Translate

الجمعة، 18 فبراير 2022

[كتاب محك النظر في المنطق ] + كتاب مشكاة الأنوار +كتاب التبر المسبوك في نصحية الملوك -{ أبو حامد الغزالي }



محك النظر في المنطق  محك النظر أبو حامد الغزالي 
 
مقدمة تحصر مقصود الكتاب وترتيبه وأقسامه اعلم أنك إن التمست شرط القياس الصحيح والحد الصحيح والتنبيه على مثارات الغلط فيها وقفت للجمع بين الأمرين، فإنها رباط العلوم كلها. فإن العلوم إدراك الذوات المفردة كعلمك بمعنى الجسم والحركة والعالم والحادث والقديم وسائر المفردات وإدراك نسبة هذه المفردات بعضها إلى البعض بالنفي والإثبات. فإنك تعلم أولاً معنى لفظ العالم وهو أمر مفرد ومعنى لفظ الحادث ومعنى لفظ القديم وهما أيضاً أمران مفردان، ثم تنسب مفرداً إلى مفرد بالنفي كما تنسب القِدم إلى العالم بالنفي، فتقول ليس العالم قديماً وتنسب الحادث إليه بالإِثبات فتقول العالم حادث والضرب الأخير هو الذي يتطرق إليه التكذيب والتصديق، فأما الأول فلا يدخله تصديق وتكذيب، إذ يستحيل التصديق والتكذيب في المفردات بل إنما يتطرق ذلك إلى الخبر ولا ينتظم خبر إلا بمفردين موصوف ووصف، فإذا نسب الوصف إلى الموصوف بنفي أو إثبات فلا بأس أن يُصطلح على التعبير عن هذين الضربين بعبارتين مختلفتين. فإن حق الأمور المختلفة أن تختلف ألفاظها إذ الألفاظ مثل المعاني فحقها أن يحاذي بها المعنى
 
  فلنسمِ الأول معرفة 
 
 ولنسمِ الثاني علماَ، متأسين فيه بقول النحاة: 
 
 
 إن المعرفة تتعدّى إلى مفعول واحد إذ تقول عرفت زيداً، والظن يتعدّى إلى مفعولين إذ تقول ظننت زيداً عالماً. والعلم أيضاً يتعدى إلى مفعولين فتقول علمت زيداً عدلاَ ، فهو من باب الظن لا من باب المعرفة . هذا هو الوضع اللغوي وإن كانت عبارة أهل النظر بهما تخالفه في استعمال أحدهما بدلاً عن الآخر . فإذا استقر هذا الاصطلاح فنقول الإدراكات المعلومة تنحصر في المعرفة والعلم . 
 
 
 وكل علم يتطرق إليه التصديق فمن ضرورته أن تتقدم عليه معرفتان ، فإن من لا يعلم المفرد كيف يعلم المركب ، ومن لا يفهم معنى العالم ومعنى الحادث كيف يعلم أن العالم حادث . والمعرفة قسمان: أولى وهو الذي لا يطلب بالبحث كالمفردات المدركة بالحس ، ومطلوب وهو الذي يدل اسمه منه على أمر جملي غير مفصل فيطلب تفصيله . وكذلك العلم ينقسم إلى أولي وإلى مطلوب .
 
 
= فالمطلوب من المعرفة لا يقتنص إلا بالحد والمطلوب من العلم الذي يتطرق إليه التصديق أو التكذيب لا يقتنص إلا بالحجة والبرهان وهو القياس؛ وكأن طالب القياس والحد طالب الآلة التي بها تقتنص العلوم والمعارف كلها . فليكن كتابنا قسمين قسم هو محل القياس وقسم هو محل الحد . 
 
القول في شروط القياس اعلم أن القياس عبارة عن أقاويل مخصوصة أُلفت تأليفاً مخصوصاً ونُظمت نظماً مخصوصاً بشرط مخصوص يلزم منه رأي هو مطلوب الناظر ، والخلل يدخل عليه تارة من الأقاويل التي هي مقدمات القياس إذ تكون خالية عن شروطها وأخرى من كيفية الترتيب والنظم وإن كانت المقدمات صحيحة يقينية ، ومرة منهما جميعاً . ومثاله في المحسوس البيت المبني فإنه أمر مركّب تارة يختل بسبب في هيئة التأليف ، بأن تكون الحيطان معوجة والسقف منخفضاً إلى موضع قريب من الأرض ، فيكون فاسداً من حيث الصورة ، وأن كانت الأحجار والجزوع وسائر الآلات صحيحة . وتارة يكون البيت صحيح الصورة في تربيعها ووضع حيطانها وسقفها ، ولكن يكون الاختلال من رخاوة في الجزوع وتشعث في اللبنات . فهذا حكم القياس والحد وكل أمر مركب ، فإن الخلل فيه إما أن يكون في هيئة تركيبه وترتيبه وأما أن يكون في الأصل الذي يرد عليه التركيب ، كالثوب في القميص والخشب قي الكرسي واللبن في الحائط والجذوع في السقف . وكما أن من يريد بناء بيت بعيد من الخلل يفتقر إلى أن يعذ الآلات المفردة أولاً ، كالجذوع واللبن والطين ، ثم إذا أراد اللبن يفتقر إلى إعداد مفرداته وهو الماء والتراب والقالب الذي فيه يضرب فيبتدئ أولاً بالأجزاء .المفردة فيركبها ثم يركّب المركب ، وهكذا إلى آخر العمل ، فكذلك طالب القياس ينبغي أن ينظر في نظم القياس وفي صورته وفي الأمر الذي يضع الترتيب والنظم فيه، وهي المقدمات. وأقل ما ينتظم منه قياس مقدمتان أعني علمين يتطرق إليهما التصديق والتكذيب. واقل ما تحصل منه مقدمة معرفتان توضع إحداهما مُخبراً عنه والأخرى خبراَ أو وصفاً. فقد انقسم القياس إلى مقدمتين، وانقسمت كل مقدمة إلى معرفتين تنسب إحداهما إلى الأخرى، وكل مفرد فهو معنى ويُدل عليه لا محالة بلفظ. فيجب ضرورة أن ينظر في المعاني المفردة وأقسامها، وفي الألفاظ المفردة ووجوه دلالتها. ثم إذا فهمنا اللفظ مفرداً والمعنى مفرداً ألفنا معنيين وجعلناهما مقدمة، وننظر في حكم المقدمة وشرطها ثم نجمع مقدمتين فنصوغ منهما قياساً، وننظر في كيفية الصياغة الصحيحة. وكل من أراد أن يعرف القياس بغير هذا الطريق فقد طمع في محال، وكان كمن طمع في أن يكتب الخطوط المنظومة وهو لا يحسن كتبة الكلمات، أو يطمع أن يكتب الكلمات وهو لا يحسن كتبة الحروف المفردة، وهكذا القول في كل مركب. فإن أجزاء المركب تتقدم على المركب بالضرورة حتى لا يوصف الله تعالى بالقدرة على خلق العالم المركب دون الآحاد، كما لا يوصف بالقدرة على تعليم كتبة الخطوط المنظومة دون تعليم الكلمات والحروف، فهذه الصورة ينبغي أن تشمل كلامنا. القياس على ثلاثة فنون: • الفن الأول: في السوابق وهو النظر في الألفاظ ثم في المعاني ثم في تأليف مفردات المعاني إلى أن تصير علماً تصديقياً يصلح أن يجعل مقدمة. •
 
 
= الفن الثاني:
 
= النظر في كيفية تأليف المقدمات لينصاغَ منها صحيح النظم وهو في المقاصد، فإن ما قبله استعداد له. ويشتمل هذا الفن على مدارك العلوم اليقينية الأولية التي منها التأليف ونسبتها إلى القياس نسبة الثوب إلى القميص. • الفن الثالث: في لواحق ينعطف عليها بالكشف عند الفراغ منها تبتدي بالنظر في الحدود وشروطها. الفن الأول في السوابق وفيه ثلاثة فصول فصل في الألفاظ. فصل في المعاني.
 
 
= فصل في تأليف المعاني. حتى تصير علماَ يتطرق إليه التصديق والتكذيب. الفصل الأول: في دلالة الألفاظ على المعاني إعلم وفقك الله أن الكلام في هذا الفن يطول ولكن لا أتعرض لما أظنك مستقلاَ بإدراكه من نفسك، وأقتصر على التنبيه على تقسيمات تثور من إهمالها أغاليط كثيرة. القسم الأول: إن دلالة اللفظ على المعنى ينحصر في ثلاثة أوجه: وهي المطابقة والتضمن والالتزام.فإن لفظة البيت تدل على معنى البيت بطريق المطابقة، وتدل على السقف وحده بطريق التضمن. فإن البيت يتضمن السقف لأن البيت عبارة عن السقف والجدران. وكما يدل لفظ الفرس على الجسم إذ لا فرس إلا وهو جسم، إذ وجدنا الجسمية في الفرسية مهما قلنا فرس. فلنصطلح على تسمية هذا الوجه تضمّناً وعلى تسمية الوجه الأول مطابقة. و أما طريق الالتزام: فهو كدلالة لفظ السقف على الحائط، فإنه غير موضوع للحائط وضع لفظ لحائط حتى يكون مطابقاً له، ولا بتضمن. إذ ليس الحائط جزءاً من السقف كما كان السقف جزءاً من نفس البيت، وكما كان الحائط جزءاً من نفس البيت، لكنه كالرفيق اللازم الخارج من ذات السقف الذي لا ينفك السقف عنه، فدلالته على نمط أخر. فلنخترع له لفظاً آخر وهو الالتزام والاستتباع. و إياك أن تستعمل في نظر العقل من الألفاظ ما يدل بطريق الالتزام أو تمكن خصمك بل اقتصر على ما يدل بطريق المطابقة أو التضمن. فإن الدلالة بطريق الالتزام لا تنحصر في حدٍ، إذ الحائط يلزم السقف والأس يلزم الحائط والأرض تلزم الأس ويتداعى هذا إلى غير نهاية. القسم الثاني: إن اللفظ بالإضافة إلى خصوص المعنى وشموله ينقسم إلى لفظ يدل على عين واحدة نسميه معيناً و إلى ما يدل على أشياء كثيرة تتفق في معنى واحد نسقيه مطلقاً، مثال الأول قولك زيد وهذا الفرس وهذه الشجرة، فإنه لا يدل إلا على شخص معيّن، وكذلك قولك هذا السواد وهذه الحركة وحده إنه اللفظ الذي لا يمكن أن يكون مفهومه إلا ذلك الواحد بعينه. فإن قصد اشتراك غيره فيه منع نفس مفهوم اللفظ منه. 
 
 
= وأما المطلق فهو الذي لا يمنع نفس مفهوم اللفظ من وقوع الاشتراك في معناه، كقولك السواد والحركة والإنسان، 
 
=وبالجملة الإسم المفرد في لغة العرب إذا أُدخل عليه الألف واللام كان لاستغراق الجنس. وقد يسقى لفظاً عاماَ، ويقال الألف واللام للعموم، فإن قيل كيف يستقيم هذا ومن يقول الإله أو الشمس أو الأرض فقد أدخل الألف واللام، ولا يدل اللفظ إلا على وجود معيّن خاص لا شركة فيه. فاعلم أن هذا الوهم غلط فان امتناع الشركة هاهنا ليس لنفس اللفظ بل الذي وضع اللغة لو جوّز في الآلهة عدداً لكان يرى هذا اللفظ عاما في الالهة، فحيث امتنع الشمول لم يكن لوضع اللفظ بل لاستحالة وجود إلَه ثان، فلم يكن المانع نفس مفهوم اللفظ يل المانع في الشمس أن الشمس في الوجود واحدة. فإن فرضنا عوالم وفي كل واحد شمس وأرض كان قولنا الشمس والأرض شاملاً للكل فتأمل هذا. فإن من له قدم في جملة الأمور النظرية ولا يفرّق بين قوله السواد وبين قوله الشمس وبين قوله هذه الشمس عظم شهوة في النظريات من حيث لا يدري. 
 
 
= القسم الثالث: إن الألفاظ المتعدّدة بالإضافة إلى المسميات المتعددة على أربعة منازل، فلنخترع لها أربعة ألفاظ: وفي المترادفة والمتباينة والمتواطئة والمشتركة. أما المترادفة: فنعني بها الألفاظ المختلفة في الصيغة المتواردة على مسمى واحد كالخمر والعقار والليث والأسد والسهم والنشاب، وبالجملة كل إسمين عبّرت بهما عن معنى واحد فهما مترادفان. وأما المتباينة: فنعني بها الأسامي المختلفة المعاني كالسواد والقدرة والأسد والمفتاح والسماء والشجر والأرض وسائر الأسامي، وهي الأكثر.
 
 
= وأما المتواطئة: فهي الأسامي التي تطلق على أشياء متغايرة بالعدد ولكنها متّفقة بالمعنى الذي وضع له، كاسم الرجل فإنه يطلق على زيد وعمرو وبكر وخالد وكاسم الجسم فإنه يطلق على الإنسان والسماء والأرض لاشتراك هذه الأعيان في معنى الجسمية التي وضع بإزائها. فكل اسم مطلق ليس بمعين كما سبق فانه يُطلق على آحاد مسمّياته الكثيرة بطريق التواطئ. فاسم اللون للبياض والسواد بطريق التواطئ، فأنها متفقة في المعنى الذي سُقي به اللون لوناً وليس بطريق الاشتراك البتة. وأما المشتركة: فهي الأسامي التي تُطلق على، مسمّيات مختلفة لا تشترك بالحد والحقيقة، كاسم العين للعضو الباصر وللميزان وللموضع الذي ينفجر منه الماء، وهي العين الفوَّارة، وللذهب والشمس وكاسم المشتري لقابل عقد البيع والكوكب الذي هو في السماء المعدود عند المنجمين من السعود. ولقد ثار من التباس المشتركة بالمتواطئة غلطٌ كثير في العقليات، حتى ظن جماعة من ضعفاء العقول أن السواد لا يشارك البياض في اللونية إلا من الإسم، وأن ذلك كمشاركة الذهب للحدقة إلباصرة في اسم العين وكمشاركة قابل البيع للكوكب في اسم المشتري. وبالجملة الاهتمام بتمييز المشتركة عن المتواطئة مهم فلنزد له شرطاً. 
 
 
=ونقول الإسم المشترك قد يدل على المختلفين كما ذكرنا وقد بدل على المتضادين ولا شركة بينهما البتة، كالجليل للحقير والخطير والناهل للعطشان والريان والجون للأسود والأبيض والقرء للطهر والحيض، وأيضاً المشترك قد يكون مشككاً قريب الشبه من المتواطئ ويعسر الفرق على الذهن وإن كان في غاية الصفاء، ولنسّم ذلك متشابهاً، وذلك مثل اسم النور الواقع على الضوء الذي يدرك بحاسة البصر من الشمس والنار والواقع على العقل الذي به يهتدي في الغوامض ولا مشاركة بين حقيقة ذات العقل والضوء إلا كمشاركة السماء للإنسان في كونه جسما، إذ الجسمية فيهما لا تختلف البتة مع أنه ذاتي لهما ويقرب من لفظ النور لفظ الحي على النبات والحيوان، فإنه بالاشتراك المحض، إذ يُراد به من النبات المعنى الذي به نماؤه ويُراد به من الحيوان المعنى الذي به يحسّ ويتحرك بالإِرادة وإطلاقه على الباري جلَّ وعلا إذا تأملت عرفت بأنه لوجه ثالث يخالف الأمرين جميعا. وأمثال هذه ينابيع الأغاليط وساشرحه زيادة شرح في اللواحق عند حصر مدارك الغلط في القياس. "مغلطة أخرى" قد تلتبس المتباينة بالمترادفة وذلك مهما أطلقت أسامي مختلفة على شيء ولكن باعتبارات مختلفة ربما ظن أنها مترادفة كالسيف والمهنّد والصارم، فإن المهنّد يدلّ على السيف مع زيادة نسبة إلى الهند، يخالف إذاً مفهومه مفهوم السيف والصارم والصارمُ يدلّ على السيف مع صفة الحدة والقطع، لا كالليث والأسد فإن ثبت ان الليث يدل على صفة ليست في الأسد التحق بالمتباينة ولم يكن مع المترادفة، وهذا كما أنا في اصطلاحاتنا النظرية نفتكر إلى تبديل الأسامي على شيء واحد عند تبديل اعتباراته، كما إنا نسمّي العلم التصديقي الذي هو نسبة بين مفردين دعوى إذا تحدّى به المتحدّي ولم يكن عليه برهان وكان في مقابلة القائل خصم فان لم يكن في مقابلته خصم سقيناه قضية لأنه قض على شيء بشيء، فإن خاض في ترتيب قياس الدليل عليه سقيناه نتيجة، فإن استعمله دليلاً في طلب آمر آخر ورتّبه في أجزاء قياس سقيناه مقدمة وهذا ونظائره مما يذكر كثير. "مغلطة أخرى" المشترك في الأصل هو الاسم الذي يعبّر به عن مسميين لا يكون موضوعا لأحدهما ومستعارا منه للآخر أو منقولاً منه إلى الآخر بل لا يكون أحدهما بأن يجعل أصلا والأخر منقولاً إليه أو مستعاراً منه باولى من نقيضه كلفظ المشتري، إذ لا يمكن أن يقال استعير الكوكب من العاقد أو العاقد من الكوكب أو وضع لأحدهما أولاَ ثم حدث الثاني بعده.، وكذلك لفظ المفعول والفاعل فيما لا يختلف تصريفه كقولك اختار يختار اختياراً فهو مختار وذلك مختار، فالفاعل والمفعول لهما صيغة واحدة وليس اللفظ بأحدهما هو أولى من الآخر، وليس كذلك لفظ الأم ل (حوّاء) فإنها أم البشر، والأرض فإنها تسقى أم البشر ولكن الأول بالوضع والثاني بالاستعارة. ولا كذلك الألفاظ التي نقلت وغيّرت كلفظ المنافق والفاسق والكافر والملحد والصوم والصلاة وسائر الألفاظ الشرعية فإنها مشتركة لأمرين مختلفين، ولكن لبعضها أول ولبعضها ثان، أي منقول من البعض إلى البعض. فالأول منقول عنه والثاني منقول إليه. وقد حصل مقصود الاشتراك وإن كان على الترتيب، كما حصل في لفظ العاقد والكوكب وإن لم يكن على الترتيب، مثال الغلط في المشترك حتى تستدل به على غيره إن الحال ليس يحتمل استقصاء هذه المفاضة.
 
 
= م أما سمعت الشافعي رضي الله عنه في مسألة لمُكره يقول يُلزمُ القَصاص لأنه مُكْرَه مختار. ويكاد الذهن ينبو عن التصديق بالضدين فإنه محال. فنرى الفقهاءَ يعثرون فيه ولا يهتدون إلى حله و إنما ذلك لأن لفظ المختار مشترك، إذ قد يحمل لفظ المختار مرادفاً للفظ القادر ومساوياً له إذا قوبل بالذي لا قدرة له على الحركة الموجودة، كالمحمول فنقول هذا عاجز محمول هذا مختار قادر ويراد بالمختار القادر الذي يقدر على الفعل والترك، وهذا يصدق على المُكرَه. وقد يعبر بالمختار عمّن تخلى في استعمال قدرته ودواعي ذاته ولا تحرر دواعيه من خارج، وهذا يكذب على المُكرَه ونقيضه وهو أنه ليس بمختار يصدق عليه، 
 
=فإذا صدق أنه مختار وصدق أنه ليس بمختار ولكن بشرط أن يكون مفهوم المختار المنفي غير مفهوم المختار المثبت. ولهذا نظائر في النظريات لا تحص تاهت بسببها عقول الضعفاء فاستدل بهذا اليسير على الكثير. فإن الخال ليس يحتمل التطويل وأقنع بهذا القدر من النظر في دلالات الألفاظ و إن كان فيها مباحث سواه. 
 
الفصل الثاني: في النظر في المعاني المفردة ولنقتصر فيه على ثلاث تقسيمات جلية:
التقسيم الأول: إن المعاني التي يُدَلُ عليها بالألفاظ إذا نُسِبَ بعضها إلى بعض وُجِدَ إما مساوياَ لها وإما أعم منها و إما أخصّ منها، وهذا ممّا يحتاج إلى معرفته في القياس. فإذا نسبت الجسم إلى المتحيز وجدته مساويا لا يزيد ولا ينقص، إذ كل جسم متحيز وكل متحيّز جسم، هذا على رأي من يقول إن كل متحيز منقسم. وأما نحن فننسب التحيّز إلى الجوهر فنرى التحيز مساويا له. وأما إذا نسبنا الوجود إلى الجسم وجدناه أعم منه، فربّ موجود ليس بجسم. وأما إذا نسبنا الحركة إلى الجسم وجدناها أخص منه، مربّ جسم ليس بمتحرك بالفعل كالأرض عند عدم الزلزلة. التقسيم الثاني: المعنى إذا نسب إلى المعنى وجدناه إما ذاتياً له ويُسقى صفة النفس وإما لازماً ويُسقى وصفاً لازماَ وإما عارضاً له لا يبعد أن ينفصل عنه في الوجود. ولا بدّ من إتقان هذه النسبة فإنها نافعة في القياس والحد جميعاً. أما الذاتي: فإني أعني به كل شيء داخل في حقيقة الشيء وماهيته دخولاً لا يتصور فهم المعنى دون فهمه، وذلك كاللونية للسواد وكالجسمية في الفرس والشجر. فإن من فهم الشجر فقد فهم جسما مخصوصاً. فتكون الجسمية داخلة في ذات الشجرية دخولاً به قِوامها في الوجود والعقل على وجه لو قدّر عدمها لبطل وجود الشجر والفرس وما يجري هذا المجرى. ولا بدّ من إدراجه في حدّ الشيء فمن يحدّ النبات يلزمه أن يقول إنه جسم نامي لا محالة. وأما الالتزام: فما لا يفارق الذات البتة ولكن فهم الحقيقة والماهية غير موقوف عليه، كوقوع الظل لشخص الفرس والنبات عند طلوع الشمس. فإن هذا أمر لازم لا يتصور أن يفارق وجوده عند من يعتر عن مجاري العادات باللزوم ويعتقده، ولكنه من توابع الذات ولوازمه وليس بذاتي له، وأعني به أن فهم كُنه حقيقته غير موقوف على فهم ذلك، بل الغافل عن وقوع الظل يفهم الفرس والنبات بل الجسم الذي هو أعم منه، ولم يخطر بباله ذلك، وكذلك كون الأرض مخلوقة وصف لازم للأرض لا تتصور مفارقته لها، ولكن فهم الأرض غير موقوف على كونها مخلوقة فقد يدرك حقيقة الأرض والسماء من لم يدرك بعدُ أنهما مخلوقتان.
 
 
= فإنا نعلم أولاً حقيقة الجسمية ثم نطلب بالدليل كونه مخلوقاً ولم يمكنا أن نعلم السماء والأرض ما لم نعلم الجسم. وإما العارض فأعني به ما ليس من ضرورته أن يلازم بل تتصور مفارقته إما سريعا كحمرة الخجل أو بطيئا كصفرة الذهب، وربما لا يزول في الوجود كزرقة العواد وسواد الزنجي، ولكن يمكن رفعه في الوهم. وأما كون الأرض مخلوقة وكون الجسم الكثيف ذا طل مانع نور الشمس فلازم لا تتصور مفارقته. ومن مثارات الأغاليط الكثيرة التباس اللازم التابع بالذاتي فإنهما مشتركان في استحالة المفارقة واستقصاؤه في هذه العجالة غير ممكن البتة. التقسيم الثالث: إن المعاني باعتبار أسبابها المدركة لها ثلاثة محسوسة ومتخيلة ومعقولة. ولنصطلح على تسمية سبب الإدراك قوة فنقول في حدقتك معنى تتميز به الحدقة عن الجبهة حتى صرت تبصر به، وإذا بطل ذلك من الأعمى بطل الإبصار، والحالة التي تدركها عند الإبصار شرطها وجود المبصر. فلو انعدم المبصر بقيت صورته في دماغه وتلك الصورة لا تفتقر إلى وجود المتخيل وعدمه لا ينفي الحالة المسمّاة تخيلاً وينفي الحالة المسمّاة إبصاراً، ولما كنت تحس في التخيل في دماغك لا في فخذك وبطنك فاعلم أن في هذا الدماغ غريزة وصفةَ بها تهيأ للتخيل وبها باين البطن والفخذ كما باينت العين الجبهة والعقب في الإبصار بمعنى اختص به لا محالة. والصبي في أول نشؤه تقوى به قوة الإبصار دون قوة التخيّل. ولذلك إذا أولع بشيء فغيبته عنه وشغلته بغيره اشتغل به، وربما يحدث في الدماغ مرض يفسد القوة الحافظة للخيال ولا يفسد الإبصار فيرى الشيء، ولكن كلما يغيب عن عينه فينساه، وهذه القوة تشارك البهيمة فيها الإنسان، ولذلك مهما رأى الفرس الشعير تذكّر صورته التي كانت له في دماغه فعرف أنه موافق وأنه مستلذ لديه فبادر إليه، ولو كانت الصورة لا تثبت في خياله لكانت رؤيته له ثانياً كرؤيته له أولا، حتى لا يبادر إليه ما لم يجده بالذوق مرة أخرى ثم فيك قوة ثالثة شريفة بها يباين الإنسان البهيمة تسمى عقلاً، ومحله إما دماغك أو قلبك وعند من يرى النفس جوهراً قائماً بذاته غير متحيّز محله النفس ولها أعني قوة العقل إدراك وتأثير بالتخيلات مباين لإِدراك التخيّل مباينة اشد من مباينة إدراك التخيّل لإدراك البصر، إذ لم يكن بين التخيل والإبصار فرق إلا أن وجود المبصر وحضوره كان شرطاً لبقاء الإبصار ولم يكن شرطاً لبقاء التخيل، وإلا فصورة الفرس تدخل في الإبصار مع قدر مخصوص ولون مخصوص وبُعدٍ منك مخصوص، ويبقى في التخيل ذلك القدر وذلك البُعد وذلك الشكل والوضع، حتى كأنك تنظر إليه ولعمري فيك قوة رابعة تُسمى المفكّرة شأنها أنها تقدر على تفصيل الصور التي في الخيال وتقطيعها وتركيبها وليس لها إدراك شيء آخر، ولكن إذا حضر في الخيال صورة الإنسان قدر أن يجعله بنصفين فيصور نصف إنسان، وربما ركب شخصاً نصفه من إنسان ونصفه من فرس، وربما صور إنسانا يطير إذ ثبت في الخيال صورة الإنسان وحدَّه وصورة الطيران وحدّه، وهذه القوة تجمع بينهما كما تفرق نصفي الإنسان وليس في وسعها البتة اختراع صورة لا مثال لها في الخيال، بل كل تصرفاتها بالتفريق والتأليف في الصورة الحاصلة في الخيال. والمقصود أن مباينة إدراك العقل الأشياءَ لإدراك التخيل أشد من مباينة التخيل للإبصار، إذ ليس للتخيل أن يدرك المعاني المجردة العرية عن القرائن العربية التي ليست داخلة في ذاتها، أعني الذي ليست ذاتية لها كما سبق. فإنك لا تقدر على تخيل السواد إلا في مقدار مخصوص من الجسم ومعه شكل مخصوص من الجسم ووضع مخصوص منك بقرب أو بُعد. ومعلوم أن الشكل غير اللون والقدر غير الشكل، فإن المثلث له شكل واحد صغيراً كان أو كبيراً، و إنما إدراك هذه المفردات المجردة ليس إلا بقوة أخرى اصطلحنا على تسميتها عقلاً فيدرك ويقضي بقضايا ويدرك اللونية مجرّدة ويدرك الحيوانية والجسمية مجرّدة،
 
