدم . وأما مراسيله عن غيره ، فقال يحيى القطان : (( كان شعبة مرسل إبراهيم النخعي عن علي رضي الله عنه .

وقال يحيى بن معين : مراسيل إبراهيم النخعي صحيحه إلا حديث تاجر البحرين وحديث القهقهة ))

قلت : وحديث القهقهة مشهور رواه الدار قطني وغيره من طريقه . وقد أطنب البيهقي في الخلافيان في ذكر طرقه وعلله .

وأما حديث تاجر البحرين ، فأشار به إلى ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة في (( مصنفه )) عن وكيع عن الأعمش ، عن إبراهيم النخعي قال : إن رجلاً قال يا رسول الله ! إني رجل تاجر اختلف إلى البحرين فأمره أن يصلي ركعتين .

وقال البيهقي : (( من المعلوم أن إبراهيم ما سمع من أحد من الصحابة فإذا حدث عن النبي صلى الله عليه وسلم يكون بينه وبينه اثنان أو أكثر فيتوقف في قبوله من هذه الحثيثة ، وأما إذا حدث عن الصحابة ، فإن كان ابن مسعود رضي الله عنه فقد صرح هو بثقة شيوخه عنه وأما عن غيره فلا والله أعلم . وصحح ابن عبد البر مراسيل محمد بن سيرين قال : (( لأنه كان يتشدد في الأخذ ولا يسمع إلا من ثقة )) .

وقوى يحيى القطان مراسيل سعيد بن جبير ومراسيل عمرو بن دينار . والمحفوظ عن كثير من الأئمة في مقابل ذلك شئ كثير لا يسعه هذا المختصر ومن أراد التبحر في ذلك فليراجع مختصري لتهذيب الكمال والله الموفق .

[ هل يجوز تعمد الإرسال : ]

فإن قيل : هل يجوز تعمد الإرسال أو يمنع ؟

قلنا : لا يخلو المرسل أن يكون شيخ من أرسل الذي حدث به :

(أ) عدلاً عنده وعند غيره .

(ب) أو غير عدل عنده وعند غيره .

(ج) أو عدلاً عنده لا عند غيره .

(د) أو غير عدل عنده عدلاً عند غيره .

هذه أربعة أقسام :

الأول : جائز بلا خلاف .

والثاني : ممنوع بلا خلاف .

وكل من الثالث والرابع يحتمل الجواز وعدمه . وتردد بينهما بحسب الأسباب الحاملة عليه والله سبحانه وتعالى أعلم .

31- قوله (ع) : (( وما ذكر في حق من سمى من صغار التابعين أنهم لم يلقوا من الصحابة رضي الله عنهم إلا الواحد والاثنين ليس بصحيح بالنسبة إلى الزهري )) .

قلت : تمثيله بالزهري في صغار التابعين صحيح . فإنه لا يلزم من كونه لقي كثيراً من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن يكون من لقيهم من كبار الصحابة حتى يكون هو من كبار التابعين فإن جميع من سموه من مشايخ الزهري من الصحابة كلهم من صغار الصحابة أو ممن لم يلقهم الزهري وإن كان روى عنهم أو ممن لم تثبت له صحبة ، وإن ذكر في الصحابة أو من ذكر فيهم بمقتضى مجرد الرؤية ولم يثبت له سماع ، فهذا حكم جميع من ذكر من الصحابة في مشايخ الزهري إلا أنس بن مالك رضي الله عنه وإن كان من المكثرين ، فإنما لقيه ، لأنه عمر وتأخرت وفاته .

ومع ذلك فليس الزهري من المكثرين عنه ، أيضاً عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه فتبين أن الزهري ليس من كبار التابعين لا كلهم ، لأن أكثرهم مات قبل أن يطلب هو العلم . وهذا بين لمن نظر في أحوال الرجال والله الموفق .

65- قوله (ص) : (( وأبي حازم )) .

اعترض عليه مغلطاي وتبعه شيخنا شيخ الإسلام في (( محاسن الاصطلاح )) بأنه ليس من صغار التابعين ، فإنه سمع من الحسن بن علي بن أبي طالب وأبي هريرة وعبد الله بن عمر وغيرهم رضي الله تعالى عنهم .

قلت : وهو اعتراض فيه نظر ، لأن ابن الصلاح إنما أراد أبو حازم سلمة بن دينار المدني وهو لم يلق من الصحابة سوى سهل بن سعد وأبي أمامة ابن سهل رضي الله تعالى عنهما فقط ، وأرسل عن من لم يلقه من الصحابة ، وجل روايته عن التابعين وأما الذي سمع من الحسن بن علي رضي الله عنهما فهو أبو حازم الأشجعي مولى عزة واسمه : سلمان وهو من مشايخ الزهري وإنما حصل الاشتباه لأن المصنف لم يذكر أبا حازم سلمة بصفة تميزه عن أبي حازم سلمان لكن قرائن الحال ( تقضي ) أنه إنما

عناه ولو لم يكن إلا في تقديمه الزهري عليه في الذكر ، فإن أبا حازم الأشجعي في منزلة شيوخ

الزهري في الطبقة والله أعلم .

66- قوله (ص) : (( وهذا المذهب فرع لمذهب من لا يسمي المنقطع مرسلاً )) .

يعني مذهب من بعد رواية صغار التابعين منقطعة . اعترض عليه شيخنا شيخ الإسلام فقال : (( هذا فيه نظر بل هو أصل يتفرع عليه ما ذكر أنه يتفرغ منه )) .

وأقول : وهذا من ( مشترك الإلزام ) .

ويظهر لي أن ابن الصلاح لما رأى كثرة القائلين من المحدثين بأن المنقطع لا يسمى مرسلاً ، لأن المرسل يختص بما ظن منه سقوط الصحابي فقط جعل قول من قال منهم : إن رواية التابعي الصغير إنما تسمى منقطعة لا مرسلة مفرعاً عنه ، لأنه مما يظن ( أنه سقط ) منه الصحابي والتابعي أيضاً .

فإن قيل : فعلى هذا كان ينبغي لهم تسميته معضلاً لا منقطعاً كما سيأتي في تعريف المعضل أنه الذي سقط منه اثنان فصاعداً .

قلنا : ذاك حيث يتحقق ذلك أما مع الاحتمال فلا يسمى معضلاً . والتحرير أنه لا يسمى منقطعاً أيضاً فرجع إلى قول جمهورهم أنه لا فرق بين التابعي الكبير والصغير في إطلاق اسم الإرسال على مروي كل منهما والله أعلم .

[ هل سمي الإسناد منقطعاً إذا كان فيه مبهم : ]

67- قوله (ص) : (( إذا قيل في الإسناد عن رجل أو عن شيخ ونحوه . فالذي ذكره الحاكم أنه لا يسمى مرسلاً بل منقطعاً )) .

فيه أمران :

أحدهما : أنه لم ينقل كلام الحاكم على وجهه بل أخلّ منه بقيد وذلك أن كلام الحاكم يشير إلأى تفصيل فيه وهو : إن كان لا يروى إلا من طريق واحدة مبهمة ، فهو يسمى منقطعاً . وإن كان روي من طريق مبهمة وطريق مفسرة ، فلا تسمى منقطعة لمكان الطريق المفسرة . وذلك لأنه قال في نوع المنقطع : (( وقد يروى الحديث وفي إسناده رجل ليس بمسمى فلا يدخل في المنقطع ، مثاله : رواية سفيان الثوري عن داود بن أبي هند قال : حدثنا شيخ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي عل الناس زمان يخير الرجل فيه بين العجز والفجور فمن أدرك ذلك الزمان فليختر العجز )) .

قال : ورواه وهب بن خالد وعلي بن عاصم عن داود بن أبي هند قال : حدثني رجل من جديلة يقال له : أبو عمرو عن أبي هريرة رضي الله عنه به .

قال الحاكم : (( فهذا النوع الوقوف علي متعذر إلا على الحفاظ المتبحرين )) .

قلت : فتبين بهذه الرواية المفسرة أنه لا انقطاع في رواية سفيان وأما إذا جاء في رواية واحدة مبهمة

فلم يتردد الحاكم في تسميته منقطعاً وهو قضية صنيع أبي داود في (( كتاب المراسيل )) وغيره .

الثاني : لا يخفى أن صورة المسألة أن يقع ذلك من غير التابعي أما لو قال التابعي عن رجل ، فلا يخلو إما أن يصفه بالصحبة أم لا . إن لم يصفه بالصحبة فلا يكون ذلك متصلاً لاحتمال أن يكون تابعياً آخر بل هو مرسل على بابه . وإن وصفه بالصحبة ، فقد حكى شيخنا كلام أبي بكر الصيرفي في ذلك وأقره . وفيه نظر لأن التابعي إذا كان سالماً من التدليس عنعنته على السماع وإن قلت هذا إنما يتأتى في [حق] كبار التابعين الذي جل روايتهم عن الصحابة بلا واسطة ، وأما صغار التابعين الذي جل روايتهم عن التابعين فلا بد من تحقق إدراكه لذلك الصحابي والفرض أنه لم يسمعه حتى يعلم هل أدركه أم لا ؟ فينقدح صحة ما قال الصيرفي .

قلت : سلامته من التدليس كافية في ذلك إن مدار هذا على قوة الظن به وهي حاصلة في هذا المقام والله أعلم .

32- قوله (ع) : (( بل زاد البيهقي ، فجعل ما رواه التابعي عن رجل من الصحابة لم يسم مرسلاً وليس هذا بجيد منه ، اللهم إلا أن كان يسميه مرسلاً ، ويجعله حجة كمراسل الصحابة رضي الله عنهم فهو قريب )) .

قلت : يريد شيخنا أن يجعل الخلاف من البيهقي لفظياً وهو توجيه جيد وقد صرح البيهقي بذلك في (( كتاب المعرفة )) في الكلام على القراءة خلف الإمام ، لكنه خالف ذلك في (( كتاب السنن )) فقال : في حديث حميد عن عبد الرحمن الحميري حدثني رجل من أًحاب النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن الوضوء بفضل المرأة : (( هذا حديث مرسل )) .

أورد ذلك في معرض رده معتذراً عن الأخذ به ولم يعلله إلا بذلك وهذا مصير منه إلى أن عدم تسمية الصحابي يضر في اتصال الإسناد . فإن قيل : هذا خاص فكيف يستنبط منه العموم في كل ما هذا سبيله ؟

قلت : لأنه لم يذكر للحديث علة سوى ذلك ولو كن له علة غير هذا لبينها ، لأنه في مقام البيان . وقد بالغ صاحب الجوهر النقي في الإنكار على البيهقي بسبب ذلك وهو إنكار متجه والله أعلم .

68- قوله (ص) : (( حكم المرسل حكم الحديث الضعيف )) .

اعترض عيله بأنه قرر في النوع الأول أن البخاري إذا هلق الحديث جازماً على من علقه دل على صحة الإسناد بينه وبين من علقه عنه .

وقضية ذلك أن من يجزم من أئمة التابعين عن النبي صلى الله عليه وسلم بحديث يستلزم صحة ما بينه وبينه ، فكيف أطلق بالضعف على جميع المراسيل ؟

والجواب : أن يقال : إنما اختص البخاري بذلك ، لأنه التزم الصحة في كتابه بخلاف غيره من أئمة

التابعين ، فإنهم لم يلتزموا ذلك ، فلا يقال : لم يطرد المصنف ذلك في حق البخاري ، لأنه قال فيما

أورده في كتابه بضيغة التمريض أن ليس فيه حكم بالصحة على من علقه عنه ، لأنا لا نسلم ذلك له ، بل كل ما أورده البخاري في كتابه مقبول إلا أن درجاته متفاوتة في الصحة ولتفاوتها خالف بين العبارتين في الجزم والتمريض إلا في مواضع يسيرة جداً أوردها وتعقبها بالتضعيف أو التوقف في صحتها كما سبق موضحاً والله أعلم .

69- قوله (ص) : (( إلا أن يصح مخرجه بمجيئه من وجه آخر )) إلى آخره .

قد استنكر هذا جماعة من الحنفية ومال معهم طائفة من الأصوليين كالقاضي أبي بكر وطائفة من الشافعية . وحجتهم ن الذي يأتي من وجه إما أن يكون مرسلاً أو مسنداً . إن كان مرسلاً فيكون ضعيف انضم إلى ضعيف فيزداد ضعفاً . وجواب هذا ظاهر على قواعد المحدثين على ما مهدناه في الكلام على الحديث الحسن .

وحاصله : أن المجموع حجة لا مجرد المرسل وحده ولا المنضم وحده فإن حالة الاجتماع تثير ظناً وهذا شأن لكل ضعيفين اجتمعا كما تقدم . ونظيره خبر الواحد إذا اختفت به القرائن يفيد العلم عند قوم كما تقدم .

ومع أنه لا يفيد ذلك بمجرده ولا القرائن بمجردها . قالوا : وإن كان مسنداً فالاعتماد عليه فيقع المرسل لغواً وقد قوى ابن الحاجب الإيراد الثاني . وقد أجاب عنه المصنف بقوله : أنه بالمسند يتبين صحة الإسناد الذي فيه الإرسال حتى يحكم له مع إرساله بكووه صحيحاً . وأجاب عنه الشيخ محي الدين بجواب آخر ذكره شيخنا وهو أنه يفيد [قوة] عند التعارض .

قلت : وظهر لي جواب آخر وهو : أن المراد بالمسند الذي يأتي من وجه آخر ليعضد المرسل ليس هو المسند الذي يحتج ه على انفراده . بل هو الذي يكون فيه مانع من الاحتجاج به على انفراده مع صلاحيته للمتابعة . فإذا وفقه مرسل لم يمنع من الاحتجاج به لا إرساله عضد كل منهما الآخر ، وتبين بهذا أن فائدة مجئ هذا المسند لا يستلزم أن يقع المرسل لغواً والله الموفق .

وقد كنت أتبجح بخذا الجواب وأظن أنني لم أسبق إلى تحريره حتى وجدت نحوه في المحصول للإمام فخر الدين . فإذا ذكر هذه المسألة ثم قال : (( خذا في سند لم تقم به الحجة في إسناده )) .

قلت : فازددت لله شكراً على هذا الوارد والله الموفق .

70- قوله (ص) : (( وما ذكرناه من سقوط الاحتجاج بالمرسل هو المذهب الذي استقر عليه آراء جماهير حفاظ أهل الحديث )) إلى آخره .

اعترض عليه مغلطاي بأن أبا جعفر محمد بن جرير الطبري ذكر أن التابعين أجمعوا بأسرهم على قبول المرسل ولم يأت عنهم إنكاره ولا عن أحد من الأئمة بعدهم إلى رأس المائتين .

قال ابن عبد البر : يشير أبو جعفر بذلك إلى الشافعي رضي الله تعالى عنه انتهى .

وكذا نقل ابن الحاجب في مختصره إجماع التابعين على قبول المرسل ، لكنه مردود على مدعيه ، ، فقد قال سعيد بن المسيب وهو من كبار التابعين : إن المرسل ليس بحجة .

نقله عنه الحاكم ، وكذا تقدم نقله عن محمد بن سيرين وعن الزهري وكذا كان يعيبه شعبة وأقرانه والآخذون عنه كيحيى القطان وعبد الرحمن بن مهدي وغير واحد وكل هؤلاء قبل الشافعي . ونقله الترمذي عن أكثر أهل الحديث .

وكذا ما وقع في رسالة أبي داود إلى أهل مكة في وصف السنن قال : (( وأما المراسيل ، فقد كان يحتج بها العلماء فيما مضى مثل سفيان الثوري ومالك والأوزاعي حتى جاء الشافعي فتكلم فيه وتابعه على ذلك أحمد بن حنبل وغيره )) .

قلت : فبان أن دعوى الإجماع مطلقاً أو إجماع التابعين مردودة . وغايته أن الاختلاف كان من التابعين ومن بعدهم . وما نقله أبو داود عن مالك ومن معه معارض بما نقلناه عن شعبة ومن معه ، ولم يزل الخلاف موجوداً ، لكن المشهور عن أهل الحديث خاصة عدم القول بالمرسل والله أعلم .

تنبيه

تقدم النقل عن ابن عبد البر وغيره أن من قال بالمرسل لا يقول به على الإطلاق ، بل شرطه أن يكون المرسل ممن يحترز في الرواية ، أما من كان يكثر الرواية عن الضعفاء أو عرف من شأنه أنه يرسل عن الثقات والضعفاء ، فلا يقبل مرسله مطلقاً . وممن حكاه أيضاً أبو بكر الرازي من الحنفية .

وهذا وارد على إطلاق المصنف النقل عن المالكية والحنفية أنهم يقبلون المرسل مطلقاً ، وكذا نقل الحاكم عن مالك أن المرسل عنده ليس بحجة ، وهو نقل مستغرب ، والمشهور خلافه والله أعلم .

ثم لا يخفى أن محل قبول المرسل عند من يقبله إنما هو حيث يصح باقي الإسناد أما إذا اشتمل على علة أخرى فلا يقبل ، فهذا واضح ولم يذكر المصنف مذهب أحمد بن حنبل في المرسل والمشهور عنه الاحتجاج به لأنه في رسالة أبي داود كما ترى أن أحمد وافق الشافعي على عدم الاحتجاج به . واقتضى إطلاق المصنف النقل عن المالكية والحنفية أنهم ( يقبلونه ) مطلقاً وليس كذلك ، فإن عيسى بن أبان وابن الساعاتي وغيرهما من الحنفية وابن الحاجب ومن تبعه من المالكية لا يقبلون منه إلا ما أرسله إمام من أئمة النقل ، بل رده القاضي الباقلاني مطلقاً ونازع في قبوله إذا اعتضد أيضاً .

وقال : الصواب رده مطلقاً وهو من أئمة المالكية والله أعلم .

33- قوله (ع) : (( بل الصواب أن يقال : لأن أكثر رواياتهم يعني الصحابة عن الصحابة رضي الله عنهم إذ قد سمع جماعة من الصحابة من بعد التابعين )) .

قلت : وهو تعقب صحيح ، لكن ألزم بعض الحنفية من يرد المرسل بأنه يلزم على أصلهم عدم قبول مراسيل الصحابة رضي الله تعالى عنهم .

 

وتقرير ذلك أنه إذا لم يعلم أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم احتمل أن يكون سمعه منه أو من

صحابي آخر أو من تابعي ثقة أو من تابعي ضعيف فكيف يجعل حجة والاحتمال قائم ؟

والانفصال عن ذلك أن يقال : قول الصحابي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهر في أنه سمعه منه أو من صحابي آخر ، فالاحتمال أن يكون سمعه من تابعي ضعيف نادر جداً لا يؤثر في الظاهر ، بل حيث رووا عن من هذا سبيله وأوضحوه .

وقد تتبعت روايات الصحابة رضي الله عنهم عن التابعين وليس فيها من رواية صحابي عن تابعي ضعيف في الأحكام شئ يثبت فهذا يدل على ندور أخذهم عن من يضعف من التابعين والله أعلم .

34- قوله (ع) : (( فإن المحدثين وإن ذكروا مراسيل الصحابة رضي الله عنهم فإنهم لم يختلفوا في الاحتجاج بها )) .

قلت : في إطلاق هذا النفي عن المحدثين نظر . فإن أبا الحسن ابن القطان صاحب (( بيان الوهم والإيهام )) منهم وقد رد أحاديث من مراسيل عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم ليست لها علة إلا ذلك .

منها : حديث جابر في صلاة جبريل عليه الصلاة والسلام بالنبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك والله أعلم .

35- قوله (ع) : (( ودعوى الاتفاق مردود بقول الأستاذ أبي إسحاق رحمه الله )) .

قلت : قد صرح غيره بأن الاتفاق كان حاصلاً قبل الأستاذ فجعل الأستاذ محجوباً بذلك . وفي ذلك نظر ، فقد قدمنا قبل في الكلام على المرسل عن جماعة من أئمة الأصول بما يقتضي موافقة الأستاذ وفيهم من هو قبله ، فلم ينفرد بذلك في الجملة والله أعلم .

النوع العاشر : المنقطع

71- قوله (ص) : بعد أ ذكر في أمثلة المنقطع رواية عبد الرزاق عن الثوري عن أبي إسحاق الحديث .

فهذا الإسناد إذا تأمله ظنه متصلاً إلى آخره وفيه أمران :

1-أحدهما : أن هذا المثال إنما يصلح للحديث لمدلس لأنه كل راو من رواته قد لقي فيه وسمع منه وإنما طرأ الانقطاع فيه من قبل التدليس .والأولى في مثال المنقطع أن يذكر ما انقطاعه فيه من عدم اللقاء كمالك عن ابن عمر رضي الله عنهما ، والثوري عن إبراهيم النخعي وأمثال ذلك .

2- الثاني : قوله : : أن الحديثي إذا تأمله ظنه متصلاً يريد بقوله الحديثي المبتدي في طلب الحديث . وقد ظن بعضهم أنه أراد به المحدث ، فقال : كان ينبغي أن يقول : غير الحديثي ، لأن المحدث إذا نظر في إسناد فيه مدلس قد عنعنة لم يحمله على الاتصال من أجل التدليس فالأليق حمل كلامه على

أنه أراد الحديثي المبتدي والله أعلم .

72- قوله (ص) : (( ومنها : ما حكاه الخطيب عن بعض أهل العلم بالحديث أن المنقطع ما روي عن التابعي أو من دونه مرفوعاً عليه )) .

قلت : والمبهم المذكور هو : الحافظ أبو بكر : أحمد بن إبراهيم البرديجي ، ذكر ذلك في جزء له لطيف تكلم فيه على المرسل والمنقطع .

وفات المصنف من حكاية في المنقطع ما قاله أبو الحسن ألكيا الهراسي في تعليقه ، فإنه ذكر فيه : أن مصطلح المحدثين أن المنقطع ما يقول فيه الشخص : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير إسناد أصلاً .

والمرسل : ما يقول فيه حدثني فلان عن رجل .

قال ابن الصلاح في فوائد رحلته : هذا لا يعرف عن أحد من المحدثين ولا عن غيرهم وإنما هو من كيسه والله أعلم . ثم إن المصنف لم يتعرض لحكم المنقطع كما تعرض لحكم المرسل وحكاية الخلاف في قبوله ورده .

وقد قال ابن السمعاني : (( من منع من قبول المرسل ، فهو أشد منعاً لقبول المنقطعات ، ومن قبل المراسيل اختلفوا )) .

قلت : وهذا على مذهب من يفرق بين المرسل والمنقطع ، أما من يسمي الجميع مرسلاً على ما سبق تحريره فلا والله أعلم .

وكذلك لم يذكر المصنف مادرك الانقطاع ، وقد ذكر منه شيئاً في (( النوع الثامن والثلاثين )) وهو : المراسيل الخفي إرسالها وسأذكر ذلك هناك إن شاء الله والله أعلم .

النوع الحادي عشر : المعضل

73- قوله(ص):المعضل اصطلاحاً : (( وهو عبارة عما سقط منه اثنان فصاعداً إلى آخره )) .

قلت : وجدت التعبير بالمعضل في كلام الجماعة من أئمة الحديث فيما لم يسقط منه شئ البتة . فمن ذلك : ما قال محمد بن يحيى الذهلي في الزهريات :

حدثنا أبو صالح الهراني ثنا ابن ليهعة عن يزيد بن أبي حبيب عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قال : (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف فيمر بالمريض فيسلم عليه ولا يقف )) قال الذهلي : هذا حديث معضل لا وجه له إنما هو فعل عائشة رضي الله تعالى عنه ليس للنبي فيه ذكر والوهم فيما نرى من ابن ليهعة )) .

ومن ذلك : قال النسائي في اليوم والليلة :

ثنا يزيد بن سنان ثنا مكي بن إبراهيم ، عن مالك ، عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال : (( متعتانكانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم )) الحديث .

قال النسائي : هذا حديث معضل لا أعلم من رواه غير مكي ، لا بأس به ، لا أدري من أنبأني به . ومن ذلك قال أبو إسحاق : إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني في ترجمة ضبارة بن عبد الله أحد الضعفاء : (( روى حديثاً معضلاً (( وهو متصل الإسناد .

وقال ابن عدي في ترجمة زهير بن مرزوق في (( الكامل )) :

قال ابن معين : (( لا أعرفه )) .

قال : وإنما قال ابن معين ذلك لأنه ليس له إلا حديث واحد معضل وساقه ، وإسناده متصل . وقال الحاكم أبو أحمد في ترجمة الوليد بن محمد الموقري : (( كتبنا له عن المسيب بن واضح أحاديث مستقيمة ، ولكنه حاجب ابن الوليد وعلي بن حجر حدثنا عنه بأحاديث معضلة .

وقال ابن عبد البر في حديث رواه عبد الجبار أحمد السمرقندي عن محمد بن عبد الله المنقري عن ابن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً : (( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )) . لا مدخل لسعيد ولا لأبي هريرة رضي الله تعالى عنه في هذا الحديث ، وإنما رواه الزهري عن علي بن الحسين رضي الله عنهما وهذا مما أخطأ فيه عبد الجبار وأعضله .

قال أبو الفتح الأزدي في ترجمة محمد بن عبد الله بن زياد الأنصاري : (( روى عن مالك بن دينار معاضيل )) . ونسخة هذا الرجل هي عن مالك بن دينار عن أنس رضي الله تعالى عنه وغيره ولا انقطاع فيها .

فإذا تقرر هذا فإما أن يكونوا يطلقون المعضل لمعنيين ، أو يكون المعضل الذي عرف به المصنف وهو المتعلق بالإسناد بفتح الضاد ، وهذا الذي نقلناه من كلام هؤلاء الأئمة بكسر الضاد ويعنون به المستغلق الشديد . وفي الجملة فالتنبيه على ذلك كان متعيناً .

فإن قيل : فمن سلف المصنف في نقله أن هذا النوع يختص بما سقط من إسناده اثنان فصاعداً ؟

قلنا : سلفه في ذلك علي بن المديني ومن تبعه . وقد حكاه الحاكم في علوم الحديث عنهم . فإنهم قالوا : المعضل : أن يسقط بين الرجل وبين النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من رجل والفرق بينه وبين المرسل مختص بالتابعين دون غيرهم والله الموفق .

74- قوله (ص) : (( ولا التفات في ذلك إلى معضل بكسر الضاد )) .

اعترض عليه مغلطاي بماء على ما فهمه من كلامه أن مراده نفي جواز استعمال معضل بكسر الضاد فقال : (( كأنه يريد أن كسر الضاد ليس غريباً . وليس كذلك فإن صاحب الموعب حكاها . وفي الأفعال : عضل الشئ عضلاً : أعوج يعني فهو معضل )) .

قلت : ولم يدر ابن الصلاح نفي ذلك مطلقاً ، وإنما أراد أنه لا يؤخذ منه معضل بفتح الضاد ، لأن معضل بكسر الضاد من باعي قاصر والكلام إنما هو في رباعي متعد .

وعضيل : يدل عليه ، لأنه فعيلاً بمعنى مفعل إنما يستعمل في المتعدي . وقد فسر عضيل بمستغلق بفتح

اللام فتبين أنه رباعي نتعد وذلك يقتضي صحة قولنا معضل بفتح الضاد ، وهو المقصود . فكذا قرره شيخنا شيخ الإسلام .

ثم قال : (( وفي الجملة فالأحسن أن يكون من أعضلته إذا صيرت أمره معضلاً )) .

قلت : فكأن المحدث الذي حدث به على ذلك الوجه أعضله فصار معضلاً ، وبهذا التقرير يندفع الإشكال والله أعلم .

75- قوله (ص) : (( وإذا روى تابع التابع عن التابع حديثاً موقوفاً وهو متصل مسند إلى آخره .

مراده بذلك تخصيص هذا القسم الثاني من قسمي المعضل بما اختلف الرواة فيه على التابعي ، بأن يكون بعضهم وصله مرفوعاً ، وبعضهم وقفه على التابعي . بخلاف القسم الأول ، فإنه أعم من أن يكون له إسناد آخر متصل أم لا .

تنبيه

قال الجوزجاني في مقدمة كتابه في الموضوعات :

(( المعضل أسوأ حالاً من المنقطع ، والمنقطع أسوأ حالاً من المرسل والمرسل لا تقوم به حجة )) .

قلت : وإنما يكون المعضل أسوأ حالاً من المنقطع إذا كان الانقطاع في موضع واحد من الإسناد ، وأما إذا كان في موضعين أو أكثر ، فإنه يساوي المعضل في سوء الحال والله تعالم أعلم .

36- قوله (ع) : (( وقد استشكل كون هذا الحديث معضلاً لجواز أن يكون الساقط بين مالك وبين أبي هريرة رضي الله تعالى عنه واحداً إلى آخره .

أقول : بل السياق يشعر عدم السقوط ، لأن ( معنى ) قوله بلغني يقتضي ثبوت مبلغ فعلي متصل في إسناده مبهم لا أنه منقطع .

وقول الشيخ في الجواب : (( إنا عرفنا منه سقوط اثنين )) فيه نظر على اختياره ، لأنه يرى أن الإسناد الذي فيه مبهم لا يسمى منقطعاً كما صرح به ، فعلى هذا لم يسقط من الإسناد بعد التبين سوى واحد .

وأما أبو نصر الذي نقل أنه يسمى معضلاً ، فجرى على طريقة من يسمي الإسناد إذا كان فيه بهم منقطعاً والله أعلم .

37- قوله أ (ع) : (( في الإسناد المعنعن والصحيح أنه من قبيل الإسناد المتصل وكاد أبو عمر ابن عبد البر أن يدعي إجماع أئمة النقل على ذلك )) .

إنما عبر هنا بقوله : كاد ، لأن عبد البر إما جزم بإجماعهم على قبوله ، ولا يلزم منه إجماعهم على أنه من قبيل المتصل .

76- قوله ب (ص) : (( فيه : وادعى أبو عمرو الداني إجماع أهل النقل على قبوله )) .

قلت : إنما أخذه الداني من كلام الحاكم ، ولا شك أن نقله عنه أولى لأنه من أئمة الحديث ، وقد صنف في علومه وابن الصلاح كثير النقل من كتابه ، فالعجب كيف نزل عنه إلى النقل عن الداني .

قال الحاكم : (( الأحاديث المعنعنة التي ليس فيها تدليس متصلة بإجماع أئمة النقل )) . وأعجب من ذلك أن الخطيب قاله في الكفاية التي (هي) معول المصنف في هذا المختصر ، فقال : أهل العلم مجمعون ععلى أن قول المحدث : حدثنا عن فلان صحيح معمول به إذا كان شيخه الذي ذكره يعرف أنه قد أدرك الذي حدث عنه ولقيه وسمع منه ، ولم يكن هذا المحدث مدلساً .

( ولا يعلم أنه يستجيز ) إذا حدثه عن بعض من أدركه حديثاً نازلاً فسمى بينهما في الإسناد من حدثه به أن يسقط شيخ شيخه ويروي الحديث عالياً بعد أن يسقط الواسطة .

قلت : ومراد الخطيب بهذا الاحتراز أن لا يكون المعنعن مدلساً ولا مسوياً ، لكن في نقل الإجماع بعد هذا كله نظر ، فقد ذكر الحارث المحاسبي وهو من أئمة الحديث والكلام في كتاب سماه (( فهم السنن )) ما ملخصه : أن أهل العلم اختلفوا فيما يثبت به الحديث على ثلاثة أقوال :

1- الأول : أنه لا بد أن يقول كل عدل في الإسناد : حدثني أو سمعت إلى أن ينتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا لم يقولوا كلهم ذلك أو لم يقله بعضهم ، فلا يثبت ، لأنهم عرف من عادتهم الرواية بالعنعنة فيما لم يسمعوه .

2- الثاني : التفرقة بين المدلس وغيره ، فمن عرف لقيه وعدم تدليسه قبلا وإلا فلا .

3- الثالث : من عرف لقيه وكان يدلس لكن كان لا يدلس إلا عن ثقة وإلا فلا .

ففي حكاية القول الأول خدش في دعوى الإجماع السابق إلا أن يقال أن الإجماع راجع إلى ما استقر عليه الأمر بعد انقراض الخلاف السابق فيخرج على المسألة الأصولية في قبول الوفاق بعد الخلاف . ومع ذلك فقد قال القاضي أبو بكر ابن الباقلاني : (( إذا قال الصحابي رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا أو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا ، لم يكن ذلك صريحاً في أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم بل هو محتمل لأن يكون قد سمعه منه أو من غيره عنه .

فقد حدث جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم بأحاديث ، ثم ظهر أنه سمعوها من بعض الصحابة رضي الله عنهم .

قلت : وهذا بعينه هو البحث في مرسل الصحابي رضي الله تعالى عنه وقد قدمت ما فيه ، وأن الجمهور على جعله حجة .

وإنما الكلام هنا في أن العنعنة ولو كانت من غير مدلس هل تقتضي السماع أم لا فكلام القاضي يؤيد ما نقله الحارث المحاسبي عن أهل القول الأول والله أعلم .

تنبيه

حاصل كلام المصنف أن للفظ (( عن )) ثلاثة أحوال :

1- أحدها : أنها بمنزلة حدثنا وأخبرنا بالشرط السابق .

2- الثاني :أنه ليست بتلك المنزلة إذا صدرت عن مدلس وهاتان (الحالتان) مختصتان بالمتقدمين .

وأما المتأخرون وهو من بعد الخمسمائة وهلم جرا فاصطلحوا في الكلام عليها للإجازة ، فهي بنزلة أخبرنا ، لكنه إخبار جملي كما سيأتي تقريره في الكلام على الإجازة ، وهذه هي الحالة الثالثة . ولأجل هذا قال المصنف : لا يخرجها ذلك (من) قبيل الاتصال ، إلا أن الفرق بينهما وبين الحالة الأولى مبني على الفرق فيما بين السماع والإجازة ، لكون السماع أرجح والله أعلم .

وإذا تقرر هذا فقد فات المصنف حالة أخرى لهذه اللفظة وهي خفية جداً قل من نبه عليها ، بل لم ينبه عليها أحد من المصنفين في علوم الحديث مع شدة الحاجة إليها وهي أنها ترد ولا يتعلق بها حكم باتصال ولا انقطاع بل يكون المراد بها سياق قصة سواء أدركها الناقل أو لم يدركها ويكون هناك شئ محذوف مقدر ومثال ذلك :

ما أخرجه ابن أبي خيثمة في (( تأريخه )) عن أبيه قال : ثنا أبو بكر بن عياش : ثنا أبو إسحاق عن أبي الأحوص أنه خرج عليه خوارج فقتلوه . فهذا لم يرد أبو إسحاق بقوله عن أبي الأحوص أنه أخبره به وإنما فيه شئ محذوف تقديره عن قصة أبي الأحوص أو عن شأن أبي الأحوص أو ما أشبه ذلك ، لأنه لا يمكن أن يكون أبو الأحوص حدثه بعد قتله .

ونظير ذلك : ما رواه ابن مندة في المعرفة في ترجمة معاوية بن معاوية الليثي قال : أنا محمد بن يعقوب : ثنا ابن أبي داود ثنا يونس بن محمد ثنا صدقة بن أبي سهل ، عن يونس بن عبيد عن الحسن عن معاوية بن معاوية رضي الله تعالى عنه قال :

(( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غازياً بتبوك ، فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام ، فقال : يا محمد : هل لك في جنازة معاوية بن معاوية ؟ قال صلى الله عليه وسلم : نعم . فقال جبريل عليه الصلاة والسلام هكذا بيده ، ففرج له عن الجبال والأكام )) فذكر الحديث .

قال ابن مندة : هكذا قال يونس بن محمد عن معاوية والصواب مرسل .

قلت : ووجه الإشكال فيه أن معاوية رضي الله تعالى عنه مات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم (كما ترى) ، فكيف يتهيأ للحسن أن يسمع منه قصة موته ، ويحدث بها عنه . وما المراد إلا ما ذكرت أنه لم يقصد بقوله : ((عن معاوية)) الرواية وإنما يحمل على محذوف تقديره عن قصة معاوية بن معاوية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخره . فيظهر حينئذ الإرسال .

ونظير ذلك : ما ذكره موسى بن هارون الحمال ، ونقله عنه أبو عمر ابن عبد البر في كتاب التمهيد

فقال : روى مالك عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن إبراهيم التيمي عن عيسى بن طلحة

عن عمير بن سلمة عن البهزي قال :

(( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يريد مكة وهو محرم حتى إذا كان بالروحاء إذا حمار وحشي عقير ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعوه ، فإنه يوشك أن يأتي صاحبه فجاء البهزي وهو صاحبه ، فقال : شأنكم به )) .. الحديث هكذا رواه مالك وتابعه غيره .

وظاهر هذا يعطي أن عمير بن سلمة رواه عن البهزي وليس كذلك بل عمير بن سلمة حضر القصة وشاهدها كلها ، فقد رواه الليث بن سعد عن يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم بن عيسى بن طلحة عن عمير بن سلمة قال : بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر هذا الحديث . وكذا رواه عبد ربه بن سعيد عن محمد بن إبراهيم . وكذا رواه حماد بن زيد وغير واحد عن يحيى بن سعيد شيخ مالك .

قال موسى بن هارون : (( والظاهر أن قوله : عن البهزي من زيادة يحيى بن سعيد كان أحياناً يقولها ، وأحياناً لا يقولها ، وكان هذا جائزاً عند المشيخة الأولى أن يقولوا : عن فلان ، ولا يريدون بذلك الرواية وإنما معناه عن قصة فلان )) . انتهى كلام موسى بن هاورن ملخصاً . وهو صريح فيما قصدناه .

وقال ابن عبد البر في حديث بسر بن سعيد عن أبي سعيد الخدري عن أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه في قصة الاستئذان ثلاثاً : (( ليس المقصود من هذا رواية أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه لهذا الحديث عن أبي موسى ، لأن أبا سعيد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم وشهد بذلك لأبي موسى عن عمر رضي الله تعالى عنه وإنما وقع هذا على سبيل التحرز : والمراد عن أبي سعيد ، عن قصة أبي موسى رضي الله تعالى عنهما .

قلت : وأمثلة هذا كثيرة ومن تتبعها وجد سبيلاً إلى التعقب على أصحاب المسانيد ، ومصنفي الأطراف ، في عدة مواضع يتعين الحمل فيها على ما وصفنا من المراد بهذه العنعنة والله أعلم .

77- قوله (ص) : (( فروينا عن مالك أنه كان يرى (( عن فلان )) و (( أن فلاناً )) سواء وعن أحمد بن حنبل أنهما ليسا سواء )) .

قلت : ليس كلام كل منهما على إطلاقه ، وذلك يتبين من نص سؤال كل منهما عن ذلك . أما مالك ، فإنه سئل عن قول الراوي : (( عن فلان أنه قال : كذا وأن فلاناً قال : كذا . فقال : هما سواء . وهذا واضح . وأما أحمد فإنه قيل له : أن رجلاً قال : عن عروة عن عائشة ، وعن عروة أن عائشة رضي الله تعالى عنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم هل هما سواء ؟ فقال : كيف يكونان سواء ؟ ليسا سواء . فقد ظهر الفرق بين مراد مالك وأحمد .

وحاصله أن الراوي إذا قال : (( عن فلان )) فلا فرق أن يضيف إليه القول أو الفعل في اتصال ذلك

عند الجمهور بشرطه السابق . وإذا قال : (( أن فلاناً )) ففيه فرق .

وذلك أن ينظر ، فإن كان خبرها قولاً لم يتعد لمن لا يدركه التحقت بحكم (( عن )) بلا خلاف . كأن يقول التابعي : أن أبا هريرة رضي الله عنه قال : سمعت كذا ، فهو نظير ما قال : عن أبي هريرة أنه قال : سمعت كذا . وإن كان خبرها فعلاً نظر إن كان ( الراوي ) أدرك ذلك التحقت بحكم (عن) وإن كان لم يدركه لم تلتحق بحكمها . فكون يعقوب بين شيبة قال في رواية عطاء عن أبي الحنفية : أن عماراً مر بالنبي صلى الله عليه وسلم : هذا مرسل .

إنما هو من جهة كونه أضاف إلى الصيغة الفعل الذي لم يدركه ابن الحنفية ، وهو مرور عمار .إذ لا فرق أن يقول ابن الحنفية : أن عماراً مر بالنبي صلى الله عليه وسلم وأن النبي صلى الله عليه وسلم مر بعمار ، فكلاهما سواء في ظهور الإرسال . ولو كان أضاف إليها القول كأن يقول : عن ابن الحنفية أن عماراً قال : مررت بالنبي صلى الله عليه وسلم لكان ظاهر الاتصال .

وقد نبه شيخنا على هذا الموضع فأردت زيادة أيضاحه ، ثم إن نقل عن ابن المواق تحرير ذلك ، واتفاق المحدثين على الحكم بانقطاع ما هذا سبيله ، وهو كما قال ، لكن في نقل الاتفاق نظر .

وقد قال ابن عبد البر في الكلام على حديث ضمرة عن عبد الله بن عبد الله قال : (( إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل أبا واقد الليثي ماذا كان يقرأ به النبي صلى الله عليه وسلم في الأضحى والفطر .. الحديث . قال : قال قوم : هذا منقطع ، لأن عبيد الله لم يلق عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وقال قوم : بل هو متصل ، لأن عبيد الله لقي أبا واقد .

قلت : وهذا وإن كنا لا نسلمه لأبي عمر ، فإنه يخدش في نقل الاتفاق وقد نص ابن خزيمة على انقطاع حديث عبيد الله هذا .

ونظيره : مار واه ابن خزيمة أيضاً قال : حدثنا محمد بن حسان ثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان عن عاصم عن أبي عثمان ، عن بلال رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم (( لا تسبقني بآمين )) .

قال ابن خزيمة : هكذا أملاه علينا . والرواة يقولون في هذا الإسناد : عن أبي عثمان أن بلالاً رضي الله تعالى عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم . فإن كان محمد بن حسان حفظ في هذا الاتصال فهو غريب . وأمثلة ذلك كثيرة .

78- قوله (ص) : (( عن أب بكر البرديجي )) .

قال المصنف في حاشية كتابه :

(( برديج على وزن فعليل بفتح أوله بليدة بينها وبين بردعة نحو أربعة عشر فرسخاً ، ولهذا يقال

الحافظ البرديجي والبردعي قال : ومن نحا بها نحو أوزان كلام العرب كسر أولها نظر إلى أنه ليس في

كلامهم فعليل بفتح الفاء وكأنه يشير بذلك إلى ما وقع في العباب للصاغاني . فإنه قال فيه : ((

برديج بكسر أوله بليدة بأقصى أذربيجان والعامة يفتحون باءها )) .

فأراد المصنف أن من نطق بها على مقتضى تسميتها العجمية فتح الباء على الحكاية ، ومن سلك بها مسلك أهل العربية كسر الباء والله أعلم .

79- قوله (ص) : حكاية عن عبد البر الإجماع على أن الإسناد المتصل بالصحابي )) .

سواء قال فيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال أو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال أو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول .

قلت : حذف ابن الصلاح فيه كلام ابن عبد البر .

80- قوله (ص) : (( وقد قيل : إن القول الذي رده مسلم هو الذي عليه أئمة هذا العلم : علي بن المديني والبخاري وغيرهما )) .

قلت : ادعى بعضهم أن البخاري إنما التزم ذلك في جامعه لا في أصل الصحة . وأخطأ في هذه الدعوى ، بل هذا شرط في أصل الصحة عند البخاري ، فقد أكثر من تعليل الأحاديث في تاريخه بمجرد ذلك . وهذا المذهب هو مقتضى كلام الشافعي رضي الله تعالى عنه فإنه قال في (( الرسالة )) في باب خبر الواحد : (( فإن قيل : فما بالك قبلت ممن لا تعرفه بالتدليس أن يقول : (( عن )) وقد يمكن فيه أن يكون لم يسمعه ؟

فقلت له : المسلمون العدول أًحاء الأمر وحالهم في أنفسهم غير حالهم في غيرهم ألا ترى أني إذا عرفتهم بالعدالة في أنفسهم قبلت شهادتهم ، وإذا شهدوا على شهادة غيرهم لم أقبل حتى أعرف حاله . وأما قولهم عن أنفسهم ، فهو على الصحة حتى يستدل من فعلهم بما يخالف ذلك ، فنحترس منهم في [ الموضع ] الذي خالف فعلهم فيه ما يجب عليهم .

ولم أدرك أحداً من أصحابنا يفرق بين أن يقول حدثني فلان أو سمعت فلاناً أو عن فلان إلا فيمن دلس فمن كان بهذه المثابة قبلنا منه ومن عرفناه دلس مرة ، فقد أبان لنا عورته ، فلا نقبل منه حديثاً حتى يقول : حدثني أو سمعت إلى آخر كلامه .

