Translate

الجمعة، 11 فبراير 2022

سورة الأعراف - الآيات: 44 ــ 51. و الآيات: 52 ــ 57. و الآيات: 58 ــ 67.. و الآيات: 68 ــ 73 ..و من الآيات: 74 ــ 81..ومن الآيات: 82 ــ 87..و الآيات: 88 ــ 95.و سورة الأعراف - الآيات: 96 ــ 104 و من الآيات: 105 ــ و الآيات: 121 ــ 130..120

 

6. سورة الأعراف - الآيات: 44 ــ 51
-----

وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)  الأعراف - تفسير ابن كثير


وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ (45)
{ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) }
يخبر تعالى بما يخاطب أهل الجنة أهل النار إذا استقروا في منازلهم، وذلك على وجه التقريع والتوبيخ: { أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا [ فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ] } (1) أن" هاهنا مفسِّرة للقول المحذوف، و"قد" للتحقيق، أي: قالوا لهم: { قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ } كما أخبر تعالى في سورة "الصافات" عن الذي كان له قرين من الكفار: { فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [ الآيات:55-59 ]
__________
(1) زيادة من ك، م.
(3/416)
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)
أي: ينكر عليه مقالته التي يقولها في الدنيا، ويقرعه بما صار إليه من العذاب والنكال، وكذا (1) تقرعهم الملائكة يقولون لهم: { هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [الطور:14-16] وكذلك قرع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قتلى القليب يوم بدر، فنادى: "يا أبا جهل بن هشام، ويا عتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة -وسمى رءوسهم-: هل وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقًا". وقال (2) عمر: يا رسول الله، تخاطب قومًا قد جَيفوا؟ فقال: "والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا". (3)
وقوله: { فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ } أي: أعلم معلم ونادى مُنَاد: { أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } أي: مستقرة عليهم.
ثم وصفهم بقوله: { الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } أي: يصدون الناس عن اتباع سبيل الله وشرعه وما جاءت به الأنبياء، ويبغون أن تكون السبيل معوجة غير مستقيمة، حتى لا يتبعها أحد. { وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ } أي: وهم بلقاء الله في الدار الآخرة كافرون، أي: جاحدون مكذبون بذلك لا يصدقونه ولا يؤمنون به. فلهذا لا يبالون بما يأتون من منكر من القول والعمل؛ لأنهم لا يخافون حسابًا عليه، ولا عقابًا، فهم شر الناس أعمالا وأقوالا.
{ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) }
لما ذكر تعالى مخاطبة أهل الجنة مع أهل النار، نَبَّه أن بين الجنة والنار حجابًا، وهو الحاجز المانع من وصول أهل النار إلى الجنة.
قال ابن جرير: وهو السور الذي قال الله تعالى: { فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } [ الحديد:13 ] وهو الأعراف الذي قال الله تعالى: { وَعَلَى الأعْرَافِ رِجَالٌ }
ثم روي بإسناده عن السدي أنه قال في قوله [تعالى] (4) { وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ } وهو "السور"، وهو "الأعراف".
__________
(1) في م: "وكذلك".
(2) في ك، م: "فقال".
(3) رواه البخاري في صحيحه برقم (3980) ومسلم في صحيحه برقم (932) من حديث عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما.
(4) زيادة من ك.
(3/417)
وقال مجاهد: الأعراف: حجاب بين الجنة والنار، سور له باب. قال ابن جرير: والأعراف جمع "عُرْف"، وكل مرتفع من الأرض عند العرب يسمى "عرفًا"، وإنما قيل لعرف الديك عرفًا لارتفاعه.
وحدثنا سفيان بن وَكِيع، حدثنا ابن عيينة، عن عُبَيد الله بن أبي يزيد، سمع ابن عباس يقول: الأعراف هو الشيء المشرف.
وقال الثوري، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: الأعراف: سور كعُرْف الديك.
وفي رواية عن ابن عباس: الأعراف، تل بين الجنة والنار، حبس عليه ناس من أهل الذنوب بين الجنة والنار. وفي رواية عنه: هو سور بين الجنة والنار. وكذلك قال الضحاك وغير واحد من علماء التفسير.
وقال السدي: إنما سمي "الأعراف" أعرافًا؛ لأن أصحابه يعرفون الناس.
واختلفت عبارات المفسرين في أصحاب الأعراف من هم، وكلها قريبة ترجع إلى معنى واحد، وهو أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم. نص عليه حذيفة، وابن عباس، وابن مسعود، وغير واحد من السلف والخلف، رحمهم الله. وقد جاء في حديث مرفوع رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه:
حدثنا عبد الله بن إسماعيل، حدثنا عبيد بن الحسين، حدثنا سليمان بن داود، حدثنا النعمان بن عبد السلام، حدثنا شيخ لنا يقال له: أبو عباد، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن استوت حسناته وسيئاته، فقال: "أولئك أصحاب الأعراف، لم يدخلوها وهم يطمعون" .
وهذا حديث غريب من هذا الوجه (1) ورواه من وجه آخر، عن سعيد بن سلمة عن أبي الحسام، عن محمد بن المنكدر عن رجل من مزينة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف، فقال: "إنهم قوم خرجوا عصاة بغير إذن آبائهم، فقتلوا في سبيل الله" (2)
وقال سعيد بن منصور: حدثنا أبو مَعْشَر، حدثنا يحيى بن شِبْل، عن يحيى بن عبد الرحمن المزني (3) عن أبيه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن "أصحاب الأعراف" فقال: "هم ناس (4) قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم، فمنعهم من دخول الجنة معصية آبائهم ومنعهم النار (5) قتلهم في سبيل الله".
__________
(1) ورواه أبو الشيخ وابن عساكر في تاريخه كما في الدر المنثور (3/463).
(2) ورواه أبو الشيخ كما في الدر المنثور (3/465)، وسعيد بن سلمة ضعفه النسائي وخرج له مسلم في صحيحه.
(3) وقع في النسخ "يحيى بن عبد الرحمن المزني" وفي تفسير الطبري "محمد بن عبد الرحمن المزني" وفي مسند الحارث ومساوئ الأخلاق "عمر بن عبد الرحمن المزني" ولم أجد من ترجم له إلا أن ابن أبي حاتم قال في الجرح والتعديل في ترجمة يحيى بن شبل أنه روى عن "عمر بن عبد الرحمن المزني".
(4) في أ: "قوم".
(5) في أ: "من دخول النار".
(3/418)
هكذا رواه ابن مَرْدُوَيه، وابن جرير، وابن أبي حاتم من طرق، عن أبي معشر به (1) وكذلك (2) رواه ابنُ ماجه مرفوعًا، من حديث ابن عباس وأبي سعيد الخدري (3) [رضي الله عنهما] (4) والله أعلم بصحة هذه الأخبار المرفوعة وقصاراها أن تكون موقوفة وفيه دلالة على ما ذكر.
وقال ابن جرير: حدثني يعقوب، حدثنا هُشَيْم، أخبرنا حصين، عن الشعبي، عن حذيفة؛ أنه سئل عن أصحاب الأعراف، قال: فقال: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة، وخلَّفت بهم حسناتهم عن النار. قال: فوقفوا هناك (5) على السور حتى يقضي الله فيهم. (6)
وقد رواه من وجه آخر أبسط (7) من هذا فقال:
حدثنا ابن حُمَيد، حدثنا يحيى بن واضح، حدثنا يونس بن أبي إسحاق قال: قال الشعبي: أرسل إليّ عبد الحميد بن عبد الرحمن -وعنده أبو الزناد عبد الله بن ذَكْوان مولى قريش -وإذا هما قد ذكرا من أصحاب الأعراف ذكرًا ليس كما ذكرا، فقلت لهما: إن شئتما أنبأتكما بما ذكر حذيفة، فقالا هات. فقلت: إن حذيفة ذكر أصحاب الأعراف فقال: هم قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار، وقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة، فإذا صُرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا: { رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } فبينا (8) هم كذلك، اطلع عليهم ربك فقال لهم: اذهبوا فادخلوا الجنة فإني قد غفرت لكم. (9)
وقال عبد الله بن المبارك، عن أبي بكر الهذلي قال: قال سعيد بن جبير، وهو يحدث ذلك عن ابن مسعود قال يحاسب الناس يوم القيامة، فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار. ثم قرأ قول الله: { فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (10) ] } [ المؤمنون:102 ، 103 ] ثم قال: إن الميزان يخف بمثقال حبة ويرجح، قال: ومن استوت حسناته وسيئاته كان من
__________
(1) تفسير الطبري (12/458)، ورواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده برقم (711) "بغية الباحث".
والخرائطي في مساوئ الأخلاق برقم (252) كلاهما من طريق أبي معشر به.
وأبو معشر هو نجيح بن عبد الرحمن قال البخاري: منكر الحديث.
(2) في ك، م: "وكذا".
(3) لم أجدهما في سنن ابن ماجة، وإنما رواهما ابن مردوية في تفسيره كما في الدر المنثور (3/465)، وحديث أبي سعيد رواه أيضا الطبراني في المعجم الأوسط برقم (3322) "مجمع البحرين" من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عطاء، عن أبي سعيد الخدري به. وقال الهيثمي في المجمع (7/23): "فيه محمد بن مخلد الرعيني وهو ضعيف".
قلت: وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف أيضا.
(4) زيادة من أ.
(5) في ك، م: "هنالك".
(6) تفسير الطبري (12/453).
(7) في م: "بأبسط".
(8) في أ: "فبينما".
(9) تفسير الطبري (12/452).
(10) زيادة من ك، م، أ. وفي هـ: "الآيتين".
(3/419)
أصحاب الأعراف، فوقفوا على الصراط، ثم عرفوا أهل الجنة وأهل النار، فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا: سلام عليكم، وإذا صرفوا أبصارهم إلى يسارهم نظروا أصحاب النار قالوا: { رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } فتعوذوا بالله من منازلهم. قال: فأما أصحاب الحسنات، فإنهم يعطون نورًا فيمشون به بين أيديهم وبأيمانهم، ويعطى كل عبد يومئذ نورًا، وكل أمة نورًا، فإذا أتوا على الصراط سلب الله نور كل منافق ومنافقة. فلما رأى أهل الجنة ما لقي المنافقون قالوا: { رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } [ التحريم:8 ]. وأما أصحاب الأعراف، فإن النور كان في أيديهم فلم ينزع، فهنالك يقول الله تعالى: { لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } فكان الطمع دخولا. قال: وقال (1) ابن مسعود: على أن العبد إذا عمل حسنة كتب له بها عشر، وإذا عمل سيئة لم تكتب إلا واحدة. ثم يقول: هلك من غلبت واحدته أعشاره.
رواه ابن جرير (2) وقال أيضا:
حدثني ابن وَكِيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس قال: "الأعراف": السور الذي بين الجنة والنار، وأصحاب الأعراف بذلك المكان، حتى إذا بدأ الله أن يعافيهم، انْطُلِق بهم إلى نهر يقال له: "الحياة"، حافتاه قصب الذهب، مكلل باللؤلؤ، ترابه المسك، فألقوا (3) فيه حتى تصلح ألوانهم، وتبدو في نحورهم بيضاء يعرفون بها، حتى إذا صلحت ألوانهم أتى بهم الرحمن تبارك وتعالى فقال: تمنوا ما شئتم فيتمنون، حتى إذا انقطعت أمنيتهم قال لهم: لكم الذي تمنيتم ومثله سبعون ضعفا. فيدخلون الجنة وفي نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها، يسمون مساكين أهل الجنة.
وكذا رواه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن يحيى بن المغيرة، عن جرير، به. وقد رواه سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن مجاهد، عن عبد الله بن الحارث، من قوله (4) وهذا أصح، والله أعلم. وهكذا روي عن مجاهد والضحاك وغير واحد.
وقال سُنَيْد بن داود: حدثني جرير، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زُرْعَة عن عمرو بن جرير قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف قال (5) هم آخر من يفصل بينهم من العباد، فإذا فرغ رب العالمين من فصله (6) بين العباد قال: أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار، ولم تدخلوا (7) الجنة، فأنتم عتقائي، فارعوا من الجنة حيث شئتم" . وهذا مرسل حسن (8)
__________
(1) في د: "فقال".
(2) تفسير الطبري (12/454).
(3) في م: "فألقي".
(4) تفسيرالطبري (12/455).
(5) في م: "فقال".
(6) في ك، م: "فصل".
(7) في م: "يدخلوا".
(8) ورواه الطبري (12/461) عن القاسم، عن سنيد بإسناده به.
(3/420)
وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة "الوليد بن موسى"، عن منبه بن عثمان (1) عن عُرْوَة بن رُوَيْم، عن الحسن، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أن مؤمني الجن لهم ثواب وعليهم عقاب، فسألناه عن ثوابهم (2) فقال: "على الأعراف، وليسوا في الجنة مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم. فسألناه: وما الأعراف؟ فقال: "حائط الجنة تجري فيها الأنهار، وتنبت فيه الأشجار والثمار".
رواه البيهقي، عن ابن بشران، عن علي بن محمد المصري، عن يوسف بن يزيد، عن الوليد بن موسى، به (3)
وقال سفيان الثوري، عن خُصَيف، عن مجاهد قال: أصحاب الأعراف قوم صالحون فقهاء علماء.
وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّة، عن سليمان التيمي، عن أبي مِجْلز في قوله تعالى: { وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ } قال: هم رجال من الملائكة، يعرفون أهل الجنة وأهل النار، قال: { وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى أَصْحَابُ الأعْرَافِ رِجَالا } في النار { يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ } قال: فهذا حين دخل أهل الجنة الجنة: { ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ } .


وهذا صحيح إلى أبي مجلز لاحق بن حميد أحد التابعين، وهو غريب من قوله وخلاف الظاهر من السياق: وقول الجمهور مقدم على قوله، بدلالة الآية على ما ذهبوا إليه. وكذا قول مجاهد: إنهم قوم صالحون علماء فقهاء (4) فيه غرابة أيضا. والله أعلم.