= وحيث يدرك الحيوانية قد لا يحضره التفات إلى العاقل وغير العاقل، وإن كان الحيوان لا يخلو عن القسمين، وحيث يستمر في نطره قاضيا على الألوان بقضية قد لا يحضره معنى السوادية والبياضية و غيرهما، وهذا من عجيب خواصهما وبديع أفعالهما، فإذا رأى فرساً واحدا أدرك الفرس المطلق الذي يشترك فيه الصغير والكبير والأشهب والكميت والبعيد منك في المكان والقريب، بل يدرك الفرسية المجردة المطلقة منزهاً عن كل قرينة ليست ذاتية له. فإن القدر المخصوص واللون المخصوص ليس للفرس ذاتياً بل عارضاً أو لازماً في الوجود، إذ مختلفات القدر واللون تشترك في حقيقة الفرسية. وهذه المطلقات المجردة الشاملة لأمور متخيّلة هي التي يعبّر عنها المتكلمون بالوجوه أو الأحوال أو الأحكام، ويعبر عنها المنطقيون بالقضايا الكلية المجردة، ويزعمون أنها موجودة في الأذهان لا في الأعيان. وتارة يعبّرون عنها بأنها غير موجودة في خارج بل في داخل يعني خارج الذهن وداخله. ويقول أرباب الأحوال أنها أمور ثابتة ثم تارة يقولون أنها موجودة معلومة وأخرى يقولون لا موجودة ولا معدومة ولا معلومة ولا مجهولة، وقد دارت فيه رؤوسهم وتاهت عقولهم، والعجب انه أول منزل ينفصل به المعقول عن المحسوس. إذ من ها هنا يأخذ العقل ألإنساني في التصرف وما كان قبله كان يشارك هذا التخيل البهيمي التخيل الإنساني ومن تحيّر في أول منزل من منازل تصرف العقل كيف يُرجى فلاحه في تصرفاته الغامضة، ومن التبس عليه قول القائل إن السواد والبياض يشتركان في أمر معقول هو اللونية والوجود ويختلفان في أمر ذاتي، وما فيه الاختلاف بالضرورة غير ما فيه الاشتراك. إذ ليس هذا اشتراكاً في مجرد الاسم كاشتراك العائد والكوكب في اسم المشتري، وان هذه الغيرية معلومة على القطع إلى أن يبحث عن حقيقتها أنها تباين في الوجود أو تباين في العقل، وهو من خواص العقل. فمن التبس عليه هذا كيف يتضح له أمر من الغوامض ولنتجاوز هذه المغاصّة فإن كشف غطائها يقرع أبواباً مغلقة على أكثر التضاد ولا يمكن التكفل ببيانه مع ما نحن بصدده من الاختصار. الفصل الثالث: من فن السوابق في أحكام السوابق المعاني المؤلّفة تأليفا يتطرق إليه التصديق والتكذيب كقولنا مثلاً العالم حادث والبارئ تعالى قديم، فإن هذا يرجع إلى تأليف القوة المفكرة بين معرفتين لذاتين مفردين ونسبة أحدهما إلى الآخر بالإثبات، فإن قلت العالم ليس بقديم والباري ليس بحادث كانت النسبة نسبة النفي. وقد التئم هذا القول من جزئين يُسمي النحويون أحدهما مبتدأ والآخر خبراً، ويُسمي المتكلمون أحدهما موصوفاً والآخر صفة، ويُسمي الفقهاء أحدهما حكماً والآخر محكوماً عليه، ويُسمي المنطقيون أحدهما موضوعاً وهو المخبر عنه والآخر محمولاً وهو الخبر، ولنصطلح نحن على تسمية الفقهاء فنسمّيهما حكماً ومحكوماً عليه ولنسمِّ مجموع الحكم والمحكوم عليه قضية ولنسميهما إذا استعملناهما في سياق قياس مقدمةً، فإذا استفدناهما من قياس نتيجةً. وما دام غير مستنتج من القياس دعوى إن كان لنا خصم ومطلوباً إن لم يكن لنا خصم. فإن هذه الاصطلاحات إذا لم تتحرر اختبطت المخاطبات والتعليمات بل ربما اضطرب الفكر على الناظر المنفرد بنفسه. فإن فكر الناظر أيضاً لا ينتظم إلا بألفاظ وآمال يرتبها في نفسه. ولنذكر من أحكام القضايا وأقسامها ما يليق بهذا الإيجاز ويتضح الغرض بتفصيلات أربعة: التفصيل الأول إن القضية بعد انقسامها إلى النافية مثل قولنا العالم ليس بقديم وإلى المثبتة مثل قولنا العالم حادث تنقسم بالإضافة إلى المحكوم عليه إلى التعيين والخصوص والعموم والإِهمال والقضايا بهذا الاعتبار أربعة: الأولى: قضية في عين كقولنا زيد كاتب وهذا السواد المشار إليه باليد عرض. الثانية: قضية مطلقة خاصة كقولك بعض الناس كاتب وبعض الأجسام ساكن. الثالثة: قضية مطلقة عامة كقولك كل جسم متحيّز وكل سواد لون وكل حركة عرض. الرابعة: قضية مهملة كقولنا الإِنسان في خسر، وعلة هذه القسمة أن المحكوم عليه إما أن يكون عيناً مشاراً إليه أو لا يكون عيناً. فإن لم يكن عيناً فإما أن يحصر بسور بين مقداره بكلية فتكون مطلقة عامة أو بجزئية فتكون مطلقة خاصة أو لا يحصر بسور بل بمهمل. والسور هو قولك كل وبعض وما يقوم مقامهما، فإن سكت عنهما بقيت القضية مهملة، ومن طرق المغالطين المحتالين في النظر استعمال المهملات بدل القضايا العامة. فإن المهملات قد يعني بها الخصوص فيصدق طرف النقيض فيها إذ قد يقال ليس الإِنسان في خسر ويراد به الأنبياء والذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقد يقال الإِنسان في خسر ويراد به أكثر الخلق. فإياك وأن تسامح بهذا في النظريات فتغلط، ومثاله من الفقه إن طلبت استيضاحاً أن يقول الشافعي مثلاً معلوم أن المطعوم ربويّ والسفرجل مطعوم فليكن ربوياً. فإذا قيل فلِمَ قلت إن المطعوم ربوي فيقول الدليل عليه أن البُر والشعير والتمر والرز مطعومات وهي ربوية، فينبغي أن يقال له قولك العموم ربويَ أردت به كل المطعومات أو بعضها، فإن أردت به البعض لم تلزم النتيجه. إذ يمكن أن يكون السفرجل من البعض الذي ليس بربوي، ويكون هذا خللاً في نظر القياس مُخرجاً له عن كونه منتجاً كما سيأتي وجهه. وإن أردت به الكل فمن أين عرفت هذا وليس يظهر هذا بما ذكرته من البُر والشعير والتمر والرز ما لم تبتين أن كل المطعومات ربويّة، وهذا المثال وإن كان في هذا المقام واضحاً فإنه يتفق في أمثاله عند تراكم الأقيسة صور غامضة يجب الاحتراز عنها. التفصيل الثاني: إن الحكم المنسوب إلى المحكوم عليه في القضية لا يخلو عن ثلاثة أقسام: وهي الإِمكانُ والوجودُ والاستحالةُ. مثال الحكم الذي نسبته نسبة الإمكان قولك الإِنسان كاتب الإِنسان ليس بكاتب، إذ الكتابة بالإضافة في حيّز الإِمكان. ومثال الواجب قولك السواد لون والسواد ليس بلون، إذ نسبة اللون إلى السواد نسبة الوجوب والضرورة. ومثال الممتنع قولك السواد علم والسواد ليس بعلم والإنسان حجر والإِنسان ليس بحجر. فإن قلت لا استحالة في قولك الإِنسان ليس بحجر بل هو واجب ولا وجوب في قولك السواد ليس بلون بل هو ممتنع فكيف جمعت بين النفي والإِثبات؟ فاعلم أني لم أقصد ذكر الامتناع والوجوب في جملة القضية المسلّمة على الحكم والمحكوم عليه ولكني أخذت الحكم مفرداً وبيّنت نسبته إلى المحكوم عليه. ثم القضية قِد تتضمن النفي والإثبات ويكون بعضه صادقاً وبعضه كاذباً وليس الغرض ذلك. التفصيل الثالث: في بيان نقيض الفضية وهذا ممّا يحتاج إليه، إذ ربّ مطلوب لا يقوم على نفسه دليل ولكن يقوم الدليل على بطلان نقيضه فيتسلق من إبطاله إلى إثبات نقيضه، فلا بد من معرفته. وربما يظن أن نقيض القضية جلي لا يحتاج إلى البيان، ومع ذلك فإنه مثار لجملة من الأغاليط لا تحصى، فإن الأمور في أوائلها تلوح جلية ولكن إذا لم يهتم الناظر بتنقيحها وتحقيقها اعتاص عليه التفصيل بين القضيتين المتنافيتين. وأعني بالقضيتين المتنافيتين كل قضيتين إذا صدقت إحداهما كذبت الأخرى بالضرورة، كقولنا العالم حادث العالم ليس بحادث، وهما قضيتان تصدق إحداهما وتكذب الأخرى، و إنما يلزم صدق إحداهما من كذب الأخرى بستة شروط. الأول: أن يكون المحكوم عليه في القضيتين واحداً بالذات لا بمجرد اللفظ، فإن اتحد الاسم دون المعنى لم يتناقضا، كقولك النور مدركٌ بالبصر النور ليس بمدرك بالبصر، فهما صادقان إن أردت بأحدهما الضوء وبالآخر نور العقل، وكذلك لا يتناقض،قول الفقهاء المضطر مختار المضطر. ليس بمختار في مسئلة المُكْره، وقولهم المضطر آثم المضطر غير آثم إذ المضطر قد يعبّر به عن المدعو بالسيف إلى الفعل فالاسم متحد والمعنى مختلف. الثاني: أن يكون الحكم واحداً والإِثم متناقضاً كقولك العالم قديم العالم ليس بقديم، وأردت بأحد القديمين ما أراد الله تعالى بقوله (كالعرجون القديم) وكذلك أيضاً لم يتنافى قول الخصمين المُكْره مختار والمُكْره ليس بمختار، إذ ذكرتا أن المختار عبارة عن معنيين مختلفين. الثالث: أن تتحد الإضافة قي الأمور الإضافية فإنك لو قلت زيد أب زيد ليس بأب لم يتناقض، إذ يكون أباً لبكر ولا يكون أباً لخالد، وكذلك تقول زيد أب، زيد ابن، فيكون أباً لشخص وابناً لآخر، والعشرة نصف والعشرة ليست بنصف أي هي نصف العشرين. وليست نصف الثلاثين. وفي النظريات الفقهية والعقلية أغاليط كثيرة هذا منشأها كقولك المرأة مولّى عليها المرأة ليس بمولّى عليها وهما صادقتان بالإضافة إلى النكاح والبيع و إلى العصبة والأجنبي. الرابع: أن يتساويا في القوة والفعل فإنك تقول الماء في الكوز مروٍ بالقوة وليس بمروٍ بالفعل وهما صادقتان، والسيف بالغمد صارم وليس بصارم وهما صادقتان، والفاسق شاهد وليس بشاهد. ومن هذا خلط المختلفون في أن الله تعالى في الأزل خالق وأن الله تعالى في الأزل ليس بخالق. الخامس: التساوي في الجزء والكل فإنك تقول الزنجي أسود الزنجي ليس بأسود أي أسود البشرة ليس بأسود الأسنان فيصدقان. وعن هذا الغلط تخيل من بعد عن التحصيل أن العالمية حال بجملة زيد إذا قلنا زيد عالم وزيد عبارة عن جملته، ولم يعرف أنا إذا قلنا زيد في بغداد لم نرد به أنه في كل البلد بل في بعضه، وان كانت بغداد عبارة عن كل البلد. ولكن أعني بالعادة والحس بيان أن زيداً في بغداد في مكان يساوي مساحة بدنه، وكذلك أعني وضوح الأمر إذ تقول إن زيداً عالم بحر لا يجري من قلبه أو دماغه. السادس: التساوي في الزمان والمكان فإنك تقول العالم حادث العالم ليس بحادث وهما صادقان، ولكنه حادث عند أول وجوده وليس بحادث قبله ولا بعده بل قبله معدوم وبعده باق، وتقول الصبي ينبت له أسنان الصبي لا ينبت له أسنان ونعني بأحدهما السنة الأولى وبالآخر بعده ولا ينبغي أن نطول بتحديد الشروط والأمثلة فلنجمل له ضبطاً وهو أن القضية المناقضة هي التي تسلب مثلاً ما تثبته الأولى بعينه أو تثبت ما سلبته الأولى ونفته، وفي ذلك الوقت والمكان والحال وتلك الإضافة بعينها، وبالقوة إن كان ذلك بالقوة وبالفعل إن كان ذلك بالفعل. وكذا في الجزء والكل. ويحصل ذلك بان لا تخالف القضية النافية المثبتة إلا في تبديل النفي بالإثبات فقط هذا إذا كانت القضية قضية في عين، فإن كانت عامة زادت شريطة أخرى وهي أن تكون إحداهما عامة والأخرى خاصة ليلزم التناقض وألا يتصور أن يجتمعا في الصدق أو الكذب ولا يكون التناقض ضرورياً، فإن القضيتين العامتين في نسبة الممكنات كاذبتان، كقولنا كل إنسان كاتب لا أحد من الناس كاتب والخاصتان صادقتان، كقولك بعض الناس كاتب بعض الناس ليس بكاتب، فتأمل هذه الشروط واستخرج من نفسك بقية الأمثلة. التفصيل الرابع في بيان عكس القضية وهذا أيضاً يحتاج إليه وربما لا يصادف الدليل على نفس المطلوب ويصادف على عكسه، فيمكن التوصل منه إلى المطلوب، وأعني بالعكس أن تجعل الحكم محكوماً عليه والمحكوم عليه حكماً ولا تتصرف فيه إلا هذا القدر وتبقى القضية صادقة، فعند ذلك تقول هذه قضية منعكسة، أي عكسها أيضا صادق. والقضايا بهذا الاعتبار أربع: الأولى: نافية عامة ولسنا نتكلم في قضية العين فإنها لا تستعمل في النظريات بل في الأعمال والصناعات والعادات. فالنافية العامة تنعكس مثل نفسها نافية عامة، فمهما صدق قولنا لا متحيّز واحد عرض صدق قولنا لا عرض واحد متحيز. وإذا صدق قولنا لا سواد واحد علم صدق قولنا لا علم واحد سواد، فإن ما يسلب عن الشيء فمسلوب عنه الشيء بالضرورة. الثانية: النافية الخاصة ولا يصدق عكسها البتة، فإنك إذا قلت بعض اللون ليس بسواد لم يمكن إن تقول وبعض السواد ليس بلون و لا أمكنك أن تقول كل السواد ليس بلون. الثالثة: المثبتة العامة ولا تنعكس مثل نفسها فانك مهما قلت بعض الألوان سواد صدق قولك بعض السواد لون، فإن كون كل سواد لون لا يخرج عن الصدق قولنا بعض السواد لون ولا يلتفت إلى فحوى الخطاب فليس ذلك من مقتض وضع اللفظ وهو خارج عن غرضنا هذا و إن كان صحيحاً في موضعه. الرابعة: المثبتة الخاصة وهي تنعكس كنفسها فإنك مهما قلت بعض الجماد جسم صدق قولك بعض الجسم جماد. واقتصر من السوابق على هذا القدر فالزيادة غلبة لا تليق بحجم هذا الكتاب. الفن الثاني من محك القياس في المقاصد وهو طرفان أحدهما في نظم القياس والآخر في محك النظم وشرطه وهو المقدمات. واعلم أنى أعني بالقياس قضايا ألفت تأليفا يلزم من تسليمها بالضرورة قضية أخرى وهذا ليس يتحد نمطه بل يرجع إلى ثلاثة أنواع مختلفة المأخذ والبقايا ترجع إليها. أما النمط الأول: فنظمه من ثلاثة أوجه: النظم الأول: أن تكون العلة حكماً في إحدى المقدمتين محكوماً عليه في الأخرى، ممل قولنا كل جسم مؤلف وكل مؤلف حادث فيلزم منه أن كل جسم حادث، وقولنا في الفقه كل نبيذ مسكر وكل مسكر حرام فيلزم منه أن كل نبيذ حرام. وعادة الفقهاء في الصيغة أن يقولوا النبيذ مسكر فينبغي أن يكون حراماً قياساً على الخمر، ولا ينكشف الغطاء ولا تنقطع الطالبة إلا بالنظم الذي ذكرناه. ومثل هذه الأقيسة إذا لم يمكن ردها إلى هذا النظم لم تكن النتيجة لازمة ولم تنقطع المطالبة. فإذا فهمت صورة هذا النظم فاعلم أن في هذا القياس مقدمتين. إحداهما: قولنا كل نبيذ مسكر والأخرى قولنا كل مسكر حرام وكل مقدمة تنقسم إلى جزئين بالضرورة مبتدأ وخبر وحكم ومحكوم عليه فيكون مجموع أجزائها أربعة أمور تتكرّر في المقدمتين فتعود إلى ثلاثة بالضرورة، لأنها لو بقيت أربعة لم تشترك المقدمتان في شيء وبطل الازدواج بينهما ولا تتولد النتيجة، فإنك إذا قلت النبيذ مسكر ولم تتعرض. في المقدمة الثانية: لا للنبيذ ولا للمسكر ولكن قلت والقتل حرام أو العالم حادث فلا ترتبط إحداهما بالأخرى. فبالضرورة لا بد من أن يكون أحد الأجزاء الأربعة متكررا في المقدمتين فيرجع إلى ثلاثة، فلنصطلح على تسمية المكرّر في المقدمتين علة وهو الذي يمكن أن يمرن بقولك لأنه في جواب المطالبة. فإنه إذا قيل لك لِمَ قلت إن النبيذ حرام فتقول لأنه مسكر ولا تقول لأنه حرام فما يقترن به لأن هو العلة، ولنسمِّ ما يجري مجرى النبيذ محكوماً عليه وما يجري مجرى الحرام حكماً، فإنا في النتيجة نقول فالنبيذ حرام فنحكم على النبيذ بأنه حرام ونشتق للمقدمتين اسمين مختلفين من الأجزاء والمعاني التي تشتمل عليها لتسهل علينا الإِشارة إليهما في التفهيم والمخاطبة، ولا يمكن اشتقاق اسمين مختلفين لهما من العلّة. فإن العلة داخلة فيهما جميعاً فنشتقه من الجزئين الآخرين، فالمقدمة التي فيها تعرض للمحكوم عليه نسقيها المقدمة الأولى والتي فيها الحكم نسقيها الثانية اشتقاقاً من ترتيب أجزاء النتيجة. فإنا نقول في النتيجة فالنبيذ حرام فيكون النبيذ أولاً والحرام ثانياً. والمقدمة التي فيها المحكوم عليه لا يتصور أن يكون فيها الحكم، وهي مقدمة، والتي فيها الحكم لا يتصور أن يكون فيها المحكوم عليه، وهي مقدمة بل هما خاصتان للمقدمتين. واعلم أن النتيجة إنما تلزم من هذا القياس إذا كانت المقدمتان مسلمتين يقيناً إن كان المطلوب عقلياً أو ظناً إن كان المطلوب فقهياً. فإن نازعك الخصم في قولك كل مسكر حرام فإثباته بالنقل وهو قوله "كل مسكر حرام" فإن لم تتمكن من تحقيق تلك المقدمة بحس ولا غيره ولا من إثبات الثاني بنقل أو غيره لم ينفعك القياس، ومهما سلّمنا لم يتصور النزاع في النتيجة البتة، بل كل عقل صدق المقدمتين فهو مضطر للتصديق بالنتيجة مهما أحضرهما في الذهن وأحضر مجموعهما بالبال. وحاصل وجه الدلالة في هذا النظم أن الحكم على الصفة حكم على الموصوف، فإنك إذا قلت النبيذ مسكر فقد جعلت المسكر وصفاً فإذا قلت المسكر حرام فقد حكمت على الوصف، فبالضرورة يدخل فيه الموصوف، فإنك إذا قلت النبيذ مسكر وكل مسكر حرام وبطل قولنا النبيذ حرام مع انه مسلم أنه مسكر بطل قولنا إن كل مسكر حرام، إذ ظهر لنا مسكر ليس بحرام. ومهما صدقت القضية العامة لم يمكن أن يخرج منها بعض المسقيات، وهذا النظم له شرطان حتى يكون منتجاً، شرط في المقدمة الأولى وهو أن تكون مثبتة، فإن كانت نافية لم ينتج لأنك إذا نفيت شيئاً عن شيء لم يكن الحكم على المنفي حكماً على المنفي عنه، فإنك إذا قلت لا خل واحد مسكر وكل مسكر حرام لم يلزم منه حكم في الخل، إذ وقعت المباينة بين الخل والمسكر فحكمك على المسكر بالنفي أو الإِثبات لا يتعدّى إلى الخل البتة. الشرط الثاني: أن تكون المقدمة الثانية عامة حتى يدخل بسبب عمومها المحكوم عليه فيه، فإنك لو قلت كل سفرجل مطعوم وبعض المطعوم ربوي لم يلزم منه كون السفرجل ربوياً، إذ ليس من ضرورة الحكم على بعض المطعوم أن يتناول السفرجل بل ربما كان الربوي بعضاً اًخر، نعم إذا قلت وكل مطعوم ربوي لزم حكم الربا في السفرجل، ولكن يحتاجِ إلى إثبات المقدمة بعموم قوله "لا تبيعوا الطعام بالطعام" أو بمدرك آخر، وسنذكر مدارك المقدمات في الطرف الثاني من هذا الفن، فإن قلت بماذا فارق هذا النظم النظمين بعده فاعلم أن العلة إما أن توضع بحيث تكون حكماً في المقدمتين أو محكوماً عليه في المقدمتين أو توضع بحيث تكون حكماً في إحدى المقدمتين محكوماً عليه في الأخرى وهذا الآخر هو النظم الأول، وهو الأوضح، فإن الثاني والثالث لا يتضح غاية الاتضاح بالبرهان المحقق إلا بالرد إليه فلذلك قدّمته وسقيته النظم الأول الأوضح. النظم الثاني: من نظم القياس أن تكون العلة، أعني المعنى المتكرر في المقدمتين حكماً في المقدمتين، أعني أن يكون خبراً فيهما ولا يكون مبتدأ في أحدهما خبراً في الآخر، ولا مبتدأً فيهما جميعاً، مثاله قولنا إن الباري تعالى ليس بجسم لأن الباري ليس بمؤلف وكل جسم مؤلف فالباري ليس بجسم، فها هنا ثلاثة معان الباري والمؤلف والجسم والمتكرر في المقدمتين هو المؤلف فهو العلّة وتراه خبراً في المقدمتين غير مبتدأ به بخلاف المسكر في النظم الأول، إذ كان خبراً في إحداهما مبتدأً في الأخرى ووجه لزومه النتيجة يمكن تفهيمه مجملاً ومفصلاً ومحققاً. أما المجمل فهو أن كل شيئين ثبت لأحدهما ما انتفى عن الآخر ولا يكون بينهما التقاء واتصال لا يجوز أن يخبر بأحدهما عن الآخر، فالتأليف ثابت للجسم ومنفي عن الباري، فلا يكون بين معنى الجسم والباري التقاء، فلا يقال الباري جسم ولا يقال الجسم باري. وأما بالتحقيق والتفصيل فينبغي أن يرد إلى النظم الأول بعكس المقدمة النافية. ولنعدل إلى مثال اخر تصاوناً عن ترديد لفظ الباري. فإن قول القائل إنه ليس بجسم كأنه سوء أدب كما أن قوله هو جسم كفر، فإن من قال للملك أنه ليس بحجام ولا بحائك فقد أساء الأدب إذا وهم إمكان ما صرح بنفيه، إذ لا يتعرض إلا لنفي ما له إمكان في المادة والجسمية أشد استحالة في ذاته تعالى عن قول الزائغين من الحياكة والحجامة في الملك، فنقول مثلاً الأجسام ليست أزلية، إذ كل جسم مؤلف ولا أزلي واحد مؤلف فيلزم منه لا جسم واحد أزلي، إذ صار المؤلف ثابتاً للجسم مسلوباً عن الأزلي ولا يبقى بين الأزلي والجسم ارتباط الخبر والمخبر. وتفصيله بأن تنعكس المقدمة النافية فإنها نافية عامة، وقد قدّمنا أن النافية العامة تنعكس مثل نفسها فإذا صدق قولنا ولا أزلي واحد مؤلف صدق قولنا ولا مؤلف واحد أزلي وهو عكسه، فنضيف إليه قولنا وكل جسم مؤلف فيعود إلى النظم الاول، فيكون وجه دلالته ولزوم نتيجته ما سبق. وخاصية هذا النظم أنه لا ينتح إلا القضية النافية، أما الإِثبات فلا. وأما النظم الأول فهو أكمل لأنه ينتح القضايا الأربعة، أعني المثبتة العامة والمثبتة الخاصة والنافية العامة والنافية الخاصة. ولم نفرد تفصيل هذه الآحاد استثقال التطويل فإن قلت فلمَ لا ينتج هذا النظم الإِثبات فاعلم أن هذا لا ينتج إلا النفي، ومن شرطه ان تختلف المقدمتان أيضاً في النفي والإثبات، فإن كانتا مثبتتين لم ينتجا لأن حاصل هذا النظم يرجع إلى الحكم بشيء واحد على شيئين وليس من ضرورة كل شيئين يحكم عليهما بشيء واحد أن يخبر بأحدهما عن الآخر، فإنا نحكم على السواد والبياض جميعاً باللونية ولا يلزم أن يخبر عن السواد بأنه بياض ولا عن البياض بأنه سواد، ونظم القياس فيه أن يقال كل سواد لون وكل بياض لون فكل سواد بياض أو كل بياض سواد واللون هو المتكرّر وقد جعل خبراً في المقدمتين، ولم ينتح بين المعنيين لا اتصالاً ولا انفصالاً، نعم كل شيئين أخبر عن أحدهما بما يخبر عن الآخر بنفيه يجب أن يكون بينهما انفصال وهو النفي، وبرهانه عكس المقدمة النافية ليعود إلى النظم الأول. النظم الثالث: أن تكون العلة مبتدأ في المقدمتين جميعاً. فهذا إذا جمع شروطه كان منتجاً، ولكن نتيجة خاصة لا عامة، مثاله كل سواد عرض وكل سواد لون فيلزم منه أن بعض العرض لون، وكذلك إذا قلت كل بُر مطعوم وكل بُر ربوي فيلزم منه بالضرورة أن بعض المطعوم ربوي. وبيان وجه دلالته ولزوم النتيجة منه بالإجمال إن الربوي والمطعوم حكمنا بهما على شيء واحد وهو البُر فيلزم بالضرورة بينهما التقاء، وأقل درجات الالتقاء أن يوجب حكماً خاصاً وإن لم يكن عاماً فأمكن أن يقال بعض المطعوم ربوي حكماً خاصاً، دان لم يكن عاماً وبعض الربوي مطعوم، وان لم يمكن أن يف ل بمجرد هذا كل واحد مطعوم ربوي أو كل ربوي مطعوم. وأما تفصيل تفهيمه فهو بأن تعكس المقدمة التي ذكرناها أولاً وهو قولنا كل بُر مطعوم، وقد ذكرنا أن المثبتة العامة تنعكس مثبتة خاصة، فإن صدق قولنا كل بُر مطعوم صدق قولنا بعض المطعوم بُر فتبقى المقدمة الثانية، وهو أن كل بُر ربوي ويرجع إلى النظم الأول، إذ يصير المطعوم الذي هو المتكرر مبتدأ في إحدى المقدمتين خبراً في الأخرى، وشرط الإنتاج في هذا النظم أن تكون المقدمة الأولى التي فيها المحكوم عليه مثبتة ولا تكون نافية كما شرطنا ذلك في النظم الأول، فان كانت نافية لم تلزم النتيجة ولا يضر أن تكون خاصة، والذي يشترك. فيه كل نظم أمران أحدهما أنه لا بد أن يكون في جملة المقدمتين قضية عأمة فلا تلزم نتيجة من خاصتين البتة. والثاني أن يكون فيهما مثبتة فلا تلزم نتيجة من نافيتين قط، ولهذا شرح لكن لا أظنك تهتدي إلى ذلك بنفسك مهما ساعدك الجد في التأمل والمثابرة على الممارسة. فان عليك وظيفتين إحداهما تأمل هذه الأمور الدقيقة، والأخرى الأنس بهذه الألفاظ العربية. فأني اخترعت أكثرها من تلقاء نفسي لأن الاصطلاحات في هذا الفن ثلاثة اصطلاح المتكلمين والفقهاء والمنطقيين، ولا أؤثر أن أتبع واحداً منهم فيقصر فهمك عليه، ولا تفهم اصطلاح الفريقين الآخرين، ولكن استعملت من الألفاظ ما رأيته كالمتداول بين جميعهم واخترعت ألفاظا لم يشتركوا في استعمالها ؛ حتى إذا فهمت المعاني بهذه الألفاظ فما تصادفه في سائر الكتب يمكنك أن ترده إليها وتطلع على مرادهم منها. النمط الثاني: من القياس ألا يكون فيه علة وحكم ومحكوم عليه كما سبق بل تكون فيه مقدمتان والمقدمة الأولى تشتمل على قضيتين والمقدمة الثانية تشتمل على ذكر واحد من تينك القضيتين أو نقيضها. ولنسمَّ هذا النمط نمط التلازم، ومثاله قولنا إن كان العالم حادثاً فله مُحدِث ومعلوم أنه محدَث فتلزم منه نتيجة وهو أن له مُحدِثاً بالضرورة. فالمقدمة الأولى قولنا إن كان العالم حادثاً وهما قضيتان إن حذف قولنا إن،كان أحدهما قولنا العالم حادث ولنسقه المقدّم، والثاني قبرلنا فله مُحدِث ولنسقه اللازم أو التابع، والمقدمة الثانية اشتملت على تسليم عين القضية التي سقيناها مقدماً وهو قولنا معلوم أن العالم حادث فتلزم منه نتيجة وهو أن العالم مُحدَث ؛ وهو عين اللازم. ومثاله في الفقه قولنا إن كان الوِتر يؤدّى على الراحلة بكل حال فهو نفلٌ، ومعلوم أنه يؤدّى على الراحلة بكل حال فثبت أنه نفل.،وهذا النمط يتطرق إليه أربع تسليمات ينتج منها اثنتان ولا ينتج اثنتان. أما المنتج فتسليم عين القضية التي سقيناها مقدماً فإنه ينتج عين اللازم، مثاله قولنا إن كانت هذه الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ومعلوم أن هذه الصلاة صحيحة فيلزم منه المصلي متطهر. ومثاله من الحس قولنا إن كان هذا سواداً فهو لون ومعلوم أنه سواد فهو إذاً لون. وأما المنتج الآخر فهو تسليم نقيض اللازم فانه ينتج نقيض المقدّم، ومعاله قولنا إن كانت هذه الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ومعلوم أن المصلي غير متطهر فينتج أن الصلاة ليست صحيحة، فانظر كيف أنتج تسليمِ نقيض اللازم نقيض المقدّم، ومثاله أيضاً فولنا إن كان بيع الغائب صحيحا فهو يلزم بصريح الإلزام ومعلوم إن هذا اللازم باطل فإنه ليس يلزم بصريح الإلزام فيلزم منه نقيض المقدّم، وهو إن البيع غير صحيح. ومثاله أيضاً قولنا إن كان الباري تعالى على العرش فهو مقدّر لأنه مساو للعرش أو أصغر أو أكبر، ومعلوم أن اللازم محال وهو كونه مقدّراً فيكون المقدّم محالاً. ووجه دلالة هذا أن المؤدي إلى المحال محال وقول الخصم أنه على العرش مؤدي إلى المحال فهو محال، وقوله إن بيع الغائب صحيح مؤدِ إلى المحال، وهو أن يلزم بصريح الإلزام على خلاف الإجماع والمؤد إلى المحال محال. فأما الذي لا ينتج فهو تسليم عين اللازم. فإنا إذا قلنا إن كانت هذه الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر ومعلوم أن المصلي متطهر فيلزم أن الصلاة صحيحة، وهو غير صحيح، إذ ربما تكون الصلاة باطلة بعلة أخرى سوى الطهارة. وكذلك تسليم نقيض المقدّم لا ينتج لا عين اللازم ولا نقيضه. فانك لو قلت ومعلوم أن الصلاة ليست بصحيحة فلا يلزم من هذا أن المصلي متطهر ولا أنه غير متطهر. والفرق بين هذا النمط والنمط الأول أن الأول ترتيبه خبر عن شيء تمَّ حكم على الخبر بشيء فلزم منه نتيجة وهو الالتقاء بين المبتدأ الأول والخبر الأخير، وكل واحد من الأجزاء الثلاثة يصلح أن يجعل وصفاً وخبراً وحكماً للآخر في نظم هذا الكلام. وأما هذا فإنه إظهار تلازم بين قضيتين غير متداخلتين. فإن قولنا إن كانت الصلاة صحيحة فالمصلي متطهر بيان أن كون المصلي متطهراً لازم لكون الصلاة صحيحة، فلا يمكن أن يجعل كون المصلي متطهراً لا وصفاً للصلاة ولا وصفاً للصحة. والفرق من حيث الترتيب والنظم ظاهر. وأما وجه الدلالة فهو أنه مهما جعل شيء لازماً لشيء فينبغي أن لا يكون الملزوم أعم من اللازم، بل إما أخص وإما مساوياً. ومهما كان أخص فبثبوت الأخص يلزم بالضرورة ثبوت الأعم. إذ يلزم من ثبوت السواد وجوده ووجود اللون، وهو الذي عنيناه بتسليم عين المقدم. وانتفاء الأعم يوجب انتفاء الأخص، إذ يلزم من انتفاء اللون انتفاء السواد وهو الذي عنيناه بتسليم نقيض اللازم. فأما ثبوت الأعم فلا يوجب ثبوت الأخص، فإن ثبوت اللون لا يدل على ثبوت السواد، فلذلك قلنا تسليم عين اللازم لا ينتج لا نفي اللازم ولا ثبوته، وأما انتفاء الأخص فلا يوجب انتفاء الأعم، فإن انتفاء السواد لا يوجب انتفاء اللون ولا ثبوته، وهو الذي عنيناه بقولنا إن تسليم نقيض المتدّم لا ينتج لا عين اللازم ولا نقيضه. وأما جعل الأخص لازماً للأعم فهو خطأ، كمن يقول إن كان هذا لوناً فهو سواد وإن كان اللازم مساوياً للمتقدم أنتج منه أربع تسليمات: كقولنا إن كان زنا المحصَن موجوداً فالرجم واجب ومعلوم أنه موجود فإذن الرجم واجب، أو معلوم أنه غير موجود فإذاً الرجم غير واجب، أو معلوم أن الرجم واجب فإذاً زنا المحصن موجود، أو معلوم أن الرجم غير واجب فإذاً الزنا غير موجود. وكذلك كل معلول له علة وهو مساو لعلته ويلزم أحدهما الآخر فينتج فيه التسليمات الأربع، ومثاله من المحسوس إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود لكنها طالعة فهو موجود لكنها غير طالعة فهو غير موجود، ولكن النهار موجود فالشمس طالعة، ولكن النهار غير موجود فالشمس غير طالعة. النمط الثالث نمط التعاند: وهو على ضد نمط التلازم والمتكلمون يسقونه السبر والتقسيم والمنطقيون يسمونه الشرطي المنفصل، ونحن سميناه التعاند، ومثاله العالم إما قديم وإما حادث فهذه مقدمة وهما قضيتان، يحذف إما الأولى قولنا العالم قديم أو الثانية قولنا العالم حادث، فتسليم إحدى القضيتين أو نقيضها يلزم منه لا محالة نتيجة وينتج فيه أربع تسليمات: فانا نقول ومعلوم أنه حادث فيلزم منه نقيض المقدمة الأخرى وهو أنه ليس بقديم. أو نقول ومعلوم أنه ليس بحادث فيلزم منه عين المقدمة الأخرى. أو نقول ومعلوم أنه قديم فيلزم منه نقيض الأخرى وهو أنه ليس بحادث. أو نقول ومعلوم أنه ليس بقديم فيلزم منه عين الأخرى. فبالجملة كل قسمين متناقضين متقابلين إذا وجد فيهما شرائط التناقض كما سبق فينتج إثبات أحدهما نفي الآخر ونفي أحدهما إثبات الآخر، ولا يشترط إن تنحصر المقدمة في قسمين بل شرطه أن تُستَوفى أقسامه وإن كان ثلاثاً. فإنا نقول هذا الشيء إما مساو وإما أقل و إما أكثر فهذه ثلاثة ولكنها حاصرة، فاثبات واحد ينتج نفي الآخرين وإبطال اثنين ينتج إثبات الثالث و إبطال واحد ينتج انحصار الحق في الآخرين أحدهما لا بعينه، والذي لا ينتج فهو أن لا يكون محصوراً، كقولك زيد إما بالعراق و إما بالحجاز وهذا مما يوجب إثبات واحد نفي الآخر، فإنه إن ثبت أنه بالعراق انتفى عن الحجاز وغيره. وأما إبطال واحد فلا ينتج إثبات الآخر إذ ربما يكون في صقع ثالث ويكاد يكون كلام من يستدل على إثبات رؤية الباري بإحالة تصحيح الروية على الوجود غير محصور، إلا أن نتكلف لحصره وجهاً بان نقول تصحيح الرؤية لا يخلو إما أن يكون بكونه جوهراً فيبطل بالعرض أو كونه عرضاً فيبطل بالجوهر أو كونه سواداً أو لوناً فيبطل بالحركة. فلا تبقى شركة لهذه المختلفات إلا في الوجود فهو المصحح، إذ يمكن إن يكون قد بقي أمر آخر مشترك لم يعثر عليه الباحث سوى الموجود، ممل كونه بجهة من الرائي مثلاً. فإن أبطل هذا أيضاً فلعلّ ثمَّ معنى أخر، إلا أن نتكلف حصر المعاني ونتكلف نفي جميعها ونبين أن طلب مصحح لا بد منه فعند ذلك تحصل النتيجة، فهذه ضروب الأقيسة. فكل استدلال لا يمكن رده إلى هذه الضروب فهو غير منتج وسنزيده شرحاً في حق اللواحق. الفن الثالث من المقاصد في بيان المقدمات الجارية من القياس مجرى الثوب من القميص والخشب من السرير، فان ما ذكرناه جرى مجرى الخياطة من القميص وشكل السرير من الخشب، وكما لا يمكن أن يتخذ من كل جسم سيف وسرير وقميص، إذ لا يتأتى من الخشب قميص ولا من الثوب سيف ولا من السيف سرير فكذلك لا يمكن أن يتخذ من كل مقدمة وقضية قياس منتج ، بل القياس المنتج لا ينصاغ إلا من مقدمات يقينية إن كان المطلوب يقينيا أو ظنياً إن كان المطلوب فقهياً، فلنذكر معنى اليقين في نفسه لتفهم ذاته ولنذكر مدركه لتفهم الآلة التي بها نقتنص اليقين. وهذا وإن كان القول يطول فيه ولكنا نحرص على الإيجاز بقدر الإمكان. إما اليقين فلا تعرفه إلا بما أقوله وهو أن النفس إذا أذعنت للتصديق بقضية من القضايا وسكنت فلها ثلاثة أحوال: احدها: أن تتيقن وتقطع به وينضاف إليه قطع ثان وهو أن يقطع بأن قطعه به صحيح ويتيقن بأن يقينه لا يمكن أن يكون فيه سهو ولا غلط ولا التباس، ولا يجوز الغلط لا في تيقنه بالقضية ولا في تيقنه الثاني بصحة يقينه، ويكون فيه آمناً مطمئناً قاطعاً بأنه لا يتصور أن يتغير فيه رأيه ولا أن يطلع على دليل غاب عنه فيغير اعتقاده، ولوِ حكى نقيض اعتقاده عن أفضل الناس فلا يتوقف في تجهيله وتكذيبه وخطأه، بل لو حكى له أن نبياً مع معجزة قد ادعى أن ما يتيقنه خطأ ودليل خطأه معجزته فلا يكون له تأثير بهذا السماع إلا أن يضحك منه، ومن المحكي عنه. فإن خطر بباله أنه يمكن أن يكون الله قد اطْلع نبيه على سر انكشف له نقيض اعتقاده، فليس اعتقاده يقيناً. ومثال هذا العلم قولنا إن الثلاثة أقل من الستة، وإن شخصاً واحداً لا يكون في مكانين، وإن شخصين لا يجتمعان في موضع ونظائر ذلك. الحالة الثانية: أن يصدّق به تصديقاً جزماً لا يتمارى فيه ولا يشعر بنقيضه البتة ولو أشعر بنقيضه عسر عليه اذعان نفسه للإِصغاء إليه ولكنه لو ثبت وأصغى وحكى له نقيض معتقده عمّن هو أعلم الناس وأعدلهم عنده، وقد نقله مثلاً عن النبي أورث ذلك في يقينه توقفاً ما ولنسمِّ هذا الجنس اعتقاداً جزماً وهو أكثر اعتقاد عوام المسلمين واليهود والنصارى في معتقداتهم وأديانهم ومذاهبهم، بل أكثر اعتقاد المتكلمين في نصرة مذاهبهم بطريق الأدلة، فإنهم قبلوا المذاهب والأدلة جميعاً بحسن الظن والتصديق من أرباب مذاهبهم الذين حَسُنَ فيهم اعتقادهم بكثرة سماعهم الثناء عليهم وتقبيح مخالفتهم ونشؤهم على سماع ذلك منذ الصبا، فإن المستقل بالنظر الذي يستوي مثيله في أول نظره إلى الكفر والإِسلام وسائر المذاهب عزيز. الحالة الثالثة: أن يكون له سكون نفس إلى شيء والتصديق به وهو يشعر بنقيضه أو لا يشعر ولكنه إن أشعر به لم ينفر طبعه عن قبوله، وهذا يُسمّى ظناً وله درجات في الميل إلى الزيادة والنقصان لا تحصى، فمن سمع من عدل شيئاً سكنت إليه نفسه، فإن انضاف إليه ثان زاد السكون وقوي الظن، فإن انضاف إليه ثالث زادت القوة، فإن انضافت إليه تجربة بصدقهم على الخصوص زادت القوة، فإن انضافت إليه قرينة حال كما إذا أخبروا عن أمر مخوف وهم على صورة مذعورين صفر الوجوه مضطربي الأحوال زاد الظن، وهكذا لا يزال يترقى قليلاً قليلاً في القوة إلى أن ينقلب الظن على التدريج يقيناً إذا انتهى الخبر إلى حد التواتر. والمحدثون يسقون أكثر هذه الأحوال علماً ويقيناً حتى يطلقون بأن الأخبار التي تشتمل عليها الصحاح يوجب العلم العمل بها على كافة الخلق إلا آحاد المحققين، فإنهم يسقون الحالة الثانية يقيناً ولا يميزون بين الحالة الثانية والأولى، والحق أن اليقين هو الأول والثاني مظان الغلط. فمهما ألفت القياس من مقدمات يقينية حقيقية في صورة تأليف الشروط التي قدمناها كانت النتيجة الحاصلة يقينية ضرورية بحسب ذوق المقدمات. الفصل الثاني في مدارك اليقين والاعتقاد لعلك تقول قد استقصيت في شروط اليقين استقصاءً مؤنساً عن نيله والظفر به فمن أين يقتنص مثل هذا اليقين وما آلته ومدركه. فاعلم أن مدارك الظنون لست أذكرها فإنها واضحة للفقهاء والناس كافة، ولكن أذكر مدارك اليقين والاعتقادات التي يظن بها اليقين ومجامعها فيما حضرني الآن ينحصر في سبعة أقسام، ولنخترع لكل واحد منها اسماً مشتقاً من سببه: الأول أوليات: واعني بها العقليات المحضة التي اقتضى ذات العقل بمجرد حصولها من غير استعانة بحس التصديرَ بها مثل علم الإنسان بوجود ذاته، وبان الواحد لا يكون قديما حادثا، وأن النقيض إذا صدق أحدهما كذب الآخر، وان الإثنين أكثر من الواحد ونظائره. وبالجملة هذه القضايا تصادف مرتبة في العقل منذ وجوده حتى يظن العاقل أنه لم يزل عالماً به، ولا يدري متى حصل ولا يقف حصوله على وجود أمر سوى العقل، إذ يرتسم فيه الوجود مفرداً والقديم مفرداً والحادث مفرداً والقوة المفكرة تجمع هذه المفردات وتحسب بعضها إلى بعض، مثل أن تحضر أن القديم حادث ويكذب العقل به أو أن القديم ليس بحادث ويصدق العقل به، ولا نحتاج إلا إلى ذهن ترتسم فيه المفردات والى قوة مفكرة تنسب بعض هذه المفردات إلى البعض فيتربص العقل على البديهة إلى التصديق أو التكذيب. الثاني المشاهدات الباطنة: وذلك كعلم الإنسان بجوع نفسه وعطشه وخوفه وفرحه وسروره وجميع احواله الباطنة التي يدركها من ليس له الحواس الخمس. وهذه ليست مدركة بالحواس الخمس ومجرد العقل. لا يكفي في إدراكها بل البهيمة تدرك هذه الأحوال من نفسها بغير عقل و الأوليات لا تكون للبهائم والصبيِان. فإذا يحصل من هذا المدرك يقينيات كثيرة وقضايا قطعية مثل قطعه بأنه جائع ومسرور وخائف، ومن عرف نفسه وعرف السرور وعرف حلول السرور فيه ينظم من هذه المعارف قضية يحكم على نفسه بأنها مسرورة، فكانت القضية المنظومة منه عند العقل قضية حقيقة. الثالث المحسومات الظاهرة: كقولك الملح ابيض والقمر مستدير والشمس مستديرة وهذا الفن واضح، ولكن يتطرق الغلط إلى الإبصار بعوارض فتغلط لأجلها مثل بُعدِ مفرط أو قرب مفرط أو ضعف في العين. وأسباب الغلط في الإبصار الذي على الاستقامة ثمانية، والإبصار الذي بالانعكاس كما في المرآة. والذي بالانعطاف كما يرى ما وراء البلور والزجاج تتضاعف فيه أسباب الغلط ومداخل الغلط في هذه الحالة على الخصوص لا يمكن استقصاؤُه في مجلدات. ولا يمكن أن يجعل علاوة على هذه الحالة وان أردت أنموذجاً من أغاليط البصر فانظر إلى طرف الظل فتراه ساكناً والعقل يقضي بأنه ستحرك وإلى الكواكب فتراها ساكنة وهي متحركة والى الصبي والنبات في أول النمو وهي في النمو في كل لحطة تتزايد على التدريح ويراه واقفاً و أمثال ذلك مما يكثر. الرابع التجريبات: ويعبّر عنها باطراد العادات وذلك مثل حكمك بأن النار محرقة والحجر هاو إلى جهة الأرض والنار متحركة إلى جهة فوق وألخبز مشبع والماء مرو والخمر مسكر وجميع المعلومات بالتجربة عند من جرّبها، فإن معرفة الطبيب بان السقمونيا مسهل كمعرفتك بان الخبز مشبع، فإنه انفرد بالتجربة وكذلك الحكم بأن المغناطيس جاذب للحديد عند من عرفه. وهذا غير المحسوسات لأن مدرك الحس هو أن هذا الحجر هوى إلى الأرض. فأما الحكم بأن كل حجر هاو إلى الأرض فهو قضية عامة لا قضية في عين فليس للحس إلا قضية في عين، وكذلك إذا رأى مائعاً وقد شربه فسكر لم يحكم بأن جنس هذا المائع مسكر، فإن الحس لم يدرك إلا شرباً وسكراً عقيبه وذلك في شراب معين مثار إليه. والحكم الثاني هو حكم العقل بواسطة الحس وبتكرر الإِحساس مرة بعد أخرى إذا المرة الواحدة لا تحصل العلم فمن تألم له موضع فصبَّ عليه مائعاً فزال لم يحصل له علم بأنه مزيل بل هو كما لو قرأ عليه سورة الإِخلاص مرة فزال. إذ قد يخطر بباله إن زواله كان بالاتفاق، فإذا تكرر زواله مرات كثيرة حصل له العلم. وكذا لو جرب قراءة سورة الإِخلاص مثلاً على المرض الأول وكان يزول كل مرة أو في الأكثر يحصل له يقين بأنه مزيل كما حصل اليقين بأن الخبز مزيل للجوع والتراب غير مزيل له بل زائد فيه. وإذا تأملت هذا القن حق التأمل عرفت أن العقل نال هذه بعد الإِحساس والتكرر بواسطة قياس خفي ارتسم فيه، ولم يثبت شعوره بذلك القياس لأنه لم يلتفت إليه ولم يشكله بلفظه. وكان العقل يقول لو لم يكن هذا السبب يقتضيه لما اطرد في اكثر، ولو كان بالاتفاق لتخلف. فإن الإِنسان يأكل الخبز فيتألم رأسه ويزول جوعه فيقضي على الخبز بأنه مشبع وليس بمؤلم لفرق بينهما وهو أن الإِيلام يحمله على سبب آخر اتفق اقترانه بالخبز، إذ لو كان، بالخبز لكان دائماً مع الخبز أو في الأكثر كالشبع. وهذا الأمر يحرك أصلاً عظيماً في معنى تلازم الأسباب والمسببات والتعبير عنها باطراد العادات، وأن ذلك ما حقيقته. وقد ذكرنا في كتاب تهافت الفلاسفة ما ينبّه عن غوره. والمقصود أن القضايا التجريبية زائدة على الحسية ومن لم يمعن في تجربة الأمور تعوزه جملة من القضايا العينية فيتعذر عليه درك ما يلزم منها من النتائج، ولذلك نرى أقواماً يتفردون بعلم ويستبعده آخرون لجهلهم بمقدماته التي لا تحصل إلا بالتجربة، وهذا كما أن الأعمى والأصم يعوز جملة من العلوم النظرية التي تستنتج من مقدمات محسوسة ولا يفرق الأعمى قط باليقين البرهاني، أن شكل الشمس مثل شكل الأرض أو أكبر منها، فإنها تعرف بأدلة هندسية تبنى على مقدمات مستفادة من البصر وكثير من العلوم النفيسة لا يتنقص العقل مقدماتها إلا بشبكة البصر وسائر الحواس، ولذلك قرن الله السمع والبصر بالفؤاد في أ لقرآن. الخامس المعلومات بالتواتر: كعلمنا بوجود مكة ووجود الشافعي وبعدد الصلاة الخمس، بل كعلمنا بأن مذهب الشافعي أن المسلم لا يقتل بالذمي وغيره. فإن هذه أمور وراء المحسوس، اذ ليس للحس إلا أن يسمع صوتاً، المخبر بوجود مكة، فأما الحكم بصدقه فهو للعقل والته السمع ولا مجرد السمع بل تكرير السماع. ولا ينحصر العدد الموجب للعلم في عدد، ومن تكلف حصر ذلك فهو في شطط بل هو لتكرر التجربة، فإن كل مرة فيها شهادة أخرى تنضم إلى الآخر فلا يدري متى ينقلب الظن الحاصل منه يقيناً. فان ترقي الظن فيه وفي التواتر خفي التدريج لا تشعر به النفس البتة، كما أن نمو الشعر خفي التدريج لا يشعر بوقته ولكن بعد زمان يدرك التفاوت فكذا هذه العلوم، فهذه مدارك العلوم اليقينية الحقيقية الصالحة للبراهين التي تطيب منها النفس وما بعده ليس كذلك. السادس الوهميات: وذلك ممل قضاء الوهم بان،كل موجود ينبغي أن يكون مشاراً إلى جهته، وأن موجوداً لا متصلاً بالعالم ولا منفصلاً ولا خارجاً ولا داخلاً محال. فإن إثبات شيء مع القطع بأن الجهات الست خالية عنه محال، وهو عمل قوة في التجويف الآخر من الدماغ تسمّى وهمية شأنها ملازمة المحسوسات التي ألِفها، فليس في طبعها إلا النبوة عنها وانكارها ومن هذا القبيل نفرة الطبع عن قول القائل ليس وراء العالم لا خلاء ولا ملاء. وهاتان قضيتان وهميتان كاذبتان، والأولى منهما ربما وقع كل الأنس بتكذيبها لكثرة ممارسَتك الأدلة العقلية الموجبة لإثبات موجود ليس في جهة، والثانية ربما لم تأنس بتكذيبها لقلة ممارستك الأدلة الموجبة له. وإذا تأملت عرفت أن ما أنكره الوهم من نفي الخلا والملا غير ممكن فإنك إن اثبت خلاء فما أراك تجعله قديماً. فإن الخلا ينعدم بالملا والقديم لا ينعدم، ولأنك تعرف أن لا قديم سوى الله وصفاته وإذا جعلته محدثاً لزمك أن يكون متناهياً فينقطع، و إذا جاوزت المنقطع كنت معترفاً بأنه ليس بعده لا خلا ولا ملا. وهذه القضايا الوهمية مع أنها كاذبة فهي في النفس لا تتميّز عن الأوليات القطعية، مثل قولك لا يكون شخص في مكانين، بل تشهد به أول الفطرة كما تشهد بالأوليات القطعية. وليس كل ما تشهد به الفطرة قطعاً هو صادق بل الصادق ما تشهد به قوة العقل فقط ومداركه الخمسة المذكورة. وهذه الوهميات لا يظهر كذبها للنفس إلا بدليل العقل ثم بعد معرفته الدليل أيضاً لا تنقطع منازعة الوهم بل تبقى على نزاعها. فان قلت فبماذا أُميز بينها وبين الصادقة والفطرة قاطعة بالكل، ومتى يحصل لي الأمان منها فأقول إن هذه ورطة تاه فيها جماعة فتسفسطوا وأنكروا كون النظر مفيداً لليقين فقال بعضهم طلب اليقين غير ممكن، وقالوا بتكافؤ الأدلة وادّعوا النفس، وليس يحصل لنا الأمان وقال لبعضهم لسنا نتيقن أيضاً تكافؤ الأدلة بل هذا أيضاً لا ندريه، وكشف الغطاء عن هذا صعب ويستدعي تطويلاً ولكن أفيدك ألان طريقين تثق بهما في كذب الوهم. الأول جملي: وهو أنك لا تشك في وجود الوهم والقدرة والعلم والإرادة وهذه الصفات وليس هذا من النظريات، ولو عرضت الوهم على نفس الوهم لأنكره. فانه يطلب له سمكاً ومقداراً ولوناً فإذا لم يجده إياه، ولو كلفت الوهم إن يقابل ذات القدرة والعلم والإرادة لتصور لكل واحد قدراً ومكاناً مفرداً، ولو فرضت له اجتماع هذه الصفات في جزء واحد وجسم واحد لقدر بعضها منطبقاً على البعض كأنه ستر مرسل على وجهه، ولم يقدر على تقدير إدخال البعض في البعض الآخر باسره، فانه إنما يشاهد الأجسام ويراها متميزة في الوضع فيقضي على كل شيئين بانه متميز في الوضع عن الآخر. الطريق الثاني: وهو معيار في آحاد المسائل وهو أن تعلم إن جميع قضايا الوهم ليست كاذبة فأنها توافق العقل في استحالة وجود شخص في مكانين، بل لا تنازع في جميع العلوم الهندسية والحسابية وما يدرك بالحس، لانها تنازع فيما وراء المحسوسات لأنها تمثل غير المحسوس بالمحسوس، إذ لا تقبله إلا على نحو المحسوسات. فحيلة العقل في أن يعق بكذبه وبقضاياه مهما نظر في غير محسوس أن يأخذ مقدمات يقينية يساعد الوهم عليها وبنظمها بنظم المقياسين التي ذكرناها. فإن الوهم يساعد على أن اليقينيات إذا نظمت كذلك كانت النتيجة لازمة كما سبق من الأمثلة وكما في سائر الهندسيات فيتخذ ذلك ميزاناً وحاكماً بينه وبينه. فإذا رأى الوهم قد كاع عن قبول نتيجة دليل قد ساعد على مقدماته وساعد على صحة نظمه وساعد على أن مثل هذا النظم منتج يالضرورة وان تلك المقدمات صحيحة بالضرورة ثم أخذ يمتنع عن قبول النتيجة علم أن ذلك من نفور في طباعها عن إدراك هذا الشيء الخارج عن المحسوسات. فاكتفِ بهذا القدر فإن تمام الإيضاح لا يحصل إلا بالامتحان في أمثلة كثيرة، وذلك مما يطول فيه الكلام. السابع المشهورات: وهي أراء مجموعة أوجب التصديق بها، إما شهادة الكل واكثر أو شهادة الجماهير أو الأفضل، كقولك الكذب قبيح والإنعام حسن وشكر المنعم حسن وكفران النعمة قبيح وهذه قد تكون صادقة وتكون كاذبة، فلا يجوز أن يعول عليها في مقدمات القياس. فان هذه القضايا ليست أولية ولا وهمية، فإن الفطرة الأولى لا يقضي بها بل ينغرس قبولها في النفس بأسباب كثيرة تعرض من أول الصبي، وذلك بتكرير ذلك على الصبي وتكليفه اعتقاده وتحسين ذلك عنده، وربما يضطر إليها في حب التسالم وطيب المعاشرة، وربما نشا من الحياء ورقة الطبع، فنرى أقواماً يصدقون بأن ذبح البهائم قبيِح ويمتنعون من أكل لحومها وما يجري هذا المجرى، فالنفرة من المجبولة على الجبن والرقة أطوع لقبولها، وربما حمل على التصديق بها الاستقراء الكثير، وربما كانت القضية صادقة ولكن بشرط دقيق لا يفطن الذهن لذلك الشرط ويستمر على تكرير التصديق فيترشح في نفسك كمن يقول مثلاً التواتر لا يورث العلم لأن قول الواحد لا يورث، وكذلك الثاني، فقد انضم ما لا يوجب إلى ما لا يوجب والمجموع لا يزيد على الآحاد، لأن قوله الواحد لا يوجب العلم، إذ يجوز عليه الغلط، وهذه قضية يظن أنها صادقة بالإِطلاق وليس كذلك، بل الصادق أن قول الواحد المنفرد بقوله يحتمل الغلط والجمع يخرجه عن الانفراد، وكل واحد لا يوجب قوله العلم بشرط أن لا يكون معه الآخرون، فإذا اجتمعوا بطل هذا