فذكر أنه إنما قبل العنعنة لما ثبت عنده أن المعنعن غير مدلس وإنما يقول عن فيما سمع فأشبه ما ذهب إليه البخاري من أنه إذا ثبت اللقي ولو مرة حملت عنعنة غير المدلس على السماع مع احتمال أن لا يكون سمع بعض ذلك أيضاً والحامل للبخاري على اشتراط ذلك تجويز أخل ذلك العصر للإرسال فلو لم يكن مدلساً ، وحدث عن بعض من عاصره لم يدل ذلك على أنه سمع من ، لأنه وإن كان غير مدلس ، فقد يحتمل أن يكون أرسل عنه لشيوخ الإرسال بينهم ، فاشترط أن يثبت أنه لقيه وسمع منه ليحمل ما يرويه عنه بالعنعنة على السماع ، لأنه لو لم يحمل على السماع لكان مدلساً والغرض السلامة من التدليس . فتبين رجحان مذهبه .

وأما احتجاج مسلم على فساد ذلك بأن لنا أحاديث اتفق الأئمة على صحتها ، ومع ذلك ما رويت

إلا معنعنة ولم يأت في خبر قط أن بعض رواتها لقي شيخه ، فلا يلزم من نفي ذلك عنده نفيه في نفس الأمر . وقد ذكر علي بن المديني في (( كتاب العلل )) أن أبا عثمان النهدي لقي عمر وابن مسعود وغيرهما ، وروى عن أبي بن كعب وقال في بعض حديثه : حدثني أبي بن كعب ، انتهى .

وقد قطع مسلم بأنه لم يوجد في رواية بعينها أنه لقي أبي بن كعب أو سمع منه . وأعجب من ذلك أنا وجدنا بطلان ما نفاه في نفس صحيحه . من ذلك : قوله : (( وأسند النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ثلاثة أحاديث )) . وقال : في آخر كلامه : فكل هؤلاء التابعين الذين نصبنا روايتهم عن الصحابة رضي الله عنهم الذين سميناهم لم يحفظ عنهم سماع ما علمناه منهم في رواية بعينها ولا أنهم لقوهم في نفس خبر بعينه ، انتهى .

وقد روى في صحيحه في كتاب المناقب من طريق أبي حازم ، عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : (( سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( أنا فرطكم على الحوض .. )) الحديث إلى أن قال : ثم يحال بيني وبينهم . قال أبو حازم : فسمعني النعمان بن أبي عياش وأنا أحدث بهذا الحديث فقال : أهكذا سمعت سهلاً يقول ؟ فقلت : نعم . قال : فأنا أشهد على أبي سعيد الخدري رضي الله عنه لسمعته يقول : إنهم مني فيقال : إنك لا تدري نا عملوا بعدك فأقول سحقاً لمن بدل بعدي .

وأخرج أيضاً عن أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله تعالى عنه في الكتاب المذكور حديث (( إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها )) .

فقال النعمان : حدثني أبو سعيد رضي الله تعالى عنه بلفظ : يسير الراكب الجواد المضمر السريع . فهذه الثلاثة الأحاديث التي أشار إليها قد ذكرها هو في كتابه مصرحاً فيها بالسماع ، فكيف لا يجوز ذلك في غيرها . وإنما كان يتم له النقضض والإلزام لو رأى في صحيح البخاري حديثاً معنعناً لم يثبت لقي راويه لشيخه فيه ـ فكان ذلك وارداً عليه ، وإلا فتعليل البخاري لشرطه المذكور متجه والله أعلم .

81- قوله (ص) : (( وهذا الحكم لا أراه يستمر بعض المتقدمين فيما وجد من المصنفين )) إلى آخره .

يعني المصنفين غير المحدثين ، فتبين أن ما وجد في عبارات المتقدمين من هذا الصيغ ، فهو محمول على السماع بشرطه إلا من عرف من عادته استعمال اصطلاح حادث ، فلا والله أعلم .

82- قوله (ص) : في الكلام على التعليق : (( والبخاري قد يفعل ذلك ، لكون ذلك الحديث معروفاً من جهة الثقات عن ذلك الشخص الذي علقه عنه )) .

اعترض عليه مغلطاي بأن هذا الكلام يحتاج إلى تثبت فيه فإني لم أره لغيره .

قلت : قد سبقه إلى ذلك الإسماعيلي ، ومنه نقل ابن الصلاح كلامه فإنه قال في المدخل إلى

المستخرج الذي صنفه على صحيح البخاري ما نصه : (( كثيراً ما يقول البخاري : قال فلان وقال

فلان عن فلان )) فيحتمل أن يكون إعراضه عن التصريح بالتحديث لأوجه .

[ أوجه تعليقات البخاري : ]

1- أحدها : أن لا يكون قد سمعه عالياً وهو معروف من جهة الثقات عن ذلك المروي عنه ، فيقول : قال فلان مقتصراً على صحته وشهرته من غيره جهته .

2- الثاني : أن يكون قد ذكره في موضع آخر بالتحديث ، فاكتفى عن إعادته ثانياً .

3- والثالث : أن يكون سمعه ممن ليس هو على شرط كتابه فنبه على الخبر المقصود بذكر من رواه لا على وجه التحديث به عنه )) .

قلت : ومن تأمل تعاليق البخاري حيث لم تتصل لم يجدها تكاد أن تخرج عن هذه الأوجه التي ذكرها الإسماعيلي ولكن بقي عليه أن يذكر السبب الحامل له على إيراد ما ليس على شرطه في أثناء ما هو على شرطه وقد بينت مقاصده في ذلك في مقدمة تعليق التعليق وأشرت في أوائل الفوائد إلى طرف من ذلك وحاصله أنه أيضاً على أوجه :

1- أحدها : أن يكون كرره وهذا قد تداخل مع الأوجه التي ذكرها الإسماعيلي .

2- وثانيها : أن يكون أوردها في معرض المتابعة والاستشهاد لا على سبيل الاحتجاج ولا شك أن المتابعات يتسامح فيها بالنسبة إلى الأصول ، وإنما يعلقها وإن كانت عنده مسموعة ، لئلا يسوقها مساق الأصول .

3- وثالثها : أن يكون إيراده لذلك منبهاً على موضع يوهم تعليل الرواية التي على شرطه ، كأن يروي حديثاً من طريق سفيان الثوري عن حميد عن أنس رضي الله عنه ويقول بعده : قال يحيى بن أيوب عن حميد سمعت أنساً رضي الله عنه فمراده بهذا لتعليق أن هذا مما سمعه حميد لئلا يتوهم متوهم أن الحديث معلول بتدليس حميد . فإن قيل : فلم لم يسبقه من طريق يحيى بن أيوب السالم من هذه العلة ويقتصر عليه ؟

قلنا : لأن يحيى بن أيوب ليس على شرطه ولو كان فالثوري أجل وأحفظ فنزل كلا منهما منزلته التي يستحقها . ذاك في الاحتجاج به ، وهذا في المتابعة القوية والله أعلم .

83- قوله (ص) : (( وبلغني عن بعض المتأخرين من أهل المغرب أنه جعله قسماً من التعليق ثانياً وأضاف إليه مثل قول البخاري : وقال لي فلان فوسم ذلك بالتعليق المتصل من حيث الظاهر المنفصل من حيث المعنى )) إلى آخر كلامه .

قلت : لم يصب هذا المغربي في التسوية بين قوله : قال فلان وبين قوله قال لي فلان ، فإن الفرق بينهما ظاهر لا يحتاج إلى دليل فإن (( قال لي )) مثل التصريح في السماع و (( قال )) المجردة ليست صريحة أصلاً .

وأما ما حكاه عن أبي جعفر ابن حمدان وأقره أن البخاري إنما يقول قال لي في العرض والمناولة ففيه

نظر فقد رأيت في الصحيح عدة أحاديث قال فيها قال لنا فلان وأوردها في تصانيفه خارج الجامع بلفظ حدثنا . ووجدت في الصحيح عكس ذلك . وفيه دليل على أنهما مترادفان .

والذي يتبين بالاستقراء من صنيعه أنه لا يعبر في الصحيح بذلك إلا في الأحاديث الموقوفة أو المستشهد بها فيخرج ذلك حيث يحتاج إليه عن أصل مساق الكتاب . ومن تأمل في كتابه وجده كذلك والله الموفق .

37- قوله (ع) : (( والبخاري ليس مدلساً )) .

أقول : لا يلزم من كونه يفرق في مسموعاته بين صيغ الأداء من أجل مقاصد تصنيفه أن يكون مدلساً . ومن هذا الذي صرح أن استعمال (( قال )) إذا عبر بها المحدث عما رواه أحد مشايخه [ مستعملاً لها ] فيما لم يسمعه منه يكون تدليساً . لم نرهم صرحوا بذلك إلا في العنعنة .

وكأن ابن الصلاح أخذ ذلك من عموم قولهم : إن حكم عن وأن وقال وذكر واحد . وهذا على تقدير تسليمه لا يستلزم التسوية بينها من كل جهة ، كيف وقد نقل ابن الصلاح عن الخطيب أن كثيراً من أهل الحديث لا يسوون بين قال وعن في الحكم .

فمن أين يلزم أن يكون حكمهما عند البخاري واحداً . وقد بينا الأسباب الحاملة للبخاري على التعاليق . فإذا تقرر ذلك لم يستلزم التدليس لما وصفنا .

وأما قول ابن مندة : (( أخرج البخاري )) قال : (( وهو تدليس )) فإنما يعني أن حكم ذلك عنده هو حكم التدليس ولا يلزم أن يكون كذلك حكمه عند البخاري .

وقد جزم العلامة ابن دقيق العي بتصويب الحميدي في تسميته ما يذكره البخاري عن شيوخه تعليقاً إلا أنه ( وافق ابن الصلاح في الحكم بالصحة لما جزم بع وهو ) موافق لما قررناه على أن الحميدي لم يخرج ذلك فقد سبقه إلى نحوه أبو نعيم شيخ شيخه ، فقال في المستخرج عقب كل حديث أورده البخاري عن شيوخه بصيغة قال فلان كذا : (( ذكره البخاري بلا رواية )) ، والله الموفق .

تنبيه

قال ابن حزم في (( كتاب الإحكام )) :

(( اعلم أن العدل إذا روى عمن أدركه من العدول ، فهو على اللقاء والسماع سواء قال : أخبرنا أو حدثنا أو عن فلان أو قال ، فكل ذلك محمول على السماع منه )) . انتهى .

فيتعجب منه مع هذا في رده حديث المعازف ودعواه عدم الاتصال فيه والله الموفق .

84- قوله (ص) : (( وكأن هذا التعليق مأخوذ من تعليق الجدار أو تعليق الطلاق ونحوه لما يشترك الجميع فيه من قطع الاتصال )) .

تعقبه شيخنا شيخ الإسلام بأن أخذه من تعليق الجدار ظاهر قال : وأما تعليق الطلاق ونحوه ، فليس

التعليق هناك لأجل قطع الاتصال ، بل لتعليق أمر على أمر بدليل استعماله في الوكالة والبيع وغيرهما .

ثم قال : إلا أن يريد به قطع اتصال حكم التنجيز باللفظ لو كان منجزاً .

قلت : وهذا هو الذي يتعين مراداً للمصنف فيكون فيه تشبيه أمر معنوي [ بأمر معنوي ] أو يكون مراده بالقطع الدفع لا الرفع ، فإن التعليق منع من الاتصال كما أن الطلاق منع من الوصلة . ويأتي هذا أيضاً في تعليق الجدار ، فإنه منع من اتصاله بالأرض ووجه مناسبته أن سقوط الراوي منه منع من الحكم باتصاله والله أعلم .

85- قوله (ص) :  في ذكر الحديث الذي رواه بعض الثقات مرسلاً وبعضهم متصلاُ (( فحكى الخطيب أن أكثر أصحاب الحديث يرون الحكم في هذا وأشباهه للمرسل )) إلى آخر كلامه .

وقد تبع الخطيب أبو الحسن ابن القطان على اختيار الحكم للرفع أو الوصل مطلقاً . وتعقبه أبو الفتح ابن سيد الناس قائلاً بأن هذا ليس بعيداً من النظر إذا استويا في رتبة الثقة والعدالة أو تقاربا لأن الرفع زيادة على الوقف وقد جاء عن ثقة فسبيله القبول ، فإن كان ابن القطان قال هذا على سبيل النظر  فهو صحيح وإن كان قال نقلاً تقدمه ، فليس لهم في ذلك عمل مطرد )) .

قلت : قد صرح ابن القطان بأنه قال ذلك على سبيل الاختيار فإنه حكى هذا المذهب وقرره ، ثم قال : (( هذا هو الحق في هذا الأصل ، وهو اختيار أكثر الأصوليين وكذا اختاره من المحدثين طائفة منهم : أبو بكر البزار ، لكن أكثر ( يعني المحدثين ) على الرأي الأول ( يعني تقديم الإرسال على الوصل ) .

وما اختاره ابن سيد الناس سبقه إلى ذلك شيخه ابن دقيق العيد فقال في مقدمة شرح الإلمام : (( من حكى عن أهل الحديث أو أكثرهم أنه إذا تعارض رواية مرسل ومسند أو رافع وواقف أو ناقص وزائد أن الحكم للزائد فلم يصب في هذا الإطلاق ، فإن ذلك ليس قانوناً مطراً وبمراجعة أحكامهم الجزئية يعرف صواب ما نقول )) .

وبهذا جزم الحافظ العلائي فقال :

(( كلام الأئمة المتقدمين في هذا الفن كعبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل والبخاري وأمثالهم يقتضي أنهم لا يحكمون في هذه المسألة بحكم كلي بل عملهم في ذلك دائر مع الترجيح بالنسبة إلى ما يقوي عند أحدهم في كل حديث حديث )) .

قلت : وهذا العمل الذي حكاه عنهم إنما هو فيما يظهر لهم فيه الترجيح وأما ما لا يظهر فيه الترجيح ، فالظاهر أنه المفروض في أصل المسألة وعلى هذا فيكون في كلام ابن الصلاح إطلاق في موضع التقييد وسيكون لنا عودة إلى هذا في الكلام على زيادة الثقة إن شاء الله تعالى ، والله الموفق .

86- قوله (ص) : (( الحديث الذي رواه بعض الثقات متصلاً وبعضهم مرسلاً )) إلى آخره .

ما أدري ما وجه إيراد هذا في تفاريع المعضل . بل هذا قسم مستقل وهو : تعارض الإرسال

والاتصال والرفع والوقف . نعم ، لو ذكره في تفاريع الحديث المعلل ، لكان حسناً وإلا فمحل الكلام [فيه] في زيادة الثقات كما أشار إليه .

وقد أجبت عنه بأنه لما قال : تفريعات أراد أن تنعطف على جميع الأنواع المتقدمة ومن جملتها : الموصول والمرسل والمرفوع والموقوف ، فعلى هذا فالتعارض بين أمرين فرع عن أصلهما والله أعلم .

87- قوله (ص) : (( مثاله : لا نكاح إلا بولي )) .

اعترض عليه : بأن التمثيل بذلك لا يصح ، لأن الرواة لم تتفق على إرسال شعبة وسفيان له عن أبي إسحاق ، بل رواه النعمان بن عبد السلام عن شعبة وسفيان جميعاً عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه موصولاً . أخرجه الحاكم في المستدرك من طريقه .

والجواب : أن حديث النعمان هذا شاذ مخالف الأثبات من أصحاب شعبة وسفيان والمحفوظ عنهما أنهما أرسلاه لكن الاستدلال بأن الحكم للواصل دائماً على العموم من صنيع البخاري في هذا الحديث الخاص ليس بمستقيم ، لأنه البخاري لم يحكم فيه بالاتصال من أجل كون الوصل زيادة ، وإنما حكم له بالاتصال لمعان أخرى رجحت عنده حكم الموصول .

منها : أن يونس بن إسحاق وابنيه إسرائيل وعيسى رووه عن أبي إسحاق موصولاً . ولا شك أن آل الرجل أخص به من غيرهم .

ووافقهم على ذلك أبو عوانة وشريك النخعي وزهير بن معاوية وتمام المعشرة من أصحاب أبي إسحاق ، مع اختلاف مجالسهم في الأخذ عنه وسماعهم إياه من لفظه . و أما رواية من أرسله وهما شعبة وسفيان ، فإنما أخذاه عن أبي إسحاق في مجلس واحد .

فقد رواه الترمذي قال :

حدثنا محمود بن غيلان : ثنا أبو داود حدثنا شعبة قال : سمعت سفيان الثوري يسأل أبا إسحاق أسمعت أبا بردة رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا نكاح إلا بولي فقال : نعم )) . فشعبة وسفيان إنما أخذاه (معاً) في مجلس واحد عرضاً كما ترى ولا يخفى رجحان ما أخذ من لفظ المحدث في مجالس متعددة على ما أخذ عنه عرضاً في محل واحد .

هذا إذا قلنا : حفظ سفيان وشعبة في مقابل عدد الآخرين مع أن الشافعي رضي الله عنه يقول : (( العدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد )) .

فتبين أن ترجيح البخاري لوصل هذا الحديث بل إرساله لم يكن لمجرد أن الواصل معه زيادة ليست مع المرسل ، بلب بما يظهر من قرائن الترجيح . ويزيد ذلك ظهوراً تقديمه الإرسال في مواضع أخر .

مثاله : ما رواه الثوري عن محمد بن أبي بكر بن حزم عن عبد الملك عن أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن شئت سبعت لك )) .

ورواه مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن الحارث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم سلمة رضي الله عنها :

قال البخاري في تأريخه : (( الصواب قول مالك )) مع إرساله . فصوب الإرسال هنا لقرينة ظهرت له فيه ، وصوب المتصل هناك لقرينة ظهرت له فيه . فتبين أنه ليس له عمل مطرد في ذلك والله أعلم

38- قوله (ع) : (( والذي صححه الأصوليون هو : أن الاعتبار بما وقع منه أكثر )) إلى آخره .

هذا قول بعض الأصوليين كالإمام فخر الدين ، وقد ذكر البيضاوي المسألة في المنهاج ومال إلى ترجيح القبول مطلقاً . ونقل الماوردي عن مذهب الشافعي في مسألة الوقف والرفع أن الوقف يحمل على أنه رأي الراوي والمسند على روايته .

قلت : ويختص هذه بأحاديث الأحكام أما ما لا مجال للرأي فيه فيحتاج إلى نظر . وما نقله الماوردي عن مذهب الشافعي قد جزم به أبو الفرج ابن الجوزي وأبو الحسن ابن القطان ، وزاد أن الرفع يترجح بأمر آخر وهو : تجويز أن يكون الواقف قد قصر في حفظه أو شك في رفعه .

قلت : وهذا غير ما فرضناه في أصل المسألة والله أعلم . ثم إنه يقابل بمثله فيترجح الوقف بتجويز أن يكون الرافع تبع العادة وسلك الجادة .

ومثال ذلك ما رواه محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو بالحزورة : (( والله إني لأعلم أنك خير أرض الله )) الحديث .

ورواه الزهري عن أبي سلمة عن عبد الله بن عدي بن الحمراء رضي الله تعالى عنه وهو المحفوظ والحديث حديثه وهو مشهور به .

وقد سمعه الزهري أيضاً من محمد بن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عدي رضي الله عنه وسلك محمد بن عمرو الجادة ، فقال عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه واعلم أن هذا كله إذا كان للمتن سند واحد . أما إذا كان له سندان ، فلا يجري فيه هذا الخلاف .

وقد روى البخاري في صحيحه من طريق ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إذا اختلطوا فإنما هو التكبير والإشارة بالرأس )) الحديث . وعن ابن جريج عن ابن كثير ، عن مجاهد موقوفاً . فلم يتعارض الوقف والرفع هنا ، لاختلاف الإسنادين والله أعلم .

88- قوله (ص) : (( وما صححه (أي الخطيب) فهو الصحيح في الفقه وأصوله )) .

أقول : الذي صححه الخطيب شرطه أن يكون الراوي عدلاً ضابطاً وأما الفقهاء والأصوليون ، فيقبلون ذلك من العدل مطلقاً وبين الأمرين فرق كثير . وهنا شئ يتعين التنبيه عليه وهو : أنهم شرطوا في الصحيح أن لا يكون شاذاً ، وفسروا الشاذ بأنه ما رواه الثقة فخالفه من هو أضبط منه أو أكثر عدداً ثم قالوا : تقبل الزيادة من الثقة مطلقاً . وبنوا على ذلك أن من وصل معه زيادة فينبغي تقديم خبرة على من أرسل مطلقاً .

فلو اتفق أن يكون من أرسل أكثر عدداً أو أضبط حفظاً أو كتاباً على من وصل أيقبلونه أم لا ؟ أم هل يسمونه شاذاً أم لا ؟ لا بد من الاتيان بالفرق أو الاعتراف بالتناقض . والحق في هذا أن زيادة الثقة لا تقبيل دائماً ، ومن أطلق ذلك عن الفقهاء والأصوليين ، فلم يصب . وإنما يقبلون ذلك إذا استووا في الوصف ولم يتعرض بعضهم لنفيها لفظاً ولا معنى .

وممن صرح بذلك الإمام فخر الدين وابن الأيباري شارح البرهان وغيرهما وقال ابن السمعاني : (( إذا كان راوي الناقصة لا يغفل أو كانت الدوارعي تتوفر على نقلها أو كانوا جماعة لا يجوز عليهم أن يغفلوا عن تلك الزيادة وكان المجلس واحداً فالحق أن لا يقبل رواية راوي الزيادة هذا الذي ينبغي . انتهى .

وإنما أردت بإيراد هذا بيان أن الأصوليين لم يطبقوا على القبول مطلقاً ، بل الخلاف بينهم . وسأحكي إن شاء الله تعالى كلام أئمة الحديث وغيرهم في ذلك في النوع السادس عشر حيث تكلم المصنف على زيادات الثقات والله أعلم .

النوع الثاني عشر : معرفة التدليس

89- قوله (ص) : (( التدليس قسمان )) .

قلت : هو مشتق من الدلس وهو : الظلام . قاله ابن السيد . وكأنه أظلم أمره على الناظر لتغطية وجه الصواب فيه .

90- قوله (ص) : (( وهو أن يروي عن من لقيه ما لم يسمعه منه موهماً أنه سمعه منه أو عمن عاصره ولم يلقه موهماً أنه قد لقيه وسمعه منه )) . انتهى .

وقوله : عمن عاصره ليس من التدليس في شئ ، وإنما هو : المرسل الخفي . كما سيأتي تحقيقه عند الكلام عليه .

وقد ذكر ابن القطان في أواخر البيان له تعريف التدليس بعبارة غير معترضة قال : (( ونعني به أن يروي المحدث عمن [قد] سمع منه ما لم يسمعه من غير أن يذكر أنه سمعه منه . والفرق بينه وبين الإرسال هو أن الإرسال روايته عمن لم يسمعه منه ، ولما كان في هذا قد سمعه منه جاءت روايته عنه بما لم يسمعه منه كأنها إيهام سماعه ذلك الشئ ، فلذلك سمي تدليساً )) . انتهى .

وهو صريح في التفرقة بين التدليس والإرسال . وأن التدليس مختص بالرواية عمن له عنه سماع ، بخلاف الإرسال والله أعلم . وابن القطان في ذلك متابع لأبي بكر البزار . وقد حكى شيخنا كلامهما ، ثم قال : (( إن الذي ذكره المصنف في حد التدليس هو المشهور عن أهل الحديث ، وأنه إنما حكى كلام البزار وابن القطان لئلا يغتر به )) .

قلت : ولا غرور هنا ، بل كلامهما هو الصواب على ما يظهر لي في التفرقة بين التدليس والمرسل الخفي وإن كانا مشتركين في الحكم . هذا ما يقتضيه النظر . وأما كون المشهور عن أهل الحديث خلاف ما قالاه ففيه نظر . فكلام الخطيب في باب التدليس من (( الكفاية )) يؤيد ما قاله ابن القطان قال الخطيب : (( التدليس متضمن للإرسال لا محالة ، لإمساك المدلس عن ذكر الواسطة ، وإنما يفارق حال المرسل بإيهامه السماع ممن لم يسمعه فقط وهو الموهن لأمره ، فوجب كون التدليس متضمناً للإرسال ، والإرسال لا يتضمن التدليس ، لأنه لا يقتضي إيهام السماع ممن لم يسمعه منه ))

ولهذا لم يذم العلماء من أرسل وذموا من دلس والله أعلم .

91- قوله (ص) : في تدليس الشيوخ : (( وهو : أن يروي عن شيخ فيسميه أو يكتبه أو ينسبه أو يصفه بما لا يعرف به كيلا يعرف )) .

قلت : ليس قوله بما لا يعرف به قيداً بل إذا ذكره بما يعرف به إلا أنه لم يشتهر به كان ذلك تدليساً كقول الخطيب : أخبرنا علي بن أ[ي علي البصري ومراده بذلك أبو القاسم علي بن أبي علي المحسن بن علي التنوخي ، وأصله من البصرة فقد ذكره بما يعرف به لكنه لم يشتهر بذلك وإنما اشتهر بكنيته واشتهر أبوه باسمه واشتهرا بنسبتهما إلى القبيلة لا إلى البلد ، ولهذا نظائر ، كصنيع البخاري في الذهلي فإنه تارة يسميه فقط بقوله : حدثنا محمد بن عبد الله فينسبه إلى جده ، وتارة يقول : حدثنا محمد ابن خالد فينسبه إلى والد جده . وكل ذلك صحيح إلا أن شهرته إنما هي : محمد بن يحيى الذهلي والله الموفق .

39- قوله (ع) : (( ترك المصتف قسماً ثالثاً من أنواع التدليس وهو شر الأقسام )) إلى آخره .

أقول : فيه مشاحة وذلك أن ابن الصلاح قسم التدليس إلى قسمين :

1- أحدهما : تدليس الإسناد .

2- والآخر : تدليس الشيوخ .

والتسوية على تقدير تسليم تسميتها هي من قبيل القسم الأول وهو : تدليس الإسناد . فعلى هذا لم يترك قسماً ثالثاُ ، إنما ترك تفريع القسم الأول . أو أخل بتعريفه ، ومشى على ذلك العلائي فقال (( تدليس السماع نوعان )) (فذكره) .

وقد فاتهم معاً من تدليس الإسناد فرع آخر وهو : تدليس العطف ، وهو : أن يروي عن شيخين من شيوخه ما سمعاه من شيخ اشتركا فيه ، ويكون قد سمع ذلك من أحدهما دون الآخر ، فيصرح عن الأول بالسماع ويعطف الثاني عليه ، فيوهم أنه حدث عنه بالسماع أيضاً وإنما حدث بالسماع عن الأول ، ثم نوى القطع فقال : وفلان أي حدث فلان .

مثاله : ما رويناه في (( علوم الحديث )) للحاكم قال :

(( اجتمع أصحاب هشيم فقالوا : لا تكتب عنه اليوم شيئاً مما يدلسه ففطن لذلك ، فلما جلس قال : حدثنا حصين ومغيرة عن إبراهيم ، فحدث بعده أحاديث فلما فرغ قال : هل دلست لكم شيئاً ؟ قالوا : لا ، فقال : بلى كل ما حدثتكم عن حصين فهو سماعي ولم أسمع من مغيرة من ذلك شيئاً ))

وفاتهم أيضاً فرع آخر وهو تدليس القطع مثاله ما رويناه في (( الكامل )) لأبي أحمد بن عدي وغيره

عن عمر بن عبيد الطنافسي أنه كان يقول : حدثنا ، ثم يسكت ينوي القطع ، ثم يقول : هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها .

[ التسوية أعم من التدليس : ]

وقد يدلسون بحذف الصيغ الموهمة عن المصرحة ، كما كان ابن عيينة يقول : عمرو بن دينار سمع جابراً رضي الله عنه ونحو ذلك ولكن هذا كله داخل في التعريف الذي عرف به ابن الصلاح وهو قوله أن يروي عمن لقيه ما لم يسمعه منه موهماً أنه سمعه بخلاف التسوية وهي أعم من أن يكون هناك تدليس أو لم يكن .

فمثال : ما يدخل في التدليس ، فقد ذكره الشيخ .

ومثال : ما لا يدخل في التدليس ما ذكره ابن عبد البر وغيره أن مالكاً سمع من ثور بن زيد أحاديث عن عكرمة ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ثم حدث بها عن ثور عن ابن عباس وحذف عكرمة ، لأنه كان لا يرى الاحتجاج بحديثه .

فهذا [مالك] قد سوى الإسناد (بإبقاء) من هو عنده ثقة وحذف من ليس عنده بثقة . فالتسوية قد تكون بلا تدليس وقد تكون بالإرسال فهذا تحرير القول فيها . وقد وقع هذا لمالك في مواضع أخرى

1- فإنه روى عن عبد ربه بن سعيد عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما في الصائم يصبح جنباً وإنما رواه عبد ربه عن عبد الله بن كعب الحميري عن أبي بكر بن عبد الرحمن رضي الله عنه كذا جزم به ابن عبد البر وكذا أخرجه النسائي من رواية عمر بن الحارث عن عبد ربه .

2- وروى مالك عن عبد الكريم الجزري ، عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة رضي الله عنه في القدية وإنما رواه عبد الكريم عن مجاهد عن ابن أبي ليلى قال ابن عبد البر أيضاً .

3- وروى مالك عن عمرو بن الحارث ، عن عبيد بن فيروز ، عن البراء رضي الله عنه في الأضاحي ، وإنما رواه عمرو ، عن سليمان بن عبد الرحمن عن عبيد ، كذا رواه ابن وهب ، عن عمرو بن عمرو بن الحارث ، وهو مشهور من حديث سليمان المذكور . حدث به عنه شعبة ، والليث وابن ليهعة وغيرهم . فلو كانت التسوية تدليساً لعد مالك في المدلسين ، وقد أنكروا على من عده فيهم .

قال ابن القطان : (( ولقد ظن بمالك على بعده عنه عمله )) .

وقال الدار قطني : (( أن مالكاً ممن عمل به وليس عيباً عندهم )) . وإذا تقرر ذلك ، فقول شيخنا في تعريف التسوية : وصورة هذا القسم أن يجئ المدلس إلى حديث قد سمعه من شيخ ثقة وقد سمعه ذلك الشيخ الثقة من شيخ ضعيف ، وقد سمعه ذلك الشيخ الضعيف عن شيخ ثقة ، فيسقط المدلس الشيخ الضعيف ويسوقه بلفظ محتمل ، فيصير الإسناد كلهم ثقات ، ويصرح هو بالاتصال عن شيخه لأنه قد سمعه منه ، فلا يظهر حينئذ في الإسناد ما يقتضي رده )) إلى آخر كلامه . تعريف غير جامع ، بل حتى العبارة أن يقول : أن يجئ الراوي ليشمل المدلس وغيره إلى حديث قد سمعه من شيخ وسمعه ذلك الشيخ من آخر عن آخر ، فيسقط الواسطة بصيغة محتملة ، فيصير الإسناد عالياً وهو في الحقيقة نازل ومما يدل على أن هذا التعريف لا تقييد فيه بالضعيف أنهم ذكروا في أمثلة التسوية : ما رواه هشيم عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن الزهري ، عن عبد الله بن الحنفية ، عن أبيه عن علي رضي الله عنه في تحريم لحوم الحمر الأهلية .

قالوا : ويحيى بن سعيد لم يسمعه من الزهري ، إنما أخذه عن مالك عن الزهري . هكذا حدث به عبد الوهاب الثقفي وحماد بن زيد وغير واحد عن يحيى بن سعيد عن مالك ، فأسقط هشيم ذكر مالك منه وجعله عن يحيى ابن سعيد ، عن الزهري . ويحيى فقد سمع من الزهري ، فلا إنكار في روايته عنه إلا أن هشيماً قد سوى هذا الإسناد وقد جزم بذلك ابن عبد البر وغيره .

فهذا كما ترى لم يسقط في التسوية شيخ ضعيف ، وإنما سقط شيخ ثقة ، فلا اختصاص لذلك بالضعيف والله أعلم .

تنبيه

قسم الحاكم في علوم الحديث وتبعه أبو نعيم التدليس إلى ستة أقسام :

1- الأول : من دلس عن الثقات .

2- الثاني : من سمى من دلس عنه لما حوقق وروجع فيه .

3- الثالث : من دلس عن من لا يعرف .

4- الرابع : من دلس عن الضعفاء .

5- الخامس : من دلس القليل عن من سمع منه الكثير .

6- السادس : من حدث من صحيفة من لم يلقه .

قلت : وليست هذه الأقسام متغايرة ، بل هي متداخلة وحاصلها يرجع إلى القسمين اللذين ذكرهما ابن الصلاح . لكن أحببت التنبيه على ذلك . لئلا يعترض به من لا يتحقق .

تنبيه آخر

ذكر شيخنا ممن عرف بالتسوية جماعة ، وفاته أن ابن حبان قال في ترجمة بقية إن أصحابه كانوا يسوون حديثه . وقال في ترجمة إبراهيم بن عبد الله المصيصي : كان يسوي الحديث والله أعلم .

40- قوله (ع) :((وما ذكره المصنف في حد التدليس( هو: المشهور بين أهل الحديث يعني أن من جملة التدليس أن يروي عمن عاصره ما لم يسمعه منه موهماً أي سواء كان قد لقيه أو لم يلقه )) .

قلت : والذي يظهر من تصرفات الحذاق منهم أن التدليس مختص باللقي ، فقد أطبقوا على أن رواية المخضرمين مثل : قيس بن أبي حازم وأبي عثمان النهدي وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم من قبيل المرسل لا من قبيل المدلس .

وقد قال الخطيب في باب المرسل من كتابه الكفاية :

(( لا خلاف بين أهل العلم أن إرسال الحديث الذي ليس بمدلس وهو : رواية الراوي عن من لم يعاصره أو لم يلقه ، ثم مثل للأول بسعيد بن المسيب وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم وللثاني بسفيان الثوري وغيره عن الزهري . ثم قال : والحكم في الجميع عندنا واحد )) . انتهى .

فقد (بين) الخطيب في ذلك أن من روى عمن لم يثبت لقيه ولو عاصره أن ذلك مرسل لا مدلس . والتحقيق فيه التفصيل وهو : أن من ذكر التدليس أو الإرسال إذا ذكر بالصيغة الموهمة عمن لقيه ، فهو تدليس أو عمن أدركه ولم يلقه فهو المرسل الخفي . أو عمن لم يدركه ، فهو مطلق الإرسال .

واعلم أن التعريف الذي ذكرناه للمرسل ينطبق على يرويه الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم مما لم يسمعوه منه وإنما لم يطلقوا عليه اسم التدليس أدباً على أن بعضهم أطلق ذلك .

روى أبو أحمد ابن عدي في الكامل عن يزيد بن هارون عن شعبة قال : (( كان أبو هريرة رضي الله عنه ربما دلس )) . والصواب ما عليه الجمهور من الأدب في عدم إطلاق ذلك والله الموفق .

92- قوله (ص) : (( وإنما يقول : قال فلان أو عن فلان )) إلى آخره .

قد تقدم ما في ((قال)) من الخلاف . وقد يقع التدليس بحذف الصيغ كلها . كما في المثال الذي ذكره المصنف وإنما نبهت عليه ، لأنه ليس داخلاً في عبارته ، والله أعلم .

93- قوله (ص) : (وإن ما) رواه المدلس بلفظ حكمه حكم المرسل )) .

اعترض عليه بأن البزار الحافظ ذكر في الجزء الذي جمعه فيمن يترك ويقبل : إن من كان لا يدلس إلا عن الثقات كان تدليسه عند أهل العلم مقبولاً . وبذلك صرح أبو الفتح الأزدي ، وأشار إليه الفقيه أبو بكر الصيفي في (( شرح الرسالة )) .

وجزم بذلك أبو حاتم ابن حبان وأبو عمر ابن عبد البر وغيرهما في حق سفيان بن عيينة وبالغ ابن حبان في ذلك حتى قال : (( إنه لا يوجد له تدليس قط إلا وجد بعينه ، قد بين سماعه فيه من ثقة ))

وفي سؤالات الحاكم للدار قطني : أنه سئل عن تدليس ابن جريج فقال : يجتنب ، وأما ابن عيينة فغنه يدلس عن الثقات .

تنبيه

قال أبو الحسن ابن القطان : (( إذا المدلس قبل بلا خلاف وإذا لم يصرح ، فقد قبله قوم لم يتبين في حديث بعينه أنه لم يسمعه وروده آخرون ما لم يتبين أنه سمعه .

قال : فإذا روى المدلس حديثاً بصيغة محتملة ، ثم رواه بواسطة تبين انقطاع الأول عند الجميع )) .

قلت : وهذا بخلاف غير المدلس ، فإن غير المدلس يحمل غالب ما يقع منه من ذلك على أنه سمعه من الشيخ الأعلى ، وثبته فيه الواسطة . لكن في إطلاق ابن القطان نظر ، لأنه قد يدلس الصيغة فيرتكب المجاز . كما يقول مثلاً : حدثنا وينوي حديث قومنا أو أهل قريتنا ونحو ذلك .

وقد ذكر الطحاوي منه أمثلة من ذلك :

حديث مسعر عن عبد  الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة قال قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أنا وإياكم ندعى بن عبد مناف )) الحديث .

قال : وأراد بذلك أنه صلى الله عليه وسلم قال لقومه وأما هو فلم ير النبي صلى الله عليه وسلم .

وقال طاووس : (( قدم علينا معاذ بن جبل رضي الله عنه اليمن )) . وطاووس لم يدرك معاذاً رضي الله عنه وإنما أراد قدم بلدنا .

وقال الحسن : (( خطبنا عتبة بن غزوان )) . يريد أنه خطب أهل البصرة ، والحسن لم يكن بالبصرة لما خطب عتبة .

قلت : ومن أمثلة ذلك قول ثابت البناني : (( خطبنا عمران بن حصين رضي الله عنه )) .

وقوله : (( خطبنا ابن عباس رضي الله عنهما )) والله أعلم .

41- قوله (ع) : (( حكاية عن أبي نصر ابن الصباغ : (( وإن كان لصغر سنه فيكون ذلك رواية عن مجهول )) .

في نظر ، لأنه لا يصير بذلك مجهولاً إلا عند من لا خبرة له بالرجال وأحوالهم وأنسابهم إلى قبائلهم وألقابهم وكناهم وكذا الحال في آبائهم . فتدليس الشيوخ دائر بين ما وصفنا ، فمن أحاط علماً بذلك لا يكون الرجل المدلس عنده مجهولاً . وتلك أنزل مراتب المحدث .

وقد بلغنا أن كثيراً من الأئمة الحفاظ امتحنوا طلبتهم المهرة (بمثل ذلك) فتشهد لهم بالحفظ لما يسرعوا بالجواب عن ذلك .

وأقر ما وقع من ذلك أن بعض أصحابنا كان ينظر إلى (( كتاب العلم )) (لأبي بكر بن أبي عاصم) فوقع في أثنائه حدثنا الشافعي . حدثنا ابن عيينة فذكر حديثاً ، فقال : لعله سقط منه شئ ، ثم التفت إلى فقال : ما تقول ؟ فقلت : الإسناد متصل ، وليس الشافعي هذا محمد بن إدريس الإمام بل هو ابن عمه إبراهيم بن محمد بن العباس . ثم استدللت على ذلك بأن ابن أبي عاصم معروف بالرواية عنه وأخرجت من الكتاب المذكور روايته عنه وقد سماه .

(ولقد كان) ظن الشيخ في السقوط ، لأن مولد ابن أبي عاصم بعد وفاة الإمام الشافعي بمده .

وما أحسن ما قال ابن دقيق العيد :

(( إن في تدليس الشيخ الثقة مصلحة وهي امتحان الأذهان في استخراج ذلك وإلقائه إلى من يراد اختبار حفظه ومعرفته بالرجال وفيه مفسدة من جهة أنه قد يخفي فيصير الراوي المدلس مجهولاً لا يعرف فيسقط العمل بالحديث مع كونه عدلاً في نفس الأمر .

قلت : وقد نازعته في كونه يصير مجهولاً عند الجميع ، لكن من مفسدته أن يوافق ما يدلس به شهرة راو ضعيف يمكن ذلك الراوي الأخذ عنه ، فيصير الحديث من أجل ذلك ضعيفاً وهو في نفس الأمر صحيح وعكس هذا في حق من يدلس الضعيف ليخفي أمره فينتقل عن رتبة من يرد خبره مطلقاً إلى رتبة من يتوقف فيه . فإن صادف شهرة راو ثقة يمكن ذلك الراوي الأخذ عنه فمفسدته أشد . كما وقع لعطية العوفي في تكنيته محمد بن السائب الكلبي أبا سعيد ، فكان إذا حدث عنه يقول : حدثني أبو سعيد فيوهم أنه أبو سعيد الخدري الصحابي رضي الله عنه لأن عطية كان لقيه وروى عنه . وهذا أشد ما بلغنا من مفسدة تدلس الشيوخ .

وأما ما عدا ذلك من تدليس الشيوخ ، فليس فيه مفسدة تتعلق بصحة الإسناد وسقمه ، بل فيه مفسدة دينية فيما إذا كان مراد المدلس إيهام تكثير الشيوخ لما فيه من التشييع والله أعلم . ونظيره في تدليس الإسناد أن يوهم العلو وهو عنده بنزول والله أعلم .

95- قوله (ص) : (( وكان شعبة من أشدهم ذماً (له) )) إلى آخره .

هو : معروف بذلك . قال القاضي أبو الفرج المعافى النهرواني في (( كتاب الجليس والأنيس )) له ، في المجلس الثالث والخمسين منه : كان شعبة ينكر التدليس ويقول فيه ما يتجاوز مع كثرة روايته عن المدلسين ومشاهدته من كان مدلساً من ( الأعلام ) ، كالأعمش والثوري وغيرهما ، إلى أن قال : ومع ذلك ، فقد وجدنا لشعبة مع سوء قوله في التدليس تدليساً في عدة أحاديث رواها ، وجمعنا ذلك في موضع آخر ، انتهى .

وما زلت متعجباً من هذه الحكاية شديد التلفت إلى الوقوف على ذلك ولا ازداد إلا استغراباً لها واستبعاداً إلى أن رأيت في (( فوائد أبي عمرو بن أبي عبيد الله بن مندة )) وذلك فيما قرأت على أم الحسن بنت المنجا ، عن عيسى بن عبد الرحمن بن مغالى ، قال : قرئ على كريمة بنت عبد الوهاب ونحن نسمع عن أبي الخير الباغيان . أنا عمرو بن أبي عبيد الله بن مندة . ثنا أبو عمر بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن عبد الوهاب إملاء . حدثنا أبو عبد الله أحمد بن موسى بن إسحاق . ثنا أحمد بن محمد بن الأصفر ثنا النفيلي . ثنا مسكين بن بكير . ثنا شعبة قال : سألت عمرو بن دينار عن رفع الأيدي عند رؤية البيت فقال : قال أبو قزعة حدثني مهاجر المكي أنه سأل جابر بن عبد الله رضي الله عنه أكنتم ترفعون أيديكم عند رؤية البيت ؟ ، فقال : (( قد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فهل فعلنا ذلك ؟

قال الأصفر : ألقيته على أحمد بن حنبل فاستعادني ، فأعدته عليه فقال : ما كنت أظن أن شعبة يدلس . حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن أبي قزعة بأربعة أحاديث هذا أحدها يعني ليس فيه عمرو بن دينار .

قلت : هذا الذي قاله أحمد في سبيل الظن ، وإلا فلا يلزم منه مجرد هذا أن يكون شعبة دلس في هذا الحديث ، لجواز أن يكون سمعه من أبي قزعة بعد أن حدثه عمرو عنه ، ثم وجدته في (( السنن )) لأبي داود عن يحيى بن معين ، عن غندر ، عن شعبة قال : سمعت أبا قزعة .. فذكره فثبت أنه ما دلسه . والظاهر : الذي زعن المعافى أنه جمعه كله من هذا القبيل وإلا فشعبة من أشد الناس تنفيرا عنه

وأما كونه : كان يروي عن المدلسين ، فالمعروف عنه أنه كان لا يحمل عن شيوخه المعروفين بالتدليس إلا ما سمعوه ، فقد روينا من طريق يحيى القطان عنه أنه كان يقول : (( كنت أنظر إلى فم قتادة ، فإذا قال : سمعت وحدثنا حفظته وإذا قال : عن فلان رويناه في المعرفة للبيهقي وفيها عن شعبة أنه قال : كفيتكم تدليس ثلاثة : الأعمش وأبو إسحاق وقتادة .