وقد حكى القرطبي وغيره فيهم اثني عشر قولا منها: أنهم شهدوا أنهم صلحاء تفرعوا من فرع الآخرة، دخلوا (5) يطلعون على أخبار الناس. وقيل: هم أنبياء. وقيل: ملائكة.
وقوله تعالى: { يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ } قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: يعرفون أهل الجنة ببياض الوجوه، وأهل النار بسواد الوجوه. وكذا روى الضحاك، عنه.
وقال العَوْفي، عن ابن عباس (6) أنزلهم الله بتلك المنزلة، ليعرفوا من في الجنة والنار، وليعرفوا أهل النار بسواد الوجوه، ويتعوذوا بالله أن يجعلهم مع القوم الظالمين. وهم في ذلك يحيون أهل الجنة بالسلام، لم يدخلوها، وهم يطمعون أن يدخلوها، وهم داخلوها إن شاء الله.
وكذا قال مجاهد، والضحاك، والسدي، والحسن، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
__________
(1) في النسخ "شيبة بن عثمان" والتصويب من تاريخ دمشق والبعث للبيهقي.
(2) في النسخ: "عن ثوابهم وعن مؤمنيهم" والمثبت من الدر المنثور 3/88. مستفاد من هامش ط الشعب.
(3) تاريخ دمشق (17/910) "القسم المخطوط" والبعث للبيهقي برقم (117) ورجاله ثقات.
(4) في ك، م، أ: "فقهاء علماء".
(5) في م: "وجعلوا"، وفي أ: "وخلق".
(6) في ك، م: "عن ابن عباس قال".
(3/421)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)

 


وقال مَعْمَر، عن الحسن: إنه تلا هذه الآية: { لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } قال: والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم، إلا لكرامة يريدها بهم.
وقال قتادة [قد] (1) أنبأكم الله بمكانهم من الطمع.
وقوله: { وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } قال الضحاك، عن ابن عباس: إن أصحاب الأعراف إذا نظروا إلى أهل النار وعرفوهم (2) قالوا: { رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
وقال السُّدِّي: وإذا مروا بهم -يعني بأصحاب الأعراف -بزمرة يُذهب بها إلى النار قالوا: { رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
وقال عكرمة: تحدد وجوههم في النار، فإذا رأوا أصحاب الجنة ذهب ذلك عنهم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: { وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ } فرأوا وجوههم مسودة، وأعينهم مزرقة، { قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
{ وَنَادَى أَصْحَابُ الأعْرَافِ رِجَالا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) }
يقول الله تعالى مخبرًا (3) عن تقريع أهل الأعراف لرجال من صناديد المشركين وقادتهم، يعرفونهم في النار بسيماهم: { مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ } أي: كثرتكم، { وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ } أي: لا ينفعكم (4) كثرتكم ولا جموعكم من عذاب الله، بل صرتم إلى ما صرتم فيه (5) من العذاب والنكال. { أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ } قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يعني: أصحاب الأعراف { ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ }
وقال ابن جرير: حدثني محمد بن سعد، حدثني أبي، حدثني عمي، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: { قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ [ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ] } (6) الآية، قال: فلما قالوا لهم الذي قضى الله أن يقولوا -يعني أصحاب الأعراف لأهل الجنة وأهل النار-قال الله [تعالى] (7) لأهل التكبر والأموال: { أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ }
وقال (8) حذيفة: إن أصحاب الأعراف قوم تكافأت أعمالهم، فقصرت بهم حسناتهم عن الجنة،
__________
(1) زيادة من م، أ.
(2) في ك، م، أ: "عرفوهم".
(3) في ك، م، أ: "إخبارا".
(4) في أ: "يمنعكم".
(5) في ك، م: "إلى ما أنتم فيه".
(6) زيادة من د، ك، م، أ.
(7) زيادة من أ.
(8) في ك، م: "فقال".
(3/422)
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)
وقصرت بهم سيئاتهم عن النار، فجُعلوا على الأعراف، يعرفون الناس بسيماهم، فلما قضى الله بين العباد أذن لهم في طلب الشفاعة، فأتوا آدم فقالوا: يا آدم، أنت أبونا، فاشفع لنا عند ربك. فقال: هل تعلمون أن أحدًا خلقه الله بيده، ونفخ فيه من روحه، وسبقت رحمته إليه غضبَه، وسجدت له الملائكة غيري؟ فيقولون: لا. [قال] (1) فيقول: ما علمت كنهه، ما أستطيع أن أشفع لكم، ولكن ائتوا ابني إبراهيم. فيأتون إبراهيم صلى الله عليه وسلم (2) فيسألونه أن يشفع لهم عند ربهم، فيقول: [هل] (3) تعلمون من أحد اتخذه الله خليلا؟ هل تعلمون أن أحدًا أحرقه قومه بالنار في الله غيري؟ فيقولون: لا. فيقول: ما علمت كنهه، ما أستطيع أن أشفع لكم. ولكن ائتوا ابني موسى. فيأتون موسى، عليه السلام، [فيقولون: اشفع لنا عند ربك] (4) فيقول: هل تعلمون من أحد كلمه الله تكليمًا وقربه نجيًا غيري؟ فيقولون: لا فيقول: ما علمت كنهه، ما أستطيع أن أشفع لكم، ولكن ائتوا عيسى. فيأتونه، عليه السلام، فيقولون له: اشفع لنا عند ربك. فيقول: هل تعلمون أحدًا خلقه الله من غير أب غيري؟ فيقولون: لا. فيقول: هل تعلمون من أحد كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله غيري؟ قال: فيقولون: لا. فيقول: أنا حجيج نفسي. ما علمت كنهه، ما أستطيع أن أشفع لكم. ولكن ائتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فيأتونني (5) فأضرب بيدي على صدري، ثم أقول: أنا لها. ثم أمشي حتى أقف بين يدي العرش، فآتي ربي، عز وجل، فيفتح لي من الثناء ما لم يسمع السامعون بمثله قط، ثم أسجد فيقال لي: يا محمد، ارفع رأسك، وسل تُعطه، واشفع تشفع. فأرفع رأسي، فأقول: ربي أمتي. فيقول: هم لك. فلا يبقى نبي مرسل، ولا ملك مقرب، إلا غبطني بذلك المقام، وهو المقام المحمود. فآتي بهم الجنة، فأستفتح فيفتح لي ولهم، فيذهب بهم إلى نهر يقال له: نهر الحيوان، حافتاه قصب مكلل باللؤلؤ، ترابه المسك، وحصباؤه الياقوت. فيغتسلون منه، فتعود إليهم ألوان أهل الجنة، وريح [أهل الجنة] (6) فيصيرون كأنهم الكواكب الدرية، ويبقى في صدورهم شامات بيض يعرفون بها، يقال لهم: مساكين أهل الجنة" (7)
{ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) }
يخبر تعالى عن ذلة أهل النار وسؤالهم أهل الجنة من شرابهم وطعامهم، وأنهم لا يجابون إلى ذلك.
قال السُّدِّي: { وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ }
__________
(1) زيادة من ك، م.
(2) في أ: "عليه الصلاة والسلام".
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من أ.
(5) في ك، م: "فيأتوني".
(6) زيادة من ك، م، أ.
(7) رواه الطبري في تفسيره (12/469).
(3/423)
يعني: الطعام وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: يستطعمونهم ويستسقونهم.
وقال الثوري، عن عثمان الثقفي، عن سعيد بن جبير في هذه الآية قال: ينادي الرجل أباه أو أخاه فيقول: قد احترقت، أفض (1) علي من الماء. فيقال لهم: أجيبوهم. فيقولون: { إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ }
وروي من وجه آخر عن سعيد، عن ابن عباس، مثله [سواء] (2)
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: { إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ } يعني: طعام الجنة وشرابها.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا نصر بن علي، أخبرنا موسى بن المغيرة، حدثنا أبو موسى الصفَّار في دار عمرو بن مسلم قال: سألت ابن عباس -أو: سئل -: أي الصدقة أفضل؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصدقة الماء، ألم تسمع إلى أهل النار لما استغاثوا بأهل الجنة قالوا: { أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ } (3)
وقال أيضا: حدثنا أحمد بن سنان، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن أبي صالح قال: لما مرض أبو طالب قالوا له: لو أرسلتَ إلى ابن أخيك هذا، فيرسل إليك بعنقود من الجنة (4) لعله أن يشفيك به. فجاءه الرسول وأبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: إن الله حرمهما على الكافرين (5)
ثم وصف تعالى الكافرين بما كانوا يعتمدونه في الدنيا من اتخاذهم الدين لهوا ولعبا، واغترارهم بالدنيا وزينتها وزخرفها عما أمروا به من العمل للدار الآخرة.
قوله (6) { فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا } أي: نعاملهم معاملة من نَسيهم؛ لأنه تعالى لا يشذ عن (7) علمه شيء ولا ينساه، كما قال تعالى: { فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى } [ طه:52 ]
وإنما قال تعالى هذا من باب المقابلة، كما قال: { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [التوبة:67 ] وقال: { كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } [ طه:126 ]

 

 

وقال تعالى: { وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا } [ الجاثية:34 ]
وقال العَوْفي، عن ابن عباس في [قوله] (8) { فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا } قال: نسيهم الله من الخير، ولم ينسهم من الشر.
__________
(1) في د: "فأفض".
(2) زيادة من أ.
(3) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (3380) والذهبي في ميزان الاعتدال (4/224) من طريق موسى بن المغيرة به.
وقال الذهبي: "موسى بن المغيرة مجهول، وشيخه أبو موسى الصفار لا يعرف".
(4) في د، ك، م، أ: "جنته".
(5) ورواه ابن أبي شيبة كما في الدر المنثور للسيوطي (3/469).
(6) في م: "وقوله".
(7) في أ: "من".
(8) زيادة من أ.  (3/424)

 


وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: نتركهم، كما تركوا لقاء يومهم هذا. وقال مجاهد: نتركهم في النار. وقال السُّدِّي: نتركهم من الرحمة، كما تركوا أن يعملوا للقاء يومهم هذا.
وفي الصحيح أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة: "ألم أزوجك؟ ألم أكرمك؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل، وأذَرْك ترأس وتَرْبَع؟ فيقول: بلى. فيقول: أظننت أنك ملاقي؟ فيقول: لا. فيقول الله: فاليوم أنساك كما نسيتني" (1)
__________
(1) ورواه ابن أبي شيبة كما في الدر المنثور للسيوطي (3/469).  (3/425)


--------------------------
7. سورة الأعراف - الآيات: 52 ــ 57
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57 الأعراف - تفسير ابن كثير


وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)
{ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53) }
يقول تعالى مخبرًا عن إعذاره إلى المشركين بإرسال الرسول إليهم بالكتاب الذي جاء به الرسول، وأنه كتاب مفصل مبين، كما قال تعالى: { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ] } (1) الآية [ هود:1 ].
وقوله: { فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ } (2) أي: على علم منا بما فصلناه به، كما قال تعالى: { أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ } [ النساء:166 ]
قال ابن جرير: وهذه الآية مردودة على قوله: { كِتَابٌ أُنزلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ [ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (3) ] } [ الأعراف:2 ]{ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ [ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ ] } (4) الآية.
وهذا الذي قاله فيه نظر، فإنه قد طال الفصل، ولا دليل على ذلك، وإنما لما أخبر عما صاروا إليه من الخسار في الدار الآخرة، ذكر أنه قد أزاح عللهم في الدار الدنيا، بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، كقوله: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } [ الإسراء:15 ] ؛ ولهذا قال: { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ } أي: ما وُعِدَ من العذاب والنكال والجنة والنار. قاله مجاهد وغير واحد.
وقال مالك: ثوابه. وقال الربيع: لا يزال يجيء تأويله أمر، حتى يتم يوم الحساب، حتى يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فيتم تأويله يومئذ.
{ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } أي: يوم القيامة، قاله ابن عباس -{ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ } أي: تركوا العمل به، وتناسوه في الدار الدنيا: { قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا } أي: في
__________
(1) زيادة من ك، م.
(2) في ك: "علم للعالمين" وهو خطأ.
(3) زيادة من ك، م، وفي هـ "الآية".
(4) زيادة من ك، م.  (3/425)


إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
خلاصنا مما نحن فيه، { أَوْ نُرَدُّ } إلى الدار الدنيا { فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } كما قال تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ الأنعام:27 ، 28 ]

 

 

كما قال هاهنا: { قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } أي: [قد] (1) خسروا أنفسهم بدخولهم النار وخلودهم فيه، { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } أي: ذهب عنهم ما كانوا يعبدونهم من دون الله فلا ينصرونهم، ولا يشفعون لهم (2) ولا ينقذونهم مما هم فيه.
{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) }
يخبر تعالى بأنه خلق هذا العالم: سماواته وأرضه، وما بين ذلك في ستة أيام، كما أخبر بذلك في غير ما آية من القرآن، والستة الأيام هي: الأحد، والاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، والجمعة -وفيه اجتمع الخلق كله، وفيه خلق آدم، عليه السلام. واختلفوا في هذه الأيام: هل كل يوم منها كهذه الأيام كما هو المتبادر إلى الأذهان (3) ؟ أو كل يوم كألف سنة، كما نص على ذلك مجاهد، والإمام أحمد بن حنبل، ويروى ذلك من رواية الضحاك عن ابن عباس؟ فأما يوم السبت فلم يقع فيه خلق؛ لأنه اليوم السابع، ومنه سمي السبت، وهو القطع.


فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال: حدثنا حجاج، حدثنا ابن جُرَيْج، أخبرني إسماعيل بن أُمَيَّة، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع -مولى أم سلمة -عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: "خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل".


فقد رواه مسلم بن الحجاج في صحيحه والنسائي من غير وجه، عن حجاج -وهو ابن محمد الأعور -عن ابن جريج به (4) وفيه استيعاب الأيام السبعة، والله تعالى قد قال في ستة أيام؛ ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث، وجعلوه من رواية أبي هريرة، عن كعب الأحبار، ليس مرفوعا، والله أعلم.


وأما قوله تعالى: { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جدا، ليس هذا موضع بسطها، وإنما يُسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح: مالك، والأوزاعي، والثوري،
__________
(1) زيادة من م.
(2) في ك، م: "فيهم".
(3) في م: "الفهم".
(4) المسند (1/327) وصحيح مسلم برقم (2789) وسنن النسائي الكبرى برقم (11010).  (3/426)


ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)

 


والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه وغيرهم، من أئمة المسلمين قديما وحديثا، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل. والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه، و { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [ الشورى:11 ] بل الأمر كما قال الأئمة -منهم نُعَيْم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري -: "من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر". وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة، على الوجه الذي يليق بجلال الله تعالى، ونفى عن الله تعالى النقائص، فقد سلك سبيل الهدى.


وقوله تعالى: { يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا } أي: يذهب ظلام هذا بضياء هذا، وضياء هذا بظلام هذا، وكل منهما يطلب الآخر طلبًا حثيثًا، أي: سريعًا لا يتأخر عنه، بل إذا ذهب هذا جاء هذا، وإذا جاء هذا ذهب هذا، كما قال تعالى: { وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس:37-40] ------- فقوله: { وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ } أي: لا يفوته بوقت يتأخر عنه، بل هو في أثره لا واسطة بينهما؛ ولهذا قال: { يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } -منهم من نصب، ومنهم من رفع، وكلاهما قريب المعنى، أي: الجميع تحت قهره وتسخيره ومشيئته؛ ولهذا قال منَبِّها: { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ } ؟ أي: له الملك والتصرف، { تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } كما قال [تعالى] (1) { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا [ وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا ] } (2) [ الفرقان : 61 ] .