الشرط. وهذه من المثارات العظيمة الغلط وللتصديق بالمشهورات أسباب كثيرة يطول إحصاوُها ولا ينبغي إن تتخذ مقدمات القياس اليقيني منها البتّة، واكثر أقيسة الجدليين من المتكلمين والفقهاء في مجادلاتهم وتصانيفهم مؤلفة من مقدمات مشهورة فيما بينهم، سلموها لمجرد الشهرة وذهلوا عن سببها. ولذلك نرى أقيستهم تنتج نتائح متناقضة فيتحيّرون فيها وتتخبط عقولهم في تنقيحها. فإن قلت فيما أدرك الفرق بين المشهور والصادق فاعرض قول القائل الصدق جميل والكذب قبيح على العقل الأولي الفطري الموجب للأوليات، وقد رانك لم تعاشر أحداً ولم تخالط أهل ملة ولم تأنس بمسموع ولم تؤدب باصطلاح ولم تهذب بتعليم أستاذ وأب ومرشد وكلّف نفسد أن تشكك فيه، فإنك تقدر عليه وتراه متأتياً، و إنما الذي يعسر عليك هذه التقريرات. فإن تقدير الجوع في حال الشبع عسير وكذا تقدير كل حالة أنت منفك عنها في الحال. ولكن إذا تحدّقت فيه أمكنك التشكّك، ولو كلفت نفسك الشك في أن الاثنين أكثر من الواحد لم يكن الشك متأتيا بل لا يتأَتى الشك في أن العالم ينتهي إلى خلا وهو كاذب وهمي، ولكن فطرة الوهم تقتضيه والآخر تقتضيه فطرة العقل. فأما كون الكذب قبيحاً فلا تقضي به لا فطرة الوهم ولا فطرة العقل بل ما آلفه الإنسان من العادات والأخلاق والاصطلاحات، وهذه أيضاً مغاصة مظلمة يجب التحرز عنها. وقلَّ من لا يتغير بهذه المقدمات ولا تلتبس عليه باليقينيات، لا سيما في تضاعيف الأقيسة مهما كثرت المراتب والمقدمات. وهذا القدر كاف في المقدمات التي هي جاملة للنظم والترتيب والتأليف. والمستفاد من غلط الوهم لا يصلح البتة والمشهورات تصلح للفقهيات الظنية ولا تصلح لغيرها ولنختم هذا في المقاصد. الفن الثالث من القياس في اللواحق وفيه فصول الفصل الأول في بيان كل ما تنطق به الألسنة في العادات والمحاورات والفقهيات والعقليات ممّا يذكر في معرض الدليل والتعليل ويمكن أن يقرن به لأن، ويذكر في جواب لِمَ، فذلك بالضرورة يرجع إلى ضروب النظم التي ذكرناها. ولا بد منها البتة، وان ما ترى تأليفه وإطلاقه على غير ذلك النظم فله أربعة أسباب: وذلك إما قصور علم الناظر بتمام نظم القياس، وإما إهماله بعض المقدمات لكونها واضحة، وإما إهماله كل لكونها مشتملة على موضع التلبيس فيحذر من أن يصرّح به فيطّلع على تلبيسه، وإما تركيب الضروب التي ذكرناها وجمع جملة من احادها في سياق كلام واحد. فإنا لم نذكر إلا المفردات من النظم، فان تلك المفردات إذا تداخلت حصل منها تأليفات كثيرة أعرضنا عن تفصيلها للإيجاز. ولنورد لكل واحد منها مثالاً: الأول فيما ترك إحدى مقدمتيه لوضوحه وهو أكثر الأدلة العقلية والفقهية، إذ يحترز عن التطويل، وكذا في المحاورات كما يقول القائل هذا يجب عليه الرجم وهذا قد زنا وهو محصّن فإذاً يجب عليه الرجم. ولكن تَركَ مقدمة الحكم وذكر مقدمة المحكوم عليه لأنه يراه مشهوراً، وكذلك يقال العالم. لوجوده سبب فيقال لِمَ فنقول لأنه حادث فإذاً له سبب. وكما يقال نكاح الشغار فاسد فيقال لِمَ فنقول لأنه منهيّ عنه. وتمامه أن نقول كل منهي عنه فهو فاسد ونِكاح الشغار منهي عنه فهو إذاً فاسد ولكن تُرِكَ ذلك للشهرة والتلبيس أيضاً حتى لا يقول الخضم أسلم أنه منهي عنه ولكن لا أسلم أن كل منهي عنه فاسد فيترك المقدمة الممنوعة. وأما مثال ما يترك لأجل التلبيس فأن تقول فلان خائن في حقك فيقال لِمَ فيقول لأنه يناجي عدوك، وتمامه أن يقول كل من يناجي العدو فهو خائن وهذا يناجي العدو فهو خائن، ولكن ترك مقدمة الحكم فانه لو صرح به ربما يذكر أنه ربما يناجي العدو لجدعه أو يستميله أو ينصحه، ولا يسلم أن كل من يناجي العدو فهو خائن فيترك ذلك حتى لا يتذكر محل الكذب، وربما يترك مقدمة المحكوم عليه فيقول لا تخالط فلاناً فيقال لِمَ فيقول لأن الحُسّاد لا تُؤمن مخالطتهم. وتمامه أن نقول الحساد لا يخالطون وهذا حاسد فينبغي أن لا يخالط، فتركت مقدمة المحكوم عليه وهو قولك هذا حاسد وكل من يقصد التلبيس في المجادلات فطريقه إهمال إحدى المقدمتين إيهاماً بأنه واضح وربما يكون الكذب فيه أو استغفالاً للخصم واستجهلا له، فإنه ربما يتنبّه للحاجة إلى المقدمة الثانية. وهذا كله أمثلة النظم الأول، وقد يقع في غيره أيضاً. كمن يقول مثلاً كل شجاع ظالم فيقال لِمَ فيقول لأن الحجاج كان شجاعاً وظالماً، فهذا تمامه إن يقول الحجاج شجاع والحجاج ظالم. فكل شجاع ظالم وهو غير منتج لأنه طلب نتيجة عامة من النظم الثالث، وقد ثبت إن النظم الثالث لا ينتج إلا قضية خاصة، له إنما كان من النظم الثالث لأن العلة هي الحجاج، فانه متكرر في المقدمتين ولا يلزم منه إلا أن بعض الشجعان ظلمة، إما الكل فغير لازم. وكذلك يقول العامي. المتفقهة سيئة الآداب والمتصوفة كلهم فسقة، فيقال لِمَ فيقول لأني رأيت متصوفة الرباط الفلاني ومتفقهة المدرسة الفلانية يفعلون كيت وكيت وهو خطأ لأنه طلب نتيجة عامة من النظم الثالث وهو محال، وبالجملة مهما كانت العلة أخص من الحكم والمحكوم عليه في النتيجة لم يلزم إلا نتيجة جزئية، وهو معنى النظم الثالث، ومهما كانت العلة أعم من المحكوم عليه وأخص من الحكم أو مساويا للحكم كان من النظم الأول وأمكن أن تستنتج منه القضايا الأربعة، ومهما كانت العلة أعم من الحكم والمحكوم عليه جميعا كان من النظم الثاني ولم ينتج منه إلا النفي، إما الإثبات فلا. ومثاله من العادات أن تقول هذه المرأة حبلى فيقال لِمَ فتقول لأنها عظيمة البطن فهذا دليل فاسد وقد حذف إحدى مقدمتيه. وتمامه أن يقول هذه المرأة عظيمة البطن وكل عظيمة البطن فهي حبلى فهذه المرأة إذاً حبلى، والعلة عظيمة البطن وقد جعل خبراً في المقدمتين، وهو أعم من المحكوم عليه فإنه المرأة المعينة وعظيمة البطن، إذ قد يعظم بطن غيرها، واعم أيضاً من الحكم فإن الحكم هو الحبل وعظم البطن أعم منه إذ قد يكون بالاستسقاء والسمن والانتفاخ. والغلط من هذا الوجه في الفقهيات والكلاميات أكثر من أن يحصى. وأما مثال المختلطات المركبة من كل نمط فكقولك الباري تعالى إن كان على العرش فهو إما معل أو أكبر أو أصغر أو مساو، وكل مساو أو أكبر أو أصغر مقدّر وكل مقدر إما أن يكون جسماً أو لا يكون جسماً، كل وباطل أن لا يكون جسماً فثبت أنه جسم فيلزم أن يكون الباري تعالى. جسماً ومحال أن يكون جسماً فمحال أن يكون على العرش. وهكذا تجري أكثر المقاييس في التصانيف والمحاورات وبه تتيسر التلبيسات، إذ يمكن أن يهمل في وسط هذه الكثرة مقدمة فيها غلط، فمن لا يقدر على تحليل هذا التركيب وردّه إلى ما سبق ربما غلط من حيث لا يدري وصدق بقياس لا يجب التصديق به. وقد اشتمل هذا على النمط الأول وعلى النمط الثاني وهو التلازم وعلى النمط الثالث وهو التقسيم والتعاند، لم إذا أتقنت المفردات أمكنك رد المختلطات إليها فلست أطول بتعليم وجه التحليل فقد لاح لك بهذه الأمثلة أنه لا يتصور أن ينطق أحد في معرض دليل بكلمة إلا ورجع إلى ما ذكرناه. الفصل الثاني في بيان إن ما يُسمى استقراء وتمثيلا يرجع بالضرورة إلى ما ذكرناه إما الاستقراء فهو عبارة عن تصفح أمور جزئية ليحكم بحكمها على أمر يشتمل تلك الجزئيات، كقولنا في الفقه الوِتر ليس بفرض لأنه يؤدى على الراحلة، فيقال ولِمَ قُلتم إن الفرض لا يؤدّى على الراحلة؟ فنقول عرفنا ذلك بالاستقراء، فإنا رأينا القضاء والأداء والمنذور وسائر أصناف الفرائض لا تؤدى على الراحلة، فعلمنا أن كل فرض لا يؤدى على الراحلة. ووجه دلالة هذا لا تتم إلا بالرد إلى النظم الأول وهو أن نقول كل فرض إما قضاء أو أداء أو نذر، وكل قضاء وأداء ونذر فلا يؤدّى على الراحلة فإذاً كل فرض لا يؤدّى على الراحلة، وهذا مخيل يصلح للظنيات دون القطعيات. والكذب تحت قوله إما أداء فإن حكمه بان كل أداء لا يؤدّى على الراحلة لا يسلّمه الخصم. فإن الوِتر أيضاً أداء كالعصر والصبح، و إنما سلّم الخصم الصلاة الخمس، إما السادس فما سلمه. فنقول وهل استقريت حكم الوِتر في تصفّحك وكيف وجدته؟ فان قلت وجدته لا يؤدّى على الراحلة فالخصم لا يسلّم وإن لم تتصفّحه فلم يتبين لك إلا بعض الأداء، فخرجت المقدمة الثانية عن أن تكون عامة وصارت خاصة، وكان الواجب أن تقول بعض الفرض لا يؤدّى على الراحلة، وذلك لا ينتج فإثا بيّنا أن المقدمة الثانية في النظم الأول ينبغي أن تكون عامة، فإن كانت خاصة لم تنتج. وهذا غلط من قال إن صانع العلم تعالى عن قوله جسم، إذ يقال له لِمَ فيقول لأن كل فاعل جسم، فيقال له فبما عرفت هذا فيقول بالاستقراء، إذ تصفحت الفاعلين من خياط وبنّاء واسكاف وحجام وحداد وغيرهم فوجدتهم أجساماً، فيقال وهل تصفحت صانع العالم، فإن قلت نعم فوجدته جسما فهو محل النزاع، فكيف أدخلته بالمقدمة؟ وإن قلت لا فقد ظهر لك بعض الفاعلين لا كلّهم، فظهر بذلك أن الاستقراء إذا لم يكن تاماً مستوعباً لم يقدران استوعب دخلت فيه النتيجة المطلوبة، ولا يصح ذلك إلا في الظنيات لأنه مهما وجد الأكثر على نمط واحد غلب على الظن أن الآخر كذلك. الفصل الثالث من وجه لزوم النتيجة من المقدمات وهو الذي يعبّر عنه بوجه الدليل، ويلتبس الأمر فيه على الضعفاء ولا يتحققون أن وجه الدليل عين المدلول أو غير. فيقول كل مفردين جمعتهما القوة المفكرة ونسبت أحدهما إلى الآخر بنفي أو إثبات وعرضته على العقل لم يخلُ العقل فيه من أمرين إما أن يصدّق به أو يمتنع عن تصديقه، فان صدّق به فهو الأولى المعلوم بغير واسطة، و يقال انه معلوم بغير دليل وبغير علة وبغير حيلة وبغير نظر وتأمل. وهذه العبارات تؤدي معنى واحداً في هذا المقام، و إن امتنع عن المبادرة إلى التصديق ولا يطمع بعد ذلك في تصديقه إلا بواسطة، وتلك الواسطة هي التي تنسب الحكم إلى المحكوم عليه فيجعل خبراً عنه فيصدق به وينسب إلى الحكم فبجعل الحكم خبراً عنه فيصدق به فيلزمه من ذلك بالضرورة التصديق بنسبة الحكم إلى المحكوم عليه، وبيانه أنا إذا قلنا للعقل هل النبيذ حرام؟ قال لا أدري ولم يصدق به، فعلمنا أنه ليس في الذهن طرف هذه القضية وهو الحرام والنبيذ، فلا بد وأن يطلب واسطة، ربما يصدق العقل بوجوده في النبيذ ويصدق بوجود وصف الحرام لتلك الواسطة فيلزمه التصديق بالمطلوب. فيقول وهل النبيذ مسكر فيقول نعم، إذا كان قد حصل له ذلك بالتجربة، فيقول وهل المسكر حرام فيقول نعم إذا حصل له ذلك بالسماع، فيقول وهل المدرك بالسمع "يعمل بحكمه" قلنا نعم. فإن صدّقت بهاتين القضيتين لزمك التصديق بالثالث وهو أن النبيذ حرام بالضرورة، فيلزمه ذلك ويذعن للتصديق به. فإن قلت هذه القضية ليست خارجة عن القضيتين وليست زائدة عليهما، فاعلم أن ما توهمته حق من وجه وغلط من وجه. إما وجه الغلط فهو أن هذه القضية ثالثة بدليل أنك تقول النبيذ حرام وتقول النبيذ مسكر وتقول المسكر حرام، فليس قولك النبيذ حرام تكرار في المقدمتين بعدهما بل هذه ثلاث مقدمات متباينة اللفظ والمعنى، فعرفت أن النتيجة اللازمة غير المقدمات الملزم بها، وأن الملزمة اثنتان والنتيجة ثالثة سواهما. وأما وجه كونه حقاً فهو أن قولك المسكر حرام شامل لعموم النبيذ الذي هو أحد المسكرات، فقولك النبيذ حرام منطوِ فيه ولكن بالقوة لا بالفعل، إذ قد يحضر العام في الذهن ولا يحضر الخاص، فمن قال الجسم متحيّز لا يخطر بباله ذكر القطب فضلاً عن أن يخطر بباله مع ذلك حكمه بأنه متحيّز، فإذاً النتيجة موجودة في إحدى المقدمتين بالقوة ومعلومة بالفعل، والموجودة بالقوة القريبة ربما يُظن أنها موجودة بالفعل توهماً، فاعلم أن هذه النتَيجة لا تخرج من القوة إلى الفعل بمجرد العلم بمقدمتين ما لم تحضر المقدمتين في الذهن ويخطر بباله وجه وجود النتيجة في المقدمة بالقوة، وإذا تأملت ذلك صارت النتيجة بالفعل، إذ لا يبعد أن ينظر الناظر إلى بغلة منتفخة البطن فيتوهم أنها حامل ولو قيل له هل تعلم أن البغلة عاقر فيقول نعم، فإن قيل له فهل تعلم أن هذه بغلة فيقول نعم، فيقال كيف توهمت أنها حامل فيتعجب هو من توهم نفسه مع علمه بالمقدمتين، أي علمه أن كل بغلة عاقر وهذه بغلة فهي إذاً عاقر والعاقر هي التي لا تحمل، فإذا هي لا تحمل. وانتفاخ البطن له أسباب سوى الحمل فإذاً انتفاخها من سبب اًخر، ولما كان السبب الخاص القريب لحصول النتيجة في الذهن التفطن لوجود النتيجة بالقوة في المقدمة أشكل على الضعفاء، فلم يعرفوا أن وجه الدليل عين المدلول أو غيره. والحق أن المدلول هو المطلوب المنتج وأنه عين التفطن لوجوده في المقدمة بالقوة، لكن هذا التفطن هو سبب حصوله على سبيل التولد عند المعتزلة وعلى سبيل استعداد الذهن بحضور هذه المقدمات مع هذا التفطن لفيضان النتيجة من عند واهب الصور المعقولة الذي هو العقل الفعال عند الفلاسفة، وعلى سبيل تضمن المقدمات للنتيجة بطريق اللزوم الذي لا بد منه عند أكثر أصحابنا المحالف للتولد الذي ذكره المعتزلة، وعلى سبيل حصوله بقدرة الله تعالى عقيب حصول المقدمتين في الذهن، والتفطن لوجه تضمنه له بطريق إجراء الله العادة على وجه يتصور خرقها بأن لا يخلق عقيب تمام النظر عند بعض أصحابنا، ثم ذلك من غير نسبة له إلى القدرة الحادثة عند بعضهم بل بحيث لا تتعلق بها قدرة العبد، و إنما قدرته على استحضار المقدمتين ومطالعة وجه تضمن المقدمة للنتيجة على معنى وجودها فيها بالقوة فقط. فأما صيرورة النتيجة بالفعل فلا تتعلق به القدرة، وعند بعضهم تتعلق به القدرة الحادثة فيكون العلم النظري كسب العبد، وإيضاح الرأي الحق من جملة ذلك لا يليق بما هو النظر الفاسد ما هو، وترى الكتب مشحونة بتطويلات في معنى هذه الألفاظ من غير شفاء. و إنما الكشف يحصل بالطريق الذي سلكناه فقط لا ينبغي أن يكون شغفك بالكلام المعتاد المشهور بل بالكلام المفيد الموضح، وان خالف المعتاد. مغالطة من منكري النظر: وهو أن يقول ما تطلبه بالنظر هو معلوم لك أم لا، فإن علمته فكيف تطلبه وأنت واحد وان جهلته فإذاً وجدته، فبمَ تعرف أنه مطلوبك، وكيف يطلب العبد الآبق من لا يعرفه فإنه لو وجده لم يعرف أنه مطلوبه، وحتها أن تقول أخطأت في نظم دليلك، فإن تقسيمك ليس بحاصر، إذ قلت تعرفه أو لا تعرفه بل هاهنا قسم ثالث وهو إني أعرفه من وجه وأجهله من وجه، وأعني ألان بالمعرفة غير العلم. فإني أفهم مفردات أجزاء المطلوب بطريق المعرفة والتصور وأعلم جملة النتيجة المطلوبة بالقوة لا بالفعل، ولو كنت أعلمه بالفعل لما طلبته ولو لم أعلمه بالقوة لما طمعت في أن أعلمه، إذ ما ليس في قوة عليه يستحيل حصوله كالعلم باجتماع الضدين، ولولا أني أدركه بالمعرفة والتصور لأجزائه المفردة لما كنت أعلم بالظفر بمطلوبي إذا وجدته، وهو كالعبد الآبق فإني أعرف ذاته بالتصور، و إنما أنا طالب مكانه وأنه في البيت الفلاني أم لا، وكونه في البيت أعلمه بالمعرفة والتصور أي لفهم البيت مفرداً وأفهم الكون مفرداً وأعلمه بالقوة، أي في قوة أن أصدّق بكونه في البيت ولكن لست مصدّقاً بالفعل، وإنما أطلب حصوله بالفعل من جهة حاسة البصر، وإذا رأيته في البيت بالمشي إليه صدّقت بكونه في البيت بالفعل، فلولا معرفتي البيت والكون والعبد بطريق التصور للمفردات لما عرفت وجه المطلوب عند رؤية العبد، ولولا أنه في قوة التصديق لما صار بالفعل، فكذلك أطلب أن العالم حادث فأفهم العالم مفرداً بالمعرفة والتصور واعلم الحادث بالمعرفة وفي قوة التصديق بأن العالم حادث فإذا صار بالفعل علمت أنه مطلوبي ولو كان بالفعل لما طلبته. مغالطة أخرى: قال بعض منكري العلم، أتعلم كل اثنين زوج فقيل نعم، فقال فما في يدي زوج أم لا، فإن قلت نعم فبمَ أعرفه والكف مجموع، وإن قلت لا فقد ناقضت قولك، إذ قلت عرفت إن كل اثنين زوج وما في يدي اثنان فكيف لم تعلم أنه زوج، فاجيب عن هذا بأنا عنينا بما ذكرنا أن كل اثنين عرفنا أنهما اثنان فهما زوج، وما في يدك لم أعرف أنه اثنان، ولو عرفت أنه اثنان لقلت أنه زوج. وهذا الجواب مع وضوحه خطأ فإنا إذا قلنا كل اثنين زوج إن أردنا به أن كل الاثنين زوج سواء عرفنا أن ما في يده اثنان أو لم نعرف كان خطأ بل كل ما هو اثنان في نفسه وفي علم الله تعالى فهو بالضرورة زوج، لكن الجواب الحق أن ما بيدك زوج إن كان اثنين، وقولي لا اعرف أنه اثنان لا يناقض قولي كل اثنين زوج بل نقيض قولي كل اثنين زوج قولي كل اثنين فليس بزوج أو بعض ما هو اثنان ليس بزوج. هاتان المغالطتان وإن كانتا من الجليات فإنما أوردتهما ليقع الأنس بتحرير الكلام في حل الإشكالات، فإن الأغاليط في النظريات كلها ثارت من إهمال الجليات والتسامح فيها، ولو أخذت الجليات وحررت ثم تطرق منها إلى ما بعدها تدريجياً حتى لا يخفى قليلاً قليلاً فيتضح الشيء بما قبله على القرب لطاحت المغالطات، ولكن عادة النظار الهجوم على غمرة الأشكال وطلب الأمر الخفي البعيد عن الأوائل الجليّة بعد أن تخللت بينه وبيني الأوائل درجات كثيرة فلا تمتد شهادة الجلي ولا يقوى الذهن على الترقي في المراقي الكثيرة دفعة فتزلُ الأقدام وتعتاص المطالب وتنحطُ العقول، ولذلك ضل أكثر النظار وأضلوا إلا عصابة الحق الذين هداهم الله تعالى بنوره وأرشدهم إلى طريقه. الفصل الرابع في انقسام القياس إلى قياس دلالة وقياس علة إما قياس الدلالة فهو أن يكون الأمر المكرّر في المقدمتين معلولاً ومسبّباً، فإن العلة والمعلول يتلازمان وإن شئت قلت السبب والمسبب وان شئت قلت الموجب والموجب. فان استدللت بالعلة على المعلول فقياسك قياس علة و إن استدللت بالمعلول على العلة فهو قياس دلالة، وكذلك إن استدللت بأحد المعلولين على الآخر مثال قياس العلة من المحسوس بأن تستدل على المطر بالغيم وعلى شبع زيد باكله، فتقول كل من أكل كثيراً فهو بالحال شبعان وزيد قد أكل كثيراً فهو إذاً شبعان. ونعني بالعلة هاهنا السبب الاعتباري، إذ العرض التمثيل، ولا تطلب الحقائق من الأمثلة، المسوقة لتفهيمات مقاصد بعيدة عن الأمثلة، وإن استدللت بالشبع على الأكل كان قياسك قياس دلالة فانك إذا عرفت إن زيداً شبعان حكمت عليه بأنه أكل، فكان نظم قياسك أن كل شبعان فقد ممل من قبل وزيد شبعان فإذاً قد ممل، وكذا ترى امرأة ذات لبن فتقول كل امرأة ذات لبن فهي قد ولدت وهذه ذات لبن فهي إذاً ولدت. ومثاله من الكلام أن تقول كل فعل محكم ففاعله عالم والعالم محكم ففاعله عالم والأحكام مسبب العلم لا سببه فهو دلالة، ولذلك يجوز أن يتأخر الدليل عن المدلول حتى يستدلون بالتيمّم على حكم الوضوء، ولا تتأخر العلة عن المعلول. ومثال قياس العلة في الفقه الاستدلال بالسكر على التحريم كما مضى، وممال الاستدلال بإحدى النتيجتين على الأخرى في الفقه قولنا في الزنا إنه لا يوجب حرمة المصاهرة لأنه وطىء لا يوجب المحرمية وما لا يوجب المحرمية لا يوجب الحرمة وهذا لا يوجب المحرمية فإذاً لا يوجب الحرمة، والمشترك في المقدمتين المقرون بقولنا لأن المحرمية وهي ليست علة الحرمة ولا الحرمة علة لها، بل هما. نتيجتا علة واحدة. وحصول إحدى النتيجتين يدل على الأخرى بواسطة العلة، فإنها تلازم علتها والنتيجة الثانية أيضاً تلازم علتها وملازم الملازم ملازم لا محالة. فإن ظهر أن المحرمية علة الحرمة لم يكن هذا صالحاً لأن يكون مثالاً لغرضنا. وأما مثاله في العادات فجميع الأدلة في علم الفراسة، فإنه يستدل بالخلقة والمزاج على الخلق لا لأن أحدهما علة الآخر ولكن كلاهما بحكم جريان العادة نتيجة علة واحدة، حتى يقال في علم الفراسة الإنسان إذا انضم عظم أعالي يديه وصدره ووجهه إلى عظم عرضه واتساعه كان شجاعاً قياساً على الأسد، والشجاعة واتساع الصدر ليس أحدهما علة للآخر ولكن عرف باستقراء الحيوانات تلازمهما فعلم إن علتهما واحدة وأن أحدهما يدل على الآخر عند شروط آخر مضمومة إليه كما يستقص في ذلك العلم. وقد كان الشافعي رضي الله عنه ماهراً فيه وصادق الحدس في التفرس، وهذا العلم يتداعى إلى عجائب عظيمة حتى إن الناظر في كتف الشاة يستدل بما فيها من الخطوط الحمر على جريان سفك الدماء في السنة وما فيها من النقط على كثرة الأمطار والنبات ويصيب فيها ويعلم قطعاً أن حمرة خطوط كتف الشاة لا تكون علة تقاتل السلاطين ولا النقط فيها علة كثرة النبات والأمطار ولا معلولاً لها، ولكن لا يبعد من عجائب صنع الله تعالى إذ يكون في الأسباب السماوية سبب واحد يتفق في تلك السنة فيكون علة بحكم إجراءِ العادة لحياة في أعضاء الحيوانات وتشكلاتها وفي أسباب كثرة الغيوم وفي أسباب تواحش القلوب التي هي أسباب التقاتل التي هي أسباب سفك الدماء، و إنما يستنكر هذه العلوم الجهال الذين لا خبرة لهم بعجائب صنع الله تعالى واتساع قدرته. الفصل الخامس في حصر مدارك الغلط في القياس اعلم أن الشيطان مسلط على كل ناظر ومشغوف بتلبيس الحق وتغطيته ومصرٌّ على الوفاء بقوله (فبعزتك لأغوينهم أجمعين) والتحذّر منه شديد ولا يتيسر إلا لمن هو في محل استثنائه حيث قال (إلا عبادك منهم المخلصين) جعلنا الله واياك منهم فعليك أن تأخذ في نظرك من الشيطان ووسواسه حذرك. فإن قلت كيف لي به مع ما أنا عليه من الضعف وقع ما هو عليه من التسلط والتمكن حتى أنه ليجري من ابن آدم مجرى الدم، فاعلم أن العقل حزب من أحزاب الله تعالى ذكره وجند من جنوده ما أنعم به عليك إلا لتستعين به على أعدائه ووجه الاستعانة أن تتفقّد بنور العقل وسراجه الزاهر مداخل الشيطان في النظر، وتعلم أن حصن النظر والدليل ما لم ينثلم ركن من أركانه لم يجد الشيطان مدخلاً فإنه لا يدخل إلا من الملم، فإذا أبصرت الملم بنور العقل وسددتها وأحكمت معاقلها انصرف الشيطان خائباً خاسراً واهتديت إلى الحق ونلت بمعرفة الحق درجة القرب من رب العالمين. وجميع الثلم التي هي مداخل الغلط ترجع في القياس إلى سبع جمل لم إن كان لكل واحد تفصيل طويل ونحن نومي إلى الجمل، وذلك، أنك بالضرورة تعلم إن المقدمات القياسية إذا كانت صادقة يقينية وكالت مفردات معارفها وهي الأجزاء الأول محصّلة في العقل بحقائق معانيها دون ألفاظها وكانت المقدمات التي هي الأجزاء الثواني أيضاً متمايزة مفصلة وكانت غير النتيجة وكانت اعرف من النتيجة وكان تأليفها داخلاً في نمط من جملة ما ذكرناه وكان بعد وقوعه في نمط واحد جامعاً للشروط التي شرطناها في ذلك النمط، كان الحكم الذي يلزم منه حقاً وصدقاً لا محالة، فإن لم يكن حقاً فهو لخللِ وقع في هذه الأمور، فلنفصّلها. المدخل الأول: أن لا تكون المقدمات صادقة بل تكون مقبولة بحسن الظن أو وهمية أو مأخوذة من الحس في مظان غلطه، وذلك عند بعدِ مفرط أو قرب مفرط أو اختلال شرط من الشروط الثمانية التي فيها، وأكثر أغاليط النظار من التصديق بالمألوفات والمسموعات في الصبي من الأب والأستاذ وأهل البلد والمشهورين بالفضل، وقد انتهى هذا الداء بطائفة إلى أن صدّقوا. بان الحروف التي ينطقون بها في الحال قديمة ولو سؤلوا عن السنتهم لقالوا هي حادثة، ولو قيل له كيف كان كلامك أكان قبل لسانك أو بعده لقال بعده، فإذا قيل فما هو بعد لسانك كيف يكون قديماً وكيف يكون قديم متأخراً عن حادث لم ينفع هذا معهم. واعلم إن من الأذهان ما فطر فطرة تسارع إلى قبول كل مسموع ثم ينصبغ به انصباغاً لا يمكن البتة انجلاؤه عنه ويكون مثاله كالكاغد الرخو الذي يغوص الحبر في عمقه، فإن أردت محوه لزمك إفساد الكاغد وخرقه، وما دام الكاغد موجوداً كان السواد فيه موجوداً. فهؤلاء أيضاً ما دامت أدمغتهم موجودة كانت هذه الضلالات فيها موجودة لا يقدر البشر على إزالتها. وأما الذين كذبوا بوجود موجود لا يشار إلى جهته ولا يكون داخل العالم ولا خارجه فهم اظهر عذراً وأقرب امراً من هؤلاء ولكنهم أيضا عادلون عن الحق بالإذعان لمقتضى الوهم والعجز عن التمييز بين حكمه وحكم العقل. ومهما قصد رسوخ مثل هذا الاعتقاد في النفوس أعني قدم الحروف ينبغي أن يكرّر ذلك على السمع في الصبا ويختم الوجه عند ذكر منكره ويستعاذ بالله تعالى ويطلق اللسان في ذمه ويقال إن ذلك فولى بعض الكفرة، أعني الذين يفعل بهم في النار كيت وكيت ويخترع على ذلك حكايات، مثل أن يقال إن فلاناً كان ممن يعتقده فأصبح وقد مسخه الله كلباً وان فلاناً يسمع من قبره صياح الكلاب لقوله بكذا وكذا فلا يزال يترسخ في نفس الصبي ذلك على التدريج من حيث لا يشعر كما يرسّخ النقش في الحجر ويتعذر على كل العلماء دواه بعد الكبر مثل العلة المستحكمة التي تجاوز معالجتها قدرة الطبيب، ولا فرق بين مرض القلوب ومرض الأبدان نعوذ بالله منهما. وأما أنت وإن لم ينته تقليدك إلى هذا الحد فأحذر أن تكون من جملة من يعتقد شيئاً خفياً استحسنته وصدّقت به من غير دليل واستبشعت خلافه فأبيت التصديق بضده لكونه شنيعاً قبيحاً. واعلم أن الحق غير الحسن و الشنيع غير الباطل، إذ رب شنيع حق ورب محمود باطل. فإن إنكار كون الله على العرش وكون الحروف قديمة شنيع عند أهله وتجويز ذبح الحيوانات شنيع عند طائفة كما أن أيلام البريء من غير غرض شنيع عند الجماهير، فاحترز من هذه المغاصة تسلم من إحدى مكايد الشيطان واعرض ما صدّقت به على نفسك. فإن كان امتناع التشكك فيه مثل امتناع التشكك في إن الاثنين أكثر من الواحد فاعلم أنه وجه حق. المدخل الثاني: أن يكون الخلل في الصورة وهو أن لا يكون وضعه داخلاً في نمط من الجملة المذكورة، وذلك بأن تكون النتيجة مطلوبة من مقدمة واحدة بالحقيقة، وأعني بها ما ليست من مقدمتين أصلاً أو تكون من مقدمتين بالقوة ولكن ليس فيهما واسطة مكرّرة يقع بها الازدواج والاشتراك. وعدم الاشتراك إن كان في اللفظ والمعنى يسهل دركه، إذ يعلم أنه لا تحصل نتيجة إن قلنا السماء فوقنا والشمس أصغر فإنهما مقدمتان لا يتداخلان. وإذا كان الاشتراك باللفظ لا بالمعنى فلا يكون ذلك إلا بسبب استعمال لفظ مشترك كلفظ المختار وسائر أقسامه التي ذكرناها وان أهملنا بعضها وننبّه الآن على أمور خفية مما أهملناه ليستدل بها على ذلك وهي أربعة: الأول: أن يكون الاشتراك في أداة من الأدوات أو ما يستعمل رابطة في نظم الكلام، كقوله كل ما يعلمه الله فهو كما يعلمه والله يعلم الجوهر فهو إذاً كالجوهر، ووجه الغلط أن هو مشترك الدلالة بجن أن يرجع إلى كل ما تبتين أنه يرجع إلى العالم وبين أن يرجع إلى الله سبحانه وتعالى. وهذا وإن كان هاهنا واضحاً فإنه تخفى أمثاله في مواضع. الثاني: بأن تكون المقدمة بحيث تصدق مجتمعة فيظن أنها تصدق مفترقة بسبب حروف النسق بأن يصدق أن يقال الخمسة زوج وفرد، أي فيه اثنان وثلاثة فيظن أنه يصدق أن يقال هو زوج أيضاً، لأن الواو قد تطلق ويراد بها جميع الاجزاء، كما يقال الإنسان حيوان وجسم وقد تطلق ويراد بها بعض الأجزاء، كالمثال السابق. وكما يقال العالم جواهر وأعراض أي بعضه جواهر وبعضه أعراض. الثالث: ما يصدق مفترقاً، فيظن أنه يصدق مجتمعاً، كما يصح أن يقال زيد بصير أي في الخياطة وزيد جاهل أي في الطب، فقد صدق كل واحد مفرداً، ولو قلت زيد بصير جاهل كان متناقضاً. الرابع: ألفاظ تواطىء المتواطئة من وجه وهو الذي تتناوله الأشياء المتعددة التي تختلف ني الحقائق وتتفق في عوارض لازمة إما قريبة أو بعيدة، كقولك أن فعل العبد مقدور عليه للعبد ولله تعالى أي للعبد كسباً ولله اختراعاً، فكل واحد يشترك في أنه يسقى مقدوراً عليه أعي مقدوراً للعبد ومقدوراً لهّ سبحانه وتعالى، ولكن تعلق قدرة الله تعالى مخالفة لتعلّق قدرة العبد وقدرة الله تعالى مخالفة لقدرة العبد، فإن شبّهت هذا بالمشترك المحض فقد أخطأت، إذ لا شركة بين المسميين كالمشترى ولفظ العين إلا في اللفظ، إذ عبرنا بالشترك عن المختلفات في الحد والحقيقة المتساوية في التلقيب فقط، وها هنا لا بد من اعتقاد مشاركة ما. وإن شبّهت بالمتواطئة فقد ظلمت، فإن المتواطئة هي المتساوية في الحد، فإن السماء والإِنسان والشجر مشترك في الجسمية اشتراكاً واحداً من غير تفاوت البتة إلا في أمر مختلف خارج الجسمية وحدها. وأما هاهنا فوجه تعلق القدرة بالمقدور مختلف فقد عرفت أن الاسم الواحد يعتر به عن شيئين إما بالتواطؤ وإما بالاشتراك، و إما هذا القسم الثالث فبينهما فلنخترع له اسم المردد ليكون بإزاء الأقسام الثلاثة المعقولة ألفاظ ثلاثة معقولة. فهذا وأمثاله إذا وقعت الغفلة عنه خرج القياس عن النمط الذي ذكرناه فلم يكن منتجاً، إذ بطل به ازدواج المقدمتين حيث جعل الحد المشترك ما هو مشترك باللفظ لا بالحقيقة. المدخل الثالث: أن لا يكون نظمه جامعاً للشروط التي ذكرنا بعد وقوع الاشتراك بين المقدمتين بأن ألّف من مقدمتين نافيتين أو جزئيتين، أو كان من النظم الأول ومقدمة المحكوم عليه نافية أو مقدمة الحكم غير عامة، أو كان من النظم الثاني وقد طلب منه نتيجة مثبتة، أو من النظم الثالث وقد طلب منه نتيجة عامة. وقد ذكرنا أمثلة هذا. المدخل الرابع: أن لا تكون مفردات المعارف، أعني الأجزاء الأول متمايزة منفصلة بالحقيقة بل ملتفة مختلطة متضمنة لأمور متعددة، كان تقول مثلاً في مسالة ضمان المنافع بالإتلاف أنها تضمن لأن كل من أتلف مالاً ضمنه وغاصب الدار قد أتلف مالاً فيضمنه، فقوله الغاصب أتلف مالاً ذكر فيه مفردين المال والإِتلاف وطوى تحتهما أموراً كثيرة تلبيساً، إذ لا تصدق هذه المقدمة ما لم يبيّن أن المنافع أولاً موجودة وقد أنكر وجودها بعض الناس ولا يتلف إلا موجود، وثانياً أن يبين أنها باقية إذ الإِتلاف يستدعي البقاء وإلا تما يفني بنفسه كيف يتلف. وثالثاً أنها أموال واًن كل ما يتلف يضمن، فإن من فوت منافع بضائع الأمة كمن غصب بضاعة تاجر وحبسها سنة فمد فوت الربح ولا يضمن. ورابعاً أن يبيّن أنه مال فإن ذلك لا يسلم وذلك بأن يذكر حد المال. وخامساً أن يبين أن كل مال مضمون، فإن الحبة الواحدة مال ولا تضمن. وسادساً أن يبين أن ضمانه ممكن فما لا يمكن ضمانه لا يمكن الحكم به والضمان مثل والمنافع أعراض فلا يمكن مقابلتها بها، ولقوله قد أتلف مالاً مفردان تضمّنا هذه الأمور الكثيرة فلا يدري لعل التلبيس تطرق إلى واحد من هذه المراتب، .ومثاله من الكلام من يثبت حدوث الأعراض مثلاً، فإنا نقول كلما رأيناه الآن في محل ورأينا من قبله ضده فهو حادث، وبياض الشعر مثلاً رأيناه الآن ونرى قبله ضده فهو أيضاً حأدث، فهذا غير كاف ما لم يبين أولاً أن ما يدرك بحاسة البصر فهو كما يدرك، وذلك بان يعرف جميع شروط صحة الإِبصار بالبحث عن الأسباب واستقراء المشاهدات. وثانياً أن يبين إن العرض لم يكن كامناً مستوراً فظهر للبصر الآن فظهوره هو الحادث دون نفسه. وثالثاً أن يبيّن أنه لم يكن في موضع آخر ولا كان قد انتقل فرأى الآن لأنه انتقل الآن فيبطل انتقال العرض وكمونه حتى يتم النظر. المدخل الخامس: أن لا تكون النتيجة غير المقدمة بل عينها ولكن استعمل فيها للتلبيس لفظين مترادفين، كقولك كل بشر إنسان كأنك قلت كل إنسان إنسان، فانهما مترادفان فيصير قولك كل إنسان مكلف وهو مقدمة عين قولك فكل بشر مكلف وهو النتيجة، ومثاله في الفقه أن يقول الحنفي في تبييت النية في زمان رمضان أنه صوم عين فلا يفتقر إلى التبييت كالتطوع، ونظمه أن كل ما هو صوم عين فلا يفتقر إلى التبييت وهذا صوم عين فلا يفتقر إليه. وقوله صوم عين في الأصل مقدمة طُويت فيها بعض أجزاء النتيجة. وبيانه أن يقال ماذا أردت بقولك صوم التطوع صوم عين، فانه لا يسلم فيقول الذليل عليه أن من أصبح غير ناوٍ بالليل صلح يومه للتطوع ولم يصلح لغيره وما يصلح للشيء لا لغيره فهو عين في حقه فكان هذا صوم عين فيقال: إما قولك لا يصلح لغيره فلا يوجب التعيين فإن الليل لا يصلح للصوم ولا يقال إنه عين ولكن نضيف إليه أنه يصلح للتطوع وليس له معنى إلا أنه لا يفتقر إلى التبييت، أي تصح نيته من النهار، وهذا عين الحكم وقد احتجت إلى طلب علته وينبغي أن لا تكون العلة عين الحكم لأن الحكم نتيجة والعلة منتجة والمنتج ينبغي أن يكون غير النتيجة. وقولك تصح نيته من النهار جزء من تفسير قولك أنه صوم عين فصار الحكم جزء من نفس العلة. المدخل السادس: أن تكون المقدمات وهي الأجزاء الثواني متمايزة مفصلة وينطوي تحت هذا أمران: الأول أن لا تكون أجزاء المحكوم به والمحكوم متمايزة بأن يوجد هناك شيء من الموضوع يتوهم أنه من المحمول أو بالعكس، كقولك الجسم بما هو جسم إما أن يكون متحركاً أو ساكناً، فقولك بما هو جسم لا يدري أهو من المحكوم عليه أو من المحكوم. والثاني أن تكون أجزاء المحكوم عليه والمحكوم متمايزة لا يشتبه منها شيء، إلا أنها غير متمايزة في الاتساق، وذلك كما مثلنا به آنفاً من قولنا كل ما علمه اللآله فهو كما علمه والإله يعلم الجوهر فهو إذاً جوهر. وقد قدّمنا لك كيف دخل الخلل في اتساقه. المدخل السابع: أن لا تكون المقدمات أعرف من النتيجة بان تكون مساوية لها بالمعرفة كالنسب الإضافية إذا اخذ بعضها دليلاً على بعض، وذلك كأن تقول زيد أب لعمرو لأن عمراً ابنه. فإن كون عمرو ابناً لزيد وهو المقدّمة مساو في المعرفة لكون زيد أباً له وهو النتيجة. أو أخفى منها سواء كانت مبيّنة في النتيجة أو لا. إما الثاني فكما يقال في الاستدلال على ثبوت واجب الوجود من حدوث العالم وعدم صحة استناد التأثير إلى الحوادث، وغير ذلك مما ثبوت واجب الوجود أظهر منه. وأما الأول فكان تقول كل جسم متحيّز وكل متحيز يقبل التحول فالجسم يقبل التحوّل. فإذا قيل لك ولما قلت أن كل متحيز يقيل التحول قلت لأن الأجسام تقبل التحوّل وهي متحيزة فحكمت بأن كل متحيّز يقبل التحول، فقد جعلت النتيجة دليلاً على الكبرى وقد كانت النتيجة مدلولاً عليها. وهذا هو البيان الدوري و حاصله يرجع إلى بيان الشيء بنفسه وهو محال. فهذه مجامع مداخل الغلط من غير تطويل بالتفصيل وإن كان لا يدرك كُنهه إلا بالتفصيل، ولكن الإيجاز أليق بالحال. فان قلت فهذا مع الإيجاز اشعر بمثارات عظيمة للغلط فكيف الأمان منها مع تراكمها، فاعلم أن الحق عزيز والطريق إليه وعر وأكثر الأبصار مظلمة، والعوائق الصارفة كثيرة والمشوشات للنظر متظاهرة، ولهذا ترى الخلق يتلاطمون تلاطم العميان، وقد انقسموا إلى فرقتين فرقة سابقة بأذهانها إلى المعتقدات على سرعة فيعتقدها يقيناً ويظن كل شبهة ودليل برهاناً ويحسب كل سوداء ثمرة، فهؤلاء يعتقدون أنهم يعلمون الحقائق كلها و إنما العميان خصومهم. وطائفة تنبّهوا لذوق اليقين وعلموا أن ما في الناس فيه في اكثر عمى ثم قصرت قوتهم من سلوك سبيل الحق ومعرفة شروط القياس إما لبلادة في الفهم وإما لفقد أستاذ مرشد بصير بالحقائق غير منخدع بلامع السراب يطلع على جميع شروط البرهان. فهؤلاء يعتقدون أن الناس كلهمَ عميان يتلاطمون وأنه لا يمكن أن يكون في القوة البشرية الاطلاع على الحق وسلوك طريقه، فلا ذاك الأول حق ولا هذا الثاني صدق. و إنما الحق أن الأشياء لها حقيقة وإلى دركها طريق وفي قِوام البشر سلوك ذلك الطريق لو صادف مرشداً بصيراً، ولكن الطريق طويل والمهالك فيها كثيرة والمرشد عزيز فلأجلها صار الطريق عند اكثر مهجوراً، إذ صار مجهولاً. وهكذا يكون مثل هذا الأمر، فإنه مهما عظم المطلوب قلّ المساعد ومهما كثرت المخاوف راع الجبان الخائف، وكيف لا وأكثر العلوم المطلوبة في أسرار صفات الله تعالى و أفعاله تنبني على أدلة تحقيقها يستدعي تأليف مقدمات لعلها تزيد على ألف وألفين، فأين من يقوى ذهنه للاحتواء على جميعها أو حفظ الترتيب فيها، فعليك أيها الأخ بالجد والتشمير. فإن ما أوردته يهديك إلى أوائل الطريق إن شاء الله تعالى. الفصل السادس من القياس في حصر مدارك الأقيسة الفقهية والتنبيه على جمل يزيد الانتفاع بها على مجلدات تحفظ من الأصول الرسمية فنقول الحكم الشرعي تارة يكون مُدّرَكُه أصل العلم وتارة يكون مُدّرَكُه ملحق بأصل العلم. فالمعلوم بأصل العلم كالعلم بوجوب الكفارة على من أفطر بالجماع في نهار رمضان، وبكون الأصل فيه إما قول أو فعل أو إشارة أو تقدير من صاحب الشرع صلوات الله عليه، وليس ذلك تفصيله من غرضنا، و إما الملحق بالأصل فله أقسام وتشترك في أمر واحد وهو أن من ضرورته حذف بعض أوصاف الأصل عن درجة الاعتبار حتى يتّسع الحكم، فإن اتساع الحكم بحذف الأوصاف وأن نقصان الوصف يزيد في الموصوف، أي في عمومه، فإن غير البُر لا يلحق بالبُر ما لم يسقط اعتبار كونه بُراً في حكم الربوي، والحمص لا تلتحق به المكيلات ما لم تحذف اعتبار كونه مطعوماً، والثوب على مذهب أبن الماجشون لا يعتبر به ما لم يسقط اعتبار كونه مقدّراً، وهكذا كل من زاد إلحاقه زاد حذفه. فإذا عرفت. هذا فاعلم أن للإلحاق طريقين: أحدهما ألا يتعرض الملحق إلا لحذف الوصف الفارق بين الملحق والملحق به، فإما العلة الجامعة فلا يتعرض لها البتة، ومع ذلك فيصخ إلحاقه. وهذا له ثلاث درجات أعلاها أن يكون الحكم في الملحق أولى كما إذا قلت جامَعَ الأعرابي أهله فلزمته الكفارة، فمن يزني أولى بان تلزمه، لأن الفارق بين جماع الأهل والأجنبي كونه حلالاً وهذا أولى بالإسقاط والحذف من وجوب الكفارة في الاعتبار والدرجة الثانية أن يكون بطريق المساواة كما قال النبي" مَن اعتق شركاَ من عبدِ قوم عليه الباقي" فقلنا الأمة كذلك من غير أن نبيّن هاهنا علة سراية العتق ، كما لم نبين في المثال السابق علة وجوب الكفارة . ولكن نعلم أنه لا فارق إلا الأنوثة واْن الأنوثة لا مدخل لها في التأثير فيما يرجع إلى حكم الرق وهو ظاهر ، بل ذلك كما لو حكم عليه السلام بالعتق في غلام كبير ، لكنّا نقضي في الصغير ولو قضى في عربي لقضينا في الهندي وعلمنا أنه مساوٍ له . وإذا سجد رسول الله لسهوه في الصبح نعلم أن الظهر وسائر الأوقات في معناه ، إذ اختلاف الوقت نعلم قطعاَ أنه لا يؤثر في جبر النقصان . ولقد زلَ من قال إن إلحاق الأمة بالعبد للقرب ، فإن القرب من الجانبين على وتيرة واحدة . ولو ورد نص في أن الأمة تجبر على النكاح وهو ثابت بالِإجماع لكنّا نقول العبد في معناه . ولكن مأخذ هذا العلم ما تكرّر على أفهامنا من أحكام الشرع وعادته في قضية الرق والعتق أنه يسلك بالذكر والأنثى فبه مسلكاَ واحداً كما يسلك بالأبيض والأسود مسلكاً واحداَ . ولو لم نعرف هذا من عادته بطول ممارسة أحكام العتق والرق لكان لا يتضح ذلك البتة ولم يظهر أنه يسلك بالذكر مسلك الأنثى في عقد النكاح ، فلذلك لم يكن العبد في معنى الأمة في الإجبار . " الرتبة الثانية" أن يكون انحذاف الوصف الفارق مظنوناً لا مقطوعاً به كما تقول إن سراية العتق إلى نصف معين من العبد عند إضافته إلى نصف آخر أو إلى عضو معين كسرايته عند الِإضافة إلى الجزء الثائي، فإنه لا يفارقه إلا في كون المضاف معيّناً وشائعاً . ويكاد يغلب على الظن أن هذا الوصف وهو كون المضاف إليه شائعاَ غير مؤثّر في الحكم ، ولكن ليس هذا معلوماً كحذف وصف الأنوثة ، إذ فرق الشرع في إضافة التصرفات إلى المحال بين الشائع والمعين في البيع والهبة والرهن وغيرها ، وهذا يعارض أن الشائع في العتق والطلاق على الخصوص كالمعيّن في إباء الشرع الاقتصار فيه على البعض واعتبار هذا الوصف كي غير العتق والطلاق ، كاعتبارنا الأنوثة في غير الرق والعتقَ من الشهادات والنكاح والقضاء وغيره ، فيصير الأمر مظنوناً بحسب هذه التخمينات ، وعلى المجتهد أن يتبع فيه ظنه ويقرب منه حذف وصف الجماع حتى تبقى الكفارة منوطة بالإفطار كما قاله مالك . إذ كونه جماعاً يضاهي كونه خبزاَ ولحماً ، ولو أوجب الشرع بأكل الخبز لكنا نقول اللحم والفاكهة والماء في معنى الخبز ، إذ اختلاف آلات الإِفطار لا ينبغي أن يكون لها مدخل في الكفارة وحذف موجب الإزهاق ، حتى يكون الرمح والنشاب والسكين في معنى السيف ، مهما ورد النص بوجوب القصاص في السيف . ولكن يعارضه أن هذه الكفارة شرعت لأن تكون للزجر فيختص بمحل الحاجة والجماع مما يشتد الشبق إليه ويعسر الصبر عنه ولا ينزجر ملابسه عنه إلا بوازع شرعي، ولكن يعارضه أن الخز أيضاَ يشتهي في الصوم ودرجات الشهوة لا تمكن مراعاتها ، إذ يلحق جماع العجوز الشوهاء بالصبية المشتهاة مع التفاوت ، فيجاب عنه بأن ضبط مقادير الشهوات يختلف بالأشخاص والأحوال فلا يمكن ضبطه ، وقد ضبط الشرع جنس الجماع بتخصيصه بالحد وفساد الحج ، فكان ذلك سوراَ فاصلاَ . فهذا مما يتجاذب الظنون ويتنازع به المجتهدين ، فكل ذلك من المسالك المرضية وان لم يذكر الجامع أصلا ولكني أقول هذا وان لم يتعرض للجامع ، وإنما تعرض لحذف الفارق فقط . فلا يتجرأ الذهن على الحكم لحذف الفارق ولا بد من وصف في الأصل يكون المعنى الجامع المعتبر واستنشاق شمه من فرعه . ولكن على الإجمال لا على التجريد والتفصيلْ فلولا أنا عرفنا أن الكفارة وجبت بالجماع لما فيه من هتك الحرمة على الجملة لما تجاسرنا على إلحاق الزنا به ، إذ الافتراق في وصف الحل والحرمة مؤثّر في أكثر أحكام الشرع ، ولكن في التغليظ لا في التخفيف . فلولا أن فهمنا أن الكفارة وجبت بطريق التغليط. لا بطريق الإنعام وشكر النعمة لما ألحقنا الزنا به ، ألا ترى أن الشارع لما علق تحريم أَمر الموطوءة وابنتها بوطئ المرأة في النكاح لم يلحق به الزنا ، مع أن تحريم النكاح نوع حجر يمكن أن يجعل عقوبة ، ولكن لما كان الوطىء في النكاح سنّة ولم تكن العقوبة بها لائقة وصلح هذا الحجر لأن يكون نعمة ، وهو أن يسلك بابنتها وأمها مسلك امرأة نفسه وابنته لتتداخل العشائر وتسهل المخالطة وتنقطع داعية الشهوة حملناه عليه ولم نلحق الزنا به. فبهذا يتحقق أن الذهن لو لم يتطلع على المعاني المعتبرة جملة لما تجرّأ على الحذف، ولكن المتعرّض للجمع في العلة يحتاج إلى تلخيص العلة، وهذا له أن يحكم قبل أن يلخص العلة ويكون عدم التلخيص في العلة من وجهين: أحدهما أن يعلم أصل العلة ولا يعلم خصوص صفاته، كما إنا نحكم أن السهوة في غير الصلاة التي سهي فيها رسول الله في معناها، وإن لم نعرف بعد أن علة السجود جبر النقصان من حيث أنه نقصان أو من حيث أنه سهو فإنه إن كان للنقصان فلو ترك شيئاً من الأبعاض عمداً ينبغي أن يسجد، وإن كان من حيث أنه سهو لم يسجد في العمد وقبل أن يتلخص لنا خصوص هذه الصفات نعلم أن العصر في معنى الظهر. وأما الوجه الثاني فهو أن لا يتعيّن لا أصل العلة ولا وصفها ولكن نعلمها مبهمة من جملة من المعاني، كما أن في الربوي ربما نبين أن الزبيب في معنى التمر قبل أن يتّضح أن العلة هي الكيل أو الطعم أو المالية أو القوت، إذ نعلم أنه كيف كان فالزبيب مشارك له فيه ولا يفارقه إلا في كونه زبيباً. وهذا لا ينبغي أن يؤثر قطعاً، والدليل على أنه لا بد من استشعار حيال المعنى عن بعد وإجمال، حتى يمكن الإِلحاق بأنه نص صاحب الشرع صلوات الله عليه وعلى آله على أن الثوب إذا أصابه بول الصبي كفى الرش عليه، فلولا أنه ذكر إن الصبية بخلافه لكنّا ننازع إلى أنها في معناه، ولكن لما ذكر الصبية وإنها بخلافه حسم علينا باب توهم المعنى. إما ترانا كيف نحكم بمنع المرأة من البول في الماء الراكد أخذا من قوله لا يبولن احدكم في الماء الراكد، والخطاب مع الرجال وإن خطر لك أن النساء يدخلن تحت هذا الخطاب، فقدّر أنه لو قال لرجل لا تبل في الماء الراكد. لكنا نقول ذلك للمرأة لعلمنا بان الشرع بين فضلات بدن الرجال والنساء في النجاسات فما رأينا للأنوثة مدخلاً في النجاسات، وعرف ذلك من الشرع وكان جراءتنا على الشرع للإلحاق لهذا ولتوهمنا أن البول مستقذر وأن الماء معد للتنظيف فلا ينبغي أن يختلط به. فهذه أقسام الطريق الأول وهو أن لا يتعرض الملحق إلا للحذف. إما الطريق الثاني فأن يتعرض للمعنى المعتبر بعينه وعند ذلك لا نحتاج إلى التعرض للفوارق وهذه ثلاثة أقسام: الأول أن يكون المعنى مناسباً كوصف الإِسكار في التحريم والآخر أن يكون مؤثراً كقول أبي حنيفة رضي الله عنه أن بيع المبيع قبل القبض باطل لما فيه من الضرر، وذلك لا يجري في العقار، وزعم أن التعليل بالضرر أولى لأن ذلك ظهر أثره في موضع آخر بالنص وهو بيع الطير في الهواء. وهذا قد قدّرنا وجهه في مسألة بيع العقار قبل القبض في كتاب المبادي والغايات. وأما أقسام المناسب والمؤثر والفرق بينهما فقد ذكرناه في كتاب شفاء العليل في بيان التشبيه والمخيل. القسم الثالث أن لا يكون الجامع مناسباً ولا ممّا ظهر تأثيره بالنص في موضع آخر، ولكنه توهم الاشتمال على معنى مناسب لم يطلع على عينه، كقولنا الوضوء طهارة حكمية فتفتقر إلى النية كالتيمّم. فإنا لا نحصر الفوارق ولا نتعرض لحذفها بل تعرضنا لمعنى جامع، والفوارق كثيرة وليس الجامع مناسباً ولا مؤثراً ولا يغرنك ما توهم من التخيلات في معرض الإخالة من لا يدري ذوق الإخالة، وقدّر أن تلك التخييلات لم تكن، فبدونها تحصل غلبة الظن وهذا أخفى أنواع القياس وأدقها، فربما يخص باسم الشبه، لران كان كل قياس لا ينفك عن شبه من الفرع والأصل ووجه جواز الجكم لمثل هذا يطول تحقيقه فاطلبه إن رغبت فيه في مسئلة الربوي من كتاب المبادي والغايات ومن شفاء الغليل. وهذا القدر كاف في الأقيسة الفقهية ففيه على ايجازه من الفوائد ما لا يعرف قدره إلا من طال في المقاييس الفقهَية تعبه. القسم الثاني من الكتاب في محك الحد قد ذكرنا أن أحد قسمي الإِدراك هو المعرفة، أعني العلم بالمفردات، وان ذلك لا ينال إلا بالحد فلنورد فيه "فنين": أحدهما ما يجري مجرى القوانين والأصول والآخر ما يجري مجرى الامتحانات للقوانين. ما يجري مجرى القوانين والأصول القانون الأول: إن الحد يذكر جوابا عن سؤال في المحاورات ولا يكون الحد جوابا عن كل سؤال بل عن بعضه، والسؤال طلب وله لا محالة مطلب وصيغة والصيغ والمطالب كثيرة ولكن أمهات المطالب أربع: المطلب الأول: مطلب هل، إذ يطلب بهذه الصيغة أمران إما أصل الوجود، كقول القائل هل الله موجود، أو يطلب الموجود بحال وصفة، كقوله هل الله خالق البشر وهل الله حي. المطلب الثاني: مطلب ما، ويُطلق على ثلاثة أوجه: الأول أن يطلب به شرح اللفظ كما يقول من لا بدري العُقار ما العُقار، فيقال له الخمر إذا كان يعرف الخمر. الثاني أن يطلب لفظاً مميّزاً يتميز به المسؤول عنه عن غيره بكلام جامع مانع كيف ما كان الكلام سواء كان عبارة عن لوازمه أو ذاتياته، كقول القائل ما الخمر أي ما حد الخمر، فيقال هو المائع الذي يقذف بالزبد ثم يستحيل إلى الحموضة و يحفظ في الدن، والمقصود أن لا يتعرض لذاتياته، ولكن تجمع من عوارضه ولوازمه ما يساوي بجملته الخمر بحيث لا يخرج عنه خمر ولا يدخل فيه ما ليس بخمر. الثالث أن يقال ما الخمر فيقال هو شراب مسكر معتصر من العنب، فيكون ذلك كاشفاً عن كُنه حقيقته الذاتية، ويتبعه أيضاً أنه تمييز جامع مانع ولكن ليس المقصود التمييز بل تصور كُنه الشيء وحقيقته، ثم التميز يتبعه لا محالة. واسم الحد في العادة قد يُطلق على هذه الأجوبة الثلاثة على سبيل الاشتراك. فلنخترع لكل واحد اسماً ولنسئم الأول حداً لفظياً، إذ السائل ليس يطلب إلا شرح اللفظ، ولنسمَّ الثاني حداً رسمياً وهو طلب مترسم بالعلم غير متشوف إلى درك حقيقة الشيء، ولنسمَّ الثالث جداً حقيقياً إذ مدرك الطالب فيه درك حقيقة الشيء. وهذا الثالث شرطه أن يكون مشتملاً على جميع ذاتيات الشيء. فإنه لو سئل عن حد الحيوان فقال جسم فقد جاء بوصف كاف لو كان ذلك كافياً في الجمع والمنع، ولكنه ناقص بل حقه أن يضيف إليه المتحرك بالإرادة. فإن كُنه حقيقة الحيوان يدركه العقل بمجموع الأمرين. فأما المترسم الطالب للتمييز فيكفيه قولك حساس وإن لم تقل جسم أيضاً. وأما الطلب الثالث: فمطلب لِمَ، وهو سؤال عن العلة وجوابه بالبرهان وقد سبق. وأما الرابع: فهو مطلب أي وهو الذي يطلب تمييز ما عرف جملته عمّا اختلط به، كما إذا قيلَ ما الشجر فقلت إنه جسم، فينبغي أن يقال أي جسم هو فنقول هو نام. وأما مطلب كيف وأين ومتى وسائر صيغ السؤال فداخل في مطلب بل المطلوب به صفة الموجود. القانون الثاني: إن الحاد ينبغي أن يكون بصيراً بالفرق بين الصفات الذاتية واللازمة والعَرَضية كما ذكرناه في الفن الأول من الكتاب، أعني به طالب الحد الحقيقي. إما الأول اللفظي فيتعلق بساذج اللغة، وأما الرسمي فمؤنته قليلة والأمر فيه سهل، فإن طالبه قانع بالجمع والقنع بأي لفظ كان، لص إنما الغويص العزيز الحد الذي سميناه حقيقياً، وليس ذلك إلا ذكر كمال المعاني التي بها قِوام ماهية الشيء، أعني بالماهية ما يطلب القائل بقوله ما هو. وان هذه صيغة طالب لحقيقة الشيء فلا يؤخذ في جواب الماهية إلا الذاتي، والذاتي ينقسم إلى عام يسمى جنساً وإلى أخص ويُسقى فصلاً، و إلى خاص ويُسمى نوعاً. فإن كان الذاتي العام لا أعتم منه يُسمّى جنس الأجناس وان كان الذاتي الخاص لا أخص منه يُسمى نوع الأنواع. وهذا اصطلاح المنطقيين ولنصالحهم على هذا الاصطلاح فلا ضَيرَ فيه. فإنه كالمستعمل أيضاً في علومنا، ومثاله إذا قلنا الجسم ينقسم إلى نام وغير نام، والنامي ينقسم إلى حيوان وغير حيوان، والحيوان ينقسم إلى عاقل وهو الإنسان وإلى غير عاقل كالبهائم. فالجسم جنس الأجناس، إذ لا أعم فوقه والإنسان نوع الأنواع، إذ لا أخص تحته، والنامي نوع بالإضافة إلى، الجسم لأنه أخص منه وجنس بالإِضافة إلى الحيوان لأنه أعم منه. وكذا الحيوان بين النامي الأعم وبين الإنسان الأخص. فإن قيل كيف لا يكون شيء أخص من الإنسان وقولنا شيخ وصبي وطويل وقصير وكاتب وحجام أخص منه. قلنا لم نعنِ في هذا الاصطلاح بالجنس الأعم فقط بل عنينا به الأعم الذي هو ذاتي الشيء، أي هو داخل في جواب ما هو بحيث لو بطل عن الذهن التصديق بثبوته بطل المحدود وحقيقته عن الذهن وخرج عن كونه مفهوماً للعقل، وعلى هذا الاصطلاح فالموجود لا يدخل في الماهية، إذ بطلانه عن الذهن لا يوجب زوال الماهية بيانه إذا قال القائل ما حد المثلث فقلنا سلك تحيط به ثلاثة أضلاع، أو قال ما حد المسبع فقلنا شكل تحيط به سبعة اضلاع، فهمَ السائل حد المسبع ولو لم يعلم إن المسبع موجود أم لا في الحال. فبطلان العلم بوجوده لا يبطل من ذهنه فهم حقيقة المسبع، ولو بطل من ذهنه الشكل لم يبق المسبع مفهوماً عنده، فقد أدركت التفرقة بين نسبة الوجود إليه وبين نسبة الشكل إليه، إذ زوال أحدهما عن الذهن مبطل حقيقته وزوال الآخر غير مبطل، فهذا هو المراد بهذا الاصطلاح. وأما الجوهر فعلى ما نعتقده داخل في الماهية ؟ فأنا نفهم منه المتحيز وهو حقيقة ذاتية، فيكون الجنس الأعم عندنا هو الجوهر وينقسم إلى جسم وغير جسم وهو الجوهر الفرد. وأما المنطقيون فيعبّرون بالجوهر عن الموجود لا في موضع. وإذا لم يكن الوجود ذاتياً فبأن يضاف إليه لا في موضع لا يصير ذاتياً لأنه سلب محض فيصح اصطلاحهم بحسب تفاهمهم واعتقادهم لا بحسب اعتقادنا وتفاهمنا. وأما ما هو أخص من الإنسان من كونه طويلاً وقصيراً وكاتباً ومحترقاً وأبيض وأسود فهو لا يدخل في الماهية، إذ لا يتغير بتغييره الجواب عن طلب الماهية. فإن قيل لنا ما هذا قلنا إنسان وكان صغيراً فكبر وطال وأحمر وأصفر، فسئل مرة أخرى أنه ما هو؟ كان الجواب ذلك بعينه. ولو أشير إلى ما ينفصل من الإحليل عند الوقاع وميل ما هو قلنا نطفة، فإذا صار جنيناً ثم مولوداً فقيل ما هو؟ تغيّر الجواب ولم يحسن أن يقال نطفة بل يقال إنسان. وكذلك الماء إذا سخن فقيل ما هو قلنا إنه ماء كما في حالة البرودة، ولو استحال بخاراً بالنار تغير الجواب. فإذا انقسمت الصفات إلى ما يتبدل الجواب عن الماهية بتبدلها وإلى ما لا يتبدل. فإذاً، قد عرفت بهذا معنى الجنس والنوع والفصل. القانون الثالث: إن ما وقع السؤال عن ماهيته وأردت أن تحدّه حدَّا حقيقًا فعليك فيه وظائف لا يكون الحد حقيقياً إلا بها، فإن تركتها سقيناه رسمياً أو لفظتًا وخرج عن كونه معرباً عن حقيقة الشيء ومصوراً كُنه معناه في نفس السائل الأول أن تجمع أجزاء الحد من الجنس والفصول. فإذا قيل لك مشيراً إلى ما ينبت من الأرض ما هو فلا بد وأن تقول جسم، ولكن لو اقتصرت عليه بطل عليك بالحجر فتحتاج إلى الزيادة فتقول نام فتحترز عن ما لا ينمو، فهذا الاحتراز يُسمّى فصلاً، إذ فصلت به المحدود عن غيره، ثم شرطك أن تذكر جميع ذاتياته و إن كان ألفاً ولا تبالي بالتطويل. ولكن ينبغي أن تقدّم الأعم على الأخص، فلا تقول نام جسم بل بالعكس. وهذا لو تركته تشوش النظم ولم تخرج الحقيقة عن كونها مذكورة مع اضطراب اللفظ والإنكار عليك في ذلك أقل ممّا في الأول. وهو إن تقتصر على الجسم. والثالث انك إذا وجدت الجنس القريب فإيّاك أن تذكر البعيد معه فيكون مكرراً كما تقول مائع شراب، أو تقتصر على البعيد فيكون مبعداً كما إذا قيل ما الخمر فلا تقل جسم مسكر مأخوذ من العنب. و إذا ذكرت هذا فقد ذكرت ما هو ذالي و مطرد ومنعكس ولكنه مخيّل قاصر عن تصور كُنه حقيقة الخمر. بل لو قلت مائع مسكر كان أقرب من الجسم، وهو أيضاً ضعيف. بل ينبغي أن تقول شراب مسكر، فإنه الأقرب الأخص ولا تجد بعده جنساً أخص منه. فإذا ذكرت الجنس فاطلب بعده الفصل، إذ الشراب يتناول سائر الأشربة، واجتهد أن تفصّل بالذاتيات إلا إذا عسر عليك، وهو كذلك في أكثر الحدود، فاعدل بعد ذكر الجنس إلى ذكر اللوازم واجتهد أن يكون ما ذكرته من اللوازم الظاهرة المعروفة؟ فإن الخفي لا يعرف به كما إذا قيل ما الأسد قلت سبع أبخر يتمتز بالبخر عن الكلب، فان البخر من خواصه ولكنه من الخواص الخفية، ولو قلت شجاع عريض الأعالي لكانت هذه اللوازم والأعراض اقرب إلى الفهم لأنها أجلى وأكثر ما يرى في الكتب من الحدود رسمية، إذ الحقيقة عزيزة ورعاية الترتيب حتى لا يبتدي بالأخص قبل الأعم عسمير، وطلب الجنس الأقرب عسير. فإنك ربما تقول في الأسد إنه حيوان شجاع ولا يحضرك لفظ السبع، فتجتمع أنواع من العسر، وأحسن الرسميات ما وضع فيها الجنس الاقرب، وأتتم بالخواص المشهورة المعروفة. الرابع أن تحترز عن الألفاظ الغريبة الوحشية والمجازية البعيدة والمشتركة المترددة، واجتهد في الإيجاز ما قدرت وفي طلب اللفظ النص ما أمكنك، فان أعوزك النص وافتقرت إلى الاستعارة فاطلب من الاستعارات ما هو اشد مناسبة للغرض واذكر مرادك به للسائل. فما كل أمر معقول له عبارة صريحة موضوعة ولو طول مطوّل أو استعار مستعير أو أتى بلفظ مشترك وعرف مراده بالتصريح أو عرف بالقرينة، فلا ينبغي أن يستعظم صنيعه ويبالغ في ذمه إن كان قد كشف الحقيقة بذكر جميع الذاتيات، فانه المقصود وهذه المزايا تحسينات وترتيبات كالأبازير من المقصود. و إنما المتجادلون يستعظمون مثل ذلك ويستنكرونه غاية الاستنكار لميل طباعهم القاصرة عن المقصود للأصل والتوابع، حتى ربما أنكروا قول القائل في حد العلم إنه الثقة بالمعلوم أو إدراك المعلوم من حيث أن الثقة مردًدة بين العلم والأمانة، وهذا المعترض مُهوَّس، فإن الثقة إذا قرنت بالمعلوم تعيق فيه جهة الفهم، ومن قال حد اللون ما يدرك بحاسة العين على وجه كذا وكذا فلا ينبغي أن ينكر هذا لأن العين قد يراد بها الذهب والشمس، فإنه مع قرينة الحاسة ذهب الإِجمال وحصل التفهم الذي هو طلب السؤال. واللفظ غير مراد بعينه في الحد الحقيقي إلا عند المترسم الذي يحوم حول العبارات فيكون اعتراضه عليها وشغفه بها. القانون الرابع: في طريق اقتناص الحد: اعلم أن الحد لا يحصل بالبرهان لأنا إذا قلنا حد الخمر أنها شراب مسكر فقيل لنا لم كان محالاً أن تطلب صحته بالبرهان، لأن قولنا حد الخمر أنها شراب مسكر دعوى هي قضية محكومها الخمر وحكمها أنها شراب مسكر. وهذه القضية إن كانت معلومة بغير وسط فلا حاجة إلى البرهان وان لم تعلم وافترقنا إلى وسط وهو البرهان كان صحة ذلك الوسط للمحكوم عليه وصحة الحكم للوسط كل واحدة قضية واحدة، فبماذا نعرف صحتها ؟ فإن احتيج إلى وسط آخر تداعى إلى غير نهاية وان وقف في موضع بغير وسط فبماذا نعرف في ذلك الموضع صحته فلنتخذ ذلك طريقاً في إدراك الأمر. مثاله لو قلنا حد العلم إنه معرفة فقيل لِمَ، فقلنا لأن كل علم فهو اعتقاد مثلاً وكل اعتقاد فهو معرفة فيقال ولِمَ قلتم كل علم فهو اعتقاد ولِمَ قلتم إن كل اعتقاد فهو معرفة فيصير السؤال سؤالين. وهكذا يتداعى، بل الطريق أن النزاع إن كان فيه من خصم فيقال صحته عرفت باطراده وانعكاسه فهو الذي يسلّم الخصم به بالضرورة. وأما كونه معرباً عن تمام الحقيقة فربما يعاند فيه ولا يعترف به، فان منع اطراده وانعكاسه على أصل نفسه طالبناه بأن يذكر حد نفسه، وقابلنا أحد الحدين بالآخر وعرفنا الوصف الذي فيه يتفاوتان من زيادة أو نقصان وجرّدنا النظر إلى ذلك الوصف وأبطلناه بطريقة أو أثبتناه بطريقة، مثاله إذا قلنا المغصوب مضمون وولد المغصوب مغصوب فكان مضموناً، فيقول الخصم نسلّم أن المغصوب مضمون ولكن لا نسلم أن الولد مغصوب، فنقول الدليل على أنه منصوب أن حد الغصب قد وجد فيه، فإن حد الغصب إثبات اليد العادية على مال الغير وقد وجد، وربما يمنع كون اليد عادية وكونه إثباتاً بل يقول هو ثبوت، ولكن ليس ذلك من غرضنا بل ربما قال أسلّم أن هذا موجود في الولد ولكن لا أسلمّ أن هذا حد العصب، فهذا لا يمكن إقامة البرهان عليه إلا أنا نقول هو مطرد منعكس فما الحد عندك، فلا بد من ذكره حتى ننظر إلى موضع التفاوت فيقول بل حد الغصب إثبات اليد المبطلة المزيلة لليد المحقة، فنقول قد زدت وصفاً وهو الإِزالة. فلننظر هل يمكننا أن نقدر اعتراف الخصم بثبوت الغصب مع عدم هذا الوصف، فان قدرنا عليه كان يقول الزيادة محذوفة، وذلك بأن يقول الغاصب من الغاصب يضمنه المالك، وقد أثبت اليد العادية وما أزال المحقة بل المزال لا يزال، وكان الأول قد أزال اليد المحقة فهذا طريق قطع النزاع، وأما الناظر مع نفسه فإذا تحرّر له الشيء. وتلخص له اللفظ الدال على ما تحرّر في ذهنه علم أنه واجد للحد. القانون الخامس: في حصر مداخل الخلل في الحدود: وهي ثلاثة فإنه تارة يدخل من جهة الجنس وتارة من جهة الفصل وتارة من جهة أمر مشترك بينهما. إما الخلل في الجنس فأن يؤخذ الفصل بدله كما يقال في حد العشق أنه إفراط المحبة، وينبغي أن يقال المحبة المفرطة، فالإفراط يفصلها عن سائر أنواع المحبة. ومن ذلك إن يؤخذ المحل بدل الجنس، كقولك حد الكرسي أنه خشب يجلس عليه، والسيف أنه حديد يقطع به بل ينبغي أن يقال للسيف أنه آلة صناعية من حديد يقطع به، بل ينبغي أن يقال للسيف أنه آلة من حديد مستطيلة مع تقوس ويقطع بها كذا، فالآلة جنس والحديد محل للصورة لا جنس وأبعد منه أن يؤخذ بدل الجنس ما كان وألان ليس بموجود، كقولك الرماد خشب محترق والولد نطفة مستحيلة، فإن الحديد موجود في السيف في الحال والنطفة والخشب غير موجودين في الولد والرماد. ومن ذلك أن يؤخذ الجزء بدل الجنس كما يقدر حد العشرة أنها خمسة وخمسة، ومن ذلك أن يوضع القوة موضع الملكة كما يقال حد العفيف هو الذي يقوى على اجتناب الشهوات واللذات وهو فاسد، بل هو الذي يترك، وإلا فالفاسق أيضاً يقوى على الترك والاجتناب ولا ترك. ومن ذلك أن توضع اللوازم التي ليست ذاتية بدل الجنس كالواحد والموجود إذا أخذته في حد الشمس أو الأرض، ومن ذلك أن يضع النوع مكان الجنس كقولك الشر هو ظلم الناس والظلم نوع من الشره . وأما من جهة الفصل فبأن يأخذ اللوازم والعرضيات في الاحتراز بدلاً عن الذاتيات وأن لا يورد جميع الفصول. وأما القوانين المشتركة فمن ذلك أن تحد الشيء بما هو مساو له في الخفاء أو فرع له، كقولك العلم ما يعلم به أو العلم ما تكون الذات به عالمة. ومن ذلك أن يعرف الضد بالضد فنقول حد العلم ما ليس بظن، ولا شك ولا جهل، وهكذا حتى تحصر الأضداد وحد الزوج ما ليس بفرد فيدور الأمر ولا يحصل به بيان، ومن ذا أن يوجد المضاف في حد المضاف وهما متكافئان في الإضافة، كقول القائل حد الأب من له ابن، ثم لا يعجز أن يقول وحد الابن ما له أب بل ينبغي أن يقول الأب حيوان يولد من نطفته حيوان هو من نوعه فهو أب من حيث هو كذلك، ولا يحيله على الابن، فإنهما في الجهل والمعرفة يتساويان. ومن ذلك أن يؤخذ المعلول في حد العلة مع أنه لا يحدّ المعلول إلا بان تدخل العلة في حدّه، كمن يقول حدّ الشمس أنه كوكب يطلع نهاراً فيقال وما حدّ النهار فيلزم أن يقول النهار هو زمان طلوع الشمس إلى غروبها إن أراد الحد الصحيح ولذلك نظائر يكثر إحصاؤها وسنزيدها شرحاً في الامتحانات. القانون السادس: أن المعنى الذي لا تركيب فيه البتة لا يمكن حدّه إلا بطريق شرح اللفظ أو بطريق الرسم. وأما الحد فلا، ومعنى الفرد مثل الموجود. فإذا قيل لك ما حدّ الوجود فغايتك إن تقول هو الشيء أو الثابت، فتكون قد أبدلت اسماً باسم مرادف له ربما يتساويان في التفهيم وربما يكون أحدهما أخفى في وضع اللسان. كما تقول ما العُقار فيقول هو الخمر وما القَسْورة فيقول هو الأسد. وهذا أيضاً إنما يحسن بشرط أن يكون المذكور في الجواب أشهر عند السائل من المذكور في السؤال، ثم لا يكون إلا شرحاً للفظ، وإلا فمن يطلب تلخيص ذات الأسد فلا يتلخص ذلك في عقله إلا بأن يقول سبع من صفته كيت وكيت. فأما تكرّر الألفاظ المترادفة فلا يغنيه، ولو قلت حد الموجود أنه المعلوم أو المذكور وقيّدته بقيد احترزت به عن المعدوم كنت ذكرت شيئاً من لوازمه وتوابعه. فكان حدّك رسمياً غير معرب عن الذات، فلا يكون حقيقياً. فإذاً الموجود لا حدّ له فإنه مبتدأ كل شرح فكيف يشرح في نفسه. و إنما قلنا المعنى الفرد ليس له حد حقيقي لأن معنى قول القائل ما حدّ الشيء كقولك ما حدّ هذه الدار والدار جهات معدودة إليها ينتهي الحد، فيكون تحديد الدار بذكر جهاتها المتحدة المتعددة التي هي، أعني الدار محصورة متسورة بها، فإذا قيل ما حدّ السواد فكان يطلب به المعاني والحقائق التي بائتلافها تتم حقيقة السواد. فإن السواد سواد ولون وموجود وعرض ومرني ومعلوم وموصوف ومذكور وواحد وكغير ومشرق وبراق وكدر وغير ذلك مما يوصف به من الأصناف، وهذه الصفات بعضها عارض يزول وبعضها لازم لا يزول، ولكن ليست ذاتية ككونه معلوماً وواحداً وكثيراً، وبعضها ذاتي لا يتصور فهم السواد دون فهمه ككونه لوناً. فطالب الحد كأنه يقول إلى كم معنى تنتهي حدود حقيقة السواد لنجمع له تلك المعاني المتعدّدة بتلخيص، بان نبدأ بالأعم ونختم بالأخص ولا نتعرض للعوارض، وربما طلب أن لا يتعرض أيضاً للوازم بل للذاتيات فقط. فإذا لم يكن المعنى مركباً من ذاتيات متعددة كالوجود كيف يتصور تحديده وكان السؤال عنه كقول القائل ما حدّ الكرة ولنقدّر العالم كله على شكل كرة، فلو سئل عن حدّه كما سئل عن حدود الدار كان محالا، إذ ليس له حدود وإنما حدّه منقطعه ومنقطعه سطحه الظاهر وهو سطح واحد متشابه وليس بسطوح مختلفة ولا هي منتهية إلى مختلف، حتى يقال أحد حدوده ينتهي إلى كذا والآخر إلى كذا، فهذا المثال المحسوس ربما يفهم منه مقصدي من هذا الكلام ولا يفهم من قولي إن السواد مركب من معنى اللونية والسوادية لم إن اللونية جنس والسوادية نوع إن في السواد ذات متباينة متفاصلة فلا نقول السواد لون وسواد، بل هو لون ذلك اللون بعينه هو سواد، بل معناه يتركب ويتعدد عند العقل حتى يعقل اللونية مطلقاً ولا تخطر له الزرقة مثلاً ثم يعقل الزرقة فيكون العقل قد عقل أمراً زائداً لا يمكن أن تجحد تفاصيله في الذهن، ولا يمكنه أن يعتقد تفاصيله في الوجود ولا يظنن إن منكر الحال يقدر على حد شيء البتة، لأنه إذا ذكر الجنس واقتصر بطل عليه، وإذا زاد شيئاً للاحتراز فيقال الزيادة عين الأول أو غيره، فان كان عينه فهو تكرر فاطرحه وان كان غيره فقد اعترفت بآمرين. وإذا قال في حد الجوهر إنه موجود قلنا بطل بالعرض. وإذا قال متحيّز قلنا قولك متحيّز مفهومه غير مفهوم الموجود أو عينه، فإن كان عينه فكأنك قلت موجود موجود فإن المترادفة كالمتكررة فهو لم إذاً باطل بالعَرَض. وإن تولك موجود لا يدفع النقض، وقولك متحيّز فهو عينه بالمعنى لا باللفظ. لأن كل لفظ لا يدفع نقضاً، فتكراره لا يدفع ومرادفه لا يدفع، فمهما انتقض قولك أسد بشيء لم يندفع النقض بقولك ليث كما لا يندفع بقولك أسد. فقد عرفت أن المفرد لا يمكن أن يكون له حدّ حقيقي إلا لفظي، كقولك في حدّ الموجود إنه الشيء ؛ أو رسمي كقولك في حدّ الموجود إنه المنقسم إلى الفاعل والمفعول أو الخالق والمخلوق أو القادر والمقدور أو الواحد والكثير أو القديم والحادث أو الباقي والفاني أو ما يشبه من لوازم الموجود وتوابعه. فكل ذلك ليس نبأ عن ذات الوجود بل عن تابع لازم لا يفارق البتة. واعلم أن المركب إذا حدّدته بذكر آحاد الذاتيات توجّه السؤال عن حد الآحاد. فإنك إذا قيل لك ما حدّ الشجر فقلت نبات قائم على ساق فقيل لك ما حدّ النبات فتقول جسم نام، فيقال وما حدّ الجسم فتقول جواهر مؤتلفة، فيقال وما حدّ الجوهر وهكذا. فإن كان مؤلف فيه مفردان وكل مفرد فله حقيقة وحقيقته أيضاً تأتلف من مفردين فلا تظن أن هذا يتمادى إلى غير نهاية بل ينتهي إلى مفردات يعرفها العقل والحس معرفة أولية لا يحتاج إلى طلبه بصيغة الحد. كما إن العلوم التصديقية تطالب بالبرهان عليها وكل برهان من مقدمتين ولا بد لكل مقدمة أيضاً برهان من مقدمتين وهكذا يتسلسل إلى أن ينتهي إلى أوليات، وكما أن في العلوم أوليات فكذا في المعارف. فطالب حدود الأوليات إنما يطلب شرح اللفظ لا الحقيقة. فإن الحقيقة تكون ثابتة في عقله بالفطرة الأولى كثبوت حقيقة الوجود في العقل، فإن طلب الحقيقة فهو معاند وكان كمن يطلب البرهان على إن الاثنين أكثر من الواحد، فهذا ما أردنا إيراده من القوانين بالامتحانات ولنشتغل بحدود ذكرت في فن الكلام والفقه لتحصل بها الدرية بكيفية استعمال القوانين. الفن الثاني من محك الحد في الامتحانان الامتحان الأول: اختلف الناس في حدّ الحد فمن قائل يقول حدّ الشيء هو حقيقته ونفسه وذاته، ومن قائل يقول حدّ الشيء هو اللفظ المفسر لمعناه على وجه يجمع ويمنع، ومن قائل ثالث يقدر هذه مسألة خلافية فينصر أحد الحدين على الآخر وانظر كيف تخبط عقل هذا الثالث فلم يعلم أن الاختلاف إنما يتصور بعد التوارد على شيء واحد، وهذان قد تباينا وتباعدا وما تواردا و إنما منشأ هذا الغلط الذهول عن معرفة الإسم المشترك الذي ذكرناه . فان من يحدّ المختار بأنه القادر على ترك الشيء وفعله ليس مخالفاً لمن يحدّه بأنه الذي خلى ورأيه، كما أن من حدَّ العين بأنه العضو المدرِك للألوان بالرؤية لم يحالف من يحدُ العين بأنه الجوهر المعدني الذي هو أشرف النقود، بل حدَ هذا أمراً متبايناً بحقيقة الأمر الآخر، وإنما اشتركا في اسم العين والمختار فافهم هذا فإنه قانون كثير النفع. فان قلت فما الصحيح عندك في حدّ الحد فاعلم أن من طلب المعاني من الألفاظ ضاع وهلك وكان كمن استدبر المغرب وهو يطلبه. ومن قرّر المعاني أولاً في عقله بلا لفظ ثم أتبع المعاني الألفاظ فقد اهتدى. فلنقرّر المعاني فنقول الشيء له في الوجود أربع مراتب: الأولى حقيقة في نفسه، الثانية ثبوت مثال حقيقته في الذهن، وهو الذي يعتر عنه بالعلم. الثالثة تأليف مثاله بحروف تدل عليه وهي العبارة الدالة على المثال لذي في النفس. والرابعة تأليف رقوم تدرك بحاسة البصر دالة على اللفظ، وهي الكتابة، والكتابة تَبعُ اللفظ، إذ تدل عليه، واللفظ تَبِعُ العلم، إذ يدلى عليه، والعلم تَبِعُ المعلوم، إذ يطابقه ويوافقه. وهذه الأربعة متوافقة متطابقة متوازنة إلا أن الأولين وجودان حقيقيان لا يختلفان بالأعصار والآخريان وهما اللفظ والكتابة تختلف بالأعصار والأمم لأنها موضوعة بالاختيار. ولكن الأوضاع وإن اختلفت صورها فهي متفقة في أنها موضوعة قصد بها مطابقة الحقيقة. ومعلوم أن الحد مأخوذ من المنع، وإنما استعير لهذه المعاني للمشاركة في معنى المنع، فانظر أين تجده في هذه الأربعة. فإن ابتدأت بالحقيقة لم تشك في أنها حاصرة للشيء مخصوصة به، إذ حقيقة كل شيء خاصيته التي له وليست لغيره . فإذاً الحقيقة جامعة مانعة. فان نظرت إلى مثال الحقيقة في الدهن وهو العلم وجدته أيضاً كذلك، لأنه مطابق للحقيقة المانعة. والمطابقة توجب المشاركة في المنع. وإن نظرت إلى العبارة عن العلم وجدتها أيضاً حاصرة، فإنها مطابقة للعلم المطابق للحقيقة والمطابق للمطابق مطابق. وإن نظرت إلى الكتابة وجدتها مطابقة للفظ المطابق للعلم المطابق للحقيقة، فهي أيضاً مطابقة، وقد وجد المنع في الكل إلا إن العادة لم تجرِ بإطلاق اسم الحد على الكتابة التي هي الرابعة ولا على العلم الذي هو الثانية، بل هو مشترك بين حقيقتين. فلا بد وأن يكون له حدان مختلفان كلفظ العين، والمختار ونظائرهما. فإذا عند الإطلاق على نفس الشيء يكون حدّ الحداثة حقيقة الشيء وذاته وعند الإطلاق الثاني يكون حدّ الحد إنه اللفظ الجامع المانع إلا أن الذين أطلقوه على اللفظ أيضاً اصطلاحهم مختلف كما ذكرناه في الحد اللفظي والرسمي والحقيقي. فحدّ الحد عند من يقنع بتكرير اللفظ كقوله الموجود هو الشيء والحركة هي النقلة والعلم هو المعرفة هو تبديل اللفظ لما هو واقع عند السائل على شرط يجمع ويمنع. وأما حدّ الحد عند من يقنع بالرسميات أنه اللفظ الشارحِ للفظ بتعديد صفاته الذاتية واللازمة على وجه يميزه عن غيره تمييزا يطرد وينعكس. وأما حدّه عند من لا يطلق اسم الحد إلا على الحقيقي أنه القول الدال على تمام ماهية الشيء. ولا يحتاج في هذا أن يذكر الطرد والعكس لأن ذلك يتبع الماهية بالضرورة ولا يتعرض للازم والعرضي، فإنه لا يدل على الماهية إلا الذاتيات. فقد عرفت أن اسم الحد مشترك في الاصطلاحات بين الحقيقة وشرح اللفظ والجمع بالعوارض والدلالة على الماهية. وهذه أربعة أمور مختلفة كما دلّ لفظ العين على أمور مختلفة فيعلم صياغة الحد. فإذا ذكر لك اسم وطُلِبَ حدّه فانظر، فإن كان مشتركاً فاطلب عنده المعاني التي فيها الاشتراك، فإن كانت ثلاثة فاطلب ثلاثة حدود، لأن الحقائق اذا اختلفت فلا بد من اختلاف الحدود. فإذا قيل ما الإنسان فلا تطمع في حد واحد، فإن الإنسان مشترك بين أمور، إذ يطلق على إنسان العين وله حد وعلى الإِنسان المعروف وله حد آخر وعلى الإِنسان المصنوع على الحائط المنقوش وله حد آخر وعلى الإِنسان الميت وله حد آخر. فإن الذكر المقطوع واليد المقطوعة تسقى يداً وذكراً لا بالمعنى الذي كان يُسمّى به، إذ كان يُسمّى به من حيث أنها آلة البطش وآلة الوقاع، وبعد القطع يُسمّى به من حيث أن شكله له اسم و لو صنع شكله من خشب أو حجر أعطي اسمه، وكذلك يقال ما حدّ العقل فلا تطمع في أن يحدّ بحد واحد وهو هوس لأنه مشترك يطلق على الغريزة التي يتهيأ بها الإِنسان لدرك العلوم الضرورية، ويطلق على العلوم المستفادة من التجربة، حتى أن من لم تحنكه التجارب بهذا الاعتبار لا يُسمّى عاقلاً، ويطلق على من له وقار وهيبة وسكينة في جلوسه وكلامه وهو عبارة عن الهدوء، فيقال فلان عاقل أي فيه هدوء، وقد يطلق على من جمع إلى العلم العمل حتى أن الفرس وإن كان في غاية من الكياسة يمنع عن تسميته عاقلاً ويقال للحجاج إنه عاقل بل داهية، ولا يقال للكافر وإن كان فاضلاً في جملة من علوم الطب والهندسة إنه عاقل، بل إما داهية و أما فاضل داما كبير. فهكذا تختلف الاصطلاحات فيجب بالضرورة أن تتعدّد الحدود في حد العقل فباعتبار أحد مسمياته إنه بعض العلوم الضرورية بجواز الحائزات واستحالة المستحيلات. وبالاعتبار الثاني إنه غريزة يتهيأ بها النظر في المعقولات، وهكذا بقية الاعتبارات. فإن قلت فأرى الناس يختلفون في الحدود وهذا الكلام يكاد يحيل الخلاف. في الحد افترى أن المتنازعين فيه ليسوا عقلاء. فاعلم أن الخلاف في الحد يتصور في موضعين: أحدهما أن يكون اللفظ بكتاب الله أو سنّة رسوله أو قول إمام من الأئمة، ويكون ذلك اللفظ مشتركاً فيقع النزاع في مراده به، فيكون قد وجد التوارد على مراد القائل والتباين بعد التوارد، فالخلاف تباين بعد التوارد. ولذا فلا نزاع بين من يقول السماء قديم وبين من يقول المغصوب مضمون، إذ لا توارد، ولو كان لفظ الحد من كتاب الله تعالى أو كتاب إمام يجوّز التنازع في مراده ويكون إيضاح ذلك من صنعة التفسير لا من صناعة النظر بالعقل. الثاني أن يقع الخلاف في مسألة أخرى على وجه محقق ويكون المطلوب حدّه أمراً بائناً ولا يحدّ حده على المذهبين فيختلف. كما يقول المعتزلي حدّ العلم اعتقاد الشيء، ونحن نخالفه في ذكر الشيء، فان المعدوم عندنا ليس بشيء، فالخلاف في مسالة أخرى تتعدّى إلى الحد، ولذلك يقول القائل حدّ العقل بعض العلوم الضرورية على وجه كذا، ويخالف من يقول في حدّه انه غريزة يتهيأ بها إدراك المعقولات من حيث أنه ينكر وجود غيره، بل يقول ليس في الإِنسان إلا جسم وفيه حياة وعلوم ضرورية إما غريزية أو مكتسبة وعلوم نظرية، فلا يتميز بها القلب عن العقب والإنسان عن الذباب. فإن الله قادر على خلق العلوم النظرية في العقب وفي الذباب فيثير الخلاف في غير الحد خلافاً في الحد. فهذا وإن أوردناه في معرض الامتحان فقد أفدناك به ما يجري على التحقيق مجرى القوانين. الامتحان الثاني: اختلف في حد العلم فقيل هو المعرفة وهذا حد لفظي وهو أضعف أنواع الحدود، فإنه تكرير لفظ بذكر ما يرادفه. كما يقال حد الحركة النقلة ولا يخرج عن كونه لفظياً بأن يقال معرفة المعلوم على ما هو به لأنه في حكم التطويل والتكرير، إذ المعرفة لا تطلق إلا على ما هو كذلك، فهو كقول القائل حدّ الموجود الشيء الذي له ثبوت ووجود، فان هذا التطويل لا يخرجه عن كونه لفظياً ولست أمنع من أن تسمى مسمى هذا حداً. فلفظ الحد لفظ في اللغة المنع وهو مباح فيستعيره من يريده لما فيه نوع من المنع. فلو سمّى قلنسوة حداً من حيث أنه يمنع البرد لم يمنع من هذا أن كان الحد عنده عبارة عن لفظ مانع، فإن كان عنده عبارة عن قول شارح لماهية الشيء مصور كُنه حقيقته في ذهن السائل فقد ظلم بإطلاق هذا الاسم على قوله العلم هو المعرفة. ولميل أيضاً إنه الذي يعلم به وإنه الذي تكون الذات به عالمة، وهذا الحد أبعد من الأول فإنه مساو له في الخلو عن الشرح والدلالة على الماهية. ولكن قد يتوهم في الأولً شرح اللفظ بأن يكون أحد اللفظيين عند السائل أشهر من الآخر، فشرح الأخفى بالأشهر. إما العالم ويعلم فهو مشتق من نفس العلم ومن أشكل عليه المصدر كيف يتضح لديه المشتق منه والمشتق أخفى من المشتق منه، وهو كقول القائل في حد الفضة إنه الذي تصاغ منه الأواني الفضية. وقيل إنه الوصف الذي يتأتّى للمتصف به إتقان العلم وإحكامه. وهذا ذكر لأزم من لوازم العلم فيكون رسمياً وهذا أبعدهما قبلة من حيث أنه أخص من العلم، فإنه يتناول بعض العلوم ولكن أقرب بوجه اًخر مما تبله وهو أنه ذكر لازم قريب من الذات بعيد شرحاً وبياناً بخلاف قوله ما يعلم به وما تكون الذات به عالمة. فإن قلت فما طريق تحديد العلم عندك فاعلم أن العلم اسم مشترك قد يطلق على الإبصار والإحساس، وله حد بحسبه، وبطلق على التخيل، وله حد آخر بحسبه ويطلق على الظن، وله حد اخر بحسبه ويطلق على علم الله على وجه آخر أعلى وأشرف. ولست أعني أنه أشرف لمجرد العموم فقط بل بالذات والحقيقة. ويطلق على إدراك العقل وحدُه على الخصوص كما ينقدح في الحال أنه سكون الذهن جزماً عن بصيرة إلى الأمر بانه كذا أو ليس كذا والأمر كذلك. ولا يبعد أن يحتاج هذا الجدال إلى مزيد تحرير وتنقيح ليس يتّسع القلب ألان لتضييع الوقت به فعليك بإتمامه، وغرضي ذكر الطريق للحد. تقول يعترضون على هذا الحد بأنك استعملت لفظ السكون وهو مشترك ولفظ الذهن وهو غريب ولفظ البصيرة، وكأنه يشير إلى الاتصال ولا يلتفت إلى المشغوفين بالعبارات المصدوفين بغير الحق عن الحقائق. فاعلم أن السكون إذا قرن بالذهن زال منه الإِجمال، وأن الذهن ذكرته لأني أظنه مفهوماً عندك ولا أمنع من إبداله في حق من لا يعرفه، فقصد الحد الحقيقي تصور كُنه الماهية في نفس المستفيد الطالب باي لفط كان، فإن قلت فهل يتصور أن يكون للشيء الواحد حدان قلت: إما الحد اللفظي فيتصور أن يكون له ألف، وذلك يختلف بكثرة الأسامي في بعض اللغات وقلتها في البعض ويختلف باختلاف الأمم. وأما الحد الرسمي أيضاً فيجوز أن يتعدّد لأن لوازم الأشياء ليست محصورة. وأما الحد الحقيقي فلا يتصور إلا واحداً لأن الذاتيات محصورة، فإن لم يذكرها لم يكن حقيقياً وإن ذكر بعضها فالحد ناقص وان ذكر مع الذاتيات زيادة فالزيادة حشو، فإذاً لا يتعدّد هذا الحد. الامتحان الثالث: قيل في حد العرض ما لا يبقى أو ما يستحيل بقاؤه أو لا يقوم بنفسه، وهذا مختل لأنه ذكر لازم ليس يتعرض للذات، ثم هو لازم سلبي والإثبات أقرب إلى التفهيم. وقيل إنه الذي يعرض في الجوهر، وقولك يعرض كأنه مأخوذ منه العرض وفيه إدخال الجوهر في حدّه وهو أيضاً مما يطلب حدّه، فيمكن إحالته على العرض بأن يقال الذي يقوم به العرض. فليس هذا الفن مرضياً بل نقول طالب هذا الحد كأنه يطلب أن يتفهم ما نريده في اصطلاحنا بهذا الاسم، وإلا فالعَرَض ما ثبتت حقيقته في النفس ثبوتاً أولياً لا يحتاج إلى طلبه بصناعة الحد، إذ بتنا أن من المعارف ما يستغنى في تفهمها عن الحد وإلا يتسلسل الأمر إلى غير نهاية. فنقول له اعلم إن العقل أدرك الوجود ثم أدرك انقسامه إلى ما يستدعى محلاً يقوم به وإلى ما لا يستدعيه، ثم أدرك انقسام القائم بالعين إلى ما يطرأ بعد أن لم يكن وإلى ما لا يكون طارئاً كصفات الله تعالى. فالعَرَض عبارة عن الذي يطرأ بعد أن لم يكن ويستدعي في تحديده في الوقت أنه حادث يستدعي وجوده محلاً يقوم به. والمعتزلة إذ نفوا صفات الباري كان اصطلاحهم لا يستدعي التقييد بالحادث بل يمكن أن يعبّروا به عن كل موجود يقوم بغيره. الامتحان الرابع: قيل في حد الحادث إنه الذي ليس بقديم.فهو هوس، كقول القائل القديم الذي هو ليس بحادث فهو حد الضد بالضد، ويدور الأمر فيه. وقيل إنه الذي تتعلق به القدرة القديمة وهو ذكر لازم غامض لم يدرك إلا بالأدلة. وأما الحادث فمفهوم جلي بغير نظر واستدلال، ومن الضلال البعيد بيان الجليّ بالغامض. ولعَمْري من يطلق اسم الحد على كل لفظ جامع مانع فهذا عنده لا محالة حد. وكذا قوله الحادث ما ليس بقديم. ولكنّا نقول العقل أدرك الوجود ثم أدرك انقسامه إلى ما له أول بمعنى أنه لم يكن موجوداً ثم وجدوا لي ما لا أول له، فالقديم عبارة عن أحد القسمين والحادث الآخر. فنقول الحادث هو الموجود بعد العدم أو الكائن بعد أن لم يكن أو الموجود أو المسبوق بعدم أو الموجود عن عدم. وهذه ليست حدوداً بل الكل حد واحد والعبارات متكرّرة دون المعنى. لا كقول القائل إنه متعلق القدرة الحادثة لأنه حد آخر مفهومه الأول غير مفهوم هذه الحدود يلزم ذلك المفهوم، إذ يلزم متعلق القدرة أن يكون حادثاً وفرق بين المتلازمين وبين الشيء الواحد الذي عنه عبارتان. وقول القائل الموجود عن عدمٍ ليس بصحيح لأنه يقال السرير من الخشب، بمعنى أنه جعل الخشب سريرا والعدم لا يجعل وجوداً. فهذا أمر الاعتراضات النادرة. فإنا لا ننكر بأن لفظ عن مشترك، ولكن بينا أن المشترك إذا فهم بالقرينة التحق بالنص وهو معلوم هاهنا، ولست أمنع من الاجتهاد في الاحتراز عن المشترك فذلك أحسن، وإنما أمنع من استعظام هذا الصنيع الذي لا يعظم عند المحصل. فلا هذا مذموم كل ذلك الذم بعد حصول الفهم، ولا ذلك محمود كل ذلك الحمد؛ لاسيما إذا لم يفد الشرج. بل الأمر أهون، فما الظنون بل قول القائل موجود عن عدم أحمتُ إلي من قوله هو متعلق القدرة. الامتحان الخامس: اختلف في حد المتضادين وليس من غرضي غير الحدود، ولكن العرض أن أفيدك طريق التحديد بعد أن. عينت في التماسك ذلك، فليكن نظرك في الحدود كما أقوله، وهو أن المتضادين دالان على شيئين لا محالة وكل شيئين فينقسمان إلى ما لهما محل و إلى ما لا محل لهما، وكل ما لهما محل فينقسمان إلى ما يجتمعان كالسواد والحركة و إلى ما لا يجتمعان. فينقسم إلى ما يختلف بالحد والحقيقة كالسواد والبياض وإلى ما لا يختلف. والذي لا يختلف أيضاً ينقسم إلى ما لا يجوز أن يكون لواحد عارض أو لازم ليس للآخر بل يسد أحدهما مسد الآخر في كل حال، كالبياضين والسوادين، وبالجملة كالمثلين. والى ما يتحد في الحدود والحقيقة ولا تختلف طباعهما، ولكن لا يسد أحدهما مسد الآخر، كالكونين في مكانين وليس كالكونين في مكان واحد، إذ لا يجتمع في الجوهر في حالة واحدة لا كونان في مكان واحد ولا كون في مكانين. والذي بينهما اختلاف ينقسم إلى ما بينهما غاية الخلاف الذي لا يمكن أن يكون وراءه خلاف كالسواد والبياض والحركة الصاعدة والحركة الهابطة والى ما ليس في الغاية، كمخالفة الماء الحار الفاتر، فإنه أقل من مخالفته للبارد والشديد البرودة، وكمخالفة الحركة يميناً الصاعدة، فإنها أقل من مخالفتها للحركة يساراً، أعني المقابل. فإذا تمهدت في عقلك هذه الأقسام فانظر إلى لفظ المتضادين وأنه كيف وضع الاصطلاح فيه. وأقل الدرجات في المتضادين هما المعنيان اللذان يتعاقبان على محل واحد لا يجتمعان سواء كانا مختلفين أو متماثلين. وقد اصطلح فريق. على إطلاق الاسم على هذا، فيوضع هذا الاسم. سقوا المثلين متضادين، وفريق أخر شرطوا زيادة لإطلاق هذا الاسم وهو أن لا يسد أحدهما مسد الآخر فلم يطلقوه على الكونين في حيّز واحد وأطلقوه على الكونين في حيزين. وفريق ثالث شرطوا زيادة أمر وهو أن يكون بينهما اختلاف في الحد والحقيقة، أي لا يدخل أحدهما في حد الآخر، فإنا إذا حدّينا الكون بأنه اختصاص بالحيّز دخل فيه جميع اكوان، فليس بين الاحياز اختلاف بالطبع ولا بين الأكوان بل هي متشابهة. فهؤلاء لم يسقوا الأكوان متضادة لكن المختلفات كالحرارة والبرودة. وفريق رابع شرطوا زيادة، وهو أن يكون بينهما غاية الخلاف الممكن في ذلك النوع من التضاد، بحيث لا يكون وراءه خلاف، وهؤلاء هم الفلاسفة، وهذا اصطلاحهم، فزعموا أن البياض لا يضاد العودي بل السواد والحار لا يضاد الفاتر بل البارد، فهذا هو الشرح. ونرى جماعة من العميان يتعاورون في هذه الحدود ظانين أن فيها نزاعاً ولا يدركون أن النظر نظران أحدهما في الحقائق المجردة دون الألفاظ وهؤلاء الانقسامات التي ذكرناها أولاً وليس في العقلاء من ينكر شيئاً منها، والثاني في إطلاق الألفاظ والاصطلاحات، وذلك يتعلق بالشبيه. فإن الألفاظ طافحة مباحة لم يثبت من جهة الشرع وقفها على معنى معيّن حتى يمنع من استعمالها على وجه آخر.
ولعمري لو قيل إن واضع اللغة وضعه لشيء في الأصل فهو وقف عليه بالحقيقة ولغيره استعارته هذا لا أمنع منه، ولكن الخوض فيه لا يليق بالمحصل الناظر في المعقولات بل بالأدباء الناظرين في اللغات. وقد ترى الواحد يغتاظ ويقول كيف يستجيز العاقل أن يقول الكونان لا يتضادان ومعلوم أنهما لا يجتمعان وإنما ذلك لما في نفسه من القياس الخطأ الذي لا يشعر به، ونظم ذلك القياس أن قولنا يتضادان وقولنا يجتمعان واحد فكيف يقال يجتمعان ولا يجتمعان، إذ يظهر أن كل ما لا يجتمعان فواجب تسميتهما متضادين، ومعلوم أن الكونيين لا يجتمعان فوجب تسميتهما متضادين، ومن يدري أن وجوب تسمية ما لا يجتمعان متضادين غير ثابت بل التسمية إلى أهل الاصطلاح. الامتحان السادس: قيل في حد الحياة إنها المعنى الذي يستحق من قام به أن يشتق له منه اسم الحي، وهذا من طوايف الحدود فإنه تعريف المعنى بلفظ يطلق على المعنى، ومن قنع بمعل هذا في فهم الحياة فقد رضي من العلوم بقشورها. وقيل ما أوجب كون الحي حياً أو ما كان المحل به حياً. وقد عرفت ما في هذا الجنس. وقيل ما يصح بوجودها العلم أو ما تصح بوجودها القدرة أو الإرادة، وهذا تعريف للشيء بذكر بعض توابعه. فإن قلت فما اختيارك فيه فاعلم أن ذكر ذلك لا يحتمله هذا الكتاب فإن هاهنا نظر في الألفاظ وهي ثلاثة: الحياة والروح والنفس، ونظر في المعاني والحقائق. فإن في الناس من يقول ليس في الإِنسان إلا حياة وهو عرض قائم بجسمه، واسم النفس والروح يرجع إليه. ومنهم من يقول إنه لا بد سوى هذا العرض من شيء هو الروح وهو جسم، لطيف في داخل القلب والدماغ يجري إلى سائر البدن في العروق الضوارب، وأما النفس فليس لها مسمى ثالث. ومنهم من قال هاهنا أمر ثالث وهو موجود قائم بنفسه غير متحيز، والروح الذي هو الجسم اللطيف ومنبعه القلب مدير لسائر أعضاء البدن بواسطته، وانظر كيف اختلف الطريق بهم وكيف يشاهد الاختلاف، فإني أنبهك على أوائله وإن لم يحتمل الكتاب الخوض في غوائله، فاعلم أن الناظر لمّا نظر إلى النطفة وهي جماد لا يحس ولا يتحرك ثم استحال في أطوار الخلق حتى صار يحس ويتحرك عه لم انه حدث فيه ما لم يكن من الإحساس والحركة الإرادية، فظنَ أنه ليس في هذا الوجود إلا الجسم كان جماداً فخلق الله فيه الإِحساس وقدرة الحركة فلم تتحدد إذاً إلا القدرة والحس، وعند ذلك يُسمّى حياً، ويتجدد له هذا الاسم. فكانت الحياة عبارة عن الإحساس والقدرة فقط. ولما نظر إلى اللغات فرأى هذا الجنين وهذا الإنسان في حال السكتة يسمّى حياً ويصدق عليه الاسم وخمّن في نفسه بالوهم الظاهر قبل التحقيق بالبرهان إن هذا الإِنسان في سكتته ليس معه إحساس البتة ولا قدرة، وطلب له مسمى فظنّ أنه ليس هاهنا إلا إمكان خلق الإِحساس فيه وخلق القدرة، فهو من حيث أنه مستعد لقبوله سمي حياً والحياة عبارة عن استعداد فقط، ولكن كان قد استقر في اعتقاده أن الله يقدر أن يخلق الحياة في كل جسم، ولا يوصف الله تعالى بالقدرة على خلق الحس والحركة في الجماد، فسنح له أن لا بد من صفة يفارق بها صاحب السكتة الجماد حتى تصور خلق الحس و القدرة فيه بسببه دون الجماد، فقال الحياة عبارة عن تلك الصفة وأثبت له صفة هي الحياة. فمنهم من قنع بهذا النظر وقدر مع نفسه أنه لا موجود إلا الجسم وصفة يتهيأ المحل بها لقبول الحس والقدرة، ومنهم من جاوز هذا الخبر به بصناعة الطب والاكتفاء به إلى أمور شرعية من صناعة الطب، فدلّ على أن الأخلاط الأربعة بها.بخار لطيف في غاية اللطف. فإن في القلب حرارة غريزية تنضح ذلك البخار وتلطفه وتسرحه قوة في القلب في تجاويف العروق الضوارب إلى سائر البدن، وأن القوة الحساسة تنتهي إلى العين والأذن وسائر الحواس الخمسة في هذا البخار اللطيف السائر بلطفه في سيال الأعصاب، فكان هذا البخار حمّالاً لهذه القوى يجري في سلك العروق ويمد الأجسام اللطيفة التي فيها قوى الإِحساس. وقالوا لو وقعت سدة في بعض المجاري في هذا البخار إما في عصب أو عرق لبطلت الحياة والإحساس من الذي حالت السدة بينه وبين القلب حتى انقطع عنه إمداده فعبّروا عن هذا الهواء اللطيف بالروح، وزعموا أنه سبب بقاء الحياة في أحاد الأعضاء. فثبت عندهم جسم لطيف عبّروا عنه بالروح وحكموا بأنه سبب العَرَض الذي يسقى حياة. وأما التفاتهم إلى الشرع، من حيث قال رسول الله : (أرواح الشهداء في حواصل طيور معلقة تحت العرش.) ولقوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون). فزعموا أنه لم يكن إلا حياة هي عرض وقد انعدم بالموت وجسد الميت بين أيدينا، فما الذي في حواصل طيور خضر وكيف وصف الشهداء بأنهم أحياء والبدن ميت نشاهده والحياة عرض وقد انعدم. وكذلك التفتوا إلى قوله ?في دعائه عند النوم "إن أمسكتها فاغفر لها و إن أرسلتها فاعصمها بما تعصم به عبادك الصالحين" فقالوا: ما الذي يمسك ويرسل والبدن حاضر والحياة عَرَض لا يمكن إرسالها. والتفتوا أيضاً إلى قوله تعَالى (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي) فلمَ لم يذكر لهم أنه عرض كالقدرة والحياة إن لم يكن هاهنا إلا جسم وعرض. وثار عند هذا فريق ثالث وتغلغلوا زيادة تغلغل، وقالوا هذا صحيح ولكن هذه الروح في بدنه، وهناك موجود آخر يعبّر عنه بالنفس من صفته أنه قائم بنفسه لا متحيز نسبته إلى البدن نسبة الله تعالى إلى العالم، لا هو داخل في العالم ولا هو خارج عنه. والتفتوا إلى أن الروح جسم منقسم وأجزاؤه متشابهة. فلو كان هو المدبر المدرك من الإِنسان لكان لكل شخص أرواح كثيرة، واحتمل أن يكون في بعض أجزائها علم بالشيء وفي بعضها جهل بالشيء، فيكون عالماً بالشيء جاهلاً به. فلابد من شيء هو نافذ لا ينقسم، وكل جسم منقسم. وزعموا أن الجسم الذي لا يتجزأ محال ثم التفتوا مع ذلك إلى أن هذه الروح كيف ترسل أو تمسك في حالة النوم، ولو خرجت الروح من البدن في النوم لكان ميتاً لا حياً. ولمّا كانت التخيلات والأحلام ومعرفة الغيب بطريق الرؤية صحيحة زعموا أنه ليس يخرج من النائم جسم ينفصل عنه، فإنه لو عاد إليه لدخل في منفذ. فإن الأجسام لا تتداخل ولو شدّ فم النائم وأنفه أولاً ثم نبّه لتنبه ولاحظوا فيه أموراً آخر لا يمكن احصاؤها وقالوا لو لم يكن إلا الجسم والروح لذكره الشارع. فإن الجسم اللطيف مفهوم و إنما الذي لا يفهم موجود لا خارج البدن ولا داخله والأولون أحالوا هذا، فالنافية إثبات موجود حادث لا داخل البدن ولا خارجه وهو محال. فهذا ترتيب نظرهم. فإن قلت فما الصحيح من ذلك فاعلم أن المسؤول فيه ليس يخلو إما أن يكون غير عالم، فلا يمكن البيان، وإما أن يكون عالماً فلا يحل له الخوض فيه. فإن الروح سر الله تعالى كما أن القِدم سر الله ولم يرخّص رسول الله ?