وهي قاعدة حسنة تقبل أحاديث هؤلاء إذا كان عن شعبة ولو عنعنوها . وألحق الحافظ الإسماعيلي بشعبة في ذلك يحيى بن سعيد القطان فقال في كتاب الطهارة من (( مستخرجه )) عقب حديث يحيى القطان عن زهير أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عن عبد الله بن مسعود في الاستجمار بالأحجار : (( يحيى القطان لا يروي عن زهير إلا ما كان مسموعاً لأبي إسحاق )) . هذا أو معناه .

وكذا ما كان من رواية الليث بن سعد ، عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه فإنه مما لم يدلس فيه أبو الزبير كما هو معروف في قصة مشهورة .

وقال البخاري : (( لا يعرف لسفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت ولا عن سلمة بن كهيل ، ولا عن منصور ، ولا عن كثير من مشايخه تدليس ما أقل تدليسه )) . وقد ذم التدليس جماعة من أقران شعبة وأتباعه . فروينا عن عبد الصمد بن عبد الوارث عن أبيه قال : (( التدليس ذل )) .

وحكى عبدان عن ابن المبارك أن ذكر بعض من يدلس ، فذمه ذماً شديداً وقال : (( دلس للناس أحاديث ، والله لا يقبل تدليساً )) .

رويناه في (( علوم النبيل قال : أقل حالات المدلس عندي أنه يدخل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم : (( المتشيع بما لم يعط كلابس ثوبي زور ، والله الموفق .

42- قوله (ع) : (( وقد حكاه الخطيب عن قرين من الفقهاء )) .

قلت : حكاه القاضي عبد الوهاب في (( الملخص )) فقال : (( التدلس جرح وإن من ثبت أنه كان يدلس لا يقبل حديثه مطلقاً قال : وهو الظاهر من أصول مالك )) .

وقال ابن السمعاني في القواطع :

(( إن كان إذا استكشف لم يخبر باسم من يروى عنه ، فهذا يسقط الاحتجاج بحديثه ، لأن التدليس تزوير وإيهام لما لا حقيقة له وذلك يؤثر في صدقه ، وإن يخبر ، فلا )) . هكذا قال . والصواب الذي عليه جمهور المحدثين خلاف ذلك .

قال يعقوب بن شيبة : سألت يحيى بن معين عن التدليس فكرهه وعابه . قلت له : فيكون المدلس حجة فيما روى ؟ قال : لا يكون حجة في ما دلس . وأود الخطيب هنا أنه ينبغي أن لا يقبل من المدلس أخبرنا لأن بعضهم يستعملها في غير السماع . وأجاب أن هذه اللفظة ظاهرها السماع ، والحمل على غيره مجاز ، والحمل على الظاهر أولى .

وما أجاب به جيد فيمن لم يوصف بأنه كان يدلس الصيغ أيضاً فقد ثبت عن أبي نعيم الأصبهاني أنه كان يقول في الإجازة : (( أخبرنا )) وفي السماع (( حدثنا )) . وكذا يصنع كثير من حفاظ المغاربة فيحتاج إلى التنبيه لذلك . ومثل ما أجاب به الخطيب شيخنا شيخ الإسلام . ثم قال : ولا يرد على هذا قول الرجل الذي يقتله الدجال . (( أنت الدجال الذي أخبرنا عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم . لأن الكلام إنما هو حيث كان السماع ممكناً ، وأما إذا كان غير ممكن فيتعين الحمل على المجاز بالقرينة .

كقول أبي طلحة : إني سمعت الله تعالى يقول : ( لن تناولا البر ) الآية ، فإن مراده سمعت كلام الله عز وجل على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم .

وقد حكى القاضي عبد الوهاب في (( الملخص )) عن الشافعي أنه لا يقبل من المدلس إلا إذا صرح بقوله : حدثني أو سمعت ، دون قوله : عن أو أخبرني . وهو ظاهر نقل ابن السمعاني ، لكن نصه في (( الرسالة )) . فقلنا لا نقبل من مدلس حديثاً حتى يقول : حدثني أو سمعت هذا نصه ، وهو محتمل أن يريد اقتصار على هاتين الصيغتين كما فهم القاضي عبد الوهاب وغيره ، ويحتمل أن يكون ذكرها على سبيل المثال ليلحق بهما ما أشبههما من الصيغ المصرحة وهذا هو الصحيح .

وقد حكى المعافى في (( الجليس )) عن الشافعي رضي الله عنه أنه كان لا يرى رواية المدلس حجة إلا أن يقول في روايته حدثنا أو أخبرنا أو سمعت ، انتهى . وهذا يؤيد ما صححناه .

96- قوله (ص) : (( وفي الصحيحين وغيرهما من الكتب المعتمدة من حديث هذا الضرب كثير جداً )) إلى آخره .

أورد المصنف هذا محتجاً به على قبول رواية المدلس إذا صرح ، وهو يوهم أن الذي في الصحيحين وغيرهما من الكتب المعتمدة من حديث المدلسين مصرح في جميعه وليس كذلك ، بل في الصحيحين (وغيرهما) جملة كثيرة من أحاديث المدلسين بالعنعنة ، وقد جزم المصنف في موضع آخر وتبعه النووي ( و غيره بأن ما كان في الصحيحين وغيرهما ) من الكتب الصحيحة عن المدلسين ، فهو محمول على ثبوت سماعه من جهة أخرى وتوقف في ذلك عن المتأخرين الإمام صدر الدين ابن المرحل ، وقال في (( كتاب الأنصاف )) : (( إن في النفس من هذا الاستثناء غصة ، لأنها دعوى دليل عليها ، ولا سيما أنا قد وجدنا كثيراً من الحفاظ يعللون أحاديث وقعت في الصحيحين أو أحدهما بتدليس رواتها )) . وكذلك استشكل ذلك قبله العلامة ابن دقيق العيد فقال : (( لا بد من الثبات على طريقة واحدة ، إما القبول مطلقاً في كل كتاب أو الرد مطلقاً في كل كتاب . وأما التفرقة بين ما في الصحيح من ذلك وما خرج عنه ، فغاية ما يوجه به أحد أمرين :

إما أن يدعي أن تلك الأحاديث عرف صاحب الصحيح صحة السماع فيها ، قال : وهذا إحالة على جهالة ، وإثبات أمر بمجرد الاحتمال ، وإما أن يدعي أن الإجماع على صحة ما في الكتابين دليل على وقوع السماع في هذه الأحاديث ، وإلا لكان أهل الإجماع مجمعين على الخطأ وهو ممتنع .

قال : لكن هذا يحتاج إلى إثبات الإجماع الذي يمتنع أن يقع في نفس الأمر خلاف مقتضاه .

قال : وهذا فيه عسر . قال : ويلزم على هذا أن لا يستدل بما جاء من رواية المدلس خارج الصحيح ولا يقال : هذا على شرط مسلم مثلاً لأن الإجماع الذي يدعي ليس موجوداً في الخارج )) ، انتهى ملخصاً . وفي أسئلة الإمام تقي الدين السبكي أبي الحجاج المزي (( وسألته عن ما وقع في الصحيحين من حديث المدلس معنعناً هل نقول : انهما اطلعا على اتصالها ؟

فقال : كذا يقولون ، وما فيه إلا تحسين الظن بهما . وإلا ففيهما أحاديث من رواية المدلسين ما توجد من غير تلك الطريق التي في الصحيح )) .

قلت : وليست الأحاديث التي في الصحيحين بالعنعنة عن المدلسين كلها في الاحتجاج ، فيحمل كلامهم هنا على ما كان منها في الاحتجاج فقط . أما ما كان في المتابعات في تخريجها كغيرها . وكذلك المدلسون الذين خرج حديثهم في الصحيحين ليسوا في مرتبة واحدة في ذلك ، بل هم على مراتب :

الأولى : من لم يصف بذلك إلا نادراً وغالب رواياتهم مصرحة بالسماع ، والغالب : أن إطلاق من أطلق ذلك عليهم فيه تجوز من الإرسال إلى التدليس . ومنهم من يطلق ذلك بناء على الظن ، ويكون التحقيق بخلافه كما بينا ذلك في حق شعبة قريباً وفي حق محمد بن إسماعيل البخاري في الكلام على التعليق والله أعلم ؟

فمن هذا الضرب :

1- أيوب السختياني .

2- وجرير بن حازم .

3- والحسين بن واقد .

4- وحفص بن غياث .

5- وسليمان التيمي .

6- وطاووس .

7- وأبو قلابة .

8- وعبد الله بن وهب .

9- وعبد ربه بن نافع أبو شهاب .

10- والفضل بن دكين أبو نعيم .

11- وموسى بن عقبة .

12- وهشام بن عروة .

13- وأبو مجلز لاحق بن حميد .

14- ويحيى بن سعيد الأنصاري .

رحمة الله عليهم .

الثانية : من أكثر الأئمة من إخراج حديثه إما لإمامته أو لكونه قليل التدليس في جنب ما روى من الحديث الكثير أو أنه كان لا يدلس إلا عن ثقة . فمن هذا الضرب :

15- إبراهيم بن يزيد النخعي .

16- وإسماعيل بن أبي خالد .

17- وبشير بن المهاجر .

18- والحسن بن ذكوان .

19- والحسن البصري .

20- والحكم بن عتيبة .

21- وحماد بن أسامة .

22- وزكريا بن أبي زائدة .

23- وسالم بن أبي الجعد .

24- وسعيد بن أبي عروبة .

25- وسفيان الثوري .

26- وسفيان بن عيينة .

27- وشريك القاضي .

28- وعبد الله بن عطاء المكي .

29- وعكرمة بن خالد المخزومي .

30- ومحمد بن خازم أبو معاوية الضرير .

31- ومخرمة بن بكير .

32- ويونس بن عبيد .

رحمة الله  تعالى عليهم .

الثالثة : من أكثروا من التدليس وعرفوا به وهم :

33- بقية بن الوليد .

34- وحبيب بن أبي ثابت .

35- وحجاج بن أرطأة .

36- وحميد الطويل .

37- وسليمان الأعمش .

38- وسويد بن سعيد .

39- وأبو سفيان المكي .

40- وعبد الله بن أبي نجيح .

41- وعباد بن منصور .

42- وعبد الرحمن المحاربي .

43- وعبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد .

44- وعبد الملك بن عبد العزيز بن جريج .

45- وعبد الملك بن عمير .

46- وعبد الوهاب بن عطاء الخفاف .

47- وعكرمة بن عمار .

48- وعمر بن عبيد الطنافسي .

49- وعمر بن علي المقدمي .

50- وعمرو بن عبد الله أبو إسحاق السبيعي .

51- وعبيسى بن موسى غنجار .

52- وقتادة .

53- ومبارك بن فضالة .

54- ومحمد بن إسحاق .

55- ومحمد بن عبد الرحمن الطقاوي .

56- ومحمد بن عجلان .

57- ومحمد بن عيسى بن الطباع .

58- ومحمد بن مسلم بن تدرس أبو الزبير .

59- ومحمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري .

60- ومروان بن معاوية الفزاري .

61- والمغيرة بن مقسم .

62- ومكحول الشامي .

63- وهشام بن حسان .

64- وهشان بن بشير .

65- والوليد بن مسلم الدمشقي .

66- ويحيى بن أبي كثير .

67- وأبو حرة الرقاشي .

رحمة الله تعالى عليهم أجمعين .

فهذه أسماء من ذكر بالتدليس من رجال الصحيحين ممن أخرجا أو أحدهما له أصلاً أو استشهاداً أو تعليقاً على مراتبهم في ذلك وهو بضعة وستون نفساً . (وإذا سردنا) ذلك فلا بأس بسرد أسماء بأقي الموصوفين بالتدليس من باقي رواة الحديث لتمام الفائدة ولتمييز أحاديثهم . فقد سرد المصنف أسامي من ذكر بالاختلاط ليتميز حديثه وقد ذكرتهم على قسمين :

أحدهما : من وصف بذلك مع صدقه .

وثانيهما : من ضعف منهم بأمر آخر غير التدليس والله الموفق . فمن الأول :

68- جنيد بن العلاء بن أبي وهرة .

69- وحميد بن الربيع الخزار .

70- وإسماعيل بن عياش .

71- وسلمة بن تمام الشقري .

72- وشباك الضبي .

73- وشعيب بن أيوب الصبرنيني .

74- وعبد الله بن مروان الحراني .

75- وعبد العزيز بن عبد الله البصري .

76- وعبد الجليل بن عطية القيسي .

77- وعبيدة بن الأسود .

78- وعثمان بن عمر الحنفي .

79- وعطية العوفي .

80- وغلي بن غراب .

81- ومحمد بن الحسين البخاري .

82- ومحمد بن صدقة الفدكي .

83- ومحمد بن عبد الملك الواسطي أبو إسماعيل .

84- ومحمد بن عيسى بن سميع .

85- ومحمد بن يزيد بن خنيس العابد .

86- ومحرز بن عبد الله الجزري أبو رجاء .

87- ومصعب بن سعيد أبو خيثمة .

88- وميمون بن موسى المرئي .

89- ويزيد بن أبي زياد .

90- ويزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك .

91- ويزيد بن عبد الرحمن أبو خالد الدالاني .

92- ومن المتأخرين محمد بن محمد بن سليمان الباغندي .

93- والحسن بن مسعود أبو علي ابن الوزير الدمشقي .

94- وعمر بن علي بن أحمد بن الليث أبو مسلم البخاري رحمة الله تعالى عليهم .

ومن القسم الثاني :

95- إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى .

96- وإسماعيل بن خليفة أبو إسرائيل الملائي .

97- وبشير بن زاذان .

98- وتليد بن سليمان .

99- وجابر بن يزيد الجعفي .

100- والحسن بن عمارة .

101- والحسيبن بن عطاء بن يسار .

102- وخارجة بن مصعب .

103- وسعيد بن المرزيان أبو سعيد البقال .

104- وعبد الله بن معاوية بن عاصم الزبيري .

105- وعبد لله بن زياد بن سمعان .

106- وعبد الله بن واقد أبو قتادة الحراني .

107- وعبد الله ب ليهعة المصري .

108- وعبد الرحمن بن زياد بن أنعم .

109- وعلي بن غالب البصري .

110- ومالك بن سليمان الهروي .

111- والهيثم بن علي الطائي .

112- ويحيى بن أبي حية أبو جناب الكلبي .

رحمة الله تعالى عليهم .

هذه أسماء من وقفت عليه ممن وصف بالتدليس (أي تدليس الإسناد) . أنا تدليس الشيوخ ، فلا تحصى أسماء أهله ، مع أنهم ليسوا من غرضنا هنا . وقد أفرد الحافظ صلاح الدين العلائي أسماء المدلسين في كتابه (( جامع التحصيل )) وسردهم على حروف المعجم مبيناً أحوالهم وجملة من اجتمع عنده منهم سبعون نفساً ، وقد زدت عليه أربعين نفساً .

فكل من عليه صورة ((ز)) فهو زائد على من ذكر وقد أفردتهم بالتصنيف في جزء لطيف ، بينت في أحوالهم بياناً شافياً ولله الحمد على ذلك . وقد أفردهم من المتقدمي الحسين بن علي الكرابيسي صاحب الشافعي ، وأبو عبد الرحمن النسائي ، وأبو الحسن الدار قطني رحمهم الله تعالى فجمعت ما ذكروه ، وزدت عليه ما وقع لي من كلام غيرهم ، بعون الله تعالى .

وكل من ذكر هذا ، فهو بحسب ما رأيت التصريح بوصفه بالتدليس من أئمة هذا الشأن ، على التفصيل . وإلا فلو أخذنا به من حيث الجملة لتضاعف هذا العدد جداً فقد روينا عن يزيد بن هارون أنه قال : (( لم أر من أهل الكوفة إلا وهو يدلس إلا مسعراً وشريكاه )) .

قلت : وقد ذكر شريك في المدلسين أيضاً . فما سلم منهم على رأي يزيد بن هارون إلا مسعراً ، ولكن هذا بحسب ما رآهم هو .

وقال الحاكم : أكثر أهل الكوفة يدلسون ، والتدليس في أهل الحجاز قليل جداً . وفي أهل بغداد نادر والله أعلم .

تنبيه

ويلتحق قسم تدليس الشيوخ تدليس البلاد ، كما إذا قال المصري : (( حدثني فلان بالأندلس )) وأرد موضعاً بالفراقة .

أو قال : (( بزقاق حلب )) وأراد موضعاً بالقاهرة .

أو قال البغدادي (( حدثني فلان بما وراء النهر )) وأراد نهر دجلة .

أو قال (( بالرقة )) وأراد بستاناً على شاطئ دجلة .

أو قال الدمشقي (( حدثني بالكرك )) وأراد  كرك نوح وهو بالقرب من دمشق .

ولذلك أمثلة كثيرة ، وحكمه لكراهة لأنه يدخل في باب التشبع وإيهام الرحلة في طلب الحديث إلا إن كان عناك قرينة تدل على عدم إرادة التكثير فلا كراهة . والله الموفق

النوع الثالث عشر :

قوله معرفة الشاذ

قلت : هو في اللغة التفرد ، قال الجوهري : شد يشذ بضم الشين وكرها أي تفرد عن الجمهور .

97- قوله (ص) : (( روينا عن يونس بن عبد الأعلى قال : قال لي الشافعي رضي الله عنه )) إلى آخره .

أسنده الحاكم من طريق ابن خزيمة عن يونس ، والحاصل من كلامهم أن الخليلي يسوي بين الشاذ والفرد المطلق ، فيلزم على قوله أن يكون [في] الشاذ الصحيح وغير الصحيح فكلامه أعم ، وأخص منه كلام الحاكم ، لأنه يقول : إنه تفرد الثقة ، فيخرج تفرد غير الثقة فيلزم على قوله أن يكون في الصحيح الشاذ وغير الشاذ وأخص منه كلام الشافعي ، لأنه يقول (( إنه تفرد الثقة بمخالفة من هو أرجح منه )) . ويلزم عليه ما يلزم على قول الحاكم لكن الشافعي صرح بأنه مرجوح ، وأن الرواية الراجحة أولى ، لكن هل يلزم من 1لك عدم الحكم عليه بالصحة . محل توقف قد قدمت التنبيه عليه في الكلام على نوع الصحيح ؟

وقول المصنف : (( لا إشكال فيه )) . فيه نظر لما أبديته آخراً ، وعلى المصنف إشكال أشد منه وذلك أنه يشترط في الصحيح أن لا يكون شاذاً كما تقدم ويقول : إنه لو تعارض الوصل والإرسال ( قدم الوصل مطلقاً سواء كان رواة الإرسال ) أكثر أو أقل ، حفظ أم لا ، ويختار في تفسير الشاذ أنه الذي يخالف رواية من هو أرجح منه . وإذا كان راوي الإرسال أحفظ ممن روى الوصل مع اشتراكهما في الثقة ، فقد ثبت كون الوصل شاذاً فكيف يحكم له بالصحة مع شرطه في الصحة أن لا يكون شاذاً ؟

هذا في غاية الإشكال . ويمكن أن يجاب عنه بأن اشتراط نفي الشذوذ يف شرط الصحة إنما يقوله المحدثون . وهم القائلون بترجيح رواية الأحفظ إذا تعرض الوصل والإرسال ، والفقهاء وأهل الأصول لا يقولون بذلك ، والمصنف قد صرح باختيار ترجيح الوصل على الإرسال ولعله يرى بعدم اشتراط نفي الشذوذ في شرط الصحيح لأنه هناك لم يصرح عن نفسه باختيار شئ ( بل اقتصر ) على نقل ما عند المحدثين .

وإذا انتهى البحث إلى هذا المجال ارتفع الإشكال وعلم منه أن مذهب أهل الحديث أن شرط الصحيح أن لا يكون الحديث شاذاً وأن من أرسل من الثقات إن كان أرجح ممن وصل من الثقات قدم وكذا بالعكس ، ويأتي فيه الاحتمال عن القاضي ، وهو أن الشذوذ يقدح في الاحتجاج لا في التسمية والله أعلم .

43- قوله (ع) : (( ولكن الخليلي يجعل تفرد الثقة شاذاً صحيحاً )) .

فيه نظر فإن الخليلي لم يحكم له بالصحة ، بل صرح بأنه يتوقف فيه ولا يحتج به والله أعلم .

98- قوله (ص) : (( وحديث مالك عن الزهري ، عن أنس رضي الله عنه قال : (( إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسه المغفر تفرد به مالك عن الزهري )) . انتهى .

تعقبه شيخنا بأنه قد روى من غير طريق مالك فرواه البزار من رواية ابن أخي الزهري وابن سعد في الطبقات وابن عدي فيلا الكامل جميعاً من رواية أبي أويس .

قال : وذكر ابن عدي في الكامل أن معمراً رواه وذكر المزي في الأطراف أن الأوزاعي رواه ثم حكى الشيخ قصة القاضي أبي بكر ابن العربي وأنه قال : (( رويته من ثلاثة عشر طريقاً غير طريق مالك )) وأنه وعد أصحابه بتخريجها ، فما أخرج لهم شيئاً .

وأن ابن مسدي تعقب هذه الحكاية بأنه شيخه فيها كان متعصباً على ابن العربي (يعني فلا يقبل قوله فيه) .

قلت : وهو تعقب غير مرضي ، بل هو على قلة إطلاع بن مسدي ، وهو معذور ، لأن أبا جعفر ابن المرجي راويها في الأصل كان مستبعداً لصحة قول ابن العربي بل هو وأهل البلد . حتى قال قائلهم :

يا أهل حمص ومن بها أوصيكم         بالبر والتقوى وصية مشفق

فخذوا عن العري أسمار الدجى         وخذوا الرواية عن إمام متقي

إن الفتى ذرب اللسان مهذب           إن لم يجد خيراً صحيحاً يخلق

وعنى بأهل حمص أهل أشبيلية ، فلما جكاها أبو العباس البناني لابن مسدي على هذه الصورة ، ولمك يكن عنده على حقيقة ما قاله ابن العربي ، احتاج من أجل الذب عن ابن العربي أن يتهمك البناني ، حاشا وكلا ما علمنا عليه من سوء ، بل ذلك مبلغهم من العلم .

وقد تتبعت طرق هذا الحديث ، فوجدته كما قال ابن العربي من ثلاثة عشر طريقاً عن الزهري غير طريق مالك ، بل أزيد ، فرويناه من طريق الأربعة الذين ذكرهم شيخنا .

5- ومن رواية عقيل ابن خالد .

6- ويونس بن يزيد .

7- ومحمد بن أبي حفصة .

8- وسفيان بن عيينة .

9- وأسامه بن زيد الليثي .

10- وابن أبي ذئب .

11- 12- وعبد الرحمن ومحمد ابني عبد العزيز الأنصاريين .

13- ومحمد بن إسحاق .

14- وبحر بن كنيز السقا .

15- وصالح بن أبي الأخضر .

16- ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي الموالي .

أما رواية ابن أخي الزهري التي عزاها شيخنا لتخريج البزار فقد أخرجها أبو عوانة في صحيحه ، عن أبي إسماعيل محمد بن إسماعيل هو : الترمذي ، حدثنا إبراهيم بن يحيى الشجري ، حدثني أبي عن ابن إسحاق حدثني محمد بن عبد الله بن شهاب ، عن عمه ، عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسه المغفر ورواه الخطيب في تاريخه من طريق أبي بكر النجاد عن الترمذي ، ورواه النسائي في (( مسند مالك )) عن محمد بن نصر ، والبزار في مسنده عن عبد الله بن شبيب كلاهما عن إبراهيم بن يحيى ، وإبراهيم مدني قد أخرج له البخاري في (( الأدب المفرد (( من روايته عن أبيه ولم يذكر في تاريخه فيهما جرحاً . وتكلم فيهما بعضهم من قبل حفظهما والله أعلم .

وأما رواية أبي أويس فقرأت على العماد الفرضي عن القاسم ابن مظفر أن محمد بن هبة الله الفارسي أنبأهم قال : أنبأ علي بن الحسين الحافظ . أنا أبو الفرج بن أبي الرجاء . أنا أبو طاهر بن محمود . أنا أبو بكر ابن المقري في (( معجمه )) , ثنا السلم بن معاذ الدمشقي . حدثنا أحمد بن يحيى الصوفي ثما إسماعيل بن أبان ح ورواه ابن عدي في (( الكامل )) عن محمد بن أحمد بن هارون ، عن أحمد بن موسى البزار عن إسماعيل بن أبان عن أبي أويس عن الزهري عن أنس رضي الله عنه قال : (( إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة حين افتتحها وعلى رأسه مغفر من حديد )) .

قال ابن عدي : هذا يعرف بمالك ، عن الزهري ، وقد روي عن أبي أويس كما ذكرته وعن ابن أخي الزهري ومعمر .

قلت : وقد وقع من وجه آخر قرء على عبد الله بن عمر بن علي وأنا شاهد أن محمد بن أحمد بن خالد أخبرهم قال : أنا عبد الولي البعلي . أنا حماد بن أبي العميد . أنا عبد الله بن أحمد بن محمد بن عبد القاهر . أنا منصور بن بكر بن محمد بن علي بن حميد أنا جدي أبو بكر بن محمد بن علي . ثنا أبو العباس الأصم . ثنا أبو جعفر بن المنادي ثنا يونس بن محمد . ثنا أبو أويس ، عن ابن شهاب عن أنس رضي الله تعالى عنه

قال : إنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح دخل مكة وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه صلى الله عليه وسلم أتاه رجل ، فقال يا رسول الله ! هذا ابن خطل متعلق بأستار الكعبة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( اقتلوه )) .

قلت : ورجال هذا الإسناد ثقات أثبات ، إلا أن في أبي أويس بعض كلام ، وقد جزم جماعة من الحفاظ منهم : البزار أنه كان رفيق مالك في السماع ، وعلى هذا فهذا اللفظ الثاني أشبه أن يكون محفوظاً ، على أن بعض الرواة عن مالك قد رواه عنه باللفظ الأول ، كما بينه الدار قطني في (( غرائب مالك )) رحمه الله تعالى عليهما والله الموفق .

وأما رواية معمر التي لم يعزها شيخنا فرواها أبو بكر بن المقري في معجمه قال : ثنا سعيد بن قاسم ، عن مرثد ، ثنا مؤمل بن اهاب . ثنا عبد الرزاق ح قال ابن المقرئ : وحدثنا محمد بن طيب . ثنا عبد الله بن حمدويه البغلاني ثنا أبو داود السنجي ، ثنا عبد الرزاق ثنا معمر ، عن الزهري عن أنس رضي الله عنه قال : (( إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسه المغفر )) . أخبرينه أبو بكر ( ابن إبراهيم ) الفرضي بالإسناد الذي قدمته آنفاً إلى ابن المقرئ .

ورواه داود بن الزبرقان ، عن معمر ، فأدخل بينه وبين الزهري فيه مالكاً . أخرجه الدار قطني في (( غرائب مالك )) . والخطيب في (( الرواة عن مالك )) . والحاكم في (( المستدرك )) بأسانيد ضعيفة إليه . ورواه الواقدي عن معمر ، فلم يذكر مالكاً ، وسيأتي إسناده إن شاء الله تعالى .

وأما رواية الأوزاعي : فرواها تمام بن محمد الرازي في الجزء الرابع عشر من فوائده قال : (( أنا أبو القاسم ابن علي بن يعقوب من أصل كتابه قال : أنا أبو عمرو محمد بن خلف الأطرويشي الصرار ))

وقال أبو عبد الله بن مندة : (( ثنا جمع بن أبان المؤذن . ثنا هشام بن خالد ، ثنا الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ، عن الزهري ، عن أنس قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسه المغفر )) . لفظ تمام ورواته ثقات ، لكني أظن أن الوليد بن مسلم دلس فيه تدليس التسوية ، لأنه الدار قطني ذكر في (( كتاب الموطآت )) أن جماعة من الأئمة الكبار رووه عن مالك فعد فيه الأوزاعي وابن جريج وابن عيينة وغيرهم . ثن وجدته في (( المديح )) للدار قطني أخرجه من طريق المؤمل بن الفضل ، عن الوليد بن مسلم قال ثنا الأوزاعي عن مالك ، عن الزهري .

وهكذا رواه أبو الشيخ في (( الإقران )) من طريق محمد بن كثير عن الأوزاعي ، عن مالك ، فترجح أن الوليد دلسه . وقد وجدته من رواية محمد بن مصعب عن الأوزاعي أيضاً قال الخطيب في تاريخه : (( أنا الحسن بن محمد الخلال . أنا علي بن عمرو بن سهل الحريري . ثنا محمد بن الحسن بن مقسم من أصل كتابه . ثنا موسى بن الحسن بن أبي عباد ثنا محمد بن مصعب القرقساني . ثنا الأوزاعي عن الزهري فذكره قال الخطيب : هذا وهم على محمد بن مصعب ، فإنه إنما رواه عن مالك لا عن الأوزاعي .

قلت : فكأن الراوي عنه سلك الجادة ، لأنه مشهور بالرواية عن الأوزاعي لا عن مالك والله أعلم .

وأما رواية عقيل بن خالد ، فرواها أبو الحسين بن جميع الحافظ في (( معجمه )) قال : ثنا محمد بن أحمد هو الخولاني ، ثنا أحمد بن شدين ( هو أحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدين ) حدثني أبي عن أبيه عن ابن ليهعة ، عن عقيل عن ابن شهاب ، عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دخل مكة عام الفتح وعلر رأسه المغفر فلما نزعه صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال : ابن خطل متعلق بأستار الكعبة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( اقتلوه )) .

قال ابن شهاب ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ محرماً . رواته معروفون إلا أن فيهم من تكلم فيه ، وليسوا في حد الترك بل يخرج حديثهم في المتابعات والله الموفق .

وأما رواية يونس بن يزيد فقال أبو سعلى الخليلي في (( كتاب الإرشاد )) له حدثني جعفر بن محمد الأندلسي . حدثني أبو بكر : أحمد بن محمد بن إسماعيل المهندس بمصر . حدثني أبي . حدثنا أبو عبيدالله أحمد بن عبد الرحمن بن وهب أنا عمي عبد الله بن وهب عن مالك ويونس بن يزيد ، عن الزهري عن أنس رضي الله عنه قال : (( إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه مغفر )) .

قال الخليلي : رواه الحفاظ عن (عبد الله) بن وهب عن مالك وحده ليس فيه يونس . قال لي جعفر : حدثنا به أحمد من أصل كتابه العتيق قال : وأبوه الثقات .

قلت : كلامه يشعر بتفرد ابن أخي ابن وهب عن عمه به وهو كذلك لكن له طريق أخرى عن يونس كما سيأتي إن شاء الله تعالى . وقرأت بخط الحافظ أبي علي البكري ، قال : قرأت بخط الحافظ أبي الوليد بن الدباغ أنا أو محمد بن عتاب . أنا عبد الله بن عائذ اجازة قال : أن أبو بكر : أحمد بن محمد بن إسماعيل فذكره .

وأما رواية محمد بن أبي حفصة ، فقال الخطيب (( في الرواة عن مالك )) : أن أبو بكر محمد نب الفرج بن علي البزار : أنا محمد بن إسحاق القطيعي الحافظ .

حدثني عبدان بن هشيم بن عبدان . ثنا النضر بن هارون السيرافي ثنا أحمد بن داود بن راشد البصري القرشي . ثنا مهدي بن هلال الراسي . ثنا مالك بن أنس ويونس بن يزيد ومحمد بن أبي حفصة عن الزهري ، عن أنس رضي الله عنه قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم فتح مكة وعلى رأسه صلى الله عليه وسلم مغفر ، فقيل له : إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة قال صلى الله عليه وسلم اقتلوه . لكن مهدي بن هلال ضعيف جداً . وأشار إلى ذلك الحافظ أبو الوليد الدباغ فقال : (( لم ينفرد به مالك ، بل وقع لي من رواية يونس وابن أبي حفصة ومعمر كلهم عن الزهري )) . وأما رواية سفيان بن عيينة ، فقال أبو يعلى في مسنده ثنا محمد بن عباد المكي . ثنا سفيان هو ابن عيينة، عن الزهري عن أنس رضي الله عنه قال : (( إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه مغفر )) . هكذا رويناه في مسند أبي يعلى روايتي ابن المقرئ وابن حمدان . وكذا رويناه في فوائد بشر بن أحمد الاسفرائيني ، عن أبي يعلى ورجاله رجال مسلم .

لكن رواه النسائي من طريق الحميدي عن ابن عيينة عن مالك عن الزهري ، فيحتمل أن يكون ابن عيينة دلسه حين حدث به محمد بن عباد أو سواه محمد بن عباد فقد قدمنا عن الدار قطني أنه عد ابن عيينة في الأكابر الذين رووه عن مالك .

وأما رواية أسامة بن زيد الليثي ، فرواها الحاكم في (( تاريخ نيسابور )) وابن حبان في (( الضعفاء )) من طريق عبدالسلام بن أبي فروة النصيبي عن عبد الله بن موسى عن أسامة بن زيد عن الزهري عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلى رأسه المغفر لكن عبد السلام ضعيف جداً .

وأما رواية ابن أبي ذئب ، فرواها ابن المقري في (( معجمه )) وأبو نعيم في (( الحلية )) عنه ( عن عمرو بن أحمد بن جابر الرملي ) عن محمد بن يعقوب الفرجي عن أحمد بن عيسى ، عن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن الزهري مثله والله تعالى أعلم . لكن أحمد بن عيسى أبو الطاهر ضعيف .

وأما رواية عبد الرحمن ومحمد ابني عبد العزيز فرويناه في فوائد أبي محمد عبد الله بن إسحاق الخراساني ، قال : ثنا أحمد بن الخليلي بن ثابت ثنا محمد بن عمر الواقدي ثنا معمر ومالك ومحمد بن عبد العزيز سمعوا الزهري يخبر عن أنس رضي الله تعالى عنه به . والواقدي ضعيف وعبد الرحمن ضعفه أبو حاتم .

وأما رواية محمد بن إسحاق وبحر بن كنيز السقا ، فذكر الحافظ أبو محمد جعفر الأندلسي نزيل مصر فيما خرجه من حديث أحمد بن محمد بن عمر الجيزي من روايته عن شيوخه المصريين قال بعد أن أخرج هذا الحديث من رواية ابن أخي الزهري : (( اشتهر أن مالكاً تفرد به وقد وقع لنا من رواية بضعة عشر رروه غير مالك ، منهم أبو أويس ومحمد بن إسحاق وبحر بن كنيز السقا وذكر بعض من ذكرنا )) .

قلت : ولم يقع لي روايتها إلى الآن وأخبرني بعض الحفاظ أنه وقف على رواية ابن إسحاق له عن الزهري في (( مسند مالك )) لأبي أحمد بن عدي .

قلت : وقد تقدم في ذكر رواية ابن أخي أن ابن إسحاق رواه عنه عن عمه فالله أعلم .

ثم وقع لي من طريق ابن وهب عن ابن إسحاق عن الزهري لكنه قال عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها . رويناه في (( فوائد )) أبي إسماعيل الهروي الحافظ بإسناد ضعيف .

وأما رواية صالح بن أبي الأخضر ، فذكرها الحافظ أبو ذر الهروي عقب رواية البخاري له عن يحيى بن قزعة عن مالك

قال أبو ذر : (( لم يرو حديث المغفر أحد عن الزهري إلا مالك وقد وقع لنا عن صالح بن أبي الأخضر عن الزهري وليس صالح بذاك .

قلت : ولم تقه لي هذه الرواية إلى الآن . وأما رواية محمد بن عبد الرحمن بن أبي الموالي ، فرواها الدار قطني (( الافراد )) وموسى بن عيسى السراج في (( فوائده )) كلاهما عن عبد الله بن أبي داود ، ثنا إسحاق بن الأخيل العنبسي ثنا عثمان بن عبد الرحمن ثنا ابن أبي الموالي ، عن الزهري ، عن أنس رضي الله تعالى عنه .

قال الدار قطني : تفرد به عثمان بن عبد الرحمن بن أبي الموالي واسمه : محمد بن عبد الرحمن بن أبي الموالي .

قلت : وعثمان هو الوقاصي ضعيف جداً . ورويناه أيضاً من طريق يزيد الرقاشي عن أنس رضي الله عنه متابعاً للزهري . رويناه في فوائد أبي الحسن الفراء الموصلي ، نزيل مصر ويزيد ضعيف . ورويناه هذه القصة أيضاً من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها كما تقدم قريباً .

ومن حديث سعد بن أبي وقاص وأبي برزة الأسلمي رضي الله تعالى عنهما وحديثهما في (( السنن )) للدار قطني . ومن حديث علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وهو في (( المشيخة الكبرى )) لأبي محمد الجوهري . ومن طريق سعيد بن يربوع، والسايب بن يزيد رحمة الله تعالى عليهما وهما في مستدرك الحاكم وألفاظهم مختلفة .

فهذه طرق كثيرة غير طريق مالك ، عن الزهري عن أنس رضي الله عنه فكيف يحمل ممن له أن يتهم إماماً من أئمة المسلمين بغير علم ولا اطلاع . ولقد أطلت في الكلام على هذا الحديث ، وكان الغرض منه الذب عن أعراض هؤلاء الحفاظ ، والإرشاد إلى عدم الطعن والرد بغير اطلاع . وآفة هذا كله الإطلاق في موضع التقييد .

فقول من قال من الأئمة : إن هذا الحديث تفرد به مالك عن الزهري ليس على إطلاقه ، وإنما المراد به بشرط الصحة

وقول ابن العربي : إنه رواه من طرق غير طريق مالك إنما المراد به الجملة سواء صح أو لم يصح ، فلا اعتراض ولا تعارض . وما أجود عبارة الترمذي في هذا فإنه قال بعد تخريجه : (( لا يعرف (كبير أحد) رواه عن الزهري غير مالك )) . وكذا عبارة ابن حبان (( لا يصح إلا من رواية مالك ، عن الزهري )) . فهذا التقييد أولى من ذلك الإطلاق .وهذا بعينه حاصل في الكلام على حديث (( الأعمال بالنيات )) والله الموفق .

تنبيه

مثل الحاكم للشاذ بمثال يتجه عليه من الاعتراض أشد مما اعترض به على المصنف ، فإنه أخرج من طريق محمد بن عبد الله الأنصاري قال : حدثني أبي ، عن ثمامة بن عبد الله بن أنس ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : (( كان منزلة قيس بن سعد رضي الله عنه من النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير )) .

قال الحاكم : (( هذا الحديث شاذ ، فإن رواته ثقات وليس له أصل عن أنس رضي الله تعالى عنه ولا عن غيره من الصحابة رضي الله تعالى عنهم بإسناد آخر )) .

قلت : وهذا الحديث أخرجه البخاري في صحيحه من هذا الوجه والحاكم موافق على صحته إلا أنه يسميه شاذاً . ولا مشاحة في التسمية . وفي الجملة فالأليق في حد (( الشاذ )) ما عرف به الشافعي والله أعلم .

45- قوله (ع) : (( وقد رواه غير يحيى بن سليم ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما

فذكر رواية يونس ين عبيد عن نافع من عند ابن عدي )) .

قلت : ليس هذا متابعاً ليحيى بن سليم عن عبيد الله وقد وجدت له متابعاً .

قال ابن أبي حاتم في (( العلل )) : سألت أبي عن حديث رواه سعيد بن يحيى الأموي ، عن أبيه عن عبيد الله ، عن نافع وعبد الله بن دينار ، عن ابن عمر قال : (( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الولاء وعن هبته )) .

قال : فقال أبي : وإنما أخذه نافع عن عبد الله بن دينار . وذكر الحافظ عماد الدين ابن كثير أن أبا حاتم الرازي رواه أيضاً عن قبيصة بن عقبة ، عن سفيان الثوري ، عن عبيد الله عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما وقد وهم فيه قبيصة فقد خرجه الشيخان في الصحيحين من حديث الثوري عن عبد الله عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما على المحفوظ .

وعلى تقدير أن يكون محفوظاً ، فقد سقط منه عبد الله بن دينار بين نافع وابن عمر رضي الله تعالى عنهما كما أشار إليه أبو حاتم قبل . وقد رويناه من غير طريق نافع أيضاً .

قال الطبراني في (( الأوسط )) حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة ثنا أبي ، عن أبيه عن سفيان الثوري ، عن عمرو بن دينار أنه سمع ابن عمر رضي الله عنه يقول : فذكره .

قال الطبراني : (( لم يروه عن سفيان عن عمرو إلا يحيى بن حمزة تفرد به ولده عنه )) .

قلت : وهو وهم والمحفوظ من حديث الثوري ، عن عبد الله بن دينار كما تقدم والله أعلم .

99- قوله (ص) : (( وقد قال مسلم للزهري نحو تسعين حرفاً )) إلى آخره .

هو في الصحيح من كتاب الإيمان والنذور منه ، واختلفت النسخ في العدد والأكثر تقديم التاء على السين والله أعلم .

100- قوله (ص) : (( وإن كان بعيداً من ذلك رددنا ما انفرد به ، وكان من قبيل الشاذ المنكر )) الخ .

هذا يعطي أن الشاذ والمنكر عنده مترادفان . والتحقيق خلاف ذلك على ما سنبينه بعد إن شاء الله تعالى .

النوع الرابع عشر : المنكر

101- قوله (ص) : (( وإطلاق الحكم على التفرد بالرد أو النكارة أو الشذوذ موجود في كلام كثير من أهل الحديث )) .

قلت : وهذا مما ينبغي التيقظ له ، فقد أطلق الإمام أحمد والنسائي وغير واحد من النقاد لفظ المنكر على مجرد التفرد لكن حيث لا يكون المتفرد في وزن من يحكم لحديثه بالصحة بغير عاضد يعضده .

وأما قول المصنف : والصواب التفصيل الذي بيناه آنفاً في شرح الشاذ ، فليس في عبارته ما يفصل أحد النوعين عن الآخر . نعم هما مشتركان في كون كل منهما على قسمين وإنما اختلافهما في مراتب الرواة فالصدوق إذا تفرد بشئ لا متابع له ولا شاهد ولم يكن عدنه من الضبط ما يشترط في حد الصحيح والحسن ، فهذا أحد قسمي الشاذ فإن خولف من هذه صفته مع ذلك كان أشد في شذوذه ، وربما سماه بعضهم منكراً وإن بلغ تلك الرتبة في الضبط ، لكنه خالف من هو أرجح منه في الثقة والضبط ، فهذا القسم الثاني من الشاذ وهو المعتمد في تسميته .

وأما إذا انفرد المستور أو الموصوف بسوء الحفظ أو المضعف في بعض مشايخه دون بعض بشئ لا متابع له ولا شاهد فهذا أحد قسمي المنكر ، وهو الذي يوجد في إطلاق كثير من أهل الحديث . وإن خولف في ذلك ، فهو القسم الثاني وهو المعتمد على رأي الأكثرين . فإن بهذا فصل المنكر من الشاذ وإن كلاً منهما قسمان يجمعهما مطلق التفرد أو مع قيد المخالفة والله أعلم .

وقد ذكر مسلم في مقدمة صحيحه ما نصه :

(( وعلامة المنكر في حديث المحدث إذا ما عرضت روايته للحديث على رواية غيره من أهل الحفظ والرضى خالفت روايته روايتهم ، أولم تكد توافقها ، فإذا كان الأغلب من حديثه كذلك كان مهجور الحديث غير مقبولة ولا مستعملة )) .

قلت : فالرواة الموصوف بهذا هم المتروكون . فعلى هذا رواية المتروك عند مسلم تسمى منكرة . وهذا هو المختار والله أعلم .

44- قوله (ع) : (( وقد خالف مالكاً في ذلك ابن جريج وابن عيينة وهشيم إلى آخره )) .

أقول : في رواية هشيم مخالفة في المتن شديدة أشد من مخالفة مالك في اسم أحد رواة الإسناد ، فكان التمثيل به أولى لو سلمنا أن مخالفة الثقة توجب النكارة ، وإنما توجب عندنا الشذوذ ، كما حققناه . وبيان مخلفة هشيم أنه رواه عن الزهري بالإسناد المذكور بلفظ (( لا يتوارث أهل ملتين )) .

وقد حكم النسائي وغيره على هشيم بالخطأ فيه . وعندي أنه رواه من حفظه بلفظ ظن أنه يؤدي معناه ، فلم يصب فإن اللفظ الذي أتى به أعم من اللفظ الذي سمعه ، وسبب ذلك أن هشيماً سمع من الزهري بمكة أحاديث ولم يكتبها وعلق بحفظه بعضها فلم يكن من الضابطين عنه ، ولذلك لم يخرج الشيخان من روايته عنه شيئاً والله أعلم .