وقال ابن جرير: حدثني المثنى، حدثنا إسحاق، حدثنا هشام أبو عبد الرحمن، حدثنا بَقِيِّة بن الوليد، حدثنا عبد الغفار بن عبد العزيز الأنصاري، عن عبد العزيز الشامي، عن أبيه -وكانت له صحبة -قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح، وحمد نفسه، فقد كفر وحبط عمله. ومن زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئا، فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه؛ لقوله: { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } (3)
وفي الدعاء المأثور، عن أبي الدرداء -وروي مرفوعا -: "اللهم لك الملك كله، ولك الحمد كله، وإليك يرجع الأمر كله، أسألك من الخير كله، وأعوذ بك من الشر كله" (4)
{ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) }
أرشد [سبحانه و] (5) تعالى عباده إلى دعائه، الذي هو صلاحهم في دنياهم وأخراهم، فقال تعالى:
__________
(1) زيادة من ك.
(2) زيادة من م، أ، وفي هـ: "الآية".
(3) تفسير الطبري (12/484).
(4) سبق الكلام على هذا الأثر، وذكر وجوه رفعه عند الآية: 2 من سورة الفاتحة.
(5) زيادة من أ.
(3/427)
{ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } [قيل] (1) معناه: تذللا واستكانة، و { خُفْيَة } كما قال: { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ [ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (2) ] } [ الأعراف:205 ] وفي الصحيحين، عن أبي موسى الأشعري [رضي الله عنه] (3) قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيها الناس، ارْبَعُوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، إن الذي تدعونه سميع قريب (4) (5) الحديث.
وقال ابن جُرَيْج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس في قوله: { تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } قال: السر.
وقال ابن جرير: { تَضَرُّعًا } تذللا واستكانة لطاعته. { وَخُفْيَة } يقول: بخشوع قلوبكم، وصحة اليقين بوحدانيته وربوبيته فيما بينكم وبينه، لا جهارا ومراءاة.
وقال عبد الله بن المبارك، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن قال: إنْ كانَ الرجل لقد جمع القرآن، وما يشعر به الناس. وإن كان الرجل لقد فقُه (6) الفقه الكثير، وما يشعر به الناس. وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزُّوَّر وما يشعرون به. ولقد أدركنا أقوامًا ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر، فيكون علانية أبدا. ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء، وما يُسمع لهم صوت، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ] } (7) وذلك أن الله ذكر عبدًا صالحا رَضِي فعله فقال: { إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا } [ مريم:3 ]
وقال ابن جُرَيْج: يكره رفع الصوت والنداء والصياحُ في الدعاء، ويؤمر بالتضرع والاستكانة، ثم روي عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس في قوله: { إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } في الدعاء ولا في غيره.
وقال أبو مِجْلِز: { إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } لا يسأل (8) منازل الأنبياء.
وقال الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله: حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي، حدثنا شعبة، عن زياد ابن مِخْراق، سمعت أبا نعامة (9) عن مولى لسعد؛ أن سعدًا سمع ابنا له يدعو وهو يقول: اللهم، إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها ونحوا من هذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها. فقال: لقد سألت الله خيرًا كثيرًا، وتعوذت بالله من شر كثير، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء". وقرأ هذه الآية: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ] } (10)
__________
(1) زيادة من ك، م، د، أ.
(2) زيادة من ك، م، أ. وفي هـ: "الآية".
(3) زيادة من أ.
(4) في م، ك،: "سميعا قريبا"، وفي د: "قريبا سميعا".
(5) صحيح البخاري برقم (4205)، وصحيح مسلم برقم (2704)
(6) في أ: "لفقه".
(7) زيادة من ك.
(8) في د: "تسأل".
(9) في م، ك، أ: "أبا عباية".
(10) زيادة من ك، م، أ. وفي هـ: "الآية".  (3/428)


وإن بحسبك أن تقول: "اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل" (1)
ورواه أبو داود، من حديث شعبة، عن زياد بن مخراق، عن أبي نَعَامة، عن ابن لسعد، عن سعد، فذكره (2) والله أعلم.

 


وقال الإمام أحمد: حدثنا عفَّان، حدثنا حَمَّاد بن سلمة، أخبرنا الجريري، عن أبي نَعَامة: أن عبد الله بن مغفل (3) سمع ابنه يقول: اللهم، إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها. فقال: يا بني، سل الله الجنة، وعذ به من النار؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يكون قوم يعتدون في الدعاء والطَّهُور".

 


وهكذا رواه ابن ماجه، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن عفان به. وأخرجه أبو داود، عن موسى ابن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، عن سعيد بن إياس الجريري، عن أبي نَعَامة (4) -واسمه: قيس ابن عباية الحنفي البصري -وهو إسناد حسن لا بأس به، والله أعلم.


وقوله تعالى: { وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا } ينهى تعالى عن الإفساد في الأرض، وما أضره بعد الإصلاح! فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد، ثم وقع الإفساد بعد ذلك، كان أضر ما يكون على العباد. فنهى [الله] (5) تعالى عن ذلك، وأمر بعبادته ودعائه والتضرع إليه والتذلل لديه، فقال: { وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا } أي: خوفا مما عنده من وبيل العقاب، وطمعًا فيما عنده من جزيل الثواب.


ثم قال: { إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } أي: إن رحمته مُرْصَدة للمحسنين، الذين يتبعون أوامره ويتركون زواجره، كما قال تعالى: { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ. [ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ ] } (6) [الأعراف: 156 ، 157].


وقال: { قَرِيبٌ } ولم يقل: "قريبة"؛ لأنه ضمن الرحمة معنى الثواب، أو لأنها مضافة إلى الله، فلهذا قال: قريب من المحسنين.


وقال مطر الوراق: تَنَجَّزوا موعود (7) الله بطاعته، فإنه قضى أن رحمته قريب من المحسنين، رواه ابن أبي حاتم.
__________
(1) المسند (1/172).
(2) سنن أبي داود برقم (1480).
(3) في أ: "معقل".
(4) المسند (5/55)، وسنن ابن ماجة برقم (3864)، وسنن أبي داود برقم (96).
(5) زيادة من أ.
(6) زيادة من ك، م، أ.
(7) في أ: "فتنجزوا بوعد". (3/429)


وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)

 

{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)}  --(3/430)
-----------------------------
8. سورة الأعراف - الآيات: 58 ــ 67
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67--الأعراف - تفسير ابن كثير --

 
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
{ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) }


لما ذكر تعالى أنه خالق (1) السموات والأرض، وأنه المتصرف الحاكم المدبِّر المسخِّر، وأرشد إلى دعائه؛ لأنه على ما يشاء قادر -نبه تعالى على أنه الرزّاق، وأنه يعيد الموتى يوم القيامة فقال: " وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ نشْرًا " أي: ناشرة بين يدي السحاب الحامل للمطر، ومنهم من قرأ { بُشْرًا } كقوله { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ } [ الروم:46 ]
وقوله: { بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } أي: بين يدي المطر، كما قال: { وَهُوَ الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ } [ الشورى:28 ] وقال { فَانْظُرْ إِلَى أَثَر رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الروم:50 ] (2)


وقوله: { حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا } أي: حملت الرياح سحابًا ثقالا أي: من كثرة ما فيها من الماء، تكون ثقيلة قريبة من الأرض مدلهمة، كما قال زيد بن عمرو بن نفيل، رحمه الله.
وأسلمتُ وجْهِي لمنْ أسْلَمَتْ ... لَهُ المُزْنُ تَحْمل عَذْبا زُلالا ...
وأسلَمْتُ وَجْهي لمن أسلَمَتْ ... له الأرض تحملُ صَخرًا ثقالا (3)
وقوله: { سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ } أي: إلى أرض ميتة، مجدبة (4) لا نبات فيها، كما قال تعالى: { وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا [ وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (5) ] } [ يس:33 ] ؛ ولهذا قال: { فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى } أي: كما أحيينا هذه الأرض بعد موتها، كذلك نحيي الأجساد بعد صيرورتها رَمِيمًا يوم القيامة، ينزل الله، سبحانه وتعالى، ماء من السماء، فتمطر الأرض أربعين يوما، فتنبت منه الأجساد في قبورها كما ينبت الحب في الأرض. وهذا المعنى كثير في القرآن، يضرب الله مثلا للقيامة بإحياء الأرض بعد موتها؛ ولهذا قال: { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }
وقوله: { وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ } أي: والأرض الطيبة يخرج نباتها سريعًا حسنا، كما قال: { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } [ آل عمران:37 ]
{ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا } قال مجاهد وغيره: كالسباخ ونحوها.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في الآية: هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر.
__________
(1) في أ: "خلق".
(2) في أ: "آثار".
(3) البيتين في السيرة النبوية لابن هشام (1/231).
(4) في أ: "ميتة أي مجدبة".
(5) زيادة من ك، م، أ، وفي هـ: "الآية".  (3/430)


لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)

 

وقال البخاري: حدثنا محمد بن العلاء، حدثنا حماد بن أسامة (1) عن بُرَيد (2) بن عبد الله، عن أبي بردة، عن أبي موسى، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا، فكانت منها نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير. وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس، فشربوا وسقوا وزرعوا. وأصاب منها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت (3) فذلك مثل من فَقُه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فَعَلم وَعَلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا. ولم يَقْبَل هُدَى الله الذي أُرْسِلْتُ به".


رواه مسلم والنسائي من طرق، عن أبي أسامة حماد بن أسامة، به (4)
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (62) }

 

لما ذكر تعالى قصة آدم في أول السورة، وما يتعلق بذلك وما يتصل به، وفرغ منه، شرع تعالى في ذكر قصص الأنبياء، عليهم السلام، الأول فالأولَ، فابتدأ بذكر نوح، عليه السلام، فإنه أول رسول إلى أهل الأرض بعد آدم، عليه السلام، وهو: نوح بن لامك بن متوشلح بن خَنُوخ -وهو إدريس [النبي] (5) عليه السلام -فيما، يزعمون، وهو أول من خط بالقلم -ابن برد بن مهليل بن قنين بن يانش بن شيث بن آدم، عليه (6) السلام.
هكذا نسبه [محمد] (7) بن إسحاق وغير واحد من أئمة النسب، قال محمد بن إسحاق: ولم يلق نبي من قومه من الأذى مثل نوح إلا نبي قتل.
وقال يزيد الرقاشي: إنما سمّي نوحًا لكثرة ما ناح على نفسه.
وقد كان بين آدم إلى زمن نوح، عليهما السلام، عشرة قرون، كلهم على الإسلام [قاله عبد الله ابن عباس] (8)
قال عبد الله بن عباس وغير واحد من علماء التفسير: وكان أول ما عبدت الأصنام، أن قومًا صالحين ماتوا، فبنى قومهم عليهم مساجدَ وصوروا صور أولئك فيها، ليتذكروا حالهم وعبادتهم، فيتشبهوا بهم. فلما طال الزمان، جعلوا تلك الصور أجسادًا على تلك الصور. فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام وسموها بأسماء أولئك الصالحين "ودًا وسواعًا ويَغُوث وَيَعُوق ونسرًا". فلما تفاقم الأمر بعث الله، سبحانه وتعالى -وله الحمد والمنة -رسوله نوحا يأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك
__________
(1) في أ: "ابن أبي أسامة" وهو خطأ.
(2) في أ: "يزيد".
(3) في ك، د، م، أ: "ولا تنبت كلأ".
(4) صحيح البخاري برقم (79)، وصحيح مسلم برقم (2282)، وسنن النسائي الكبرى برقم (5843).
(5) زيادة من أ.
(6) في أ: "عليهم".
(7) زيادة من ك، م، أ.
(8) زيادة من م، أ.
(3/431)


أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)

 


له، فقال: { يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي: من عذاب يوم القيامة إنْ (1) لقيتم الله وأنتم مشركون به { قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ } أي: الجمهور والسادة والقادة والكبراء منهم: { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } أي: في دعوتك إيانا إلى ترك عبادة هذه الأصنام التي وجدنا عليها آباءنا . وهكذا حال الفجار إنما يرون الأبرار في ضلالة، كما قال تعالى: { وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ } [ المطففين:32 ]، { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ } [ الأحقاف:11 ] إلى غير ذلك من الآيات.
{ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي: ما أنا ضال، ولكن أنا رسول (2) من رب كل شيء ومليكه، { أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ }

 

 

وهذا شأن الرسول، أن يكون بليغا فصيحا ناصحا بالله، لا يدركهم أحد من خلق الله في هذه الصفات، كما جاء في صحيح مسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم عرفة، وهم أوفر ما كانوا وأكثر جمعا: "أيها الناس، إنكم مسئولون عني، فما أنتم قائلون؟" قالوا: نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت، فجعل يرفع إصبعه إلى السماء وينكتُها عليهم ويقول: "اللهم اشهد، اللهم اشهد (3) (4)
{ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) }
يقول تعالى إخبارًا عن نوح [عليه السلام] (5) أنه قال لقومه: { أَوَعَجِبْتُمْ [ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ] } (6) أي لا تعجبوا من هذا، فإن هذا ليس يعجَب أن يوحي الله إلى رجل منكم، رحمة بكم ولطفا وإحسانا إليكم، لإنذركم ولتتقوا نقمة الله ولا تشركوا به، { وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }
قال الله تعالى: { فَكَذَّبُوهُ } أي: فتمادوا (7) على تكذيبه ومخالفته، وما آمن معه منهم إلا قليل، كما نص عليه في موضع آخر، { فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ } وهي السفينة، كما قال: { فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ } [ العنكبوت:15 ]{ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا } كما قال: { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا } [ نوح:25 ]
وقوله: { إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ } أي: عن الحق، لا يبصرونه ولا يهتدون له.
فبين تعالى في هذه القصة أنه انتقم لأوليائه من أعدائه، وأنجى رسوله والمؤمنين، وأهلك أعداءهم
__________
(1) في د: "إذا".
(2) في أ: "ولكني رسول".
(3) جاءت "اللهم اشهد" في "أ" ثلاث مرات.
(4) صحيح مسلم برقم (1218) من حديث جابر، رضي الله عنه.
(5) زيادة من أ.
(6) زيادة من ك، م، أ، وفي هـ: "الآية".
(7) في د: "تمادوا".
(3/432)


وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67)


من الكافرين، كما قال تعالى: { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا [ وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ ] وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (1) } [ غافر:51 ، 52 ]
وهذه سنة الله في عباده في الدنيا والآخرة، أن العاقبة (2) للمتقين والظفر والغلب لهم، كما أهلك قوم نوح [عليه االسلام] (3) بالغرق ونجى نوحا وأصحابه المؤمنين.
قال مالك، عن زيد بن أسلم: كان قوم نوح قد ضاق بهم السهل والجبل.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ما عذب الله قوم نوح [عليه السلام] (4) إلا والأرض ملأى بهم، وليس بقعة من الأرض إلا ولها مالك وحائز.
وقال ابن وَهْب: بلغني عن ابن عباس: أنه نجا مع نوح [عليه السلام] (5) في السفينة ثمانون رجلا أحدهم "جُرْهم"، وكان لسانه عربيا.
رواهن (6) ابن أبي حاتم. وقد روي هذا الأثر الأخير من وجه آخر متصلا عن ابن عباس، رضي الله عنهما.
{ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) }
__________
(1) زيادة من ك، م، أ، وفي هـ: الآية إلى قوله".
(2) في أ: "أن العاقبة فيها.
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من أ.
(6) في م، د، أ: "رواه". (3/433
-------------------------
9. سورة الأعراف - الآيات: 68 ــ 73
أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73الأعراف - تفسير ابن كثير