بالخوض في شرحه. وكان من أوصافه في التوراية أنه لا يجيب عن كذا وكذا، أي لا يشرح عن أسرارها، ومن جملته الروح. ولا يظن أن الله تعالى لم يطلعه عليها، فإنه عرف أموراً أعظم منها. والجاهل بالروح جاهل بنفسه فكيف يظن أنه عرف الله وملائكته وأحاط بعلم الأولين والآخرين، وما عرف نفسه، ولكنه كان عبداً فأمر بأمر فاتبع الأمر، فعلى كل مؤمن به ومصدّق له أن يتبعه ويسكت عما سكت عنه عرفه أو لم يعرفه. ولا يبعد أن يكون في أمته من الأولياء والعلماء من كشف له سر هذا الأمر وليس في الشرع برهان على استحالة ذلك، فإن قلت فما الصحيح من العبارات في حد الحياة التي هي عرض. قلنا: إما عند من لا يثبت إلا العرض فاقرب لفظ في تفهيمها أنها الصفة التي بها يتهيأ المحل لقبول الحس والحركة. وأما على مذهب من يثبت النفس والروح فقد يثبتون الحياة أيضاً عرضاً فيوافقون في الحد، وقد يقولون ليس للحياة معنى سوى كون البدن ذا روح ونفس، فإنه يستعد لقبول القدرة والعلم من حيث أنه ذو روح ونفس فقط لا من حيث صفة أخرى، وكونه كذلك لا يزيد على ثبوت النسبة بينه وبين الروح والنفس. كما أن كون الإِنسان متنعلاً لا يزيد على كونه ذا فعل ووجود رجل، وانطباق النعل على الرجل. وكما أن كون العالم عالماً عند من ينكر المعلول والعلة وهو الحق ليس إلا وجود علم في ذات فهذا قدر ما يمكن أن يذكر من أمر الحياة علامة على الحد كمن يبتغي جملاً مسوقاً على علامة باقية من أثر خفه. الامتحان السابع: قد استدعيت كلاماً في حد الحركة والخائضون فيه ضبطهم كثير، فقيل انه الذي لمحله به اسم المتحرك، وقيل إنه الذي تكون الذات به متحركة، وقيل إنه الخروج عن المكان وقد فهمت ما في هذا النمط من فائدة أو غائلة، فإن أردت الحقيقة فعليك بالمنهج الذي ذلّلته لك فلم أكرّره بالامتحان مرة بعدِ أخرى إلا لتألف هذا المسلك البعيد وهو أن تحصل الألفاظ المشهورة وتضعها في جانب من ذهنك، وهاهنا ثلاثة: الكون والحركة والسكون، وتنظر في المعاني المعقولة التي تدل هذه العبارات عليها من غير التفات إلى الألفاظ، فتقول هذا المنظور فيه من فن الأعراض، ونحن نعلم أن العرض ينقسم إلى ما يعبّر عنه بأنه اختصاص جوهر بحيزه وإلى ما لا يعبّر عنه به. واختصاص الجوهر بحيزه ينقسم بالضرورة إلى ما يكون في حالة واحدة والى ما يكون فن أكثر. والذي يكون أكثر ينقسم إلى ما يزيد على حالتين وإلى ما لا يزيد. والذي يكون في حالتين ينقسم إلى ما يكون في حيز واحد وإلى ما يكون في حيزين، وكذا ما يكون في ثلاثة أحوال فصاعداً ينقسم إلى ما يكون في حيز واحد وإلى ما يكون في ثلاثة أحياز. فقد حصل هاهنا للعقل خمسة أقسام كون في حالة وكون في حالتين في حيز واحد وكون في حالتين في حيزين وكون في ثلاثة أحوال في حيّز واحد و كون في ثلاثة أحوال في ثلاثة احياز. وكانت الألفاظ ثلاثة والأقسام خمسة فاختلف الناس في إطلاق تلك الألفاظ على هذه الأقسام. فقال فريق وهو الأقرب إلى الحق، واعني بالحق هاهنا تقريب التعريف والاصطلاح، وإلا فليس في هذا النظم رسم معنوي و إنما هو بحث عن اللفظ الفاشي يعبر بالسكون عن الاختصاص بحيز في حالتين متواصلتين فصاعداً، وبالحركة عن الاختصاص بحيزين في حالتين متواصلتين فصاعداً، وهؤلاء لم يسقوا الجوهر في أول حدوثه لا ساكناً ولا متحركاً فثار عليهم من يأخذ الأمور من بُعد. فقال هذا يؤدي إلى أن يكون جوهر غير ساكن ولا متحرك وهذا محال، والمؤدي إلى المحال محال فسلم الكلام المشهور بين المتكلمين أن الحركة والسكون يتقابلان لا ينفك الجوهر عنهما . ولم يعرف أن الذين قالوا ذلك أرادوا به الذي يبقى مدة يدركه الحس، فالثاني لا يخلو عن حركة وسكون فإنهم فهموا من السكون أشياء، فكيف سموا الاختصاص في الحاة الأولى سكوناً، فإن كان يسمى به باعتبار أنه ليس بمتحرك فليكن متحركاً باعتبار أنه ليس بساكن، أي ليس بلا لبث، وهذا خوض في فصول بلا طائل بعد معرفة المعنى، وثار من بعد خيال آخر وهو أن الحركة إن كانت عبارة عن الكون في المكانين فلا تكون الحركة قط موجودة في حال من الأحوال. لأن الكون في مكانين يكون في آنين، فإن نظرت إلى ألان الأول فالكون الثاني غير موجود وإن نظرت إلى الثاني فلا يكون إلا بعد عدم الأول. وهذا كما إن تبذل السواد والبياض لا يكون موجوداً، أعني نفس التبدّل لأنه ما دام السواد موجوداً فلا تبدّل. وإذا وجد البياض بعد عدم السواد فلا تبدّل. فيكون التبدّل عبارة أُطلقت على أمر معقول يستدعي ثبوته زيادة على إن واحد. فقالوا الحركة لا وجود لها بالفعل في آن البتة وإنما وجودها في زمان ممتد، والزمان لا يوجد منه جزء ما لم يفنَ الذي قبله، فلا يصادف وجوداً إلا في الوهم إما في الخارج فلا. وهؤلاء هم الفلاسفة. وقال أهل الحق لسنا نطلق اسم الحركة عليه من حيث انه كونان في مكانين بل من حيث انه كون في مكان لم يكن قبله و بعده فيه، فألزموا أن الجرم الذي وجد في حالة واحدة لم يكن قبله ولا بعده فيه فزادوا مع وجود الجوهر للاحتراز. وهذا الإطلاق يستدعي صدقه ثلاثة أحوال، فمن يكتفي بحالتين وتكون الحركة عنده عبارة عن كون الجوهر في حيّز لم يكن قبله فيه مع وجوده ، وأعني به الفصل القريب. فهو مسمى حركة من حيث أنه شغل بحيز حصل به مع فراغ الآخر. وأما السكون فهو كون في مكان كان قبله فيه. ومن أراد أن يغيّر هذه العبارات فلا حجر عليه بعد أن يقرّر في عقله الأقسام الخمسة الأول، فإنه بعد ذلك سُنة اللغوي الناظر في الألفاظ لا المتكلم الباحث عن المعاني. ولنختم الامتحانات بذكر حد واحد من حدود الفقهاء والأصوليين. الامتحان الثامن: اختلفوا في حد الواجب فقيل الواجب ما تعلّق به الإيجاب، وقيل ما لا بد من فعله، وقيل ما يثاب على فعله ويعاقب على تركه، وقيل ما يجب بتركه العقاب، وقيل ما لا يجوز الإقدام على تركه، وقيل ما يصير المكتف بتركه عاصياً، وقيل ما يلام تاركه شرعاً. ولو تتبّعت هذه الحدود طال الأمر ففيما قدّمته ما يعرفك وجه الخلل في المختل منها، لكن أهديك إلى الحق الواضح بتمهيد سبيل السلوك، وهو أن تستنهج ما نهجته لك فتعلم أن الألفاظ في هذا الفن خمسة الواجب والمحظور والمندوب والمكروه والمباح. فدع الألفاظ جانباً وجز بالنظر إلى المعنى أولاً، وأنت تعلم أن الواجب اسم مشترك، إذ يطلقه المتكلم في مقابلة الممتنع، ويقول وجود الله واجب، واللغوي على السقوط يقول وجبت جنوبها ويقول وجبت الشمس، فله بكل اعتبار حد آخر. والمطلب ألان مراد الفقهاء، وهذه الألفاظ لا نشك أنها لا تطلق على الجواهر بل على الأعراض، ومن الأعراض على الأفعال فقط، ومن الأفعال على أفعال المكلفين لا أفعال البهائم. فإذاً نظرك إلى أقسام الفعل لا من حيث كونه مقدوراً أو حادثاً أو معلوماً أو مكتسباً أو مخترعاً، وله بحسب كل نسبة انقسامات، إذ عوارض الأفعال ولوازمها كثيرة فلا ننظر فيها، ولكن إطلاق هذا الاسم عليها من حيث نسبتها إلى خطاب الشرع يعلم أن الأفعال تنقسم إلى ما لا يتعلق بها خطاب الشرع كأفعال البهائم والمجانين والى ما يتعلق به، والذي يتعلق به ينقسم إلى ما تعلق به على وجه التخيير والتسوية بين الإِقدام عليه والإحجام عنه، ويسمّى مباحاً، وإلى ما رجّح فعله على تركه، وإلى ما رجّح تركه على فعله. والذي رجح فعله على تركه ينقسم إلى ما أشعر بأنه لا عقاب على تركه ويُسمى مندوباً و إلى ما أشعر بأنه يعاقب على تركه في الدار الآخرة ويسمّى واجباً. وربما اصطلح فريق على تخصيص الواجب بما علم ترجيحه على هذا الوجه قطعاً كالصلوات الخمس المكتوبة دون ما هو مخير فيه، وخصصوا ذاك باسم الفرض ولا حرج في هذا الاصطلاح، فإننا لا ننكر انقسام المرجّح بالعقاب إلى المعلوم والمظنون والاصطلاح مباح فلا مشاحة فيه. وأما المرجح تركه فينقسم إلى ما أشعر بأنه لا عقاب على فعله ويسقى مكروهاً، وقد تكرّر ما أشعر عليه بعقاب في الدنيا، كما قال عليه السلام إما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإِمام أن يحوّل الله رأسه رأس حمار. وقوله من نام بعد العصر فاختلس عقله فلا يلومنّ إلا نفسه. وإلى ما أشعر بعقاب في الآخرة على فعله وهو المسمّى محذوراً أو حراماً أو معصية، فإن قلت ما معنى قولك أشعر، فمعناه أنه عرف بدلالة من خطاب صريح أو قرينة أو معنى مستنبط أو فعل أو إشارة. فالإشعار يعم جميع المدارك، فان قلت ما معنى قولك عليه عقاب فمعناه أن إجرائه سبب للعقاب في الآخرة، فان قلت ما المراد بكونه سببآ فالمراد ما يفهم من.قولنا اسل سبب الشبع وحز الرقبة سبب الموت والضرب سبب الألم، فان قلت فلو كان سبباً لكان لا يرجى العفو بل كان يجب أن يعاقب لا محالة. فأقول ليس كذلك إذ لا يفهم من قولنا الضرب سبب الألم والدواء سبب الشفاء أن ذلك واجب في كل شخص معيّن مشار إليه، بل يجوز أن يفرض في المحل أمور تدفع المسبب، ولا يدل ذلك على بطلان السببية، فربّ دواء لا ينفع وربّ ضرب لا يدرك المضروب ألمه لكونه مشغول النفس بأمر هام، كمن يجرح في حال قتال وهو لا يحس في الحال به، وكما أن العلة قد تستحكم فتدفع أثر الدواء فكذلك قد يكون في سريرة الشخص وباطنه أخلاق رضية وخصال محمودة عند الله مرضية يوجب ذلك العفو عن جريمته ولا يوجب خروج الجريمة عن كونها سبب العقاب. خاتمة الكتاب ثم ألحق به أن قال اعلم أن القدر الذي حرّرته في هذا الكتاب مع صغر حجمه حرّكت به أصولاً عظيمة إن أمعنت في تفهم الكتاب تشرّفت إلى مزيد إيضاح في بعض ما أجملته واشتغلت لحكم الحال عن تفصيله، وذلك التفصيل قد أودعت بعضه كتاب معيار العلوم. إلا أنني لم أفش تلك النسخة ولم تتداولها إلا يدي بعد، لأنها كانت مفتقرة إلى مزيد تهذيب وتنقيح بحذف وزيادة وتحريف، وفد دفعت الأقدار دون تهذيبها فإن استأخر الأجل واندفعت العوائق وانصرفت إليه الهمة وانقطعت على عمارته بتهذيب ما يجب أن يهذب صادفت فيه ما أعوزك ني هذا الكتاب. وأنا الآن مجدد وصيتك بالمواظبة على الدعاء سائلاً من الله تعالى أن يصلح نيتي فيما أتعاطاه من تصنيف كتاب و إفادة علم لأقصد به خالص وجه الله غير ممزوج بحظ من حظوظ الدنيا، وما أخس حال من مهد للخلق سبيل الآخرة وهو إلى الدنيا ملتفت، أو -دعا الخلق إلى الله وهو عنه معرض.
فنعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ونسأل الله تعالى إصلاح أحوالنا وأقوالنا وأفعالنا، فهو ولي الإِجابة بفضله وسعة جوده والحمد لله رب العالمين.نص كبير
================
مشكاة الأنوار
مشكاة الأنوار
المؤلف: أبو حامد الغزالي
====================
محتوى الكتاب
أبو حامد الغزالي
بسم اللَّهِ الرحمن الرحيم
رب أنعمت فزد بفضلك
الحمد لله فائض الأنوار وفاتح الأبصار. وكاشف الأسرار ورافع الأستار. والصلاة على محمد نور الأنوار وسيد الأبرار وحبيب الجبار وبشير الغفار ونذير القهار، وقامع الكفار وفاضح الفجار؛ وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين الأخيار.
أما بعد فقد سألتني أيها الأخ الكريم قيضك الله لطلب السعادة الكبرى، ورشحك للعروج إلى الذروة العليا، وكحل بنور الحقيقة بصيرتك، ونقى عما سوى الحق سريرتك، أن أبث إليك أسرار الأنوار الإلهية مقرونة بتأويل ما يشير إليه ظاهر الآيات المتلوة والأخبار المروية مثل قوله تعالى )اللَهُ نورُ السَمَواتِ وَالأَرضِ( ومعنى تمثيله ذلك بالمشكاة والزجاجة والمصباح والزيت والشجرة، مع قوله عليه السلام (إن لله سبعين حجابا من نور وظلمة وإنه لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل من أدركه بصره).
ولقد ارتقيت بسؤالك مرتقىً صعباً تنخفض دون أعاليه أعين الناظرين؛ وقرعت باباً مغلقا لا يفتح إلا للعلماء الراخسين. ثم ليس كل سر يكشف ويفشى، ولا كل حقيقة تعرض وتجلى، بل صدور الأحرار قبور الأسرار
ولقد قال بعض العارفين (إفشاء سر الربوبية كفر) بل قال سيد الأولين والآخرين ﷺ (إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه الا العلماء بالله). فإذا نطقوا به لم ينكره إلا أهل الغرة بالله، ومهما كثر أهل الاغترار وجب حفظ الأسرار على وجه الإسرار. لكني أراك مشروح الصدر بالله بالنور، منزه السر عن ظلمات الغرور فلا أشح عليك في هذا الفن بالإشارة إلى لوامع ولوائح والرمز إلى حقائق ودقائق.
فليس الخوف في كف العلم عن أهله بأقل منه في بثه إلى غير أهله.
فَمَن مَنَحَ الجُّهالَ عِلماً أَضاعَهُ
وَمَن مَنَعَ المَستوجِبينَ فَقَد ظَلَمَ
فاقنع بإشارات مختصرة وتلويحات موجزة؛ فإن تحقيق القول فيه يستدعي تمهيد أصول وشرح فصول ليس يتسع الآن لها وقتى، وليس ينصرف إليه همي وفكرتي. ومفاتيح القلوب بيد الله يفتحها إذا شاء كما شاء بما يشاء. وإنما الذي ينفتح في الوقت فصول ثلاثة.
الفصل الأول
في بيان أن النور الحق هو الله تعال وأن اسم النور لغيره مجاز محض لا حقيقة له
وبيانه بأن يعرف معنى النور بالوضع الأول عند العوام، ثم بالوضع الثاني عند الخواص، ثم بالوضع الثالث عند خواص الخواص. ثم تعرف درجات الأنوار المذكورة المنسوبة إلى خواص الخواص وحقائقها لينكشف لك عند ظهور درجاتها أن الله تعالى هو النور الأعلى الأقصى، وعند انكشاف حقائقها أنه النور الحق الحقيقي وحده لا شريك له فيه.
أما الوضع الأول عند العامي فالنور يشير إلى ظهوره، والظهور أمر إضافي: إذ يظهر الشيء لا محالة الإنسان ويبطن عن غيره: فيكون ظاهرا بالإضافة وباطنا بالإضافة. وإضافة ظهوره إلى الإدراكات لا محالة. وأقوى الإدراكات وأجلاها عند العوام الحواس، ومنها حاسة البصر.
والأشياء بالإضافة إلى الحس البصري ثلاثة أقسام: منها ما لا يبصر بنفسه كالأجسام المظلمة.
ومنها ما يبصر بنفسه ولا يبصر به غيره كالأجسام المضيئة كالكواكب وجمرة النار إذا لم تكن مشتعلة.
ومنها ما يبصر بنفسه ويبصر به أيضا غيره كالشمس والقمر والسراج والنيران المشتعلة.
والنور اسم لهذا القسم الثالث. تم تارة يطلق على ما يفيض من الأجسام على ظاهر الأجسام الكثيفة، فيقال استنارت الأرض ووقع نور الشمس على الأرض ونور السراج على الحائط والثوب. وتارة يطلق على نفس هذه الأجسام المشرقة لأنها أيضا في نفسها مستنيرة.
وعلى الجملة فالنور عبارة عما يبصر بنفسه ويبصر به غيره كالشمس. هذا حده وحقيقته بالوضع الأول.
دقيقة
لما كان سر النور وروحه هو الظهور للإدراك، وكان الإدراك موقوفا على وجود النور وعلى وجود العين الباصرة أيضا: إذ النور هو الظاهر المظهر؛ وليس شيء من الأنوار ظاهراً في حق العميان ولا مظهرا. فقد تساوى الروح الباصرة والنور الظاهر في كونه ركنا لا بد منه للإدراك ثم ترجح عليه في أن الروح الباصرة هي المدركة وبها الإدراك. وأما النور فليس بمدرك ولا به الإدراك، بل عنده الإدراك. فكان اسم النور بالنور الباصر أحق منه بالنور المبصر.
وأطلقوا إسم النور على نور العين المبصرة فقالوا في الخفاش إن نور عينه ضعيف، وفي الأعمش إنه ضعيف نور بصره، وفي الأعمى إنه فقد نور البصر، وفي السواد إنه يجمع نور البصر ويقويه، وإن الأجفان إنما خصتها الحكمة بلون السواد وجعل العين محفوفة بها لتجمع ضوء العين. وأما البياض فيفرق ضوء العين ويضعف نوره، حتى إن إدامة النظر إلى البياض المشرق، بل إلى نور الشمس يبهر نور العين ويمحقه كما ينمحق الضعيف في جنب القوى.
فقد عرفت بهذا أن الروح الباصر سمى نورا، وأنه لم سمّى نورا، وأنه لم كان بهذا الإسم أولى. وهذا هو الوضع الثاني وهو وضع الخواص.
دقيقة
إعلم أن نور بصر العين موسوم بأنواع النقصان: فإنه يبصر غيره ولا يبصر نفسه، ولا يبصر ما بعد منه، ولا يبصر ما هو وراء حجاب.
ويبصر من الأشياء ظاهرها دون باطنها؛ ويبصر من الموجودات بعضها دون كلها. ويبصر أشياء متناهية ولا يبصر ما لا نهاية له. ويغلط كثيرا في إبصاره: فيرى الكبير صغيرا والبعيد قريبا والساكن متحركا والمتحرك ساكنا.
فهذه سبع نقائص لا تفارق العين الظاهرة. فإن كان في الأعين عين منزهة عن هذه النقائص كلها فليت شعري هل هو أولى باسم النور أم لا.
واعلم أن في قلب الإنسان عينا هذه صفة كمالها وهي التي يعبر عنها تارة بالعقل وتارة بالروح وتارة بالنفس الإنساني. ودع عنك العبارات فإنها إذا كثرت أوهمت عند ضعيف البصيرة كثرة المعاني. فنعني به المعنى الذي يتميز به العاقل عن الطفل الرضيع وعن البهيمة وعن المجنون. ولنسمه (عقلا) متابعة للجمهور في الاصطلاح فنقول: العقل أولى بأن يسمى نورا من العين الظاهرة لرفعة قدره عن النقائص السبع وهو أن العين لا تبصر نفسها، والعقل يدرك غيره ويدرك صفات نفسه: إذ يدرك نفسه عالما وقادرا: ويدرك علم نفسه ويدرك علمه بعلم نفسه وعلمه بعلمه بعلم نفسه إلى غير نهاية. وهذه خاصية لا تتصور لما يدرك بآلة الأجسام. ووراء سر يطول شرحه.
والثاني أن العين لا تبصر ما بعد منها ولا ما قرب منها قربا مفرطا: والعقل يستوي عنده القريب والبعيد: يعرج في تطريفه إلى أعلى السموات رقيا، وينزل في لحظة إلى تخوم الأرضين هربا. بل إذا حقت الحقائق يكشف أنه منزه عن أن تحوم بجنبات قدسه معاني القرب والبعد الذي يفرض بين الأجسام، فإنه أنموذج من نور الله تعالى، ولا يخلو الأنموذج عن محاكاة، وإن كان لا يرقي إلى ذروة المساواة. وهذا ربما هزك للتفطن لسر قوله عليه السلام (إن الله خلق آدم على صورته) فلست أرى الخوض فيه الآن.
الثالث أن العين لا تدرك ما وراء الحجب، والعقل يتصرف في العرش والكرسي وما وراء حجب السموات، وفي الملأ الأعلى والملكوت الأسمى كتصرفه في عالمه الخاص ومملكته القريبة أعني بدنه الخاص. بل الحقائق كلها لا تحتجب عن العقل. وأما حجاب العقل حيث يحجب فمن نفسه لنفسه بسبب صفات هي مقارنة له تضاهي حجاب العين من نفسه عند تغميض الأجفان. وستعرف هذا في الفصل الثالث من الكتاب.
الرابع أن العين تدرك من الأشياء ظاهرها وسطحها الأعلى دون باطنها؛ بل قوالبها وصورها دون حقائقها. والعقل يتغلغل إلى بواطن الأشياء وأسرارها ويدرك حقائقها وأرواحها، ويستنبط سببها وعلتها وغايتها وحكمتها، وأنها من خلق، وكيف خلق، ولم خلق، ومن كم معنى جمع وركب، وعلى أي مرتبة في الوجود نزل، وما نسبته إلى خالقها وما نسبتها إلى سائر مخلوقاته، إلى مباحث أُخر يطول شرحها نرى الإيجاز فيها أولى.
الخامس أن العين تبصر بعض الموجودات إذ تقصر عن جميع المعقولات وعن كثير من المحسوسات: إذ لا تدرك الأصوات والروائح والطعوم والحرارة والبرودة والقوى المدركة: أعني قوة السمع والبصر والشم والذوق، بل الصفات الباطنة النفسانية كالفرح والسرور والغم والحزن والألم واللذة والعشق والشهوة والقدرة والإرادة والعلم إلى غير ذلك من موجودات لا تحصى ولا تعد؛ فهو ضيق المجال مختصر المجرى لا تسعة مجاوزة الألوان والأشكال وهما أخس الموجودات: فإن الأجسام في أصلها أخس أقسام الموجودات، والألوان والأشكال من أخس أعراضها.
فالموجودات كلها مجال العقل؛ إذ يدرك هذه الموجودات التي عددناها وما لم نعدها، وهو الأكثر: فيتصرف في جميعها ويحكم عليها حكما يقينا صادقا. فالأسرار الباطنة عنده ظاهرة، والمعاني الخفية عنده جلية. فمن أين للعين الظاهرة مساماته ومجاراته في استحقاق اسم النور كلا إنها نور بالإضافة إلى غيرها لكنها ظلمة بالإضافة إليه. بل هي جاسوس من جواسيسه وكله بأخس خزائنه وهي خزانة الألوان والأشكال لترفع إلى حضرته أخبارها فيقضي فيها بما يقتضيه رأيه الثاقب وحكمه النافذ.
والحواس الخمس جواسيسه. وله في الباطن جواسيس سواها من خيال ووهم وفكر وذكر وحفظ؛ ووراءهم خدم وجنود مسخرة له في عالمه الخاص يستسخرهم ويتصرف فيهم استسخار الملك عبيده بل أشد. وشرح ذلك يطول.وقد ذكرناه في كتاب (عجاب القلب) من كتاب الإحياء.
السادس ان العين لاتبصر ما لانهاية له،فاإنها تبصر صفات الأجسام والأجسام لاتتصور إلامتناهية.والعقل يدرك المعلومات،والمعلومات لايتصور ان تكون متناهيه.
نعم إذا لاحظ العلوم المفصله فلا يكون الحاظر الحاصل عنده إلا متناهيا.لكن في قوته إدراك ما لانهاية له.وشرح ذلك يطول.
فإن أردت له مثالا فخذه من الجليات، فإنه يدرك الأعداد ولا نهاية لها؛ بل يدرك تضعيفات الإثنين والثلاثة وسائر الأعداد ولا يتصور لها نهاية. ويدرك أنواعا من النسب بين الأعداد لا يتصور التناهي عليها: بل يدرك علمه بالشىء وعلمه بعلمه بالشيء، وعلمه بعلمه بعلمه. فقوته في هذا الواحد لا تقف عند نهاية.
السابع أن العين تبصر الكبير صغيرا، فترى الشمس في مقدار مجن والكواكب في صور دنانير منثورة على بساط أزرق. والعقل يدرك أن الكواكب والشمس أكبر من الأرض أضعافا مضاعفة؛ والعين ترى الكواكب ساكنة، بل ترى الظل بين يديه ساكنا، وترى الصبي ساكنا في مقداره، والعقل يدرك أن الصبي متحرك في النشوء والتزايد على الدوام، والظل متحرك دائما، والكواكب تتحرك في كل لحظ أميالا كثيرة كما قال ﷺ لجبريل عليه السلام: (أزالت الشمس) فقال لا: نعم قال كيف قال (منذ قلت لا إلى أن قلت نعم،: قد تحرك مسيرة خمسمائة سنة).
وأنواع غلط البصر كثيرة، والعقل منزه عنها. فإن قلت: نرى العقلاء يغلطون في نظرهم فاعلم أن فيهم خيالات وأوهاما واعتقادات يظنون أحكامها أحكام العقل؛ فالغلط منسوب إليها. وقد شرحنا مجامعها في كتاب (معيار العلم) وكتاب (محك النظر).
فأما العقل إذا تجرد عن غشاوة الوهم والخيال لم يتصور أن يغلط؛ بل رأى الأشياء على ما هي عليه، وفي تجريده عسر عظيم. وإنما يكمل تجرده عن هذه النوازع بعد الموت، وعند ذلك ينكشف الغطاء وتنجلي الأسرار ويصادف كل أحد ما قدم من خير أو شر محضرا؛ ويشاهد كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وعنده يقال، فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد. وإنما الغطاء غطاء الخيال والوهم وغيرهما؛ وعنده يقول المغرور بأوهامه واعتقاداته الفاسدة وخيالاته الباطلة )رَبَّنا أَبصَرنا وَسَمِعنا فَاَرجِعنا نَعمَل صالِحاً( الآية.
فقد عرفت بهذا أن العين أولى باسم النور من النور المعروف، ثم عرفت أن العقل أولى باسم النور من العين. بل بينهما من التفاوت ما يصح معه أن يقال إنه أولى بل الحق أنه المستحق للاسم دونه.
دقيقة
اعلم أن العقول وإن كانت مبصرة، فليست المبصرات كلها عندها على وتيرة واحدة، بل بعضها يكون عندها كأنه حاضر كالعلوم الضرورية مثل علمه بأن الشيء الواحد لا يكون قديما حادثا ولا يكون موجودا معدوما، والقول الواحد لا يكون صدقا وكذبا، وأن الحكم إذا ثبت للشيء جوازه ثبت لمثله، وأن الأخص إذا كان موجودا كان الأعم واجب الوجود: فإذا وجد السواد فقد وجد اللون، وإذا وجد الإنسان فقد وجد الحيوان. وأما عكسه فلا يلزم في العقل، إذ لا يلزم من وجود اللون وجود السواد ولا من وجود الحيوان وجود لإنسان إلى غير ذلك من القضايا الضرورية في الواجبات والجائزات والمستحيلات. ومنها ما لا يقارن العقل في كل حال إذا عرض عليه بل يحتاج إلى أن يهز أعطافه ويستوري زناده وينبه عليه بالتنبيه كالنظريات. وإنما ينبهه كلام الحكمة، فعند إشراق نور الحكمة يصير العقل مبصرا بالفعل بعد أن كان مبصرا بالقوة. وأعظم الحكمة كلام الله تعالى. ومن جملة كلامه القرآن خاصة، فتكون منزلة آيات القرآن عند عين العقل منزلة نور الشمس عند العين الظاهرة إذ به يتم الإبصار. فبالحرىّ أن يسمى القرآن نورا كما يسمى نور الشمس نورا فمثال القرآن نور الشمس ومثال العقل نور العين. وبهذا نفهم معنى قوله: )فَآمِنوا بِاللَهِ وَرَسولِهِ وَالنورِ الَّذي أَنزَلنا)، وقوله: (قَد جاءَكُم بُرهانٌ مِن رَبِكُم وَأَنزَلنا إِليكُم نوراً مُّبيناً(.
تكملة هذه الدقيقة
فقد فهمت من هذا أن العين عينان: ظاهرة وباطنة: فالظاهرة من عالم الحس والشهادة، والباطنة من عالم آخر وهو عالم الملكوت. ولكل عين من العينين شمس ونور عنده تصير كاملة الإبصار إحداهما ظاهرة والأخرى باطنة؛ والظاهرة من عالم الشهادة وهي الشمس المحسوسة. والباطنة من عالم الملكوت وهو القرآن وكتب الله تعالى المنزلة.
ومهما انكشف لك هذا انكشافا تاما فقد انفتح لك أول باب من أبواب الملكوت. وفي هذا العالم عجائب يستحقر بالإضافة إليها عالم الشهادة. وإن لم يسافر إلى هذا العالم، وقعد به القصور في حضيض عالم الشهادة فهو بهيمة بعد، محروم عن خاصية الإنسانية؛ بل أضل من البهيمة إذ لم تسعد البهيمة بأجنحة الطيران إلى هذا العالم. ولذلك قال الله تعالى: (أُولَئِكَ كالأَنعامِ بَل هُم أَضَلُّ).
وأعلم أن الشهادة بالإضافة إلى عالم الملكوت كالقشر بالإضافة إلى اللب، وكالصورة والقالب بالإضافة إلى الروح، وكالظلمة بالإضافة إلى النور، كالسفل بالإضافة إلى العلو. ولذلك يسمى عالم الملكوت العالم العلوي والعالم الروحاني والعالم النوراني. وفي مقابلته السفلي والجسماني والظلماني.
ولا تظن أنّا نعني بالعالم العلوي السموات فإنها علو وفوق في حق عالم الشهادة والحس، ويشارك في إدراكه البهائم. وأما العبد فلا يفتح له باب الملكوت ولا يصير ملكوتيا إلا ويبدل في حقه الأرض غير الأرض والسموات فيصير كل داخل تحت الحس والخيال أرضه ومن جملة السموات، وكل ما ارتفع عن الحس فسماؤه وهذا هو المعراج الأول لكل سالك ابتدأ سفره إلى قرب الحضرة الربوبية. فالإنسان مردود إلى أسفل السافلين، ومنه يترقى إلى العالم الأعلى. وأما الملائكة فإنهم جملة عالم الملكوت عاكفون في حضرة القدوس، ومنها يشرفون إلى العالم الأسفل. ولذلك قال عليه السلام (إن الله خلق الخلق في ظلمة ثم أفاض عليهم من نوره) وقال: (إن لله ملائكة هو أعلم بأعمال الناس منهم) والأنبياء إذا بلغ معراجهم المبلغ الأقصى وأشرقوا منه إلى السفل ونظروا من فوق إلى تحت اطلعوا أيضا على قلوب العباد وأشرفوا على جملة من علوم الغيب: إذ من كان في عالم الملكوت كان عند الله تعالى - )وَعِندَهُ مَفاتِحُ الغَيبِ( أي من عنده تنزل أسباب الموجودات في عالم الشهادة؛ وعالم الشهادة أثر من آثار ذلك العالم، يجري منه مجرى الظل بالإضافة إلى السبب. ومفاتيح معرفة المسببات لا توجد إلا من الأسباب، ولذلك كان عالم الشهادة مثالا لعالم الملكوت كما سيأتي في بيان المشكاة والمصباح والشجرة: لأن المسبب لا يخلو عن موازاة السبب ومحاكاته نوعا من المحاكاة على قرب أو على بعد.
وهذا لأن له غورا عميقا ومن اطلع على كنه حقيقته انكشف له حقائق أمثلة القرآن على يسر.
دقيقة ترجع إلى حقيقة النور
فنقول إن كان ما يبصر نفسه وغيره أولى باسم النور، فإن كان من جملة ما يبصر به غيره أيضا مع أنه يبصر نفسه وغيره، فهو أولى، باسم النور من الذي لا يؤثر في غيره أصلا، بل بالحري أن يسمى سراجا منيرا لفيضان أنواره على غيره. وهذه الخاصية توجد للروح القدسي النبوي إذ تفيض بواسطته أنواع المعارف على الخلائق. وبهذا نفهم معنى تسمية الله محمدا عليه السلام سراجا منيرا. والأنبياء كلهم سرج، وكذلك العلماء. ولكن التفاوت بينهم لا يحصى.
دقيقة
إذا كان اللائق بالذي يستفاد منه نور الإبصار أن يسمى سراجا منيرا فالذي يقتبس منه السراج في نفسه جدير بأن يكنى عنه بالنار. وهذه السرج الأرضية إنما تقتبس في أصلها من أنوار علوية. فالروح القدسي النبوي يكاد زيته يضىء ولو لم تمسسه نار. ولكن إنما يصير نورا على نور إذا مسته النار.
وبالحرىّ أن يكون مقتبس الأرواح الأرضية هي الروح الإلهية العلوية التي وصفها علي وابن عباس رضي الله عنهما فقالا: (إن لله ملكا) له سبعون ألف وجه في كل وجه سبعون ألف لسان يسبح الله بجميعها) وهو الذي قوبل بالملائكة كلهم فقيل يوم القيامة )يَومَ يَقومُ الرّوحُ والمَلائِكةُ صَفّاً( فهي إذا اعتبرت من حيث يقتبس منها السّرج الأرضية لم يكن لها مثال إلا النار، وذلك لا يؤانس إلا من جانب الطور.
دقيقة
الأنوار السماوية التي تقتبس منها الأنوار الأرضية إن كان لها ترتيب بحيث يقتبس بعضها من بعض، فالأقرب من المنبع الأول أولى باسم النور لأنه أعلى رتبة. ومثال ترتيبه في عالم الشهادة لا تدركه إلا بأن يفرض ضوء القمر داخلا في كوة بيت واقعا على مرآة منصوبة على حائط، ومنعكسا منها إلى حائط آخر في مقابلتها ثم منعطفا منه إلى الأرض بحيث تستنير الأرض. فأنت تعلم أن ما على الأرض من النور تابع لما على الحائط وما على الحائط تابع لما على المرآة، وما على المرآة تابع لما في القمر، وما في القمر تابع لما في الشمس: إذ منها يشرق النور على القمر. وهذه الأنوار الأربعة مرتبة بعضها أعلى وأكمل من بعض، ولكل واحد مقام معلوم ودرجة خاصة لا يتعداها.
فاعلم أنه قد انكشف لأرباب البصائر أن الأنوار الملكوتية إنما وجدت على ترتيب كذلك، وأن المقرب هو الأقرب إلى النور الأقصى. فلا يبعد أن تكون رتبة إسرافيل فوق رتبة جبريل، وأن فيهم الأقرب لقرب درجته من حضرة الربوبية التي هي منبع الأنوار كلها، وأن فيهم الأدنى، وبينهما درجات تستعصي على الإحصاء. وإنما المعلوم كثرتهم وترتيبهم في مقاماتهم وصفوفهم، وأنهم كما وصفوا به أنفسهم إذ قالوا: )وَإِنّا لَنَحنُ الصافّون. وَإِنّا لَنَحنُ المُسَبِحونَ(.
دقيقة
إذا عرفت أن الأنوار لها ترتيب فاعلم أنه لا يتسلسل إلى غير نهاية، بل يرتقي إلى منبع أول هو النور لذاته وبذاته، ليس يأتيه نور من غيره، ومنه تشرق الأنوار كلها على ترتيبها. فانظر الآن اسم النور أحق وأولى بالمستنير المستعير نوره من غيره، أو بالنير في ذاته المنير لكل ما سواه فما عندي أنه يخفى عليك الحق فيه. وبه يتحقق أن اسم النور أحق بالنور الأقصى الأعلى الذي لا نور فوقه، ومنه ينزل النور إلى غيره.
حقيقة
بل أقول ولا أبالي إن اسم النور على غير النور الأول مجاز محض: إذ كل ما سواه إذا اعتبر ذاته فهو في ذاته من حيث ذاته لا نور له: بل نورانيته مستعارة من غيره ولا قوام لنورانيته المستعارى بنفسها، بل بغيرها. ونسبة المستعار إلى المستعير مجاز محض. أفترى أن من استعار ثيابا وفرسا ومركبا وسرجا، وركبه في الوقت الذي أركبه المعير، وعلى الحد الذي رسمه، غنى بالحقيقة أو بالمجاز? وأن المعير هو الغنى أو المستعير? كلا، بل المستعير فقير في نفسه كما كان. وإنما الغنى هو المعير الذي منه الإعارة والإعطاء، وإليه الاسترداد والانتزاع. فإذن النور الحق هو الذي بيده الخلق والأمر، ومنه الإنارة أولا والإدامة ثانيا. فلا شركة لأحد معه في حقيقة هذا الاسم ولا في استحقاقه إلا من حيث يسميه به ويتفضل عليه بتسميته تفضل المالك على عبده إذا أعطاه مالا ثم سماه مالكا. وإذا انكشف للعبد الحقيقة علم أنه وماله لمالكه على التفرد لا شريك له فيه أصلا وألبتة.
مهما عرفت أن النور يرجع إلى الظهور وإلإظهار ومراتبه، فاعلم أنه لا ظلمة أشد من كتم العدم: لأن المظلم سمى مظلما لأنه ليس للإبصار إليه وصول، إذ ليس يصير موجودا للبصير مع أنه موجود في نفسه.
فالذي ليس موجودا لا لغيره ولا لنفسه كيف لا يستحق أن يكون هو الغاية في الظلمة وفي مقابلته الوجود فهو النور: فإن الشيء ما لم يظهر في ذاته لا يظهر لغيره.
والوجود ينقسم إلى ما للشيء من ذاته وإلى ماله من غيره. وما له الوجود من غيره فوجوده مستعار لا قوام له بنفسه. بل إذا اعتبر ذاته من حيث ذاته فهو عدم محض. وإنما هو موجود من حيث نسبته إلى غيره، وذلك ليس بوجود حقيقي كما عرفت في مثال استعارة الثوب والغنى. فالموجود الحق هو الله تعالى، كما أن النور الحق هو الله تعالى.
حقيقة الحقائق
من هنا ترقى العارفون من حضيض المجاز إلى يفاع الحقيقة، واستكملوا معراجهم فرأوا بالمشاهدة العيانية أن ليس في الوجود إلا الله تعالى، وأن )كُلُّ شَيءٍ هالِكٌ إِلّا وَجهَهُ( لا أنه يصير هالكا في وقت من الأوقات، بل هو هالك أزلا وأبدا لا يتصور إلا كذلك، فإن كل شيء سواه إذا اعتبر ذاته من حيث ذاته فهو عدم محض؛ وإذا اعتبر من الوجه الذي يسري إليه الوجود من الأول الحق رؤى موجودا لا في ذاته لكن من الوجه الذي يلي موجده فيكون الموجود وجه الله تعالى فقط. فلكل شيء وجهان: وجه إلى نفسه ووجه إلى ربه؛ فإذن لا موجود إلا الله تعالى ووجهه. فإذن كل شيء هالك إلا وجهه أزلا وأبدا. ولم يفتقر هؤلاء إلى يوم القيامة ليسمعوا نداء الباري تعالى )لِّمَنِ المُلكُ اليَومَ لِلَهِ الواحِدِ القَهّارِ( بل هذا النداء لا يفارق سمعهم أدبا. ولم يفهموا من معنى قوله (الله أكبر) أنه أكبر من غيره، حاش لله، إذ ليس في الوجود معه غيره حتى يكون أكبر منه؛ بل بيس لغيره رتبة المعية، بل رتبة التبعية. بل ليس لغيره وجود إلا من الوجه الذي يليه. فالموجود وجهه فقط. ومحال أن يقال إنه أكبر من وجهه. بل معناها أنه أكبر من أن يقال له أكبر بمعنى الإضافة والمقايسة، وأكبر من أن يدرك غيره كنه كبريائه، نبيا كان أو ملكا. بل لا يعرف الله كنه معرفته إلا الله. بل كل معروف داخل في سلطة العارف واستيلائه دخولا ما، وذلك ينافي الجلال والكبرياء. وهذا له تحقيق ذكرناه في كتاب (المقصد الأسنى) في معاني أسماء الله الحسنى).
إشارة
العارفون- بعد العروج إلى سماء الحقيقة- اتفقوا على أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق. لكن منهم من كان له هذه الحال عرفانا علميا، ومنهم من صار له ذلك حالا ذوقيا. وانتفت عنهم الكثرة بالكلية واستغرقوا بالفردانية المحضة واستوفيت فيها عقولهم فصاروا كالمبهوتين فيه ولم يبق فيهم متسع لا لذكر غير الله ولا لذكر أنفسهم أيضا. فلم يكن عندهم إلا الله، فسكروا سكرا دفع دونه سلطان عقولهم، فقال أحدهم (أنا الحق) وقال الآخر (سبحاني ما أعظم شأني) وقال آخر (ما في الجبة إلا الله) وكلام العشاق في حال السكر يطوى ولا يحكى. فلما خف عنهم سكرهم وردوا إلى سلطان العقل الذي هو ميزان الله في أرضه، عرفوا أن ذلك لم يكن حقيقة الاتحاد بل شبه الاتحاد مثل قول العاشق في حال فرط عشقه (أنا من أهوى ومن أهوى أنا) ولا يبعد أن يفاجىء الإنسان مرآة فينظر فيها ولم ير المرآة قط، فيظن أن الصورة التي رآها هي صورة المرآة متحدة بها، ويرى الخمر في الزجاج فيظن أن الخمر لون الزجاج. وإذا صار ذلك عنده مألوفا ورسخ فيه قدمه استغفر وقال:
رَقَ الزُجاجُ وَراقَتِ الخَمرُ
فَتَشابَها فَتَشاكَـلَ الأَمَـرُ
فَكَأَنّما خَـمـرٌ وَلا قَـدحٌ
وَكَأَنّما قَدحٌ وَلا خَـمـرُ
وفرق بين أن يقول: الخمر قدح، وبين أن يقول: كأنه قدح. وهذه الحالة إذا غلبت سميت بالإضافة إلى صاحب الحالة (فناء) بل (فناء الفناء): لأنه فنى عن نفسه وفنى عن فنائه، فإنه ليس يشعر بنفسه في تلك الحال ولا يعدم شعوره بنفسه. ولو شعر بعدم شعوره بنفسه لكان قد شعر بنفسه. وتسمى هذه الحالة بالإضافة إلى المستغرق به بلسان المجاز اتحادا أو بلسان الحقيقة توحيدا. ووراء هذه الحقائق أيضا أسرار يطول الخوض فيها.
خاتمة
لعلك تشتهي أن تعرف وجه إضافة نوره إلى السموات والأرض، بل وجه كونه في ذاته نور السموات والأرض، فلا ينبغي أن يخفى ذلك عليك بعد أن عرفت أنه النور ولا نور سواه وأنه كل الأنوار، وأنه النور الكلي، لأن النور عبارة عما ينكشف به الأشياء، وأعلى منه ما ينكشف به وله، وأعلى منه ما ينكشف به وله ومنه، وأن الحقيقي منه ما ينكشف به وله، وأعلى منه ما ينكشف به وله ومنه، وأن الحقيقي منه ما ينكشف به وله ومنه وليس فوقه نور منه اقتباسه واستمداده: بل ذلك له في ذاته من ذاته لذاته لا من غيره. ثم عرفت أن هذا لن يتصف به إلا النور الأول.
ثم عرفت أن السموات والأرض مشحونة نورا من طبقتي النور: اعني المنسوب إلى البصر والبصيرة: أي إلى الحس والعقل. أما البصرى فما نشاهده في السموات من الكواكب والشمس والقمر، وما نشاهده في الأرض من الأشعة المنبسطة على كل ما على الأرض حتى ظهرت به الألوان المختلفة خصوصا في الربيع، وعلى كل حال في الحيوانات والمعادن وأصناف الموجودات. ولولاها لم يكن للألوان ظهور، بل وجود. ثم سائر ما يظهر للحس من الأشكال والمقادير يدرك تبعا للألوان ولا يتصور إدراكها إلا بواسطتها.
وأما الأنوار العقلية المعنوية فالعالم الأعلى مشحون بها، وهي جواهر الملائكة، والعالم الأسفل مشحون بها وهي الحياة الحيوانية ثم الإنسانية.
وبالنور الإنساني السفلي ظهر نظام عالم السفل كما بالنور الملكي ظهر نظام عالم العلو. وهو المعنى بقوله )أَنشَأَكُم مِنَ الأَرضِ وَاستَعمَرَكُم فيها( وقال تعالى: )لَيَستَخلِفَنَّهُم في الأَرض( وقال: )وَيَجعَلَكُم خُلَفاءَ الأَرضِ(، وقال: )إِنّي جاعِلٌ في الأَرضِ خَليفَة(.
فإذا (عرفت هذا عرفت أن العالم بأسره مشحون بالأنوار الظاهرة البصرية والباطنة العقلية، ثم عرفت أن السفلية فائضة بعضها من بعض فيضان النور من السراج وأن السراج هو الروح النبوي القدسي، وأن الأرواح النبوية القدسية مقتبسة من الأرواح العلوية اقتباس السراج من النور؛ وأن العلويات بعضها مقتبسة من البعض، وأن ترتيبها ترتيب مقامات. ثم ترقى جملتها إلى نور الأنوار ومعدنها ومنبعها الأول؛ وأن ذلك هو الله تعالى وحده لا شريك له، وأن سائر الأنوار مستعارة، وإنما الحقيقي نوره فقط؛ وأن الكل نوره، بل هو الكل، بل لا هوية لغيره إلا بالمجاز. فإذن لا نور إلا نوره، وسائر الأنوار أنوار من الذي يليه لا من ذاته. فوجه كل ذي وجه إليه ومولّ شطره: )فَأَينَما تُوَلّوا فَثَمَّ وَجهُ اللَهِ( فإذن لا إله الا هو: فإن الإله عبارة عما الوجه موليه نحوه بالعبادة والتأله: أعني وجوه القلوب فإنها الأنوار. بل كما لا إله إلا هو، فلا هو إلا هو: لأن (هو) عبارة عما إليه إشارة كيفما كان، ولا إشارة إلا إليه. بل كل ما أشرت إليه فهو بالحقيقة إشارة عليه وإن كنت لا تعرفه أنت لغفلتك عن حقيقة الحقائق التي ذكرناها. ولا إشارى إلى نور الشمس بل إلى الشمس. فكل ما في الوجود فنسبته إليه في ظاهر المثال كنسبة النور إلى الشمس. فإذن (لا إله إلا الله) توحيد العوام، و (لا إله إلا هو) توحيد الخواص، لأن هذا أتم وأخص وأشمل وأحق وأدق وأدخل بصاحبه في الفردانية المحضة والوحدانية الصرفة. ومنتهى معراج الخلائق مملكة الفردانية. وليس وراء ذلك مرقي: إذ الترقي لا يتصور إلا بكثرة: فإنه نوع إضافة يستدعى ما منه الارتقاء وما إليه الارتقاء. وإذا ارتفعت الكثرة حقت الوحدة وبطلت الإضافات وطاحت الإشارات ولم يبق علو وسفل ونازل ومرتفع: واستحال الترقي فاستحال العروج. فليس وراء الأعلى علو، ولا مع الوحدة كثرة، ولا مع انتفاء الكثرة عروج، فإن كان من تغير حال. فالنزول إلى سماء الدنيا: أعني بالإشراف من علو إلى سفل لأن الأعلى له أسفل وليس له أعلى. فهذه هي غاية الغايات ومنتهى الطلبات: يعلمه من يعلمه وينكره من يجهله. وهو من العلم الذي هو كهيئة المكنون الذي لا يعلمه إلا العلماء بالله. فإذا نطقوا به لم ينكره إلا أهل الغرة بالله. ولا يبعد أن قال العلماء إن النزول إلى السماء الدنيا هو نزول ملك: فقد توهم العلماء ما هو أبعد منه؛ إذ قال هذا المستغرق بالفردانية أيضا له نزول إلى السماء الدنيا: فإن 1ذلك هو نزوله إلى استعمال الحواس أو تحريك الأعضاء. وإليه الإشارة بقوله (صرت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به) فإذا كان هو سمعه وبصره ولسانه، فهو السامع والباصر والناطق إذن لا غيره؛ وإليه الإشارة بقوله: (مرضت فلم تعدني) الحديث.
فحركات هذا الموحد من السماء الدنيا وإحساساته كالسمع والبصر من سماء فوقه، وعقله فوق ذلك. وهو يترقي من سماء العقل إلى منتهى معراج الخلائق. ومملكة الفردانية تمام سبع طبقات ثم بعده يستوي على عرش الوحدانية، ومنه يدبر الأمر لطبقات سمواته.
فربما نظر الناظر إليه فأطلق القول بأن الله خلق آدم على صورة الرحمن، إلى أن يمعن النظر فيعلم أن ذلك تأويل كقول القائل (أنا الحق) و (سبحاني) بل كقوله لموسى عليه السلام: (مرضت فلم تعدني) و (كنت سمعه وبصره ولسانه) وأرى الآن قبض البيان فما أراك تطيق من هذا القدر أكثر من هذا القدر. (مساعدة) لعلك لا تسمو إلى هذا الكلام بهمتك، بل تقصر دون ذروته همتك، فخذ إليك كلاما أقرب إلى فهمك وأوفق لضعفك.
واعلم أن معنى كونه نور السموات والأرض تعرفه بالنسبة إلى النور الظاهر البصري. فإذا رأيت أنوار الربيع وخضرته مثلا في ضياء النهار فلست تشك في أنك ترى الألوان. وربما ظننت أنك لست ترى مع الألوان غيرها، فإنك تقول لست أرى مع الخضرة غير الخضرة. ولقد أصر على هذا قوم فزعموا أن النور لا معنى له، وأنه ليس مع الألوان غير الألوان، فأنكروا وجود النور مع أنه أظهر الأشياء، وكيف لا وبه تظهر الأشياء، وهو الذي يبصر في نفسه ويبصر به غيره كما سبق. لكن عند غروب الشمس وغيبة السراج ووقوع الظل أدركوا تفرقة ضرورية بين محل الظل وبين موقع الضياء فاعترفوا بأن النور معنى وراء الألوان يدرك مع الألوان حتى كأنه لشدة انجلائه لا يدرك، ولشدة ظهوره يخفى. وقد يكون الظهور سبب الخفاء. والشيء إذا جاوز حده انعكس علي ضده.
فإذا عرفت هذا فاعلم أن أرباب البصائر ما رأوا شيئا إلا رأوا الله معه. وربما زاد على هذا بعضهم فقال (ما رأيت شيئا إلا رأيت الله قبله) لأن منهم من يرى الأشياء به ومنهم من يرى الأشياء فيراه بالأشياء. وإلى الأول الإشارة بقوله تعالى: )أَوَلَم يَكفِ بِرَبِّكَ أَنّهُ عَلى كُلِّ شيءٍ شَهيدٌ(؛ وعلى الثاني الإشارة بقوله تعالى: )سَنُريهِم آَياتِنا في الآَفاقِ( فالأَول صاحب مشاهدة، والثاني صاحب الاستدلال عليه، والأول درجة الصديقين، والثاني درجة العلماء الراسخين، وليس بعدهما إلا درجة الغافلين المحجوبين.
وإذ قد عرفت هذا فاعلم أنه كما ظهر كل شيء للبصر بالنور الظاهر، فقد ظهر كل شيء للبصيرة الباطنة بالله. فهو مع كل شيء لا يفارقه ثم يظهر كل شيء، كما أن النور مع كل شيء وبه يظهر. ولكن بقى ها هنا تفاوت: وهو أن النور الظاهر يتصور أن يغيب بغروب الشمس ويحجب حتى يظهر الظل، وأما النور الإلهي الذي به يظهر كل شيء، لا يتصور غيبته بل يستحيل تغيره. فيبقى مع الأشياء دائما، فانقطع طريق الاستدلال بالتفرقة. ولو تصور غيبته لانهدت السموات والأرض، ولأدرك به من التفرقة ما يضطر معه إلى المعرفة بما به ظهرت الأشياء. ولكن لما تساوت الأشياء كلها على نمط واحد في الشهادة على وحدانية خالقها ارتفع التفريق وخفي الطريق: إذ الطريق الظاهر معرفة الأشياء بالأضداد فما لا ضد له ولا تغير له تتشابه الأحوال في الشهادة له. فلا يبعد أن يخفى ويكون خفاؤه لشدة جلائه والغفلة عنه لإشراق ضيائه. فسبحان من اختفى عن الخلق لشدة ظهوره، واحتجب عنهم لإشراق نوره. وربما لم يفهم أيضا كنه هذا الكلام بعض القاصرين، فيفهم من قولنا (إن الله مع كل شيء كالنور مع الأشياء (أنه في كل مكان؛ تعالى وتقدس عن النسبة إلى المكان. بل لعل الأبعد عن إثارة هذا الخيال أن نقول إنه قبل كل شيء؛ وإنه فوق كل شيء؛ وإنه مظهر كل شيء. والمظهر لا يفارق المظهر في معرفة صاحب البصيرة فهو الذي نعني بقولنا عنه مع كل شيء. ثم لا يخفى عليك أيضا أن المظهر وفوقه مع أنه معه بوجه: لكنه معه بوجه وقبله بوجه.فلا تظنن أنه متناقض، واعتبر بالمحسوسات التي هي درجتك في العرفان؛ وانظر كيف تكون حركة اليد مع حركة ظل اليد وقبلها أيضا.
ومن لم يتسع صدره لمعرفة هذا فليهجر هذا النمط من العلم، فلكل علم رجال؛ وكل ميسر لما خلق له.
الفصل الثاني
في بيان مثال المشكاة والمصباح
والزجاجة والشجرة والزيت والنار
ومعرفة هذا يستعدي تقديم قطبين يتسع المجال فيهما إلى غير حد محدود. لكني أشير إليهما بالرمز والاختصار: أحدهما في بيان سر التمثيل ومنهاجه ووجه ضبط أرواح المعاني بقوالب الأمثلة، ووجه كيفية المناسبة بينها، وكيفية الموازنة بين عالم الشهادة التي منها تتخذ طينة الأمثال، وعالم الملكوت الذي منه تستنزل أرواح المعاني.
والثاني في طبقات أرواح الطينة البشرية ومراتب أنوارها؛ فإن هذا المثال مسوق لبيان ذلك؛ إذ قرأ ابن مسعود (مثل نوره في قلب المؤمن كمشكاة) وقرأ أبي بن كعب: (مثل نور قلب من آمن).
الأول في سر التمثيل ومنهاجه
اعلم أن العالم عالمان: روحاني وجسماني: وإن شئت قلت: حسي وعقلي؛ وإن شئت علوي وسفلي. والكل متقارب، وإنما تختلف باختلاف الاعتبارات: فإذا اعتبرتهما في أنفسهما قلت جسماني وروحاني، وإن اعتبرتهما بالإضافة إلى العين المدركة لهما قلت حسي وعقلي. وإن اعتبرتهما بإضافة أحدهما إلى الآخر قلت علوي وسفلى. وربما سميت أحدهما عالم الملك والشهادة والآخر عالم الغيب والملكوت. ومن نظر إلى الحقائق من الألفاظ ربما تحير عند كثرة الألفاظ وتخيل كثرة المعاني. والذي تنكشف له الحقائق يجعل المعاني أصلا والألفاظ تابعا. وأمر الضعيف بالعكس؛ إذ يطلب الحقائق من الألفاظ. وإلى الفريقين الإشارة بقوله تعالى: )أَفَمَن يَمشي مُكِبّاً عَلى وَجهِهِ أَهدى أَم مَن يَمشي سَوياً عَلى صِراطٍ مُّستَقيم).
وإذ قد عرفت معنى العالمين فاعلم أن العالم الملكوتي عالم غيب؛ إذ هو غائب عن الأكثرين. والعالم الحسي عالم شهادة إذ يشهده الكافة. والعالم الحسي مرقاة إلى العقل. فلو لم يكن بينهما اتصال ومناسبة لانسد طريق الترقي إليه. ولو تعذر ذلك لتعذر السفر إلى حضرة الربوبية والقرب من الله تعالى. فلم يقرب من الله تعالى أحد ما لم يطأ بحبوحة حظيرة القدس.
والعالم المرتفع عن إدراك الحس والخيال هو الذي نعنيه بعالم القدس. فإذا اعتبرنا جملته بحيث لا يخرج منه شيء ولا يدخل فيه ما هو غريب منه سميناه حظيرة القدس. وربما سمينا الروح البشري الذي هو مجرى لوائح القدس (الوادي المقدس). ثم هذه الحظيرة فيها حظائر بعضها أشد إمعانا في معاني القدس. ولكن لفظ الحظيرة يحيط بجميع طبقاتها. فلا تظنن أن هذه الألفاظ طامات غير معقولة عند أرباب البصائر. واشتغالي الآن بشرح كل لفظ مع ذكره يصدني عن المقصد. فعليك التشمير لفهم هذه الألفاظ فأرجع إلى الغرض وأقول: لما كان عالم الشهادة مرقاة إلى عالم الملكوت، وكان سلوك الصراط المستقيم عبارة عن هذا الترقي؛ وقد يعبر عنه بالدين وبمنازل الهدى- فلو لم يكن بينهما مناسبة واتصال لما تصور الترقي من أحدهما إلى الآخر- جعلت الرحمة الإلهية عالم الشهادة على موازنة عالم الملكوت: فما من شيء من هذا العالم إلا وهو مثال لشيء من ذلك العالم. وربما كان الشيء الواحد مثالا لأشياء من عالم الملكوت. وربما كان للشيء الواحد من الملكوت أمثلة كثيرة من عالم الشهادة. وإنما يكون مثالا إذا ماثله نوعا من المماثلة، وطابقه نوعا من المطابقة. وإحصاء تلك الأمثلة يستدعي استقصاء جميع موجودات العالمين بأسرها، ولن تفي به القوة البشرية وما اتسع لفهمه القوة البشرية. فلا تفي بشرحه الأعمار القصيرة. فغايتي أن أعرفك منها أنموذجا لتستدل باليسير منها على الكثير، وينفتح لك باب الاستعبار بهذا النمط من الأسرار فأقول: إن كان في عالم الملكوت جواهر نورانية شريفة عالية يعبر عنها بالملائكة، منها تفيض الأنوار على الأرواح البشرية، ولأجلها قد تسمى أربابا، ويكون الله تعالى رب الأرباب لذلك، ويكون لها مراتب في نورانيتها متفاوتة، فبالحرىّ أن يكون مثالها من عالم الشهادة الشمس والقمر والكواكب.
والسالك للطريق أولا ينتهي إلى ما درجته درجة الكواكب فيتضح له إشراق نوره وينكشف له أن العالم الأسفل بأسره تحت سلطانه وتحت إشراق نوره؛ ويتضح له من جماله وعلو درجته ما يبادر فيقول: (هذا ربي) ثم إذا اتضح له ما فوقه مما رتبته رتبة القمر، رأى دخول الأول في مغرب الهوى بالإضافة إلى ما فوقه فقال: (لا أحب الآفلين) وكذلك يترقى حتى ينتهي إلى ما مثاله الشمس فيراه أكبر وأعلى، فيراه قابلا للمثال بنوع مناسبة له معه. والمناسبة مع ذي النقص نقص وأفول أيضا. فمنه يقول: )وَجَهتُ وَجهِيَ لِلَّذي فَطَرَ السَمَواتِ وَالأَرضَ حَنيفاً( ومعنى (الذي) إشارة مبهمة لا مناسبة لها: إذ لو قال قائل ما مثال مفهوم (الذي) لم يتصور أن يجاب عنه. فالمتنزه عن كل مناسبة هو الأول الحق. ولذلك لما قال بعض الأعراب لرسول الله ﷺ: (ما نسب الإله?) نزل في جوابه )قُل هُوَ اللَهُ أَحَدٌ. اللَهُ الصَمَدُ. لَم يَلِد وَلَم يولَد) إلى آخرها، معناه أن التقدس والتنزه عن النسبة نسبته. ولذلك لما قال فرعون لموسى: )وَما رَبُّ العالَمينَ( كالطالب لماهيته لم يجب إلا بتعريفه بأفعاله، إذ كانت الأفعال أظهر عند السائل فقال: )رَّبِّ السَمَواتِ وَالأَرضِ(، فقال فرعون لمن حوله )أَلا تَسمَعونَ( كالمنكر عليه في عدوله في جوابه عن طلب الماهية، فقال موسى: )رَبُكُم وَرَبُّ آبائِكُمُ الأَولينَ( فنسبه فرعون إلى الجنون إذ كان مطلبه المثال والماهية؛ وهو يجيب عن الأفعال، فقال: )إِنَّ رَسولَكُمُ الَّذي أُرسِلَ إِلَيكُم لَمَجنونٌ(.