46- قوله (ع) : (( ولنذكر مثالاً للمنكر )) ، ثم أورد حديث همام ، عن ابن جريج عن الزهري عن أنس رضي الله عنه في وضع الخاتم عند دخول الخلاء )) .

وقد نوزع أبو داود في حكمه عليه بالنكارة مع أن رجاله أن من رجال الصحيح . والجواب أن أبا داود حكم عليه بكونه منكراً ، لأن هماماً تفرد به عن ابن جريج وهماً وإن كانا من رجال الصحيح ، فإن الشيخين لم يخرجا من رواية همام عن ابن جريج شيئاً ، لأن أخذه عنه كان لما كان ابن جريج بالبصرة ، والذين سمعوا من ابن جريج بالبصرة في حديثهم خلل من قبله ، والخلل في هذا الحديث من جهة أن ابن جريج دلسه عن الزهري بإسقاط الواسطة وهو زياد بن سعد ووهم همام في لفظه على ما جزم به أبو داود وغيره هذا وجه حكمه عليه بكونه منكراً ، وحكم النسائي عليه بكونه غير محفوظ أصوب فإنه شاذ في الحقيقة إذ المنفرد به من شرط الصحيح لكنه بالمخالفة صار حديثه شاذاً .

وأما متابعة يحيى بن المتوكل له عن ابن جريج ، فقد تفيد لكن قول يحيى بن معين : لا أعرفه ، أراد به جهالة عدالته لا جهالة عينه ، فلا يعترض عليه بكونه روى عنه جماعة ، فإن مجرد روايتهم عنه لا تستلزم معرفة حاله .

وأما ذكر ابن حبان له في الثقات ، فإنه قال فيه مع ذلك : كان يخطئ وذلك مما يتوقف به عن قبول أفراده . على أن للنظر مجالاً في تصحيح حديث همام ، لأنه مبني على أن أصله حديث الزهري ، عن أنس رضي الله عنه في اتخاذ الخاتم

ولا مانع أن يكون هذا متن آخر غير ذلك المتن وقد مال إلى ذلك ابن حبان فصححهما جميعاً ، ولا علة له عندي إلا تدليس ابن جريج فإن وجد عنه بالتصريح بالسماع فلا مانع من الحكم بصحته في نقدي والله أعلم .

وإذا تقرر كون هذا أيضاً لا يصلح مثالاً للمنكر فلنذكر مثالاً للمنكر غيره . وقد ذكر الحافظ العلائي في هذا المقام

حديث هشام بن سعد عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : (( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أفطر في رمضان فذكر حديث المواقع أهله في رمضان ، وذكر فيه الكفارة وقوله : (( علي أفقر مني )) وزاد في آخر المتن (( وصم يوماً مكانه واستغفر الله )) .

قال العلائي : (( تفرد به هكذا هشام بن سعد وهو متكلم فيه سئ الحفظ ، وخالف فيه عامة أصحاب الزهري الكبار الحفاظ فمن دونهم فإنه عندهم عنه عن حميد بن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة لا عن أبي سلمة وليست عندهم هذه الزيادة .

قلت : وذكر أبو عوانة في صحيحه حديث هشام بن سعد هذا وقال : غلط هشام بن سعد . وأورده ابن عدي في مناكير هشام بن سعد .

وقال أبو يعلى الخليلي :

(( أنكر الحفاظ حديثه في المواقع في رمضان من حديث الزهري عن أبي سلمة وقالوا : إنما رواه الزهري عن حميد ))

قال : ورواه وكيع عنه عن الزهري عن أبي هريرة رضي الله عنه منقطعاً . قال أبو زرعة الرازي : (( أراد وكيع الستر على هشام بن سعد بإسقاط أبي سلمة )) .

تنبيه

قول العلائي الذي أسلفناه أن الزيادة التي في آخر المتن تفرد بها هشام بن سعد ليس كما قال ، فقد تابعه عليها الليث بن سعد وعبد الجبار بن عمر الأيلي كما أخرجه أبو عوانة في صحيحه والبيهقي والله أعلم .

وأما حديث أبي زكير في أكل البلح بالتكر ، فقد أورده الحاكم في (( المستدرك )) لكنه لم يحكم له بالصحة ولا غيرها . وأما ابن الجوزي أبو الفرج ، فكذره في (( الموضوعات )) .  والصواب فيها ما قال النسائي وتبعه ابن الصلاح : (( إنه منكر )) . باعتبار تفرد الضعيف به على إحدى الروايتين . وقد جزم ابن عدي بأنه تفرد به .

وقول الخليلي : إنه شيخ صالح أراد به في دينه لا في حديثه لأن من عادتهم إذا أرادوا وصف الراوي بالصلاحية في الحديث قيدوا ذلك ، فقالوا : صالح الحديث . فإذا أطلقوا الصلاح ، فإنما يريدون به في الديانة . والله أعلم .

النوع الخامس عشر : معرفة الاعتبار

102- قوله (ص) : (( معرفة الاعتبار والمتابعات والشواهد )) .

قلت : هذه العبارة توهم أن الاعتبار قسيم للمتابعة والشاهد وليس كذلك ، بل الاعتبار هو : الهيئة الحاصلة في الكشف عن المتابعة والشاهد .

وعلى هذا فكان حق العبارة أن يقول : معرفة الاعتبار للمتابعة والشاهد . وما أحسن قول شيخنا في منطومته :

(( الاعتبار سبرك الحديث هل         تابع راو غيره فيما حمل ))

فهذا سالم من الاعتراض والله أعلم .

103- قوله (ص) : (( مثال للمتابع والشاهد )) فذكر حديث سفيان عن عمرو عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما حديث (( لو أخذوا اهابها )) .

وذكر أن شاهده عن عبد الرحمن بن وعلة عن ابن عباس رضي الله عنهما حديث (( أيما اهاب دبغ فقد ظهر )) .

وهذا فيه أمران :

أحدهما : أنه ليس مثالاً للمتابعة التامة إذ ( من شرط التامة عنده أن يتابع نفس الراوي لا شيخه كما قال ) ألاً أن يروي الحديث بعينه عن أيوب غير حماد .

قال : فهذه المتابعة تامة ، وأن شيخ الراوي إذا توبع أو شيخ شيخه ، قد يطلق اسم المتابعة ، لكن من تقصر عن الأولى بحسب البعد . وإذا تقرر هذا ، فالمثال ليس مطابقاً للمتابعة التامة . لأن سفيان بن عيينة لم يتابعه أحد عن عمرو على ذكر الدباغ وإنما توبع شيخه عمرو ، عن عطاء .

الثاني : أنه ليس بمطابق أيضاً لما تقدم من أن المتابعة (لمن) دون الصحابي . وأن الشاهد أن يروي حديث آخر بمعناه يعني من حديث صحابي آخر وأن إطلاق الشاهد على غير ذلك قليل ، لأن كلاً من المتابع والشاهد اللذين أوردهما من حديث صحابي واحد وهو ابن عباس رضي الله تعالى عنهما .

وفي الحقيقة عبد الرحمن بن وعلة قد تابع عطاء في روايته عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذا الحكم . وإذا تقرر هذا ، فلنذكر مثالاً للمتابعة والشاهد سالماً من هذا الاعتراض وهو ما رواه الشافعي في ((الأم)) عن مالك عن عبدالله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال ، ولا تفطروا حتى تروه ، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين )) .

فإن الحديث المذكور في جميع الموطآت عن مالك بهذا الإسناد بلفظ ، (( فإن غم عليكم فاقدروا له )) .

فأشار البيهقي إلى الشافعي تفرد بهذا اللفظ عن مالك فنظرنا فإذا البخاري قد روى الحديث في صحيحه فقال : حدثنا عبد الله بن مسلمة القعني ، حدثنا مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر رضي الله عنهما فساقه باللفظ الذي ذكره الشافعي سواء والعجب من البيهقي كيف خفيت عليه ؟

ودل [هذا] على أن مالكاً رواه عن عبد الله باللفظين معاً . وقد توبع عليه عبد الله بن دينار من

وجهين عن ابن عمر رضي الله عنهما .

1- أحدهما : أخرجه مسلم من طريق أبي أسامة ، عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر فذكر الحديث وفي آخره بلفظ (( فإن غم عليكم فاقدروا ثلاثين )) .

2- والثاني : أخرجه ابن خزيمة في صحيحه من طريق  عاصم بن محمد بن زيد عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما بلفظ (( فإن عن عليكم فكملوا ثلاثين )) فهذه متابعة أيضاً لكنا ناقصة . وأما شاهده فله شاهدان :

شاهد لحديث الشافعي :

1- أحدهما : من حديث أبي هريرة رضي الله عنه رواه البخاري عن آدم عن شعبة عن محمد بن زياد عن أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه (( فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين )) .

2- وثانيهما : من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أخرجه النسائي من رواية عمرو بن دينار عن محمد بن حنين عن ابن عباس رضي الله عنهما بلفظ حديث ابن دينار عن ابن عمر رضي الله عنها .

فهذا مثال صحيح بطرق صحيح للمتابعة التامة والمتابعة الناقصة والشاهد باللفظ والشاهد بالمعنى والله الموفق سبحانه .

 

النوع السادس عشر :

معرفة زيادات الثقات

104- قوله (ص) : (( وقد كان أبو بكر النيسابوري )) وذكر غيره مذكورين بمعرفة زيادات الألفاظ الفقيهة في الأحاديث )) إلى آخره .

مراده بذلك الألفاظ التي يستنبط منها الأحكام الفقهية لا ما زاده الفقهاء دون المحدثين في الأحاديث ، فإن تلك تدخل في المدرج لا في هذا . وإنما نبهت على هذا وإن كان ظاهراً ، لأن العلامة مغلطاي استشكل ذلك على المصنف ودل على أنه ما فهم مغزاه فيه ، والله تعالى أعلم .

تنبيه

قال ابن حبان في مقدمة الضعفاء : (( لم أر على أديم الأرض من الأرض يحسن صناعة السنن ويحفظ الصحاح بألفاظها ويقوم بزيادة كل لفظة تزاد في الخبر ثقة حتى كأن السنن كلها نصب عينيه إلا محمد بن إسحاق بن خزيمة فقط )) . والله تعال أعلم .

105- قوله (ص) وقد رأيت تقسيم الزيادات إلى ثلاثة أقسام :

1- أحدها : ما يقع منافياً لما رواه الثقات وهذا حكمه الرد يعني لأنه يصير شاذاً .

2- والثاني : أن لا يكون منافاة ، فحكمه القبول ، لأنه جازم بما رواه وهو ثقة ولا معارض لروايته ، لأن الساكت عنها لم ينفها لفظاً ولا معنى لأن مجرد سكوته عنها لا يدل على أن راويها وهم فيها

3- والثالث : ما يقع بين هاتين المرتبتين مثل زيادة لفظه في حديث لم يذكرها سائر من روى ذلك الحديث .

يعني وتلك اللفظة توجب قيداً في إطلاق أو تخصصاً لعموم ففيه مغايرة في الصفة ونوع مخالفة يختلف الحكم بها . (( فهو يشبه القسم الأول من هذه الحثيثة ويشبه القسم الثاني من حيث أنه لا منافاة في الصورة )) .

قلت : لم يحكم ابن الصلاح على هذا الثالث بشئ . والذي يجري على قواعد المحدثين أنهم لا يحكمون عليه بحكم مستقل من القبول والرد ، بل يرجحون بالقرائن كما قدمناه في مسألة تعار الوصل والإرسال . على أن القسم الأول الذي حكم عليه المصنف بالرد مطلقاً ، قد نوزع فيه وجزم ابن حبان والحاكم وغيرهما بقبول زيادة الثقة مطلقاً في سائر الأحوال سواء اتحد المجلس أو تعدد ، سواء أكثر الساكتون أو تساووا . وهذا قول جماعة من أئمة الفقه والأصول ، وجرى على هذا الشيخ محي الدين النووي في (( مصنفاته )) .

وفيه نظر كثير ، لأنه لا يرد عليهم الحديث الذي يتحد فيرويه جماعة من الحفاظ الأثبات على وجه

ويريه ثقة دونهم في الضبط والاتقان على وجه ( يشتمل على زيادة ) تخالف ما رووه إما في المتن وإما

في الإسناد ، فكيف تقبل زيادته وقد خالفه من لا يغفل مثلهم عنها لحفظهم أو لكثرتهم ، ولا سيما

إن كان شيخهم ممن يجمع حديثه ويعتني بمروياته كالزهري وأضرابه بحيث يقال : إنه لو رواها لسمعها منها حفاظ أصحابه ولو سمعوها لرووها ولما تطابقوا على تركها ، والذي يغلب على الظن في هذا وأمثاله تغليط راوي الزيادة ، وقد نص الشافعي في (( الأم )) على نحو هذا فقال في زيادة مالك ومن تابعه في حديث (( فقد عتق منه ما عتق )) : إنما يغلط الرجل بخلاف من هو أحفظ منه أو بأن يأتي بشئ يشركه فيه من لم يحفظه عنه ، وهم عدد وهو منفرد )) .

فأشار إلى أن الزيادة متى تضمنت مخالفة الأحفظ أو الأكثر عدداً أنها تكون مردودة . وهذه الزيادة التي زادها مالك لم يخالف فيها من هو أحفظ منه ولا أكثر عدداً فتقبل ، وقد ذكر الشافعي رضي الله عنه هذا في مواضع وكثيراً ما يقول : (( العدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد )) .

وقال ابن خزيمة في صحيحه :

(( لسنا ندفع أن تكون الزيادة مقبولة من الحفاظ ، ولكنا نقول : إذا تكافأت الرواة في الحفظ والاتقان فروى حافظ بالأخبار زيادة في خبر قبلت زيادته . فإذا تواردت الأخبار ، فزاد وليس مثلهم في الحفظ زيادة لم تكن تلك الزيادة مقبولة )) .

وقال الترمذي في أواخر الجامع : (( وإنما تقبل الزيادة ممن يعتمد على حفظه )) .

وفي سؤالات السهمي للدار قطني :

(( سئل عن الحديث إذا اختلف فيه الثقات ؟

قال : ينظر ما اجتمع غليه ثقتان فيحكم بصحته ، أو ما جاء بلفظة زائدة ، فتقبل تلك الزيادة من متقن ، ويحكم لأكثرهم حفظاً وثبتاً على من دونه )) .

قلت : وقد استعمل الدار قطني ذلك في (( العلل )) و (( السنن )) كثيراً فقال : في حديث راوه يحيى بن أبي كثير عن أبي عياش عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في النهي عن بيع الرطب بالتمر نسيئة : (( قد رواه مالك وإسماعيل وأسامة بن زيد والضحاك بن عثمان عن أبي عياش ، فلم يقولوا : نيسئة ، واجتماعهم على خلاف ما رواه يحيى يدل على ضبطهم ووهمه )) .

وقال ابن عبد البر في (( التمهيد )) : (( إنما تقبل الزيادة من الحافظ إذا ثبت عنه وكان أحفظ وأتقن ممن قصر أو مثله في الحفظ ، لأنه كأنه حديث آخر مستأنف . وأما إذا كانت الزيادة من غير حافظ ، ولا متقن ، فإنها لا يلتفت إليها . وسيأتي إن شاء الله كلام الخطيب بنحو هذا .

فحاصل كلام هؤلاء الأئمة أن الزيادة إنما تقبل ممن يكون حافظاً متقناً حيث يستوي مع من زاد عليهم في ذلك ، فإن كانوا أكثر عدداً منه أو كان فيهم من هو أحفظ منه أو كان غير حافظ ولو كان في الأصل صدوقاً فإن زيادته لا تقبل .

وهذا مغاير لقول من قال : زيادة الثقة مقبولة وأطلق والله أعلم . واحتج من قبل الزيادة من الثقة بأن

الراوي إذا كان ثقة وانفرد بالحديث من أصله كان مقبولاً ، فكذلك انفراده بالزيادة وهو احتجاج مردود ، لأنه ليس كل حديث تفرد به أي ثقة كان يكون مقبولاً كما سبق بيانه في نوع الشاذ .

ثم إن الفرق بين تفرد الراوي بالحديث من أصله وبين تفرده بالزيادة ظاهر ، لأن تفرده بالحديث لا يلزم منه تطرق السهو والغفلة إلى غيره من الثقات إذ لا مخالفة في روايته بخلاف تفرده بالزيادة إذا لم يروها من هو أتقن منه حفظاً وأكثر عدداً فالظن غالب بترجيح روايتهم على روايته . ومبنى هذا الأمر على غلبة الظن .

واحتج بعض أهل الأصول بأنه من الجائز أن يقول الشارع كلاماً في وقت ، فيسمعه شخص ويزيده في وقت آخر فيحضره غير الأول ، ويؤدي كل منهما ما سمع ( وبتقدير اتحاد المجلس فقد يحضر أحدهما في أثناء الكلام فيسمع ) ناقصاً ويضبطه الآخر تاماً أو ينصرف أحدهما قبل فراغ الكلام ويتأخر الآخر ، وبتقدير حضورها فقد يذهل أحدها أو يعرض له ألم أو جوع أو فكر شاغل ، أو غير ذلك من الشواغل ولا يعرض لمن حفظ الزيادة ، ونسيان الساكت محتمل والذاكر مثبت .

والجواب عن ذلك أن الذي يبحث فيه أهل الحديث في هذه المسألة ، إنما هو في زيادة ( بعض الرواة ) من التابعين فمن بعدهم . أما الزيادة الحاصلة من بعض الصحابة على صحابي آخر إذا صح السند إليه فلا يختلفون في قبولها ( كحديث ) أبي هريرة رضي الله عنه الذي في (( الصحيحين )) في قصة آخر من يخرج من النار ، وإن الله تعالى يقوله له بعد أن يتمنى ما يتمنى لك ذلك ومثله معه ، وقال أبو سعيد الخدري : أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لك ذلك وعشرة أمثاله .

وكحديث ابن عمر رضي الله عنهما (( الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء )) . متفق عليه . وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند البخاري (( فأبردوها بماء زمزم )) .

وإنما الزيادة التي يتوقف أهل الحديث في قبولها من غير الحافظ حيث يقع في الحديث الذي يتحد مخرجه ، كمالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما إذا روى الحديث جماعة من الحفاظ الأثبات العارفين بحديث ذلك الشيخ وانفرد دونهم بعض رواته بزيادة ، فإنها لو كانت محفوظة لما غفل الجمهور من رواته عنها . فتفرد واحد عنه بها دونهم ، مع توفر ( دواعيهم ) على الأخذ عنه وجمع حديثه يقتضي ريبة توجب التوقف عنها .

وأما ما حكاه ابن الصلاح عن الخطيب ، فهو وإن نقله عن الجمهور من الفقهاء وأصحاب الحديث ، فقد خالف في اختياره فقال بعد ذلك : (( والذي نختاره أنالزيادة مقبولة إذا كان راويها عدلاً حافظاً ومتقناً ضابطاً )) .

قلت : وهو توسط بين المذهبين ، فلا ترد الزيادة من الثقة مطلقاً ولا نقبلها مطلقاً . وقد تقدم مثله عن ابن خزيمة وغيره وكذا قال ابن طاهر : إن الزيادة إنما تقبل عند أهل الصنعة من الثقة المجمع عليه

تنبيه

سبق المؤلف إلى التفصيل الذي فصله إمام الحرمين في البرهان فقال : بعد أن حكى عن الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما : (( قبول زيادة الثقة فقال : (( هذا عندي فيما إذا سكت الباقون ، فإن صرحوا بنفي ما نقله هذا الراوي مع إمكان إطلاعهم فهذا يوهن قول قائل الزيادة )) .

وفصل أبو نصر ابن الصباغ في (( العدة )) تفصيلاً آخر بين أن يتعدد المجلس ، فيعمل بهما ، لأنهما كالخبرين أو يتحد ، فإن كان الذي نقل الزيادة واحداً والباقون جماعة لا يجوز عليهم الوهم سقطت الزيادة ، وإن كان بالعكس ، وكان كل من الفريقين جماعة فالقبول ، وكذا إن كان كل منهما واحداً حيث يستويان وإلا فراوية الضابط منهما أولى بالقبول .

وقال الإمام فخر الدين : (( إن كان الممسك عن الزيادة أضبط من الراوي لها فلا تقبل . وكذا إن صرح بنفيها وإلا قبلت )) .

وقال الآمدي وجرى عليه بن الحاجب :

(( إن اتحد المجلس فإن كان من لم يروها ، قد انتهوا إلى حد لا تقتضي العادة غفلة مثلهم عن سماعها والذي رواها واحد فهي مردودة وإن لم ينتهوا إلى هذا الحد فاتفق جماعة الفقهاء والمتكلمين على قبول الزيادة خلافاً لجماعة من المحدثين )) .

قلت : وللأصولين تفاصيل غيره هذه ، فقال بعضهم : تقبل إن كانت غير مغيرة للإعراب .

وقال بعضهم : تقبل ممن لم يكن مشتهراً برواية الزيادة في الوقائع .

وقال بعضهم : تقبل الزيادة إن لم تشتمل على حكم شرعي ويفصل فيها إن اشتملت .

وقال أبو نصر القشيري :

(( إن رواه مرة ، ( ثم نقله ) أخرى وزاد فلا تقبل زيادته وأما إذا أسند زيادة دائماً فتقبل )) .

فائدة

حكى ابن الصلاح عن الخطيب فيما إذا تعارض الوصل والإرسال إن الأكثر من أهل الحديث يرون أن الحكم لمن أرسل . وحكى عنه هنا أن الجمهور من أئمة الفقه والحديث يرون أن الحكم لمن أتى بالزيادة إذا كان ثقة . وهذا ظاهره التعارض ومن أبدى فرقاً بين المسألتين فلا يخلو من تكلف وتعسف .

وقد جزم ابن الحاجب أن الكل بمعنى واحد ، فقال : (( وإذا أسند الحديث وأرسلوه أو رفعه ووقفوه أو وصله وقطعوه ، فحكمه حكم الزيادة في التفصيل السابق )) .

ويمكن الجواب عن الخطيب ، بأنه لما حكى الخلاف في المسألة الأولى عن أهل الحديث خاصة عبر بالأكثر وهو كذلك ، ولما حكى الخلاف في المسألة الثانية عنهم وعن أهل الفقه والأصول صار الأكثر في جانب مقابله ولا يلزم من ذلك دعوى فرق بين المسألتين والله أعلم .

ونقل الحافظ العلائي في شيخه ابن الزملكاني أنه فرق بين مسألتي تعارض الوصل والإرسال والرفع والوقف بأن الوصل في السند زيادة من الثقة فتقبل وليس الرفع زيادة في المتن فتكون علة وتقرير ذلك أن المتن إنما هو قول النبي صلى الله عليه وسلم فإذا كان من قول صحابي فليس بمرفوع فصار منافياً له

لأن دونه من قول الصحابي مناف لكونه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وأما الموصول والمرسل فكل منهما موافق للآخر في كونه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم

قال العلائي : (( وهذه التفرقة قد تقوى في بعض الصور أكثر من بعض ، فأما إذا كان الخلاف في الوقف والرفع على الصحابي بأن يرويه عنه تابعي مرفوعاً ويوقفه عليه تابعي آخر لم يتجه هذا البحث لاحتمال أن يكون حين وقفه أفتى بذلك الحكم وحين رفعه رواه إلا أن يتبين أنهما مما سمعاه منه في مجلس واحد فيفزع حينئذ إلى الترجيح والله أعلم .

106- قوله (ص) : (( فذكر أبو عيسى الترمذي أن مالكاً تفرد من بين الثقات بزيادة قوله من المسلمين )) .

[ اعتراض النووي على ابن الصلاح : ]

اعترض عليه الشيخ محي الدين بقوله :

(( لا يصح التمثيل بهذا الحديث ، لأنه لم ينفرد به ، بل وافقه في الزيادة عمر بن نافع بن عمر والضحاك بن عثمان . والأول في صحيح البخاري ، والثاني في صحيح مسلم )) .

[ تعقب التبريزي على النووي : ]

وتعق الشيخ تاج الدين التبريزي كلام الشيح محي الدين بقوله : (( إنما مثل به حكاية عن الترمذي فلا يرد عليه شئ )) . انتهى .

[ تعقب الحافظ على التبريزي : ]

وهذا التعقب غير مرضي ، لأن الإيراد على المصنف من جهة عدم مطابقة المثال للمسألة المفروضة ولو كان حاكياً ، لأنه أقره فرضية وعلى تقدير عدم الورود من هذه الحثيثة ، فيرد عليه من جهة تعبيره لعبارة الترمذي ، لأن الترمذي لم يطلق تفرد مالك به كما بينه شيخنا عنه .

ثم راجعت كتاب الترمذي فوجدته في كتاب الزكاة قد أطلق كما حكاه عنه المصنف . ولفظه : (( حديث ابن عمر رضي الله عنهما رواه مالك عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما نحو حديث أيوب ، وزاد فيه : (( من المسلمين )) . ورواه غير واحد عن نافع ولم يذكر فيه (( من المسلمين )) .

وفي كتاب (( العلل المفرد )) قد قيد كما حكاه عنه شيخنا . فكأن ابن الصلاح نقل كلامه من كتاب الزكاة ولم يراجع كلامه في العلل والله أعلم .

وأما قول شيخنا : اختلف في زيادتها على عبيد الله بن عمر وعلى أيوب وأحال في بيان ذلك على شرح الترمذي ، فقد رأيت بيان ذلك هنا .

قال ابن عبد البر :

(( ذكر أحمد بن خالد أن بعض أصحابه حدثه عن يوسف بن يعقوب القاضي عن سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن أيوب وقال فيه : (( من المسلمين )) .

وقال ابن عبد البر : وهو خطأ على أيوب والمحفوظ فيه عنه من رواية الحمادين وابن علية وسلام بن أبي مطيع . وعبد الوارث وعبد الله بن شوذب وغيرهم وليس فيه (( من المسلمين )) .

قلت : بل رواية عبد الله بن شوذب عن أيوب قال فيها (( من المسلمين )) . كذلك رواه ابن خزيمة في صحيحه عن الحسن بن عبد الله بن منصور الأنطاكي عن محمد بن كثير عنه .

ثم قال ابن عبد البر :

(( ورواه سعيد بن عبد الرحمن الجمحي عن عبيد الله بن عمر رضي الله عنهما : فزاد فيه (( من المسلمين )) . ثم ساقه من طريقه بإسناده وقال : رواه يحيى القطان وبشر بن المفضل وأبو أسامة وغيرهم عن عبيد الله فلم يذكروها .

قلت : وصلها الدار قطني في السنن أيضاً والحاكم في (( المستدرك )) من طريق سعيد بن عبد الرحمن

وقد أشار أبو داود في السنن إلى رواية سعيد بن عبد الرحمن هذه وقال : المشهور عن عبيد الله ليس فيه (( من المسلمين )) .

وقد رواه الدار قطني في (( السنن )) عن أبي محمد بن صاعد ، عن محمد بن عبد الملك بن زنجويه عن عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن عبيد الله بن عمر رضي الله عنهما وقال فيه : (( على كل مسلم )) ، ثم رواه عن محمد بن إسماعيل الفارسي عن إسحاق الدبري ، عن عبد الرزاق عن الثوري عن عبيد الله بن عمر وابن أبي ليلى كلاهما عن نافع مثله .

قلت : ولم يذكر شيخنا رواية ابن أبي ليلى هذه . وقد روى أيضاً ممن لم يذكره شيخنا عن أيوب بن موسى وموسى بن عقبة ويحيى بن سعيد الأنصاري هكذا عزاه العلامة مغلطاي لتخريج البيهقي ، ولم أر ذلك في السنن الكبير ولا في المعرفة ولا في السنن الصغرى ولا في الخلافيات .

فإن كان لذلك صحة ، فتكون رويت عنهم من طرق غريبة ، والمشهور عنهم بدون هذه الزيادة والله أعلم .

تنبيه

ذكر أبو بكر الرازي الحنفي أن هذه الجملة ليست زيادة في الحديث ، وإنما هما حديثان قالهما النبي صلى الله عليه وسلم في وقتين :

1- أحدهما : بالإطلاق للعموم .

والآخر : بتخصيص بعض أفراده بالذكر . وفيه نظر ، وإنما يتأتى هذا إذا كان الاختلاف من

الصحابة رضي الله عنهم الرواة للحديثين عن النبي صلى الله عليه وسلم . وأما هذا الحديث ، فإن

مخرجه واحد بترجمة واحدة فلا يتأتى (ما) ذكره والله أعلم .

107- قوله (ص) : (( ومن أمثلة ذلك حديث )) جعلت لنا الأرض [مسجداً] وجعلت تربتها لنا طهوراً . (( فهذه الزيادة تفرد بها أبو مالك )) انتهى .

وهذا التمثيل ليس بمستقيم أيضاً ، لأن أبا مالك قد تفرد بجملة الحديث عن بعي بن حراش رضي الله عنه كما تفرد برواية جملته ربعي عن حذيفة رضي الله عنه .

فإن أراد أن لفظة ((تربتها)) في هذا الحديث على باقي الأحاديث في الجملة ، فإنه يرد عليه أنها في حديث علي رضي الله تعالى عنه أيضاً كما نبه عليه شيخنا ، وإن أراد أبا مالك تفرد بها ، وإن رفقته ، عن ربعي رضي الله عنه لم يذكروها كما هو ظاهر كلامه ، فليس بصحيح .

وأما اعتراض العلامة مغلطاي بأنه يحتمل أن يريد بالتربة الأرض لا التراب ، فلا يبقى فيه زيادة ، فقد أجاب عنه شيخنا شيخ الإسلام فقال : (( حمل التربة على التراب هو المتبادر إلى الفهم ، لأنه لو أراد بالتربة الأرض لم يحتج لذكرها هنا لسبق ذكر الأرض وهو قوله صلى الله عليه وسلم : (( جعلت لنا الأرض مسجداً وجعلت تربتها لنا طهوراً )) .

قلت : وهذا يلزم منه إضافة الشئ إلى نفسه ، لأن التقدير حينئذ يكون وجعلت أرض الأرض لنا طهوراً . وفي هذا من الفساد ما لا يخفى والله أعلم .

خاتمة

قياس تفريق ابن حبان في مقدمة الضعفاء بين المحدث والفقيه في الرواية بالمعنى أن يأتي هنا ، فيقال : يفرق أيضاً في قبول الزيادة في الإسناد أو المتن بين الفقيه والمحدث ، فإن كانت الزيادة من محدث في الإسناد قبلت أو في المتن فلا ، لأن اعتناءه بالإسناد أكثر وإن كانت من فقيه في المتن قبلت أو في الإسناد فلا ، لأن اعتناءه بالمتن أكبر .

فإن تعليل ابن حبان للتفرقة المذكورة يأتي هنا سواء ، بل سياق كلامه يرشد إليه والله أعلم .

النوع السابع عشر :

معرفة الافراد

108- قوله : (( الافراد منقسمة إلى ما هو فرد مطلقاً وإلى ما هو فرد بالنسبة إلى جهة خاصة )) ، انتهى .

[ اعتراض مغلطاي على ابن الصلاح : ]

اعترض عليه العلامة مغلطاي بأنه ذكر أنه تبع الحاكم في ذكره هذا النوع (قال) : فكان ينبغي له أن يتبعه في تقسيمه فإنه قسمه إلى ثلاثة أقسام .

قلت : وهو اعتراض عجيب ، فإن الأقسام الثلاثة التي ذكرها الحاكم داخله في القسمين اللذين

ذكرهما ابن الصلاح ، ولا سبيل إلى الإتيان بالثالث ، لأن الفرد إما مطلق وإما نسبي وغاية ما في

الباب أن المطلق ينقسم إلى نوعين :

أحدهما : تفرد شخص من الرواة بالحديث .

والثاني : ينقسم أهل بلد بالحديث دون غيرهم .

(والأول ينقسم إلى أيضاً إلى نوعين) :

أحدهما : يفيد كون المنفرد ثقة ، والثاني لا يفيد . وأما أمثلة الأول فكثيرة ، وقد ذكر شيخنا في منظومة له حديث ضمرة بن سعيد عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي واقد في الثراءة في الأضحى )) .

قال شيخنا : (( لم يروه أحد من الثقات إلا ضمرة بن سعيد ، وله طريق أخرى من حديث عائشة رضي الله عنها سندها ضعيف )) .

وأما أمثلة الثاني ، فكثيرة جداً ومنها في الصحيحين حديث ابن عيينة عن عمرو بن دينار ، عن أبي العباس عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في حصار الطائف . تفرد بها ابن عيينة عن عمرو ، وعمرو عن أبي العباس وأبو العباس عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كذلك .

ومثال النوع الثاني : حديث عائشة رضي الله عنها (( في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء رضي الله عنه له طريقان عنها رواتها مدنيون .

قال الحاكم : (( تفرد أهل المدينة بهذه السنة )) .

وأما النسبي فيتنوع أيضاً أنواعاً :

1- أحدها : تفرد شخص عن شخص .

2- ثانيها : تفرد أهل بلد عن شخص .

3- ثالثها : تفرد شخص عن أهل بلد .

4- رابعها : تفرد أهل بلد عن أهل بلد أخرى .

مثال الأول : حديث عبد الواحد بن أيمن عن أبيه عن جابر رضي الله عنه في قصة الكدية التي عرضت لهم يوم الخندق .

أخرجه البخاري ، وقد تفرد به عبد الواحد عن أبيه . وقد روي من غير حديث جابر رضي الله عنه وأمثلة ذلك في (( كتاب الترمذي )) كثيرة جداً ، بل ادعى بعض المتأخرين أن جميع ما فيه من الغرائب من هذا القبيل . وليس كما قال لتصريحه في كثير منه بالتفرد المطلق .

ومثال الثاني : حديث (( القضاة الثلاثة )) .

تفرد به أهل مرو ، عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه وقد جمعة طرقه في جزء . وكذا حديث يزيد مولى المنبعث ، عن زيد بن خالد الجهني في (( اللقطة )) . تفرد به أهل المدينة عنه .

ومثال الثالث : وهو عكس الذي قبله ، فهو قليل جداً وصورته أن ينفرد شخص عن جماعة بحديث

تفردوا به .

ومثال الرابع : ما رواه أبو داود من حديث جابر رضي الله عنه في قصة المشجوج : (( إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصب على جرحه خرقة )) . قال ابن أبي داود فيما حكاه الدار قطني في (( السنن )) : (( هذه سنة تفرد بها أهل مكة ، وحملها عنهم أهل الجزيرة )) .

وقول ابن الصلاح : (( إلا أن يطلق قائل قوله : تفرد به أهل مكة على ما لا يروه إلا واحد من أهلها

قلت : وهذا الإطلاق هو الأكثر ، فجميع الأمثلة التي مثل بها الحاكم كذلك ، كحديث خالد الحذاء ، عن سعيد بن عمرو ، عن الشعبي عن داود عن المغيرة بن شعبة في النهي عن قيل وقال . تفرد به البصريون عن الكوفيين ، وإنما تفرد به خالد الحذاء وهو واحد .

وحديث الحسين بن داود عن الفضيل بن عياض ، وعن منصور ، عن إبراهيم عن علقمة ، عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله تبارك وتعالى : ( يا دنيا اخدمي من خدمني ) .

قال : تفرد به الخراسانيون عن المكيين ، وإنما تفرد به الحسين ولم يروه غيره ، وهو معدود في مناكيره . وكذلك غالب ما أطلقه أبو داود في كتاب التفرد وكذا ابنه أبو بكر بن أبي داود والله أعلم . وقد يطلقون تفرد الشخص بالحديث ومرادهم بذلك تفرده بالسياق لا بأصل الحديث . وفي مسند البزار من ذلك جملة نبه عليها .

تنبيه

من مظان الأحاديث الأفراد مسند أبي بكر البزار ، فإنه أكثر فيه من إيراد ذلك وبيانه ، وتبعه أبو القاسم الطبراني في (( المعجم الأوسط )) ثم الدار قطني في (( كتاب الأفراد )) وهو ينبئ على اطلاع بالغ ويقع عليهم التعقب فيه كثيراً بحسب اتساع الباع وضيقه أو الاستحضار وعدمه .

وأعجب من ذلك أن يكون المتابع عند ذلك الحافظ نفسه فقد تتبع العلامة مغلطاي على الطبراني ذلك في جزء مفرد .

وإنما يحسن الجزم بالإيراد عليهم حيث لا يختلف السياق أو حيث يكون المتابع ممن يعتبر به ، لاحتمال أن يريدوا شيئاً من ذلك بإطلاقهم والذي يرد على الطبراني ، ثم الدار قطني من ذلك أقوى مما يرد على البزار (لأن البزار) حيث يحكم بالتفرد إنما ينفي علمه ، فيقول : (( لا نعلمه يروي عن فلان إلا من حديث فلان )) . وأما غيره ، فيعبر بقوله : (( لم يروه عن فلان إلا فلان )) . وهو وإن كان يلحق بعبارة البزار على تأويل ، فالظاهر من الإطلاق خلافه والله أعلم .

النوع الثامن عشر :

معرفة العلل

109- قوله (ص) : (( فالحديث المعلل هو الحديث الذي اطلع فيه على علة تقدح في صحته مع أن ظاهره السلامة منه )) .

قلت : وهذا تحرير الكلام الحاكم في (( علوم الحديث )) فإنه قال : (( وإنما يعلل الحديث من أوجه ليس للجرح فيها مدخل ، فإن حديث المجروح ساقط واه وعلة الحديث تكثر في أحاديث الثقات أن يحدثوا بحديث له علة فتخفى عليهم علته ، والحجة فيه عندنا العلم والفهم والمعرفة )) .

[ متى يسمى الحديث معلولاً " ]

فعلى هذا لا يسمى الحديث المنقطع مثلاً معلولاً ، ( ولا الحديث الذي راويه مجهول أو مضعف معلولاً وإنما يسمى معلولاً ) إذا آل أمره إلى شئ من ذلك كونه ظاهر السلامة من ذلك . وفي هاذ رد على من زعم أن المعلول يشمل كل مردود .

وإذا تقرر هذا فالسبيل إلى معرفة سلامة الحديث من العلة كما نقله المصنف عن الخطيب أن يجمع طرقه ، فإن اتفقت رواته واستووا ظهرت سلامته . وإن اختلفوا أمكن ظهور العلة ، فمدار التعليل في الحقيقة على بيان الاختلاف وسأوضحه في النوع الذي بعد هذا [ إن شاء الله تعالى ] وهذا الفن أغمض أنواع الحديث وأدقها مسلكاً ، ولا يقوم به إلا من منحه الله تعالى فهماً غايصاً واطلاعاً حاوياً وإدراكاً لمراتب الرواة ومعرفة ثاقبة ، ولهذا لم يتكلم فيه إلا أفراد أئمة هذا الشأن وحذاقهم وإليهم المرجع في ذلك لما جعل الله فيهم من معرفة ذلك ، والاطلاع على غوامضه دون غيرهم ممن لم يمارس ذلك .

وقد تقصر عبارة المعلل منهم ، فلا يفصح بما استقر في نفسه من ترجيح [ إحدى ] الروايتين على الأخرى [كما] في نقد الصيرفي سواء ، فمتى وجدنا حديثاً قد حكم إمام من الأئمة المرجوع إليهم بتعليله فالأولى اتباعه في ذلك كما نتبعه في تصحيح الحديث إذا صححه . وهذا الشافعي مع إمامته يحيل القول على أئمة الحديث في كتبه فيقول : (( وفيه حديث لا يثبته أهل العلم بالحديث )) .

وهذا حيث لا يوجد مخالف منهم لذلك المعلل ، وحيث يصرح بإثبات العلة فأما إن وجد غيره صححه فينبغي حينئذ توجه النظر إلى الترجيح بين كلاميهما . وكذلك إذا أشار المعلل إلى العلة إشارة ولم يتبين منه ترجيح لإحدى الروايتين ، فإن ذلك يحتاج إلى الترجيح والله أعلم .

قال الحافظ العلائي بعد أن ذكر ما هذا ملخصه :

(( فأما إذا كان رجال الإسنادين متكافئين في الحفظ أو العدد أو كان من أسنده أو رفعه دون من أرسله أو وقفه في شئ من ذلك مع أن كلهم ثقات محتج بهم فههنا مجال النظر واختلاف أئمة الحديث والفقهاء .

[ مسلك أهل الحديث عند تكافؤ المختلفين الرجوع إلى الترجيح : ]

فالذي يسلكه كثير من أهل الحديث بل غالبهم جعل ذلك علة مانعة من الحكم بصحة الحديث مطلقاً

، فيرجعون إلى الترجيح لإحدى الروايتين على الأخرى ، فمتى اعتضدت إحدى الطريقين بشئ من وجوه الترجيح حكموا وإلا توقفوا عن الحديث وعللوه بذلك ، ووجوه الترجيح كثيرة لا تنحصر ولا ضابط لها بالنسبة إلى جميع الأحاديث ، بل كل حديث يقوم به ترجيح خاص وإنما ينهض بذلك الممارس الفطن الذي أكثر من الطرق والروايات ولهذا لم يحكم المتقدمون في هذا المقام بحكم كلي يشمل القاعدة بل يختلف نظرهم بحسب ما يقوم عندهم في كل حديث بمفرده والله أعلم .

[ اعتبار أئمة الفقه والأصول إسناد الحديث ورفعه من باب الزيادة : ]

قال : وأما أئمة الفقه والأصول ، فإنهم جعلوا إسناد الحديث ورفعه كالزيادة في متنه ( يعني كما تقدم تفصيله عنهم ) . ويلزم على ذلك قبول الحديث الشاذ كما تقدم .

ومن المواضع الخفية في الأحاديث المعللة ما ذكره ابن أبي حاتم قال : سألت أبي عن حديث رواه حماد بن سلمة عن عكرمة بن خالد عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من باع عبداً وله مال ... )) الحديث .

فقال : (( قد كنت أستحسن هذا الحديث من ذر الطريق حتى رأيت من حديث بعض الثقات عن عكرمة بن خالد عن الزهري عن ابن عمر رضي الله عنهما فعاد الحديث إلى الزهري ، والزهري إنما رواه عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله تعالى عنهم .

وهو معلول ( يعني لأن نافعاً رواه عن ابن عمر رضي الله عنهما ) فجعل مسألة بيع العبد عن عمر رضي الله عنه ومسألة بيع النخل عن النبي صلى الله عليه وسلم .

قال النسائي : سالم أجل من نافع ولكن القول في هذا قول نافع وكذا قال علي بن المديني والدارقطني

قال العلائي : (( وبهذه النكتة يتبين أن التعليل أمر خفي لا يقوم به إلا نقاد الحديث دون الفقهاء الذين لا اطلاع لهم على طرقه وخفاياها )) .

قلت : وسبب الخفاء في هذا المثال أن عكرمة بن خالد أكبر من الزهري وهو معروف بالرواية عن ابن عمر رضي الله عنهما فلما وجد الحديث من رواية حماد بن سلمة عنه كان ظاهره الصحة وكان يعتضد بها ما رواه الزهري عن سالم عن أبيه ويرجع على رواية نافع خلافاً لما قال ابن المديني والنسائي وغيرهما .

لكن لما فتشت  الطرق تبين أن عكرمة سمعه ممن هو أصغر منه وهو الزهري ، والزهري لم يسمعه من ابن عمر رضي الله عنهما إنما سمعه من سالم فوضح أن رواية حماد بن سلمة مدلسة أو مسواة ورجع هذا الإسناد الذي كان يمكن الاعتضاد به إلى الإسناد الأول الذي حكم عليه بالوهم وكان سبب حكمهم عليه بالوهم كون سالم أو من دونه سلك الجادة ، لأن العادة والغالب أن الإسناد إذا انتهى إلى الصحابي رضي الله تعالى عنه قيل بعده : عن النبي صلى الله عليه وسلم فلما جاء هنا بعد الصحابي ذكر صحابي آخر والحديث من قوله كان الظن غالباً على أن من ضبطه هكذا أتقن ضبطاً

والله أعلم .

قال العلائي : وهذا كله إذا كان الإسناد واحداً من حيث المخرج غير مختلف في الحالات أما إذا اختلف في الوصل والإرسال كأني روي بعضهم عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه حديثاً مرفوعاً ، فيرويه بعضهم عن الزهري ، عن أبي سلمة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً . أو يرويه بعضهم عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه حديثاً مرفوعاً ، فيرويه بعضهم ، عن الأعمش ، عن أبي صالح عن أبي سعيد رضي الله عنه موقوفاً . ففي مثل هذه الصيغة تعليل أحدهما بالآخر ، لكون كل منهما إسناداً برأسه ، ولقوة احتمال كونهما إسنادين عند الزهري أو عند الأعمش كل واحد منهما على وجه .