 
أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
{ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) }
يقول تعالى: وكما أرسلنا إلى قوم نوح نوحًا، كذلك أرسلنا إلى عاد أخاهم هودًا.
قال محمد بن إسحاق: هم [من] (1) ولد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح.
قلت: وهؤلاء هم عاد الأولى، الذين ذكرهم الله [تعالى] (2) وهم أولاد عاد بن إرم الذين كانوا يأوون إلى العَمَد في البر، كما قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ } [ الفجر:6-8 ] وذلك لشدة بأسهم وقوتهم، كما قال تعالى: { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } [ فصلت:15 ] .
وقد كانت مساكنهم باليمن بالأحقاف، وهي جبال الرمل.
__________
(1) زيادة من م.
(2) زيادة من أ.
(3/433)
قال محمد بن إسحاق، عن محمد بن عبد الله بن أبي سعيد الخزاعي، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، سمعت علي بن أبي طالب [رضي الله عنه] (1) يقول لرجل من حضرموت : هل رأيت كثيبا أحمر تخالطه مَدَرَة حمراء ذا أرَاكٍ وسدْر كثير بناحية كذا وكذا من أرض حضرموت، هل رأيته؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. والله إنك لتنعته نعتَ رجل قد رآه. قال: لا ولكني قد حدِّثتُ عنه. فقال الحضرمي: وما شأنه يا أمير المؤمنين؟ قال: فيه قبرُ هود، عليه السلام.
رواه ابن جرير (2) وهذا فيه فائدة أن مساكنهم كانت باليمن، وأن هودا، عليه السلام، دفن هناك، وقد كان من أشرف (3) قومه نسبا؛ لأن الرسل [صلوات الله عليهم] (4) إنما يبعثهم الله من أفضل القبائل وأشرفهم، ولكن كان قومه كما شُدّد خلقهم شُدِّد على قلوبهم، وكانوا من أشد الأمم تكذيبا للحق؛ ولهذا دعاهم هود، عليه السلام، إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وإلى طاعته وتقواه.
{ قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ } -والملأ هم: الجمهور والسادة والقادة منهم -: { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } أي: في ضلالة حيث دعوتنا إلى ترك عبادة الأصنام، والإقبال إلى عبادة الله وحده [لا شريك له] (5) كما تعجب الملأ من قريش من الدعوة إلى إله واحد { فقالوا } { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا [إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (6) ] } [ صّ : 5 ] .
{ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي: ليست كما تزعمون، بل جئتكم بالحق من الله الذي خلق كل شيء، فهو رب كل شيء ومليكه { أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ } وهذه الصفات التي يتصف بها الرسل البلاغة والنصح والأمانة.


{ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ } أي: لا تعجبوا أن بعث الله إليكم رسولا من أنفسكم لينذركم أيام الله ولقاءه، بل احمدوا الله على ذاكم، { وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } أي: واذكروا نعمة الله عليكم إذ جعلكم من ذرية نوح، الذي أهلك الله أهل الأرض بدعوته، لما خالفوه وكذبوه، { وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً } أي: زاد طولكم على الناس بسطة، أي: جعلكم أطول من أبناء جنسكم، كما قال تعالى: في قصة طالوت: { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } [ البقرة:247 ]{ فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ } أي: نعمه ومنَنه عليكم { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [وألاء جمع ألى وقيل: إلى] (7)
__________
(1) زيادة من أ.
(2) تفسير الطبري (12/507).
(3) في م، ك: "أشراف".
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من ك.
(6) زيادة من ك، م. وفي هـ: "الآية"
(7) زيادة من ك، م.  (3/434)


قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)

 


{ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72) }

 

 


يقول تعالى مخبرا عن تمردهم وطغيانهم وعنادهم وإنكارهم على هود، عليه السلام: { قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ [ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ] } (1) كما قال الكفار من قريش: { وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال:32 ]


وقد ذكر محمد بن إسحاق وغيره: أنهم كانوا يعبدون أصناما، فصنم يقال له: صُدَاء، وآخر يقال له: صمُود، وآخر يقال له: الهباء (2)
ولهذا قال هود، عليه السلام: { قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ } أي: قد وجب عليكم بمقالتكم هذه من ربكم رجس [وغضب] (3) قيل: هو مقلوب من رجز. وعن ابن عباس: معناه السخَط والغضب.
{ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ } أي: أتحاجوني (4) في هذه الأصنام التي سميتموها أنتم وآباؤكم آلهة، وهي لا تضر ولا تنفع، ولا جعل الله لكم على عبادتها حجة ولا دليلا؛ ولهذا قال: { مَا نزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ }
وهذا تهديد ووعيد من الرسول لقومه؛ ولهذا عقب بقوله: { فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ }
وقد ذكر الله، سبحانه، صفة إهلاكهم في أماكن أخر من القرآن، بأنه أرسل عليهم الريح العقيم، ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم، كما قال في الآية الأخرى: { وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ } [الحاقة:6-8] لما تمردوا وعتوا أهلكهم الله بريح عاتية، فكانت تحمل الرجل منهم فترفعه في الهواء ثم تنكسه على أمّ رأسه فتثلغُ رأسه حتى تُبينه من بين جثته؛ ولهذا قال: { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ }
وقال محمد بن إسحاق: كانوا يسكنون باليمن من (5) عمان وحضرموت، وكانوا مع ذلك قد
__________
(1) زيادة من ك، م، وفي هـ: الآية".
(2) انظر: تفسير الطبري (12/507).
(3) زيادة من م.
(4) في م، د: "أتجادلونني".
(5) في م، ك: "بين".
(3/435)
فشوا في الأرض وقهروا أهلها، بفضل قوتهم التي آتاهم الله، وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون الله، فبعث الله إليهم هودًا، عليه السلام، وهو من أوسطهم نسبا، وأفضلهم موضعًا، فأمرهم أن يوحدوا الله ولا يجعلوا معه إلها غيره، وأن يكفوا عن ظلم الناس، فأبوا عليه وكذبوه، وقالوا: من أشد منا قوة؟ واتبعه منهم ناس، وهم يسير مكتتمون بإيمانهم، فلما عتت عاد على الله وكذبوا نبيه، وأكثروا في الأرض الفساد وتجبروا، وبنوا بكل ريع آية عبثا بغير نفع، كلمهم هود فقال: { أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } [الشعراء:128-131]{ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ } أي: بجنون { قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [هود:53-56]
قال محمد بن إسحاق: فلما أبوا إلا الكفر به، أمسك الله عنهم القطر (1) ثلاث سنين، فيما يزعمون، حتى جهدهم ذلك، قال: وكان الناس إذا جهدهم أمر في ذلك الزمان، فطلبوا من الله الفرج فيه، إنما يطلبونه بحُرْمة ومكان بيته، وكان معروفا عند المِلَل (2) وبه العماليق مقيمون، وهم من سلالة عمليق بن لاوَذَ بن سام بن نوح، وكان سيدهم إذ ذاك رجلا يقال له: "معاوية بن بكر" ، وكانت له أم (3) من قوم عاد، واسمها كلهدة (4) ابنة الخيبري، قال: فبعثت عاد وفدًا قريبا من سبعين رجلا إلى الحرم، ليستسقوا لهم عند الحرم، فمروا بمعاوية بن بكر بظاهر مكة فنزلوا عليه، فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان -قينتان لمعاوية -وكانوا قد وصلوا إليه في شهر، فلما طال مقامهم عنده وأخذته شفقة على قومه، واستحيا منهم أن يأمرهم بالانصراف، عمل شعرا يعرض لهم بالانصراف، وأمر القينتين أن تغنياهم به، فقال:
ألا يا قيل ويحك قُْم فَهَيْنم ... لعلّ الله يُصْبحُنَا غَمَاما ...
فَيَسْقي أرضَ عادٍ إنّ عادًا ... قَد امْسَوا لا يُبِينُونَ الكَلاما ...
من العطش الشديد فليس نَرجُو ... به الشيخَ الكبيرَ ولا الغُلاما ...
وَقَْد كانَت نساؤهُم بخيرٍ ... فقد أمست (5) نِسَاؤهم عَيَامى
وإنّ الوحشَ تأتيهمْ جِهارا ... ولا تَخْشَى لعاديَ سِهَاما ...
وأنتم هاهُنَا فيما اشتَهَيْتُمْ ... نهارَكُمُ وَلَيْلَكُمُ التماما ...
فقُبّحَ وَفُْدكم من وَفْدِ قَوْمٍ ... ولا لُقُّوا التحيَّةَ والسَّلاما ...
__________
(1) في م: "القطر عنهم".
(2) في ك، م: " عند أهل ذلك الزمان"
(3) في م: "وكانت أمه".
(4) في ك، م: "جلهدة".
(5) في أ: "فأصبحت".
(3/436)
قال: فعند ذلك تنبه القوم لما جاءوا له، فنهضوا إلى الحرم، ودعوا لقومهم فدعا داعيهم، وهو: "قيل بن عنز" فأنشأ الله سحابات ثلاثا: بيضاء، وسوداء، وحمراء، ثم ناداه مناد من السماء: "اختر لنفسك -أو: -لقومك من هذا السحاب"، فقال: "اخترت هذه السحابة السوداء، فإنها أكثر السحاب ماء" فناداه مناد: اخترت رَمادا رِمْدَدًا، لا تبقي من عاد أحدا، لا والدًا تترك ولا ولدا، إلا جعلته هَمدا، إلا بني اللّوذيّة المهندًا (1) قال: وبنو اللوذية: بطن من عاد مقيمون (2) بمكة، فلم يصبهم ما أصاب قومهم -قال: وهم من بقي من أنسالهم (3) وذراريهم (4) عاد الآخرة -قال: وساق الله السحابة السوداء، فيما يذكرون، التي اختارها "قيل بن عنز" بما فيها من النقمة إلى عاد، حتى تخرج عليهم من واد يقال له: "المغيث"، فلما رأوها استبشروا، وقالوا: { هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا } يقول: { بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } [الأحقاف:24 ، 25] أي: تهلك كل شيء مَرّت (5) به، فكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح، فيما يذكرون، امرأة من عاد يقال لها: مَهْدد (6) فلما تبينت ما فيها صاحت، ثم صُعِقت. فلما أفاقت قالوا: ما رأيت يا مَهْدد (7) ؟ قالت (8) ريحا فيها شُهُب النار، أمامها رجال يقودونها. فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما، كما قال الله. و "الحسوم": الدائمة -فلم تدع من عاد أحدًا إلا هلك واعتزل هُود، عليه السلام، فيما ذكر لي، ومن معه من المؤمنين في حظيرة، ما يصيبه ومن معه إلا ما تلين عليه الجلود، وتلْتذ الأنفس، وإنها لتمر على عاد بالطعن ما بين السماء والأرض، وتدمغهم بالحجارة.
وذكر تمام القصة بطولها، وهو سياق غريب (9) فيه فوائد كثيرة، وقد قال الله تعالى: { وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [هود:58]
وقد ورد في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده قريب مما أورده محمد بن إسحاق بن يسار، رحمه الله.
قال الإمام أحمد: حدثنا زيد بن الحباب، حدثني أبو المنذر سلام بن سليمان النحوي، حدثنا عاصم بن أبي النَّجُود، عن أبي وائل، عن الحارث البكري قال: خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمررت بالربذة فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها، فقالت لي: يا عبد الله، إن لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة، فهل أنت مبلغي إليه؟ قال: فحملتها فأتيت المدينة، فإذا المسجد غاص بأهله، وإذا راية سوداء تخفق، وإذا بلال متقلد بسيف (10) بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: ما شأن الناس؟ فقالوا: يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجها. قال: فجلست، فدخل منزله -أو قال: رحله فاستأذنت عليه، فأذن لي، فدخلت فسلمت، قال: هل بينكم وبين تميم (11) شيء؟ قلت: نعم، وكانت لنا الدّبَرة عليهم، ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها، فسألتني أن أحملها إليك،
__________
(1) في م: "المهدي".
(2) في ك، م، أ: "مقيمين".
(3) في أ: "أنسابهم".
(4) في ك، م: "ذرياتهم".
(5) في ك، م: "أمرت".
(6) في ك، م، أ: "مهد".
(7) في ك، م، أ: "مهد".
(8) في ك، م: "فقالت".
(9) تفسير الطبري (12/507).
(10) في أ: "السيف".
(11) في أ: "وبين بني تميم".  (3/437)


وها هي بالباب. فأذن لها، فدخلت، فقلت: يا رسول الله، إن رأيت (1) أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزًا، فاجعل الدهناء. فحميت العجوز واستوفزت، فقالت: يا رسول الله، فإلى أين يضطر مُضطَرُك (2) ؟ قال: قلت: إن مثلي مثل ما قال الأول: "معْزَى حَمَلت حتفها"، حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصما، أعوذ بالله وبرسوله (3) أن أكون كوافد عاد! قال: هيه، وما وافد عاد؟ -وهو أعلم بالحديث منه، ولكن يستطعمه -قلت: إن عادا قُحطوا فبعثوا وافدًا لهم يقال له: "قيل"، فمر بمعاوية بن بكر، فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان، يقال لهما: "الجرادتان"، فلما مضى (4) الشهر خرج إلى جبال مَهْرة، فقال: اللهم إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه، ولا إلى أسير فأفاديه. اللهم اسق عادًا ما كنت تسقيه، فمرت به سحابات سُودُ، فنودي: منها "اختر". فأومأ إلى سحابة منها سوداء، فنودي منها: "خذها رمادا رِمْدِدا، لا تبقي من عاد أحدا". قال: فما بلغني أنه بُعث عليهم من الريح إلا قدر (5) ما يجري في خاتمي هذا، حتى، هلكوا -قال أبو وائل: وصدق -قال: وكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافدًا لهم قالوا: "لا تكن كوافد عاد".


هكذا رواه الإمام أحمد في المسند، ورواه الترمذي، عن عبد بن حميد، عن زيد بن الحباب، به (6) نحوه: ورواه النسائي من حديث سلام بن أبي المنذر. عن عاصم -وهو ابن بَهْدَلة -ومن طريقه رواه ابن ماجه أيضا، عن أبي وائل، عن الحارث بن حسان البكري، به. ورواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب عن زيد بن حُبَاب، به. ووقع عنده: "عن الحارث بن يزيد البكري" فذكره، ورواه أيضا عن أبي كريب، عن أبي بكر بن عياش، عن عاصم، عن الحارث بن يزيد البكري، فذكره (7) ولم أر في النسخة "أبا وائل"، والله أعلم.
__________
(1) في أ: "أرأيت".
(2) في أ: "مطهرك".
(3) في ك، م: "ورسوله".
(4) في د: "قضى".
(5) في ك، م: "كقدر".
(6) المسند (3/482)، وسنن الترمذي برقم (3274).
(7) سنن النسائي الكبرى كما في تحفة الأشراف وسنن ابن ماجة برقم (3816) وتفسير الطبري (12/513، 516).
(3/438)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
{ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) }  (3/439) 
-----------------------------
10. سورة الأعراف - الآيات: 74 ــ 81
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) الأعراف - تفسير ابن كثير


وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)

 


{ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) }

 


قال علماء التفسير والنسب: ثمود بن عاثر بن إرم بن سام بن نوح، وهو أخو جَديس بن عاثر، وكذلك قبيلة طَسْم، كل هؤلاء كانوا أحياء من العرب العاربة قبل إبراهيم الخليل، عليه السلام، وكانت ثمود بعد عاد، ومساكنهم مشهورة فيما بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله، وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قراهم ومساكنهم، وهو ذاهب إلى تبوك سنة تسع.


قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الصمد، حدثنا صَخْر بن جُوَيرية، عن نافع، عن ابن عمر قال: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس على تبوك، نزل بهم (1) الحجر عند بيوت ثمود، فاستسقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود، فعجنوا منها ونصبوا منها القدور. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فأهرقوا القدور، وعلفوا العجينَ الإبلَ، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا وقال: "إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فلا تدخلوا عليهم" (2)


وقال [الإمام] (3) أحمد أيضا: حدثنا عفان، حدثنا عبد العزيز بن مسلم، حدثنا عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالحجر: "لا تدخلوا على هؤلاء المعذَّبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثلُ ما أصابهم" (4)
وأصل هذا الحديث مُخَرَّج في الصحيحين من غير وجه (5)
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا المسعودي، عن إسماعيل بن أوسط، عن محمد بن أبي كَبْشَة الأنماري، عن أبيه قال: لما كان في غزوة تبوك، تسارع الناس إلى أهل الحجر، يدخلون عليهم، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فنادى في الناس: "الصلاة جامعة". قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ممسك بعيره (6) وهو يقول: "ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم". فناداه رجل منهم: نعجبُ منهم يا رسول الله. قال: "أفلا أنبئكم بأعجب من ذلك: رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم، وبما هو كائن بعدكم، فاستقيموا وسَدِّدوا، فإن الله لا يعبأ بعذابكم شيئا، وسيأتي قوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئا" (7)
لم يخرجه أحد من أصحاب السنن (8) وأبو كبشة اسمه: عمر (9) بن سعد، ويقال: عامر بن سعد، والله أعلم.
وقال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق: حدثنا مَعْمَر، عن عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم، عن أبي الزبير، عن جابر قال: لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: "لا تسألوا الآيات، فقد سألها قوم صالح فكانت -يعني الناقة -ترد من هذا الفَجّ، وتَصْدُر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم فعقروها، وكانت تشرب ماءهم يوما ويشربون لبنها يوما، فعقروها، فأخذتهم صيحة، أهمد (10) الله مَنْ تحت
__________
(1) في أ: "بهم على".
(2) المسند (2/117).
(3) زيادة من أ.
(4) المسند (2/74).
(5) صحيح البخاري برقم (3381)، وصحيح مسلم برقم (298).
(6) في د، م: "بعنزة".
(7) المسند (4/231)، وقال الهيثمي في المجمع (6/194): "فيه عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي وقد اختلط".
(8) في م: "الكتب"، وفي ك، أ: "الكتب الستة".
(9) في ك، م: "عمرو".
(10) في د: "أخمد".  (3/439)

 


أديم السماء منهم، إلا رجلا واحدًا كان في حرم الله". فقالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: "أبو رِغال. فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه" (1)
وهذا الحديث ليس في شيء من الكتب الستة، وهو على شرط مسلم.
فقوله تعالى: { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا } أي: ولقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحا، { قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } جميع الرسل يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، كما قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء:25] وقال [تعالى] (2) { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [النحل:36] .
وقوله: { قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً } أي: قد جاءتكم حجة من الله على صدق ما جئتكم به. وكانوا هم الذين سألوا صالحا أن يأتيهم بآية، واقترحوا عليه أن تخرج لهم من صخرة صمَاء عَيّنوها بأنفسهم، وهي صخرة منفردة في ناحية الحِجْر، يقال لها: الكَاتبة، فطلبوا منه (3) أن يخرج لهم منها ناقة عُشَراء تَمْخَضُ، فأخذ عليهم صالح العهود والمواثيق لئن أجابهم الله إلى سؤالهم وأجابهم إلى طُلْبتهم ليؤمنن به وليتبعنه؟ فلما أعطوه على ذلك عهودهم ومواثيقهم، قام صالح، عليه السلام، إلى صلاته ودعا الله، عز وجل، فتحركت تلك الصخرة ثم انصدعت عن ناقة جَوْفاء وَبْرَاء يتحرك جنينها بين جنبيها، كما سألوا، فعند ذلك آمن رئيس القوم وهو: "جُندَع بن عمرو" ومن كان معه على أمره (4) وأراد بقية أشراف ثمود أن يؤمنوا فصدهم "ذُؤاب بن عمرو بن لبيد" "والحباب" صاحب أوثانهم، ورباب بن صمعر بن جلهس، وكان ل"جندع بن عمرو" ابن عم يقال له: "شهاب بن خليفة بن محلاة بن لبيد بن حراس"، وكان من أشراف ثمود وأفاضلها، فأراد أن يسلم أيضا فنهاه أولئك الرهط، فأطاعهم، فقال في ذلك رجل من مؤمني ثمود، يقال له مهوس (5) بن عنمة بن الدميل، رحمه الله:
وكانت عُصْبةٌ من آل عَمْرو ... إلى دين النبيّ دَعَوا شِهَابا ...
عَزيزَ ثَمُودَ كُلَّهمُ جميعا ... فَهَمّ بأن يُجِيبَ فلو (6) أجابا ...
لأصبحَ صالحٌ فينا عَزيزًا ... وما عَدَلوا بصاحبهم ذُؤابا ...
ولكنّ الغُوَاة من آل حُجْرٍ ... تَوَلَّوْا بعد رُشْدهم ذئابا ...
فأقامت الناقة وفصيلها بعد ما وضعته بين أظهرهم مدة، تشرب ماء بئرها يوما، وتدعه لهم يوما، وكانوا يشربون لبنها يوم (7) شربها، يحتلبونها فيملئون ما شاءوا من أوعيتهم وأوانيهم، كما قال في الآية الأخرى: { وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ } [القمر:28] وقال تعالى: { هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } [الشعراء:155] وكانت تسرح في بعض تلك الأودية
__________
(1) المسند (3/296) وقال الهيثمي في المجمع (6/194): "رجال أحمد رجال الصحيح".
(2) زيادة من م.
(3) في م: "منها".
(4) في أ: "على دينه".
(5) في ك، م، أ: "مهوش".
(6) في م: "ولو".
(7) في أ: "بيوم".  (3/440)

------------
ترد من فَجّ وتصدر من غيره ليسعها؛ لأنها كانت تتضلَّع عن الماء، وكانت -على ما ذكر -خَلْقًا هائلا ومنظرًا رائعًا، إذا مرت بأنعامهم نفرت منها. فلما طال عليهم واشتد تكذيبهم لصالح النبي، عليه السلام، عزموا على قتلها، ليستأثروا بالماء كل يوم، فيقال: إنهم اتفقوا كلهم على قتلها (1)
قال قتادة: بلغني أن الذي قتل الناقة طاف عليهم كلهم، أنهم راضون بقتلها حتى على النساء في خدورهن، وعلى الصبيان [أيضا] (2)

 

قلت: وهذا هو الظاهر؛ لأن الله تعالى يقول: { فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا } [الشمس:14] وقال: { وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا } [الإسراء:59] وقال: { فَعَقَرُوا النَّاقَةَ } فأسند ذلك على مجموع القبيلة، فدل على رضا جميعهم بذلك، والله أعلم.


وذكر الإمام أبو جعفر بن جرير، رحمه الله، وغيره من علماء التفسير في سبب قتل الناقة: أن امرأة منهم يقال لها: "عنيزة ابنة غنم بن مِجْلِز" وتكنى أم غَنَمْ (3) كانت عجوزا كافرة، وكانت من أشد الناس عداوة لصالح، عليه السلام، وكانت لها بنات حسان ومال جزيل، وكان زوجها ذُؤاب بن عمرو أحد رؤساء ثمود، وامرأة أخرى يقال لها: "صدوف بنت المحيا بن دهر (4) بن المحيا" ذات حسب ومال وجمال، وكانت تحت رجل مسلم من ثمود، ففارقته، فكانتا تجعلان لمن التزم لهما بقتل الناقة، فدعت "صدوف" رجلا يقال له: "الحباب" وعرضت عليه نفسها إن هو عقر الناقة، فأبى عليها. فدعت ابن عم لها يقال له: "مصدع بن مهرج بن المحيا"، فأجابها إلى ذلك -ودعت "عنيزة بنت غنم" قدار بن سالف بن جُنْدَع (5) وكان رجلا أحمر أزرق قصيرًا، يزعمون أنه كان ولد زَنية، وأنه لم يكن من أبيه الذي ينسب إليه، وهو سالف، وإنما هو (6) من رجل يقال له: "صهياد" (7) ولكن ولد على فراش "سالف"، وقالت له: أعطيك أي بناتي شئتَ على أن تعقر (8) الناقة! فعند ذلك، انطلق "قدار بن سالف" "ومصدع بن مهرج"، فاستفزا غُواة من ثمود، فاتبعهما سبعة نفر، فصاروا تسعة رهط، وهم الذين قال الله تعالى: { وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ } [النمل:48] وكانوا رؤساء في قومهم، فاستمالوا القبيلة الكافرة بكمالها، فطاوعتهم على ذلك، فانطلقوا فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء، وقد كمن لها "قدار" في أصل صخرة على طريقها، وكمن لها "مصدع" في أصل أخرى، فمرت على "مصدع" فرماها بسهم، فانتظم به عضَلَة ساقها وخرجت "أم غَنَمْ عنيزة"، وأمرت ابنتها وكانت من أحسن الناس وجها، فسفرت عن وجهها لقدار وذمّرته فشدّ على الناقة بالسيف، فكسفَ (9) عرقوبها، فخرت ساقطة إلى الأرض، ورغت رَغاة واحدة تحذر سَقْبَها، ثم طعن في لَبَّتها فنحرها، وانطلق سَقْبَها -وهو فصيلها -حتى أتى جبلا منيعًا، فصعد أعلى صخرة فيه ورغا -فروى عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عمن سمع الحسن البصري أنه قال:
__________
(1) تفسير الطبري (12/529).
(2) زيادة من أ.
(3) في ك، م: "أم عثمان".
(4) في أ: "زهير".
(5) في أ: "جذع".
(6) في أ: "كان".
(7) في م: "صبيان"، وفي ك: "ضبيان".
(8) في ك، م: "يعقر".
(9) في ك، م، د: "فكشف"، وفي أ: "فكشف عن". (3/441)


يا رب أين أمي؟ ويقال: إنه رغا ثلاث مرات. وإنه دخل في صخرة فغاب فيها، ويقال: بل اتبعوه فعقروه مع أمه، فالله أعلم (1)
فلما فعلوا ذلك وفرغوا من عقر الناقة، بلغ الخبر صالحا، عليه السلام، فجاءهم وهم مجتمعون، فلما رأى الناقة بكى وقال: { تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (2) ] } [هود:65] وكان قتلهم الناقة يوم الأربعاء، فلما أمسى أولئك التسعة الرهط عزموا على قتل صالح [عليه السلام] (3) وقالوا: إن كان صادقًا عَجَّلناه قبلنا، وإن كان كاذبًا ألحقناه بناقته! { قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ. وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا } (4) الآية.[النمل:49-52]
فلما عزموا على ذلك، وتواطؤوا عليه، وجاءوا من الليل ليفتكوا بنبي الله صالح، أرسل الله، سبحانه وتعالى، وله العزة ولرسوله، عليهم حجارة فرضَختهم سلفا وتعجيلا قبل قومهم، وأصبح ثمود يوم الخميس، وهو اليوم الأول من أيام النَّظرة، ووجوههم مصفرة كما وعدهم صالح، عليه السلام، وأصبحوا في اليوم الثاني من أيام التأجيل، وهو يوم الجمعة، ووجوههم محمرة، وأصبحوا (5) في اليوم الثالث من أيام المتاع (6) وهو يوم السبت، ووجوههم مسودة، فلما أصبحوا من يوم الأحد وقد تحَنَّطوا وقعدوا ينتظرون نقمة الله وعذابه، عياذا بالله من ذلك، لا يدرون ماذا يفعل بهم، ولا كيف يأتيهم العذاب؟ و[قد] (7) أشرقت الشمس، جاءتهم صيحة من السماء ورَجْفة شديدة من أسفل منهم، ففاضت الأرواح وزهقت النفوس في ساعة واحدة { فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } أي: صرعى لا أرواح فيهم، ولم يفلت منهم أحد، لا صغير ولا كبير، لا ذكر ولا أنثى -قالوا: إلا جارية كانت مقعدة -واسمها "كلبة بنة السّلْق"، ويقال لها: "الزريقة" (8) -وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح، عليه السلام، فلما رأت ما رأت من العذاب، أُطلِقَت رجلاها، فقامت تسعى كأسرع شيء، فأتت حيا من الأحياء فأخبرتهم بما رأت وما حل بقومها، ثم استسقتهم من الماء، فلما شربت، ماتت.
قال علماء التفسير: ولم يبق من ذرية ثمود أحد، سوى صالح، عليه السلام، ومن اتبعه، رضي الله عنهم، إلا أن رجلا يقال له: "أبو رِغال"، كان لما وقعت النقمة بقومه مقيما في الحرم، فلم يصبه شيء، فلما خرج في بعض الأيام إلى الحلّ، جاءه حجر من السماء فقتله.
وقد تقدم في أول القصة حديث "جابر بن عبد الله" في ذلك، وذكروا أن أبا رغال هذا هو والد
__________
(1) تفسير الطبري (12/536).
(2) زيادة من ك، م، وفي هـ: "الآية".
(3) زيادة من ك، م.
(4) زيادة من ك، م، أ.
(5) في م: "واجتمعوا".
(6) في ك: "التمتع".
(7) زيادة من م.
(8) في م: "الذريعة".  (3/442)

 


فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
ثقيف" الذين كانوا يسكنون الطائف (1)
قال عبد الرزاق: قال مَعْمَر: أخبرني إسماعيل بن أمية؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر أبي رغال فقال: "أتدرون من هذا؟" فقالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "هذا قبر أبي رغال، رجل من ثمود، كان في حرم الله، فمنعه حرمُ الله عذاب الله. فلما خرج أصابه ما أصاب قومه، فدفن هاهنا، ودفن معه غصن من ذهب، فنزل القوم فابتدروه بأسيافهم، فبحثوا عنه، فاستخرجوا الغصن".
وقال عبد الرزاق: قال معمر: قال الزهري: أبو رغال: أبو ثقيف (2)
هذا مرسل من هذا الوجه، وقد روي متصلا من وجه آخر، كما قال محمد بن إسحاق، عن إسماعيل بن أمية، عن بُجَير بن أبي بجير قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، حين خرجنا معه إلى الطائف، فمررنا بقبر فقال: "هذا قبر أبي رغال، وهو أبو ثقيف، وكان من ثمود، وكان بهذا الحرم فدفع (3) عنه، فلما خرج [منه] (4) أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان، فدفن فيه. وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب، إن أنتم نبشم عنه أصبتموه [معه] (5) فابتدره الناس (6) فاستخرجوا منه الغصن".
وهكذا رواه أبو داود، عن يحيى بن معين، عن وهب بن جرير بن حازم، عن أبيه، عن ابن إسحاق، به (7)
قال شيخنا أبو الحجاج المزي: وهو حديث حسن عزيز (8) (9)
قلت: تفرد بوصله "بُجَيْر بن أبي بجير" هذا، وهو شيخ لا يعرف إلا بهذا الحديث. قال يحيى ابن معين: ولم أسمع أحدًا روى عنه غير إسماعيل بن أمية.
قلت: وعلى هذا، فيخشى أن يكون وهم في رفع هذا الحديث، وإنما يكون من كلام عبد الله بن عمرو، مما أخذه من الزاملتين.
قال شيخنا أبو الحجاج، بعد أن عرضت عليه ذلك: وهذا محتمل، والله أعلم.
وقوله تعالى:
{ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) }
هذا تقريع من صالح، عليه السلام، لقومه، لما أهلكهم الله بمخالفتهم إياه، وتمردهم على الله،
__________
(1) انظر: "الكلام على أبي رغال، وترجيح أنه كان دليل أبرهة في تفسير سورة النساء آية: 4.
(2) المصنف برقم (20989)، وتفسير عبد الرزاق (1/119 ، 220).
(3) في ك: "يدفع".
(4) زيادة من ك، م.
(5) زيادة من أ.
(6) في أ: "القوم".
(7) سنن أبي داود برقم (3088).
(8) في أ: "غريب".
(9) تهذيب الكمال (4/11). (3/443)


وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)
وإبائهم عن قبول الحق، وإعراضهم عن الهدى إلى العَمى -قال لهم صالح ذلك بعد هلاكهم تقريعا وتوبيخا وهم يسمعون ذلك، كما ثبت في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على أهل بدر، أقام هناك ثلاثًا، ثم أمر براحلته فشُدّت بعد ثلاث من آخر الليل فركبها (1) ثم سار حتى وقف على القليب، قليب بدر، فجعل يقول: "يا أبا جهل بن هشام، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، ويا فلان بن فلان: هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا" . فقال له عمر: يا رسول الله، ما تُكَلّم من أقوام قد جيفوا؟ فقال: "والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يجيبون".
وفي السيرة أنه، عليه السلام (2) قال لهم: "بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس، فبئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم". (3)
وهكذا صالح، عليه السلام، قال لقومه: { لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ } أي: فلم تنتفعوا بذلك، لأنكم لا تحبون (4) الحق ولا تتبعون ناصحا؛ ولهذا قال: { وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ }
وقد ذكر بعض المفسرين أن كل نبي هلكت أمته، كان يذهب فيقيم في الحرم، حرم مكة، فالله أعلم.
وقد قال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، حدثنا زَمْعَة بن صالح، عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي عُسْفان حين حَجّ قال: "يا أبا بكر، أيّ وادي هذا؟ " قال: هذا وادي عُسْفَان. قال: "لقد مر به هود وصالح، عليهما السلام، على بَكَرات حُمْر خُطُمها الليف، أزُرُهم العبَاء، وأرديتهم النّمار، يلبون يحجون البيت العتيق".
هذا حديث غريب من هذا الوجه، لم يخرجه أحد منهم (5)
{ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) }
يقول تعالى: { وَ } قَدْ أَرْسَلْنَا { لُوطًا } أو تقديره: { وَ } اذكر { َلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ }
ولوط هو ابن هاران بن آزر، وهو ابن أخي إبراهيم الخليل، عليهما (6) السلام، وكان قد آمن مع إبراهيم، عليه السلام، وهاجر معه إلى أرض الشام، فبعثه الله [تعالى] (7) إلى أهل "سَدُوم" وما
__________
(1) في ك: "ثم ركبها".
(2) في أ: "صلى الله عليه وسلم".
(3) السيرة النبوية لابن هشام (1/639).
(4) في أ: "تتبعون".
(5) المسند (1/232) وقال الهيثمي في المجمع (3/220): "فيه زمعة بن صالح وفيه كلام وقد وثق".
(6) في ك، أ: "عليه".
(7) زيادة من أ.
(3/444)
حولها من القرى، يدعوهم إلى الله، عز وجل، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عما كانوا يرتكبونه من المآثم والمحارم والفواحش التي اخترعوها، لم يسبقهم بها أحد من بني آدم ولا غيرهم، وهو إتيان الذكور. وهذا شيء لم يكن بنو آدم تعهده ولا تألفه، ولا يخطر ببالهم، حتى صنع ذلك أهل "سَدُوم" عليهم لعائن الله.
قال عمرو بن دينار: قوله: { مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ } قال: ما نزا ذَكَر على ذَكَر، حتى كان قوم لوط.
وقال الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي، باني جامع دمشق: لولا أن الله، عز وجل، قص علينا خبر لوط، ما ظننت أن ذكرًا يعلو ذكرًا.
ولهذا قال لهم لوط، عليه السلام: { أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ } أي: عدلتم (1) عن النساء، وما خلق لكم ربكم منهن إلى الرجال، وهذا إسراف منكم وجهل؛ لأنه وضع الشيء في غير محله؛ ولهذا قال لهم في الآية الأخرى: { [ قَالَ ] (2) هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } [الحجر:71] فأرشدهم إلى نسائهم، فاعتذروا إليه بأنهم لا يشتهونهن، { قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ } [هود:79] أي: لقد علمت أنه لا أرَبَ لنا في النساء، ولا إرادة، وإنك لتعلم مرادنا من أضيافك.
وذكر المفسرون أن الرجال كانوا قد استغنى (3) بعضهم ببعض، وكذلك نساؤهم كن قد استغنى (4) بعضهن ببعض أيضًا.
__________
(1) في د، م: "أعدلتم".
(2) زيادة من أ.
(3) في ك، م: "اغتني".
(4) في ك: "استغنين".  (3/445

---------------------------
11. سورة الأعراف - الآيات: 82 ــ 87
وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) الأعراف - تفسير ابن كثير


وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
{ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) }
أي: ما أجابوا لوطًا إلا أن هَموا بإخراجه ونفيه ومن معه [من المؤمنين] (1) من بين أظهرهم، فأخرجه الله تعالى سالما، وأهلكهم في أرضهم صاغرين مهانين.
وقوله تعالى: { إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } قال قتادة، عابوهم بغير عيب.
وقال مجاهد: { إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } من أدبار الرجال وأدبار النساء. ورُوي مثله عن ابن عباس أيضًا.
{ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) }
يقول تعالى: فأنجينا لوطًا وأهله، ولم يؤمن به أحد منهم سوى أهل بيته فقط، كما قال تعالى:
__________
(1) زيادة من أ.
(3/445)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)
{ فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [الذريات:35 ، 36] إلا امرأته فإنها لم تؤمن به، بل كانت على دين قومها، تمالئهم عليه وتُعْلمهم بمن يَقْدم عليه من ضيفانه بإشارات بينها وبينهم؛ ولهذا لما أمر لوط، عليه السلام، أن يُسْري بأهله أمر ألا يعلم امرأته ولا يخرجها من البلد. ومنهم من يقول: بل اتبعتهم، فلما جاء العذابُ التفتت هي فأصابها ما أصابهم. والأظهر أنها لم تخرج من البلد، ولا أعلمها لوط، بل بقيت معهم؛ ولهذا قال هاهنا: { إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ } أي: الباقين. ومنهم من فسر ذلك { مِنَ الْغَابِرِينَ } [من] (1) الهالكين، وهو تفسير باللازم.
وقوله: { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا } مفسر بقوله: { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ } [هود 82 ، 83] ولهذا قال: { فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ } أي: انظر -يا محمد -كيف كان عاقبة من تجهرم على معاصي الله وكذّب رسله (2)
وقد ذهب الإمام أبو حنيفة، رحمه الله، إلى أن اللائط يلقى من شاهق، ويتبع بالحجارة كما فعل بقوم لوط.
وذهب آخرون من العلماء إلى أنه يرجم سواء كان محصنًا أو غير محصن. وهو أحد قولي الشافعي، رحمه الله، والحجة ما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، من حديث الدراوردي، عن عمرو بن أبي عَمْرو (3) عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط، فاقتلوا الفاعل والمفعول به" (4)
وقال آخرون: هو كالزاني، فإن كان محصنًا رجم، وإن لم يكن محصنًا جلد مائة جلدة. وهو القول الآخر للشافعي.
وأما إتيان النساء في الأدبار، فهو اللوطية الصغرى، وهو حرام بإجماع العلماء، إلا قولا [واحدا] (5) شاذًا لبعض السلف، وقد ورد في النهي عنه أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم الكلام عليها في سورة البقرة (6)
{ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) }
قال محمد بن إسحاق: هم من سلالة "مدين بن إبراهيم". وشعيب هو ابن ميكيل بن يشجر قال: واسمه بالسريانية: "يثرون".
__________
(1) زيادة من ك، م.
(2) في ك: "برسله".
(3) في أ: "عمرو بن سلمة".
(4) المسند (1/300) وسنن أبي داود برقم (4462) وسنن الترمذي برقم (1455) وسنن ابن ماجة برقم (2561).
(5) زيادة من ك.
(6) الآية: 223.  (3/446)


وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)


قلت: وتطلق مدين على القبيلة، وعلى المدينة، وهي التي بقرب "مَعَان" من طريق الحجاز، قال الله تعالى: { وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ } [القصص:23] وهم أصحاب الأيكة، كما سنذكره إن شاء الله، وبه الثقة.
{ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } هذه دعوة الرسل كلهم، { قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ } أي: قد أقام الله الحجج والبينات على صدق ما جئتكم به. ثم وعظهم في معاملتهم الناس بأن يوفوا المكيال والميزان، ولا يبخسوا الناس أشياءهم، أي: لا يخونوا الناس في أموالهم ويأخذوها على وجه البخس، وهو نقص المكيال والميزان خفْية وتدليسًا، كما قال تعالى: { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * [ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ ] (1) لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [المطففين:1-6] وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، نسأل الله العافية منه.
ثم قال تعالى إخبارًا عن شعيب، الذي يقال (2) له: "خطيب الأنبياء"، لفصاحة عبارته، وجزالة موعظته.
{ وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) }
ينهاهم شعيب، عليه السلام، عن قطع الطريق الحسي والمعنوي، بقوله: { وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ } أي: توعدون الناس بالقتل إن لم يعطوكم أموالهم. قال السدي وغيره: كانوا عشارين. وعن ابن عباس [رضي الله عنه] (3) ومجاهد وغير واحد: { وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ } أي: تتوعدون المؤمنين الآتين إِلى شعيب ليتبعوه. والأول أظهر؛ لأنه قال: { بِكُلِّ صِرَاطٍ } وهي الطرق، وهذا الثاني هو قوله: { وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا } أي: وتودون أن تكون سبيل الله عوجا مائلة. { وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ } أي: كنتم مستضعفين لقلتكم فصرتم أعزة لكثرة عَدَدكم، فاذكروا نعمة الله عليكم في ذلك، { وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } أي: من الأمم الخالية والقرون الماضية، ما حل بهم من العذاب والنكال باجترائهم على معاصي الله وتكذيب (4) رسله.
وقوله: { وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا } أي: [قد] (5) اختلفتم عليّ
__________
(1) زيادة من ك، م، وفي هـ: "إلى قوله".
(2) في م: "قال".
(3) زيادة من أ.
(4) في أ: "وتكذيبهم".
(5) زيادة من د، ك، م.
(3/447)
{ فاصبروا } أي: انتظروا { حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا } أي: يفصل، { وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } فإنه سيجعل العاقبة للمتقين، والدمار على الكافرين.  (3/448
-------------------------------
12. سورة الأعراف - الآيات: 88 ــ 95
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95
الأعراف - تفسير ابن كثير

 


قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)

 


{ قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88)قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ(89) }
هذا إخبار من الله [تعالى] (1) عما واجهت به الكفار نبي الله شعيبًا ومن معه من المؤمنين، في (2) توعدهم إياه ومن معه بالنفي من القرية، أو الإكراه على الرجوع في مِلَّتهم والدخول معهم فيما هم فيه. وهذا خطاب مع الرسول والمراد أتباعه الذين كانوا معه على الملة.
وقوله: { أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } يقول: أو أنتم فاعلون ذلك ولو كنا (3) كارهين ما تدعونا إليه؟ فإنا إن رجعنا إلى ملتكم ودخلنا معكم فيما أنتم فيه، فقد أعظمنا الفِرْية على الله في جعل الشركاء معه أندادًا. وهذا تعبير منه عن اتباعه. { وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا } وهذا ردّ إلى المشيئة، فإنه يعلم كل شيء، وقد أحاط بكل شيء علمًا، { عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا } أي: في أمورنا ما نأتي منها وما نذر { رَبَّنَا افْتَحْ (4) بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ } أي: افصل بيننا وبين قومنا، وانصرنا عليهم، { وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } أي: خير الحاكمين، فإنك العادل الذي لا يجور أبدًا.
{ وَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) }
يخبر تعالى عن شدة كفر قوم شعيب وتمردهم وعتوهم، وما هم فيه من الضلال، وما جبلت عليه قلوبهم من المخالفة للحق، ولهذا أقسموا وقالوا (5) { لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ } فلهذا عقب ذلك بقوله: { فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } أخبر تعالى هاهنا أنهم أخذتهم الرجفة كما (6) أرجفوا شعيبًا وأصحابه وتوعدوهم بالجلاء، كما أخبر عنهم في سورة "هود" فقال: { وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } [هود:94] والمناسبة في ذلك -والله أعلم -أنهم لما تهكموا بنبي الله شعيب في
__________
(1) زيادة من ك، م.
(2) في ك، م، أ: "من".
(3) في ك، م، أ: "وإن كنا".
(4) في ك، م: "احكم".
(5) في ك، م: "فقالوا".
(6) في ك، م، أ: "لما". (3/448)


فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)