ولنرجع إلى الأنموذج فنقول علم (التعبير) يعرفك منهاج ضرب المثال؛ لأن الرؤيا جزء من النبوة. أما ترى أن الشمس في الرؤيا تعبيرها السلطان، لما بينهما من المشاركة والمماثلة في معنى روحاني- وهو الإستعلاء على الكافة مع فيضان الآثار على الجميع. والقمر تعبيره الوزير لإفاضة الشمس نورها بواسطة القمر على العالم عند غيبتها كما يفيض السلطان أنواره بواسطة الوزير على من يغيب عن حضرة السلطان. وأن من يرى أنه في يده خاتم يختم به أفواه الرجال وفروج النساء فتعبيره أنه مؤذن يؤذن قبل الصبح في رمضان. وأن من يرى أنه يصب الزيت في الزيتون فتعبيره أن تحته جارية هي أمه وهو لا يعرف. واستقصاء أبواب التعبير يزيك أنسا بهذا الجنس، فلا يمكنني الاشتغال بعدها: بل أقول: كما أن في الموجودات العالية الروحانية ما مثاله الشمس والقمر والكواكب، فكذلك فيها ما له أمثلة أخرى إذا اعتبرت منه أوصاف أُخر سوى النورانية.
فإن كان في تلك الموجودات ما هو ثابت لا يتغير وعظيم لا يستصغر، ومنه ينفجر إلى أودية القلوب البشرية مياه المعارف ونفائس المكاشفات فمثاله (الطور)؛ وإن كان ثم موجودات تتلقى تلك النفائس بعضهم أولى من بعض فمثالها الوادي. وإن كانت تلك النفائس بعد اتصالها بالقلوب البشرية تجري من قلب إلى قلب، فهذه القلوب أيضا أودية. ومفتتح الوادي قلوب الأنبياء ثم العلماء ثم من بعدهم. فإن كانت هذه الأودية دون الأول وعنها تغترف، فبالحرىّ أن يكون الأول هو الوادي الأيمن لكثرة يمنه وعلو درجته. وإن كان الوادي الأدون يتلقى من آخر درجات الوادي الأيمن فمغترفه شاطىء الوادي الأيمن دون لجته ومبدئه. وإن كان روح النبي سراجا منيرا، وكان ذلك الروح مقتبسا بواسطة وحي كما قال: )أَوحينا إِليكَ روحاً مِن أَمرِنا( فما منه الإقتباس مثاله النار، وإن كان المتلقنون من الأنبياء بعضهم على محض التقليد لما سمعه، وبعضهم على حظ من البصيرة، فمثال حظ المقلد الخبر، ومثال حظ المستبصر الجذوة والقبس والشهاب. فإن صاحب الذوق مشارك للنبي في بعض الأحوال. ومثال تلك المشاركة الإصطلاء. وإنما يصطلي بالنار من معه النار، لا من يسمع خبرها. وإن كان أول منزل الأنبياء الترقي إلى العالم المقدس عن كدورة الحس والخيال، فمثال ذلك المنزل الوادي المقدس.
وإن كان لا يمكن وطء ذلك الوادي المقدس إلا باطراح الكونين- أعني الدنيا والآخرة- والتوجه إلى الواحد الحق، ولأن الدنيا والآخرة متقابلتان متحاذيتان وهما عارضان للجوهر النوراني البشري يمكن اطراحهما مرة والتلبس بهما أخرى، فمثال اطراحهما عند الإحرام للتوجه إلى كعبة القدس خلع النعلين. بل نترقي إلى حضرة الربوبية مرة أخرى ونقول:
إن كان في تلك الحضرة شيء بواسطته تنتقش العلوم المفصلة في الجواهر القابلة لها فمثاله (القلم). وإن كان في تلك الجواهر القابلة ما بعضها سابق إلى التلقي، ومنها تنتقل إلى غيرها، فمثالها (اللوح المحفوظ) و (الرق المنشور). وإن كان فوق الناقش للعلوم شيء هو مسخر فمثاله (اليد) وإن كان لهذه الحضرة المشتملة على اليد واللوح والقلم والكتاب ترتيب منظوم فمثاله (الصورة) وإن كان يوجد للصورة الإنسية نوع ترتيب على هذه الشاكلة، فهي على صورة الرحمن. وفرق بين أن يقال (على صورة الرحمن) وبين أن يقال (على صورة الله) لأن الرحمة الإلهية هي التي صورت الحضرة الإلهية بهذه الصورة.
ثم أنعم على آدم فأعطاه صورة مختصرة جامعة لجميع أصناف ما في العالم حتى كأنه كل ما في العالم أو هو نسخة من العالم مختصرة. وصورة آدم- أعني هذه الصورة- مكتوبة بخط الله. فهو الخط الإلهي الذي ليس برقم حروف، إذ تنزه خطه عن أن يكون رقما وحروفا كما تنزه كلامه عن أن يكون صوتا وحرفا، وقلمه عن أن يكون خشبا وقصبا، ويده عن أن تكون لحما وعظما. ولولا هذه الرحمة لعجز الآدمي عن معرفة ربه: إذ لا يعرف ربه إلا من عرف نفسه. فلما كان هذا من آثار الرحمة صار على صورة الرحمن لا على صورة الله: فإن حضرة الإلهية غير حضرة الرحمة وغير حضرة الملك وغير حضرة الربوبية. ولذلك أمر بالعياذ بجميع هذه الحضرات فقال: )قُل أَعوذُ بِرَبِّ الناسِ، مَلِكِ الناسِ، إِلَهِ الناسِ( ولولا هذا المعنى لكان ينبغي أن يقول على صورته واللفظ الوارد في الحديث الصحيح على صورة الرحمن.
ولأن تمييز حضرة الملك عن الإلهية والربوبية يستدعي شرحا طويلا فلنتجاوزه، ويكفيك من الأنموذج هذا القدر، فإن هذا بحر لا ساحل له. فإن وجدت في نفسك نفورا عن هذه الأمثال فآن قلبك بقوله تعالى: )أَنزَلَ مِنَ السَماءِ ماءً فَسالَت أَودِيَةٌ بِقَدَرِها( الآية، وأنه كيف ورد في التفسير أن الماء هو المعرفة والقرآن والأودية القلوب.
خاتمة واعتذار
لا تظنن من هذا الأنموذج وطريق ضرب المثال رخصة مني في رفع الظاهر واعتقادا في إبطالها حتى أقول مثلا لم يكن مع موسى نعلان، ولم يسمع الخطاب بقوله: (اخلع نعليك) حاش لله فإن إبطال الظواهر رأى الباطنية الذين نظروا بالعين العوراء إلى أحد العالمين ولم يعرفوا الموازنة بين العالمين، ولم يفهموا وجهه. كما أن إبطال الأسرار مذهب الحشوية.
فالذي يجرد الظاهر حشوى، والذي يجرد الباطن باطني. والذي يجمع بينهما كامل. ولذلك قال عليه السلام: (للقرآن ظاهر وباطن وحدٌ ومطلع) وربما نقل هذا عن علىّ موقوفا عليه. بل أقول فهم موسى من الأمر بخلع النعلين اطراح الكونين فامتثل الأمر ظاهرا بخلع نعليه، وباطنا باطراح العالمين. وهذا هو (الاعتبار) أي العبور من الشيء إلى غيره، ومن الظاهر إلى السر. وفرق بين من يسمع قول رسول الله ﷺ: (لا يدخل الملائكة بيتا فيه كلب) فيقتنى الكلب في البيت ويقول ليس الظاهر مرادا، بل المراد تخلية بيت القلب عن كلب الغضب لأنه يمنع المعرفة التي هي من أنوار الملائكة: إذا الغضب غول العقل، وبين من يمتثل الأمر في الظاهر ثم يقول: الكلب ليس كلبا لصورته بل لمعناه- وهو السبعية والضراوة- وإذا كان حفظ البيت الذي هو مقر الشخص والبدن واجبا عن صورة الكلب، فبأن يجب حفظ بيت القلب- وهو مقر الجوهر الحقيقي الخاص- عن شر الكلبية أولى. فأنا أجمع بين الظاهر والسر جميعا، فهذا هو الكامل: وهو المعنى بقولهم (الكامل من لا يطفىء نور معرفته نور ورعه) ولذلك ترى الكامل لا تسمح نفسه بترك حد من حدود الشرع مع كمال البصيرة. وهذه مغلطة منها وقع بعض السالكين إلى الإباحة وطى بساط الأحكام ظاهرا، حتى أنه ربما ترك أحدهم الصلاة وزعم أنه دائما في الصلاة بسره. وهذا سوى مغلطة الحمقى من الإباحية الذين مأخذهم ترهات كقول بعضهم (إن الله غني عن عملنا) وقول بعضهم إن الباطن مشحون بالخبائث ليس يمكن تزكيته ولا يطمع في استئصال الغضب والشهوة لظنه أنه مأمور باستئصالها: وهذه حماقات.
فأما ما ذكرناه فهو كبوة جواد وهفوة سالك حسده الشيطان فدلاّه بحبل الغرور. وأرجع إلى حديث النعلين فأقول: ظاهر خلع النعلين منبه على ترك الكونين. فالمثال في الظاهر حق وأداؤه إلى السر الباطن حقيقة. وأهل هذا التنبيه هم الذين بلغوا درجة الزجاجة كما سيأتي معنى الزجاجة؛ لأن الخيال الذي من طينته يتخذ المثال صلب كثيف يحجب الأسرار ويحول بينك وبين الأنوار؛ ولكن إذا صفا حتى صار كالزجاج الصافي غير حائل عن الأنوار، بل صار مع ذلك مؤديا للأنوار، بل صار مع ذلك حافظا للأنوار عن الانطفاء بعواصف الرياح. وستأتيك قصة الزجاجة.
فاعلم أن العالم الكثيف الخيالي السفلي صار في حق الأنبياء زجاجة ومشكاة للأنوار ومصفاة للأسرار، ومرقاة إلى العالم الأعلى. وبهذا يعرف أن المثال الظاهر حق ووراءه سر. وقس على هذا (الطور) و (النار) وغيرهما.
دقيقة
إذا قال الرسول عليه السلام: (رأيت عبد الرحمن بن عوف يدخل الجنة حبوا) فلا تظنن أنه لم يشاهده بالبصر كذلك، بل رآه في يقظته كما يراه النائم في نومه؛ وإن كان عبد الرحمن مثلا نائما في بيته بشخصه، فإن النوم إنما أثر في أمثال هذه المشاهدات لقهره سلطان الحواس عن النور الباطن الإلهي، فإن الحواس شاغلة له وجاذبة إياه إلى عالم الحس، وصارفة وجهه عن عالم الغيب والملكوت. وبعض الأنوار النبوية قد يستعلي ويستولي بحيث لا تستجره الحواس إلى عالمها ولا تشغله، فيشاهد في اليقظة ما يشاهد غيره في المنام. ولكنه إذا كان في غاية الكمال لم يقتصر إدراكه على محض الصورة المبصرة، بل عبر منها إلى السر فانكشف له أن الإيمان جاذب إلى العالم الذي يعبر عنه بالجنة؛ والغنى والثروة جاذب إلى الحياة الحاضرة وهي العالم الأسفل. فإن كان الجاذب إلى أشغال الدنيا أقوى أو مقاوما للجاذب الآخر صد عن المسير إلى الجنة. وإن كان جاذب الإيمان أقوى أورث عسرا وبطئا في سيره؛ فيكون مثاله من عالم الشهادة (الحبو) فكذلك تتجلى له أنوار الأسرار من وراء زجاجات الخيال. ولذلك لا يقتصر في حكمه على عبد الرحمن وإن كان إبصاره مقصورا عليه، بل يحكم به على كل من قويت بصيرته واستحكم إيمانه، وكثرت ثروته كثرة تزاحم الإيمان لكن لا تقاومه لرجحان قوة الإيمان.
فهذا يعرفك كيفية إبصار الأنبياء الصورة وكيفية مشاهدتهم المعاني من وراء الصور. والأغلب أن يكون المعنى سابقا إلى المشاهدة الباطنة ثم يشرق منها على الروح الخيالي فينطبع الخيال بصورة موازنة للمعنى محاكية له. وهذا النمط من الوحي في اليقظة يفتقر إلى التأويل، كما أنه في النوم يفتقر إلى التعبير. والواقع منه في النوم نسبته إلى الخواص النبوية نسبة الواحد إلى ستة وأربعين. والواقع في اليقظة نسبته أعظم من ذلك. وأظن أن نسبته إليه نسبة الواحد إلى الثلاثة. فإن الذي انكشف لنا من الخواص النبوية ينحصر شعبها في ثلاثة أجناس، وهذا واحد من تلك الأجناس الثلاثة.
القطب الثاني
في بيان مراتب الأرواح البشرية النورانية إذ بمعرفتها تعرف أمثلة القرآن
فالأول منها الروح الحساس وهو الذي يتلقى ما تورده الحواس الخمس، وكأنه أصل الروح الحيواني وأوله، إذ به يصير الحيوان حيوانا. وهو موجود للصبي الرضيع.
الثاني الروح الخيالي، وهو الذي يستثبت ما أورده الحواس ويحفظه مخزونا عنده ليعرضه على الروح العقلي الذي فوقه عند الحاجة إليه. وهذا لا يوجد للصبي الرضيع في بداية نشوئه: ولذلك يولع بالشيء ليأخذه، فإذا غاب عنه ينساه ولا تنازعه نفسه إليه إلى أن يكبر قليلا فيصير بحيث إذا غُيب عنه بكى وطلب ذلك لبقاء صورته محفوظة في خياله. وهذا قد يوجد لبعض الحيوانات دون بعض، ولا يوجد للفراش المتهافت على النار لأنه يقصد النار لشغفه بضياء النهار: فيظن أن السراج كوة مفتوحة إلى موضع الضياء فيلقي نفسه عليه فيتأذى به. لكنه إذا جاوزه وحصل في الظلمة عاوده مرة بعد مرة. ولو كان له الروح الحافظ المستثبت لما أداه الحس إليه من الألم لما عاوده بعد أن تضرر مرة به فالكلب إذا ضرب مرة بخشبة، فإذا رأى الخشبة بعد ذلك من بعد هرب.
الثالث الروح العقلي الذي به تدرك المعاني الخارجة عن الحس والخيال، وهو الجوهر الإنسي الخاص، ولا يوجد لا للبهائم ولا للصبيان. ومدركاته المعارف الضرورية الكلية كما ذكرناه عند ترجيح نور العقل على نور العين.
الرابع الروح الفكري، وهو الذي يأخذ العلوم العقلية المحضة فيوقع بينها تأليفات وازدواجات ويستنتج منها معارف شريفة. ثم إذا استفاد نتيجتين مثلا، ألف بينهما مرة أخرة واستفاد نتيجة أخرى. ولا يزال يتزايد كذلك إلى غير نهاية.
الخامس الروح القدسي النبوي الذي يختص به الأنبياء وبعض الأولياء، وفيه تتجلى لوائح الغيب وأحكام الآخرة وجملة من معارف ملكوت السموات والأرض، بل من المعارف الربانية التي يقصر دونها الروح العقلي والفكري. وإليه الإشارة بقوله تعالى: )وَكَذَلِكَ أَوحَينا إِلَيكَ روحاً مِّن أَمرِنا ما كُنتَ تَدري ما اَلكِتابُ ولا الإيمانُ، وَلَكِن جَعَلناهُ نوراً نَّهدي بِهِ) الآية. فلا يبعد أيها العاكف في عالم العقل أن يكون وراء العقل طور آخر يظهر فيه ما لا يظهر في العقل، كما لا يبعد كون العقل طورا وراء التمييز والإحساس تنكشف فيه غرائب وعجائب يقصر عنها الإحساس والتمييز.
ولا تجعل أقصى الكمال وقفا على نفسك. وإن أردت مثالا مما نشاهده من جملة خواص بعض البشر فانظر إلى ذوق الشعر كيف يختص به قوم من الناس وهو نوع إحساس وإدراك، ويحرم عنه بعضهم حتى لا تتميز عندهم الألحان الموزونة من المنزحفة. وانظر كيف عظمت قوة الذوق في طائفة حتى استخرجوا بها الموسيقى والأغاني والأوتار وصنوف الدستانات التي منها المحزن ومنها المطرب ومنها المنوم ومنها المضحك ومنها المجنن ومنها القاتل، ومنها الموجب للغشى. وإنما تقوى هذه الآثار فيمن له أصل الذوق. وأما العاطل عن خاصية الذوق فيشارك في سماع الصوت وتضعف فيه هذه الآثار، وهو يتعجب من صاحب الوجد والشغى. ولو اجتمع العقلاء كلهم من أرباب الذوق على تفهيمه معنى الذوق لم يقدروا عليه.
فهذا مثال في أمر خسيس لكنه قريب إلى فهمك. فقس به الذوق الخاص النبوي واجتهد أن تصير من أهل الذوق بشيء من ذلك الروح: فإن للأولياء منه حظا وافرا. فإن لم تقدر فاجتهد أن تصير بالأقيسة التي ذكرناها والتنبيهات التي رمزنا إليها من أهل العلم بها. فإن لم تقدر فلا أقل من أن تكون من أهل الإيمان بها: و )يَرفَعُ اللَهُ الَّذينَ آَمَنوا مِنكٌم وَالَّذَينَ أُوتوا العِلمَ دَرَجاتٍ(. والعلم فوق الإيمان، والذوق فوق العلم. فالذوق وجدان والعلم قياس والإيمان قبول مجرد بالتقليد. وحسن الظن بأهل الوجدان أو بأهل العرفان.
فإذا عرفت هذه الأرواح الخمسة فاعلم أنها بجملتها أنوار لأنها تظهر أصناف الموجودات، والحسى والخيالي منها، وإن كان يشارك البهائم في جنسها، لكن الذي للإنسان منه نمط آخر أشرف وأعلى؛ وخلق الإنسان لأجل غرض أجل وأسمى. أما الحيوانات فلم يخلق ذلك لها إلا ليكون آلتها في طلب غذائها في تسخيرها للآدمي. وإنما خلق للأدمي ليكون شبكة له يقتنص بها من العالم الأسفل مبادىء المعارف الدينية الشريفة. إذ الإنسان إذا أدرك بالحس شخصا معينا اقتبس عقله منه معنى عاما مطلقا كما ذكرنا في مثال حبو عبد الرحمن بن عوف. وإذا عرفت هذه الأرواح الخمسة فلنرجع إلى عرض الأمثلة.
بيان أمثلة هذه الآية
اعلم أن القول في موازنة هذه الأرواح الخمسة للمشكاة والزجاجة والمصباح والشجرة والزيت يمكن تطويله، لكني أوجزه وأقتصر على التنبيه على طريقه فأقول: أما الروح الحساس فإذا نظرت إلى خاصيته وجدت أنواره خارجة من ثقب عدة كالعينين والأذنين والمنخرين وغيرها. وأوفق مثال له من عالم الشهادة المشكاة. وأما الروح الخيالي فنجد له خواص ثلاثا: إحداهما: أنه من طينة العالم السفلي الكثيف: لأن الشيء المتخيل ذو مقدار وشكل وجهات محصورة مخصوصة. وهو على نسبة من المتخيل من قرب أو بعد. ومن شأن الكثيف الموصوف بأوصاف الأجسام أن يحجب عن الأنوار العقلية المحضة التي تتنزه عن الوصف بالجهات والمقادير والقرب والبعد.
الثانية: أن هذا الخيال الكثيف إذا صفّى ودقق وهذّب وضبط صار موازيا للمعاني العقلية ومؤديا لأنوارها، غير حائل عن إشراق نورها منها.
الثالثة: أن الخيال في بداية الأمر محتاج إليه جدا ليضبط به المعارف العقلية فلا تضطرب ولا تتزلزل ولا تنتشر انتشارا يخرج عن الضبط. فنعم المعين المثالات الخيالية للمعارف العقلية. وهذه الخواص الثلاث لا نجدها في عالم الشهادة بالإضافة إلى الأنوار المبصرة الا للزجاجة: فإنها في الأصل من جوهر كثيف لكن صفى ورقق حتى لا يحجب نور المصباح بل يؤديه على وجهه، ثم يحفظه عن الانطفاء بالرياح العاصفة والحركات العنيفة. فهي أول مثال له.
وأما الثالث وهو الروح العقلي الذي به إدراك المعارف الشريفة الإلهية فلا يخفى عليك وجه تمثيله بالمصباح. وقد عرفت هذا فيما سبق من بيان كون الأنبياء سرجا منيرة.
وأما الرابع وهو الروح الفكري فمن خاصيته أنه يبتدىء من أصل واحد ثم تتشعب منه شعبتان، ثم من كل شعبة شعبتان وهكذا إلى أن تكثر الشعب بالتقسيمات العقلية، ثم يفضي بالآخرة إلى نتائج هي ثمراتها. ثم تلك الثمرات تعود فتصير بذورا لأمثالها: إذ يمكن أيضا تلقيح بعضها بالبعض حتى يتمادى إلى ثمرات وراءها كما ذكرناه في كتاب القسطاس المستقيم. فبالحرىّ أن يكون مثاله من هذا العالم الشجرة. وإذ كانت ثمراته مادة لتضاعف أنوار المعارف وثباتها وبقائها فبالحرىّ ألا تمثل بشجرة السفرجل والتفاح والرمان وغيرها، بل من جملة سائر الأشجار بالزيتونة خاصة: لأن لب ثمرها هو الزيت الذي هو مادة المصابيح، ويختص من سائر الأدهان بخاصية زيادة الإشراق مع قلة الدخان. وإذا كانت الماشية التي يكثر نسلها والشجرة التي تكثر ثمرتها تسمى مباركة، فالتي لا يتناهى ثمرتها إلى حد محدود أولى أن تسمى شجرة مباركة. وإذا كانت شعب الأفكار العقلية المحضة خارجة عن قبول الإضافة إلى الجهات والقرب والبعد، فالبالحرىّ أن تكون لا شرقية ولا غربية.
وأما الخامس: وهو الروح القدسي النبوي المنسوب إلى الأولياء إذا كان في غاية الصفاء والشرف وكانت الروح المفكرة منقسمة إلى ما يحتاج إلى تعليم وتنبيه ومدد من خارج حتى يستمر في أنواع المعارف، وبعضها يكون في شدة الصفاء كأنه يتنبه بنفسه من غير مدد من خارج، فبالحرىّ أن يعبر عن الصافي البالغ الاستعداد بأنه يكاد زيته يضيء، ولو لم تمسسه نار: إذ من الأولياء من يكاد يشرق نوره حتى يكاد يستغني عن مدد الأنبياء؛ وفي الأنبياء من يكاد يستغني عن مدد الملائكة. فهذا المثال موافق لهذا القسم.
وإذا كانت هذه الأنوار مترتبة بعضها على بعض: فالحسى هو الأول، وهو كالتوطئة والتمهيد للخيالي، إذ لا يتصور الخيالي إلا موضوعا بعده؛ والفكري والعقلي يكونان بعدهما؛ فبالحرى أن تكون الزجاجة كالمحل للمصباح والمشكاة كالمحل للزجاجة: فيكون المصباح في زجاجة، والزجاجة في مشكاة.
وإذ كانت هذه كلها أنواراً بعضها فوق بعض فبالحرىّ أن تكون نورا هذا المثال إنما يتضح لقلوب المؤمنين أو لقلوب الأنبياء والأولياء لا لقلوب الكفار: فإن النور يراد للهداية. فالمصروف عن طريق الهدى باطل وظلمة، بل أشد من الظلمة: لأن الظلمة لا تهدي إلى الباطل كما لا تهدي إلى الحق. وعقول الكفار انتكست، وكذلك سائر إدراكاتهم وتعاونت على الإضلال في حقهم. فمثالهم كرجل في (بَحرٍ لُّجِّىٍّ يَغشاهُ مَوجٌ مِّن فَوقِهِ مَوجٌ مِّن فَوقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعضَها فَوقَ بَعضٍ) والبحر واللّجىِّ هو الدنيا بما فيها من الأخطار المهلكة والأشغال المردية والكدورات المعمية.
والموج الأول موج الشهوات الداعية إلى الصفات البهيمية والإشتغال باللذات الحسية وقضاء الأوطار الدنيوية حتى إنهم يأكلون ويتمتعون كما تأكل الأنعام. وبالحرىّ أن يكون هذا الموج مظلما لأن حب الشيء يعمى ويصم. والموج الثاني موج الصفات السبعية الباعثة على الغضب والعداوة والبغضاء والحقد والحسد والمباهاة والتفاخر والتكاثر. وبالحري أن يكون مظلما لأن الغضب غول العقل. وبالحري أن يكون هو الموج الأعلى: لأن الغضب في الأكثر مستول على الشهوات حتى إذا هاج أذهل عن الشهوات وأغفل عن اللذات المشتهاة. وأما الشهوة فلا تقاوم الغضب الهائج أصلا.
وأما السحاب فهو الاعتقادات الخبيثة، والظنون الكاذبة، والخيالات الفاسدة التي صارت حجبا بين الكافرين وبين الإيمان ومعرفة الحق والاستضاءة بنور شمس القرآن والعقل: فإن خاصية السحاب أن يحجب إشراق نور الشمس.
وإذا كانت هذه كلها مظلمة فبالحري أن تكون ظلمات بعضها فوق بعض. وإذا كانت هذه الظلمات تحجب عن معرفة الأشياء القريبة فضلا عن البعيدة، ولذلك حجب الكفار عن معرفة عجائب أحوال النبي عليه السلام مع قرب متناوله وظهوره بأدنى تأمل، فبالحرى أن يعبر عنه بأنه لو أخرج يده لم يكد يراها. وإذا كان منبع الأنوار كلها من النور الأول الحق كما سبق بيانه فبالحرى أن يعتقد كل موحد أن (وَمَن لَّم يَجعَلِ اللهُ لَهُ نوراً فَما لَهُ مِن نّورٍ) فيكفيك هذا القدر من أسرار هذه الآية فاقنع به.
الفصل الثالث
في معنى قوله عليه السلام إن لله سبعين حجابا من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل من أدركه بصره
وفي بعض الروايات سبعمائة، وفي بعضها سبعين ألفا: فأقول: إن الله تعالى متجل في ذاته لذاته، ويكون الحجاب بالإضافة إلى محجوب لا محالة؛ وإن المحجوبين من الخلق ثلاثة أقسام: منهم من حجب بمجرد الظلمة؛ ومنهم من حجب بالنور المحض؛ ومنهم من حجب بنور مقرون بظلمة.
وأصناف هذه الأقسام كثيرة أتحقق كثرتها، ويمكنني أن أتكلف حصرها في سبعين، لكن لا أثق بما يلوح لي من تحديد وحصر، إذ لا أدري أنه المراد بالحديث أم لا. أما الحصر إلى سبعمائة وسبعين ألفا فذلك لا يستقل به إلا القوة النبوية، مع أن ظاهر ظني أن هذه الأعداد مذكورة للتكثير لا للتحديد؛ وقد تجري العادة بذكر عدد ولا يراد به الحصر بل التكثير. والله أعلم بتحقيق ذلك، فذلك خارج عن الوسع. وإنما الذي يمكنني الآن أن أعرفك هذه الأقسام وبعض أصناف كل قسم فأقول:
القسم الأول
وهم المحجوبون بمحض الظلمة، وهم الملحدة الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر. وهم الذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة لأنهم لا يؤمنون بالآخرة أصلا وهؤلاء صنفان: صنف تشوف إلى طلب سبب لهذا العالم فأحاله إلى الطبع: والطبع عبارة عن صفة مركوزة في الأجسام حالة فيها؛ وهي مظلمة إذ ليس لها معرفة وإدراك ولا خبر لها من نفسها ولا مما يصدر منها؛ وليس لها نور يدرك بالبصر الظاهر أيضا.
والصنف الثاني: هم الذين شغلوا بأنفسهم ولم يفرغوا لطلب السبب أيضا، بل عاشوا عيش البهائم، فكان حجبهم نفوسهم الكدرة، وشهواتهم المظلمة، ولا ظلمة أشد من الهوى والنفس: ولذلك قال الله تعالى: )أَفَرأَيتَ مَن اِتَخَذَ إِلَهَهُ هَواهُ( وقال رسول الله ﷺ : (الهوى أبغض إله عبد في الأرض) وهؤلاء انقسموا فرقا: فرقة زعمت أن غاية الطلب في الدنيا هي قضاء الأوطار ونيل الشهوات وإدراك اللذات البهيمية من منكح ومطعم وملبس. فهؤلاء عبيد اللذة، يعبدونها ويطلبونها ويعتقدون أن نيلها غاية السعادات: رضوا لأنفسهم أن يكونوا بمنزلة البهائم بل أخس منها. وأي ظلمة أشد من ذلك فقد حجب هؤلاء بمحض الظلمة.
وفرقة رأت أن غاية السعادات هي الغلبة والاستيلاء والقتل والسبى والأسر، وهذا مذهب الأعراب والأكراد وكثير من الحمقى، وهم محجوبون بظلمة الصفات السبعية لغلبتها عليهم وكون إدراكها مقصود أعظم اللذات. وهؤلاء قنعوا بأن يكونوا بمنزلة السباع بل أخس.
وفرقة ثالثة رأت أن غاية السعادات كثرة المال واتساع اليسار لأن المال هو آلة قضاء الشهوات كلها، وبه يحصل للإنسان الاقتدار على قضاء الأوطار. فهؤلاء همتهم جمع المال واستكثار الضياع والعقار والخيل المسومة والأنعام والحرث وكنز الدنانير تحت الأرض. فترى الواحد يجتهد طول عمره يركب الأخطار في البوادي والأسفار والبحار ويجمع الأموال ويشح بها على نفسه فضلا عن غيره: وهم المرادون بقوله عليه السلام: (تعس عبد الدراهم، تعس عبد الدنانير). واي ظلمة أعظم مما يلبس على الإنسان? إن الذهب والفضة حجران لا يرادان لأعيانهما. وهي إذا لم يقض بها الأوطار ولم تنفق فهي والحصباء بمثابة، والحصباء بمثابتها.
وفرقة رابعة ترقت عن جهالة هؤلاء وتعاقلت، وزعمت أن أعظم السعادات في اتساع الجاه والصيت وانتشار الذكر وكثرة الأتباع ونفوذ الأمر المطاع. فتراها لا همّ لها إلا المراءاة وعمارة مطارح أبصار الناظرين حتى إن الواحد قد يجوع في بيته ويحتمل الضر ويصرف ماله إلى ثياب يتجمل بها عند خروجه كي لا ينظر إليه بعين الحقارة. وأصناف هؤلاء لا يحصون، وكلهم محجوبون عن الله تعالى بمحض الظلمة، وهي نفوسهم المظلمة.
ولا معنى لذكر آحاد الفرق بعد وقوع التنبيه على الأجناس. ويدخل في جملة هؤلاء جماعة يقولون بلسانهم (لا إله إلا الله)، لكن ربما حملهم على ذلك خوف أو استظهار بالمسلمين وتجمل بهم أو استمداد من مالهم؛ أو لأجل التعصب لنصرة مذهب الآباء. فهؤلاء إذا لم تحملهم هذه الكلمة على العمل الصالح فلا تخرجهم الكلمة من الظلمات إلى النور، بل )أَولِياؤُهُمُ الطاغوتُ يُخرِجُونَهُم مِّنَ النورِ إِلى الظُّلُماتِ(. أما من أثرت فيه الكلمة بحيث ساءته سيئته وسرته حسنته فهو خارج عن محض الظلمة وإن كان كثيرا المعصية.
القسم الثاني
طائفة حجبوا بنور مقرون بظلمة وهم ثلاثة أصناف: صنف منشأ ظلمتهم من الحس، وصنف منشأ ظلمتهم من الخيال، وصنف منشأ ظلمتهم من مقايسات عقلية فاسدة.
الصنف الأول المحجوبون بالظلمة الحسية وهم طوائف لا يخلو واحد منهم عن مجاوزة الالتفات إلى نفسه وعن التأله والتشوف إلى معرفة ربه. وأول درجاتهم عبدة الأوثان وآخرهم الثنوية، وبينهما درجات. فالطائفة الأولى عبدة الأوثان: علموا على الجملة أن لهم ربا يلزمهم إيثاره على نفوسهم المظلمة، واعتقدوا أن ربهم أعز من كل شيء ولكن حجبتهم ظلمة الحس عن أن يجاوزوا العالم المحسوس فاتخذوا من أنفس الجواهر كالذهب والفضة والياقوت أشخاصا مصورة بأحسن الصور واتخذوها آلهة. فهؤلاء محجوبون بنور العزة والجمال، والعزة والجمال من صفات الله وأنواره، ولكنهم ألصقوها بالأجسام المحسوسة وصدهم عن ذلك ظلمة الحس، فإن الحس ظلمة بالإضافة إلى العالم الروحاني العقلي كما سبق.
الطائفة الثانية جماعة من أقاصي الترك ليس لهم ملة ولا شريعة يعتقدون أن لهم ربا وأنه أجمل الأشياء، فإذا رأوا إنسانا في غاية الجمال أو شجرا أو فرسا أو غير ذلك سجدوا له وقالوا إنه ربنا. فهؤلاء محجوبون بنور الجمال مع ظلمة الحس، وهم أدخل في ملاحظة النور من عبدة الأوثان لأنهم يعبدون الجمال المطلق دون الشخص الخاص فلا يخصصونه بشيء؛ ثم يعبدون الجمال المطبوع لا المصنوع من جهتهم وبأيديهم.
وطائفة ثالثة قالوا ينبغي أن يكون ربنا نورانيا في ذاته بهيا في صورته، ذا سلطان في نفسه، مهيبا في حضرته، لا يطاق القرب منه، ولكن ينبغي أن يكون محسوسا؛ إذ لا معنى لغير المحسوس عندهم. ثم وجدوا النار بهذه الصفة فعبدوها واتخذوها ربا. فهؤلاء محجوبون بنور السلطنة والبهاء: وكل ذلك من أنوار الله تعالى.
وطائفة رابعة زعموا أن النار نستولى عليها نحن بالإشعال والإطفاء، فهي تحت تصرفنا فلا تصلح للإلهية، بل ما يكون بهذه الصفات ولم يكن تحت تصرفنا ثم نكون نحن تحت تصرفه ويكون مع ذلك موصوفا بالعلو والارتفاع. ثم كان المشهور فيما بينهم علم النجوم وإضافة التأثيرات إليها. فمنهم من عبد الشّعرى، ومنهم من عبد المشتري إلى غير ذلك من الكواكب بحسب ما اعتقدوه في النجوم من كثرة التأثيرات. فهؤلاء محجوبون بنور العلو والإشراف والإستيلاء، وهي من أنوار الله تعالى. وطائفة خامسة ساعدت هؤلاء في المأخذ ولكن قالت لا ينبغي أن يكون ربنا موسوما بالصغر والكبر بالإضافة إلى الجواهر النورانية، بل ينبغي أن يكون أكبرها، فعبدوا الشمس وقالوا هي أكبر. فهؤلاء محجوبون بنور الكبرياء مع بقية الأنوار مقرونا بظلمة الحس.
وطائفة سادسة ترقوا عن هؤلاء فقالوا: النور كله لا ينفرد به الشمس بل لغيرها أنوار، ولا ينبغي للرب شريك في نورانيته فعبدوا النور المطلق الجامع لجميع أنوار العالم وزعموا أنه رب العالم والخيرات كلها منسوبة إليه. ثم رأوا في العالم شرورا فلم يستحسنوا إضافتها إلى ربهم تنزيها له عن الشر، فجعلوا بينه وبين الظلمة منازعة، وأحالوا العالم إلى النور والظلمة، وربما سموهما (يزدان) و (أهرمن)، وهم الثنوية. فيكفيك هذا القدر تنبيها على هذا الصنف، فهم أكثر من ذلك.
الصنف الثاني المحجوبون ببعض الأنوار مقرونا بظلمة الخيال، وهم الذين جاوزوا الحس، وأثبتوا وراء المحسوسات أمرا، لكن لم يمكنهم مجاوزة الخيال، فعبدوا موجودا قاعدا على العرش. وأخسهم رتبة المجسمة ثم أصناف الكرامية بأجمعهم. ولا يمكنني شرح مقالاتهم ومذاهبهم فلا فائدة في التكثير. لكن أرفعهم درجة من نفى الجسمية وجميع عوارضها الا الجهة المخصوصة بجهة فوق: لأن الذي لا ينسب إلى الجهات ولا يوصف بأنه خارج العالم ولا داخله لم يكن عندهم موجودا إذ لم يكن متخيلا. ولم يدركوا أن أول درجات المعقولات تجاوز النسبة إلى الجهات.
الصنف الثالث المحجوبون بالأنوار الإلهية مقرونة بمقايسات عقلية فاسدة مظلمة فعبدوا إلها سميعا بصيرا متكلما عالما قادرا مريدا حيا، منزها عن الجهات، لكن فهموا هذه الصفات على حسب مناسبة صفاتهم.
وربما صرّح بعضهم فقال: (كلامه صوت وحرف ككلامنا) وربما ترقي بعضهم فقال: (لا بل هو كحديث نفسنا ولا هو صوت ولا حرف) وكذلك إذا طولبوا بحقيقة السمع والبصر والحياة رجعوا إلى التشبيه من حيث المعنى وإن أنكروها باللفظ إذ لم يدركوا أصلا معاني هذه الإطلاقات في حق الله تعالى. ولذلك قالوا في إرادته إنها حادثة مثل إرادتنا. وإنها طلب وقصد مثل قصدنا. وهذه مذاهب مشهورة فلا حاجة إلى تفصيلها. فهؤلاء محجوبون بجملة من الأنوار مع ظلمة المقايسات العقلية. فهؤلاء أصناف القسم الثاني الذين حجبوا بنور مقرون بظلمة. وبالله التوفيق.
القسم الثالث
ثم المحجوبون بمحض الأنوار وهم أصناف ولا يمكن إحصاؤهم: فأشير إلى ثلاثة أصناف منهم.
الأول- طائفة عرفوا معاني الصفات تحقيقا وأدركوا أن إطلاق اسم الكلام والإرادة والقدرة والعلم وغيرها على صفاته ليس مثل إطلاقه على البشر؛ فتحاشوا عن تعريفه بهذه الصفات وعرفوه بالإضافة إلى المخلوقات كما عرّف موسى عليه السلام في جواب قول فرعون: (وَما رَّبُّ العالَمينَ) فقالوا إن الرب المقدس المنزه عن معاني هذه الصفات هو محرك السموات ومدبرها).
والصنف الثاني ترقوا عن هؤلاء من حيث ظهر لهم أن في السموات كثرة، وأن محرك كل سماء خاصة موجود آخر يسمى ملكا، وفيهم كثرة، وإنما نسبتهم إلى الأنوار الإلهية نسبة الكواكب. ثم لاح لهم أن هذه السموات في ضمن فلك آخر يتحرك الجميع بحركته في اليوم والليلة مرة فالرب هو المحرك للجرم الأقصى المنطوي على الأفلاك كلها إذ الكثرة منفية عنه.
والصنف الثالث ترقوا عن هؤلاء وقالوا: إن تحريك الأجسام بطريق المباشرة ينبغي أن يكون خدمة لرب العالمين وعبادة له وطاعة من عبد من عباده يسمى ملكا: نسبته إلى الأنوار الإلهية المحضة نسبة القمر في الأنوار المحسوسة. فزعموا أن الرب هو المطاع من جهة هذا المحرك؛ ويكون الرب تعالى محركا للكل بطريق الأمر لا بطريق المباشرة. ثم في تقسيم ذلك الأمر وماهيته غموض يقصر عنه أكثر الأفهام ولا يحتمله هذا الكتاب.
فهؤلاء الأصناف كلهم محجوبون بالأنوار المحضة. وإنما الواصلون صنف رابع تجلى لهم أيضا أن هذا (المطاع) موصوف بصفة تنافي الوحدانية المحضة والكمال البالغ لسر لا يحتمل هذا الكتاب كشفه: وأن نسبة هذا (المطاع) نسبة الشمس في الأنوار. فتوجهوا من الذي يحرك السموات ومن الذي يحرك الجرم الأقصى، ومن الذي أمر بتحريكها إلى الذي فطر السموات وفطر الجرم الأقصى وفطر الآمر بتحريكها، فوصلوا إلى موجود منزه عن كل ما أدركه بصر من قبلهم فأحرقت سبحات وجهه الأول الأعلى جميع ما أدركه بصر الناظرين وبصيرتهم فإذا وجدوه مقدسا منزها عن جميع ما وصفناه من قبل.
ثم هؤلاء انقسموا: فمنهم من احترق منه جميع ما أدركه بصره وانمحق وتلاشى، لكن بقي هو ملاحظا للجمال والقدس وملاحظا ذاته في جماله الذي ناله بالوصول إلى الحضرة الإلهية. فانمحقت فيه المبصرات دون المبصر. وجاوز هؤلاء طائفة هم خواص الخواص فأحرقتهم سبحات وجهه وغشيهم سلطان الجلال فانمحقوا وتلاشوا في ذاتهم ولم يبق لهم لحظ إلى أنفسهم لفنائهم عن أنفسهم. ولم يبق إلا الواحد الحق. وصار معنى قوله: )كل شىء هالك الا وجهه) لهم ذوقا وحالا.
وقد أشرنا إلى ذلك في الفصل الأول، وذكرنا أنهم كيف أطلقوا الاتحاد وكيف ظنوه. فهذه نهاية الواصلين.
ومنهم من لم يتدرج في الترقي والعروج على التفصيل الذي ذكرناه ولم يطل عليهم الطريق فسبقوا في أول وهلة إلى معرفة القدس وتنزيه الربوبية عن كل ما يجب تنزيهه عنه، فغلب عليهم أولا ما غلب على الآخرين آخراً، وهجم عليهم التجلي دفعة فأحرقت سبحات وجهه جميع ما يمكن أن يدركه بصر حسي وبصيرة عقلية. ويشبه أن يكون الأول طريق (الخليل) والثاني طريق الحبيب ﷺ، والله أعلم بأسرار أقدامهما وأنوار مقامهما.
فهذه إشارة إلى أصناف المحجوبين، ولا يبعد أن يبلغ عدههم إذا فصلت المقالات وتتبع حجب السالكين سبعين ألفا. ولكن إذا فتشت لا تجد واحدا منها خارجا عن الأقسام التي حصرناها: فإنهم إنما يحجبون بصفاتهم البشرية، أو بالحس أو بالخيال أو بمقايسة العقل، أو بالنور المحض كما سبق. فهذا ما حضرني في جواب هذه الأسئلة، مع أن السؤال صادفني والفكر متقسم، والخاطر متشعب، والهم إلى غيرها هذا الفن منصرف، ومقترحي عليه أن يسأل الله تعالى العفو عما طغى به القلم، أو زلّت به القدم؛ فإن خوض غمرة الأسرار الإلهية خطير، واستشفاف الأنوار الإلهية من وراء الحجب البشرية عسير غير يسير.
محتويات
1 محتوى الكتاب
2 الفصل الأول
3 خاتمة
4 الفصل الثاني
5 خاتمة واعتذار
6 القطب الثاني
7 الفصل الثالث
تصنيفان:
العقيدة
الغزالي
==========
التبر المسبوك في نصحية الملوك
== التبر المسبوك في نصيحة الملوك أبو حامد الغزالي ==
التبر المسبوك في نصيحة الملوك أبو حامد الغزالي المحتوايات: أصول الإيمان وأصول العدل والإنصاف عشرة بيان العينين اللتين هما مشرب شجرة الإيمان في ذكر العدل والسياسة وذكر الملوك وسيرهم في سياسة الوزارة وسيرة الوزراء في ذكر الكتاب وآدابهم في سمو همم الملوك في ذكر حلم الحكماء في شرف العقل والعقلاء في ذكر النساء أصول الإيمان ابتداء قاعدة الاعتقاد الذي هو أصل الإيمان إعلم أيها السلطان أنك مخلوق ولك خالق وهو خالق العالم وجميع ما في العالم، وأنه لا شريك له، فرد لا مثل له، كان في الأزل وليس لكونه زوال، ويكون مع الأبد وليس لبقائه فناء، وجوده في الأبد والأزل وما للعدم إليه سبيل، وهو موجود بذاته، وكل أحد محتاج إليه وليس له إلى أحد احتياج، وجوده به ووجود كل شيء به. الأصل الثاني في تنزيه الخالق تعالى إعلم أن البارئ، تعالى ذكره، ليس له صورة ولا مثل، وأنه لا ينزل ولا يحل في قالب، وأنه تعالى منزّه عن الكيف والكم، وعن لماذا وكم، وأنه لا يشبه شيئاً ولا يشبه شيء، وكلما يخطر في الوهم والخيال والفكر من التخيل والتمثيل والتكيف فانه منزّه عن ذلك، لأن ذلك من صفات المخلوقين وهو خالقها فلا يوصف بها، وأنه تعالى جدّه ليس في مكان ولا على مكان، فإن المكان لا يحصره، وكل ما في العالم فإنه تحت عرشه، وعرشه تحت قدرته وتسخيره، وأنه قبل العرش كان فترها عن المكان وليس العرش بحامل له بل العرش وحملته يحملهم لطفه وقدرته، واستواؤه على العرش كما قال، وعلى الوجه الذي قال وبالمعنى الذي أراد، استواء منزهاً عن الاستقرار والمماسة والتمكن والحلول والانتقال، وهو سبحانه فوق العرش وفوق كل شيء إلى تخوم الثرى، وهو مع ذلك قريب من كل موجود، وهو أقرب الى البعيد والقريب من حبل الوريد، وهوعلى كل شيء قدير وشهيد، فعّال لما يريد لا يزال في نعوت الجمال، وصفات الجلال، منزهاً عن الزوال والانتقال، مستعيناً عن زيادة الاستكمال، وأنه منزه عن الحاجة إلى المكان قبل خلقه العرش وبعد خلقه العرش، وأنه متّصف بالصفة التي كان عليها في الأزل، ولا سبيل إلى التغير والانقلاب إلى صفاته، وهو سبحانه مقدّس عن صفات المخلوقين ومنزّه عنهم، وهو في الدنيا معلوم وفي الآخرة مرئي كما نعلمه ي الدنيا بلا مثل ولا شبيه، لأن تلك الرؤية لا تشابه رؤية الدنيا، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. الأصل الثالث في القدرة وأنه تعالى على كل شيء قدير وملكه في نهاية الكمال، ولا سبيل إلى العجز والنقصان بل ما شاء وما يشاء يفعل، وأن السموات السبع والأرضين السبع والكرسي والعرش في قبضة قدرته وتحت قهره وتسخيره ومشيئته، وهو مالك لا ملك إلا ملكه، تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً. الأصل الرابع في العلم وأنه تعالى عالم بكل معلوم وعلمه محيط بكل شيء، فليس شيء في العلا إلى الثرى إلا قد أحاط به علمه لأن الأشياء جميعها بعلمه ظهرت وبإرادته خلقها وبقدرته كونها، وأنه تعالى يعلم عدة رمال القفار، وقطرات الأمطار، وورق الأشجار، وغوامض الأفكار، وما دارت عليه الرياح والهواء في علمه ظاهر مثل عدد نجوم السماء. وأن جميع ما في العالم بإرادته ومشيئته وليس شيء من قليل أو كثير، صغير أو كبير، خير أو شر، نفع أو ضر، زيادة أو نقصان، راحة أو تعب، صحة أو صب، إلا بحكمه وتدبيره، ومشيئته وتقديره. لو اجتمع الأنس والجن والملائكة والشياطين على أن يحرَكوا في العالم ذرة أو يسكنوها أو ينقصوا منها أو يزيدوا فيها بغير إرادته وحوله وقوته لعجزوا عن ذلك ولم يقدروا، وما شاء الله كان وما لا يشاء لا يكون، ولا ترد مشيئته ومهما كان ويكون أو هو كائن فإنه بتدبيره وأمره وتسخيره. الأصل الخامس والسادس في أنه سميع بصير وكما أنه عالم بجميع المعلومات فإنه سميع لكل مسموع، بصير لكل مبصر، وأنه بسمع واحد وبصر واحد يرى دبيب النملة في الليلة المظلمة، ولا يخفى عن سمعه صوت الدود تحت أطباق الأرض، وأن سمعه ليس بأذن وبصره ليس بعين. وكما أن علمه لا يصدر عن فكرة ففعله بغير آلة وعدة يقول للشيء كن فيكون. الأصل السابع في الكلام وأن أمره تعالى على جميع الخلق نافذ واجب مهما أخبره من وعد ووعيد فانه حق وأمره كلامه. وكما أنه عالم مريد قدير سميع بصير فهو متكلم وكلامه بغير حلق ولا لسان، ولا فم ولا أسنان، والقرآن والتوراة والإنجيل والزبور والكتب المنزَلة على الأنبياء، عليهم السلام جميعها، كلامه. وكلامه صفته وكل صفاته قديمة، وكما أن الكلام عند الآدمي حرف وصوت فكلام الله منزَه عن الأصوات والحروف. الأصل الثامن في أفعاله تعالى
وأن جميع ما في العالم مخلوق له تعالى وليس معه شريك ولا خالق بل هو الخالق الواحد، ومهما خلقه من تعب ومرض وفقر وعجز وجهل فعدل منه، ولا يمكن الظلم في أفعاله لأن الظالم هو الذي يتصرف في ملك غيره، والخالق تعالى لا يتصرف إلا في ملكه، وليس معه مالك سواء، وكل ما يكون وهو كائن فهو ملك له، وهو المالك بلا شبيه ولا شريك، وليس لأحد عليه اعتراض بلم وكيف، ولكن له الحكم والأمر في كل أفعاله وما لأحد غير التسليم والنظر إلى صنعه والرضا بقضائه. الأصل التاسع في ذكر الآخرة وأنه تعالى خلق العالم من نوعين جسد وروح، وجعل الجسد منزلاً للروح لتأخذ زاداً لآخرتها من هذا العالم، وجعل لكل روح مدة مقدّرة تكون في الجسد، فآخر تلك المدة هو أجل تلك الروح من غير زيادة ولا نقصان، فإذا جاء الأجل فرّق بين الروح والجسد، وإذا وضع الميت في قبره أعيدت روحه إلى جسده ليجيب سؤال منكر ونكير، وهما شخصان هائلان عظيمان فيسألانه من ربك ومن نبيك فإن استعجم ولم يجب عذّباه وملآ قبره حيات وعقارب. ويوم القيامة، يوم الحساب والمكافأة والمناقشة والمجازاة، تردّ الروح إلى الجسد وتنشر الصحف وتعرض الأعمال على الخلائق، فينظر كل إنسان في كتابه فيرى أعماله، ويشاهد أفعاله، ويعلم مقدار طاعته ومعصيته، وتوزن أعماله في ميزان الأعمال ثم يؤمر بالجواز على الصراط. والصراط أدق من الشعرة وأحدّ من الشفرة فكل من كان في هذا العالم على الطريقة المستقيمة الصالحة، وسلوك المحجة الواضحة، عبر على الصراط وجازه في راحة واستراحة، وإن لم يكن على السيرة المحمودة، والأعمال الصالحة الرشيدة وعصي مولاه، واتَبع هواه، فأنه لا يجد الطريق على الصراط ولا يهتدي إلى الجواز ويقع في جهنم. والكل يوقفون على الصراط ويُسألون عن أفعالهم؛ فيُسأل الصادقون عن صدقهم ويمتحن المراؤون والمنافقون ويفضحون، فمن الناس قوم يدخلون الجنة بغير حساب وجماعة يحاسبون بالرفق والمسامحة، وجماعة يحاسبون بالصعوبة والمناقشة والمحاققة، ثم يسحب الكفار إلى نار جهنم بحيث لا يجدون خلاصاً، ويدخل أهل الجنة ويؤمر بالعصاة إلى النار، وكل من نالته شفاعة الأنبياء والعلماء والأكابر عُفي عنه، وكل من ليس له شفيع عوقب بمقدار إثمه وعُذب بقدر جرمه، ثم يدخل الجنة إن كان قد سلم معه أيمانه. الأصل العاشر في ذكر رسول الله (ﷺ ) ولما قدّر الله تعالى هذا التقدير وجعل الإنسان وأحواله، واكتسابه وأعماله، منها ما هو سبب لسعادته، ومنها ما هو سبب لشقاوته،والإنسان لا يقدر أن يعرف ذلك من تلقاء نفسه، خلق الله تعالى، بحكم فضله ورحمته، وطوله ومنته، ملائكة وبعثهم إلى أشخاص قد حكم لهم بالسعادة في الأزل وهم الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، فأرسلهم إلى الخلق ليوضحوا لهم طرق السعادة والشقاوة لئلا يكون للناس على الله حجة، وأرسل نبينا محمداً ﷺ آخراً، وجعله بشيراً ونذيراً، فأوصل نبوّته إلى درجة الكمال، فلم يبقَ للزيادة فيه مجال، ولهذا جعله خاتم الأنبياء فلا نبي بعده، وأمر الخلائق من الأنس والجن بطاعته واتباعه وجعله سيد الأولين والآخرين، وجعل أصحابه خير أصحاب الأنبياء، صلوات اللّه عليهم أجمعين. ذكر فروع شجرة الإيمان إعلم أيها السلطان أن كل ما كان في قلب الإنسان من معرفة واعتقاد فذلك أصل الإيمان، وما كان جارياً على أعضائه السبعة من الطاعة والعدل فذلك فرع الإيمان. فإذا كان الفرع ذاوياً دلّ على ضعف الأصل فإنه لا يثبت عند الموت، وعمل البدن عنوان إيمان القلب. والأعمال التي هي فروع الإيمان هي تجنب المحارم وأداء الفرائض، وهما قسمان: أحدهما بينك وبين الله تعالى مثل الصوم والصلاة والحج والزكاة واجتناب شرب الشراب والعفة عن الحرام. والأخرى بينك وبين الخلق وهي العدل في الرعية والكف عن الظلم. والأصل في ذلك أن تعمل فيما بينك وبين الخالق تعالى من طاعة أمره والازدجار بزجره، وما تختار أن تعتمده عبيدك في حقك، وأن تعمل فيما بينك وبين الناس ما تؤثر أن يعمل معك من سواك إذا كان غيرك السلطان وكنت من رعيته. واعلم أنّ ما كان بينك وبين الخالق سبحانه فإن عفوه قريب، وأما ما يتعلق بمظالم الناس فإنه لا يتجاوز به عنك على كل حال يوم القيامة وخطره عظيم ولا يسلم من هذا الخطر أحد من الملوك إلا ملك عمل بالعدل والإنصاف ليعلم كيف يطلب العدل والإنصاف يوم القيامة.
وأصول العدل والإنصاف عشرة الأصل الأول من ذلك هو أن تعرف أولاً قدر الولاية وتعلم خطرها فإن الولاية نعمة من نعم الله عز وجل، من قام بحقّها نال من السعادة ما لا نهاية له ولا سعادة بعده، ومن قصّر عن النهوض بحقها حصل في شقاوة لا شقاوة بعدها إلا الكفر بالله تعالى. والدليل على عظم قدرها، وجلالة خطرها، ما روي عن رسول الله، ﷺ، أنه قال:)عدل السلطان يوماً واحداً أحب إلى الله من عبادة سبعين سنة.( وقال عليه الصلاة والسلام: )إذا كان يوم القيامة لا يبقى ظل ولا ملجأ إلا ظل الله ولا يستظل بظله ألا سبعة أناس: سلطان عادل ي رعيته، وشاب نشأ في عبادة ربه، ورجل يكون في السوق وقلبه في المسجد، ورجلان تحابا في الله، ورجل ذكر الله في خلوته فأذرى دمعه من مقلته، ورجل دعته امرأة ذات حسن وجمال ومال إلى نفسها فقال إني أخاف الله، وجل يتصدق سراً بيمينه ولم تشعر بها شماله( . وقال عليه الصلاة والسلام:)أحب الناس إلى الله تعالى وأقربهم إليه السلطان العادل، وأبغضهم إليه وأبعدهم منه السلطان الجائر( .وقال عليه الصلاة والسلام: )والذي نفس محمد بيده إنه ليرفع للسلطان العادل إلى السماء من العمل مثل عمل جملة الرعية، وكل صلاة يصلّيها تعدل سبعين ألف صلاة( . فإذا كان كذلك فلا نعمة أجلّ من أن يعطى العبد درجة السلطنة ويجعل ساعة من عمره بجميع عمر غيره، ومن لم يعرف قدر هذه النعمة واشتغل بظلمه وهواه يخاف عليه أن يجعله الله من جملة أعدائه. ومما يدلّ على خطر الولاية ما روي عن ابن عباس أن رسول الله، ﷺ، أتى بعض الأيام فلزم حقه باب الكعبة، وكان في البيت نفر من قريش فقال: )يا سادات قريش عاملوا رعاياكم وأتباعكم بثلاثة أشياء: إذا سألوكم الرحمة فارحموهم، وإذا حكموكم فاعدلوا فيهم، واعملوا بما تقولون؛ فمن لم يعمل بهذا فعليه لعنة الله وملائكته لا يقبل الله منه فرضاً ولا نفلاً( .وقال عليه الصلاة والسلام: )من حكم بين إثنين بظلم فلعنة الله على الظالمين( ، وقال عليه الصلاة والسلام: )ثلاثة لا ينظر الله إليهم: سلطان كجائز كاذب، وشيخ زانٍ، وفقير متكبر، يعني أنه متكبر للطمع( . وقال عليه الصلاة والسلام يوماً للصحابة: )سيأتي عليكم يوم تفتحون فيه جانبي الشرق والغرب ويصير في أيديكم، وكل عمال تلك الأماكن في النار إلا من اتقى الله وسلك سبيل التقوى وأدّى الأمانة( . وقال عليه الصلاة والسلام: )ما من عبد ولاّه الله أمر رعية فغشهم ولم ينصح لهم ولم يشفق عليهم الا حرَم الله عليه الجنة( . وقال عليه الصلاة والسلام: )من ولَي أمور المسلمين ولم يحفظهم كحفظة أهل بيته فقد تبوأ مقعده من النار(. وقال عليه الصلاة والسلام: )رجلان من أمتي يحرمان شفاعتي: ملك ظالم ومبتدع غال في الدين يتعدى الحدود( . وقال عليه الصلاة والسلام: )أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة السلطان الظالم( . وقال عليه الصلاة والسلام: )خمسة قد غضب الله عليهم إن شاء أمضى غضبه ومقرهم النار: أمير قوم يطيعونه يأخذ حقه منهم ولا ينصفهم من نفسه ولا يرفع الظلم عنهم، ورئيس قوم يطيعونه ولا يساوي بين القوي والضعيف ويحكم بالميل والمحاباة، ورجل لا يأمر أهله وأولاده بطاعة الله ولا يعلمهم أمور الدين ولا يبالي من أين أطعمهم، ورجل استأجر أجيراً فتمم عمله ومنعه أجرته، ورجل ظلم زوجته في صداقها( . ويروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تبع يوماً جنازة فتقدم رجل فصلى عن الجنازة فلما دفن الميت وضع ذلك الرجل يده على القبر وقال: اللهم إن عذبته فبحقك لأنه عصاك وأن رحمته فإنه فقير إلى رحمتك، وطوبي لك أيها الميت إن لم تكن أميراً أو عريفاً أو كابتاً أوعوانياً أو جابياً. فلما تكلم بهذه الكلمات غاب شخصه عن عيون الناس فأمر عمر بطلبه فلم يوجد، فقال عمر: هذا الخضر عليه السلام. وقال النبي ﷺ: )ويل للأمراء وويل للعرفاء وويل للعوانية فإنهم أقوام يعلقون من السماء بذوائبهم في القيامة، ويسحبون على وجوههم إلى النار، يودون لو لم يعلموا عملاً قط( . وقال عليه الصلاة والسلام: )ما من رجل ولي أمر عشرة من الناس إلا وجيء به يوم القيامة ويداه مغلولتان إلى عنقه، فإن كان عمله صالحاً فكّ الغل عنه، وإن كان عمله سيئاً زيد عليه غل آخره( . وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:ويل لقاضي الأرض من قاضي السماء حين يلقاه إلا من عدل وقضى بالحق ولم يحكم بالهوى ولم يمل مع أقاربه ولم يبدل حكماً لخوف أو طمع، لكن يجعل كتاب الله مرآته ونصب عينيه ويحكم بما فيه. وقال رسول الله ﷺ: )يؤتى بالولاة يوم القيامة فيقول الله جلّ وعلا: )أنتم كنتم رعاة خليقتي وخزنة ملكي في أرضي( . ثم يقول لأحدهم: )لم ضربت عبادي فوق الحد الذي أمرت به( . فيقول: يا رب لأنهم عصوك وخالفوك. فيقول جلّ جلاله: )لا ينبغي أن يسبق غضبك غضبي( . ثم يقول للآخر: )لم ضربت عبادي أقل من الحد الذي أمرت به( ? فيقول: يا رب رحمتهم. فيقول تعالى: )كيف تكون أرحم مني خذوا الذي زاد والذي نقص فاحشوا بهما زوايا جهنم(.