قلت : وإنما يقوي هذا إذا أتى بهما الراوي جميعاً في وقت واحد وحينئذ ينتفي التعليل ، وشرط هذا كله التساوي في الحفظ أو العدد . فأما إذا كان راوي الوصل أو الرفع مرجوحاً ، فلا . [كما] تقرر غير مرة والله أعلم .

47- قوله (ع) : (( هكذا أعل الحاكم في [ علومه ] هذا الحديث بهذه الحكاية والغالب على الظن عدم صحتها وأنا أتهم بها أحمد بن حمدون القصار راويها عن مسلم ... )) إلى آخره .

قلت : الحكاية صحيحة قد رواها غير الحاكم على الصحة من غير نكارة ، وكذا رواها البيهقي عن الحاكم على الصواب كما سنوضحه ، لأن المنكر منها إنما هو قوله : (( إن البخاري قال : لا أعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث الواحد المعلول ، والواقع أن في الباب عدة أحاديث لا يخفى مثلها على البخاري )) . والحق أن البخاري لم يعبر بهذه العبارة .

وقد رأيت أن أسوق لفظ هذه الحكاية من الطريق التي ذكرها الحاكم وضعفها الشيخ ثم أسوقها من الطريق الأخرى الصحيحة التي لا مطعن فيها ولا نكارة ، ثم أبين حال الحديث ومن أعله أو صححه لتتم الفائدة فأقول :

قال الحاكم في علوم الحديث : (( الجنس الأول من أجناس علل الحديث )) .

مثاله : ما حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب . ثنا محمد بن إسحاق الصاغاني ثنا حجاج بن محمد قال : قال ابن جريج ، عن موسى بن عقبة ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من جلس مجلساً فكثر فيه لغطه ، فقال قبل أن يقوم : سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأنوب إليك )) إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك

قال الحاكم : هذا الحديث من تأمله لم يشك أنه من شرط الصحيح وله علة فاحشة ، وهي ما حدثني أبو نصر : أحمد بن محمد الوراق قال : سمعت أبا حامد بن حمدون القصار يقول : سمعت مسلم بن الحجاج وجاء إلى محمد بن إسماعيل البخاري فقبل بين عينيه وقال : دعني [حتى] أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدثين ، وطبيب الحديث في علله ، حدثك محمد بن سلام ، ثنا مخلد بن يزيد الحراني ، أنا ابن جريج ، عن موسى بن عقبة عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في (( كفارة المجلس )) فما علته ؟ قال محمد بن إسماعيل : (( هذا حديث مليح ولا أعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث إلا أنه معلول ، ثنا به موسى بن إسماعيل ثنا وهيب ،ـ ثنا سهيل ، عن عون بن عبد الله قوله )) . قال محمد بن إسماعيل : هذا أولى ، فإنه لا يذكر لموسى سماع من سهيل ، انتهى .

فيا عجباه ، من الحاكم ، كيف يقول هنا : إن له علة فاحشة ثم يغفل ، فيخرج الحديث بعينه في (( المستدرك )) ويصححه .

ومن الدليل على أنه عقبة في حال كتابته له في (( المستدرك )) (عما) كتبه في (( علوم الحديث )) أنه عقبه في (( المستدرك )) بأن قال : (( هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، إلا أن البخاري أعله برواية وهب ، عن موسى بن عقبة عن سهيل ، عن أبيه عن كعب الأحبار )) ، انتهى .

وهذا الذي ذكره لا وجود له عن البخاري ، وإنما الذي أعله البخاري في جميع طرق هذه الحكاية هو الذي ذكره الحاكم أولاً . وذلك من طريق وهيب عن سهيل ، عن عون بن عبد الله لا ذكر لكعب فيه البتة ، وبذلك أعله أحمد بن حنبل وأبو حاتم وأبو زرعة وغيرهم كما سأوضحه ، وعندي أو الوهم فيها من الحاكم في حال كتابته في (( علوم الحديث )) ، لأنه رواها خارجاً عنه على الصواب رواها عنه البيهقي في (( المدخل )) ومن طريقه الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في (( تاريخه )) عن أبي المعالي الفارسي عنه قال : أنا أبو عبد الله الحافظ ( يعني الحاكم ) قال : (( سمعت أبانصر الوراق فذكر الحكاية إلى قوله : (( في كفارة المجلس )) وزاد فقال : قال البخاري :

وحدثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين قال : ثنا حجاج بن محمد ، عن ابن جريج حدثني موسى بن عقبة ... )) وساق الحديث ، ثم قال :

قال محمد بن إسماعيل : هذا حديث مليح ولا أعلم بهذا الإسناد في الدنيا غير هذا إلا أنه معلول ... وذكر باقي القصة .

فقوله : (( لا أعلم بهذا الإسناد لا اعتراض فيه )) بخلاف تلك الرواية التي فيها (( لا أعلم في الباب )) ، فإنه يتجه عليه ما اعترض به الشيخ من أن في الباب عدة أحاديث غير هذا الحديث . وقد وقعت لي هذه الحكاية من وجه آخر رويناها في (( كتاب الإرشاد )) للحافظ أبي يعلى الخليل قال : (( أنا أبو محمد المخلدي في كتابه أنا أبو حامد الأعمش هو أحمد بن حمدون الحافظ قال : كنا عند محمد بن إسماعيل البخاري بنيسابور فجاء مسلم بن الحجاج فسأله عن حديث عبيد الله بن عمر عن أبي الزبير عن جابر في قصة العنبر )) .

قال : فقرأ عليه إنسان حديث حجاج بن محمد عن ابن جريج عن موسى ابن عقبة عن سهيل ، عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في (( كفارة المجلس )) .

فقال مسلم : في الدنيا أحسن من هذا ؟ تعرف بهذا الإسناد في الدنيا حديثاً غير هذا ؟

فقال محمد بن إسماعيل : لا . إنه معلول .

فقال مسلم : لا إله إلا أنت وارتعد أخبرني به فقال : استر ما ستر الله فألح عليه وقبل رأسه وكاد أن يبكي فقال : اكتب إن كان ولا بد حدثنا موسى ثنا وهب ثنا موسى بن عقبة عن عون عن عبد الله . فقال له مسلم لا يبغضك إلا حاسد وأشهد أن ليس في الدنيا مثلك .

قلت : وهكذا رواها الخطيب في تأريخه عن أبي حازم العبدري عن الحسن بن أحمد الزنجوني عن أحمد بن حمدون مثله . فهذا اللفظ أولى بأن يعزى إلى البخاري من اللفظ العزو له في كلام الحاكم في (( علوم الحديث )) .

على أن بعض المتأخرين من الحفاظ أول الكلام الذي في (( علوم الحديث )) فقال : (( الذي ينبغي أن يحمل عليه كلامه في هذه الرواية وغيرها أن يكون مراده بالباب رواية أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وبالحديث طريق ابن جريج عن موسى بن عقبة عن سهيل عن أبي هريرة رضي الله عنه .

قلت : وهو حمل متعسف ظاهر التكلف ، ثم أنه يرد عليه ما فر منه فإنه روى من رواية أبي هريرة رضي الله عنه من غير هذا الوجه . وذلك فيما رواه أبو داود في سننه من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال عن سعيد المقبري ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص موقوفاً نحو هذا الحديث .

قال عمرو بن الحارث : وحدثني بنحوذلك عبد الرحمن بن أبي عمرو عن المقبري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم . وأخرجه ابن حبان في صحيحه والطبراني في الدعاء من طريق ابن وهب هذه .

ولما أخرج الترمذي حديث ابن جريج المبدأ بذكره في (( كتاب الدعوات )) من جامعه عن أبي عبيدة بن أبي السفر ، عن حجاج قال : هذا حديث حسن [صحيح] غريب لا نعرفه من حديث سهيل إلا من هذا الوجه )) . انتهى .

وهو متعقب أيضاً وقد عرفناه من حديث سهيل من غير هذا الوجه فرويناه في الخلعيات مخرجاً من أفراد الدار قطني من طريق الواقدي ثنا عاصم ابن عمر وسليمان بن بلال كلاهما عن سهيل به . ورويناه في كتاب الذكر لجعفر الفرباني قال : ثنا هشام بن عمار . ثنا إسماعيل بن عياش . ثنا سهيل . ورويناه في (( الدعاء )) للطبراني من طريق ابن وهب قال : حدثني محمد بن أبي حميد عن سهيل . فهؤلاء أربعة رووه عن سهيل من غير هذا الوجه الذي أخرجه الترمذي فلعله إنما نفى أن يكون يعرفه من طريق قوية ، لنه الطرق المذكورة لا يخلو واحد منها من مقال .

أما الأولى : فالواقدي متروك الحديث .

وأما الثانية : فإسماعيل بن عياش مضعف في غير روايته عن الشاميين . ولو صرح بالتحديث .

وأما الثالثة : فمحمد بن أبي حميد وإن كان مدنياً ، لكنه ضعيف أيضاً وقد سبق الترمذي أبو حاتم إلى ما حكم به من تفرد تلك الطريق عن سهيل ، فقال : فيما حكاه ابنه عنه في (( العلل )) : (( لا أعلم روى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في شئ من طريق أبي هريرة رضي الله عنه .

قال : وأما رواية إسماعيل بن عياش ، فما أدري ما هي ؟ إنما روى عنه إسماعيل أحاديث يسيرة )) .

فكأن أبا حاتم استبعد أن يكون إسماعيل حدث به ، لن هشام بن عمار تغير في آخر عمره ، فلعله رأى أن هذا مما خلط فيه ، ولكت أورد ابن أبي حاتم على إطلاق أبيه طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة التي قدمناها ، ثم اعتذر عنه بقوله : كأنه لم يصحح رواية عبد الرحمن بن أبي عمرو عن المقبري

وهذا يدلك على أنهم قد يطلقون النفي ، ويقصدون به نفي الطرق الصحيحة ، فلا ينبغي أن يورد على إطلاقهم مع ذلك الطرق الضعيفة والله الموفق .

وذكر الدار قطني هذا الحديث في (( كتاب العلل )) وحكى عن أحمد بن حنبل أنه قال : حديث ابن جريج عن موسى بن عقبة وهم قال : والصحيح قول وهيب عن سهيل عن عون بن عقبة بن عبد الله قال أحمد : وأخشى أن يكون ابن جريج دلسه على موسى بن عقبة أخذه عن بعض الضعفاء عنه . قال الدار قطني : والقول قول أحمد .

وقال ابن أبي حاتم في (( كتاب العلل )) :

(( سألت أبي وأبا زرعة عن حديث ابن جريج (يعني هذا) فقالا : (( هذا خطأ رواه وهيب عن سهيل عن عون بن عبد الله موقوفاً وهذا أصح . قلت لأبي : فالوهم ممن هو .

قال : يحتمل أن يكون من ابن جريج ( ويحتمل أن يكون من سهيل قال : وأخشى أن يكون ابن جريج دلسه ) عن موسى بن عقبة أخذه من بعض الضعفاء )) .

وقال في موضع آخر : (( لم يذكر فيه ابن جريج الخبر فأخشى أن يكون أخذه عن إبراهيم بن أبي يحيى )) .

[ إتفاق جماعة من الأئمة على وجود الوهم في هذه الرواية : ]

قلت : فاتفق هؤلاء الأئمة على أن هذه الوراية وهم ، لكن لم يجزم أحد منهم بوجه الوهم فيه ، بل اتفقوا على تجويز أن يكون ابن جريج دلسه ، وزاد أبو حاتم تجويز أن يكون الوهم فيه من سهيل . فأما الخشية الأولى ، فقد أمناها لوجودنا هذا الحديث من طرق عدة عن ابن جريج قد صرح فيها بالسماع من موسى .

[ الطرق التي صرح فيها ابن جريج بالتحديث : ]

منها : ما تقدم عن البخاري في مساق البيهقي ، عن الحاكم .

ومنها : ما رويناه في (( معجم أبي الحسين بن جميع )) قال : (( ثنا جعفر بن محمد الهمداني . ثنا

هلال بن العلاء ثنا حجاج بن محمد ثنا ابن جريج أخبرني موسى بن عقبة )) .

وكذا رويناه في (( أمالي الضبي )) من طريق الزعفراني : ثنا حجاج قال قال ابن جريج أخبرني موسى . وكذا أخرجه الحسين بن الحسن المروزي في زيادات البر والصلاة قال : أنا حجاج بن محمد به . وكذا رواه الطبراني ، عن أحمد بن زياد الرقي ، عن حجاج به أخرجه أبو نعيم في علوم الحديث عنه

وقال الطحاوي : ثنا أبو بشر الرقي : ثنا حجاج بن محمد كذلك لكن المحفوظ عن حجاج ليس فيه الخبر كذا هو في رواية الجم الغفير عنه نعم رويناه في (( فوائد سمويه )) قال :

(( ثنا سليمان بن داود وهو الهاشمي ثنا أبو صفوان : عبد الله بن سعيد ابن عبد الملك . ثنا ابن جريج حدثني موسى بن عقبة ... )) فذكره . وكذا رويناه في (( فوائد الدسكري )) من طريق أسد بن موسى ، عن سعيد بن سالم ، عن ابن جريج أخبرني موسى . ورويناه في (( المعجم الأوسط )) من طريق سفيان ، عن ابن جريج أخبرني موسى )) . فزال ما خشيناه من تدليس ابن جريج بهذه الروايات المتظافرة عنه بتصريحه بالسماع من موسى . وبقي ما خشيه أبو حاتم من وهم سهيل فيه . وذلك أن سهيلاً كان قد أصابته علة نسي من أجلها بعض حديثه ولأجل هذا قال فيه أبو حاتم : (( يكتب حديثه ولا يحتج به )) .

[ ترجيح رواية وهيب على رواية موسى بن عقبة : ]

فإذا اختلف عليه ثقتان في إسناد واحد أحدهما أعرف بحديثه وهو وهيب من الآخر وهو موسى بن عقبة قوي الظن بترجيح رواية وهيب ، لاحتمال أن يكون عند تحديثه لموسى بن عقبة لم يستحضره كما ينبغي وسلك فيه الجادة فقال : عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه كما هي العادة في أكثر أحاديثه ، ولهذا قال البخاري في تعليله (( لا نعلم لموسى سماعاً من سهل )) .

(يعني) أنه إذا كان غير معروف بالأخذ عنه ووقعت عند رواية واحدة خالفه فيها من هو أعرف بحديثه وأكثر له ملازمة رجحت على تلك الرواية المنفردة . وبهذا التقرير يتبين عظم موقع كلام الأمة المتقدمين وشدة فحصهم وقوة بحثهم وصحة نظرهم وتقدمهم بما يوجب المصير إلى تقليدهم في ذلك والتسليم لهم فيه وكل من حكم بصحة الحديث مع ذلك إنما مشى فيه على ظاهر الإسناد كالترمذي كما تقدم وكأبي حاتم ابن حبان فإنه أخرجه في صحيحه وهو معروف بالتساهل في باب النقد ، ولا سيما كون الحديث المذكور في فضائل الأعمال والله أعلم .

وأما قول شيخنا : إنه ورد في حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم فذكر منهم ثمانية وهم :

1- أبو برزة الأسلمي .

2- ورافع بن خديج .

3- والزبير بن العوام .

4- وعبد الله بن مسعود .

5- وعبد الله بن عمرو .

6- والسائب بن يزيد .

7- وأنس .

8- وعائشة رضي الله تعالى عنهم .

وأنه بين أحاديثهم في تخريج أحاديث الأحياء فهو كما قال رضي الله تعالى عنه لكنه إنما بينها في التخريج الكبير الذي مات عن أكثره وهو مسودة فقد لا يصل إلى الفائدة منه كل أحد فرأيت عزوها إلى من أخرجها على طريق الاختصار بزيادة كثيرة جداً في العزو إلى المخرجين .

1- أما حديث أبي برزة ورافع بن خديج رضي الله تعالى عنهما . فهما حديث واحد اختلف فيه على الراوي عنهما أخرجه الدارمي وأبو داود والنسائي من طريق أبي هاشم الرماني ، عن أبي العالية عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه ورجال إسناده ثقات إلا أنه اختلف فيه عن أبي العالية فرواه الطبراني في الصغير والحاكم في المستدرك من طريق مقاتل ابن حبان عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية عن رافع بن خديج رضي الله عنه وعلى أبي العالية فيه اختلاف آخر ، فقد ذكر أبو موسى المديني أن الربيع بن أنس رواه أيضاً عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب وعلى أبي العالية فيه اختلاف آخر ، فقد رواه زياد بن الحصين عن أبي العالية عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً .

وذكر أبو موسى المديني أن جريراً رواه عن فضيل بن عمرو ، عن زياد بن حصين عن معاوية كذا قال وكأنه تصحيف وإنما هو عن زياد بن حصين عن أبي العالية .

وكذا رويناه في فوائد ابن عمشليق من طريق أبي نعيم إلى زيادات البر والصلة للحسين بن الحسن المروزي عن مؤمل بن إسماعيل كلاهما عن سفيان الثوري عن منصور عن فضيل بن عمرو عن زياد عن أبي العالية مرسلاً وذكر ابن أبي حاتم في (( العلل )) عن أبيه وأبي زرعة أن المرسل أشبه والله أعلم

[ حديث الزبير : ]

وأما حديث الزبير بن العوام فرواه الطبراني في (( الصغير )) في ترجمة محمد بن علي الطرائفي من طريق عبد العزيز بن صهيب عن حبة مولى الزبير (عن الزبير) بن العوام قال : قلنا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا إذا قمنا من عندك أخذنا في أحاديث الجاهلية ، فقال صلى الله عليه وسلم : (( إذا جلستم تلك المجالس التي تخافون فيها على أنفسكم فقولوا عند قيامكم : سبحانك اللهم وبحمدك نشهد أن لا إله إلا الله نستغرك ونتوب إليك يكفر عنكم ما أصبتم فيها )) .

قال الطبراني : لا يروى عن الزبير (بن العوم) إلا بهذا الإسناد .

[ حديث ابن مسعود : ]

وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه ذكر الخطيب في (( المؤتلف )) من طريق الطبراني ، وعن العتيقي ، عن شيخ (شيخ) الطبراني وهو : أبو الفضل الشيباني ، وهو ضعيف .

وفي رواية العتيقي : فإنها كفارات الخطيايا والقاذورات .

ورواه ابن عدي في الكامل في ترجمة يحيى بن كثير صاحب البصري من روايته عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن السلمي عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعً (( كفارة المجلس أن يقول العبد )) فذكره .

وهذا من جملة مناكير يحيى بن كثير المذكور وهو ضعيف عندهم لكنه إنما تفرد برفعه فقد رواه ابن أبي الدنيا في (( كتاب الذكر )) له قال : ثنا خلف بن هشام ، ثنا خالد بن عبد الله هو الطحان أحد الأثبات ، عن عطاء بن السائب )) فذكره موقوفاً . وكذا أخرجه الحسين بن الحسن المروزي في (( زيادات البر والصلة )) له عن سعيد بن سليمان عن خالد .

[ حديث عبد الله بن عمرو : ]

وأما حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فرواه الطبراني من طريق محمد بن جامع العطار وفيه مقال عن حصين بن نمير عن حصين بن عبد الرحمن ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره .

وخالفه محمد بن فضيل ، فرواه في (( كتاب الدعاء )) عن حصين بن عبد الرحمن موقوفاً . وكذا رواه خالد بن عبد الله الواسطي ، وعبد الله بن إدريس الأودي وغير واحد عن حصين موقوفاً . وله طريق أخرى موقوفة من رواية سعيد المقبري تقدم ذكرها .

[ حديث السائب : ]

وأما حديث السائب بن يزيد رضي الله عنه فرويناه في (( الآثار )) للطحاوي ، و (( معجم الطبراني الكبير )) و (( فوائد سمويه )) من حديث الليث بن سعد عن يزيد بن الهاد ، عن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر قال بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ، فذكر مثل حديث ابن جريج المبدأ بذكره .

قال يزيد بن الهاد : فحدثت بهذا الحديث يزيد بن خصيفة فقال : (( هكذا حدثني السائب بن يزيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجاله ثقات اثبات والسائب قد صح سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم . فالحديث صحيح ، والعجب أن الحاكم لم يستدركه مع احتياجه إلى مثله وإخراجه لما هو دونه .

[ حديث أنس : ]

وأما حديث أنس بن مالك فرواه الطحاوي والطبراني في (( الأوسط )) وسمويه في (( فوائده )) كلهم من طريق عثمان بن مطر ، عن ثابت البناني عنه نحو لفظ ابن مسعود رضي الله عنه وعثمان ضعيف .

وقال ابن أبي حاتم في العلل عن أبيه :

(( هذا خطأ رواه حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أبي الصديق الناجي قوله )) .

وأخرجه الحسين بن الحسن المروزي في (( زيادات البر والصلة )) عن سعيد بن سلميام ، عن فلان بن غياث ، حديثنا ثابت بن أنس رضي الله عنه قال : (( جاء جبريل عليه الصلاة والسلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:(( إن كفارات المجلس سبحانك اللهم وبحمدك أستتغفرك وأتوب إليك ))

[ حديث عائشة : ]

وأما حديث عائشة رضي الله عنها فأخرجه النسائي في (( اليوم والليلة )) من طريق خلاط بن سليمان الحضرمي عن خالد بن أبي عمران عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنه قالت : ما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً ولا تلا قرآناً ولا صلى إلا ختم ذلك بكلمات ، فقلت : يا رسول الله ! ما أكثر ما تقول هذه الكلمات فقال صلى الله عليه وسلم : نعم . من قال خيراً كن طابعاً له على ذلك الخير ، ومن قال شراً كانت كفارة له سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك . إسناده صحيح أيضاً .

وله طريق أخرى عن عائشة رضي الله عنها أخرج الحاكم في الدعوات من المستدرك من طريق يحيى بن بكير عن الليث ، عن ابن الهاد عن يحيى بن سعيد ، عن زرارة بن أوفى عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس إلا قال : سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك )) . فقلت له : يا رسول الله ما أكثر ما تقول هؤلاء الكلمات إذا قمت ؟ قال صلى الله عليه وسلم : (( لا يقولن أحد يقوم من مجلسه (إلا غفر له) ما كان منه في ذلك المجلس )) . وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه .

وروى عن عائشة رضي الله عنها بلفظ آخر أخرجه أبو أحمد العسال في (( كتاب الأبواب )) من طريق عمرو بن قيس عن أبي إسحاق عن الأسود ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من مجلسه قال : سبحانك اللهم وبحمدك (لا إله إلا أنت) أستغفرك وأتوب إليك فقلت : يا رسول الله ! إن هذا لمن أحب الكلام إليك قال صلى الله عليه وسلم : (( إني لأرجو أن لا يقولها عبد إذا قام من مجلسه إلا غفر له )) . وإسناده حسن .

ورويناه من وجه آخر عن الليث ، عن يزيد بن الهاد ، عن يحيى بن سعيد ، عن زرارة ، عن عائشة رضي الله عنها وأخرجه الطحاوي ، عن محمد بن خزيمة وفهد كلاهما عن عبد الله بن صالح بن الليث عن يحيى بن سعيد ، عن زرارة ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس إلا قال فذكره ، فقلت له : يا رسول الله ما تقول هؤلاء الكلمات فذكره .

[ حديث جبير بن مطعم : ]

وأما حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه فرواه النسائي في (( اليوم والليلة )) وابن أبي عاصم في (( كتاب الدعاء )) من طريق ابن عيينة عن ابن عجلان عن مسلم بن أبي حرة ، وداود بن قيس ، عن نافع بن جبير ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من قال سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك في مجلس ذكر كانت كالطابع يطبع عليه . ومن قالها في غير مجلس ذكر كانت كفارة )) .

رجاله ثقات إلا أنه اختلف في وصله وإرساله ، فقال ابن صاعد : تفرد به عبد الجبار بن العلاء ، عن ابن عيينة بقوله : عن نافع بن جبير ، عن أبيه .

قلت : ورواه الليث بن سعد عن عجلان فلم يقل عن أبيه جعله عن نافع بن جبير مرسلاً . وأخرجه الحسين بن الحسن المروزي في (( كتاب البر والصلة )) له عن ابن عيينة وعلي بن غراب كليهما عن ابن عجلان عن مسلم بن أبي حرة ، عن نافع بن جبير نحوه مرسلاً .

ورويناه في (( فوائد علي بن حجر )) ، عن إيماعيل بن جعفر ، عن داود بن قيس ، عن نافع بن جبير مرسلاً أيضاً . لكن رواه الحاكم في (( المستدرك )) والطبراني في (( الكبير )) من طريق أخرى عن داود بن قيس موصولاً .

ووقع لأبي عمر بن عبد البر في هذا الحديث خطأ شديد ، وتبعه عليه شيخنا في (( محاسن الاصطلاح )) ، فإنه قال في حرف النون في الاستيعاب : (( نافع بن صبرة فخرج حديثه ، عن أهل المدينة مثل حديث أبي هريرة في كفارة المجلس )) . هذا كلامه ، والذي أوقعه في هذا الخطأ التصحيف ، فإنه صحف جبير صبرة وهي زيادة الهاء كانت علامة الإهمال على الراء .

ونقل شيخنا كلامه من الاستيعاب مقلداً له فيه ولم ينقده ، والله سبحانه وتعالى الموفق . فهذا تخريج الطرق التي ذكرها شيخنا .

[ حديث أبي بن كعب ومعاوية : ]

ووقع لي في الباب أحاديث لم يذكرها شيخنا منها :

(1) ، (2) حديث أبي بن كعب ومعاوية كما تقدم في تضاعيف الكلام على طريق أبي برزة رضي الله عنه .

[ حديث ابن عمر : ]

3- ومنها : حديث ابن عمر رضي الله عنهما أخرجه الحاكم في الدعوات من (( المستدرك )) من طريق الليث بن سعد عن خالد بن أبي عمران ، عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنها . إنه لم يكن (يجلس) إلا قال : اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت الحديث .

وفيه : وبارك لي في سمعي وبصري إلى قوله : (( ولا تسلط علي من لا يرحمني )) وفيه : فسئل ابن عمر رضي الله عنهما عنهن فقال : (كان) رسول الله صلى الله عليه وسلم يختم بهن مجلسه .

[ حديث أبي أمامة :]

4- ومنها : حديث أبي أمامة الباهلي ر

ضي الله تعالى عنه . وقد رواه أبو يعلى في (( مسنده )) وابن السن في (( اليوم والليلة )) من طريق جعفر بن الزبير ، عن القاسم عنه مرفوعاً : ما جلس قوم في مجلس فخاضوا في حديث فاستغفروا الله عز وجل قبل أن يتفرقوا إلا غفر لهم ما كانوا فيه .

وجعفر بن الزبير المذكور متروك الحديث والله سبحانه وتعالى أعلم .

[ حديث أبي سعيد : ]

5- ومنها : حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه رويناه في (( كتاب الذكر )) لجعفر الفريابي قال : ثنا عمرو بن علي ثنا يحيى بن سعيد ثنا شعبة أبو هاشم عن أبي مجلز ، عن قيس بن عباد ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : (( من قال في مجلسه : سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ختمت (بخاتم) فلم تكسر إلى يوم القيامة )) . إسناده صحيح وهو موقوف ، لكن له حكم المرفوع ، لأن مثله لا يقال بالرأي .

[ حديث علي : ]

6- ومنها : حديث علي بن أبي طالي رضي الله عنه رواه أبو علي ابن الأشعث في (( كتاب السنن )) بإسناده المشهور عن أهل البيت رضوان الله تعالى عليهم وهو ضعيف .

[ حديث رجل من الصحابة : ]

7- ومنها : حديث رجل من الصحابة رضي الله عنهم لم يسم رويناه في (( فوائد ابن خرشيد )) قوله من طريق أبي الأحوص عن أبي ( فروة عن عروة ) بن الحارث الهمداني . عن أبي معشر وهو زياد بن كليب قال : حدثنا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس مجلساً ، فلما أراد أن يقوم قال : (( سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك )) . فقال رجل من القوم : ما هذا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : (( كلمات علمنيهن جبريل ، كفارات لما في المجلس )) . إسناده صحيح .

وأخرجه ابن أبي شيبة عن أبي الأحوص وقال الفريابي : ثنا سفيان ( عن أبي إسحاق ) ، عن أبي الأحوص أنه كان إذا أراد أن يقوم قال : (( سبحان الله وبحمده )) .

[ حديث أبي أيوب : ]

8- ومنها : حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه رويناه في الذكر أيضاً لجعفر قال : ثنا محمد بن إسماعيل هو البخاري ثنا ابن أبي مريم ، ثنا ابن ليهعة أخبرني يزيد بن أبي حبيب أن أبا الخير أخبره ، عن أبي رهم أنه سمع أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه يقول : (( أنه ليس من أهل مجلس يذكرون فيه من اللغو والباطل حتى يلتزم بعضهم بعضاً بالرؤوس ، ثم يقومون ، فيقولون : نستغفر الله ونتوب إليه إلا غفر الله لهم ما أحدثوه في المجلس )) . وابن ليهعة ضعيف يقوي حديث بالشواهد . وفي

الإسناد ثلاثة من التابعين بعضهم عن بعض أولهم يزيد بن أبي حبيب .

وروى الفريابي في (( كتاب الذكر )) عن قتيبة ، عن خلف بن خليفة عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي قال : كفارة المجلس أن تقول حين تقوم : (( سبحان الله وبحمده ، أشهد أن لا إلا الله أستغفره وأتوب إليه )) .

ورويناه في (( الكنى )) لأبي بشر الدولابي قال : حدثني عبد الصمد بن عبد الوهاب ثنا يحيى بن صالح ثنا عبيد الله بن عمرو عن عبد الكريم وهو الجزري أي عن يزيد الفقير قال : إن جبريل عليه الصلاة والسلام علم النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في مجلس وأراد أن يقوم أن يقول : (( سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إلا أنت وحدك لا شريك لك أستغفرك وأتوب إليك )) . هذا مرسل صحيح سنده إلى يزيد الفقير وهو تابعي مشهور .

وفي (( الكنى )) للنسائي والمرزيان من طريق معمر سمعت الحكم بن أبان حدثني جعفر أبو سلمة قال : (( جاء الروح الأمين عليه الصلاة والسلام فقال : يا محمد ! ألا أخبرك بكفارة المجلس إذا قمت تقول : سبحانك اللهم وبحمدك صل على محمد عبدك ورسولك اللهم اغفر لنا )) .

وأخرج الحسين بن الحسن المروزي في (( زيادات البر والصلة )) عن الهيثم بن جميل عن حسام بن مصك عن ابن أبي نجيح،عن مجاهد قال:(( حق المجلس إكراماً أن تسغفر الله تعالى وتسبحه وتحمده ))

وعن الفضل بن موسى ثنا طلحة بن عمرو ، عن عطاء في قوله تعالى:(وسبح بحمد ربك حين تقوم )

قال : من كل مجلس إن كنت أحسنت ازددت خيراً وإن كان غير ذلك كان هذا كفارة له . وعن مؤمل ، عن (سفيان) ، عن حبيب بن أبي ثابت عن يحيى بن جعدة قال : من قال في مجلس سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك [ غفر له ] أو كلمة نحو هذه .

وهذا أخرجه الفريابي في تفسيره ( عن سفيان ) عن حبيب بن أبي ثابت عن يحيى بن جعدة (( من قال في مجلسه : سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه ، غفر له ما أحدث في مجلسه )) .

وقال أبو نعيم [ في ترجمة ] (( حسان بن عطية من الحلية : ثنا أحمد بن إسحاق ثنا عبد الله بن أبي داود : ثنا محمود بن خالد . ثنا عمر بن عبد الواحد عن الأوزاعي ثنى حسان قال : ما جلس قوم مجلس لغو فختموا باستغفار إلا كتب مجلسهم ذلك استغفار كله )) . رجاله ثقات . هذا آخر طرق حديث كفارة المجلس على طريق الاختصار أوردتها هنا ( تبركاً بها ) .

وأما قول شيخنا : (( أنا ـهم بها أحمد بن حمدون القصار )) ففي إطلاق التهمة عليه نظر ، فإنه من كبار الحفاظ .

وهو : أبو حامد : أحمد بن حمدون بن أحمد بن رستم النيسابوري الأعمشي ، وإنما قيل له الأعمشي لأنه كان يعتني بجمع حديث الأعمش وحفظه ، وكان يلقب أبا تراب فاجتمع له لقبان في كتبه وفي نسبته ذكره الحاكم في (( التأريخ )) . وقال : كان من الحفاظ سمع بنيسابور ويمرو وهواة وجرجان والري وبغداد والكوفة والبصرة قال : وكان مزاحاً ، سمعت أبا علي الحافظ غير مرة يقول : حدثنا أحمد بن حمدون إن حلت الرواية ( عنه ) .

فقلت له يوماً : هذا الذي تذكره في أبي تراب من جهة المجون الذي كان فيه أو لشئ أنكرته منه في الحديث ؟

قال : في الحديث ، فقلت له : ما الذي أنكرت عليه ؟ فذكر أحاديث حدث بها غير معروفة .

فقلت له : أبو تراب مظلوم يف كل ما ذكرته . ثم لقيت أبا الحسين الحجاجي ، فحدثته بمجلسي مع أبي فقال : القول ما قلته .

قال الحاكم : فأما أنا ، فقد تأملت أجزاء كثيرة بخطه لمشايخنا فلم أجد فيها حديثاً يكون الحمل فيه عليه ، وأحاديثه مستقيمة سمعت أبا أحمد الحافظ يقول : حضرت مجلس أبي بكر ابن خزيمة إذ دخل أبو تراب الأعمشي ، فقال له أبو بكر : يا أبا حامد ! كم روى الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد ؟ فأخذ أبو تراب بذكر الترجمة حتى فرغ منها وأبو بكر يتعجب من مذاكرته .

ثم ساق له الحاكم عدة حكايات مما كان يمزح فيه ، ثم قال : وإنما ذكرت هذه الحكايات لتعلم أن الذي أنكر عليه إنما هو المجون فأما الإنحراف عن رسم أهل الصدق ، فلا .

قال : وقرأت بخط أبي الفضل الهاشمي . (( مات أبو تراب الأعمشي في ربيع الأول سنة إحدى وعشرين وثلاث مئة )) .

قلت : فإذا كان حال هذا الرجل ، فلا ينبغي إطلاق التهمة عليه أصلاً ، حتى ولو قلدنا أب علي الحافظ فيه ، فإنما أشار إلي أنه أنكر عليه أحاديث وهم فيها ، فراجعه الحاكم بأنها لو كانت وهماً ما عاود روايتها مراراً مع تيقظه وضبطه فوضح أنه لم يتهم بكذب أصلاً ورأساً والله أعلم .

وفي الجملة اللفظة المنكرة في الحكاية عن البخاري هي أنه قال : (( لا أعلم في الباب غير هذا الحديث )) وهي من الحاكم في حال كتابته في علوم الحديث كما قدمناه ( في كتب أحد عشرة فيها ) وقد بينا أن الصواب أن البخاري إنما قال : (( لا أعلم في الدنيا بهاذ الإسناد غير هذا الحديث وهو كلام مستقيم )) والله أعلم .

110- قوله (ص) : (( وكثيراً ما يعللون الموصول بالمرسل )) إلى آخره .

أقول : ليس هذا من قبيل المعلول على اصطلاحه وإن كانت علة في الجملة إذ المعلول على اصطلاحه مفيد بالخفاء والإرسال أو الانقطاع ليست علتها بخفية . وقد أفرط بعض المتأخرين فجعل الانقطاع قيداً في تعريف المعلول فقرأت في (( المقنع )) للشيخ سراج الدين ابن الملقن قال : ذكر ابن حبيش في كتاب علوم الحديث أن المعلول : أن يروي عمن لم يجتمع به كمن تتقدم وفاته عن ميلاد من يروي عنه أو تختلف جهتهما كأن يروي الخراساني مثلاً عن المغربي ولا ينقل أن أحدهما رحل عن بلده .

قلت : وهو تعريف ظاهر الفساد ، لأن هذا لا خفاء فيه وهو بتعريف مدرك السقوط في الإسناد

أولى والله أعلم .

ثم إن تعليلهم الموصول بالمرسل أو المنقطع بالموقوف أو المقطوع ليس على إطلاقه ، بل ذلك دائر على غلبة الظن بترجيح أحدهما على الآخر بالقرائن التي تحفه . كما قررناه قبل والله الموفق .

111- قوله (ص) : (( ثم قد تقع العلة في الإسناد وهو الأكثر وقد تقع في المتن )) إلى آخره قلت : إذا وقعت العلة في الإسناد قد تقدح وقد لا تقدح وإذا قدحت ، فقد تخصصه وقد تستلزم القدح في المتن . وكذا القول في المتن سواء .

[ الأقسام التي تقع فيها العلة : ]

1- فمثال ما وقعت العلة في الإسناد ولم تقدح مطلقاً : ما يوجد مثلاً من حديث مدلس بالعنعنة ، فإن ذلك علة توجب التوقف عن قبوله فإّا وجد من طريق أخرى قد صرح فيها باسماع تبين أن العلة غير قادحة .

وكذا إذا اختلف في الإسناد على بعض رواته ، فإن ظاهر ذلك يوجب التوقف عنه ، فإن أمكن الجمع بينها على طريق أهل الحديث بالقرائن التي تحف الإسناد تبين أن تلك العلة غير قادحة .

[ مثال العلة القادحة في الإسناد : ]

2- ومثال ما وقعت العلة فيه في الإسناد وتقدح فيه دون المتن ما مثل به المصنف من إبدال راو ثقة وهو بقسم المقلوب أليق فإن أبدل راو ضعيف براو ثقة وتين الوهم فيه استلزم القدح في المتن أيضاً إن لم يكن له طريق أخرى صحيحة . ومن أغمض ذلك أن يكون الضعيف موافقاً للثقة في نعته .

ومثال ذلك ما وقع لأبي أسامة الكوفي أحد الثقات ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر وهو من ثقات الشاميين قدم الكوفة فكتب عنه أهلها ولم يسمع منه أبو أسامة ، ثم قدم بعد ذلك الكوفة عبدالرحمن بن يزيد بن تميم وهو من ضعفاء الشاميين فسمع منه أبو أسامة وسأله عن اسمه فقال : عبد الرحمن بن يزيد ، فظن أبو أسامة أنه ابن جابر ، فصار يحدث عنه وينسبه من قبل نفسه ، فيقول : حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، فوقعت المناكير في رواية أبي أسامة ، عن ابن جابر وهما ثقتان فلم يفطن لذلك إلا أهل النقد ، فميزوا ذلك ونصوا عليه كالبخاري وأبي حاتم وغير واحد .

[ العلة قد تكون في المتن وهي غير قادحة : ]

3- ومثال ما وقعت العلة في المتن دون الإسناد ولا تقدح فيهما ما وقع من اختلاف ألفاظ كثيرة من أحاديث الصحيحين إذا أمكن رد الجميع إلى معنى واحد ، فإن القدح ينتفي عنها ، وسنزيد أيضاحاً في النوع الآتي إن شاء الله تعالى .

4- ومثال ما وقعت العلة فيه في المتن واستلزمت القدح في الإسناد : ما يرويه راو بالمعنى الذي ظنه يكون خطأ والمراد بلفظ الحديث غير ذلك ، فإن ذلك يستلزم القدح في الراوي ، فيعلل الإسناد .

5- ومثال ما وقعت العلة في المتن دون الإسناد ما ذكره المصنف من ( أحد الألفاظ ) الواردة في

حديث أنس رضي الله عنه وهي قوله : (( لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخرها )) ، فإن أصل الحديث في الصحيحين ، فلفظ البخاري (( كانوا يفتتحون بالحمد لله رب العالمين )) .

ولفظ مسلم في رواية له نفي الجهر وفي رواية أخرى نفي القراءة وقد تكلم شيخنا على هذا الموضع بما لا مزيد في الحسن عليه ، إلا أن فيه مواضع تحتاج إلى التنبيه عليها .

48- (أ) فمنها : قوله (ع) : (( إن ترك قراءة البسملة في حديث أنس رضي الله عنه ورد من ثلاث طرق وهي :

1- رواية حميد .

2- ورواية قتادة .

3- ورواية إسحاق بن أبي طلحة .

قد يتوهم منه أن باقي الروايات عن أنس رضي الله عنه ليس فيها تعرض لتركها ، وليس كذلك ، بل قد جاء ترك الجهر بها أيضاً :

1- من رواية ثابت البناني .

2- والحسن بن أبي الحسن البصري .

3- ومنصور بن زاذان .

4- وأبي نعامة قيس بن عباية .

5- وأبي قلابة : عبد الله بن زيد الجرمي .

6- وثمامة بن عبد الله بن أنس . رحمة الله عليهم .

1- أما حديث ثابت فرواه أحمد بن حنبل وابن خزيمة في صحيحه والطحاوي من طريق الأعمش عن شعبة عنه بلفظ (( صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فلم يجهروا بـ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) )) .

2- وأما حديث الحسن البصري فرواه ابن خزيمة في صحيحه والطبراني والطحاوي بلفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كان يسرون بـ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) . وأخرجه الطبراني والخطيب من وجه آخر ، عن الحسن بلفظ نفي الجهر .

3- وأما حديث منصور بن زاذان فرواه النسائي بلفظ : (( صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم فلم يسمعنا قراءة بسم الله الرحمن الرحيم )) بوب عليها النسائي باب ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم

4،5- وأما حديث أبي قلابة وأبي ثمامة فروى ابن حبان في صحيحه من طريق هارون بن عبد الله الحمال ، عن يحيى بن آدم ، عن سفيان الثوري ، عن خالد الحذاء ، عن أبي قلابة ، عن أنس رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما لا يجهرون ببسم

الله الرحمن الرحيم .

وذكر الخلال في العلل أن مهنا بن يحيى سأل أحمد عنه فقال : هو وهم . حدثني يحيى بن آدم ( يعني بهذا الإسناد ) فقال : عن أبي نعامة ( قيس ) بن عباية ، عن أنس رضي الله عنه بدل أبي قلابة .

قال : وكذا هو في (( كتاب الأشجعي )) ، عن سفيان .

قال : وكذلك بلغني عن العدني ، عن سفيان .

قلت : ورواية العدني أخرجها البيهقي من طريقه . وكذا قال علي بن المديني في (( العلل )) إن يحيى بن آدم حدثه به على الوهم ، ولم يخرجه أحمد في مسنده من هذا الوجه .

وهو في معجم الطبراني من طريق محمد بن يوسف الفريابي عن سفيان على الصواب . وكذا أخرجه البيهقي من طريق الحسين بن حفص عن سفيان بنفي الجهر . وقال : أبو نعامة وثقه يحيى بن معين ولم يخرج له الشيخان . ثم فيه اختلاف آخر على أبي نعامة رواه عثمان بن غياث وسعيد بن أياس عن أبي عبد الله بن مغفل عن أبي . ولا يمتنع أن يكون لأبي نعامة فيه شيخان .

6- وأما حديث ثمامة فرواه الخطيب في كتاب الجهر بالبسملة نحو حديث ثابت . فهذه الروايات متضافرة على عدم الجهر بالبسملة وسنزيد إيضاحاً بعد قليل إن شاء الله .

[ شرط الحكم بالاضطراب : ]

49- (ب) ومنه قوله (ع) : (( إن ابن عبد البر قال: إن حديث أنس رضي الله عنه مضطرب المتن )) .

وتقريره لذلك وليس بجيد ، لأن اضطراب شرطه تساوي وجوهه ولم يتهيأ الجمع بين مختلفها كما سيأتي . أما مع إمكان الجمع بين ما اختلف من الروايات ولو تساوت وجوهها فلا يستلزم اضطراباً وهذا في هذا الحديث موجود لأن الجمع بين الروايات الثابتة منه ممكن .

فقوله : (( ومنهم من يذكر عثمان رضي الله عنه ومنهم من لا يذكر )) .ليس بقادح .

وقوله : (( وقال بعضهم : كان يقرؤون بسم الله الرحمن الرحيم )) .

وقال بعضهم : (( كانوا يجهرون )) لم تقبت واحدة من هاتين الروايتين . وقد استوعب الخطيب طرق حديث أنس رضي الله عنه وأورد هذين اللفظين من أوجه واهية أو منقطعة وقد بين شيخنا بعض ذلك فيما أملاه على مستدرك الحاكم فلم يبق من الألفاظ التي ذكر أبو عمر أنه متخالفة إلا ثلاثة ألفاظ وهي :

1- نفي الجهر بها .