قولهم: { أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } [ هود : 87 ] فجاءت الصيحة فأسكتتهم.
وقال تعالى إخبارا عنهم في سورة الشعراء: { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [الشعراء:189] وما ذاك إلا لأنهم (1) قالوا له في سياق القصة: { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ [ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (2) ] } [الشعراء:187] فأخبر أنه (3) أصابهم عذاب يوم الظلة، وقد اجتمع عليهم ذلك كله: أصابهم عذاب يوم الظلة،" وهي سحابة أظلتهم فيها شرر من نار ولَهَب (4) ووهَج عظيم، ثم جاءتهم صيحة من السماء ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم، فزهقت الأرواح، وفاضت النفوس وخمدت الأجساد، { فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ }
ثم قال تعالى: { كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا } أي: كأنهم لما أصابتهم النقمة لم يقيموا بديارهم التي أرادوا إجلاء الرسول وصحبه منها.
ثم قال مقابلا لقيلهم: { الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ }
{ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) }
أي: فتولى عنهم "شعيب" عليه السلام بعد ما أصابهم ما أصابهم من العذاب والنقمة والنكال، وقال مقرعًا لهم وموبخًا: { يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ } أي: قد أديتُ إليكم ما أُرْسِلْت به، فلا أسفة عليكم وقد كفرتم بما جئتم به، ولهذا (5) قال: { فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ } ؟.
{ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95) }
يقول تعالى مخبرًا عما اختبر به الأمم الماضية، الذين أرسل إليهم الأنبياء بالبأساء والضراء، يعني { بالْبَأْسَاءِ } ما يصيبهم في أبدانهم من أمراض وأسقام. { وَالضَّرَّاءِ } ما يصيبهم من فقر وحاجة ونحو ذلك، { لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } أي: يدعون ويخشعون ويبتهلون إلى الله تعالى في كشف ما نزل بهم.
وتقدير الكلام: أنه ابتلاهم بالشدة ليتضرعوا، فما فعلوا شيئا من الذي أراد الله منهم، فقلب الحال إلى الرخاء ليختبرهم فيه؛ ولهذا قال: { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ } أي: حولَّنا الحال من شدة
__________
(1) في ك: "إلا أنهم".
(2) زيادة من ك، م. وفي هـ:"الآية".
(3) في م: "أنهم".
(4) في ك، م: "لهيب".
(5) في د: "فلهذا".
(3/449)
إلى رخاء، ومن مرض وسقم إلى صحة وعافية، ومن فقر إلى غنى، ليشكروا على ذلك، فما فعلوا.
وقوله: { حَتَّى عَفَوْا } أي: كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم، يقال: عفا الشيء إذا كثر، { وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } يقول تعالى: ابتلاهم (1) بهذا وهذا (2) ليتضرعوا ويُنيبوا إلى الله، فما نَجَع فيهم لا هذا ولا هذا، ولا انتهوا بهذا ولا بهذا (3) بل قالوا: قد مسنا من البأساء والضراء، ثم بعده من الرخاء مثل ما أصاب آباءنا في قديم الدهر، وإنما هو الدهر تارات وتارات، ولم يتفطنوا لأمر الله فيهم، ولا استشعروا ابتلاء الله لهم في الحالين. وهذا بخلاف حال المؤمنين الذين يشكرون الله على السراء، ويصبرون على الضراء، كما ثبت في الصحيحين: "عجبًا للمؤمن، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له، وإن أصابته سَراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضَرَّاء صَبَر فكان خيرا له" (4) فالمؤمن من يتفطن لما ابتلاه الله به من السراء والضراء (5) ؛ ولهذا جاء في الحديث: "لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يخرج نَقِيِّا (6) من ذنوبه، والمنافق مثله كمثل الحمار، لا يدري فيم ربطه أهله، ولا فيم أرسلوه"، أو كما قال. ولهذا عقب هذه الصفة بقوله: { فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } أي: أخذناهم بالعقوبة بغتة، أي: على بغتة منهم، وعدم شعور منهم، أي: أخذناهم فجأة (7) كما جاء في الحديث: "موت الفجأة رحمة للمؤمن وأخذة أسف للكافر". (8)
__________
(1) في د: "ابتليناهم".
(2) في أ: "بهذا وبهذا".
(3) في م: "ولا هذا".
(4) صحيح مسلم برقم (2999) من حديث صهيب بن سنان، رضي الله عنه، ولم أجده في صحيح البخاري بهذا اللفظ.
(5) في ك، م: "من الضراء والسراء".
(6) في ك، "حتى يخرج من الدنيا نقيا".
(7) في ك: "بغتة".
(8) جاء من حديث عائشة وعبيد بن خالد السلمي وأنس بن مالك، رضي الله عنه.

 


فأما حديث عائشة: فأخرجه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (1207) "مجمع البحرين"، وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/894) من طريق صالح بن موسى، عن عبد الملك بن عمير، عن موسى بن طلحة، عن عائشة بلفظ: "موت الفجأة تخفيف على المؤمن وسخط على الكافر" وفيه صالح بن موسى وهو متروك.


وأما حديث عبيد بن خالد: فرواه أحمد في المسند (3/424) وأبو داود في السنن برقم (3110) من طريق شعبة، عن منصور، عن تميم بن سلمة أو سعد بن عبيدة، عن عبيد بن خالد بلفظ: "موت الفجأة أخذة أسف"


وأما حديث أنس: فرواه ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/893) من طريق محمد بن مقاتل، عن جعفر بن هارون، عن سمعان ابن المهدي، عن أنس بلفظ: "موت الفجأة رحمة للمؤمنين وعذاب للكافرين" قال ابن الجوزي: "سمعان مجهول منكر الحديث".  (3/450)
--------------------------------
13. سورة الأعراف - الآيات: 96 ــ 104
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104)

الأعراف - تفسير ابن كثير
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)
{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) }
يقول تعالى مخبرًا عن قلة إيمان أهل القرى الذين أرسل فيهم الرسل، كقوله تعالى (1) { فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [يونس:98]
__________
(1) في ك، م، أ: "كما قال تعالى".
(3/450)
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)
أي: ما آمنت قرية بتمامها إلا قوم يونس، فإنهم آمنوا، وذلك بعد ما عاينوا العذاب، كما قال تعالى: { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [الصافات:147 ، 148] وقال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ [ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (1) ] } [سبأ:34]
وقوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا } أي: آمنت قلوبهم بما جاءتهم به الرسل، وصدقت به واتبعته، واتقوا بفعل الطاعات وترك المحرمات، { لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ } أي: قطر السماء ونبات الأرض. قال تعالى: { وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي: ولكن كذبوا رسلهم، فعاقبناهم بالهلاك على ما كسبوا من المآثم والمحارم.
ثم قال تعالى مخوفًا ومحذرًا من مخالفة أوامره، والتجرؤ على زواجره: { أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى } أي: الكافرة { أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا } أي: عذابنا ونكالنا، { بياتا } أي: ليلا { وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ } أي: في حال شغلهم وغفلتهم، { أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ } أي: بأسه ونقمته وقدرته عليهم وأخذه إياهم في حال سهوهم وغفلتهم { فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } ؛ ولهذا قال الحسن البصري، رحمه الله: المؤمن يعمل بالطاعات وهو مُشْفِق وَجِل خائف، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن.
{ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) }
قال ابن عباس، رضي الله عنهما، في قوله: { أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا } أو لم نُبَيًن، [وكذا قال مجاهد والسدي، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أو لم نبين] (2) لهم أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم.
وقال أبو جعفر بن جرير في تفسيرها: يقول (3) تعالى: أو لم نبيِّن للذين يستخلفون في الأرض من بعد إهلاك آخرين قبلهم كانوا أهلها، فساروا سيرتهم، وعملوا أعمالهم، وعتوا على ربهم: { أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ } يقول: أن لو نشاء فعلنا بهم كما فعلنا بمن قبلهم، { وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ } يقول: ونختم على قلوبهم { فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ } موعظة ولا تذكيرًا.
قلت: وهكذا قال تعالى: { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى } [طه:128] وقال تعالى: { أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ } [السجدة:29] وقال { أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ . وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ ] (4) } [إبراهيم:44 ، 45] وقال تعالى: { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا } [مريم:98]
__________
(1) زيادة من ك، م، أ. وفي هـ: "الآية".
(2) زيادة من ك، م، أ.
(3) في م: "بقوله".
(4) زيادة من ك، م، أ. وفي هـ: "الآية".
(3/451)
تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
أي: هل ترى لهم شخصًا أو تسمع لهم صوتًا؟ وقال تعالى: { أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ } [الأنعام:6] وقال تعالى بعد ذكره إهلاك عاد: { فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ . وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ . وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الأحقاف:25-27] وقال تعالى: { وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } [سبأ:45] وقال تعالى: { وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } [الملك:18] وقال تعالى: { فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ. أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [الحج:45 ، 46] وقال تعالى: { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [الأنعام:10] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على حلول نقمه بأعدائه، وحصول نعمه لأوليائه؛ ولهذا عقب ذلك بقوله، وهو أصدق القائلين ورب العالمين:
{ تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لأكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) }
لما قص تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم خبر قوم نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب [عليهم الصلاة والسلام] (1) وما كان من إهلاكه الكافرين وإنجائه المؤمنين، وأنه تعالى أعذر إليهم بأن بين لهم الحق بالحجج على ألسنة الرسل، صلوات الله عليهم أجمعين، قال تعالى: { تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ } أي: يا محمد { مِنْ أَنْبَائِهَا } أي: من أخبارها، { وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } أي: بالحجج على صدقهم فيما أخبروهم به، كما قال تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } [الإسراء:15] وقال تعالى: { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } [هود:101 ، 102]
وقوله تعالى: { فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ } الباء سببية، أي: فما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل بسبب تكذيبهم بالحق أول ما ورد عليهم. حكاه ابن عطية، رحمه الله، وهو متجه حسن، كقوله: { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ [فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون] (2) َ } [الأنعام:110 ، 111] ؛
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من ك، م، أ. وفي هـ: "الآية".  (3/452)


ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)
ولهذا قال هنا: { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ * وَمَا وَجَدْنَا لأكْثَرِهِمْ } أي: لأكثر الأمم الماضية { مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ } أي: ولقد وجدنا أكثرهم فاسقين خارجين عن الطاعة والامتثال. والعهد الذي أخذه [عليهم] (1) هو ما جبلهم عليه وفطرهم عليه، وأخذ عليهم في الأصلاب أنه ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو، فأقروا بذلك، وشهدوا على أنفسهم به، فخالفوه وتركوه وراء ظهورهم، وعبدوا مع الله غيره بلا دليل ولا حجة، لا من عقل ولا شرع، وفي الفطر السليمة خلاف ذلك، وجاءت الرسل الكرام من أولهم إلى آخرهم بالنهي عن ذلك، كما جاء في صحيح مسلم يقول الله تعالى: "إني خلقت عبادي حُنَفَاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحَرّمَتْ عليهم ما أحللتُ لهم".

 

 

وفي الصحيحين: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" الحديث.

 

 

وقال تعالى في كتابه العزيز: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء:25]

 

وقال تعالى: { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [الزخرف:45]

 

وقال تعالى: { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [النحل:36] إلى غير ذلك من الآيات.


وقد قيل في تفسير قوله تعالى: { فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ } ما روى (2) أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أُبيّ بن كعب في قوله: { فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ } قال: كان في علمه تعالى يوم أقروا له بالميثاق، أي: فما كانوا ليؤمنوا لعلم الله منهم ذلك، وكذا قال الربيع بن أنس، واختاره ابن جرير.
وقال السدي: { فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ } قال: ذلك يوم أخذ منهم الميثاق فآمنوا كرها.
وقال مجاهد في قوله: { فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ } هذا كقوله: { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا [لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ] (3) } [الأنعام:28]
{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) }
يقول تعالى: { ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ } أي: الرسل المتقدم ذكرهم، كنوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، صلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر أنبياء الله أجمعين. { مُوسَى بِآيَاتِنَا } أي: بحججنا ودلائلنا البينة إلى { فِرْعَوْنَ } وهو ملك مصر في زمن موسى، { وَمَلَئِهِ } أي: قومه، { فَظَلَمُوا بِهَا } أي: جحدوا وكفروا بها ظلما منهم وعنادا، كقوله تعالى (4) { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [النمل:14]
__________
(1) زيادة من م.
(2) في أ: "فقال".
(3) زيادة من ك، أ. وفي هـ: "الآية".
(4) في ك، م، أ: "كما قال تعالى".
(3/453)

وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104)
أي: الذين صدوا عن سبيل الله وكذبوا رسله، أي: انظر -يا محمد -كيف فعلنا بهم، وأغرقناهم عن آخرهم، بمرأى من موسى وقومه. وهذا أبلغ في النكال بفرعون وقومه، وأشفى لقلوب أولياء الله -موسى وقومه -من المؤمنين به (1) .
{ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) }
__________
(1) في أ: "وقومه المؤمنين".
(3/454)
-----------------------------
14. سورة الأعراف - الآيات: 105 ــ 120
حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120الأعراف - تفسير ابن كثير

 


حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)

 


{ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) } .

 


يخبر تعالى عن مناظرة موسى لفرعون، وإلجامه إياه بالحجة، وإظهاره الآيات البينات بحضرة فرعون وقومه من قبط مصر، فقال تعالى: { وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي: أرسلني الذي هو خالقُ كل شيء وربه ومليكه.
{ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ } فقال بعضهم: معناه: حقيق بأن لا أقول على الله إلا الحق، أي: جدير بذلك وحري به.
وقالوا و"الباء" و"على" يتعاقبان، فيقال (1) رميت بالقوس" و"على القوس"، و"جاء على حال حسنة" و "بحال حسنة".
وقال بعض المفسرين: معناه: حريص على ألا أقول على الله إلا الحق.
وقرأ آخرون من أهل المدينة: { حَقِيقٌ عَلَيّ } بمعنى: واجب وحق عَلَيّ ذلك ألا أخبر عنه إلا بما هو حق وصدق، لما أعلم من عز جلاله وعظيم سلطانه.


{ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } أي: بحجة قاطعة من الله، أعطانيها دليلا على صدقي فيما (2) جئتكم به، { فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } أي: أطلقهم من أسْرك وقهرك، ودعهم وعبادة ربك وربهم؛ فإنهم من سلالة نبي كريم إسرائيل، وهو: يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن [عليهم صلوات الرحمن] (3)


{ قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } أي: قال فرعون: لست بمصدقك فيما قلت، ولا بمطيعك فيما طلبت، فإن كانت معك حجة فأظهرها لنراها، إن كنت صادقًا فيما ادعيت.
{ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنزعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) }
قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: { ثُعْبَانٌ مُبِينٌ } الحية الذكر. وكذا قال السدي، والضحاك.
__________
(1) في م: "يقال"، وفي أ: "فيقول".
(2) في د: "ما".
(3) زيادة من أ.
(3/454)
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)
وفي حديث "الفُتُون"، من رواية يزيد بن هارون عن الأصْبَغ بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب، عن (1) سعيد بن جُبَيْر عن ابن عباس قال { فَأَلْقَى عَصَاهُ } فتحولت حية عظيمة فاغرة فاها، مسرعة إلى فرعون، فلما رآها فرعون أنها قاصدة إليه، اقتحم عن سريره، واستغاث بموسى أن يكفها [عنه] (2) ففعل.
وقال قتادة: تحولت حية عظيمة مثل المدينة.
وقال السدي في قوله: { فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ } والثعبان: الذكر من الحيات، فاتحة فاها، واضعة لِحْيها، الأسفل في الأرض، والآخر على سور القصر، ثم توجهت نحو فرعون لتأخذه. فلما رآها ذعر منها، ووثب وأحدث، ولم يكن يُحْدث قبل ذلك، وصاح: يا موسى، خذها وأنا أومن بك، وأرسل معك بني إسرائيل. فأخذها موسى، عليه السلام، فعادت عصا.
وروي عن عكرمة عن ابن عباس نحو هذا.
وقال وَهْب بن مُنَبِّه: لما دخل موسى على فرعون، قال له فرعون: أعرفك؟ قال: نعم، قال: { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا } [الشعراء:18] ؟ قال: فرد إليه موسى الذي ردّ، فقال فرعون: خذوه، فبادره موسى { فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ } فحملت على الناس فانهزموا منها، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا، قتل بعضهم بعضا، وقام فرعون منهزما حتى دخل البيت.
رواه ابن جرير، والإمام أحمد في كتابه "الزهد"، وابن أبي حاتم. وفيه غرابة في سياقه (3) والله أعلم.
وقوله: { وَنزعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ } أي: نزع يده: أخرجها من درعه بعد ما أدخلها فيه فخرجت بيضاء تتلألأ من غير بَرَص ولا مرض، كما قال تعالى: { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } [النمل:12] (4)
وقال ابن عباس في حديث الفتون: [أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء] (5) { مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } يعني: من غير برص، ثم أعادها إلى كمه، فعادت إلى لونها الأول. وكذا قال مجاهد وغير واحد.
{ قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) }
أي: قال الملأ -وهم الجمهور والسادة من قوم فرعون -موافقين لقول فرعون فيه، بعد ما رجع إليه رَوْعه، واستقر على سرير مملكته (6) بعد ذلك، قال للملأ حوله -: { إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } فوافقوه وقالوا كمقالته، وتشاوروا في أمره، وماذا يصنعون في أمره، وكيف تكون حيلتهم في إطفاء
__________
(1) في ك، م، أ: "حدثني".
(2) زيادة من ك، م، أ.
(3) تفسير الطبري (13/16)، والزهد للإمام أحمد برقم (341).
(4) بعدها في د، ك، م، أ: "آية أخرى".
(5) زيادة من أ.
(6) في د: "ملكه".
(3/455)
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)
نوره وإخماد كلمته، وظهور كذبه وافترائهم، وتخوفوا من [معرفته] (1) أن يستميل (2) الناس بسحره فيما يعتقدون (3) فيكون ذلك سببا لظهوره عليهم، وإخراجه إياهم من أرضهم والذي خافوا منه وقعوا فيه، كما قال تعالى: { وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ } [القصص:6] فلما تشاوروا في شأنه، وائتمروا فيه، اتفق رأيهم على ما حكاه الله تعالى عنهم في قوله تعالى:
{ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) }
قال ابن عباس: { أَرْجِهِ } أخّره. وقال قتادة: احبسهُ. { وَأَرْسِلْ } أي: ابعث { فِي الْمَدَائِنِ } أي: في الأقاليم ومعاملة ملكك، { حَاشِرِينَ } أي: من يحشر لك السحرة من سائر البلاد ويجمعهم.
وقد كان السحر في زمانهم غالبا كثيرا ظاهرا. واعتقد من اعتقد منهم، وأوهم من أوهم منهم، أن ما جاء موسى، عليه السلام، من قبيل ما تشعبذه (4) سحرتهم؛ فلهذا جمعوا له السحرة ليعارضوه بنظير ما أراهم من البينات، كما أخبر تعالى عن فرعون حيث قال: { قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى . فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى . قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى . فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى } [طه:57-60] وقال تعالى هاهنا:
{ وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) }
يخبر تعالى عما تشارط عليه فرعون والسحرة الذين (5) استدعاهم لمعارضة موسى، عليه السلام: إن غلبوا موسى ليثيبنهم وليعطينهم عطاء جزيلا. فوعدهم ومناهم أن يعطيهم ما أرادوا، ويجعلنهم (6) من جلسائه والمقربين عنده، فلما توثقوا من فرعون لعنه الله:
{ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) }
هذه مبارزة من السحرة لموسى، عليه السلام، في قولهم: { إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ } أي: قَبْلك. كما قال (7) في الآية الأخرى: { وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى } [طه:65] فقال لهم موسى، عليه السلام: { أَلْقُوا } أي: أنتم أولا قبلي. والحكمة في هذا -والله أعلم -ليري الناس صنيعهم ويتأملوه، فإذا فُرغ من بهرجهم (8) ومحالهم، جاءهم الحق الواضح الجلي بعد تطلب له والانتظار منهم لمجيئه، فيكون أوقع في النفوس. وكذا كان. ولهذا قال تعالى: { فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ } أي: خيلوا إلى الأبصار أن ما فعلوه له حقيقة في الخارج، ولم يكن إلا مجرد صنعة وخيال، كما قال تعالى: { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } [طه:66 : 69] .
__________
(1) زيادة من ك، م، أ.
(2) في د: "يميل".
(3) في ك: "يعتقدوه".
(4) في ك: "يشعبذه".
(5) في د: "لما".
(6) في أ: "وليجعلهم".
(7) في أ: "قالوا".
(8) في أ: "بهرجتهم".
(3/456)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)
قال سفيان بن عُيَيْنَة: حدثنا أبو سعيد، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس: ألقوا حبالا غلاظًا وخشبًا طوالا. قال: فأقبلت يُخَيل إليه من سحرهم أنها تسعى.
وقال محمد بن إسحاق: صَفّ خمسة عشر ألف ساحر، مع كل ساحر حباله وعصيه، وخرج موسى، عليه السلام، معه أخوه يتكئ على عصاه، حتى أتى الجمع، وفرعون في مجلسه مع أشراف أهل مملكته، ثم قال السحرة: { يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ } [طه:65 ، 66] فكان أول ما اختطفوا بسحرهم بصر موسى وبصر فرعون، ثم أبصار الناس بعد، ثم ألقى كل رجل منهم ما في يده من الحبال والعصي (1) فإذا حيات كأمثال الجبال، قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا.
وقال السُّدِّي: كانوا بضعة وثلاثين ألف رجل، ليس رجل منهم إلا ومعه حبل وعصا، { فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ } يقول: فَرَقوهم أي: من الفرَق.
وقال ابن جرير: حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا ابن عُلَيَّةَ، عن هشام الدَّستَوَائي، حدثنا القاسم ابن أبي بَزَّة قال: جمع فرعون سبعين ألف ساحر، فألقوا سبعين ألف حبل، وسبعين ألف عصا، حتى جعل يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى (2) ؛ ولهذا قال تعالى: { وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ }
{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) }
__________
(1) في ك، م، أ: "العصى والحبال".
(2) تفسير الطبري (13/28) وهذا من أخبار أهل الكتاب التي لا فائدة من علمها.
(3/457) 
----------------------------------
15. سورة الأعراف - الآيات: 121 ــ 130.
قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)

الأعراف - تفسير ابن كثير
قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)
{ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) }
يخبر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله موسى، عليه السلام، في ذلك الموقف العظيم، الذي فرق الله تعالى فيه بين الحق والباطل، يأمره بأن يلقي ما في يمينه وهي عصاه، { فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ } أي: تأكل { مَا يَأْفِكُونَ } أي: ما يلقونه ويوهمون أنه حق، وهو باطل.
قال ابن عباس: فجعلت لا تَمُرّ بشيء (1) من حبالهم ولا من خُشُبهم (2) إلا التقمته، فعرفت السحرة أن هذا أمر من السماء، وليس هذا بسحر، فخروا سجدا وقالوا: { آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ . رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ }
وقال محمد بن إسحاق: جعلت تبتلع (3) تلك الحبال والعصى واحدة، واحدة حتى ما يُرَى
__________
(1) في أ: "على شيء".
(2) في أ: "عصيهم".
(3) في أ: "تتبع".  (3/457)


قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)
بالوادي قليل ولا كثير مما ألقوا، ثم أخذها موسى فإذا هي عصا في يده كما كانت، ووقع السحرة سجدا { قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ . رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } لو كان هذا ساحرا ما غُلبنا.
وقال القاسم بن أبي بَزَّة: أوحى الله إليه أن ألق عصاك، فألقى عصاه، فإذا هي ثعبان فاغرٌ فَاهُ، يبتلع (1) حبالهم وعصيهم. فألقي السحرة عند ذلك سجدا، فما رفعوا رءوسهم حتى رأوا الجنة والنار وثواب أهلهما.
{ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) }
يخبر تعالى عما توعد به فرعون، لعنه الله، السحرة لما آمنوا بموسى، عليه السلام، وما أظهره للناس من كيده ومكره في قوله: { إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا } أي: إن غَلَبَه لكم في يومكم هذا إنما كان عن تشاور منكم ورضا منكم لذلك، كقوله في الآية الأخرى: { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ } [طه:70] وهو يعلم وكلّ من له لب أن هذا الذي قاله من أبطل الباطل؛ فإن موسى، عليه السلام، بمجرد ما جاء من "مَدْين" دعا فرعون إلى الله، وأظهر المعجزات الباهرة والحجج القاطعة على صدق ما جاء به، فعند ذلك أرسل فرعون في مدائن ملكه ومعاملة سلطنته، فجمع سحرة متفرقين من سائر الأقاليم ببلاد مصر، ممن اختار هو والملأ من قومه، وأحضرهم عنده ووعدهم بالعطاء الجزيل. وقد كانوا من أحرص الناس على ذلك، وعلى الظهور في مقامهم ذلك والتقدم عند فرعون، وموسى، عليه السلام، لا يعرف أحدا منهم ولا رآه ولا اجتمع به، وفرعون يعلم ذلك، وإنما قال هذا تسترا وتدليسا على رعاع دولته وجَهَلتهم، كما قال تعالى: { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ } [الزخرف:54] فإن قوما صدّقوه في قوله: { أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى } [النازعات:24] من أجْهَل خلق الله وأضلهم.
وقال السدي في تفسيره بإسناده المشهور عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما من الصحابة، في قوله تعالى: { إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ } قالوا: التقى موسى، عليه السلام، وأميرُ السحرة، فقال له موسى: أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي، وتشهد أن ما جئت به حق؟ قال الساحر: لآتين غدا بسحر لا يغلبه سحر، فوالله لئن غلبتني لأومنن بك ولأشهدن أنك حق. وفرعون ينظر إليهما، قالوا: فلهذا قال ما قال.
وقوله: { لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا } أي: تجتمعوا أنتم وهو، وتكون لكم (2) دولة وصولة، وتخرجوا
__________
(1) في م: "يبلع".
(2) في ك، م: "لهم".
(3/458)
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
منها الأكابر والرؤساء، وتكون الدولة والتصرف لكم، { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } أي: ما أصنع بكم.
ثم فسر هذا الوعيد بقوله: { لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ } يعني: يقطع يد الرّجُل اليمنى ورجْله اليسرى أو بالعكس. و { لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } وقال في الآية الأخرى: { فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } [طه:71] أي: على الجذوع.
قال ابن عباس: وكان (1) أولَ من صلب، وأولَ من قطع الأيدي والأرجل من خلاف، فرعون.
وقول السحرة: { إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ } أي: قد تحققنا أنا إليه راجعون، وعذابه أشد من عذابك، ونكاله (2) ما تدعونا إليه، وما أكرهتنا عليه من السحر، أعظم (3) من نكالك، فلنصبرن اليوم على عذابك لنخلص من عذاب الله، لما قالوا: { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } أي: عمنا بالصبر على دينك، والثبات عليه، { وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } أي: متابعين لنبيك موسى، عليه السلام. وقالوا لفرعون: { فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُالدَّرَجَاتُ الْعُلا } [طه:72-75] فكانوا في أول النهار سحرة، فصاروا في آخره (4) شهداء بررة.
قال ابن عباس، وعُبَيد بن عُمَيْر، وقتادة، وابن جُرَيْج: كانوا في أول النهار سحرة، وفي آخره شهداء.
{ وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) }
يخبر تعالى عما تمالأ عليه فرعون وملؤه، وما أظهروه (5) لموسى، عليه السلام، وقومه من الأذى والبغضة: { وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ } أي: لفرعون { أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ } أي: أتدعهم ليفسدوا في الأرض، أي: يفسدوا أهل رعيتك ويدعوهم إلى عبادة ربهم دونك، يالله للعجب ! صار (6) هؤلاء يشفقون من إفساد موسى وقومه! ألا إن فرعون وقومه هم المفسدون، ولكن لا يشعرون؛ ولهذا قالوا: { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } قال بعضهم: "الواو" هنا حالية، أي: أتذره وقومه يفسدون وقد ترك عبادتك؟
__________
(1) في م، أ: "فكان".
(2) في أ: "ونكاله على ".
(3) في د: "أشد".
(4) في ك، م، أ: "في آخر النهار".
(5) في ك، م، أ: "أضمروه"، وفي د: "أضمروا".
(6) في أ: "صاروا".
(3/459)
وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)
وقرأ ذلك أُبيّ بن كعب: "وقد تركوك أن يعبدوك وآلهتك"، حكاه ابن جرير.
وقال آخرون: هي عاطفة، أي: لا تدع موسى يصنع هو وقومه من الفساد ما قد أقررتهم (1) عليه وعلى تركه آلهتك.
وقرأ بعضهم: "إلاهتك" أي: عبادتك، ورُوي ذلك عن ابن عباس ومجاهد.
وعلى القراءة الأولى قال بعضهم: كان لفرعون إله يعبده. قال الحسن البصري: كان لفرعون إله يعبده في السر. وقال في رواية أخرى: كان له (2) جُمَانة في عنقه معلقة يسجد لها.
وقال السدي في قوله تعالى: { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } وآلهته، فيما زعم ابن عباس، كانت البقر، كانوا إذا رأوا بقرة حسناء أمرهم فرعون أن يعبدوها، فلذلك أخرج لهم عجلا جسدا.
فأجابهم فرعون فيما سألوه بقوله: { سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ } وهذا أمر ثان بهذا الصنيع، وقد كان نكل بهم به قبل ولادة موسى، عليه السلام، حذرا من وجوده، فكان خلاف ما رامه وضدّ ما قصده فرعون. وهكذا عومل في صنيعه [هذا] (3) أيضا، إنما أراد قهر بني إسرائيل وإذلالهم، فجاء الأمر على خلاف ما أراد: نصرهم الله عليه وأذله، وأرغم أنفه، وأغرقه وجنوده.
ولما صمم فرعون على ما ذكره من المساءة لبني إسرائيل، { قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا } ووعدهم بالعاقبة، وأن الدار ستصير لهم في قوله: { إِنَّ الأرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } أي: قد جرى علينا مثل ما رأيت من الهوان والإذلال من قبل ما جئت يا موسى، ومن بعد ذلك. فقال منبهًا لهم على حالهم الحاضرة (4) وما يصيرون (5) إليه في ثاني الحال: { عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ [ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ] } (6) وهذا تحضيض لهم على العزم على الشكر، عند حلول النعم وزوال النقم.
{ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) }
__________
(1) في أ: "أقررتم".
(2) في ك، م، أ: "لفرعون".
(3) زيادة من م، أ.
(4) في ك، د، م: "الحاضر".
(5) في د: "يصير".
(6) زيادة من د، ك، م، وفي هـ: "الآية".  (3/460) .

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

البرص و العميان-أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ

البرص و العميان-أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ  المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله عليه محمد وسلم وهب الله لك حسن الاستماع وأشعر ...