قال حذيفة بن اليمان: أنا لا أثني على أحد من الولاة سواء كان صالحاً أو غير صالح، لأني سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: )يؤتي بالولاة العادلين والظالمين يوم القيامة فيوقفون على الصراط فيوحي الله إلى الصراط أن ينفضهم إلى النار مثل من جار في الحكم أو أخذ رشوة على القضاء أو أعار سمعه لأحد الخصمين دون الآخر، فيسقطون من الصراط فيهوون سبعين سنة في النار حتى يصلوا إلى قرارها( . وقد جاء في الخبر أن داود عليه السلام كان يخرج ليلاً متنكراً بحيث لا يعرفه أحد، وكان يسأل كل من يلقاه عن حال داود سراً، فجاءه جبريل في صورة رجل فقال له داود: ما تقول في داود? فقال: نعم العبد، إلا أنه يأكل من بيت المال ولا يأكل من كدّه وتعب يديه. فعاد داود إلى محرابه باكياً حزيناً وقال : إلهي علمني صنعة آكل بها من كدي وتعب يدي. فعلمه الله تعالى صنعة الزرد. وكان عمر بن الخطاب يخرج كل ليلة يطوف مع العسس حتى يرى خللاً يتداركه وكان يقول: لوتركت عنزاً جرباء على جانب ساقية لم تدهن لخشيت أن أسئل عنها في القيامة. فانظر أيها السلطان إلى عمر مع احتياطه وعدله وما وصل أحد إلى تقواه وصلاته كيف يتفكر ويتخوف من أهوال يوم القيامة وأنت قد جلست لاهياً عن أحوال رعيتك غافلاً عم أهل ولايتك. قال عبد الله بن عمر وجماعة من أهل بيته: كنا ندعو الله أن يرينا عمر في المنام، فرأيته بعد أثني عشر كأنه قد اغتسل وهو متلفع فقلت: يا أمير المؤمنين كيف وجدت ربك وبأي حسناتك جازاك? فقال: يا عبد الله كم لي منذ فارقتك? فقلت: إثنتا عشرة سنة. فقال: منذ فارقتكم في الحساب وخفت أن أهلك إلا أن الله غفور رحيم، جواد كريم. فهذا حال عمر ولم يكن له من دنياه شيء من أسباب الولاية سوى درة. حكاية: أرسل قيصر ملك لروم رسولاً إلى عمر بن الخطاب لينظر أحواله ويشاهد فعاله، فلما دخل المدينة سأل أهلها وقال: أين ملككم? قالوا: ليس لنا ملك، بل لنا أمير قد خرج إلى ظاهر المدينة. فخرج الرسول في طلبه فوجده نائماً في الشمس على الأرض فوق الرمل الحار وقد وضع درته كالوسادة تحت رأسه والعرق يسقط منه إلى أن بل الأرض، فلما رآه على هذه الحالة وقع الخشوع في قلبه وقال: رجل تكون جميع ملوك الأرض لا يقر لهم قرار من هيبته، وتكون هذه حالة، ولكنك يا عمر عدلت فأمنت فنمت وملكنا يجور لا جرم أنه لا يزال ساهراً خائفاً. أشهد أن دينكم لدين الحق ولولا أني أتيت رسولاً لأسلمت، ولكن سأعود بعد هذا وأسلم. أيها السلطان خطر الولاية عظيم، وخطبها جسيم، والشرح في ذلك طويل، ولا يسلم الوالي الا بمقارنة عملاء الدين ليعلموه طرق العدل ويسهلوا عليه خطر هذا الأمر. الأصل الثاني أن يشتاق أبداً إلى رؤية العلماء ويحرص على استماع نصحهم، وأن يحذر من علماء السوء الذين يحرصون على الدنيا فإنهم يثنون عليك، ويغرونك ويطلبون رضاك طمعاً فيما في يديك من خبث الحطام ووبيل الحرام، ليحصلوا منه شيئاً بالمكر والحيل. والعالم هو الذي لا يطمع فيما عندك من المال، ومنصفك في الوعظ والمقال. كما يقال أن شقيقاً البلخي دخل على هارون الرشيد فقال له: أنت شقيق الزاهد? فقال: أنا شقيق ولست بزاهد. فقال له: أوصني. فقال: إن الله تعالى قد أجلسك مكان الصديق، وأنه يطلب منك مثل صدقة، وأنه أعطاك موضع عمر بن الخطاب الفاروق، وأنه يطلب منك الفرق بين الحق والباطل مثله، وأنه أقعدك موضع عثمان بن عفان ذي النورين وهو يطلب منك مثل حيائه وكرمه، وأعطاك موضع علي بن أبي طالب وهو يطلب منك مثل العلم والعدل كما يطلب منه. فقال له: زدني من وصيتك. فقال: نعم. اعلم أنا لله تعالى داراً تعرف بجهنم، وأنه قد جعلك بواب تلك الدار وأعطاك ثلاثة أشياء بيت المال والسوط والسيف، وأمرك أن تمنع الخلق من دخول النار بهذه الثلاثة فمن جاء محتاجاً فلا تمنعه من بيت المال، ومن خالف أخر ربه فأدبه بالسوط، ومن قتل نفساً بغير حق فاقتله بالسيف بإذن ولي المقتول، فإن لم تفعل ما أمرك فأنت الزعيم لأهل النار، والمتقدم إلى البوار. فقال له: زدني. فقال: إنما مثلك كمثل معين الماء، وسائر العلماء في العالم كمثل السواقي، فإذا كان المعين صافياً لا يضر كدر السواقي، وإذا كان المعين كدراً لا ينفع صفاء السواقي.
حكاية: خرج هارون الرشيد والعباس ليلاً زيارة الفضيل بن عياض، فلما وصلا إلى بابه وجداه يتلو هذه الآية: )أم حَسِبَ الذين إجتَرحوُا السيئَات أن نجَعلُهُم كالذِينَ آمنَوُا وعَمِلوُا الصَالِحاتِ( ومعناها: أيظن الذين اكتسبوا الخطايا ويعملون الأعمال المذمومة أن نسوي بينهم في الآخرة، وبين الذين يعملون الخيرات وهم مؤمنون. كلا ساء ما يحكمون. فقال هارون: إن كنا جئنا للموعظة فكفى بهذه موعظة. ثم أمر العباس أن يطرق عليه الباب فطرق بابه فقال: افتح الباب لأمير المؤمنين. فقال الفضيل: ما يصنع عندي أمير المؤمنين? فقال: أطِع أمير المؤمنين وافتح الباب. وكان ليلاً والمصباح يتقد فأطفأه، وفتح الباب، فدخل الرشيد وجمل يَطوف بيده ليصافح بها الفضيل، فلما وقعت يده عليه قال: الويل لهذه اليد الناعمة، إن لم تنج من العذاب في القيامة. ثم قال له: يا أمير المؤمنين استعد لجواب الله تعالى، فانه يوقفك مع كل واحد مسلم على حدة يطلب منك إنصافك إياه. فبكى هارون الرشيد بكاء شديداً وضمه إلى صدره. فقال له العباس: مهلاً فقد قتلته. فقال الرشيد للعباس: ما جعلك هامان إلا وجعلني فرعون. ثم وضع الرشيد بين يديه ألف دينار وقال له: هذه من وجه حلال من صداق أمي وميراثها. فقال له الفضيل: أنا آمرك أن ترفع يديك عما فيها وتعود إلى خالقك وأنت تلقيه إليّ. فلم يقبلها وخرج من عنده. نكتة: سأل عمر بن عبد العزيز محمد بن كعب القرظي فقال: صف لي العدل. فقال: كل مسلم أكبر منك سناً فكن له ولداً، ومن كان أصغر منك فكن له أباً، ومن كان مثلك فكن له أخاً، وعاقب كل مجرم على قدر جرمه، وإياك أن تضرب مسلماً سوطاً واحداً على حقد منك فإن ذلك يصيرك إلى النار. نكتة: حضر بعض الزهاد بين يدي خليفة، فقال له: عظني فقال: يا أمير المؤمنين إني سافرت الصين وكان ملك الصين قد أصابه الصمم وذهب سمعه فسمعته يقول يوماً وهو يبكي: والله ما أبكي لزوال سمعي وإنما أبكي لمظلوم يقف ببابي يستغيث فلا أسمع استغاثته، ولكن الشكر لله إذ بصري سالم. وأمر منادياً ينادي ألا كل من كانت له ظلامة فليلبس ثوباً أحمر. فكان يركب الفيل فكل من رأى عليه ثوباً أحمر دعاه واستمع شكواه وأنصفه من خصمائه. فانظر يا أمير المؤمنين إلى شفقة ذلك الكافر على عباد الله وأنت مؤمن من أهل بيت النبوة فأنظر كيف تريد أن تكون شفقتك على رعيتك. نكتة أخرى: حضر أبو قلابة مجلس عمر بن عبد العزيز فقال له: عظني قال: من عهد آدم إلى وقتنا هذا لم يبق خليفة سواك. فقال: زدني. فقال: أنت أول خليفة يموت. فقال: زدني. فقال: إن كان الله معك فممن تخاف وإن لم يكن معك فإلى من تلتجىء. قال: حسبي ما قلت. حكمة: كان سليمان بن عبد الملك خليفة فتفكر يوماً وقال: قد تنعمت في الدنيا طويلاً فكيف حالي في الآخرة? وأتى إلى أبي حازم، وكان عالم أهل زمانه وزاهد أوانه، وقال: أنفذ لي شيئاً من قوتك الذي تفطر عليه. فأنفذ له قليلاً من نخالة وقد شواها، فقال: هذا فطوري. فلما رأي سليمان ذلك أفطر الليلة الثالثة على تلك النخالة المشوية، فيقال إنه في تلك الليلة تغشى أهله فكان منها عبد العزيز وجاء منه عمر بن عبد العزيز. وكان واحد زمانه في عدله وإنصافه وزهده وإحسانه، وكان على طريقة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقيل أن ذلك ببركة نيته وصيامه وأكله من ذلك الطعام. نكتة: سئل عمر بن عبد العزيز: ما كان سبب توبتك? قال: كنت أضرب يوماً غلاماً فقال لي: اذكر الليلة التي تكون صبيحتها القيامة، فعمل ذلك الكلام في قلبي. نكتة أخرى: رأى بعض الأكابر هارون الرشيد في عرفات وهو حافٍ حاسر قائم على الرمضاء الحارة، وقد رفع يديه وهو يقول: إلهي أنت أنت وأنا أنا الذي دأبي كل يوم أعود إلى عصيانك ودأبك أن تعود إليّ برحمتك. فقال بعض الكبراء: انظروا إلى تضرع جبار الأرض بين يديّ جبار السماء. نكتة أخرى: سأل عمر بن عبد العزيز يوماً حازم الموعظة فقال له أبو حازم: إذا نمت فضع الموت تحت رأسك وكل ما أحببت أن يأتيك الموت وأنت عليه مصرّ فالزمه، وكل مالا تريد أن يأتيك الموت وأنت عليه فاجتنبه، فربما كان الموت منك قريباً. فينبغي لصاحب الولاية أن يجعل هذه الحكاية نصب عينيه، وأن يقبل المواعظ التي وعظ بها غيره فكلما رأى علماً سأله أن يعظه، وينبغي للعلماء أن يعظوا الملوك بمثل هذه المواعظ ولا يغرّوهم ولا يدّخروا عنهم كلمة الحق وكل من غرّهم فهو مشارك لهم، والله سبحانه وتعالى أعلم. الأصل الثالث من ذلك ينبغي أن لا تقنع برفع يدك عن الظلم لكن تهذّب غلمانك وأصحابك وعمالك ونوابك، فلا ترضى لهم بالظلم فإنك تُسأل عن ظلمهم كما تُسأل عن ظلم نفسك. نكتة: كتب عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، إلى عامله أبي موسى الأشعري: )أما فإن أسعد الولاة من سعدت به رعيته، وإن أشقى الولاة من شقيت به رعيته. فإياك والتبسّط فإن عمالك يقتدون بك، وإنما مثلك كمثل دابة رأت مرعى مخضراً فأكلت كثيراً حتى سمنت فكان سمنها سبب هلاكها لأنها بذلك السمن تذبح وتؤكل( . وفي التوراة كل ظلم علمه السلطان من عماله فسكت عنه كان ذلك الظلم منسوباً إليه وأخذ به وعوقب عليه. وينبغي للوالي أن يعلم أنه ليس أحدُ أشد غبناً ممن باع دينه وآخرته بدنيا غيره، وأكثر الناس في خدمة شهواتهم، فانهم يستنبطون الحيل ليصلوا إلى مرادهم من الشهوات. وكذلك العمال لأجل نصيبهم من الدنيا يغرون الوالي ويحسنون الظلم عنده فيلقونه في النار ليصلوا إلى أعراضهم، وأي عدو أشد عداوة ممن يسعى في هلاكك وهلاك نفسه لأجل درهم يكتسبه ويحصله. وفي الجملة ينبغي لمن أراد حفظ العدل على الرعية أن يرتّب غلمانه وعماله للعدل، ويحفظ أحوال العمار، وينظر فيها كما ينظر في أحوال أهله وأولاده ومنزله، ولا يتم له ذلك إلا بحفظ العدل أولاً من باطنه؛ وذلك أن لا يسلّط شهوته وغضبه على عقله ودينه، ولا يجعل عقله ودينه أسرى شهوته وغضبه بل يجعل شهوته وغضبه أسرى عقله ودينه. ويجب أن يعلم أن العقل من جوهر الملائكة ومن جند البارئ، جلّت قدرته، وأن الشهوة والغضب من جند الشيطان. فمن يجعل جند الله وملائكته أسرى جند الشيطان كيف يعدل في غيرهم? وأول ما تظهر شمس العدل في الصدر ثم ينشر نورها في أهل البيت وخواص الملك فيصل شعاعها إلى الرعية، ومن طلب الشعاع في غير الشمس فقد طلب المحال، وطمع فيما لا ينال. واعلم أيها السلطان وتبيّن أن ظهور العدل من كمال العقل، وكمال العقل أن ترى الأشياء على ما هي، وتدرك حقائق باطنها ولا تغتر بظاهرها. مثلاً إذا كنت تجور على الناس لأجل الدنيا فينبغي أن تنظر أي شيء مقصودك من الدنيا، فإن كان مقصودك من الدنيا أكل الطعام الطيب فيجب أن تعلم أن هذه شهوة بهيمة في صورة آدمي، لأن الشهوة إلى الأكل من طباع البهائم، وإن كان مقصودك لبس التاج فإنك امرأة في صورة رجل لأن التزين والرعونة من أعمال النساء، وإن كان مقصودك أن تمضي غضبك على أعدائك فأنت أسد أو سبع في صورة آدمي لأن إحضار الغضب للقلب من طباع السباع، وإن كان مقصودك أن تخدمك الناس فأنت جاهل في صورة عاقل فإنك لو كنت عاقلاً لعلمت أن الذين يخدمونك إنما هم خدم وغلمان لبطونهم وفروجهم وشهواتهم وإن خدمتهم وسجودهم لأنفسهم لا لك وعلامة ذلك أنهم لو سمعوا إرجافاً بأن الولاية تؤخذ منك وتعطى لسواك أعرضوا بأجمعهم عنك وفي أي موضع علموا الدرهم خدموا وسجدوا لذلك الموضع، فعلى الحقيقة ليست هذه خدمة وإنما هي ضحكة.
والعاقل من نظر أرواح الأشياء وحقائقها ولا يغتر بصورها، وحقيقة هذه الأعمال ما ذكره وأوضحناه، فكل من لم يتيقن ذلك فليس بعاقل ومن لم يكن عاقلاً لم يكن عادلاً ومن لم يكن عادلاً مأواه جهنم، فلهذا السبب كان رأس مال السعادات كلها العقل. الأصل الرابع إن الوالي في الأغلب يكون متكبراً ومن التكبر يحدث عليه السخط الداعية إلى الانتقام، والغضب غول العقل وعدوه وآفته، وقد ذكرنا ذلك في كتاب الغضب في ربع المهلكات. وإذا كان الغضب غالباً فينبغي أن يميل في الأمور إلى جانب العفو ويتعود الكرم والتجاوز فإذا صار ذلك عادة لك ماثلت الأنبياء والأولياء، ومتى جعلت إمضاء الغضب عادة ماثلت السباع والدواب. حكاية: يقال أن أبا جعفر المنصور أمر بقتل رجل، والمبارك بن الفضل حاضر فقال: يا أمير المؤمنين أسمع خبراً قبل أن تقتله: روى الحسن البصري عن رسول الله ﷺ أنه قال: )إذا كان يوم القيامة وجمع الخلائق في صعيد واحد، نادي منادٍ من كان له عند الله يد فليقم، فلا يقوم إلا من عفا عن الناس، فقال أطلقوه فأني قد عفوت عنه( . وأكثر ما يكون غضب الولاة على من ذكرهم وطوّل لسانه عليهم فيسعون في سفك دمه. قال عيسى عليه السلام ليحيى بن زكريا عليهما السلام: إذا ذكرك أحد بشيء وقال فيك صحيحاً فاشكر الله، وإن قال فيك كذباً فازدد من ذكر الشكر، فإنه يزيد في ديوان أعمالك وأنت مستريح، يعني أن حسناته تكتب لك في ديوانك. وذكر عند رسول الله ﷺ رجل فقيل إن فلاناً رجل قوي شجاع فقال: كيف ذاك? فقالوا: يقوى بكل أحد وما صارع أحداً إلا صرعه فقال عليه الصلاة السلام: )القوي الشجاع من قهر نفسه لا من صرع غيره( . وقال عليه الصلاة والسلام: )ثلاث من كانت فيه فقد كمل إيمانه من كظم غيظه وأنصف في حال رضاه وغضبه وعفا عند المقدرة( . وقال عمر ابن الخطاب: لا تعتمد على خلق رجل حتى تجربه عند الغضب. حكاية: قيل عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه بلغه عن رجل كلام يكرهه فأخذ طبقاً مملوأً من التمر الجني وحمله بنفسه إلى دار ذلك الرجل فطرق الباب فقام الرجل وفتح الباب فنظر إلى الحسين ومعه الطبق فقال: وما هذا يا ابن بنت رسول الله? قال: خذه فأنه بلغني عنك إنك أهديت إليّ حسناتك فقابلت بهذا. حكاية أخرى: خرج زين العابدين علي بن الحسين رضي الله عنه إلى المسجد فسبّه رجل فقصده غلمانه ليضربوه ويؤذنه فنهاهم زين العابدين وقال: كفوا أيديكم عنه، ثم التفت إلى ذلك الرجل وقال: يا هذا أنا أكثر مما تقول وما لا تعرفه مني أكثر مما قد عرفته فإن كان لك حاجة في ذكره ذكرته لك، فخجل واستحيى فخلع عليه زين العابدين قميصه وأمر له بألف درهم فمضي الرجل وهو يقول: أشهد أن هذا الشاب ولد رسول الله ﷺ. ويروى أن زين العابدين استدعى غلاماً له وناداه مرتين فلم يجبه فقال له زين العابدين: أما سمعت ندائي? فقال: بلى قد سمعت، قال: فما حملك على تركك إجابتي عليّ? قال: أمنت وعرفت طهارة أخلاقك فتكاسلت، فقال: الحمد لله الذي أمن مني عبدي. ويروى عنه أنه كان له غلام فعمد إلى شاة فكسر رجلها فقال له: لم فعلت هذا? قال: فعلته غمداً لأغيظك، قال: ما أنا أغيظ من الذي علمك وهو إبليس أذهب فأنت حر لوجه الله تعالى. ويروى أن رجلاً سبه فقال له زين العابدين: يا هذا بيني وبين جهنم عقبة إن أنا أجزتها فما أبالي وإن أنا لم أجزها فأنا أكثر مما تقول.
وقال رسول الله ﷺ: )قد يبلغ الرجل بحلمه وعفوه درجة الصائم القائم، ويكون رجل يكتب في جريدة الجائرين ولا ولاية له ولا حكم إلا على أهل منزله( . ويروى أن إبليس رأى موسى عليه السلام فقال: يا موسى أعلمك ثلاثة أشياء وتطلب لي من الله حاجة واحدة، فقال: وما الثلاثة أشياء? فقال يا موسى أحذر من الغضب والحرد، فإن الحَردان يكون خفيف الرأس وأنا ألعب به كما يلعب الصبيان بالكرة، وأحذر من البخل فإني أفسد على البخيل دنياه ودينه، وأحذر من النساء فإني ما نصبت للخلق شركاً اعتمد عليه مثل النساء. وقال عليه الصلاة والسلام: )من كظم غيظه وهو قادر على أن لايكظمه ملأ الله قلبه بالإيمان، ومن لم يلبس ثوباً طويلاً خوفاً من التكبر والخيلاء ألبسه الله تعالى حلل الكرامة( . وقال عليه الصلاة والسلام: )ويل لمن يغضب وينسى غضب الله( . جاء رجل إلى النبي ﷺ فقال: علمني عملاً ادخل به الجنة، فقال: لا تغضب. قال: ثم ماذا? قال: استغفر الله قبل صلاة العصر سبعين مرة لتكفر عنك ذنوب سبعين سنة، فقال: ما لي ذنوب سبعين سنة، فقال: لأمك، قال: وما لأمي ذنوب سبعين سنة، قال: لأبيك، قال: وما لأبي ذنوب سبعين سنة قال: لأخوتك? قال: نعم. وروى ابن مسعود أن رسول الله ﷺ كان يقسم يوماً مالاً فقال له رجل: ما هذه القسمة? يعني أنها ليست بإنصاف، فحكيت ذلك لرسول الله ﷺ فغضب واحمرّ وجهه ولم يقل شيئاً سوى أن قال: رحم الله أخي موسى فإنه أوذي فصبر على الأذى. فهذه الجملة من الحكايات والأخبار تقنع في نصيحة الولاة إذا كان أصل إيمانهم ثابتاً اثر فيه هذا القدر، فإن لم يؤثر ما ذكرناه فيهم فقد أخلوا قلوبهم من الإيمان، وإنه ما بقي من إيمانهم إلا الحديث باللسان. عامل يتناول من أموال المسلمين في كل سنة كذا وكذا ألف درهم ويبقى في ذمته، ويطالب بها في القيامة ويحصل بمنفوعها ويبؤ بالعقوبة والعذاب يوم المرجع والمآب كيف تؤثر عنده هذه الأسباب? وهذا نهاية الغفلة، وقلة الدين وضعف النحلة. الأصل الخامس إنك في كل واقعة تصل إليك وتعرض عليك تقدر إنك واحد من جملة الرعية وإن الوالي سواك فكل ما لا ترضاه لنفسك لا ترضى به لأحد من المسلمين، وإن رضيت لهم بما لا ترضاه لنفسك فقد خنت رعيتك وغششت أهل ولايتك. روي أن رسول الله ﷺ كان قاعداً يوم بدر في ظل فهيط الأمين جبريل عليه السلام فقال: يا محمد أتقعد في الظل وأصحابك في الشمس. فعوتب بهذا القدر. وقال عليه الصلاة والسلام: )من أحب النجاة من النار والدخول إلى الجنة فينبغي أن يكون بحيث إذا جاءه الموت وجد كلمة الشهادة بلسانه، وكل ما لا يرضى به لنفسه لا يرضى به لأحد من المسلمين( . وقال عليه الصلاة والسلام: )من أصبح في قلبه همة سوى الله فليس من الله في شيء ومن لم يشفق على المسلمين فليس منهم( . مس. فعوتب بهذا القدر. وقال عليه الصلاة والسلام: )من أحب النجاة من النار والدخول الى الجنة فينبغي أن يكون بحيث إذا جاءه الموت وجد كلمة الشهادة بلسانه، وكل ما لا يرضى به لنفسه لا يرضى به لأحد من المسلمين( . وقال عليه الصلاة والسلام: )من أصبح في قلبه همة سوى الله فليس من الله في شيء ومن لم يشفق على المسلمين فليس منهم( . الأصل السادس أن لا تحتقر انتظار أرباب الحوائج ووقوفهم ببابك وأحذر من هذا الخطر، ومتى كان لأحد من المسلمين إليك حاجة فلا تشتغل عن قضائها بنوافل العبادات فإن قضاء حوائج المسلمين أفضل من نوافل العبادات. نكتة: كان يوماً عمر بن عبد العزيز يقضي حوائج الناس فجلس إلى الظهر وتعب فدخل بيته ليستريح من تعبه فقال له ولده: وما الذي يؤمنك أن يأتيك الموت في هذه الساعة وعلى بابك منتظر حاجة وأنت مقصر في حقه? فقال: صدقت. ونهض فعاد إلى مجلسه.
الأصل السابع أن لا تعود نفسك الاشتغال بالشهوات من لبس الثياب الفاخرة وأكل الأطعمة الطيبة، لكن تستعمل القناعة في جميع الأشياء فلا عدل بلا قناعة. نكتة: سأل عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بعض الصالحين فقال: هل رأيت من حلاي شيئاً تكرهه? قال: سمعت أنك وضعن على مائدتك رغيفين وأن لك قميصين أحدهما لليل والآخر للنهار، فقال: غير هذين شيء? فقال: لا. قال: والله إن هذين لا يكونان أبداً. الأصل الثامن إنك متى أمكنك أن تعمل الأمور بالرفق واللطف فلا تعملها بالشدة والعنف. قال ﷺ: )كل والٍ لا يرفق برعيته لا يرفق الله به يوم القيامة(. ودعا عليه الصلاة والسلام يوماً: )اللهم الطف بكل والٍ يلطف برعيته واعنف على كل والٍ يعنف على رعيته(. وقال عليه الصلاة والسلام: )الولاية والإمرة حسنتان لمن قام بحقهما سيئتان لمن قصر فيهما(. نكتة: كان هشام بن عبد الملك من خلفاء بني أمية فسأل يوماً أبا حازم وكان من العلماء: ما التدبير في النجاة من أمور الخلافة? قال: أن تأخذ الدرهم الذي تأخذه من وجه حلال، وان تضعه في موضع حق. قال: من يقدر عل هذا? قال: من يرغب في نعيم الجنان، ويرهب من عذاب النيران. الأصل التاسع أن تجتهد أن ترضى عنك رعيتك بموافقة الشرع قال النبي ﷺ لأصحابه: )خير أمتي الذين يحبونكم وتحبونهم، وشر أمتي الذين يبغضونكم وتبغضونهم ويلعنونكم وتلعنونهم، وينبغي للوالي أن لا يغتر بكل من وصل إليه وأثنى عليه، وأن لا يعتقد أن الرعية مثله راضون عنه، وأن الذي يثني عليه إنما يفعل ذلك من خوفه منه، بل ينبغي ترتيب معتمدين يسألون عن حاله من الرعية ليعلم عيبه من ألسنة الناس(. الأصل العاشر إن لا يطلب رضا أحد من الناس بمخالفة الشرع فإن من سخط بخلاف الشرع لا يضر سخطه. كان عمر ابن الخطاب، رضي الله عنه، يقول: إني لأصبح ونصف الخلق علي ساخط، ولابد لكل من يؤخذ منه الحق أن يسخط، ولا يمكن أن يرضى الخصمين، وأكثر الناس جهلاً من ترك الحق لأجل رضا الخلق. كتب معاوية إلى عائشة، رضي الله عنهما، أن عظيني عظة مختصرة، فكتبت إليه تقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: )من طلب رضا الله تعالى في سخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن طلب رضا الناس بسخط الله تعالى سخط الله عليه وأسخط الخلق عليه، مثل أن لا يأمرهم بالطاعة ولا يعلمهم أمور الدين ويطعمهم الحرام ويمنع الأجير أجرته والمرأة مهرها، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس( بيان العينين اللتين هما مشرب شجرة الإيمان وإذ قد عرفت أصول شجرة الإيمان، وعرفت فروعها، فاعلم أن هناك عينين للعلم تستمد الشجرة منهما الماء. العين الأولى في معرفة الدنيا ولم أوجد فيها الإنسان إعلم يا سلطان العالم أن الدنيا منزلة وليست بدار قرار، والإنسان مسافر فأول منازله بطن أمه وآخر منازله لحد قبره، وإنما وطنه وقراره ومكثه واستقراره بعدها. فكل سنة تنقضي من الإنسان فكالمرحلة، وكل شهر ينقضي منه فكاستراحة المسافر في كريقه، وكل أسبوع فكقرية تلقاه، وكل يوم فكفر سوف يقطعه، وكل نفس كخطوة يخطوها، وبقدر كل نفس يتنفسه يقرب من الآخرة. وهذه الدنيا قنطرة فمن عمر القنطرة واستعجل بعمارتها فني فيها زمانه، ونسى المنزلة التي هي مصيره ومكانه، وكان جاهلاً غير عاقل، وإنما العاقل الذي لا يشتغل في دنياه إلا لاستعداده لمعاده، ويكتفي منها بقدر الحاجة ومهما جمعه فوق كفايته كان سماً ناقعاً، ويتمنى أن تكون جميع خزائنه وسائر ذخائره رماداً وتراباً لا فضة ولا ذهباً، ولو جمع مهما جمع فإن نصيبه ما يأكله ويلبسه لا سواه، وجميع ما يخلفه يكون عليه حسرة وندامة ويصعب عليه نزعه عند موته فحلالها حساب، وحرامها عذاب، أن كان قد جمع المال من حلال طلب منه الحساب، وإن كان قد جمع من حرام وجب عليه العذاب، وكان إيمانه صحيحاً سالماً لحضرة الديان، فلا وجه ليأسه من الرحمة والرضوان، فإن الله جواد كريم، غفور رحيم.
واعلم أيها السلطان أن راحة الدنيا أيام قلائل وأكثرها منغص بالتعب، مشوب بالنصب، وبسببها تفوت راحة الآخرة التي هي الدائمة الباقية والملك الذي لا نهاية له ولا فناء، فيسهل على العاقل أن يصبر في هذه الأيام القلائل لينال راحة دائمة بلا انقضاء. نكتة: لو كان للإنسان معشوقة وقيل له إن صبرت عنها هذه الليلة سلمت إليك ألف ليلة بلا تعب ولا نصب، وإن كنت تزورها فإنك لا تراها أبداً فإنه كان عشقه لها عظيماً وصبره عنها أليماً لكن يهون عليه صبره على البعد عنها ليلة واحدة لينال الآخرة، بل الدنيا ليست بشيء في جنب الآخرة، ولا شبه بينهما لأن الآخرة لا نهاية لها، ولا يُدرك بالوهم طولها. وقد أفردنا في صفة الدنيا كتاباً لكنا نقتنع الآن بما نورده من حال الدنيا، وقد أوضحنا حالها على عشرة أمثلة. المثال الأول في بيان سحر الدنيا: وقد قال ﷺ: )أحذروا الدنيا فإنها أسحر من هاروت وماروت؛ وأول سحرها أنها تريك أنها ساكنة عندك مستقرة معك، وإذا تأملتها خلتها وهي هاربة منك نافرة عنك عل الدوام، وإنما تتسلسل عل التدريج ذرة ذرة ونفساً نفساً(. ومثل الدنيا مثل الظل إذا رأيته حسبته ساكناً وهو يمر دائماً، وكذلك عمر الإنسان يمر بالتدريج عل الدوام وينقص كل لحظة، وكذلك الدنيا تودعك وتهرب عنك وأنت غافل لا تخبر وذاهل لا تشعر، ولذلك قال بعض الشعراء في المعني. وما الدُنيَا وإن كثُرت وطابَت بها اللذاتُ إلا كالـسَـرابِ يمُرُ نعيمُها بـعـدُ اِلـتـذاذِ ويمضِي ذاهباً مرّ السحابِ المثال الثاني من ذلك: ومن سحرها أنها تظهر لك محبة لتعشقها، وتريك أنها لك مساعدة وأنها لا تنتقل عنك إلى غيرك ثم تعود عدوة لك على غفلة. ومثلها مثل امرأة فاجرة خداعة للرجال حتى إذا رأوها عشقوها ودعتهم إلى بيتها فاغتالتهم وأهلكتهم. نكتة: رأى عيسى عليه السلام الدنيا في بعض مكاشفاته وهي على صورة عجوز هرمة فقال لها: كم كان لك من زوج? فقالت: لا يحصون كثرة، فقال عيسى: ماتوا أم طلقوك? فقالت: بل أنا قتلتهم وأفنيتهم، فقال: يا عجباً ومن دواهيك هذا صنعك بأهلك وهم فيك راعبون، وعليك يقتتلون، وبمن مضى لا يعتبرون. المثال الثالث من ذلك: ومن سحرها أنها تزين ظاهرها بمحاسنه، وتخفي محنتها وقواتلها في باطنها، لتغر الجاهل بما يرى من ظاهرها ومثلها كمثل عجوز قبيحة المنظر تخفي وجهها وتلبس حسن الثياب وتتزين وتتجمل لتفتن الخلق من بعد فإذا كشفوا عنها غطاءها وخمارها، والقوا عنها إزارها ندموا على محبتها لما شاهدوه من فضائح، وعاينوه من قبائحها. وقد جاء في الخبر أن الدنيا يؤتى بها يوم القيامة في صورة عجوز قبيحة مشوهة زرقاء العين وحشة الوجه قد كشّرت عن أنيابها، فإذا رآها الخلائق قالوا نعوذ بالله من هذه القبيحة المشوهة، فيقال لهم هذه الدنيا التي كنتم عليها تتحاسدون ولأجلها كنتم تتحاقدون وتسفكون الدماء بغير حق وتقطعون أرحامكم وتغترون زخرفها، ثم يؤمر بها إلى النار فتقول: إلهي أين أحبابي فيؤمر بهم فيلقون في نار جهنم.
المثال الرابع من ذلك: إن الإنسان يحسب كم كان في الأزل قبل أن يوجد في الدنيا وكم يكون مدة عدمه بالموت وكم قدر هذه المدة التي بين الأبد والأزل وهي مدة حياته في الدنيا، فيعلم أن مثال الدنيا كطريق المسافر أوله المهد، وآخره اللحد، وفيما بينهما منازل معدودة، وأن كل سنة كمنزل وكل شهر لفرسخ، وكل يوم كميل، وكل نفس كخطوة وهو يسير دائماً فيبقى لواحد من طريقه فرسخ ولآخر أكثر وهو قاعد ذاهل، وساكن غافل، كأنه مقيم لا يبرح وقد اشتغل بتدبير أعمال لا يحتاج إليها بعد عشر سنين وربما يحصل بعد عشرة أيام تحت التراب. المثال الخامس من ذلك: إعلم أن مثل الدنيا تتحف أهلها فيها بشهواتهم ولذاتهم من الأمور الفضائح التي يشاهدونها في الآخرة كمثل إنسان أكل فوق حاجته من طعام حلو سمين إلى أن هاض هاضت معدته فرأى فضيحته من هلاك معدته ونتونة نفسه وكره برازه وحاجته فندم بعد ذهاب لذته وبقاء فضيحته من هلاك معدته. وكذلك كلّما ألف الإنسان لذات الدنيا وتبين له ذلك كانت عاقبته أصعب، ويبتلي بمثل ذلك عند نزعه خروج روحه كمن كان له نعم كثيرة وذهب وفضة وجوار وغلمان وكروم وبساتين وفارقه كان ألم فراق روحه عليه أصعب ممن ليس له إلا القليل فإن ذلك الألم والعذاب لا يزول بالموت بل يزيد لأن تلك المحبة صفة القلب والقلب بحاله لا يموت. المثال السادس من ذلك: إعلم أيها السلطان أن أمور الدنيا أول ما تبدو يظنها الإنسان قريبة مختصرة وأن شغلها لا يدوم،وربما كان من بعض أشغالها وأحوالها أمر يتسلسل منه أمر وينفق فيه بضاعة العمر، فإن عيسى عليه السلام قال: طالب الدنيا كشارب ماء البحر كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً ولهباً فلا يزال يشرب حتى يهلك ولا يروى. قال النبي ﷺ: )كما لا يمكن من خاض البحر أن لا يناله البلل كذلك لا يمكن من دخل في أمور الدنيا أن لا يتدنس(. المثال السابع من ذلك: مثل من حصل في الدنيا كمثل ضيف دُعي إلى مائدة ومن عادة المضيف أن يزين داره للأضياف ويدعو إليها قوماً بعد قوم، وفوجاً بعد فوج، ويضع بين يدي أضيافه طبقاً من ذهب مملوءاً بالجوهر ومجمرة من فضة من عود وبخور ليتطيبوا ويتبخروا وينالهم طيب رائحتها، ثم يعاودون الطبق والمجمرة بحالهما لمالكهما ليدعو غيرهم كما دعاهم. فمن كان عاقلاً عارفاً برسم الدعوات وضع من ذلك البخور على النار وتطيب وانصرف ولم يطمع أن يتناول الطبق والمجمرة وتركهما بطيبة من قلبه، وشكر لصاحب البيت وربه. ومن كان أبله أحمق توهم أن ذلك الطبق والمجمرة قد أعدا له وهم يريدون أن يهبوهما له فلما همّ بالخروج أخذ الطبق والمجمرة فلم يمكن من الخروج بهما واستعادوهما منه فضاق صدره وتعب قلبه، وطلب الأقالة إذ ظهر ذنبه، فالدنيا كمثل طريق المسافر ودار الضيافة ليتزودوا منها لطريقهم ولا يطمعوا في الدار. المثال الثامن: مثل أهل الدنيا واشتغالهم بأشغالهم، واهتمامهم بأحوالها، ونسيان الآخرة وإهمالها كمثل قوم ركبوا مركباً في البحر فعدلوا إلى جزيرة لأجل الطهارة وقضاء الحاجة، فنزلوا إلى الجزيرة والملاّح يناديهم لا تطيلوا المكث لئلا يفوت الوقت ولا تشتغلوا بغير الوضوء والصلاة فإن المركب سائر، فمضوا وتفرّقوا في الجزيرة وانتشروا في نواحيها، فالعقلاء منهم لم يمكثوا وشرعوا في الطهارة وعادوا إلى المركب فأصابوا الأماكن خالية فجلسوا في أطهر الأماكن وأوفقها وأرفعها. ومنهم قوم نظروا إلى عجائب تلك الجزيرة ووقفوا يتنزهون في زهرتها وثمارها، وروضاتها وأشجارها؛ ويسمعون طيب ترنّم أطيارها، ويتعجبون من حصبائها الملونة وأحجارها، فلما عادوا إلى المركب لم يجدوا موضعاً ولا رأوا متسعاً فقعدوا في أضيق مواضعه وأظلمها.
ومنهم قوم لم يقنعوا بالنزهة ولم يقتصروا على الفرجة لكنهم جمعوا من تلك الحصباء الملونة ثم حملوها معهم إلى المركب فلم يجدوا مكاناً ولا فرجة فقعدوا في أضيق المواضع وحملوا ما استصحبوا من تلك الأحجار على أعناقهم فلم يمض إلا يوم أو يومان حتي تغيرت ألوان تلك الأحجار واسودت وفاح منها أكره رائحة ولم يجدوا مخلصاً من الزحام ليلقوا ثقلها عن أعناقهم فندموا عل ما فعلوا، وحصلوا بثقل الأحجار عل أعناقهم إذ كانوا بتحصيلها اشتغلوا. ومنهم قوم وقفوا مع عجائب تلك الجزيرة وتنزهوا، وفي الرجوع لم يتفكروا حتى سار المركب فبعدوا عنه وانقطعوا في أماكنهم وتخلفوا إذ لم يصيحوا إلى المنادي ولم يسمعوا، فمنهم من أكلته السباع وتهشه الضباع. فالقوم المتقدمون هم القوم المؤمنون المتقون، والقوم المتخلفون الهالكون هم الكفار المشركون، الذين نسوا الله ونسوا الآخرة سلموا كليتهم إلى الدنيا وركنوا إليها كما قال عز من قائل: )ذلك بِأنهم اِستحَبُوا الحَياة الدُنيا على الآخرةِ( أي ركنوا إليها. وأما الجماعة المتوسطون فهم العصاة الذين حفظوا أصل الإيمان لكنهم لم يكفوا أيديهم عن الدنيا فمنهم من تمتع بغناه ونعمته ومنهم من تمتع مع فقره وحاجته إلى أن غلبت أوزارهم، وكثرت أوساخهم وأوضارهم. المثال التاسع: روى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: )يا أبا هريرة أتريد أن أريك الدنيا?( قلت: نعم يا رسول الله. فأخذ بيدي وانطلق حتى وقف بي على مزبلة فيها رؤوس الآدميين وبقايا عظام نخرة وخرق قد تمزقت وتلوثت بنجاسات الآدميين فقال:)يا أبا هريرة هذه الرؤوس التي تراها كانت مثل رؤوسكم مملوءة من الحرص والاجتهاد على جمع الدنيا. كانوا يرجون من طول الأعمار ما ترجون، وكانوا يجدون في جمع المال وعمارة الدنيا كما تجدون، فاليوم قد تغيرت عظامهم وتلاشت أجسامهم كما ترى، وهذه الخرق كانت أثوابهم التي كانوا يتزينون بها وقت الرعونة والتجمل والتزين قد ألقتها الريح في النجاسات، وهذه النجاسات كانت أطعمتهم اللذيذة التي كانوا يحتالون في تحصيلها وينهبها بعضهم من بعض قد القوها عنهم بهذه الفضيحة التي لا يقربها أحد من نتنها؛ فهذه جملة أحوال الدنيا كما تشاهد وترى فمن أراد أن يبكي علي الدنيا فليبكِ فإنها موضع البكاء(. قال أبو هريرة: فبكى جملة الحاضرين. المثال العاشر: كان في زمن عيسى عليه السلام ثلاثة سائرين في طريق فوجدوا كنزاً فقالوا: قد جعنا فليمضِ واحد منا ويبتاع لنا طعاماً. فمضى أحدهم ليأتيهم بطعام فقال: الصواب أن أجعل لهما سماً قاتلاً في الطعام ليأكلا منه فيموتا وانفرد بالكنز دونهما، ففعل ذلك وسم الطعام. واتفق الرجلان الآخران أنه إذا وصل إليهما قتلاه وانفردا بالكنز دونه. فلما وصل ومعه الطعام المسموم قتلاه وأكلا من الطعام فماتا. فاجتاز عيسى عليه السلام بذلك الموضع فقال للحواريين: هذه الدنيا كيف قتلت هؤلاء الثلاثة وبقيت من بعدهم، ويل لطلاب الدنيا من الدنيا. العين الثانية معرفة النفس الأخير إعلم يا سلطان العالم أن بني آدم طائفتان: طائفة نظروا إلى شاهد حال الدنيا وتمسكوا بتأميل العمر الطويل، وطائفة عقلاء جعلوا النفس الأخير نصب أعينهم لينظروا إلى ماذا يكون مصيرهم وكيف يخرجون من الدنيا ويفارقونها وإيمانهم سالم وما الذي ينزل معهم من الدنيا في قبورهم وما الذي يتركونه لأعدائهم من بعدهم ويبقى عليهم وباله ونكاله? وهذه الفكرة واجبة على الخلق وهي على الملوك وأهل الدنيا أوجب لأنهم كثيراً أزعجوا قلوب الخلائق وأنفذوا إلى الناس الغلمان بالسيئات وأفزعوا الخليقة وأدخلوا في قلوبهم الرعب، فإن بحضرة الحق تعالى غلاماً اسمه عزرائيل لا مهرب لأحد من مطالبته وتشتيته وكل موكلي الملوك يأخذون جعلهم ذهباً وفضة وطعاماً وصاحب هذا التوكيل لا يأخذ سوى الروح جعلاً وسائر موكلي السلاطين تنفع عندهم الشفاعة وهذا الموكل لا تنفع عنده شفاعة شافع، وجميع الموكلين يمهلون من يوكلون إليه اليوم والليلة والساعة وهذا الموكل لا يمهل نفساً واحداً وعجائب أحواله كثيرة إلا أنّا نذكر من أحواله خمس حكايات. الحكاية الأولى وهو ما رواه وهب بن منبه وكان من علماء اليهود وأسلم، روى أنه كان ملك عظيم أراد أن يركب يوماً في جملة أهل مملكته ويري الخلق عجائبه وزينته فأمر أمراءه وحجابه وكبراء دولته رتبة بالركوب ليظهر للناس سلطنته، فأمر بإحضار فاخر الثياب وأمر بعرض خيوله المعروفة، وعتاقه الموصوفة، فاختار من جملتها جواداً يعرف السبق فركبه بالمركب والطوق المرصع بالجوهر وجعل يركض الحصان في عسكره، ويفتخر بتيهه وتجبره، فجاء إبليس فوضع فمه في منخره ونفخ هواء الكبر في أنف أنفته فقال في نفسه من في العالم مثلي? وجعل يركض بالكبرياء، ويزهو بالخيلاء، ولا ينظر إلى أحد من تيهه وكبره، وعجبه وفخره، فوقف بين يديه رجل عليه ثياب رثة فسلم عليه فلم يرد عليه سلامه فقبض على عنان فرسه فقال له الملك: إرفع يدك فإنك لا بدري بعنان من قد أمسكت? فقال: لي إليك حاجة، فقال: اذكر حاجتك، فقال: إنها سرُ ولا أقولها إلا في أذنك، فأصغي إليه بسمعه فقال: أنا ملك الموت أريد أن أقبض روحك، فقال: أمهلني بقدر ما أعود إلى بيتي وأودّع أولادي وزوجتي، فقال: كلا لا تعود تراهم أبداً فإنك قد فنيت مدة عمرك، وأخذ روحه وهو عل ظهر الفرس فخر ميتاً. وعاد ملك الموت من هناك فأتي رجلاً صالحاً قد رضي ربه عليه فسلم عليه فرد عليه السلام فقال: لي إليك حاجة وهي سر، فقال الصالح: قل حاجتك في أذني، فقال: أنا ملك الموت، فقال: مرحباً بك الحمد لله عل مجيئك فإني كنت كثير الترقّب لوصولك، ولقد طالت علي غيبتك وكنت مشتاقاً إلى قدومك، فقال له ملك الموت: إن كان لك شغل فاقضِه، فقال: ليس لي شغل أهم عندي من لقاء ربي عز وجل، فقال: كيف تحب أن أقبض روحك فإني أمرت أنا سجدت فخذ روحي وأنا ساجد، ففعل ملك الموت ما أمره به ونقله الى رحمة ربه جل وعلا. الحكاية الثانية روي أنه كان ملك كثير المال قد جمع مالاً عظيماً من كل نوع خلقه الله تعالى من متاع الدنيا ليرفّه نفسه، ويتفرغ لأكل ما جمعه، فجمع نعماً طائلة وبني قصراً عالياً، مرتفعاً سامياً يصلح للملوك والأمراء، والأكابر والعظماء، وركّب عليه بابين محكمين وأقام عليه الغلمان الأجلاد، والحرسة والأجناد، والبوابين كما أراد. وأمر ببعض الأيام أن يصطنع له من أطيب الطعام وجمع أهل مملكته وحشمه، وأصحابه وخدمه ليأكلوا عنده، وينالوا رفده، وجلس على سرير مملكته، واتكأ عل وسادته، وقال: يا نفس قد جمعت نعم الدنيا بأسرها فالآن أفرغي بالك وكلي هذه النعم مهنأة بالعمر الطويل، والحظ الجزيل. فلم يفرغ مما حدث به نفسه حتى أتى رجل من ظاهر القصر عليه ثياب رثة خلقة، ومخلاته في عنقه معلقة، على هيئة سائل يسأل الطعام فجاء وطرق الباب طرقة عظيمة هائلة بحيث تزعزع القصر وتزلزل، وخاف الغلمان ووثبوا إلى الباب وصاحوا بالطارق وقالوا: يا ضعيف ما هذا الحرص وسوء الأدب اصبر حتى نأكل ونطعمك مما يفضل، فقال لهم: قولوا لصاحبكم ليخرج إلي فلي إليه شغل مهم، وأمر ملم. فقالوا تنح أيها الضعيف من أنت حتى تأمر صاحبنا بالخروج إليك? فقال: أنتم عرّفوه ما ذكرت، فلما عرّفوه من الطرقة الأولى فنهضوا من أماكنهم بالعصي والسلاح وقصدوه ليحاربوا فصاح بهم صيحة وقال: إلزموا أماكنكم فأنا ملك الموت، فارتعدت فرائضهم وبطلت عن الحركة جوارحهم، ورعبت قلوبهم، وطاشت عقولهم، فقال الملك: قولوا له ليأخذ بدلاً مني، وعوضاً عني. فقال: ما آخذ إلا أنت ولا أتيت إلا لأجلك لأفرق بينك وبين هذه النعم التي خولتها. فقال: لعن الله هذا المال الذي غرني وأضرني، ومنعني عن عبادة ربي وكنت أظن أنه ينفعني، فاليوم صار حسرتي وبلائي وخرجت صفر اليدين منه وبقي لأعدائي. فأنطق الله المال حتى قال: لأي شيء تلعنني، إلعن نفسك فإن الله تعالى خلقني وإياك من تراب وجعلني في يدك لتتزود بي إلى آخرتك وتتصدّق بي على الفقراء، وتتزكي بي على الضعفاء، ولتعمر بي الربط والمساجد والجسور والقناطر لأكون لك عوناً فى اليوم الآخر، وأنت جمعتني وخزنتني، وفي هواك أنفقتني، ولم تشكر حقي بل كفرتني فالآن تركتني لاعدائك، وأنت بحسرتك وضرائك. فأي ذنب لي حتى تلعنني ثم إن ملك الموت قبض روحه قبل أكل الطعام، فسقط عن سريره صريع الحمام. الحكاية الثالثة قال يزيد الرقاشي: كان في زمن بني إسرائيل جبار من الجبارة، وكان في بعض الأيام جالساً على سرير ملكه فرأى رجلاً قد دخل من باب الدار ذا صورة منكرة وهيئة هائلة، فلشدة خوفه من هجومه، وهيبة قدومه، وثب في وجهه وقال: من أنت أيها الرجل? ومن أمرك بالدخول إلى داري? فقال: صاحب الدار وأنا الذي لا يحجبني حاجب، ولا أحتاج في دخولي على ملك إلى إذن ولا أرهب من سياسة سلطان، ولا يفزعني جبار، ولا لأحد من قبضتي فرار. فلما سمع هذا الكلام خر على وجهه ووقعت الرعدة في جسده فقال له: أنت ملك الموت? قال: نعم. قال: أقسم بالله عليك ألا ما أمهلتني يوماً واحداً لأتوب من ذنبي، وأطلب العذر من ربي، وأرد الأموال التي أودعتها خزانتي، فلا أتحمل مشقة عذابها في الآخرة. فقال: كيف أمهلك، وأيام عمرك محسوبة، وأوقاته مثبوتة مكتوبة? فقال: أمهلني ساعة. فقال: إن الساعات في الحساب، وقد عبرت وأنت غافل، وقد استوفيت أنفاسك ولم يبق لك نفس واحد. فقال:من يكون عندي، إذا نقلتني إلى لحدي? قال: لا يكون عندك سوى عملك. فقال: مالي عمل. قال: لا جرم يكون مقيلك إلى النار، مصيرك إلي غضب الجبار. ثم قبض روحه فخر من سريره ووقه، وعلا الضجيج من أخل مملكته وارتفع، ولو علموا ما يصير إليه من سخط ربه لكان بكاؤهم اكثر وعويلهم أوفر. الحكاية الرابعة يقال أن ملك الموت دخل على سليمان بن داود عليهما السلام فجعل يحد نظره، ويطيل بصره، إلى رجل من ندمائه، فلما خرج قال ذلك الرجل: يا بني الله من كان ذلك الرجل الذي دخل? فقال: ملك الموت. فقال: أخاف أن يريد قبض روحي فخلصني من يده. فقال: كيف أخلصك? فقال: تأمر الريح أن تحملني في هذه الساعة إلى بلاد الهند، لعله يضل عني ولا يجدني. فأمر سليمان الريح فحملته في الوقت والحال، فعاد ملك الموت ودخل على سليمان بن داود، عليهما السلام،فلما دخل عليه قال له: لأي سبب كنت تطيل النظر إلى ذلك الرجل? قال: كنت أتعجب منه لأني أُمرت أن أقبض روحه في أرض الهند، وكان بعيداً عنها إلى أن اتفق بحمل الريح له إلى هناك، فكان ما قدره الله تعالى.
الحكاية الخامسة يروى أن ذا القرنين مر بقوم لا يملكون شيئاً من أسباب الدنيا، وقد حفروا قبور موتاهم على أبواب دورهم، وهم كل يوم يتعمّدون تلك القبور يكنّسونها وينظّفونها وينخرونها ويزورونها ويعبدون الله فيها، وما لهم طعام إلا الحشيش ونبات الأرض. فبعث إليهم ذو القرنين رجلاً فدعا ملكهم فلم يجبه، وقال: ما لي وله. فجاء ذو القرنين، وقال: كيف حالكم? فإني لا أرى لكم شيئاً من ذهب ولا فضة، ولا أرى عندكم شيئاً من نعم الدنيا? قال: لأن نعم الدنيا لا يشبع منها أحد قط. وقال: لم حفرتم القبور على أبوابكم? فقال: لتكون نصب أعيننا فننظر إليها، ويتجدد لنا ذكر الموت، ويبرد حب الدنيا في قلوبنا فلا نشتغل بها عن عبادة ربنا، فقال: ولم تأكلون الحشيش? فقال: لأنا كرهنا أن نجعل بطوننا قبوراً للحيوانات، ولأن لذة الطعام لا تتجاوز الحلق. ثم مد يده إلى طاقة فاخرج منها قحف رأس آدمي فوضعه بين يديه وقال: يا ذا القرنين، أتعرف من كان صاحب هذا? قال: كان صاحب هذا القحف ملكاُ من ملوك الدنيا، وكان يظلم رعيته ويجور عليهم وعلى الضعفاء ويستفرغ زمانه في جمع حطام الدنيا، فقبض الله روحه وجعل النار مقره وهذا رأسه، ثم مد يده إلى الطاقة وأخرج قحفاً آخر فوضعه بين يديه وقال له: أتعرف من كان صاحب هذا? قال: كان هذا ملكاً عادلاً مشفقاً على رعيته محباُ لأهل مملكته فقبض الله روحه وأسكنه جنته، ورفع درجته، ثم انه وضع يده على رأس ذي القرنين وقال: ترى أىّ هذين الرأسين يكون هذا الرأس? فبكى ذو القرنين بكاء شديداً وضمه إلى صدره، فقال: هيهات ما لي رغبة في ذلك. قال: ولم? قال: لأن الناس جميعاً أعداؤك بسبب المال والمملكة، وكلهم أصدقائي بسبب القناعة والصعلكة، فالله تعالى معك فالآن يجب أن تعرف حكايات النفس الأخير وتتيقن معرفتها. واعلم أن أهل الغفلة المغتربين لا يحبون استماع حديث الموت لئلا يبرد حب الدنيا في قلوبهم، وتتنغص عليهم لذة مأكولهم ومشروبهم. وقد جاء في الخبر أن من أكثر ذكر الموت وظلمة اللحد كان قبره روضة من رياض الجنة، ومن نسي الموت وغفل عن ذكره كان قبره حفرة من النار، وكان رسول الله ﷺ يوماً يصف أجر الشهداء وثواب السعداء الذين قتلوا في معركة حرب الكفار فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله هل ينال ثواب الشهداء من لم يمت شهيداً? فقال عليه الصلاة والسلام: )من ذكر الموت في كل يوم عشرين مرة كان له مثل أجر الشهداء ودرجتهم(. وقال عليه الصلاة والسلام: )أكثر من ذكر الموت فإنه يمحو الذنوب ويبرد الدنيا في القلوب(. سئل عليه الصلاة والسلام: من أعقل الناس وأحزمهم? فقال: أعقل الناس أكثرهم للموت ذكراً وأحزمهم أحسنهم له استعداداً. له شرف الدنيا وكرامة الآخرة فمن عرف الدنيا كما ذكره وكرر في قلبه ذكر النفس الأخير سهلت عليه أمور دنياه، وقوي أصل شجرة الإيمان في قلبه وأخذ في النمو والزيادة ونمت فروع شجرة الإيمان عنده ولقي الله وإيمانه سالم. والله جلت قدرته، وعلت كلمته، ينّور بصيرة سلطان العالم ليرى الأشياء على ما هي عليه ويجتهد في آخرته، ويحسن إلى عباد الله وبريته، فإن في رعيته ألف ألف من الخلائق إذا عدل فيهم كان الكُل شفعاءه ومن شفع فيه من هؤلاء الخلائق من المؤمنين كان آمناً يوم القيامة من العذاب وإن ظلمهم كان الكل خصماءه وعاد أمره عظيم الخطر، شديد الغرر، وإذا صار الشفيع خصماً أشكل الأمر. في ذكر العدل والسياسة وذكر الملوك وسيرهم