2- أو نفي قراءتها .

3- أو الاقتصار على الافتتاح بالحمد لله رب العالمين .

والجمع بين هذه الألفاظ ممكن بالحمل على عدم الجهر ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى بعد قليل .

50- (ج) ومنها قوله (ع) : (( إن رواية الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي التي أخرجها مسلم معلولة لأن الوليد يدلس تدليس التسوية .

أقول : لا يتجه تعليله بتدليس الوليد ، لأنه صرح بسماعه من الأوزاعي ( وصرح بأن الأوزاعي ) ما سمعه من قتادة وإنما كتب إليه وقتادة فقد سمعه من أنس رضي الله عنه كما رويناه في (( كتاب القراءة خلف الإمام )) للبخاري قال :ثنا محمد بن يوسف هو الفريابي ثنا الأوزاعي قال : كتب إلى قتادة قال : حدثني أنس رضي الله عنه وكذا رويناه في (( السنن الكبير )) للبيهقي من طريق العباس بن الوليد بن مزيد حدثني أبي ، حدثنا الأوزاعي مثله سواء ، وكذا رويناه من طريق الهقل بن زياد ، عن الأوزاعي قال : كتبت إلى قتادة أسأله عن الجهر بـ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فكتب إلي يذكر قال : حدثني أنس بن مالك رضي الله عنه أنه صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين ، لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول القراءة ولا في آخراها . فهذه متابعة للوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي .

[ وكذا ] رويناها في فوائد إسماعيل بن قيراط العذري قال : ثنا سليمان بن عبد الرحمن : ثنا الهقل ، فذكره ، نقلته من خط الحافظ السلفي . وكذلك رواه أبو عوانة في صحيحه من طريق بشر بن بكر عن الأوزاعي ، فذكر المتن مثله سواء ، ولم يذكر القصة التي في السند وتابعه أبو المغيرة ، عن الأوزاعي . قال أحمد في (( مسنده )) ثنا أبو المغيرة ، ثنا الأوزاعي قال :

كتب إلى قتادة قال : (( حدثني أنس بن مالك رضي الله عنه قال : صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول القراءة ولا في آخراها )) . وهذه متابعة قوية للوليد بن مسلم .

وأبو المغيرة من ثقات الحمصيين أخرج عنه البخاري في صحيحه محتجاً به ، فبان أن تعليله بتدليس الوليد ( لا وجه ) له لكن لو أعله الشيخ بأن قول الأوزاعي : إن قتادة كتب إليه مجاز لأن قتادة لكن أكمه لا يكتب ، فيكون قد أمر بالكتابة عنه غيره وحينئذ فذلك الغير مجهول الحال عندنا حتى ولو كان قتادة يثق به فلا يكفي ذلك في ثبوت عدالته إلا عند من يقبل التزكية على الإيهام .

وهو مرجوح عند الشيخ لاحتمال أن يكون مضعفاً عند غيره بقادح . وستأتي المسألة إن شاء الله . فرجعت رواية الأوزاعي إلى أنها عن شخص مجهول كتب إليه بإذن قتادة ( عن قتادة ) عن أنس رضي الله عنه .

فهذه العلة أشد من تدليس الوليد الذي حصل الأمن منه بتصريحه بالسماع وبمتابعة من تابعه من أصحاب الأوزاعي .

51- ومنه قوله (ع) : (( إن رواية ابن عبد البر من طريق محمد بن كثير ، عن الأوزاعي بلفظ

 

الافتتاح أرجح من رواية الوليد عنه في طريق إسحاق ابن أبي طلحة التي أحال بها على رواية قتادة ، لأنه لم يصرح عند مسلم بسماعه له من الأوزاعي )) .

أقول : الوليد بن مسلم أحفظ من محمد بن كثير بكثير ، ومع ذلك ، فقد صرح بسماعه له فيما أخرجه أبو نعيم في مستخرجه من طريق دحيم وهشام بن عمار عند قال : حدثني الأوزاعي ، وكذا أخرجه الدار قطني من طريق هشام ثنا الوليد ثنا الأوزاعي .

وأما تردد الشيخ في لفظ إسحاق هل هو مثل حديث قتادة بلفظه أو بمعناه ، فقد بينه البخاري في جزء القراءة خلف الإمام فرواه عن محمد بن مهران شيخ مسلم فيه ولفظه مثل رواية قتادة سواء إلا أنه لم يقل الزيادة التي زادها الوليد . وكذلك بينه أبو عوانة في صحيحه بياناً شافياً فإنه رواه كما قدمناه من طريق بشر بن بكر ، عن الأ,زاعي قال : كتب إلى قتادة فذكره بتمامه .

ثم أخرجه من طريق دحيم ، عن الوليد ، وعن يوسف بن سعيد عن محمد بن كثير كلاهما ، عن الأوزاعي ، عن إسحاق ، عن أنس رضي الله عنه قال مثله إلى قوله : الحمد لله رب العالمين . يعني ولم يذكر اللفظ الزائد في حديثه عن قتادة ، عن أنس رضي الله عنه وهو قوله : لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا في آخراها .

ورواه ابن حبان في صحيحه من طريق محمد بن عبد الرحمن بن سهل ولفظه (( يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين فيما يجهر به )) . ومسلم لما ساق حديث الأوزاعي ، عن كتبا قتادة وعطف عليه حديث الأوزاعي ، عن إسحاق قال : (( فذكر ذلك لم يزد فقوله : (( فذكر ذلك )) محتمل أن يكون يريد ذكره باللفظ أو بالمعنى . وقد تبين بما حررناه أنه إنما رواه بالمعنى ، لأن في إحدى الروايتين ما ليس في الأخرى والله أعلم .

تنبيه

قد قدمنا أن رواية محمد بن كثير رواها أبو عوانة في (( صحيحه )) وكذلك أخرجها أبو جعفر الطحاوي في (( شرح معاني الآثار )) وأبو بكر الجوزقي في (( المتفق )) فعزوها إلى رواية أحدهم أولى من عزوها إلى ابن عبد البر لتأخر زمانه والله الموفق .

52- ومنها قوله (ع) لما ذكر حميداً : (( وقد ورد التصريح بذكر قتادة بينهما فيما رواه ابن أبي عدي عن حميد ، عن قتادة ، عن أنس رضي الله تعالى عنه قال : قالت : رواية حميد إلى رواية قتادة )) .

قلت : هذا يوهم أن حميداً لم يسمعه من أنس رضي الله تعالى عنه أصلاً وإنما دلسه عنه وليس كذلك ، فإن حميداً كان قد سمعه من أنس رضي الله تعالى عنه لكن موقوفاً بلفظ : (( فكلهم كان لا يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم )) .

وهذا في رواية مالك كما هو في الموطآت ، وقد رفعه بعضهم عنه وهو وهم كما بينه الدار قطني في

(( غرائب مالك )) وابن عبد البر في (( التمهيد )) وهكذا رواه عن حميد حفاظ أصحابه كعبد الوهاب الثقفي ومعاذ بن معاذ ، ومروان بن معاوية الفزاري وغير واحد موقوفاً إلا أنه عندهم بلفظ (( كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين )) . ورواه المزني ، عن الشافعي ، عن ابن عيينة ، عن حمدي سمعت أنساً رضي الله تعالى عنه به .

وشد بعض أصحاب حميد ، فرفع هذا اللفظ عنه أيضاً وقد بين يحيى بن معين الصواب في ذلك بياناً شافياً فقال أبو سعيد بن الأعرابي في (( معجمه )) ثنا محمد بن إسحاق الصاغاني ثنا يحيى بن معين ، عن ابن أبي عدي ، عن حميد عن قادة ، عن أنس رضي الله عنه قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين .

قال ابن معين : قاتل ابن أبي عدي ، وكان حميد إذا قال : عن قتادة عن أنس رضي الله عنه رفعه . وإذا قال : عن أنس لم يرفعه .

تنبيه

لم يعز الشيخ رواية ابن أبي عدي : وقد عزوناها . وأخرجها أيضاً ابن حبان في صحيحه من طريق محمد بن هشام السدوسي ثنا ابن أبي عدي عن ( سعيد وحميد ) جميعاً عن قتادة . وأخرجها السراج عن عمرو بن علي ابن ( أبي ) عدي عن حميد وحده . دون القصة التي ذكرها ابن معين فلم يذكرها عمرو ولا محمد بن هشام .

53- ومنه قوله (ع) : (( والجواب ما أجاب به أبو شامة مسألتان )) . فسؤال قتادة عن الاستفتاح بأي سورة . وفي (( صحيح مسلم )) أن قتادة قال : (( نحن سألناه عنه )) .

قلت : وفيه نظر لأنه يوهم أن الحمل المذكور في صحيح مسلم وليس كذلك ، فإن مسلماً قال في صحيحه : (( ثنا محمد بن المثنى ثنا محمد بن جعفر . ثنا شعبة قال : سمعت قتادة يحدث عن أنس رضي الله عنه قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم فلم أسمع أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم )) .

ثنا محمد بن المثنى : ثنا أبو داود هم الطيالسي ثنا شعبة وزاد قال شعبة فقلت لقتادة : أسمعته من أنس رضي الله عنه ؟ قال : نعم . نحن سألناه . فهذا اللفظ في أن السؤال كان عن عدم سماع القراءة لا عن [ سماع ] الاستفتاح بأي سورة .

وقد روى الخطيب في (( الجهر والبسملة )) هذا الحديث من طريق أخرى عن أبي داود الطيالسي ، عن شعبة ولفظه : (( إن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر عثمان رضي الله عنهم كانوا لا يستفتحون القراءة بـ ( بسم الله الرحمن الرحيم )) .

قال شعبة : قلت لقتادة : أسمعته من أنس ؟

قال : نعم نحن سألناه عنه .

وقال أبو يعلى في مسنده : ثنا أحمد بن إبراهيم الدورقي ، ثنا أبو داود عن شعبة ، عن قتادة ، عن أنس رضي الله عنه قال : (( صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وعمر وخلف عثمان رضي الله تعالى عنهم فلم يكونوا يستفتحون القراءة بـ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) .

قال شعبة : فقلت لقتادة : أسمعته من أنس رضي الله عنه ؟

قال : نعم ثم سألت أنساً رضي الله تعالى عنه . وهكذا رواه عبد الله بن أحمد في (( زيادات المسند )) من حديث أبي داود الطيالسي .

وكذا أخرجه الإسماعيلي عن عبد الله بن ناجية ، عن محمد بن المثنى وبندار ، عن أبي داود .

وكذا أخرجه أبو نعيم في (( مستخرجه من طريق (( مسند أبي داود (( وكذلك رواه عمرو بن مرزوق ، عن شعبة بلفظ : (( يستفتحون بالحمد لله رب العالمين )) . وفيه (( نحن سألناه عن ذلك )) . أخرجه أبو نعيم في (( المستخرج )) أيضاً .

فوضح بذلك أن سؤال قتادة ، ليس مخالفاً لسؤال أبي سلمة فطريق الجمع بينهما أن يقال : إن سؤال أبي سلمة كان متقدماً على سؤال قتادة بدليل قوله في روايته : (( ولم يسبق عند أحد قبلك )) فكأنه كان إذ ذاك فير ذاكر لذلك ، فأجاب (بأنه) لا يحفظه ، ثم سأله قتادة عنه فتذكر ذلك ، وحدثه بما عنده فيه .

وأما احتجاج أبي شامة على أن سؤال قتادة له في الحديث الذي أخرجه البخاري عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وجواب أنس رضي الله تعالى عنه أنها كانت مداً حيث أجاب بالبسلمة دون غيرها من آيات القرآن دل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجهر بالبسملة في قراءته . ففيه نظر ، لأنه يحتمل أن يكون ذكر أنس للبسملة على سبيل المثال لقراءة النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينتهض الدليل على ذلك .

54- وأما قوله : (( فيتناول الصلاة وغير الصلاة )) .

ففيه نظر ، لأنه الأعم لا دلالة له على الأخص ، والمراد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حيث يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، يمد بسم الله ويمد الرحمن ويمد الرحيم فمن أين له من هذا الحديث أنه كان يجهر بمها في (( الصلاة )) .

وقول أبي شامة أيضاً : (( لو كانت قراءته تختلف لقال له : عن أي قراءتيه تسأل ، عن التي داخل الصلاة أو التي خارج الصلاة ؟ فلما لم يستفصله دل أن حاله في ذلك لم يختلف )) ، ففيه نظر ، لأنه لا يستلزم من ترك الاستفصال في هذا التعميم [ في الصفات ، وإنما يستلزم التعميم ] في الأحوال ، فيستفاد منه أنه كان يقرأ هكذا داخل الصلاة وخارجها ، وأما كونه يجهر ببعض ذلك أو لا يجهر بجميع ذلك أولاً ، فلا دلالة في الحديث على ذلك وعلى تقدير أنه يدل ، فيعارضه ما أخرجه أحمد بإسناد صحيح ، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قال نافع بن عمر الجمحي راويه : أراها حفصة بنت عمر رضي الله عنها : (( إنكم لا تستطيعونها )) ، فقيل لها : أخبرينا بها ، قال : فقرأت قراءة ترسلت فيها الحمد لله رب العالمين ، ثم قطع ، الرحمن الرحيم ، ثم قطع مالك يوم الدين .

فهذا الحديث إن دل حديث أنس رضي الله تعالى عنه وأم سلمة رضي الله عنها على إثبات البسملة في الفاتحة لمجرد ذكرها معها دل حديث حفصة رضي الله عنها على سقوطها منها ، جمع بينهما بأنه كان يقرأ البسملة فيها يعني لا يجهر بها في الصلاة فسمعت حفصة رضي الله تعالى عنها قراءته داخل الصلاة ، وسمعها أنس وأم سلمة خارج الصلاة ، كان ذلك ممكناً غير بعيد من الصواب ، وهو أولى من دعوى التعارض .

55- قوله (ع) : (( وما أوله به الشافعي رضي الله تعالى عنه مصرح به في رواية الدار قطني )) .

لم يبين الشيخ رواية الدار قطني كيف هي ؟ وظاهر السياق يشعر بأنها من رواية قتادة ، عن أنس رضي الله عنه وليس كذلك ، فإنها عنده من رواية الوليد عن الأوزاعي ، عن إسحاق بن أبي طلحة ، عن أنس رضي الله تعالى عنه .

وقد رواها راويها بالمعنى ، بلا شك ، فإن رواية الوليد ، كما بيناها من عند البخاري في (( جزء القرءاة )) ومن عند غيره بلفظ : (( كانوا يفتتحون بالحمد لله رب العالمين )) . فرواها بعض الرواة عنه بلفظ : (( بدأ بأم القرآن يدل بالحمد لله رب العالمين ) فلا تنتهض الحجة بذلك .

قلت : وقد صح تسمية أم الكتاب بالحمد لله رب العالمين وذلك فيما رواه البخاري في صحيحه في أول التفسير من رواية أبي سعيد بن المعلى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( الحمد لله رب العالمين هي : السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ، وفي الحديث قصة )) .

فهذا يرد على من طعن على تأويل الشافعي رضي الله تعالى عنه . وزعم أن أم الكتاب إنما تسمى بالحمد لله فقط لا الحمد لله رب العالمين . وأن سياق الآية بتمامها دل على أنه أراد أن يفتتح بهذا اللفظ لأنه لو قصد أن يسمي السورة لسماها الحمد . فظهر بهذا الحديث الصحيح أنها تسمى الحمد وتسمى الحمد لله رب العالمين أيضاً فبطل ما ادعاه من نفى الاحتمال الذي ذكره الشافعي رضي الله عنه ممكناً والله أعلم .

(ط) قوله (ع) : (( ولا يلزم من نفي السماع عدم الوقوع )) إلخ .

وللمخالف أن يقول : لكن التوفيق بين الروايتين أن يحمل نفيه للقرءاة على عدم سماعه لها فتلتئم الروايتان في عدم الجهر .

112- قوله (ص) : (( فعلل قوم رواية اللفظ المذكور ( يعني نفي القراءة ) لما رأو الأكثرين إنما قالوا فيه : فكانوا يستفتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين )) إلى آخره .

يعني بذلك الدار قطني ، فإنه السابق إلى ذلك ، فقال : إن المحفوظ عن قتادة من رواية عامة أصحابه

عنه كانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين .

قال : وهو المحفوظ عن قتادة وغيره عن أنس رضي الله عنه وتبعه الخطيب والبيهقي . وفي ذلك نظر ، لأنه يستلزم ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى مع إمكان الجمع بينهما ، وكيف يحكم على رواية عدم الجهر بالشذوذ وفي رواتها عن قتادة مثل شعبة ؟

قال أحمد في مسنده ثنا وكيع . ثنا شعبة عن قتادة عن أنس بلفظ : فكانوا (( لا يجهرون بـ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) )) .

وكذا أخرجه مسلم وابن خزيمة في صحيحه من طريق غندر ، عن شعبة ورواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما من طريق سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ولفظه : (( إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجهر بـ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) )) . ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان رضي الله عنهم .

وقا لابن حبان في صحيحه : ثنا الصوفي وغيره . ثنا علي بن الجعد . ثنا شعبة وشيبان ، عن قتادة : سمعت أنس بن مالك يقول : (( صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما وعثمان رضي الله عنه فلم أسمع أحداً منهم يجهر بـ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) . ورواهن الدار قطني ، عن البغوي عن علي بن الجهد بهذا .

وبوب عليه ابن حبان في صحيحه (( باب الخبر المدحض )) قول من زعم أن هذا الخبر لم يسمعه قتادة من أنس رضي الله عنه . وكذا رواه جماعة من أصحاب قتادة عنه ورواه آخرون عنه بلفظ الافتتاح ، ورواه عن شعبة جماعة حفاظ أصحابه هكذا ورواه آخرون عنه بلفظ الافتتاح ، فيظهر أن قتادة كان يرويه على الوجهين وكذلك شعبة ومن أدل دليل على ذلك أن يونس بن حبيب رواه في مسند أبي داود الطيالسي عنه عن شعبة بلفظ الافتتاح . ورواه محمد بن المثنى ويحيى بن أبي طالب عنه بلفظ عدم الجهر فالله أعلم .

[ شاهد لحديث أنس : ]

ويشهد لحديث أنس رضي الله عنه المذكور حديث عبد الله بن مغفل رضي الله تعالى عنه الذي حسنه الترمذي ولفظه : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم فلم أسمع أحداً منهم يقولها .

ورواه النسائي بلفظ : كان عبد الله بن مغفل رضي الله عنه إذا سمع أحداً يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم يقول : صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وخلف أبي بكر وخلف عمر رضي الله عنهما فما سمعت أحداً منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم . وهو حديث حسن ، لأن رواته ثقات ولم يصب من ضعفه بأن ابن عبد الله بن مغفل مجهول لم يسم .

فقد ذكره البخاري في (( تأريخه )) فسماه : يزيد . ولم يذكر فيه هؤلاء ابن أبي حاتم جرحاً فهو مستور اعتضد حديثه وقد احتج أصحابنا وغيرهم بما هو دون ذلك . ويعضد ذلك أيضاً ما رواه الإسماعيلي في مسند زيد بن أبي أنيسة بسنده الصحيح إليه ، عن عمرو بن مرة ، عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه ، قال : صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة يجهر فيها بالقراءة ، فلما صف الناس كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : (( اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجين من همزه ونفخه وتفثه ، ثم قرأ بفاتحة الكتاب ولم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم )) . وأصل الحديث في (( السنن )) وغيرها بغير هذا السياق . ومما يدل على ثبوت أصل البسملة في أول القراءة في الصلاة ما رواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما وغيرهم من رواية نعيم المجمر قال : (( صليت خلف أبي هريرة ، فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، ثم قرأ بأم القرآن ، فذكر الحديث وفي آخره فلما سلم قال : والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حديث صحيح لا علة له .

ففي هذا رد على من نفاها البتة وتأييد لتأويل الشافعي رضي الله تعالى عنه لكنه غير صحيح في ثبوتت الجهر ، لاحتمال أن سماع نعيم لها من أبي هريرة رضي الله تعال عنه حال مخافته لقربه ، فبهذه تتفق الروايات كلها .

تنبيه

استدل ابن الجوزي على أن البسملة ليست من أول السورة بحديث رواه أحمد وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم من طريق عباس الجشمي ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له وهي (( تبارك الذي بيده الملك )) .

قال ابن الجوزي : لا يختلف العادون أنها ثلاثون آية من غير البسملة .

هكذا استدل به ولا دلالة فيه ، لأن من عادة العرب حذف الكسور ، وقد ورد ذلك في حديث مصرح به في (( المسند )) أيضاً هو حديث ابن مسعود رضي الله عنه قا ل: أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة من آل حم قال : يعني الاحقاف ، قال : وكانت السورة إذا كانت أكثر من ثلاثين آية سميت ثلاثين .

113- قوله (ص) : (( ثم اعلم أنهم  قد يطلقون اسم العلة على غير ما ذكرنا )) إلى آخره مراده بذلك أن ما حققه من تعريف المعلول ، قد يقع في كلامهم ما يخالفه ، وطريق التوفيق بين ما حققه المصنف وبين ما يقع في كلامهم أن اسن العلة إذا أطلق على حديث لا يلزم منه أن يسمي الحديث معلولاً اصطلاحاً .

إذ المعلول ما علته قادة خفيفة أعم من أن تكون قادحة أ غير قادحة خفية أو واضحة . ولهذا قال الحاكم : (( وإنما يعل الحديث من أوجه ليس فيها للجرح مدخل )) .

وأما قوله : وسمى الترمذي النسخ علة هو من تتمة هذا التنبيه وذلك أن مراد الترمذي أن الحديث

المنسوخ مع صحته إسناداً ومتناً طرأ عليه ما أوجب عدم العمل به وهو الناسخ ولا يلزم من ذلك أن يسمى المنسوخ معلولاً اصطلاحاً كما قررته والله أعلم .

النوع التاسع عشر : المضطرب

114- قوله (ص) (( ومن أمثلته )) :

فذكر حديث الخط للمصلي إذا لم يجد سترة واستدرك عليه شيخنا ما فاته من وجوه الاختلاف فيه وبقيت ( فيه ) وجوه أخرى لم أر الإطالة بذكرها ولكن بقي أمر يجب التيقظ له .

وذلك أن جميع من رواه عن إسماعيل بن أمية ، عن هذا الرجل إنما وقع الاختلاف بينهم في اسمه أو كنيته ، وهل روايته عن أبيه أو عن جده أو عن أبي هريرة بلا واسطة وإذا تحقق الأمر فيه لم يكن فيه حقيقة الاضطراب .

[ حقيقة الاضطراب : ]

لأن الاضطراب هو : الاختلاف الذي يؤثر قدحاً .

واختلاف الرواة في اسم رجل لا يؤثر ذلك ، لأنه إن كان ذلك الرجل ثقة فلا ضير ، وإن كان غير ثقة فضعف الحديث إنما هو من قبل ضعفه لا من قبل اختلاف الثقات في اسمه فتأمل ذلك .

ومع ذلك كله فالطرق التي ذكرها ابن الصلاح ، ثم شيخنا قابله لترجيح بعضها على بعض والراجحة منه يمكن التوفيق بينها فينتفي الاضطراب أصلاً ورأساً .

تنبيه

قول ابن عيينة : لم نجد شيئاً يشد به هذا الحديث ولم يجئ إلا من هذا الوجه . فيه نظر ، فقد رواه الطبراني من طريق أبي موسى الأشعري وفي إسناده أبو هارون العبدي وهو ضعيف .

[ شاهدان للحديث : ]

ولكنه وارد على الإطلاق ، ثم وجدت له شاهداً آخر وإن كان موقوفاً . أخرجه مسدد في ( مسنده الكبير )) . قال : ثنا هشيم ثنا خالد الحذاء عن أياس بن معاوية ، عن سعيد بن جبير قال : (( إذا كان الرجل يصلي في فضاء فليركز بين يديه شيئاً فإن لم يستطيع أن يركزه ، فليعرضه فإن لم يكن معه شئ ، فليخط خطاً في الأرض )) .

رجاله ثقات وقول البيهقي : (( إن الشافعي رضي الله عنه ضعفه )) . فيه نظر ، فإنه احتج به فيما وقفت عليه ، في المختصر الكبير للمزني والله أعلم . ولهذا صحح الحديث أبو حاتم ابن حبان والحاكم وغيرهما . وذلك مقتضى لثبوت عدالته عند من صححه . فما يضره مع ذلك أن لا ينضبط اسمه إذا عرفت ذاته والله تعالى أعلم .

[ أمثلة للمضطرب : ]

ووجدت أمثلة للمضطرب في (( علل الدار قطني )) .

منها : حديث (( شيبتي هود وأخواتها )) . اختلف فيه على أبي إسحاق السبيعي .

(أ) فقيل عنه عن عكرمة ، عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه .

(ب) ومنهم من زاد فيه ابن عباس رضي الله عنهما .

(ج) وقال علي بن صالح : عن أبي إسحاق ، عن أبي جحيفة ، عن أبي بكر رضي الله عنه .

(د) وقال العلاء : عن أبي إسحاق ، عن البراء عن أبي بكر رضي الله تعالى عنهما .

(هـ) وقال زكريا بن إسحاق وعبد الرحمن بن سليمان ، عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة ، عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه .

(و) وقيل عن زكريا عن أبي إسحاق عن مسروق عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه .

(ز) وقال محمد بن سلمة عن أبي إسحاق عن مسروق عن عائشة عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه .

(ح) وقيل عن يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق عن علقمة عن أبي بكر .

(ط) وقال عبد الكريم الخزاز عن أبي إسحاق عن عامر بن سعد البجلي عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه .

(ي) وقيل : عنه عن عامر بن سعد عن أبيه عن أبي بكر رضي الله عنه .

(ك) وقال أبو شيبة النخعي : عن أبي إسحاق ، عن مصعب بن سعد عن أبيه عن أبي بكر رضي الله عنه .

(ل) وقال أبو المقدام : عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .

115- قوله (ص) : (( ثم قد يقع الاضطراب في المتن وقد يقع في الإسناد ، وقد يقع ذلك من راو واحد وقد يقع من رواة )) انتهى .

[ كلام العلائي على الحديث المعلول : ]

قسم المصنف الاضطراب إلى أربعة أقسام ولم يمثل إلا لقسم واحد . وقد تكلم الحافظ العلائي في مقدمة الأحكام على الحدي المعلول بكلام طويل مفيد نقلت منه ما يتعلق بما نحن فيه هنا ملخصاً لأنه شامل لكل ما يتعلق بتعليل الحديث من اضطراب وغيره . قال : وهذا الفن أغمض أنواع الحديث وأدقها مسلكاً ولا يقوم به إلا من منحه الله فهماً غايصاً وإطلاعاً حاوياً وإدراكاً لمراتب الرواة ومعرفة ثاقبة .

ولهذا لم يتكلم فيه إلا أفراد أئمة هذا الشأن وحذاقهم كابن المديني والبخاري وأبي زرعة وأبي حاتم وأمثالهم . وإنما يقوى القول بالتعليل يعني فيما ظاهره الصحة عند عدم المعارض ، وحيث يجزم المعلل بتقديم التعليل أو أنه الأظهر ، فأما إذا اقتصر على الإشارة إلى العلة فقط بأن يقول مثلاً في الموصول : رواه فلان مرسلاً أو نحو ذلك ، ولا يبين أي الروايتين أرجح ، فهذا هو الموجود كثيراً في كلامهم ولا يلزم منه رجحان الإرسال على الوصل . قال والاختلاف تارة في السند ، وتارة في المتن .

[ أقسام الاختلاف في السند : ]

فالذي في السند يتنوع أنواعاً :

1- أحدها : تعارض الوصل والإرسال .

2- ثانيها : تعارض الوقف والرفع .

3- ثالثها : تعارض الاتصال والانقطاع .

4- رابعها : أن يروي الحديث قوم مثلاً عن رجل عن تابعي عن صحابي ويرويه غيرهم عن ذلك الرجل عن تابعي آخر عن الصحابي بعينه .

5- خامسها : زيادة رجل في أحد الاسنادين .

6- سادسها : الاختلاف في اسم الراوي ونسبة إذا كان متردداً بين ثقة وضعيف . فأما الثلاثة الأول : فقد تقدم القول فيها .

وأن المختلفين إما أن يكونوا متماثلين في الحفظ والإتقان ( أم لا ) فالمتماثلون إما أن يكون عددهم من الجانبين سواء أم لا ، فإن استوى عددهم مع استواء أوصافهم وجب التوقف حتى يترجح أحد الطريقين بقرينة من القرائن فمتى اعتضدت إحدى الطريقين بشئ من وجوه الترجيح حكم لها . ووجوه الترجيح كثيرة لا تنحصر ، ولا ضابط بها بالنسبة إلى جميع الأحاديث ، بل كل حديث يقوم به ترجيح خاص لا يخفى على الممارس الفطن الذي أكثر من جمع الطرق . ولأجل هذا كان مجال النظر في هذا أكثر من غيره ، وإن كان أحد المتماثلين أكثر عدداً فالحكم لهم على قول الأكثر .

وقد ذهب قوم إلى تعليله وإن كان من وصل أو رفع أكثر والصحيح خلاف ذلك . وأما غير المثماثلين ، فأما أن يتساووا في الثقة أو لا ، فإن تساووا في الثقة ، فإن كان من وصل أو رفع أحفظ فالحكم له ولا يلتفت إلى تعليل من علله بذلك أيضاً إن كان العكس ، فالحكم للمرسل والواقف .

وإن لم يتساووا في الثقة فالحكم للثقة ، ولا يلتفت إلى تعليل من علله ،برواية غير الثقة إذا خالف . هذه جملة تقسيم الاختلاف ، وبقي إذا كان رجال أحد الاسنادين أحفظ ورجال الآخر أكثر . فقد اختلف المتقدمون فيه .

فمنهم : من يرى قول الأحفظ أولى ، لإتقانه وضبطه .

ومنهم : من يرى قول الأكثر أولى لبعدهم عن الوهم . قال عمرو بن علي الفلاس : سمعت سفيان بن زياد يقول ليحيى بن سعيد في حديث سفيان ، عن أبي الشعثاء عن يزيد بن معاوية العبسي ، عن علقمة عن عبد الله رضي الله تعالى عنه في قوله تبارك وتعالى : ( ختامه مسك ) .

فقال : يا أبا سعيد خالفه أربعة .

قال : من هم ؟

قال : زائدة وأبو الأحوص ، وإسرائيل وشريك .

فقال يحيى : لو كان أربعة الآف مثل هؤلاء كان الثوري أثبت منهم .

قال الفلاس : وسمعته يسأل عن عبد الرحمن بن مهدي عن هذا فقال : عبد الرحمن : هؤلاء قد

اجتمعوا وصفيان أثبت منهم والإنصاف لا بأس به فأشار عبد الرحمن إلى ترجيح روايتهم لاجتماعهم ، ولا شك ( أن ) الاحتمال من الجهتين منقدح قوي لكن ذاك إذا لم ينته عدد الأكثر إلى درجة قوية جداً بحيث يبعد اجتماعهم على الغلط أو يندر أو يمتنع عادة فإن نسبة الغلط إلى الواحد وإن كان أرجح في الحفظ والإتقان أقرب ( من نسبته ) إلى الجمع الكثير .

ومما يقوي بالتعليل فيه بالوقف ما إذا كان قد زيد في الاسناد عوضاً عن ذكر النبي صلى الله عليه وسلم صحابي آخر كحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى في أمهات الأولاد أن لا يبعن ولا يوهبن ... الحديث .

هكذا رواه الدار قطني في السنن من رواية يونس بن محمد المؤدب ، عن عبد العزيز بن مسلم ، عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما .

وخالفه يحي بن إسحاق السالحيني فرواه عن عبد العزيز عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما [ عن عمر ] من قوله فحكم الدار قطني وغيره من الأئمة أن الموقوف هو الصحيح ، وعللوا المرفوع به ، ووجهه غلبة الظن بغلط من رفعه حيث اشتبه عليه قول ابن عمر عن عمر بعد الصحابي صحابي آخر والحديث هو قوله اشتبه ذلك على الراوي ، فإذا انضم إلى ذلك أن فليح بن سليمان رواه أيضاً عن عبد الله بن دينار بموافقة يحيى بن إسحاق ، وكذلك رواه عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قوي القول بتعليله بالوقف ( قوة ) ظاهرة ، ولا يقال : قد رواه عبدالله بن جعفر المديني ، عن عبد الله بن دينار مرفوعاً بمتابعة يونس بن محمد ، لأنها متابعة ضعيفة جداً لضعف عبد الله بن جعفر .

ومشى أبو الحسن بن القطان الفاسي في (( بيان الوهم والإيهام )) على ظاهر الإسناد الأول ،فصحح الحديث ، فلم يصب فالله أعلم .

ومما يقوي القول القديم الانقطاع على الاتصال أن يكون في الإسناد مدلس عنعنة . ومن خفايا ذلك ما ذكره ابن أبي حاتم قال :

سألت أبي عن حديث رواه حماد بن سلمة عن عكرمة بن خالد عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (( من باع عبداً وله مال ... )) الحديث .

فقال : كنت أستحسن هذا الحديث من ذي الطريق حتى رأيت من حديث بعض الثقات عن عكرمة بن خالد ، عن الزهري عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما .

قال العلائي :

(( فبهذه النكتة يتبين أن التعليل أمر خفي لا يقوم به إلا نفاذ أئمة الحديث دون منلا اطلاع له على

طرقه وخفاياها )) .

وأما النوع الرابع : وهو الاختلاف في السند فلا يخلو إما أن يكون الرجلان ثقتين أم لا . فإن كانا

ثقتين ، فلا يضر الاختلاف عند الأكثر ، قيام الحجة بكل منهما ، فكيفما دار الإسناد كان عن ثقة وربما احتمل أن يكون الراوي ( سمعه منهما جميعاً وقد وجد ذلك في كثير من الحديث ، لكن ذلك يقوي حيث يكون الروي ) ممن له اعتناء بالطلب وتكثير الطرق .

ومن أمثلة ذلك حديث أبي هريرة في المهجر إلى الجمعة ( رواه يونس ومعمر وابن أبي ذئب ، عن الزهري عن الأغر ) . ورواه ابن عيينة عن الزهري ، عن سعيد . ورواه يزيد بن الهاد ، عن الزهري عن الأغر وأبي سلمة وسعيد كلهم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه .

فتبين صحة كل الأقوال ، فإن الزهري كان ينشط تارة ، فيذكر جميع شيوخه وتارة يقتصر على بعضهم .

ومنه حديث (( أفطر الحاجم والمحجوم ) . رواه جماعة ، عن أبي قلابة ، عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن شداد بن أوس . ورواه آخرون ، عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء الرحبي ، عن ثوبان رضي الله تعالى عنه . ورواه يحيى بن أبي كثير عن أبي قلابة بالطريقين جميعاً .

قال الترمذي : سألت محمداً عن فصححه .

فقلت : وكيف ما فيه من الاضطراب ؟

قال : كلاهما عندي صحيح .

وأما ما ذهب إليه كثير من أهل الحديث من أن الاختلاف دليل على عدم ضبطه في الجملة ، فيضر ذلك ولو كانت رواته ثقات إلا أن يقوم دليل ، على أنه عند الراوي المختلف عليه عنهما جميعاً أو بالطريقين جميعاً فهو رأي فيه ضعف ، لأنه كيفما دار كان على ثقة وفي الصحيحين من ( ذلك ) جملة أحاديث ، لكن لا بد في الحكم بصحة ذلك سلامته من أن يكون غلطاً أو شاذاً .

وأما إذا كان أحد ( الروايين ) المختلف فيهما لا يحتج به فههنا مجال للنظر وتكون تلك الطريق التي سمي ذلك الضعيف فيها ( وجعل الحديث عنه كالوقف أو الإرسال بالنسبة إلى الطريق الأخرى ) فكل ما ذكر هناك من الترجيحات يجئ هنا .

ويمكن أن يقال في هذا يحتمل أن يكون الراوي إذا كان مكثراً ق

سمعه منهما أيضاً كما تقدم . فإن قيل : إذا كان الحديث عنده عن الثقة ، فلم يرويه عن الضعيف .

والجواب : يحتمل أن لم يطلع على ضعف شيخه أو طلع عليه ولكن ذكره اعتماداً على صحة الحديث عنده من الجهة الأخرى .

وأما النوع الخامس : وهو زيادة الرجل بين الرجلين في السند فسيأتي تفصيله في النوع السابع والثلاثين إن شاء الله تعالى فهو مكانه .

وأما النوع السادس : وهو الاختلاف في اسم الراوي ونسبة فهو على أقسام أربعة :

1- الأول : أن يبهم في طريق ويسمي في أخرى ، فالظاهر أن هذا لا تعارض فيه ، لأنه يكون

المبهم في إحدى الروايتين هو المعين في الأخرى ، وعلى تقدير أن يكون غيره ، فلا تضر رواية من سماه وعرفه إذا كان ثقة رواية من أبهمه .

2- القسم الثاني : أن يكون الاختلاف في العبارة فقط والمعنى بها في الكل واحد ، فإن مثل هذا لا يعد اختلافاً أيضاً ولا يضر إذا كان الراوي ثقة .

قلت : وبهذا يتبين أن تمثيل المصنف للمضطرب بحديث أبي عمرو بن حريث ليس بمستقيم . انتهى .

والقسم الثالث : أن يقع التصريح باسم الراوي ونسبه لكن مع الاختلاف في سباق ذلك .

ومثال ذلك : حديث ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب رضي الله عنه في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم هو والفضل بن العباس رضي الله عنهما أن يؤمرهما على الصدقة ، رواه مالك عن الزهري عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل .

ورواه ابن إسحاق عنه عن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل ورواه يونس ، عن الزهري ، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل فمثل هذا الاختلاف لا يضر ، والمرجع فيه إلى كتب التواريخ وأسماء الرجال ، فيحقق ذلك الراوي ، ويكون الصواب فيه من أتى به على وجهه . والصحيح هنا هو قول مالك قاله أبو داود وغيره . ويمكن الجمع بين روايتي يونس ومالك بأن يونس نسبه إلى جده . وأما رواية ابن إسحاق فوهم في تسميته محمداً .

القسم الرابع : أن يقع التصريح به من غير اختلاف لكن يكون ذلك من متفقين :

أحدهما ثقة والآخر ضعيف . أو أحدهما مستلزم الاتصال والآخر الإرسال كما قدمنا ذلك في غير رواية ( أبي ) أسامه عن عبد الرحمن بن يزيد بن تميم حيث ظن أنه عبد الرحمن بن يزيد بن جابر .

ومن خفى ذلك ما حكاه ابن أبي حاتم في العلل أنه سأل أباه عن حديث رواه أحمد بن حنبل وفضل الأعرج عن هشام بن سعيد الطالقاني عن محمد بن مهاجر ، عن عقيل بن شبيب عن أبي وهب الجشمي ، وكانت له صحبة قال :

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : سموا أولادكم أسماء الأنبياء وأحسن الأسماء عبد الله وعبد الرحمن ، وأصدقها حارث وهمام وأقبحها حرب ومرة ، وارتبطوا الخيل وامسحوا على نواصيها وقلدوها ولا تقلدوها الأوتار .

قال : فقال أبي : سمعته من فضل الأعرج وفاتني عن أحمد بن حنبل ، وأنكرته في نفسي وكان يقع في نفسي أنه أبو وهب الكلاعي صاحب مكحول ، وكان أصحابنا يستعملون هذا الحديث ولا يمكنني أن أقول فيه شيئاً لكون أحمد رواه ، فلما قدمت حمص حدثنا ابن الصفي عن أبي المغيرة حدثني محمد بن المهاجر حدثني عقيل بن سعيد عن أبي وهب الكلاعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو حاتم : وحدثني به هشام بن عمار عن يحيى بن حمزة عن أبي وهب عن سليمان بن موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : فعلمت أن ذلك باطل ، وأبو وهب الكلاعي من طبقة الأوزاعي وهو دون التابعي فبقيت متعجباً من أحمد بن حنبل كيف خفي عليه ، فإني أنكرته حسين سمعته قبل أن أقف على علته .

قال : وعقيل بن شبيب أو ابن سعيد مجهول لا أعرفه .

قلت : وقد رواه أبو داود في السنن مفرقاً ، عن هارون بن عبد الله والنسائي عن محمد بن رافع كلاهما عن هشام بن سعيد . كما رواه أحمد بن حنبل . زاد أبو داود فروى حديثاً آخر بالإسناد المذكور متنه : (( عليكم بكل كميت أغر محجل أو أشقر ... )) الحديث .

ثم رواه عن محمد بن عوف عن أبي المغيرة عن محمد بن مهاجر حدثني عقيل بن شبيب أو ابن سعيد عن أبي وهب ، فذكر نحوه ولم ينسبه ولم يقل : وكانت له صحبة .

ووقع لابن القطان في هذا الحديث تعقب على ابن أبي حاتم في ترجمة أبي وهب رددناه على ابن القطان في مختصر التهذيب والله الموفق .

فهذه الأنواع الستة التي يقع بها التعليل وقد تبين كيفية التصرف فيها وما عداها إن واجد لم يخف إلحاقه بها .

[ التعليل بالاختلاف في المتن : ]

وأما الاختلاف الذي يقع في المتن ، فقد أعل به المحدثون والفقهاء كثيراً من الأحاديث . كما تقدم لشيخنا عن ابن عبد البر  في حديث البسملة وكما تقدم في نوع المنكر في حديث ابن جريج في وضع الخاتم ، وكما روى عن أحمد في رده حديث رافع بن خديج في النهي عن المخابرة للاضطراب .

[ الحافظ يضع قاعدة ويضرب لها الأمثلة : ]

وأمثلة ذلك كثيرة ، وللتحقيق في ذلك مجال طويل يستدعي تقسيماً وبيان أمثلة ليصبر ذلك قاعدة يرجع إليها فنقول : إذا اختلفت مخارج الحديث وتباعدت ألفاظه أو كان سياق الحديث في حكاية واقعة ، يظهر تعددها ، فالذي يتعين القول به أن يجعلا حديثين مستقلين .

مثال الأول : حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة السهو يوم ذي اليدين وأن النبي صلى الله عليه وسلم سلم من ركعتين ثم قام صلى الله عليه وسلم إلى خشبة في المسجد فاتكأ عليه فأدركه ذو اليدين بسهوه فسأل صلى الله عليه وسلم الصحابة رضي الله عنهم فقالوا : نعم . فصلى صلى الله عليه وسلم الركعتين اللتين سها عنهما .

وحديث عمران بن حصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العصر فسلم من ثلاث ثم دخل صلى الله عليه وسلم منزله فجاء الخرباق وكان في يديه طول فناداه صلى الله عليه وسلم فأخبره بصنيعه فخرج صلى الله عليه وسلم وهو غضبان فسأل الناس فأخبروه فأتم صلى الله عليه

وسلم صلاته .

وحديث معاوية بن حديج رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم المغرب ، فسلم من

ركعتين ، ثم انصرف ، فأدركه طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه فأخبره بصنيعه صلى الله عليه وسلم فرجع صلى الله عليه وسلم فأتم الصلاة .

فإن هذه الأحاديث الثلاثة ( ليس الواقعة واحدة ) بل سياقها يشعر بتعددها ، وقد غلط بعضهم ، فجعل حديث أبي هريرة وعمران بن حصين رضي الله عنهما بقصة واحدة ورام الجمع بينهما على وجه من التعسف الذي يستنكر .

وسببه الاعتماد على قول من قال : أن ذا اليدين اسمه : الخرباق وعلى تقدير ثبوت أنه هو ، فلا مانع أن يقع ذلك له في واقعتين لا سيما وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم من ركعتين ، وفي حديث عمران أنه صلى الله عليه وسلم سلم من ثلاث إلى غير ذلك من الاختلاف المشعر بكونهما واقعين .

وكذا حديث معاوية بن حديج ظاهر في أنه قصة ثالثة ، لأن ذكر أن ذلك في المغرب ، وأن المنبه على السهو طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه .

( ومثال الثاني : حديث على بن رباح ) قال :

سمعت فضالة بن عبيد  رضي الله عنه يقول : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بقلادة فيها خرز وذهب وهي من المغانم تباع فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة ، فنزع وحده ، ثم قال صلى الله عليه وسلم لهم :

(( الذهب بالذهب وزناً بوزن )) . وحديث حنش الصنعاني عن فضالة رضي الله عنه قال :

(أ) (( اشتريت يوم خيبر قلادة فيها ذهب باثني عشر ديناراً فيها أكثر من اثني عشر ديناراً ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه فقال صلى الله عليه وسلم : (( لا تباع حتى تفصل )) .

(ب) وفي لفظ له (( كنا نبايع يوم خيبر اليهود الوقية الذهب بالدينارين والثلاثة ، فقال : صل الله عليه وسلم : (( لا تبيعوا الذهب إلا وزناً بوزن )) .

(ج) وفي رواية له : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر بقلادة فيها ذهب وخرز ابتاعها رجل بتسعة دنانير أو سبعة فقال صلى الله عليه وسلم : (( لا حتى يميز بينه وبينها ... )) الحديث .

(د) وفي رواية لحنش قال : كنا مع فضالة في غزوة فطارت لي ولأصحابي قلادة بها ذهب وجوهر فأردت أن أشتريها فقال لي فضالة رضي الله عنه : انزع ذهبها فاجعله في كفة واجعل ذهبك في كفة فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فلا يأخذن إلا مثلاً بمثل )) . وهذه الروايات كلها في صحيح مسلم .

فقال البيهقي وغيره : هذه الروايات محمولة على أنها كانت بيوعاً شهدها فضالة رضي الله عنه فأداها

كلها وحنش أداها متفرقة .

قلت : بل هما حديثان لا أكثر رواهما جميعاً حنش بألفاظ مختلفة وروى عن علي بن رباح أحدها .

وبيان ذلك أن حديث علي بن رباح شبيه برواية حنش الثالثة وليست بينهما مخالفة إلا في تعيين وزنها في رواية حنش دون رواية الآخر ، فهذا حديث واحد اتفقا فيه على ذكر القلادة وأنها مشتملة على ذهب وخرز . وأن النبي صلى الله عليه وسلم منع من بيعها حنى يميز بين الذهب وغيره .

فأما رواية حنش الأولى ، فليس فيها إلا ذكر المفاضلة في كون ( القلادة ) كان فيها أكثر من اثني عشر والثمن كان اثني عشر ( فنهاهم عن ذلك ) .

وروايته الثانية شبيهه بذلك إلا أنها عامة في النهي عن بيع الذهب متفاضلاً وتلك فيها بيان القصة فقط . والأخيرة شبيهة بالثانية ، والقصة التي وقعت فيها ، إنما هي للتابعي لا للصحابي فوضح أنهما حديثان لا أكثر والله أعلم .

ثم إن هذا كله لا ينافي المقصود من الحديث ، فإن الروايات كلها متفقة على المنع من بيع الذهب بالذهب ، ومعه شئ [ آخر ] غيره ، فلو لم يمكن الجمع لما ضر الاختلاف . والله أعلم . فهذان المثالان واضحان فيما يمكن تعدد الواقعة وفيما يبعد . فأما إذا بعد الجمع بين الروايات بأن يكون المخرج واحداً فلا ينبغي سلوك تلك الطريق المتعسفة .

مثاله : حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أيضاً في قصة ذي اليدين فإن في بعض طرقه أن ذلك كان في صلاة الظهر ، وفي أخرى في صلاة العصر وفي أكثر الروايات قال : (( إحدى صلاتي العشي إما الظهر أو العصر )) .

فمن زعم أن رواية أبي هريرة رضي الله عنه لقصة ذي اليدين كانت متعددة ، وقعت مرة في الظهر ومرة في العصر من أجل هذا الاختلاف ارتكب طريقاً وعراً ، بل هي قصة واحدة . وأدل دليل على ذلك الرواية التي فيها التردد هل هي الظهر أو العصر فإنها مشعرة بأن الراوي كان يشك في أيهما .

ففي بعض الأحيان كان يغلب على ظنه أحدهما فيجزم به . وكذا وقع في بعض طرقه يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للناس ما يقول ذي اليدين ؟ قالوا : صدق .

وفي أخرى : أكما يقول ذو اليدين ؟ قالوا : نعم .

وفي أخرى : فأومئوا أن نعم . فالغالب أن هذا الاختلاف من الرواة في التعبير عن صورة الجواب ولا يلزم من ذلك تعدد الواقعة .

قال العلائي :

(( وهذه الطريقة يسلكها الشيخ محي الدين توصلاً إلى تصحيح كل من الروايات صوناً للرواة الثقاة أن يتوجه الغلط إلى بعضهم حتى أنه قال في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما :

إن عمر رضي الله عنه كان نذر اعتكاف ليلة في الجاهلية فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ،

فأمره صلى الله عليه وسلم أن يفي بنذره وفي رواية : اعتكاف يوم وكلاهما في الصحيح . .

فقال الشيخ محي الدين : هما واقعتان كان على عمر نذران ، ليلة بمفردها ويوماً بمفرده فسأل عن هذا

مرة وعن الآخر أخرى .

وفي هذا الحمل نظر لا يخفى ، لأنه من البعيد أن لا يفهم عمر رضي الله عنه من الإذن بالوفاء بنذر اليوم الوفاء بنذر الآخر حتى يسأل عنه مرة أخرى لا سيما والواقعة في أيام يسيرة يبعد النسيان فيها جداً ، لأن في كل من الروايات أن ذلك كان في أيام تفرقة السبي عقب وقعة حنين ، ففي هذا الحمل من أجل تحسين الظن بالرواة يطرق الخلل إلى عمر رضي الله عنه . أما النسيان في المدة اليسيرة أو بأن يخفى عليه إلحاق بالليلة في حكم الوفاء بنذره في الاعتكاف .

وهو من الأمر البين الذي لا يخفى على من هو دونه ، فضلاً عنه لأن سبب سؤاله إنما هو عن كون نذره صدر في الجاهلية فسأل هل يفي في الإسلام بما نذر في الجاهلية فحيث حصل له الجواب عن ذلك كان عاماً في كل نذر شرعي .

[ التحقيق في الجمع بين الروايتين : ]

ولكن التحقيق في الجمع بين هاتين الروايتين أن عمر رضي الله تعالى عنه كان عليه نذر اعتكاف يوم بليلته سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه فأمره بالوفاء به ، فعبر بعض الرواة عنه بيوم وأراد بليلته وعبر بعضهم بليلة وأراد بيومها .

والتعبير بكل واحد من هذين عن المجموع من المجاز الشائع الكثير الاستعمال ، فالحمل عليه أولى من جعل القصة متعددة . وأغرب من ذلك وأعجب ما ذكره الشيخ محي الدين أيضاً في حديث بني الإسلام على خمس ، لأنه جاء في الصحيح من رواية ابن عمر رضي الله عنهما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :

(( بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت )) . فقال رجل : وحج البين وصوم رمضان فقال له ابن عمر رضي الله عنهما لا ، صوم رمضان وحج البيت . هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

ثم جاء الحديث في الصحيح أيضاً من طريق أخرى عن ابن عمر رضي الله عنهما ولفظه : (( وحج البيت وصوم رمضان )) .

فقال الشيخ محي الدين : (( هذا محمول على أن ابن عمر رضي الله عنهما سمع الحدي من النبي صلى الله عليه وسلم على الوجهين )) . ولا شك في أن مثل هذا هنا بعيد جداً . فإنه لو سمعه على الوجهين لم ينكر على من قال أحدهما إلا أن يكون حينئذ ناسياً أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله على الوجه الذي أنكره .

والظاهر القوي أن أحد رواة هذه الطريق التي قدم فيها الحج على الصيام رواه بالمعنى فقدم وأخر ولم

يبلغه نهي ابن عمر رضي الله عنهما عن ذلك محافظة على كيفية ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم فهذا الحمل وهو رواية بعض الرواة لهذه الطريق على المعنى أولى من تطرق النسيان إلى ابن عمر رضي

الله عنهما أو الإنكار والرد للفظ الذي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم .

ومما يبعد فيه احتمال تعدد الواقعة ويمكن الجمع فيه بين الروايات ولو اختلفت المخارج ما يكون الحمل فيه على طريق من المجاز كما في حديث عمر رضي الله عنه المتقدم . أو بتقييد في الإطلاق كما في حديث يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه في النهي عن مس الذكر باليمين فإن بعض الرواة عن يحيى أطلق وبعضهم قيده بحالة البول .

أو بتخصيص العام كما في حديث مالك عن ابن عمر رضي الله عنهما في زكاة الفطر وقوله فيه (( من المسلمين )) . وقد تقدم الكلام عليه .

أو بتفسير المبهم وتبيين المجمل كما في حديث وائل بن حجر رضي الله عنه في قصة صاحب التسعة ، فإن في رواية أبي هريرة رضي الله عنه عند الترمذي إبهام كيفية القتل ، وفي حديث وائل عند مسلم بيانها .

وكحديث الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه في قصة كفارة الوقاع في رمضان ، فإن مالكاً وطائف رووه عنه بلفظ : أن رجلاً أفطر في رمضان ، ولم يبينوا ما أفطر به ، ورواه جمهور أصحاب الزهري فبينوا أن الفطر كان بالجماع .

وأما ما يبعد فيه احتمال التعدد ويبعد أيضاً فيه الجمع بين الروايات ، فهو على قسمين :

أحدهما : ما لا يتضمن المخالفة بين الروايات اختلاف حكم شرعي فلا يقدح ذلك في الحديث وتحمل تلك المخالفات على خلل وقع لبعض الرواة إذا رووه بالمعنى متصرفين بما يخرجه عن أصله .

مثاله : حديث جابر رضي الله عنه في وفاة دين أبيه ، فإنه مخرج في الصحيح من عدة طرق وفي سياقه تباين لا يتأتى الجمع فيه إلا بتكلف شديد ، لأن جميع الروايات عبارة عن دين كان على أبيه ليهود فأوفاهم من نخله ذلك العام .

ففي رواية وهب بن كيسان أنه كان ثلاثين وسقاً وأن النبي صلى الله عليه وسلم كلمه في الصبر فأبى ، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم النخل فمشى فيها ثم قال جابر رضي الله عنه جدله فجدله بعد ما رجع النبي صلى الله عليه وسلم .

وفي حديث عبد الله بن كعب عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم أن يقبلوا ثمر الحائط ويحللوه ، فأبوا ... )) .

وفي رواية الشعبي ، عن جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : اذهب فيبدر كل ثمر على ناحية ، وأنه صلى الله عليه وسلم طاف في أعظمها ببدراً ، ثم جلس صلى الله عليه وسلم فقال : ادع أصحابك فما زال يكيل لهم حتى أدى الله تعالى أمانة والدي ، وفي آخره ، فسلم

الله البيادر كلها .

ففي حمل هذه الروايات اختلاف شديد ، كما ترى ، وفي حملها على التعدد بعد وتكلف والأقرب

حملها على ما أشرنا إليه أن المقصود من جميعها البركة في التمر بسبب النبي صلى الله عليه وسلم وأن الاختلاف وقع من بعض الرواة .

وكذا حديث جابر رضي الله عنه في قصة الجمل ، فإن الروايات اختلفت في قدر الثمن وفي الاشتراط وعدمه وقد ذكر البخاري ذلك مبيناً في موضعين من صحيحه وقال : (( إن قول الشعبي بوقية أرجح وأن الاشتراط أصح )) . وهو ذهاب منه إلى ترجيح بعض الروايات على بعض وأما دعوى التعدد فيها فغير ممكن . ومن ذلك حديث عائشة رضي الله عنها في ضياع العقد ونزول آية التيمم .

ففي رواية القاسم أن المكان كان البيداء أو ذات الجيش وفيها انقطع عقد لي ، وفيها أنهم باتوا على غير ماء وفيها فبعضنا البعير الذي كنت عليه ، فوجدنا العقد تحته . وفي رواية عروة (( أنه سقطت في الأبواء )) .

وفي رواية عنه في مكان يقال له الصلصل ، وفيه (( أن القلادة استعارتها عائشة من أسماء رضي الله عنها )) وفيها (( انسلت القلادة من عنقها )) .

وفيها (( أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل رجلين سلتمسانها فوجداها وحضرت الصلاة ، فلم يرديا كيف يصنعان )) .

وفي رواية (( أرسل صلى الله عليه وسلم ناساً )) وعين في رواية منهم أسيد من حضير . وفيها (( أن الذين أرسلوا حضرتهم الصلاة ، فصلوا على غير وضوء )) .

قال ابن عبد البر :

(( ليس اختلاف النقلة في العقد ، ولا في القلادة ولا في الموضع الذي سقط ذلك فيه لعائشة رضي الله عنها ولا في كونها لعائشة رضي الله عنها أو لأسماء رضي الله عنها ما يقدح في الحديث ، ولا يوهنه لأنه المعنى المراد من الحديث والمقصود هو نزول آية التيمم ، ولم يختلفوا في ذلك )) .

قلت : وكلامه يشعر بتعذر الجمع بين الروايتين ، وليس كذلك بل الجمع بينهما ممكن بالتعبير عن القلادة بالعقد . وبأن أضافها إلى أسماء رضي الله عنها إضافة ملك وإلى عائشة إضافة يد ، وبأن انسلالها كان بسبب انقطاعها وبأن الإرسال في طلبها كان في ابتداء الحال ووجدانها كان في آخره بعد أن بعثوا البعير .

وأما قوله : أن الذين ذهبوا في طلبها هو الذين وجدوها فلا يعد فيه أيضاً لاحتمال أن يكون وجدانهم إياها بعد رجوعهم . وإذا تقرر ذلك كانت القضية واحدة وليس فيها مخالفة إلا أن في رواية عروة زيادة ما في رواية القاسم من ذكر صلاة المبعوثين في طلبها بغير وضوء ولا اختلاف ولا تعارض .

ومن الأحاديث التي رواها بعض الرواة بالمعنى الذي وقع له وحصل من ذلك الغلط لبعض الفقهاء ما

رواه العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ... )) الحديث .

ورواه عنه سفيان بن عيينة وإسماعيل بن جعفر وروح بن القاسم وعبد العزيز الدراوردي ، وطائفة من أصحابه .

وهكذا رواه عنه شعبة في رواية حفاظ أصحابه وجمهورهم . وانفرد وهب بن جرير عن شعبة بلفظ : (( لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب )) . حتى زعم بعضهم أن هذه الرواية مفسرة للخداج الذي في الحديث وأنه عدم الأجزاء . وهذا لا يتأتى له إلا لو كان مخرج الحديث مختلفاً .

فأما والسند واحد متحد ، فلا ريب في أنه حديث واحد اختلف لفظه فتكون رواية وهب بن جرير شاذة بالنسبة إلى ألفاظ بقية الرواة ، لاتفاقهم دونه ، على اللفظ الأول لأنه يبعد كل البعد أن يكون أبو هريرة رضي الله عنه سمعه باللفظين ثم نقل عنه ذلك فلم يذكره العلاء لأحد من رواته على كثرتهم إلا لشعبة ، ثم لم يذكره شعبة لأحد من رواته على كثرتهم إلا لوهب بن جرير . ومن ذلك حديث الواهبة نفسها ، فإن مداره على أبي حازم عن سهل بن سعد رضي الله عنه . واختلف الرواة على أبي حازم فقال مالك وجماعة معه : (( فقد زوجتكها )) .

وقال ابن عيينة : (( أنكحتها ))

وقال ابن أبي حازم ويعقوب بن عبد الرحمن : (( ملكتكها )) .

وقال الثوري : (( أملكتكها )) .

وقال أبو غسان : (( امكناكها )) .

وأكثر هذه الروايات في الصحيحين فمن البعيد جداً أن يكون سهل بن سعد رضي الله عنه شهد هذه القصة من أولها إلى آخرها مراراً عديدة ، فسمع في كل مرة لفظاً غير الذي سمعه في الأخرى .

بل ربما يعلم ذلك بطريق القطع أيضاً فالمقطوع به أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل هذه الألفاظ كلها في مرة واحدة تلك الساعة ، فلم يبق إلا أن يقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لفظاً منها ، وعبر عنه بقية الرواة بالمعنى والله أعلم .

ثم إن الاختلاف في الإسناد إذا كان بين ثقات متساوين ، وتعذر الترجيح ، فهو في الحقيقة لا يضر في قبول الحديث والحكم بصحته ، لأنه عن ثقة في الجملة . ولكن يضر وذلك في الأصحية عند التعارض مثلاً .

فحديث لم يختلف فيه على رواية أصلاً أصح من حديث اختلف فيه في الجملة ، وإن كان ذلك الاختلاف في نفسه يرجع إلى أمر لا يستلزم القدح والله أعلم .

النوع العشرون : المدرج

116- قوله (ص) : (( وهو أقسام منها : ما أدرج في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم

من كلام بعض رواته ... )) إلى آخره .

لم يذكر المصنف من أقسام المدرج إلا أربعة :

قسم في المتن وثلاثة في الإسناد . وقد قسمه الخطيب الذي صنف فيه إلى سبعة أقسام . وقد لخصته ورتبته على ( الأبواب والأسانيد ) [ وزدت ] على ما ذكره الخطيب أكثر من القدر الذي ذكره .

[ مواضع الإدراج ] :

وحاصله أن الإدراج تارة يقع في المتن وتارة في الإسناد . فأما الذي في المتن فتارة أن يدرج الراوي في حديث النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً من كلام غيره مع إيهام كونه من كلامه . وهو على ثلاث مراتب :

[ مراتب الإدراج : ]

1- أحدها : أن يكون ذلك في أول المتن وهو نادر جداً .

2- ثانيها : أن يكون في آخره وهو الأكثر .

3- ثالثها : أن يكون في الوسط وهو القليل .

ثم قد يكون المدرج من قول الصحابي أو التابعي أو من بعده .

[ وجوه معرفة المدرج :]

والطريق إلى معرفة ذلك من وجوه :

1- الأول : أن يستحيل إضافة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

2- الثاني : أن يصرح الصحابي بأنه لم يسمع تلك الجملة من النبي صلى الله عليه وسلم .

3- الثالث : أن يصرح بعض الرواة بتفضيل المدرج فيه عن المتن المرفوع فيه بأن يضيف الكلام إلى قائله .

مثال الأول : وهو ما لا تصح إضافته إلى النبي صلى الله عليه وسلم . حديث ابن المبارك ، عن يونس ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( للعبد المملوك أجران )) .

(( والذي نفسي بيده لولا الجهاد في سبيل الله والحج وبر أمي لأحببت أن أموت وأنا مملوك )) . رواه البخاري عن بشر بن محمد عن ابن المبارك .

فهذا الفصل الذي في آخر الحديث لا يجوز أن يكون من قول النبي صلى الله عليه وسلم إذ يمتنع عليه أن يتمنى أن يصير مملوكاً وأيضاً فلم يكن له أم يبرها ، بل هذا من قول أبي هريرة رضي الله عنه أدرج في المتن .

وقد بينه حيان بن موسى عن ابن المبارك ، فساق الحديث إلى قوله (( أجران )) فقال فيه : (( والذي

نفس أبي هريرة بيده ... )) إلى آخره . وهكذا هو في رواية ابن وهب عند مسلم وهذا من فوائد

المستخرجات كما قدمناه .

ومثال الثاني : حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم .

(( من مات وهو لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة )) .

(( ومن مات وهو يشرك بالله شيئاً دجل النار )) .

هكذا رواه أحمد بن عبد الجبار العطاردي ، عن أبي بكر ابن عياش بإسناده ووهم فيه . فقد رواه الأسود بن عامر شاذان وغيره عن أبي بكر بن عياش بلفظ : (( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( من جعل لله عز وجل نداً دخل النار )) وأخرى أقولها ولم أسمعها منه صلى الله عليه وسلم )) . من مات لا يجعل لله نداً أدخله النار )) .

والحديث في (( صحيح مسلم )) من غير هذا الوجه عن ابن مسعود رضي الله عنه ولفظه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كلمة وقلت : أخرى فذكره . فهذا كالذي قبله في الجزم بكونه مدرجاً .

ومثال الثالث : ما ذكره المصنف من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وقوله : (( فإذا قلت هذا ، قضيت صلاتك )) .

ومنه أيضاً حديث عبد الله بن خيران ، عن شعبة ، عن أنس بن سيرين ، أنه سمع ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول : طلقت امرأتي وهو حائض ، فذكر عمر رضي الله تعالى عنه ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : (( مره فليراجعها ، فإذا طهرت فليطلقها )) قال : فتحتسب بالتطليقة ؟

قال : فمه ؟

قال الخطيب : (( هذا مدرج والصواب أن الاستفهام من قول ابن سيرين ، وأن الجواب من ابن عمر رضي الله تعالى عنهما )) . بين ذلك محمد بن جعفر ويحيى بن سعيد القطان ، والنضر بن شميل في روايتهم عن شعبة .

قلت : وكذا فصله خالد بن الحارث ، وبهز بن أسد وسليمان بن حرب عن شعبة ، وحديث بعضهم في الصحيحين . وكذلك رواه مسلم من طريق عبد الملك بن أبي سليمان عن أنس بن سيرين .

قال الخطيب : (( ورواه بشر بن عمر الزهراني ، عن شعبة فوهم فيه وهماً فاحشاً ، فإن قال فيه : (( قال عمر رضي الله عنه:يا رسول الله..أفتحتسب بتلك التطليقة ؟ قال صلى الله عليه وسلم : نعم ))

قلت : والحكم على هذا القسم الثالث بالإدراج يكون بحسب غلبة ظن المحدث الحافظ الناقد ، ولا يوجب القطع بذلك خلاف القسمين الأولين ، وأكثر هذا الثالث يقع تفسيراً لبعض الألفاظ الواقعة في الحديث كما في أحاديث الشغار والمحاقلة والمزابنة . والزهو والفزع والنفخ والبعث والغرة وغيرهما

والأمر في ذلك سهل لأنه إن ثبت رفعه ، فذاك وإلا فالراوي أعرف بتفسير ما روى من غيره . فأما

ما وقع في المتن من كلام الصحابة رضي الله تعالى عنهم مدرجاً في كلام النبي صلى الله عليه وسلم

فقد ذكرنا أمثلته .

وربما وقع الحكم بالإدراج في حديث يكون ذلك اللفظ ثابتاً من كلام النبي صلى الله عليه وسلم لكن من رواية أخرى كما في حديث أبي موسى : (( إن بين يدي الساعة أياماً يرفع فيها العلم ويظهر فيها الهرج ، والهرج القتل )) . فصله بعض الحفاظ من الرواة وبين أن قوله : (( والهرج القتل من كلام أبي موسى )) . ومع ذلك ، فقد ثبت تفسيره بذلك من وجه آخر مرفوعاً في حديث سالم بن عبدالله بن عمر رضي الله عنهم عن أبي هريرة رضي الله عنه . ومثل ذلك حديث أسبغوا الوضوء . كما سيأتي إن شاء الله تعالى .

وأما ما وقع من كلام التابعين ، فمن بعدهم ، فمنه حديث عد الأسماء الحسنى فيما رواه الترمذي ، واستغربه من طريق الوليد بن مسلم ، عن أبي الزناد عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه . فإن الحديث في الصحيح من طريق شعبة عن أبي الزناد دون ذكر الأسماء .

فأما سياق الأسماء : فيقال : إنها مدرجة في الخبر من كلام الوليد بن مسلم كما ذكرت ذلك بشواهده في الكتاب الذي جمعته فيه .

[ ما أدرج في الحديث من كلام التابعين : ]

وأما ما أدرج من كلام بعض التابعين أو من بعدهم في كلام الصحابة رضي الله عنهم فمنه حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في قصة مرضه بمكة واستئذان النبي صلى الله عليه وسلم في الوصية ، وفيه : لكن البائس سعد بن خولة يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم إن مات بمكة فإن قوله : (( يرثي له .. )) إلى آخره من كلام الزهري أدرج في الخبر إذ رواه عن عامر بن سعد ، عن أبيه .

وكذلك حديث عائشة رضي الله تعالى عنها الذي رواه مسلم من طريق زهير عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن أبي سلمة عنه رضي الله عنها قالت : كون يكون عليّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان للشغل برسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قوله : (( للشغل ... )) إلى آخره من كلام يحيى بن سعيد .

كذلك رواه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج عن يحيى بن سعيد وقال في آخره : (( فظننت أن ذلك لمكانها من النبي صلى الله عليه وسلم يحيى بن سعيد بقوله )) . ورواه عبد الرزاق عن الثوري بدون الزيادة التي في آخره . وكذا هو في مسلم من رواية ابن عيينة وعبد الوهاب الثقفي . ومنه أيضاً حديث مالك عن ابن شهاب ، عن ابن أكيمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : (( إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة جهر فيها بالقراءة فلما انصرف صلى الله عليه وسلم قال : هل جهر معي أحد منكم ؟ فقال رجل منهم : نعم أنا يا رسول الله . قال صلى الله عليه وسلم : إني أقول : ما لي أنازع القرآن )) . فانتهى الناس عن القراءة مع النبي صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه من الصلوات . بين محمد بن يحيى الذهلي وغيره من الحفاظ أن قوله : (( فانتهى الناس )) إلى آخره من كلام

الزهري أدرج في الخبر .

[ الإدراج في أول الخبر : ]

وأما ما وقع في الإدراج في أول الخبر فقد ذكر شيخنا مثاله وهو قول أبي هريرة رضي الله تعالى عنه : (( أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار )) . على أن قوله : (( أسبغوا الوضوء )) قد ثبت من كلام النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عبد الله بن عمرو في (( الصحيح )) .

وفتشت ما جمعه الخطيب في المدرج ومقدار ما زدت عليه منه فلم أجد له مثالاً آخر إلا ما جاء في بعض طرق حديث بسرة الآتي من رواية محمد بن دينار ، عن هشام بن حسان .

[ الإدراج في وسط الحديث : ]

وأما ما وقع في وسطه ، فقد نقل شيخنا عن ابن دقيق العيد أنه ضعف الحكم بالإدراج على مثل ذلك

وقد وقع منه قول الزهري : (( والتحنث : التعبد )) في حديثه عن عروة ، عن عائشة رضي الله عنها في بدء الوحي في قولها فيه : وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد ... )) إلى آخر الحديث بطوله فإن قوله : (( وهو التعبد )) من كلام الزهري أدرج في الحديث من غير تمييز كما أوضحته في الشرح .

وكذلك حديث إبراهيم بن علي التميمي عن مالك بن أنس ، عن ابن شهاب عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر وهو غير محرم فقيل له : إن ابن خطل بأستار الكعبة فقال صلى الله عليه وسلم : (( اقتلوه )) فإن قوله : (( وهو غير محرم )) من كلام الزهري أدرجه هذا الراوي في الخبر . وقد رواه أصحاب الموطأ بدون هذه الزيادة ، وبين بعضهم أنها كلام الزهري . ومن ذلك حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( الطيرة شرك ، وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل )) . رواه الترمذي من طريق وكيع عن سفيان عن سلمة بن كهيل عن عيسى بن عاصم ، عن زر بن حبيش عن عبد الله فذكره .

قال : هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من حديث سلمة وقد رواه شعبة عن سلمة .

قال : وسمعت محمداً يقول : كان سليمان بن حرب يقول في هذا (( وما منا إلا )) : هذا عندي من قول ابن مسعود رضي الله تعالى عنه .

قلت : رواه أبو داود الطيالسي في مسنده عن شعبة مثل حديث وكيع ورواه علي بن الجعد وغندر وحجاج بن محمد ووهب بن جرير والنضر بن شميل وجماعة عن شعبة فلم يذكروا فيه (( وما منا إلا )) . وهكذا رواه إسحاق بن راهويه عن أبي نعيم ، عن سفيان الثوري .

قلت : والحكم على هذه الجملة بالإدراج متعين وهو يشبه ( ما قدمناه ) في المدرك الأول للإدراج وهو ما لا يجوز أن يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم لاستحالة أن يضاف إليه شئ من الشرك .

ومن ذلك حديث فضالة بن عبيد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( أنا زعيم والزعيم

الحميل ببيت في ربض الجنة لمن آمن بي وهاجر ... )) الحديث . أشار ابن حبان إلى أن قوله : (( والزعيم الحميل )) مدرج ومن ذلك قوله في حديث عكرمة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه : في صفة نزول الوحي : (( تنزل الملائكة في العنان والعنان السحاب ... )) الحديث فإن قوله : (( و‘إن قوله : (( والعنان السحاب )) مدرج . وكذا قوله : في حديث لقيط بن صبرة في قصة وفادته . قال فيه : (( فأتينا بقناع من رطب والقناع الطبق ... )) الحديث . فقوله : (( والقناع الطبق )) مدرج في الخبر . وقد ذكرت شواهد ذلك جميعه في الكتاب المذكور .

وعلى هذا فتضعيف ابن دقيق العيد للحكم بذلك فيه نظر فإنه إذا ثبت بطريقه أن ذلك من ككلام بعض الرواة لا مانع من الحكم عليه بالإدراج . وفي الجملة إذا قام الدليل على إدراج جملة معينة بحيث يغلب على الظن ذلك فسواء كان في الأول أو الآخر فإن سبب ذلك الاختصار من بعض الرواة بحذف أداة التفسير أو التفصيل فيجئ من بعده فيرويه مدمجاً من غير تفصيل فيقع ذلك . فقد روينا في كتاب الصلاة لأبي حاتم ابن حبان قال :

(( ثنا عمر بن محمد الهمداني قال : ثنا أبو بكر الأثرم قال : قال أبو عبد الله : أحمد بن حنبل كان وكيع يقول في الحديث يعني كذا وكذا وربما حذف يعني وذكر التفسير في الحديث . وكذا كان الزهري يفسر الأحاديث الكثيراً وربما أسقط أداة التفسير فكان بعض أقرانه ربما يقول له : افصل كلامك من كلام النبي صلى الله عليه وسلم . وقد ذكرت كثيراً من هذه الحكايات وكثيراً من أمثلة ذلك في الكتاب المذكور ، اسمه (( تقريب المنهج بترتيب المدرج )) أعان الله على تكميله وتبييضه إنه على كل شئ قدير .

تنبيه

استدرك سيخنا علي الخطيب قوله :

(( إن عبد الحميد بن جعفر تفرد عن هشام بزيادة ( ذكر الاثنين والرفغين ) في حديث بسرة بأن يزيد بن زريع رواه أيضاً عن أيوب وهو كما قال إلا أنه مدرج أيضاً . والذي أدرجه هو أبو كامل الجحدري راويه عن يزيد .

وقد خالفه عبيد الله بن عمر القواريري وأبو الأشعث أحمد بن المقدام وأحمد بن عبيد الله العنبري وغير واحد فرووه عن يزيد بن زريع مفصولاً . ولفظ الدار قطني من طريق أبي الأشعث عن بسرة أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( من مس ذكره فليتوضأ )) قال فكان عروة يقول (( إذا مس رفغه أو أثنييه أو ذكره فليتوضأ )) .

وذكر شيخنا أن الدار قطني زاد فيه ذكر الأنثيين من رواية ابن جريج أيضاً عن هشام وهو كما قال ،

إلا أنه مدرج أيضاً كما بينه الدار قطني وكذا أخرجه الطبراني من رواية ابن جريج . وله طريقان

آخران عن هشام بن عروة مدرجان يستدرك بهما على الخطيب أيضاً .

1- أحدهما : من محمد بن دينار عن هشام عن أبيه عن بسرة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من مس رفغيه أو أنثييه أو ذكره ، فلا يصلي حتى يتوضأ )) .

2- ثانيهما : رواه ابن شاهين في (( كتاب )) الأبواب عن ابن أبي داود ويحيى بن صاعد قالا : ثنا محمد بن بشار : ثنا عبد الأعلى : ثنا هشام  بن حسان ثنا هشام بن عروة عن أبيه فذكر الحديث : (( إذا مس أحدكم ذكره أو مثييه فليعد الوضوء )) .

وسيأتي لفظه في النوع الثاني والعشرين إن شاء الله تعالى ومما يدل على أنه لم يتقنه أن ابن شاهين رواه أيضاً عن البغوي (هـ) عن الدقيقي ، عن يزيد بن هارون ، عن هشام بن حسان عن هشام بن عروة بلفظ : (( إذا مس أحدكم ذكره أو قال فرجه أو قال أنثييه فليتوضأ ، فتردده يدل على أنه ما ضبطه

وقد فصله حماد بن زيد وأيوب وغير واحد عن هشام واقتصر على المرفوع منه فقط وشعبة الثوري وتمام عشرين من الحفاظ . كما بينته في الكتاب المذكور ولله الحمد .

ومن أمثلته أيضاً حديث (( ما عوت النية في الحديث إلا لشرفه )) . رواه الخطيب من طريق شبل بن عباد عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعاً وبين أنه لا أصل له من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو من كلام يزيد بن هارون دخل لبعض الرواة فيه إسناد في إسناد .

قلت : وأما مدرج الإسناد فهو على خمسة أقسام :

1- أحدها : أن يكون المتن مختلف الإسناد بالنسبة إلى أفراد رواته ، فيرويه راو واحد عنهم ، فيحمل بعض رواياتهم على بعض ولا يميز بينها .

2- ثانيها : أن يكون المتن عند الراوي له بالإسناد إلا طرفاً منه فإنه عنده بإسناد آخر ، فيرويه بعضهم عنه تاماً بالإسناد الأول .

3- ثالثها : أن يكون متنان مختلفي الإسناد ، فيدرج بعض الرواة شيئاً من أحدهما في الآخر ، ولا يكون ذلك الشئ من رواية ذلك الراوي ، ومن هذه الحثيثة ، فراق القسم الذي قبله . وهذه الأقسام الثلاثة قد ذكرها ابن الصلاح .

( وذكر مثلها عن حميد عن أنس رضي الله تعالى عنه ) . إلا أن الأول قد يقع فيه إيهام وصل مرسل أو إيصال منقطع .

مثاله : ما رواه عثمان بن عمر ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق عن أبي عبد الرحمن السلمي وعبد الله بن حلام عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بيت سودة رضي الله عنها فإذا امرأة على الطريق قد تشوفت ترجو أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ... )) الحديث .

وفيه (( إذا رأى أحدكم امرأة تعجبه ، فليأت أهله فإن معها مثل الذي معها )) . فظاهر هذا السياق

يرهم أن أبا إسحاق رواه عن أبي عبد الرحمن وعبد الله بن حلام جميعاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه . وليس كذلك ، وإنما رواه أبو إسحاق ، عن أبي عبد الرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً وعن أبي إسحاق عن عبد الله بن حلام ، عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه متصلاً بينه عبيدالله بن موسى وقبيصة ومعاوية بن هشام عن الثوري متصلاً .

4- رابعها : أن يكون المتن عند الراوي إلا طرفاً ، فإنه لم يسمعه من شيخه فيه وإنما سمعه من واسطة بينه وبين شيخه ، فيدرجه بعض الرواة عنه ، فلا تفضيل . وهذا مما يشترك فيه الإدراج والتدليس .

مثال ذلك حديث إسماعيل بن جعفر ، عن حميد ، عن أنس رضي الله تعالى عنه ، في قصة العرنيين وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : (( لو خرجتم إلى إبلنا فشربتم من إلبانها وأبوالها )) . ولفظه و (( أبوالها )) إنما سمعها حميد من قتادة ، عن أنس رضي الله تعالى عنه . بينه يزيد بن هارون ومحمد بن أبي عدي ومروان بن معاوية وآخرون .

كلهم يقول فيه : (( فشربتم من ألبانها )) قال حميد : قال قتادة عن أنس رضي الله تعالى عنه و (( أبوالها )) . فرواية إسماعيل على هذا فيها إدراج وتسوية والله أعلم .

5- خامسها : أن لا يذكر المحدث متن الحديث ، بل يسوق إسناده فقط ، ثم يقطعه قاطع ، فيذكر كلاماً ، فيظن بعض من سمعه أن ذلك الكلام هو متن ذلك الإسناد .

ومثاله : في قصة ثابت بن موسى مع شريك القاضي كما مثل به ابن الصلاح لشبه الوضع ، وجزم ابن حبان بأنه من المدرج .

هذه أقسام مدرج الإسناد ، والطريق إلى معرفة كونه مدرجاً أن تأتي رواية فصلة للرواية المدرجة وتتقوى الرواية المفصلة ، بأن يرويه بعض الرواة مقتصراً على إحدى الجملتين كما روى أحمد من طريق روح بن عبادة عن شعبة ، عن قتادة ، عن مطرف ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان يقول في ركوعه وسجوده : (( سبوح قدوس رب الملائكة والروح )) . ورواه أيضاً عن سليمان بن حرب وعفان بن مسلم ، عن شعبة فبين أن قوله : (( وسجوده )) سمعه شعبة من هشام ، عن قتادة . ورواه أيضاً عن بهز بن أسد ، عن شعبة ، عن قتادة ، فلم يذكر سجوده . وهكذا رواه جماعة عن شعبة مقتصرين على ذكر الركوع وهم : يزيد بن زريع ، والنضر بن شميل ، وابن أبي عدي وخالد بن الحارث ، ويحيى بن سعيد ، وغيرهم .

قلت : رواه مسلم من طريق أبي داود الطيالسي ، عن شعبة وهشام جميعاً عن قتادة ولم يذكر لفظه ، لكنه عطفه على حديث سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، وحديث سعيد فيه ذكر الركوع أيضاً فلم يقع التفصيل في رواية مسلم كما ينبغي . وهذا مثال القسم الرابع الذي ذكرناه أيضاً والله سبحانه

وتعالى الموفق .

النوع الحادي والعشرون : الموضوع

117- قوله (ص) : (( وهو المختلق المصنوع )) .

قلت : هذا تفسير بحسب الاصطلاح ، وأما من حيث اللغة ، فقد قال أبو الخطاب ابن دحية :

(( الموضوع الملصق وضع فلان على فلان كذا أي ألصقه به )) . وهو أيضاً الحط والإسقاط . والأول أليق بهذه الحثيثة والله أعلم .

118- قوله (ص) : (( اعلم أن الحديث الموضوع شر الأحاديث الضعيفة )) .

هذه العبارة سبقه إليها الخطابي واستنكرت ، لأن الموضوع ليس من الحديث النبوي ، إذ أفعل التفضيل إنما يضاف إلى بعضه ويمكن الجواب ، بأنه أراد بالحديث القدر المشترك ، وهو ما يحدث به وقوله : إنه شر الأحاديث الضعيفة تقدم ما فيه في قسم الضعيف .

119- قوله (ص) : (( ولا تحل روايته ، لأحد علم حاله في أي معنى كان إلا مقروناً ببيان وضعه ... )) إلى آخره .

يدل على ذلك ما رواه مسلم في صحيحه عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين )) . ويرى مضبوطه بضم الياء بمعنى يظن . وفي (( الكاذبين )) روايتان :

إحداهما : بفتح الباء على إرادة التثنية . والأخرى بكسرها على صيغة الجمع . وكفى بهذه الجملة وعيداً شديداً في حق من روى الحديث فيظن أنه كذب فضلاً عن أن يتحقق ذلك ولا يبينه ، لأنه صلى الله عليه وسلم جعل المحدث بذلك مشاركاً لكاذبه في وضعه وقال لمسلم في مقدمة صحيحه :

(( اعلم أن الواجب على كل حد عرف التمييز بين صحيح الروايات وسقيمها وثقات الناقلين لها من المتهمين أن لا يروي إلا ما عرف صحة مخارجه والستارة في ناقليه ، وأن يتقي منها ما كان عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع )) . وكلامه موافق لما دل عليه الحديث المذكور .

وقول ابن الصلاح : (( بخلاف الأحاديث الضعيفة التي يحتمل صدقها في الباطن )) . يريد جعل احتمال صدقها قيداً في جواز العمل بها . لكن هل يشترط في هذا الاحتمال أن يكون قوياً بحيث يفوق احتمال كذبها أو يساويه أو لا ؟

هذا محل نظر ، والذي يظهر من كلام مسلم ربما دل عليه الحديث المتقدم ، بأن احتمال الصدق إذا كان احتمالاً ضعيفاً أنه لا يعتد به .

وقال الترمذي : (( سألت محمد ( يعني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ) عن هذا الحديث ( يعني حديث سمرة المذكور ) فقلت له : من روى حديثاً وهو يعلم أن إسناده خطأ أيخاف أن يكون دخل في هذا الحديث وإذا روى الناس حديثاً مرسلاً فأسنده بعضهم أو قلب إسناده .

فقال : لا . إنما معنى هذا الحديث إذا روى الرجل حديثاً ولا يعرف لذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أصلاً فحدث فأخاف أن يكون دخل في هذا الحديث )) .

56- قوله (ع) : (( وقد استشكل ابن دقيق العيد الحكم على الحديث بالوضع بإقرار من ادعى أنه وضعه ، لأن فيه عملاً بقوله بعد اعترافه على نفسه بالوضع )) ، فقال في الاقتراح : (( هذا كاف في رده ليس بقاطع ... )) إلى آخره .

قلت : كلام ابن دقيق العيد ظاهر في أنه لا يستشكل الحكم لأن الأحكام لا يشترط فيها القطعيات ولم يقل أحد أنه يقطع بكون الحديث موضوعاً بمجرد الإقرار ، إلا أن إقرار الواضع بأنه وضع يقتضي موجب الحكم العمل بقوله ، وإنما نفى ابن دقيق العيد القطع بكون الحديث موضوعاً بمجرد إقرار الراوي بأنه وضعه فقط ، فلم يعترض لتعليل ذلك ولم يعلل بأنه يلزم العمل بقوله بعد اعترافه ، لأنه لا مانع من العمل بذلك ، لأنه اعترافه بذلك يوجب ثبوت فسقه وثبوت فسقه لا يمنع العمل بموجب إقراره كالقائل مثلاً إذا اعترف بالقتل عمداً من غير تأويل ، فإن ذلك يوجب فسقه ومع ذلك فنقتله عملاً بموجب إقراره مع احتمال كونه في باطن الأمر كاذباً في ذلك الإقرار بعينه . ولهذا حكم الفقهاء على من أقر بأنه شهد الزور بمقتضى اعترافه .

وهذا كله مع التجرد أما إذا انضم إلى ذلك قرائن تقتضي صدقه في ذلك الإقرار كمن روى عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما حديث الأعمال بالنيات ، فإنا نقطع ، ليس من رواية مالك ولا نافع ولا ابن عمر مع ترددنا في كون الراوي له على هذه الصورة كذب أو غلط فإذا أقر أنه غلط لم نرتب في ذلك ، ولا سيما إن كان إخباره لنا بذلك بعد توبته .

وقد حكى مهنا بن يحيى أنه سأل أحمد عن حديث إبراهيم بن موسى المروزي ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما رفعه (( العلم فريضة على كل مسلم )) .

فقال أحمد : هذا كذب . يعني بهذا الإسناد . ثم إن شيخنا رضي الله عنه مثل لقول ابن الصلاح : (( أو ما يتنزل منزلة أقراره )) .

بما إذا حدث محدث عن شيخ ، ثم ذكر أن مولده في تأريخ يعلم تأخره ، عن وفاة ذلك الشيخ ولم يتعقبه بما تعقب به الأول والاحتمال يجري فيه كما يجري في الأول سواء ، فيجوز في تأريخ مولده بل يجوز أن يغلط في التأريخ ويكون في نفس الأمر صادقاً )) .

والأولى أن يمثل لذلك بما رواه البيهقي في المدخل بسنده الصحيح أنهم اختلفوا بحضور أحمد بن عبدالله الجويباري في سماع الحسن من أبي هريرة رضي الله عنه فروى لهم حديثاً بسنده إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( سمع الحسن من أبي هريرة رضي الله عنه )) . وأن يمثل بالتأريخ لقول ابن الصلاح : (( أو من قرينة حال الراوي )) . وقد استشكل بعضهم الحكم على الحديث بالوضع لركاكة لفظه . ولم يتعرض شيخنا له ، فأفردته كما سيأتي .

102- قوله (ص) : (( وقد يفهمون الوضع من قرينة حال الراوي أو المروي )) .

قلت : هذا الثاني هو الغالب ، وأما الأول ، فنادر .

قال ابن دقيق العيد :

(( وكثيراً ما يحكمون بذلك باعتبار يرجع إلى المروي وألفاظ الحديث )) . وحاصله يرجع إلى أنه حصلت لهم بكثرة محاولة ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم هيئة نفسانية وملكة يعرفون بها ما يجوز أن يكون من ألفاظه وما لا يجوز كما سئل بعضهم كيف يعرف أن الشيخ كذاب ؟ قال : إذا روى لا تأكلوا القرعة حتى تذبحوها علمت أنه كذاب . ثم مثل لقرينة حال الراوي بقصة غياث بن إبراهيم مع المهدي .

وهذا أولى من التسوية بينهما ، فإن معرفة الوضع من قرينة حال المروي أكبر من قرينة حال الراوي . ومن جملة القرائن الدالة على الوضع : الإفراط بالوعيد الشديد على الأمر اليسير أو بالوعد العظيم على الفعل اليسير وهذا كثير موجود في حديث القصاص والطرقية والله أعلم .

121- قوله (ص) : (( وقد وضعت أحاديث يشهد بوضعها ركاكة ألفاظها ومعانيها )) ، انتهى

اعترض عليه بأن ركاكة اللفظ لا تدل على الوضع حيث جوزت الراوية بالمعنى . نعم إن صرح الراوي بأن هذا صيغة لفظ الحديث وكانت تخل بالفصاحة أو لا وجه لها في الإعراب دل على ذلك والذي يظهر أن المؤلف ( لم يقصد أن ركاكة اللفظ ) وحده تدل كما تدل ركاكة المعنى بل ظاهر كلامه أن الذي يدل هو مجموع الأمرين : ركاكة اللفظ والمعنى معاً .

لكن يرد عليه أنه ربما كان اللفظ فصيحاً والمعنى ركيكاً إلا أن ذلك يندر وجوده ، ولا يدل بمجرده على الوضع بخلاف اجتماعهما تبعاً للقاضي أبي بكر الباقلاني .

وقد روى الخطيب وغيره من طريق الربيع بن خثيم التابعي الجليل قال : إن للحديث ضوءاً كضوء النهار يعرف وظلمة كظلمة الليل تنكر .

تنبيه

أخل المصنف بذكر أشياء ذكرها غيره مما يدل على الوضع من غير إقرار الواضع .

[ دلائل الوضع : ]

منها : جعل الأصوليين من دلائل الوضع أن يخالف العقل ولا يقبل تأويلاً ، لأنه لا يجوز أن يرد الشرع بما ينافي مقتضى العقل .

وقد حكى الخطيب هذا في أول كتابه الكفاية تبعاً للقاضي أبي بكر الباقلاني وأقره . فإنه قسم الأخبار إلى ثلاثة أقسام :

1- ما يعرف صحته .

2- وما يعلم فساده .

3- وما يتردد بينهما .

ومثل للثاني بما تدفع العقول صحته بموضوعها والأدلة المنصوصة فيها نحو الأخبار عن قدم الأجسام وما أشبه ذلك . ويلتحق به ما يدفعه الحس والمشاهدة كالخبر عن الجمع بين الضدين وقول الإنسان : أنا الآن طائر في الهواء أو أن مكة لا وجود لها في الخارج .

ومنها : أن يكون خبراً عن أمر جسيم كحصر العدو للحاج عن البيت ثم  ينقله منهم إلا واحد ، لأن العادة جارية بتظاهر الأخبار في مثل ذلك .

ومنها : ما يصرح بتكذيب راويه جمع كثير يمتنع في العادة تواطؤهم على الكذب أو تقليد بعضهم بعضاً .

ومنها : أن يكون مناقضاً لنص الكتاب أو السنة المتواترة أو الإجماع القطعي .

ومنها : أن يكون فيما يلزم المكلفين علمه وقطع العذر فيه فينفرد به واحد وفي تقييده السنة المتواترة احتراز من غير المتواترة فقد أخطأ من حكم بالوضع بمجرد مخالفة السنة مطلقاً وأكثر من ذلك الجوزقاني في (( كتاب الأباطيل )) له .

وهذا لا يتأتى إلا حيث لا يمكن الجمع بوجه من الوجوه أما مع إمكان الجمع ، فلا كما زعم بعضهم أن الحديث الذي رواه الترمذي وحسن من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه (( لا ؤمن عبد قوماً فيخص نفسه بدعوة دونهم ، فإن فعل فقد خانهم موضوع ، لأنه صلى الله عليه وسلم قد صح عنه أنه كان يقول : (( اللهم باعد بيني وبين خطاياي ، كما باعدت بين المشرق والمغرب )) وغير ذلك ، لأنا نقول يمكن حمله على ما لم يشرع للمصلي من الأدعية ، لأن الإمام والمأموم يشتركان فيه ، بخلاف ما لم يؤثر .

وكما زعم ابن حبان في (( صحيحه ) أن قوله صلى الله عليه وسلم : (( إني لست كأحدكم إني أطعم وأسقي )) دال على أن الأخبار التي فيها أنه كان يضع الحجر على بطنه من الجوع باطلة . وقد رد عليه ذلك الحافظ ضياء الدين فشفى وكفى .

ومنها : ما ذكره الإمام فخر الدين الرازي أن الخبر إذا روى في زمان قد استقرت فيه الأخبار ، فإذا فتش عنه فلم يوجد في بطون الكتب ، ولا في صدور الرجال علم بطلانه . وأما في عصر الصحابة رضي الله تعالى عنهم حين لم تكن الأخبار استقرت ، فإنه يجوز أن يروي أحدهم ما لا يوجد عند غيره .

قال العلائي : وهذا إنما يقوم به ( أي بالتفتيش عليه ) الحافظ الكبير الذي قد أحاط حفظه بجميع الحديث أو بمعظمه كالإمام أحمد وعلي بن المديني ويحيى بن معين ، ومن بعدهم كالبخاري وأبي حاتم وأبي زرعة .

ومن دونهم كالنسائي ، ثم الدار قطني ، لأن المأخذ الذي يحكم به غالباً على الحديث بأنه موضوع إنم

هي الملكة النفسانية الناشئة عن جمع الطرق والإطلاع على غالب المروي في البلدان المتنائية بحيث يعرف بذلك ما هو من حديث الرواة مما ليس من حديثهم وأما من لم يصل إلى هذه المرتبة فكيف يقضي بعدم وجدانه للحديث بأنه موضوع ، هذا ما يأباه تصرفهم فالله أعلم .

122- قوله (ص):(( ولقد أكثر الذي جمع في هذا العصر الموضوعات في نحو مجلدين ... )) الخ

قال شيخنا في شرح منظومته : (( عنى ابن الصلاح بذلك أبا الفرج ابن الجوزي )) .

وقال العلائي :

(( دخلت على ابن الجوزي الآفة من التوسع في الحكم بالوضع لأن مستنده في غالب ذلك بضعف راويه )) .

قلت : وقد يعتمد على غيره من الأئمة في الحكم على بعض الأحاديث بتفرد بعض الرواة الساقطين بها ، ويكون كلامهم محمولاً على قيد أن تفرده إنما هو من ذلك الوجه ، ويكون المتن قد روى من وجه آخر لم يطلع هو عليه أو لم يستحضره حالة التصنيف ، فدخل عليه الدخيل من هذه الجهة وغيرها .

فذكر في كتابه الحديث المنكر والضعيف الذي يحتمل في الترغيب والترهيب وقليل من الأحاديث الحسان . كحديث صلاة التسبيح . وكحديث قراءة آية الكرسي دبر الصلاة ، فإنه صحيح رواه النسائي وصححه ابن حبان وليس في كتاب ابن الجوزي من هذا الضرب سوى أحاديث قليلة جداً . وأما من مطلق الضعف ففيه كثير من الأحاديث . نعك أكثر الكتاب موضوع وقد أفردت لذلك تصنيفاً أشير إلى مقاصد فمما فيه من الأحاديث الصحيحة أو الحسنة حديث صلاة التسبيح وقراءة آية الكرسي كما تقدم وحديث ... . ولابن الجوزي كتاب آخر سماه (( العلل المتناهية )) في الأحاديث الواهية أورد فيه كثيراً من الأحاديث الموضوعة . كما أورد في كتاب الموضوعات كثيراً من الأحاديث الواهية . وفاته من كل النوعين قدر ما كتب في كل منهما أو أكثر والله الموفق .

[ أصناف الوضاعين الزنادقة : ]

123- قوله (ص) : (( والواضعون للحديث أصناف )) .

قلت : لم يبين ذلك وسائقهم إلى ذلك والهاجم عليه منهم .

أولاً : الزنادقة حملهم على وضعها الاستخفاف بالدين كمحمد بن سعيد المصلوب ، والحارث الكذاب الذي ادعى النبوة ، والمغيرة بن سعيد الكوفي وغيرهم .

حتى قال حماد بن زيد :

وضعت الزنادقة على النبي صلى الله عليه وسلم أربعة عشر ألف حديث رواه العقيلي . ومن بلايا محمد بن سعيد الدالة على زندقته روايته (( أنا خاتم النبيين لا نبي بعدي إلا أن يشاء الله )) .

[ أصحاب الأهواء : ]

الصنف الثاني : أصحاب الأهواء كالخوارج والروافض ومن عمل بعملهم من متعصبي المذاهب كما روى ابن أبي حاتم في مقدمة كتابه الجرح والتعديل عن شيخ من الخوارج أنه كان يقول بعد ما تاب : انظروا عمن تأخذون دينكم ، فإنا كنا إذا هوينا أمراً صبرناه حديثاً .

ومن خفى ذلك ما حكاه ابن عدي أن محمد بن شجاع الثلجي كان يضع الأحاديث التي ظاهرها التجسيم وينسبها إلى أهل الحديث بقصد الشناعة عليهم لما بينه وبينهم من العداوة المذهبية . وقال أبو العباس القرطبي صاحب المفهم : (( استجاز بعض فقهاء أًحاب الرأي نسبة الحكم الذي دل عليه القياس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبة قولية . فيقول في ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا ولهذا ترى كتبهم مشحونة بأحاديث تشهد متونها بأنها موضوعة ، لأنها تشبه فتاوى الفقهاء ولأنهم لا يقيمون لها سنداً )) .

[ من رق دينه : ]

الصنف الثالث : من حمله الشره ومحبة الظهور على الوضع من رق دينه من المحدثين فيجعل لعضهم للحديث الضعيف إسناداً صحيحاً مشهوراً كمن يدعي سماع من لم يسمع . وهذا داخل في قسم المقلوب .

[ من حمله التدين الناشئ عن الجهل :]

الصنف الرابع : من حمله على ذلك التدين الناشئ عن الجهل وقد ذكره المصنف وتعلقوا يشبه باطلة

الشبهة الأولى : أن الحديث الوارد في وعيد من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم إنما ورد في رجل معين ذهب إلى قوم وادعى أنه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم يحكم في دمائهم وأموالهم ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بقتله .

وقال : هذا الحديث .

والجواب عن هذه الشبهة أن السبب المذكور لم يثبت إسناده ولو ثبت لم يكن لهم متمسك ، لأن العبرة اللفظ لا بخصوص السبب .

الشبهة الثانية : أن هذا الحديث في حق من كذب على نبينا يقصد به عيبه أو شين الإسلام . وتعلقوا لذلك بما روى عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده بين عيني جهنم قال : فشق ذلك على أصحابه رضي الله عنهم حتى عرف في وجوههم وقالوا : يا رسول الله قلت هذا ونحن نسمع منك الحديث فنزيد وننقص ونقدم ونؤخر فقال صلى الله عليه وسلم : لم أعن ولكن عنيت من كذب علي يريد عيبي وشين الإسلام )) .

قال الحاكم : هذا الحديث باطل وفي إسناده محمد بن الفضل بن عطية ، اتفقوا على تكذيبه وقال صالح جزرة : (( كان بضع الحديث )) .

وقد تجاسر أو جعفر بن عبد الله الفانتي السلمي فزعم أنه رأى مناماً طويلاً ساقه في نحو من كراس

وفيه قلت : يا رسول الله فهذه الأخبار التي وضعوها عليك قال : (( من تعمد علي كذباً يردي به أصلاحاً لأمتي أو رفع لهم درجة في الآخرة ، فأنا أرحم الخلق به فلا أخاصمه وأشفع له والله أرحم مني ، ومن قصد بذلك الكذب وإفساد أمتي وإبطال حقهم ، فأنا خصمه ولا أشفع له )) . انتهى .

وهو كلام في غاية السقوط ، إنما أوردته لئلا يغتر به لأنني رأيته في كلام العلامة مغلطاي أورده وقال ينظر فيه :

الشبهة الثالثة : قال الكرامية أو من قال منهم : (( إذا كان الكذب في الترغيب والترهيب فهو كذاب للنبي صلى الله عليه وسلم لا عليه )) . وهو جهل منهم باللسان ، لنه كذب عليه في وضع الأحكام فإن المندوب قسم منها وتضمن ذلك الأخبار عن الله تعالى في الوعد على ذلك العمل بذلك الثواب .

الشبهة الرابعة : قالوا : ورد في بعض الطرق من حديث ابن مسعود والبراء بن عازب وغيرهما رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( من كذب علي متعمداً ليضل به الناس ، فليتبوأ مقعده من النار )) . قالوا : فلتحمل الروايات المفيدة كما تعين حمل الروايات المطلقة على الروايات المقيدة بالتعمد . والجواب : أن قوله : (( ليضل به الناس )) . اتفق أئمة الحديث على أنها زيادة ضعيفة . وأقوى طرقها ما رواه الحاكم وضعفه من طريق يونس بن بكير عن الأعمش عن طلحة بنمصرف ، عن عمرو بن شرحبيل ، عن ابن مسعود رضي الله عنه . قال : (( وهم يونس في موضعين )) .

1- أحدهما : أنه أسقط بين طلحة وعمرو رجلاً وهو أبو عمار .

2- الثاني : أنه وصله بذكر ابن مسعود رضي الله عنه وإنما هو مرسل . وعلى تقدير قبول هذه الزيادة ، فلا تعلق بها لهم ، ولأن لها وجهين صحيحين :

أحدهما : أن اللام في قوله : ليضل ليست للتعليل ، وإنما هي لام العاقبة كما قوله تعالى ( فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً ) وهم لم يلتقطوه لقصد ذلك .

وثانيهما : أن اللام للتأكيد ولا مفهوم لها كما في قوله عز وجل : ( فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم ) . لأن افتراء الكذب على الله تعالى محرم مطلقاً سواء قصد به الإضلال أو لم يقصده والله تعالى أعلم .

الصنف الخامس : أصحاب الأغراض الدنيوية كالقصاص والسؤال في الطرقات وأصحاب الأمراء وأمثلة ذلك كثيرة .

الصنف السادس : من لم يتعمد الوضع كمن يغلط فيضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم كلام بعض الصحابة رضي الله عنهم أو غيرهم كما أشار إليه المصنف في قصة ثابت بن موسى .

وكمن ابتلى بمن يدس في حديثه ما ليس منه كما وقع في ذلك لحماد بن سلمة مع ربيبه وكما وقع

لسفيان بن وكيع مع وراقة ولعبد الله بن صالح كاتب الليث مع جاره ولجماعة من الشيوخ المصريين في ذلك العصر مع خالد بن نجيح المدائني . وكمن تدخل عليه آفة في حفظه أو في كتابه أو في نظره فيروي ما ليس في حديثه غالطاً .

قال العلائي :

(( فأشد الأصناف ضرراً أهل الزهد كما قال ابن الصلاح وكذا المتفقهة الذي استجازوا نسبة ما دل عليه القياس إلى النبي صلى الله عليه وسلم )) . وأما باقي الأصناف كالزنادقة ، فالأمر فيهم أسهل لأن كون تلك الأحاديث كذباً لا يخفى إلا على الأغبياء وكذا أهل الأهواء من الرافضة والمجسمة والقدرية في شد بدعهم . وأما أصحاب الأمراء والقصاص ، فأمرهم أظهر ، لأنهم في الغالب ليسوا من أهل الحديث .

قلت : وأخفى الأصناف القسم الأخير الذين لم يتعمدوا مع وصفهم بالصدق ، فإن الضرر بهم شديد لدقة ذلك إلا من الأئمة النقاد والله الموفق .

تنبيه

الكرامية بتشديد الراء نسبة إلى محمد بن كرام السجستاني وكان عابداً زاهداً إلا أنه خذل كما قال ابن حبان : فالتقط من المذاهب أرداها ومن الأحاديث أوهاها وصحب أحمد بن عبد الله الجويباري ، فكان يضع له الحديث على وفق مذهبه .

قال أبو العباس السراج :

(( شهدت محمد بن إسماعيل البخاري ودفع إليه كتاب من محمد بن كرام يسأله عن أحاديث منها :

سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه رفعه (( الإيمان يزيد ولا ينقص )) . قال : فكتب على ظهر كتابه (( من حدث بهذا استوجب الضرب الشديد والحبس الطويل )) .

وقد ذكر الحاكم لمحمد بن كرام ترجمة جيدة وذكر أن ابن خزيمة اجتمع به غير مرة وكان يثني عليه . وكرام المشهور بتشديد الراء ضبطه الخطيب وابن ماكولا وابن السمعاني وأبي ذلك متكلم الكرامية أبو عبد الله محمد بن الهيصم في كتابه (( مناقبن محمد بن كرام )) فقال : (( المعروف في ألسنة المشايخ : كرام بالفتح والتخفيف )) . وزعم أنه بمعنى كرامة أو كريم قال : ويقال : بكسر الكاف على لفظ جمع كريم قال : وهو الجاري على ألسنة أهل سجستان .

قلت : وفي ذلك يقول أبو الفتح البستي فيما أنشده الثعالبي عنه وكذا أنشده عنه العتبي في الكتاب اليميني .

إن الذين بجهلهم لم يقتدوا            بمحمد بن كرام غير كرام

الفقه فقه أبي حنيفة وحده             والدين دين محمد بن كرام

وحكى الصلاح الصفدي في ترجمة العلامة صدر الدين بن الوكيل عن قاضي القضاة تقي الدين السبكي قال : محمد بن كرام بالتخفيف وأنكر ذلك سعد الدين الحارثي وقال : إنما هو بالتثقيل ، فاستشهد ابن الوكيل على صحة قوله بالبيت الثاني المذكور قال : فاتهموه بأنه ارتجله في الحال لاقتداره على النظم ، ثم تبين بعد مدة طويلة أن الأمر بخلاف ذلك وأنه صادق فيما نقله .

فقرأت بخط تاج الدين السبكي قال : قرأت بخد ابن الصلاح أن أبا الفتح البستي الشاعر قال في ابن كرام فذكر الشعر قال في ابن كرام فذكر الشعر أيضاً والله أعلم .

57- قوله (ع) : (( وقال ابن عدي لا يعرف إلا بثابت بن موسى ( وسرقه جماعة منهم من الضعفاء عبد الحميد بن بحر ) وعبد الله بن شبرمة الشريكي ) . انتهى .

اعترض بعض المعاصرين ممن تكلم على ابن الصلاح على كلام شيخنا هذا بأن عبد الله بن شبرمة الكوفي الفقيه رواه عن شريك أيضاً فيما رواه أبو نعيم في تأريخه قال : ثنا أبو عمرو عثمان بن محمد بن عبد السلام ، ثنا عبد الله بن شبرمة الكوفي قال : ثما شريك به )) .

قال هذا المتأخر : (( عبد الله بن شبرمة هو الفقيه الكوفي أحد الأعلام احتج به مسلم )) .

قلت : وأخطأ هذا المتأخر خطأ فاحشاً لا مستند له فيه ولا عذر لأن عبد الله بن شبرمة المذكور هو الشريكي وهو كوفي أيضاً وأما الفيه فإنه قديم على هذه الطبقة ولا يمكن أن يكون بين أبي نعيم وبينه أقل من ثلاثة رجال . وقد وقع بينه وبين الشريكي هنا رجلان فقط مع التصريح بالتحديث فظهرت صحة كلام ابن عدي وسقط الاعتراض على شيخنا بحمد الله تعالى .

124- قوله(ص):((بحث باحث عن مخرجه حتى انتهى إلى ما من اعترف بأنه وجماعة وضعوه )) .

أبهم المصنف الباحث المذكور اختصاراً وقد ذكره الخطيب من طريق مؤمل من إسماعيل قال : حدثني شيخ بحديث أبي بن كعب الطويل في فضائل القرآن ، فقلت له من حدثك ، فقال : حدثني رجل بالمدائن وهو حي ، فصرت إليه ، فقال : حدثني شيخ بالبصرة وهو حي فصرت إليه ، فقال : حدثني شيخ بعبادان فصرت إليه ، فقال هذا الشيخ حدثني ، فقلت : يا شيخ من حدثك ؟ قال : لم يحدثني أحد ولكنا رأينا الناس قد رغبوا عن القرآن فوضعنا لهم هذا الحديث ، ليصرفوا قلوبهم إلى القرآن .

125- قوله (ص) : (( ولقد أخطأ الواحدي المفسر ومن ذكره من المفسرين في إبداعه تفاسيرهم )) . انتهى .

قال شيخنا في شرح منظومته :

(( لكن من أبرز إسناده من المفسرين أعذر ممن حذف إسناده لأن ذاكر إسناده يحيل ناظره على الكشف عن سنده وأما من لم يذكر سنده وأورده بصيغة الجزم فخطؤه أشد كالزمخشري والله أعلم .

قلت : والاكتفاء بالحوالة على النظر في الإسناد طريقة معروفة لكثير من المحدثين وعليها يحمل ما

صدر من كثير منهم من إيراد الأحاديث الساقطة معرضين عن بيانها صريحاً وقد هذا لجماعة من كبار

الأئمة ، وكان ذكر الإسناد عندهم من جملة البيان والله أعلم .

النوع الثاني والعشرون

معرفة المقلوب

126- قوله (ص) : (( وهو نحو حديث مشهور عن سالم جعل عن نافع )) .

أقول : هذا تعريف بالمثال . وحقيقته إبدال من يعرف برواية بغيره . فيدخل فيه إبدال راو أو أكثر من راو حتى الإسناد كله . وقد يقع ذلك عمداً إما يقصد الإغراب أو لقصد الامتحان . وقد يقع وهماً فأقسامه ثلاثة :

وهي كلها في الإسناد وقد يقع نظيرها في المتن ، وقد يقع فيهما جميعاً . فممن كان يفعل ذلك عمداً لقصد الإغراب على سبيل الكذب : حماد بن عمرو النصيبي وهو من المذكورين بالوضع .

من ذلك روايته عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إذا لقيتم المشركين في طريق ، فلا تبدؤهم بالسلام ... )) الحديث فإن هذا الحديث قال العقيلي : ى يعرف من حديث الأعمش وإنما يعرف من رواية سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه .

قلت : كذلك أخرجه مسلم وغيره . فجعل حماد بن عمرو الأعمش موضع سهيل ليغرب به . هذا في الإسناد . وأما في المتن فكمن يعمد إلى نسخة مشهورة بإسناد واحد فيزيد فيها متناً أو متوناً ليست فيها . كنسخة معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه ( وقد زاد فيها ) . وكنسخة مالك ، عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما زاد فيها جماعة عدة أحاديث ليس منها . منها القوي والسقيم ، وقد ذكر جلها الدار قطني في غرائب مالك . وممن كان يفعل ذلك لقصد الامتحان كان شعبة يفعله كثيراً بقصد اختبار حفظ الراوي ، فإنه أطاعه على القلب عرف أنه غير حافظ وإن خالفه عرف أنه ضابط .

وقد أنكر بعضهم على شعبة ذلك لما يترتب عليه من تغليط يمتحنه فقد يستمر على روايته أنه صواب ، وقد يسمعه من لا خبرة له فيرويه ظناً منه أنه صواب ، لكن مصلحته أكثر من مفسدته .

[ اختيار ابن معين لأبي نعيم : ]

وممن فعل ذلك يحيى بن معين مع أبي نعيم الفضل بن دكين بحضرة أحمد بن حنبل . وروى الخطيب من طريق أحمد بن منصور الرمادي قال : خرجت مع أحمد بن حنبل ويحيى بن معين إلى عبد الرزاق ، فلما عدنا إلى الكوفة ، قال يحيى بن معين لأحمد بن حنبل : أريد أن أمتحن أبا نعيم فنهاه أحمد ، فلم ينته ، فأخذ ورقة فكتب فيها ثلاثين حديثاً من حديث أبي نعيم ، وجعل على ( رأس كل ) عشرة أحاديث ليس من حديثه ، ثم أتينا أبا نعيم فخرج إلينا فجلس على دكان حذاء بابه وأقعد أحمد عن يمينه ويحيى عن يساره وجلست أسفل ، فقرأ عليه يحيى عشرة أحاديث وهو ساكت ثم الحادي عشر ، فقال أبو نعيم : ليس هذا من حديثي فاضرب عليه ثم قرأ العشرة الثانية وقرأ الحديث الثاني ، فقال : هذا أيضاً ليس من حديثي فاضرب عليه ، ثم قرأ العشرة الثالثة وقرأ الحديث الثالث ، فتغير أبو نعيم ثم قبض على ذراع أحمد فقال : أما هذا فورعه يمنعه عن هذا .

وأما هذا وأومأ إلى فأصغر من أن يعمل هذا ولكن هذا من عملك يا فاعل ثم أخرج رجله فرفس يحيى بن معين وقلبه عن الدكان وقام فدخل داره ، فقال له أحمد : ألم أنهك ؟ وأقل لك أنه ثبت ؟

فقال له يحيى : هذه الرفسة أحب إلى من سفري .

ومن ذلك ما فعله أصحاب الحديث مع البخاري وقد أشار إليه المصنف مختصراً فأحببت إيراد القصة على وجهها ، وقد رويناها في (( مشايخ البخاري )) لابن عدي وفي التاريخ للخطيب في غير موضع أخبرني بها الحافظ أبو الفضل بن الحسين رحمه الله قال : أخبرني محمد بن محمد قال : أنا أبو الفرج الحراني أنا أبو الفرج ابن الجوزي ح وأخبرني الحافظ أبو الفضل أيضاً قال : أخبرني محمد بن إبراهيم أنا يوسف بن يعقوب الشيباني كتابة واللفظ له .

ح وقرأت على أحمد بن عمر اللؤلؤي عن الحافظ أبي الحجاج المزي قال : أنا الشناني قال : أنا أبو اليمن الكندي قال : أنا أبو منصور القراد قال : أنا الحافظ أبو بكر الخطيب ح وأنا غالب ابن محمد النيسابوري بمكة إجازة عن أبي أحمد الطبري قال : أن علي بن الحسين كتب إليهم أنا الفضل بن سهل إجازة عن الخطيب حدثني محمد بن أبي الحسن الساحلي أنا أحمد بن الحسن الرازي قال سمعت أبا أحمد ابن عدي يقول : سمعت عدة مشايخ يحكون أن محمد بن إسماعيل البخاري قدم بغداد فسمع به أصحاب الحديث ، فاجتمعوا وعمدوا إلى مائة حديث ، فقلبوا متونها وأسانيدها وجعلوا متن هذا الإسناد لإسناد آخر وإسناد هذا المتن لمتن آخر ودفعوها إلى عشرة أنفس إلى كل رجل عشرة أحاديث وأمروهم إذا حضروا المجلس يلقون ذلك على البخاري وأخذوا الموعد للمجلس ، فحضر المجلس جماعة أصحاب الحديث من الغرباء من أهل خراسان وغيرهم ومن البغداديين ، فلما أطمأن المجلس بأهله انتدب إليه رجل فسأله عن آخر فقال : لا أعرفه فما زال يلقي عليه واحداً بعد واحد حتى فرغ من عشرته والبخاري يقول لا أعرفه ، فكان الفقهاء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون فهم الرجل .

ومن منهم غير ذلك يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الحفظ ، ثم انتدب إليه رجل آخر من العشرة ـ فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة ، فقال البخاري لا أعرفه ، فسأله عن آخر ، فقال لا أعرفه ، ( فسأله عن آخر فقال : لا أعرفه ) فلم يزل يلقي عليه واحداً بعد واحد فلما فرغ من عشرته والبخاري يقول : لا أعرفه ثم انتدب إليه الثالث والرابع إلى تمام العشرة حتى فرغ كلهم من الأحاديث المقلوبة والبخاري لا يزيدهم على لا أعرفه .

فلما علم البخاري أنهم قد فرغوا التفت إلى الأول منهم فقال : أما حديثك الأول فهو كذا وحديثك

الثاني فهو كذا والثالث والرابع على الولاء حتى أتى على تمام العشرة ، فرد كل متن إلى إسناده وكل إسناد إلى متنه وفعل بالآخرين مثل ذلك رد متون الأحاديث كلها إلى أسانيدها وأسانيدها إلى متونها فأقر الناس له بالحفظ وأذعنوا له بالفضل .

سمعت شيخنا غير مرة يقول : ما العجب من معرفة البخاري بالخطأ من الصواب في الأحاديث لاتساع معرفته . وإنما يتعجب منه في هذا لكونه حفظ موالاة الأحاديث على الخطأ من مرة واحدة .

قلت : وممن كان معروفاً بمعرفة ذلك يحيى بن معين قال العجلي : ما خلق الله أحداً كان أعرف بالحديث من يحيى أحد كان يؤتى بالأحاديث قد خلطت وقلبت فيقول : هذا كذا وهذا كذا كما قال . وممن امتحنه تلاميذه الحافظ الجليل أبو جعفر محمد بن عمرو العقيلي . فقرأت في كتاب الصلة لمسلمة بن قاسم الأندلسي قال : ووقع ذلك لمحمد بن عجلان روينا في المحدث الفاصل لأبي محمد الرامهرمزي قال: حدثنا عبد الله بن القاسم بن نصر : ثنا خلف بن سالم حدثني يحيى بن سعيد القطان قال : قدمت الكوفة وبها ابن عجلان وبها ممن يطلب الحديث مليح بن الجراح أخو وكيع وحفص بن غياث ويوسف بن خالد السمتي ، فقلنا نأتي ابن عجلان ، فقال يوسف السمتي : هل تقلب عليه حديثه حتى ننظر فهمه قال : ففعلوا فما كان عن سعيد جعلوه عن أبيه جعلوه عن سعيد قال يحيى فقلت لهم : لا أستحل هذا ، فدخلوا عليه فأعطوه الجزء فمر فيه ، فلما كان عند آخر الكتاب انتبه الشيخ ، فقال : أعد ، فعرض عليه ، فقال : ما كان عن أبي فهو عن سعيد وما كان عن سعيد فهو عن أبي ثم أقبل على يوسف فقال : إن كنت أردت شيني وعيبي ، فسلبك الله الإسلام وقال لحفص ابتلاك الله في دينك ودنياك .

وقال لمليح : لا نفعك الله بعلمك .

قال يحيى : فمات مليح قبل أن ينتفع بعلمه وابتلى حفص في بدنه بالفالج وفي دينه بالقضاء ولم يمت يوسف حتى اتهم بالزندقة .

وأما من وقع منه القلب على سبيل الوهم فجماعة يوجد بيان ما وقع لهم من ذلك في الكتب المصنفة في العلل . وقد ذكر ابن الصلاح منه حديث جرير بن حازم ، عن ثابت ، عن أنس رضي الله تعالى عنه وهو من مقلوب الإسناد .

ووقع لجرير بن حازم هذا أيضاً وهو ما ذكره الترمذي من طريقة عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال : (( كان النبي صلى الله عليه وسلم يكلم بالحاجة إذا نزل عن المنبر قال الترمذي : لا نعرفه إلا من حديث جرير وسألت محمداً عنه فقال : وهم جرير في هذا . والصحيح ما روي عن ثابت عن أنس رضي الله عنه قال : (( أقيمت الصلاة فأخذ رجل بيد النبي صلى الله عليه وسلم فما زال يكلمه حتى نعس بعض القوم )) . قال محمد والحديث هو هذا وجرير بن حازم ربما يهم في الشئ )) .

تنبيه

حديث حجاج بن أبي عثمان الذي ذكره المصنف أخرجه مسلم والنسائي من طريقة ، وما حكاه عن

إسحاق بن عيسى رواه الخطيب في الكفاية بسنده إليه ، ورواه أيضاً أبو داود في (( كتاب المراسيل )) . عن أحمد بن صالح عن يحيى بن حسان عن حماد بن زيد به .

تنبيه آخر

127- قول ابن الصلاح عند ذكر هذا المثال : (( ويصلح مثالاً للمعلل )) .

لا يختص هذا بهذا المثال ، بل كل مقلوب لا يخرج عن كونه معللاً أو شاذاً ، لأنه إنما يظهر أمره بجمع الطرق واعتبار بعضها ببعض ومعرفة من يوافق ممن يخالف فصار المقلوب أخص من المعلل والشاذ والله أعلم .

ومن أمثلته في الإسناد ما رواه ابن حبان في صحيحه من طريق مصعب بن المقدام عن سفيان الثوري عن أبي الزبير عن جابر رضي الله تعالى عنه قال : (( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمس الرجل ذكره بيمينه )) .

قال أبو حاتم في العلل :

(( هذا وهم فيه مصعب ، وإنما حدث به الثوري عن هشام عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه . ومنها ما رواه من طريق يعلى بن عبيد ، عن سفيان الثوري عن منصور ، عن مقسم ،عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:ساق النبي صلى الله عليه وسلم مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل )) قال ابن أبي حاتم :

(( سألت أبا زرعة عنه فقال : هذا خطأ إنما هو الثوري عن ابن أبي ليلى عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس رضي الله عنهما فالخطأ فيه من يعلى بن عبيد )) . فإن قيل : إذا كان الراوي ثقة ، فلم لا يجوز أن يكون للحديث إسنادان عند شيخه حدث بأحدهما ( مروياً وبالآخر مراراً )) ؟

قلنا : هذا التجويز لا ننكره ، لكن مبنى هذا العلم على غلبة الظن وللحفاظ طريق معروفة في الرجوع  إلى القرائن في مثل هذا وإنما يعول في ذلك منهم على النقاد المطلعين منهم كما مضى ويأتي ولهذا كان كثير منهم يرجعون عن الغلط إذا نبهوا عليه كما روينا في (( تاريخ العباس بن محمد الدوري )) عن يحيى بن معين قال : حضرت مجلس نعيم بن حماد بمصر ، فجعل يقرأ كتاباً من تصنيفه ، قال فقرأ ساعة ، ثم قال : ثنا ابن المبارك عن ابن عون ، فذكر أحاديث ، فقلت له : ليس هذا عن ابن المبارك فغضب وقال : ترد علي ؟

قلت : نعم أريد بذلك زينك ، فأبى أن يرجع .

فقلت : والله ما سمعت أنت هذه الأحاديث من ابن المبارك من ابن عون ، فغضب هو وكل من كان عنده ، وقام ، فدخل البين فأخرج صحائف ، فجعل يقول : ( نعم يا مبارك ما غلطت ) وكانت هذه صحائف يعني مجموعة ، فغلطت ، فجعلت أكتب من حديث ابن المبارك عن ابن عون وإنما

رواها لي عن ابن عون غير ابن المبارك قال : فرجع عنها .

وكما روينا في ترجمة البخاري تصنيف وراقة محمد بن أبي حاتم أنه سمعه يقول : (( خرجت من الكتاب ولي عشر سنين ، فجعلت اختلف إلى الداخلي يعني فقال يوماً وهو يقرأ للناس : سفيان عن أبي الزبير [عن إبراهيم] فقلت له : يا أبا فلان إن أبا الزبير لم يروه عن إبراهيم فانتهرني ، فقلت له : ارجع إلى الأصل إن كان عندك .

فدخل ونظر فيه ، ثم خرج ، فقال لي : كيف قلت يا غلام ! فقلت : هو الزبير بن عدي ، عن إبراهيم ، فقال : صدقت وأخذ القلم مني ، فأحكم كتابه قال : وكان للبخاري يومئذ إحدى عشرة سنة . ومن أمثلته في المتن ما رواه الحاكم من طريق محمد بن محمد بن حبان ، عن أبي الوليد عن مالك عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : (( ما عاب رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً قط ... )) الحديث . قال الحاكم : (( انقلب على ابن حبان ، وإنما روى أبو الوليد بهذا الإسناد حديث : (( ما ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده )) .

ومما وقع فيه القلب في المتن دون الإسناد ما رواه أبو داود في (( السنن )) من حديث أبي عثمان عن بلال رضي الله عنه أنه قال  يا رسول الله ! لا تسبقني بآمين .

فإن الحاكم رواه في (( مستدركه )) من هذا الوجه بلفظ : (( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا تسبقني بآمين )) . والمحفظ الأول .

وذكر شيخنا شيخ الإسلام في (( محاسن الاصطلاح )) له ، من أمثلته ما رواه ابن خزيمة من حديث عائشة رضي الله عنها قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إن ابن أم مكتوم يؤذن بليل ، فكلوا واشربوا حتى يؤذن بلال )) . وكان بلال لا يؤذن حتى يرى الفجر .

قال شيخنا : (( هذا مقلوب والصحيح من حديث عائشة رضي الله عنه )) أن بلالاً رضي الله عنه يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم ، وكان رجلاً أعمى لا ينادي حتى يقال له : أصبحت أصبحت .

قال شيخنا : وما تأويله ابن خزيمة من أنه يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم جعل الأذان نوباً بين بلال وابن أم مكتوم رضي الله عنهما بعيد وأبعد منه جزم ابن حبان بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك .

قلت : وهذا الحديث بالسياق الأول أخرجه ابن خزيمة من طريق . وله طريق أخرى أخرجها أحمد في مسنده وابن خزيمة أيضاً وابن حبان من طريق . خبيب بن عبد الرحمن عن عمته أنيسة رضي الله عنه قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( إذا أذن ابن أم مكتوم ، فكلوا واشربوا ، وإذا أذن بلال فلا تأكلوا ولا تشربوا ، فإن كانت المرأة منا ليبقى عليها شئ من سحورها ، فتقول لبلال : أمهل حتى أفرغ من سحوري .

قال ابن الجوزي في جامع المسانيد : (( كأن هذا مقلوب )) .

قلت : ورواه شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن على الشك قال : عن أنيسة أن ابن أم مكتوم أو بلال . وإذا كان شعبة وهو أتقن من غيره حفظ عن خبيب فيه الشك فذاك دليل على أن خبيباً لم يضبطه ، فلا يحتاج إلى تكلف الجمع الذي جمعه ابن خزيمة ، ثم هجم ابن حبان فجزم به والله الموفق للصواب

ومن هذا الباب ما رواه البزار من طريق ابن عيينة ، عن سالم أبي النضر ، عن بسر بن سعيد قال : (( أرسلني أبو جهيم إلى زيد بن خالد أسأله ، عن المار بيد يدي المصلي )) .

فإن الحديث في الصحيحين وغيرهما من طريق مالك عن أبي النضر بلفظ : (( أرسلني زيد بن خالد إلى أبي جهيم )) .

ومنها ما وقع في الصحيح من رواية يحيى بن سعيد ، عن هشام عن محمد ، عن أبي هريرة رضي الله عنه في السبعة الذي يظلهم الله في عرشه . فذكر منهم :

(( ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله )) . كذا رواه والمحفوظ من طريق أخرى في الصحيح (( حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه )) .

فاليمين آلة الإنفاق لا الشمال ، لكن حمل بعضهم هذا على ما إذا الإنفاق باليمين مستلزماً إظهار الصدقة ، والإنفاق بالشمال يستلزم إخفاءها ، فإن الإنفاق بالشمال والحالة هذه يكون أفضل من الإنفاق باليمين . ومن ذلك ما وقع في صحيح ابن حبان . (( مستقبل الكعبة مستدبر الشام )) . ومن ذلك ما روى مسلم في صحيحه قال : ثنا محمد بن عبد الله بن نمير . ثنا أبي ووكيع عن الأعمش عن شقيق ، عن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال [وكيع] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن نمير في حديثه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار )) .

وقلت أنا : (( من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة )) .

فرواه أبو عوانة في صحيحه المستخرج على مسلم قال : حدثنا علي بن حرب ثنا وكيع وأبو معاوية عن الأعمش بهذا الإسناد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من مات لا يشرك باله شيئاً دخل الحنة )) ، وقلت أنا : (( من مات يشرك بالله شيئاً دخل النار )) .

قال أبو عوانة : (( لفظ أبي معاوية )) .

وهذا مقلوب ، فإن الحديث في (( صحيح البخاري )) من طريق حفص بن غياث وأبي حمزة السكري ، وكذا رواه النسائي من طريق شعبة وابن خزيمة أيضاً من حديث ابن نمير كلهم عن الأعمش ، وأخرجه ابن خزيمة أيضاً عن سلم بن جنادة وأبي موسى محمد بن المثنى كلاهما عن أبي معاوية كما ساق أبو عوانة ، قال ابن خزيمة : (( قلبه أبو معاوية والصواب حديث شعبة )) .

قلت : وقد رواه ابن خزيمة وابن حبان من طريقين آخرين غير طريق الأعمش . أما ابن خزيمة فمن

طريق سيار أبي الحكم .

وأما ابن حبان فمن طريق المغيرة بن مقسم كلاهما عن أبي وائل شقيق بن سلمة وهو الصواب .

ومثال : ما وقع في القلب في الإسناد والمتن معاً . ما رواه الحاكم من طريق المنذر بن عبد الله الخزامي ، عن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : (( إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة قال : (( سبحانك اللهم وبحمدك تبارك اسمك ... )) الحديث .

قال الحاكم :

(( وهم فيه المنذر والصحيح ما رواه الجماعة عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن عبد الله بن الفضل عن الأعرج ، عن عبيد الله بن أبي رافع ، عن علي رضي الله تعالى عنه قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة قال : (( وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض .. )) الحديث .

قلت : وهو في صحيح مسلم وغيره من هذا الوجه على الصواب . فهذه أقسام المقلوب ، فقد أتيت على شرحها بحمد الله تعالى والله الموفق .

128- قوله (ص) : (( قد وقينا بما سبق الوعد بشرحه من الأنواع الضعيفة )) .

قلت : يشير بذلك إلى قوله : في آخر الكلام على نوع الضعيف : والذي له لقب خاص .. من ذلك الموضوع والمقلوب ... في أنواع سيأتي عليها الشرح )) .

وإذا كان كذلك ، فلا يعترض عليه بأن بعض الأنواع التي أوردها من بعد نوع الضعيف وهلم جرا فيها ما لا يستلزم الضعف ، لأنا نقول إنما قال المصنف : إنه يشرح أنواع الضعيف وهو قد فعل ولم يقل : إنه لا يشرح إلا الأنواع الضعيفة حتى يعترض عليه بمثل المسند والمتصل وما أشبه ذلك مما لا يستلزم الضعف .

129- قوله : (( إذا رأيت حديثاً بإسناد ضعيف فلك أن تقول : هذا ضعيف ، وتعني أنه بذلك الإسناد ضعيف ، وليس لك أن تعني به ضعف المتن بناء على مجرد ذلك الإسناد )) إلى آخره .

قلت : إذا بلغ الحافظ المتأهل الجهد وبذل الوسع في التفتيش على ذلك المتن من مظانه ، فلم يجده إلا من تلك الطريق الضعيفة ، فما المانع له من الحكم بالضعف بناء على غلبة ظنه ، وكذلك إذا وجد كلام إمام من أئمة الحديث ق جزم بأن فلاناً تفرد به ، وعرف المتأخر أن فلاناً المذكور قد ضعف بتضعيف قادح ، فما الذي يمنعه من الحكم بالضعف والظاهر أن المصنف مشى على أصله في تعذر استقلال المتأخرين بالحكم على الحديث بما يليق به والحق خلافه كما قدمناه .

وقول المصنف : فإن أطلق ولم يفسر ففيه كلام يأتي . يعني به في النوع الذي يليه في آخر الفائدة الثالثة منه .

قوله : (( يجوز عند أهل الحديث وغيرهم التساهل في الأسانيد ورواية ما سوى الموضوع ... )) إلى

أن قال : (( وممن روينا عنه التنصيص على التساهل في نحو ذلك عبد الرحمن بن مهدي وأحمد بن حنبل وغيرهما )) .

قلت : لفظ أحمد في ذلك ما رواه الميموني عنه أنه قال : (( الأحاديث الرقائق تحتمل أن يتساهل فيها حتى يجئ شئ فيه حكم )) .

وقال أبو الفضل العباس بن محمد الدوري :

(( سئل أحمد بن حنبل وهو على باب النضر هاشم بن القاسم فقيل له : يا أبا عبد الله ! ما تقول في موسى بن عبيدة ومحمد بن إسحاق ؟ فقال : أما موسى بن عبيدة ، فلم يكن به بأس ولكن حدث بأحاديث مناكير عن عبد الله بن دينار .

وأما محمد بن إسحاق فرجل تكتب عنه هذه الأحاديث يعني المغازي ونحوها . فأما إذا جاء الحلال والحرام أردنا قوماً هكذا وقبض أصابع يديه الأربع )) .

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

البرص و العميان-أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ

البرص و العميان-أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ  المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله عليه محمد وسلم وهب الله لك حسن الاستماع وأشعر ...