إعلم وتيقّن أن الله سبحانه وتعالى اختار من بني آدم طائفتين وهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ليبينوا للعباد على عبادته الدليل، ويوضحوا لهم إلى معرفته السبيل، واختار الملوك لفظ العباد من اعتداء بعضهم على بعض، وملكهم أزمة الإبرام والنقض، فربط بهم مصالح خلقه في معايشهم بحكمته، وأحَلّهم أشرف محل بقدرته، كما يسمع في الأخبار السلطان ظل الله في أرضه.فينبغي أن يُعلم أن من أعطاه الله درجة الملوك وجعله ظله في الأرض فإنه يجب على الخلق محبته، ويلزمهم متابعته وطاعته، ولا يجوز لهم معصيته ومنازعته. قال الله تعالى: )يا أيُها الذين آمنُوا أطِيعُوا الله وأطِيعُوا الرسُول وأوُلي الأمرَ مِنكُم( فينبغي لكل من آتاه الله الدين أن يحب الملوك والسلاطين، وأن يعطيهم فيما يأمرون ويعلم أن الله تعالى يعطي السلطنة والمملكة وأنه يؤتي ملكه من يشاء كما قال في محكم تنزليه: )تُؤتِي المُلك مَن تشَاء وتنزَع المُلك مِمن تشَاء وتُعِزُ مَن تشَاء وتُذِلُ مَن تشَاء بيدِك الخير إنِك على كُل شيء قَدير(. والسلطان العادل من عدل بين العباد، وحذر من الجور والفساد، والسلطان الظالم شؤم لا يبقى ملكه ولا يدوم، لأن النبي ﷺ يقول: )الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم( . وفي التواريخ أن المجوس ملكوا العالم أربعة آلاف سنة وكانت المملكة فيهم وإنما دامت المملكة بعدلهم في الرعية، وحفظهم بالسوية، وإنهم ما كانوا يرون الظلم والجور في دينهم وملتهم جائز وعمروا بعدلهم البلاد، وأنصفوا العباد. وقد جاء في الخبر أن الله جلّ ذكره أوحى إلى داود عليه السلام أن آنْهِ قومك عن سب ملوك العجم فإنهم عمروا الدنيا وأوطنوها عبادي. فينبغي أن تعلم أن عمارة الدنيا وخرابها من الملوك فإذا كان السلطان عادلاً عمرت الدنيا وأمنت الرعايا كما كانت عليه في عهد أزدشير وأفريدون وبهرام كور وكسرى أنو شروان. وإذا كان السلطان جائراً خربت الدنيا كما كانت في عهد الضحاك وافراسيان وبرزدكنها الخاطىء وأمثال هؤلاء، وهكذا إلى أن استولى أهل الإسلام وغلبوا العجم وأزاحوهم عن بلادهم وعن الملك وقويت دولة دين الإسلام، ببركة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وذلك في عهد خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فأعلم وتيقَن أن هؤلاء الملوك الذين ذكرناهم كانوا أصحاب الدنيا وملوك الأرض وأنهم بلغوا من الدنيا مرادهم، وصرفوا باللذات أوقاتهم، ومضوا وبقيت أسماؤهم وسماتهم، كما عددناه من أفعالهم، وأوردناه من خصالهم، لتعلم أن الناس إنما هم الحديث الذي يبقي بعدهم فكل إنسان يذُكر بالذي كان يفعله، وينسب إليه ما كان يعمله، إن خيراً فخير وإن شراً فشر. فيجب على الإنسان أن يزرع بذر الإحسان، وأن يبقى عن نفسه العيوب الفاحشات، والخطايا الموبقات، لا سيما الملوك ليبقى بعدهم حسن الإِسم، وصالح الرسم، لئلا يذكر بالقبيح، وقد حل بالضريح، كما قال الشاعر: اهرُب مِن الذَنبِ وتُب يا فَتَى وإن بَدا مِنك فـعُـد وانـدم وانفِ عن نفسِك ما شَانَـهـا ومن مساوُي الدهرُ خِف تسَلم وبُعدُك يُبقِى الذِكرَ لا غَـيره فكُن حَديثاً حسنـاً تـغـنـمُ يقال أن ذكر الرجال بعدهم حياتهم الثانية في الدنيا فواجب على العقلاء قراءة أخبار الملوك والنظر في أحوال هذه الدنيا القليل وفاؤها، والكثير بلاؤها، وأن لا يعقلوا قلوبهم بأمانيها فإنها لا يبقى عليها صالح، ولا يسلم فيها طالح. وليجتهد العاقل أن لا يكثر خصومه فإن أمر الخصوم صعب هائل، والباري تعالى حاكم عادل، لا بد أن ينصف يوم القيامة بين الخصوم، ويأخذ من الظالم للمظلوم، فلا تساوي الدنيا بأسرها، أن تجعل الناس خصوماً لأجلها كما جاء في الحكاية. حكاية: كان أبو علي بن إلياس إسفهسلار نيسابور فحضر يوماً عند الشيخ أبي علي الدقاق رحمه الله وكان زاهداً زمانه، وعالم أوانه. فقعد على ركبتيه، بين يديه، وقال له: عظني. فقال له أبو علي: أيها الأمير، أسألك مسألة وأريد الجواب عنها بغير نفاق. فقال: أجل أجيبك. فقال: أيها الأمير أيما أحب إليك المال أو العدو? فقال: المال أحب إليّ من العدو. فقال: كيف تترك ما تحبه بعدك وتصطحب العدو الذي لا تحبه معك? فبكى الأمير ودمعت عيناه وقال: نعم الموعظة هذه. وجميع الوصايا والحكم تحت هذا الكلام. والخالق سبحانه وتعالى أرسل نبينا محمداً ﷺ أخيراً حتى عادت ببركته دار الكفر دار الإيمان، وأظهره في أسعد وقت وأوان، وعمر الدنيا بشريعته، وختم الأنبياء بنبوّته. وكان الملك في ذلك الزمان كسرى أنو شروان. وهو الذي فاق ملوك إيران، بعدله ونصفته، وتدبيره وسياسته، وذلك جميعه ببركات نبينا محمد ﷺ، لأنه ولد في زمانه، ووجد في أوانه. وعاش أنو شروان بعد مولده ﷺ سنتين، والنبي ﷺ افتخر بأيامه فقال: ولدت في زمن الملك العادل كسرى والإسم الجيد خير الأشياء. والملوك الذين كانوا قبله كانت همتهم في عمارة الدنيا والعدل بين الرعية وحفظ الجسم بالسياسة وحسن الإنالة وآثار عمارتهم التي أثروها إلى اليوم ظاهرة في العالم وكل بلد يعرف بإسم ملكه لأنهم عمروا المواضع، وبنوا الضياع والمزارع، واستخرجوا القنوات والمصانع واظهروا ما كان خافياً من مياه العيون وجميع ما ذكرناه كان أنو شروان يعمره بعدله وإنصافه، مع تجنبه الإسراف في عفافه. حكاية: يقال أن أنو شروان العادل أظهر يوماً من أيام ملكه انه مريض وأنفذ ثقافته وأمناءه أن يطوفوا أقطار مملكته، وأكناف ولايته وأن يتطلبوا له لبنة عتيقة من قرية خربة ليتداوى بها. وذكر لأصحابه أن الأطباء وصفوا له ذلك فمضوا وطافوا جميع ولايته وعادوا فقالوا: ما وجدنا مكاناً خراباً ولا لبنة عتيقة. ففرح أنو شروان وشكر إلَهه وقال: إنما أردت هذا لأجرب ولايتي، وأختبر مملكتي، ولأعلم هل بقي في الولاية موضع خراب لأعمره فالآن لم يبق مكان إلا هو عامر فقد تمت أمور المملكة وانتظمت الأحوال، ووصلت العمارة إلى درجة الكمال. واعلم: أن أولئك الملوك القدماء همتهم واجتهادهم في عمارة ولاياتهم بعدهم. روي أنه كلما كانت الولاية أعمر، كانت الرعية أوفى وأشكر. وكانوا يعلمون أن الذي قالته العلماء، ونطقت به الحكماء، صحيح لا ريب فيه وهو قولهم: إن الدين بالملك، والملك بالجند، والجند بالمال والمال بعمارة البلاد، وعمارة البلاد بالعدل في العباد. فما كانوا يوافقون أحداً على الجور والظلم، ولا يرضون لحشمهم بالخرق والغشم، علماً منهم أن الرعية لا تثبت على الجور وأن الأماكن تخرب إذا استولى عليها الظالمون، ويتفرق أهل الولايات ويهربون في ولايات غيرها ويقع النقص في الملك ويقل في البلاد الدخل وتخلو الخزائن من الأموال ويتكدر عيش الرعايا لأنهم لا يحبون جائراً، ولا يزال دعاؤهم عليه متواتراً، فلا يتمتع بمملكته، وتسرع إليه دواعي هلكته. قال مؤلف الكتاب: الظلم نوعان: أحدهما: ظلم السلطان لرعيته وجور القوي على الضعيف والعني على الفقير. والثاني: ظلمك لنفسك وذلك من شؤم معصيتك فلا تظلم ليُرفع عنك الظلم كما جاء في الخير. حكاية: يقال أنه كان في بني إسرائيل رجل يصيد السمك ويقوت من صيده أطفاله وزوجته فكان في بعض الأيام يتصيد فوقعت في شبكته سمكة كبيرة ففرح بها وقال: أمضي بهذه السمكة وأبيعها وأخرج ثمنها في نفقة العائلة، فلقيه بعض العوانية في طريقه وقال له: أتبيع هذه السمكة? فقال في نفسه: إن قلت له نعم أخذها بنصف ثمنها، فقال له: ما أبيعها. فضربه العواني بخشبة كانت معه على صلبه ضربة موجعة وأخذ السمكة منه غصباً فدعا الصياد عليه وقال: إلَهي خلقتني مسكيناً ضعيفاً، وخلقته قوياً عنيفاً. اللهم فخذ بحقي منه في الدنيا فإني لا أصبر إلى الآخرة. ثم إن الغاصب انطلق بالسمكة إلى منزله وسلمها إلى زوجته وأمرها أن تشويها فلما شوتها وضعتها بين يديه على المائدة فمد يده ليأكل منها ففتحت السمكة فاها ونكزت أصبعه نكزة سلبت قراره، وأزالت لشدة نكزتها اصطبارة. فشكا حاله إلى الطبيب وذكر ما ناله فقال له الطبيب: ينبغي أن تقطع هذه الأصبع لئلا يسري الألم إلى جميع الكف. فقطع أصبعه فانتقل الألم إلى الكف وازداد تألمه وارتعدت من خوفه فرائضه، فقال له الطبيب: ينبغي أن تقطع اليد من المعصم لئلا يسري الألم إلى الساعد فقطع يده من المعصم فانتقل الألم إلى ساعده فقال له الطبيب: ينبغي أن تقطع الساعد لئلا يسرى الألم إلى الكتف. فقطع الساعد فانتقل الألم إلى الكتف وتوجع فخرج هائماً على وجهه داعياً إلى ربه، ليكشف ما نزل به فرأى شجرة فانكفأ إليها فأخذه النوم. فرأى في منامه كأن قائلاً يقول له: يا مسكين إلى كم تقطع يدك، امضِ إلى خصمك وأرضه. فانتبه وتفكر وتذكر وقال: إنني أخذت السمكة غصباً، وأوجعت الصياد ضرباً، وهي التي نكزتني. فنهض وقصد المدينة وطلب الصياد فوجده فوقع بين يديه والتمس الإقالة وأعطاه شيئاً من ماله وتاب من فعله، فرضي عنه خصمه، ففي الحال سكن ألمه، وبات تلك الليلة على فراشه وتاب واقلع عما كان يصنع، ونام على توبة خالصة، ففي اليوم الثاني تداركته رحمة ربه ورد يده كما كانت بقدرته فنزل الوحي على موسى عليه السلام: أن يا موسى وعزتي وجلالي وقدرتي لولا أن الرجل أرضى خصمه لعذبته مهما امتدت به حياته.
حكاية: كان موسى عليه السلام يناجي ربه عز وجل على الطور فقال في مناجاته: إلَهي أرني عدلك وإنصافك. فقال له: أنت رجل عجول حاد جريء لا تقدر أن تصبر. فقال: أقدر علىالصبر بتوفيقك. فقال: اقصد العين الفلانية واختف بأزائها وانظر إلى قدرتي وعلمي بالغيوب. فمضى موسى وصعد إلى تل بأزاء تلك العين وقعد مختفياً فوصل إلى العين فارس فنزل عن فرسه وتوضأ من العين وشرب من مائها وحل من وسطه همياناً فيه ألف دينار فوضعه إلى جانبه وصلى، ثم ركب ونسى الهميان في موضعه وسار فجاء صبي صغير فشرب من العين وأخذ الهميان فجاء بعد الصبي شيخ أعمى فشرب من الماء وتوضأ ووقف في الصلاة فذكر الفارس الهميان فعاد من طريقه إلى العين فوجد الشيخ فلزمه وقال: إني نسيت همياناً فيه ألف دينار في هذا الموضع هذه الساعة وما جاء إلى هذا المكان سواك. فقال الأعمى: تعلم أني رجل أعمى فكيف أبصرت هميانك? فغضب الفارس من كلامه وجذب السيف فضرب الأعمى فقتله وفتشه عن الهميان فلم يجده فمضى وتركه فعند ذلك قال موسى: إلَهي وسيدي قد نفد صبي وأنت عادل فعرّفني كيف هذه الأحوال? فهبط جبريل عليه السلام وقال: يا موسى الباري تعالى يقول: أنا عالم الأسرار أعلم ما لا تعلم. أما الصبي الصغير الذي أخذ الهميان فأخذ حقه وملكه وذلك أن أبا الصبي كان أجيراً لذلك الفارس فاجتمع عليه بقدر ما في الهميان فالذي أخذه الصبي حقه. وأما ذلك الأعمى فإنه قبل أن يعمى قتل أبا ذلك الفارس فقد اقتص منه ووصل كل ذي حق إلى حقه وعدلنا وإنصافنا دقيق. فلما علم موسى ذلك تحير واستغفر. وهذه الحكاية أوردناها ليعلم العقلاء، ويتصور الألّباء، أن الله جلّ ذكره لا يخفي عليه شيء وأنه يتصف من الظالم في الدنيا ولكن نحن غافلون عما جاءنا لا ندري من أين أتانا. سئل ذو القرنين فقيل له: أي شيء أنت به أكثر سرواً? فقال: شيئان أحدهما العدل والإنصاف. والثاني أن أكافىء من أحسن إلى بأكثر من إحسانه. وقال النبي ﷺ: )إن الله تعالى يحب الإحسان في كل شيء حتى إنه يحب إنساناً إذا ذبح شاة أن يمهي لها المدية ليعجل خلاصها من ألم الذبح(. وقال موسى عليه السلام: إن الله تعالى لم يخلق شيئاً في الأرض أفضل من العدل، والعدل ميزان الله في أرضه من تعلق به أوصله الجنة. وقال رسول الله ﷺ: )إن للمحسنين في الجنة منازل حتى المحسن إلى أهله وأتباعه( . وقال قتادة في تفسير هذه الآية )ألا تطَغوُا فِي المِيزَانِ( قال: أراد به العدل: فقال يا ابن آدم أعدل كما تحب أن يعدل فيك.
وعن عمر أن رسول الله ﷺ قال: )إن الله تعالى لما أهبط آدم إلى الأرض أوحى إليه أربع كلمات وقال: يا آدم علمك وعلم جميع ذريتك على هذه الكلمات الأربع وهي كلمة لي، وكلمة لك، وكلمة بيني وبينك وبين الناس. أما الكلمة التي لي فهي أن تعبدني لا تشرك بي شيئاً. وأما التي هي لك فأنا أجازيك بعملك . وأما الكلمة التي هي بيني وبينك، فمنك الدعاء ومني الإجابة. وأما الكلمة التي بينك وبين الناس فهي أن تعدل فيهم وتنصف بينهم( . وقال قتادة: الظلم ثلاثة أضرب: ظلم لا يغفر لصاحبه، وظلم لا يدوم وظلم يغفر لصاحبه. فأما الذي لا يغفر لصاحبه فهو الشرك بالله تعالى قال الله تعالى: )إن الشِركَ لظُلمٍ عَظيم( . وأما الظلم الذي لا يدوم فهو ظلم العباد بعضهم لبعض. وأما الظلم الذي يغفر لصاحبه فهو ظلم العبد نفسه بارتكاب الذنوب ثم يرجع إلى ربه فإن الله يغفر له برحمته، ويدخله الجنة بفضله. نكتة: الدين والملك توأمان مثل أخوين ولدا من بطن واحد فيجب أن يهتم ويجتنب الهوى، والبدعة والمنكر والشبهة وكل ما يرجع بنقصان الشرع وإن علم أن في ولايته من يتهم بدينه ومذهبه أمر بإحضاره وتهديده، وزجره ووعيده، فإن تاب، وإلا أوقع عليه العقاب، ونفاه عن ولايته ليطهر الولاية من إغوائه وبدعته، وتخلو من أهل الأهواء ويعز الإسلام ويستديم عمارة الثغور بإنفاذ العساكر والحماة إليها ويجتهد في إعزاز الحق وإعادة رونق السنة النبوية، والسيرة المرضية لتحمد عند الله طريقته، وتعظم في الخلق هيبته، وتخاف سطوته أعداوه، ويعلو قدره وبهاؤه ومنزلته ويكبر في عين أضداده، ويعظم عند أنداده. ويجب أن يعلم أن صلاح الناس في حسن سيرة الملك فينبغي للملك أن ينظر في أمور الرعية ويقف على قليلها وكثيرها، وعظيمها وحقيرها ولا يشارك رعيته في الأشياء المذمومة، والأفعال المشؤومة. ويجب عليه احترام الصالحين وأن يثيب على الفعل الجميل، ويمنع من الفعل الرديء الوبيل ويعاقب على ارتكاب القبيح ولا يحابي من أصر على المعصية ليرغب الناس في الخيرات ويحذروا من السيئات. ومتى كان السلطان بلا سياسة وكان لا ينهي المفسد عن فساده، ويتركه على مراده، أفسد في سائر بلاده. وقالت الحكماء أن طباع الرعية نتيجة طباع الملوك لأن العامة إنما ينتحلون ويركبون الفساد وتضيق أعينهم اقتداء بالكبراء فإنهم يتعلمون منهم ويلزمون طباعهم . ألا ترى أنه قد ذكر في التواريخ أن الوليد بن عبد الملك من بني أمية كان مصروف الهمة إلى العمارة وإلى الزراعة. وكان سليمان بن عبد الملك همته في كثرة الأكل وطيب المطعم وقضاء الأوطار والمهمات وبلوغ الشهوات، وكانت همة عمر بن عبد العزيز في العبادة والزهادة. قال محمد بن علي بن الفضل: ما كنت اعلم أن طباع الرعية تجري على عادة ملوكها حتى رأيت الناس في أيام الوليد قد اشتغلوا بعمارة الكروم والبساتين واهتموا ببناء الدور. وعمارة القصور، ورأيتهم في زمن سليمان ابن عبد الملك قد اهتموا بكثرة الأكل وطيب المطعم حتى كان الرجل يسأل صاحبه أي لون اصطنعت وما الذي أكلت ورأيتهم في أيام عمر بن عبد العزيز قد اشتغلوا بالعبادة وتفرغوا لتلاوة القرآن وأعمال الخيرات، وإعطاء الصدقات، ليعلم أن في كل زمن يقتدون بأفعاله، من القبيح والجميل، وإتباع الشهوات وإدراك الإرادات. حكاية
ذكروا أن في زمن الملك العادل كسرى انو شروان ابتاع رجل من رجل أرضاً فوجد فيها كنزاً فمضى سريعاً إلى البائع وأخبره بذلك فقال: إنما بعتك ولم أعلم ما فيها والكنز الذي وجدته فهو لك ومبارك عليك فقال: لا أريده ولا أطمع في أموال الناس فترافعا بهذه الدعوى إلى الملك العادل انو شروان ففرح انو شروان بذلك وقال هل لكما أولاد فقال أحدهما لي ابن وقال الآخر لي بنت فقال انو شروان أحب أن يكون بينكما قرابة ووصلة وإن تزوجا الولد بالبنت وتنفقا هذا الكنز في جهازهما ليكون لكما ولولديكما ففعلا ما أمر به وتراضيا ما رسم لهما ولو أن الرجلين كانا في زمن سلطان جائر لقال كل واحد منهما الكنز لي ولكنهما لما علما أن ملكهما عادل طلباً الحق، وآثرا الصدق. وقالت الحكماء الملك كالسوق فكل أحد يحمل إلى السوق ما يعلم أنه فيه نافق وما يعلم أنه كاسد لا يحمله إلى ذلك السوق. والرجلان اللذان وجدا الكنز وترافعا إلى السلطان علما إن الزهد والعدل والصدق يعزعند الملك وأن الحق عنده نفاق فلذلك حملاه إليه، وعرضاه عليه. وأما الآن في هذا الزمان فكلما يجري على يد أمرائنا وألسنة ولاتنا فهو جزاؤنا واستحقاقنا كما إننا رديئو الأعمال، قبيحو الأفعال، ذوو خيانة وقلة أمانة. فأمراؤنا ظلمة جائرون، وغشمة معتدون. )كما تكونوا يول عليكم( فقد صح بهذا الحديث أن أفعال الخلق عائدة إلى أفعال الملك، أما ترى أنه إذا وصف بعض البلاد بالعمارة وأن أهله في أمان وراحة ودعة وغبطة فإن ذلك دليل على عدل الملك وعقله وسداده وحسن نيته في رعيته، ومع أهل ولايته، وأن ليس ذلك من الرعية، فقد صح ما قالته الحكماء )الناس بملوكهم أشبه منهم بزمانهم( . وقد جاء في الخبر أيضاً )الناس على دين ملوكهم( . وكان من سياسة انو شروان أن بحيث لو أن رجلاً ألقى في مكان حملاً من ذهب وبقي مهما بقي في موضعه لم يقدر أحد على إزالته من مكانه إلا صاحبه وكان يونان وزير انو شروان متقدماً عنده فقال له يوماً: أيها الملك لا تركن للأشرار فتخرب ولايتك وتفقر رعيتك فيصير حينئذ ملكك إلى الخراب وسلطانك إلى الفقر ويقبح إسمك في الدنيا فكتب انو شروان إلى عماله: إن أخبرت أنه قد بقى في جميع مملكتي أرض خراب سوى أرض سبخة لا تقبل الزرع صلبت عامل تلك الأرض. وخراب الأرض من شيئين: أحدهما عجز الملك. والثاني جوره. وكان الملوك في ذلك الزمان يتفاخرون بالعمارة ويتحاسدون على إجتماع المملكة. حكاية: أرسل ملك هندوستان رسولاً إلى الملك العادل كسرى انو شروان فقال أنا أولى بالملك منك فأنفذ لي خراج ولايتك فأمر أنو شروان بإنزال الرسول ثم جمع في اليوم الثاني أرباب دولته وأعيان مملكته وأذن للرسول في الدخول إليه فلما مثل بين يديه قال له أسمع جواب رسالتك ثم أمر أنو شروان بإحضار صندوق ففتحه وأخرج منه صندوقاً صغيراً وأخرج منه قبضة من كبر وسلمه إلى الرسول وقال هل في بلادكم من هذا قال نعم من هذا عندنا كثير فقال أنو شروان: أرجع وقل لملك الهند يجب عليك أن تعمر ولايتك فإنها خراب ثم تطمع بعد ذلك في ولاية عامرة فإنك لو طفت جميع ولايتي وطلبت أصلاً واحداً من كبر لم تجده ولو سمعت أن في موضع من ولايتي أصلاً واحداً من كبر لصلبت تلك الولاية على الملك أن سيلك طريق الملوك الذين تقدموه ويعمل على سننهم ويقرأ كتب مواعظهم وقضاياهم فإنهم كانوا أطول أعماراً، وأكثر تجارب وإعتباراً، وإنهم فرقوا بين الجيد والرديء، وعرفوا الجلّي من الخفي. وكان أنو شروان مع حسن سيرته يقرأ كتب مواعظهم ويطلب إستماع حكايتهم ويمضي على مناهجهم وسننهم وملوك هذا الزمان أجدر أن يفعلوا ذلك. حكاية: سأل أنو شروان العادل يوماً وزيره يونان وقال أريد أن تخبرني بسيرة الملوك المتقدمين فقال له يونان تريد أن أمدحهم بثلاثة أشياء أم بشيئين أم بشيء واحد فقال أنو شروان أمدحهم بالثلاثة فقال يونان ما وجدت لهم في شغل من الأشغال ولا عمل من الأعمال قط كذباً. ولا رأيت لهم بشيء جهلاً. ولا رأيت لهم في حال من الأحوال غضباً. فقال أنوشروان أمدحهم بالشيئين فقال يونان كانوا دائماً يسارعون إلى الخبر وعمله. وكانوا دائماً يحذرون من أعمال الشر. فقال أمدحهم بشيء واحد فقال كانت سلطنتهم وجرأتهم على أنفسهم أكثر مما كانت على غيرهم فطلب أنو شروان الكأس وقال ولهذا سرور بالكرام الذين يأتون بعدنا ويملكون تاجنا وتختنا ويذكروننا كما نذكر نحن من تقدمنا. وأشقى الناس من إغتر بملكه وعمر الدنيا وهو لا يدري كيف ينبغي أن يعيش فيها فيعبر دنياه بالتعب ويحصل في آخراه بالندم السرمد، والعذاب المؤبد. وإنما كان قصد أولئك الملوك وإجتهادهم في عمارة الدنيا ليبقى فيها بعدهم طيب الذكر، مدى الأيام والدهر. كما جاء في الحكاية. حكاية: كان لأنو شروان كرم يعرف بهزاركام فإجتمع يوماً فيه قيصر ملك الروم ويعفورجين ملك هندوستان في ضيافة أنو شروان فتكلم كل واحد منهم بكلمة حكمة. فقال قيصر الروم ليس شيء في هذه الدنيا أجود من فعل الخير والإسم الصالح والذكر الطيب فإنه يذكر به صاحبه دائماً فيقال بعده لم لا نكون نحن مثله. فقال أبو شروان تعالوا حتى نفعل الخير ونتفكر في الخير فقال قيصر إذا تفكرت في الخير عملت الخير وإذا عملت الخير نلت المراد فقال يعفورجين أعاذنا الله من فكرة إن نحن أظهرناها استحييناها وأن ذكرناها خجلنا وأن أخفيناها ندمنا فقال قيصر لأنو شروان أي شيء أحب إليك قال أحب الأشياء إلى أن أقضي حاجة من رآني أهلاً لقضاء حاجته فقال قيصر بل أنا أحب أن لا أذنب حتى لا أخاف ملوكاً كان هذا كلامهم. أنظر كيف كانت سيرتهم مع رعيتهم يا سلطان الإسلام فيجب أن تسمع أقوال هؤلاء وتنظر أعمالهم وتقرأ حكاياتهم من الكتب وما ينظر فيها من نعت عدلهم وإنصافهم وحسن سيرتهم وطيب خبرهم وذكرهم الجاري على ألسنة الخلق إلى يوم القيامة. كان لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من العدل والسياسة إلى حد أقام فيه الحد والعقاب على ولده حتى مات. وكان إذا أنفذ عمالاً إلى أعمال قال لهم إشتروا دوابكم وأسلحتكم من أرزاقكم ولا تمدوا أيديكم إلى بيت مال المسلمين ولا تغلقوا أبوابكم دون أرباب الحوائج. قال عبد الرحمن ابن عوف دعاني عمر بن الخطاب ذات ليلة وقال قد نزل بباب المدينة قافلة وأخاف عليهم إذا ناموا أن يسرق شيء من متاعهم فمضيت معه فلما وصلنا قال لي نم أنت ثم جعل يحرس القافلة طول ليلته. وقال عمر رضي الله عنه يجب علي أن أسافر لأقضي حوائج الناس في أقطار الأرض لأن بها ضعفاء لا يقدرن على قصدي في حوائجهم لبعد المكان فينبغي أن أطوف البلاد لأشاهد أحوال العمال وأسير سيرتهم وأقضي حوائج المسلمين فلا يكون في سنيّ عمر أبرك من هذه السنة. حكاية: قال زيد بن أسلم رأيت ليلة عمر بن الخطاب يطوف مع العسس فتبعته وقلت أتأذن لي أن أصاحبك قال نعم فلما خرجنا من المدينة رأينا ناراً من بعد فقلنا ربما يكون قد نزل هناك مسافر فقصدنا النار فرأينا إمرأة أرملة ومعها ثلاثة أطفال وهم يبكون وقد وضعت لهم قدراُ على النار وهي تقول الَهي أنصفني من عمر وخذ لي منه بالحق فإنه شبعان ونحن جياع فلما سمع عمر بن الخطاب ذلك تقدم وسلم عليها وقال أتأذنين أن أدنو إليك فقالت أن دنوت بخير فبسم الله فتقدم وسألها عن حالها وحال جياع وقد بلغ مني ومنهم الجهد والجوع، وقد منعهم عن الهجوع، فقال عمر وأي شيء في هذه القدر فقالت تركت فيها ماء لأشاغلهم به ليظنوا أنه طعام فيصبروا. قال زياد فعاد أمير المؤمنين وقصد دكان الدسم فإبتاع منه دسماً ومضى إلى دكان الدقيق فإبتاع منه ملء جراب ثم وضع الجميع على كاهله ومضى به يطلب المرأة والأطفال. فقلت يا أمير المؤمنين ناولنيه لأحمله عنك فقال إن حملته عني فمن يحمل عني ذنوبي ومن يحول بيني وبين دعاء تلك المرأة والأطفال عليّ وجعل يسعى وهو يبكي إلى أن وصلنا إلى المرأة فقالت المرأة جزاك الله عنا خير الجزاء فأخذ عمر جزأ من الدقيق وشيئاً من الدسم فوضعهما في القدر وجعل يوقد النار وكلما أرادت أن تخمد نفخها والرماد يسقط على وجهه ومحاسنه إلى أن إنطبخت القدر فوضع الطبيخ في القصعة وقال للمرأة كلي فأكلت المرأة والأطفال فقال عمر أيتها المرأة لا تدعين على عمر فإنه لم يكن عنده منك ولا من أطفالك خبر.
وأول من دُعي بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب فإن أبا بكر رضي الله عنه دعوه بخليفة رسول الله ﷺ فلما وصل الأمر إلى عمر كانوا يقولون يا خليفة خليفة رسول الله فكان يطول ذلك فقال يا أيها المؤمنون سموني أميراً فإني أميركم وإن دعوتموني أمير المؤمنين فأنا ذلك عمر بن الخطاب. حكاية: سئل خازن بيت المال هل إنبسط عمر في بيت المال فقال كان في أول الأمر إذا لم يكن له شيء يتقوت به أخذ قليلاً برسم القوت فإذا حصل عنده شيء أعاده إلى بيت المال. وخطب يوماً فقال أيها الناس قد كان الوحي ينزل عي عهد رسول الله ﷺ فكنا نعرف به ظاهر الناس وباطنهم وجيدهم ورديئهم والآن قد إنقطع الوحي عنا فنحن ننظر من كل أحد إلى علانيته والله أعلم بسريرته وأنا على الجهد وعمالي أن لا نأخذ شيئاً بغير حق ولا تعطي شيئاً بغير حق. فإن شئت أن تعلم أن عدل السلطان وتقيته سبب لجميل ذكره، ونيل فخره، فإنظر في أخبار عمر بن عبد العزيز فإنه لم يكن لأحد من بني أمية وبني مروان مثل مدحه ومحمدته ولا يدعي إلا له ولا يثني إلا عليه لأنه كان عادلاً تقياً كريماً حسن السيرة، تقي السريرة. حكاية: كان في زمن عمر بن عبد العزيز قحط عظيم فوفد عليه قوم من العرب فإختاروا منهم رجلاً لخطابه فقال ذلك الرجل يا أمير المؤمنين أنا أتيناك من ضرورة عظيمة وقد يبست جلودنا على أجسادنا لفقد الطعام وراحتنا في بيت المال وهذا المال لا يخلو من ثلاثة أقسام: أما أن يكون لله، أو لعباد الله، أو لك. فإن كان لله فالله غني عنه، وإن كان لعباد الله فآتهم إياه وأن كان لك فتصدق به علينا إن الله يجزي المتصدقين. فتغرغرت عينا عمر ابن عبد العزيز بالدموع وقال هو كما ذكرت وأمر بحوائجهم فقضيت من بيت المال فهم الأعرابي بالخروج فقال له عمر أيها الإنسان لحر كما أوصلت إلي حوائج عباد الله وأسمعتني كلامهم فأوصل كلامي وارفع حاجتي إلى الله تعالى فحول الأعرابي وجهه قبل السماء وقال إلَهي أصنع مع عمر ابن عبد العزيز كصنيعه في عبادك فما استتم الأعرابي كلامه حتى إرتفع غيم فأمطر مطراً غزيراً وجاء في المطر بردة كبيرة فوقعت على آجرة فإنكسرت فخرج منها كاغد عليه مكتوب هذه براءة من الله العزيز لعمر ابن عبد العزيز من النار. حكاية: يقال أن عمر بن عبد العزيز كان ينظر ليلاً ف يقصص الرعية وروزناتهم في ضوء السراج فجاء غلام له فحدثه في سبب كان يتعلق ببيته فقال له عمر أطفيء السراج وحدثني فإن هذا الدهن من بيت مال المسلمين فلا يجوز إستعماله إلا في اشغال المسلمين. كذا يكون حذر السلطان وتوقيه إذا كان عادلاً كما جاء في الحكاية. حكاية: كان لعمر بن عبد العزيز غلام وكان خازناً لبيت المال وكان لعمر بنات جئنه يوم عرفة وقلن له غداً العيد ونساء الرعية وبناتهم يلمننا وقلن أنتن بنات أمير المؤمنين ونراكن عريانات لا أقل من ثياب بيضاء تلبسنها وبكين عنده فضاق صدر عمر فدعا غلامه الخازن وقال له أعطني مشاهرتي لشهر واحد فقال الخازن يا أمير المؤمنين تأخذ المشاهرة من بيت المال سلفاً أتظن أن لك عمر شهر فتأخذ مشاهرة شهر فتحير عمر وقال نعم ما قلت أيها الغلام بارك الله فيك ثم التفت إلى بناته وقال اكظمن شهواتكن فإن الجنة لا يدخلها أحد إلا بمشقة.
حكمة: لما كان الأمراء كذلك كان حواشيهم وخدعهم على قاعدتهم والعدل التام هو أن تساوي بين المجهول الذي لا يعرف وبين المحتشم صاحب الجاه المعروف في مقام واحد في الدعاوي وتنظر أيضاً بعين واحدة ولا تفضل أحدهما على الآخر لأجل أن أحدهما فقير والاخر غني فإن الجوهر والخزف في الآخرة بسعر واحد، ولا يحرق عاقل نفسه بالنار، لحشمة الأغيار. وإذا كان لرجل ضعيف على سلطان من السلاطين دعوى فينبغي أن يقوم من صدر مملكته ويعمل بحكم الله تعالى وينصف ذلك العبد الضعيف ويرضيه ولا يحيف عليه ولا يسحي من الحق ويعمل بقول الله )إن الله يأمُر بِالعَدَلِ والإحسَان( وحقيقة ذلك إن كان للملك على آخر حق أن يسامحه ويمن به عليه ويأمر عماله الثقات أن يقتدوا بمثاله ويعملوا بسيرته لئلا يسئل عنه يوم القيامة. فقد جاء عن النبي ﷺ أنه قال كل راع يسئل عن غنمه وكل إنسان يسئل عن رعيته والحال على هذه الصفة والمآل. حكاية: يقال أن إسماعيل بن أحمد أمير خراسان نزل بمرو وكان رسمه في كل موضع ينزله أن يامر المنادي أن ينادي في العسكر إن الجند ما لهم في الرعية شغل فمضى رجل من الخرنبدية ودخل مبطخة قوم فتناول من البطيخ قدراً يسيراً فجاءوا إلى باب الملك واستغاثوا فأمر بإحضاره فأحضر بين يديه فقال له ما حملك على أن آذيت رعيتي قال أخطأت قال لا أقدر لأجل خطئك على دخول النار ثم أمر به فقطعت يده. حكاية: يحكى عن إسماعيل الساماني في كتاب سير الملوك أنه كان ينزل بحذاء موليان وكان يصل كل وقت إلى مدينة كغد ويأمر المنادي أن ينادي في الناس وكان يرفع الحجاب ويزيح البواب ليجيء كل من له ظلامة ويقف على جانب البساط ويخاطبه ويعود مقضي الحاجة. وكان يقضي بين الخصوم مثل الحكام إلى أن تفي الدعاوي ثم يقوم من موضعه ويقبض على محاسنه ويوجه وجهه نحو السماء ويقول: إلَهي هذا جهدي وطاقتي قد بذلتهما وأنت عالم الأسرار تعلم نيتي ولا أعلم على أي عبد من عبادك حفت، ولا لأيهم ظلمت . وماأنصفت أنا واحداً من أصحابي فأغفر لي يا ألَهي من ذلك ما لا أعلم. فلما كان نقي النية، جميل الطوية، لا جرم علا أمره، وارتفع قدره وكان عسكره ألف فارس معتدين بالسلاح مقنعين بالحديد وببركة ذلك العدل والأنصاف ظفره الله تعالى بعمرو بن ليث حتى قبض عليه وفتح خراسان. ثم أن عمرو ابن ليث أنفذ إليه من السجن فقال: لي بخراسان أموال كثيرة وكنوز موفورة. وأنا أسلم الجميع إليك وأطلقني من السجن فلما سمع إسماعيل ذلك ضحك وقال إلى الآن لم يستقم معي عمرو ابن ليث يريد أن يجعل المظالم التي احتقبها. والمآثم التي ارتكبها، في عنقي ويتخلص من ثقل أوزارها ي القيامة قولوا له مالي في مالك حاجة. ثم أنه أخرجه من السجن وأنفذه رسولاً إلى بغداد فنال من أمير المؤمنين الخلع والتشريق. وجلس إسماعيل في مملكته بخراسان آمناً فارغ البال، حسن الحال. وبقيت المملكة في عنصر السامانية مائة وثلاثين سنة فلما إنتقل الأمر إلى أصاغرهم وصبيانهم ظلموا الخلق، وتعدوا الحق فزال ملكهم. قال رسول الله ﷺ )عدل السلطان يوماً واحداً خير من عبادة سبعين سنة(. وقال عليه الصلاة والسلام )من سل سيف الجور سل عليه سيف الغلبة ولازمه الغم( كما قال الشاعر: تَقَطُب مِنك طَلق الوجه يَوماً ترى بِالعَدلِ عن جُور جَزاء فَقُل لِلنَاسِ ما تهوَى إستماَعاَ ولا تقتل أن اختَرتُ البقـاءِ جاء في الخبر أن داود عليه السلام كان ينظر يوماً فرأى شيئاً ينزل من السماء مثل النخالة فقال: إلَهي ما هذا قال هذه لعنتي أنزلها على بيوت الجائرين. حكاية: لما قعد انو شروان في المملكة كتب إليه يونان الوزير فقال إعلم أيها السطان أن أمور الملك على ثلاثة أشياء: أما أن ينصف رعيته ولا ينتصف منهم وذلك هو الدرجة العليا. أو ينتصف وينصف أيها الملك إلى هذه الثلاثة وأختر أيها أردت وأنا أعلم أن مولانا يختار الأولى كما قال الشاعر:
من أنصفَ الناسَ ولم ينتَصِف بفضلهِ منهُم فـذاك الأمـير ومن يرِد إنصَافِهم مِثـلـمَـا أنصفَ أضحَى مالهُ من نظيرِ ومن يُرِد إنصَـافـه وهـو لا ينصَفهُم فهو الدنيُء الحقـيرُ )نصيحة وموعظة( دخل شبيب بن شيبة يوماً على المهدى فقال يا أمير المؤمنين إن الله قد أعطاك الدنيا فأعط رعيتك قسطاً من طيب عيشك فقال المهدي وما الذي ينبغي أن تعطي الرعية فقال العدل فإنه إذا نامت الرعية في أمن منك نمت آمناً في قبرك. وقال أحذر يا أمير المؤمنين من يوم لا ليلة بعده ومن ليلة لا يوم بعدها وأعدل ما استطعت فإنك تجازي بالعدل عدلاً وبالجور جوراً وزين نفسك بالتقوى فإنك في الحشر لا يعيرك أحد زينته كما قال الشاعر. فحلِ نفَسك بِالتـقَـوى وزينَـهـا فلن يُعارَ تقيُ في النَاسِ من رجلِ وليس ُتبلى يدُ المعروفِ فاحظ بها تربح كثيراً ورأسُ المالِ لـم يزَل حكاية: وصل كتاب من قيصر ملك الروم إلى الملك العادل أنوشروان يقول بماذا يكون دوام الملك فكتب إليه في الجواب جواب ذلك أني لا أعمل شيئاً بجهالة وإذا أمرت بأمر تممته ولا أتركه لخوف ولا لرجاء، يريد أنني إذا أمرت بشيء لا أبطله لأجل من يرجوني أو يخافني وأن لا أغير شيئاً أمرت به. حكمة: سئل ارسطاطاليس هل يجوز أن يدعي أحد ملكاً غير الله تعالى فقال من وجدت فيه هذه الخصال وإن كانت عارية: العلم والعدل والسخاء والحلم والرقة وما ناسبها لأن الملوك إنما كانوا ملوكاً بالظل الإلَهي وضياء الحس، وطهارة النفس وتزايد العقل، والعلم وقدم الدولة وشرف الأصل والدولة التي كانت في محتدهم وأصولهم فبذلك كانوا ملوكاً وسلاطين ومعنى قولهم )فرابرذي( وهو الظل الإلَهي يظهر في ستة عشر شيئاً العقل والعلم وحدة الذكاء وتدارك الأشياء والصور التامة والألمعية والفروسية والشجاعة والإقدام والتأني وحسن الخلق وإنصاف الضعيف ومحبة الرعية وإظهار الزعامة والإحتمال والمدارة في مكانها والرأى والتدبير في الأمور والإكثار من قراءة الأخبار وحفظ سير الملوك والفحص عن الأحوال والأعمال التي اعتمدوها الملوك وعملوا بها لأن هذه الدنيا بقية دول المتقدمين الذين تملكوها ثم مضوا وانقضوا وصاروا تذكاراً للناس يذكر كل إنسان بفعله. وللآخرة كنز، وللدنيا كنز هذه الدنيا حسن الثناء وطيب الذكر، وكنزالآخرة العمل الصالح واكتساب الأجر. حكمة: كان الاسكندر في بعض الأيام قد ركب في مركب مملكته فقال رجل من مقدمي عسكره إن الله تعالى أعطاك ملكاً عظيماً فاستكثر من النساء لتكثر أولادك فتذكر بهم بعدك فقال ليس ذكر الرجال بعدهم بكثرة الأولاد لكن بحسن السيرة وعدل النية ورجل غلب رجال الدنيا لا يجوز أن تغلبه النساء. حكمة: سأل الإسكندر ارسطاطاليس أيما أفضل للملوك الشجاعة أم العدل فقال ارسطاطاليس إذا عدل السلطان لم يحتج إلى شجاعة. حكاية: عزل الإسكندر عاملاً من عماله من عمل كثير خطير، وولاه أمر عمل خفيف حقير، فجاء في بعض الأيام ذلك الرجل إلى الدركاه فقال له الأسكندر كيف تجد عملك فقال أطال الله بقاء الملك الرجال لا تشرف بالأعمال، بل الأعمال تشرف بالرجال، وذلك بحسن السيرة والإنصاف والعدل وتجنب الإسراف. فأحسن الأسكندر مقاله، وأعاد إليه أعماله. حكمة: قال سقراط العالم مركب من العدل فإذا جاء الجور لا يثبت ولا يستقر. حكمة أخرى: سئل بزرجمهر فقيل بأي شيء يظهر عز الملك? فقال بثلاثة أشياء: حفظ الأطراف مع دفع العدو عن الحوزة، وإكرام العلماء وإعزازهم وحب أهل الفضل لأنه كلما جار السلطان خاف أهل الأطراف وإن كانت نعمهم كثيرة فإنها مع الخوف لا تنساغ وإن كانت النعم قليلة إنساغت مع الأمن كما جاء في الحكاية. حكاية: يقال أنه إنقطع رجل من قافلة الحج وضل الطريق ووقع في الوحل فجعل يسير إلى أن وصل إلى خيمة فرأى إمراة عجوزاً ورأى على باب الخيمة كلباً نائماً فسلم الحاج على العجوز وطلب منها طعاماً فقالت العجوز امض إلى ذلك الوادى واصطد من الحيات بقدر كفايتك لأشوي لك منها واطعمك فقال الرجل أنا لا أجسر أن أصطاد الجيات فقالت العجوز أنا أتصيد معك فلما مضت وأياه وتبعهما الكلب فأخذا من الحيات بقدر كفايتهما فأتت العجوز وجعلت تشوي له الحيات فلم ير الحاج من الأكل بداً وخاف أن يهلك من الجوع والهزال فأكل ثم أنه عطش وطلب منها الماء ليشرب فقالت له دونك والعين فأشرب فمضى إلى العين فوجد ماء مالحاً مراً ولم يجد من شربه بداً فشرب وعاد إلى العجوز وقال اعجب منك أيتها العجوز ومن مقامك في هذا الموضع فقالت كيف تكون بلادكم فقال يكون في بلادنا الدور الرحيبة الواسعة، والفواكه اللذيذة اليانعة، والمياه العذبة، والأطعمة الطيبة، واللحوم السمينة والغنم الكثيرة، والعيون الغزيرة. فقالت العجوز قد سمعت هذا كله فقل لي هل تكونون تحت يد سلطان يجور عليكم وإذا كان لكم ذنب أخذ أموالكم واستأصل أحوالكم وأخرجكم عن مسرتكم فقال قد يكون ذلك فقالت إذاً يعود ذلك الطعام اللطيف، والعيش الظريف، والنعم اللذيذة مع الجور والظلم سماً ناقعاً وتعود أطعمتنا مع الأمن، درياقاً نافعاً أو ما سمعت أن اجل النعم بعد نعمة الإسلام الصحة والأمن. والأمن إنما يكون مع سياسة السلطان. فيجب على السلطان أن يعمل بالسياسة وأن يكون مع السياسة عادلاً لأن السلطان خليفة الله ويجب أن تكون هيبته بحيث إذا رأته الرعية خافوا ولو كانوا بعيداً، وسلطان هذا الزمان ينبغي أن يكون له أوى سياسة وأتم هيبة أن أناس هذا الزمان ليسوا كالمتقدمين فإن زماننا هذا زمان ذوي الوقاحة والسفهاء، وأهل القسوة والشحناء. وإذا كان السلطان منهم ضعيفاً أو كان غير ذي سياسة وهيبة فلا شك أن ذلك يكون سبب خراب البلاد وأن الخلل يعود إلى الدين والدنيا، وفي الأمثال جور السلطان مائة عام ولا جور الرعية بعضهم على بعض سنة واحدة وإذا جارت الرعية سلط الله عليها سلطاناً جائراً وملكاً قاهراً كما جاء في الحكاية. حكاية: أُعطي الحجاج بن يوسف الثقفي في بعض الأيام قصة مكتوب فيا اتق الله ولا تجر على عباد الله كل هذا الجور فرقى الحجاج المنبر وكان فصيحاً فقال أيها الناس إن الله سلطني عليكم بأعمالكم فإن أنا مت فلا تخلصون من الجور مع هذه الأعمال السيئة فإن الله تعالى خلق أمثالي كثيراً وإذا لم أكن أنا كان من هو أكثر من . قال الشاعر: وما مِن يدٍ إلا يدُ اللهِ فوقَها ولا ظالمُ إلا سيُبلى بأظلمِ حكمة: سئل بزرجمهر أي الملوك أطهر فقال من أمنه الطاهرون وخاف منه الخطاؤؤن. وأما السلطان الذي لا سياسة له فليس له في أعين الناس خطر ولا محل بل يكون الخلق عليه ساخطين ثم يذكرونه كل وقت بالقبيح ألا ترى أن الإنسان إذا كان من عوام الولاية وتولى عليها وأراد أن يطلب الحساب من الرعية أول ما يكلمهم بالهيبة ويظهر جاهه بالسياسة لعلمه أن الرعية إنما ينظرونه بالعين الأولى.
وفي هذا الباب حكاية عجيبة كان لأبي سفيان بن الحارث ولد وكان يدع زياد بن أبيه وكان قد ولد في أيام الجاهلية ونفاه وتبرأ منه وقال ما هو لي بولد فلما وصل الأمر إلى معاوية قربه وأدناه وولاه ولاية العراق فلما وصل إلى العراق وجد أهل العراق قوماً عابثين يفسدون ويسرقون فقصد زيارة المسجد الجامع ورقى المنبر وخطب خطبة ثم قال بعد خطبته والله لئن خرج أحد بعد العشاء الآخرة لآخذن رأسه عن جسده فليعلم الشاهد الغائب. ثم أمر منادياً بذلك ثلاثة أيام فلما كان في الليلة الرابعة خرج زياد وقد مضى من الليل ثلثه فركب وجعل يطوف محال البلد فرأى إعرابياً ومعه غنم له وهو قائم فسأله زياد ما تصنع هاهنا فقال أتيت مساء ولم أجد موضعاً أستقر فيه فنزلت مكاني إلى أن أصبح وأبيع غنمي فقال له زياد أنا أعلم إنك صادق وأن أطلقتك خفت أن يذيع الخبر عني أن زياداً يقول ما لا يفعل فتفسد سياستي وتنكسر هيبتي والجنة خير لك مما هنا ثم ضرب عنقه وجعل يسير فكل من رآه ضرب عنقه وحز رأسه فلما أصبح من الغد كان قد أخذ رؤوس ألف وخمسمائة رجل ثم جعلها على باب داره مثل البيدر فتهوله الناس وحزعوا لما رأوا من فعله كان الليل خرج وطاف فلقي ثلاثمائة رجل فأخذ رؤوسهم فلم يقدر أحد بعد ذلك أن يخرج من منزله بعد العشاء الآخرة. فلما كان يوم الجمعة رقى المنبر وقال أيها الناس لا يغلق أحد منكم دكانه بالليل ومهما سرق منكم كان غرامته على فلم يجسر أحد منهم أن يغلق دكانه تلك الليلة فلما كان من الغد أتاه رجل صيرفي وقال قد سرق مني البارحة أربعمائة دينار فقال له زياد تقدر أن تحلف على صحة قولك فقال نعم فحلفه وغرم له أربعمائة دينار وقال له اكتم هذا الأمر ولا تشعر به أحداً فلما كان في الجمعة الثانية اجتمع الناس لصلاة الجمعة وصعد زياد المنبر وقال اعلموا أنه قد سرق من دكان الصيرفي أربعمائة ديناراً وأنتم كلكم حاضرون فإن رددتم ذلك فقد عاد إلى الرجل ماله وإن لم تردوا ذلك فقد أمرت أن لا يمكن أحد منكم أن يخرج من الجامع وأمرت بقتلكم في هذه الساعة ففي الحال لوموا من كان يتهمونه بالسرقه وقدموه بين يديه فرد الذهب الذي كان سرقه فأمر بصلبه في الحال. ثم أنه سأل بعد ذلك أي محلة في البصرة ليس فيها أمن فقيل محلة بني الأزد فأمر أن يترك فيها ثوب ديباح له قيمة ثقيلة ليلاً بحيث لا يراه أحد فبقي أياماً ملقى بحاله ولم يكن لأحد جسارة أن يقربه ولا يرفعه من مكانه فقال له أقاربه بعد ذلك أن السياسة خير الأشياء إلا أنك لم ترحم المسلمين أولاً أهلكت خلقاً كثيراً فقال قد أخذت عليهم الحجة قبل ذلك بثلاثة أيام ومن شؤم مخالفتهم لم ينتهوا والذي أصابهم كان من شؤم أعمالهم. فصل ولا ينبغي للسلطان أن يشتغل دائماً بلعب الشطرنج والنرد، وشرب الخمر وضرب الكرة والصولجان والصيد، لأن ذلك يمنعه ويشغله عن أمور الرعية فإن لكل عمل وقتاً فإذا فات الوقت عاد الربح خسراناً فإن الملوك القدماء قسموا النهار أربعة أقسام. قسم منها لطاعة الله وعبادته، وقسم للنظر في الرعية وإنصاف المظلومين والجلوس بين العلماء والعقلاء ولتدبير الأمور وسياسة الجمهور وتنفيذ المراسم والأوامر وكتابة الكتب وإرسال الرسل، وقسم للأكل والشرب والتزود من الدنيا وأخذ الحظوظ من الفرح والسرور، وقسم للصيد ولعب الشطرنج والكرة وما أشبه ذلك. حكمة: يقال أن بهرام كور قسم نهاره قسمين وجعله شطرين. ففي النصف الأول كان يقضي حوائج الناس، وفي النصف الثاني كان يطلب الراحة ويقال أنه في جميع عمره ما أشتغل يوماً تاماً بعمل واحد. وكان أنو شروان العادل يامر أصحابه الثقات أن يصعدوا إلى أعلى مكان في البلد فينظروا إلى بيوت الناس فكل بيت لا يخرج منه دخان نزلوا وسألوا عن حال أولئك القوم وما خطبهم فإن كانوا في غم أعملوا الملك فكان يحمل ويزيل هموهم. ويجب على السلطان أن لا يرضى لغلمانه أن يتناولوا شيئاً من الرعية بغير حق كما جاء في الحكاية. حكاية: يقال أنه كان قد ولى أنو شروان عاملاً فأنفذ العامل إليه زيادة في الخراج ثلاثة آلاف درهم فأمر شروان بإعادة الزيادة إلى أصحابها وأمر بصلب العامل. وكل سلطان أخذ من الرعية شيئاً بالجور والغصب وخزنه في خزائنه كان مثله رجل عمل أساس حائط ولم يصبر حتى يجف ثم وضع البنيان عليه فلم يبق الأساس ولا الحائط. ينبغي للسلطان أن يأخذ ما يأخذه من الرعية وأن يهب ما يهبه بقدره لأن لكل واحد من هذين حداً محدوداً كما جاء في الحكاية. حكاية: يقال أن المأمون ولى يوماً أربعة نفر ولايات فأعطى لواحد منهم منشور خراسان خلع عليه ثلاثة آلاف دينار وولى الآخر ولاية مصر وخلع عليه خلعة مثلها، وولى الآخر ولاية ارمينية وأعطاه خلعة مثلها ثم إستدعى يومئذ موبذان وقال يا دهقان هل كان لملوك العجم مثل هذه الخلع فإنه بلغني أن خلعهم ما كانت تبلغ أكثر من أربعة آلاف درهم فقال الموبذان أطال الله بقاء أمير المؤمنين كان لملوك العجم ثلاثة ليست لكم )أحدها( أنهم كانوا يأخذون ما يأخذونه من الرعية بقدر ويعطونه بقدر )والثاني( أنهم كانوا يأخذون من موضع يجوز الأخذ منه ويعطون لمن ينبغي أن يعطى )والثالث( أنهم ما كان يخافهم إلا أهل الريب فقال المأمون صدقت ولم يعد عليه جواباً. ولأجل هذا لما كشف المأمون تربة كسرى أنو شروان وفتح تابوته وفتشه وجد صورته وهي بمائها ما بليت، والثياب بجدتها ما تغيرت ولا خلقت، والخاتم في يده ياقوت أحمر كثير الثمن ما رأى المأمون قبله فصاً مثله وكان على فصه مكتوب به مه نه مه به. ومعنى ذلك الأجود أكبر وليس الأجود أكبر فأمر أن يغطى بثوب نسج من الذهب وكان مع المأمون خادم فأخذ الخاتم من أصبع كسرى ولم يشعر المأمون وكان مع المأمون خادم فأخذ الخاتم من أصبع كسرى ولم يشعر المأمون فلما علم به أعاده وأمر بإهلاك الخادم وقال كاد يفضحني بحيث يقال عني إلى يوم القيامة إن المأمون كان نباشاً وأنه فتح تربة كسرى وأخذ خاتمه من أصبعه. حكاية: سأل الاسكندرية يوماً حليماً من حكمائه وكان قد عزم على سفر فقال أوضحوا لي من الحكمة سبيلاً أحكم فيه أشغالى، وأتقن فيه أعمالي. فقال كبير الحكماء أيها الملك لا تدخل قلبك حب شيء ولا بغضه لأن القلب خاصته كإسمه وإنما سُميَ قلباً لتقبله وأعمل الفكر وإتخذه وزيراً واجعل العقل صاحباً ومشيراً، واجهد أن تكون متيقظاً ولا تشرع في عمل أمر بغير مشورة وتجنب الميل والمحابة في وقت العدل والإنصاف فإذا فعلت ذلك جرت الأشياء على آثارك، وتصرفت فيها بإختيارك، وينبغي أن يكون الملك وقوراً حليماً، وإن لا يكون طائشاً عجولاً. قالت الحكماء ثلاثة أشياء قبيحة وهي ف ثلاثة أقبح: الحدة في الملوك، والحرص في العلماء، والبخل في الأغنياء. حكاية: كتب الوزير يونان إلى الملك العادل أن شروان وصايا ومواعظ فقال ينبغي يا ملك العالم أن يكون معك أربعة أشياء دائمة: العقل، والعدل، والصبر، والحياء، وينبغي يا ملك الزمان أن تنفي عنك الحسد والكبر وضيق الصدر ويريد به البخل والعداوة، واعلم يا ملك الزمان أن الذين كانوا قبلك من الملوك مضوا والذين يأتون من بعدك لم يصلوا فاحتهد أن يكون جميع ملوك الزمان محييك ومشتاقيك. حكاية: يقال أن أنو شروان ركب يوماً من أيام الربيع على سبيل الرجة فجعل يسير في الرياض المخضرة، ويشاهد الأشجار المثمرة، وينظر إلى الكروم العامرة فنزل عن فرسه، وسجد شكراً لربه وخر ساجداً ووضع خده على التراب زماناً طويلاً فلما رفع رأسه قال لأصحابه إن خصب السنين من عدل السلاطين، وحسن نيتهم إلى رعيتهم. فالمنة لله تعالى الذي أظهر حسن نيتنا في سائر الأشياء وإنما قال ذلك لأنه جربه في الأوقات. حكاية: يقال أن أنو شروان الملك العادل خرج يوماً إلى الصيد فإنفرد من عسكره خلف الصيد فرأى ضيعة بالقرب منه وكان قد عطش فقصد الضيعة وأتى باب دار قوم وطلب ماء ليشرب فخرجت صبية فأبصرته ثم عادت إلى البيت فدقت قصبة واحدة من قصب السكر ومزجت ما عصرته منها بالماء ووضعته في القدح فرأى فيه تراباً وقذى فشرب منه قليلاً قليلاً حتى انتهى لآخره وقال للصبية )سادناس( أي نعم الماء لولا قذى كدره فقالت )يا شرهيك( أنا عمداً ألقيت فيه القذى فقال ولم فعلت ذاك فقالت رأيتك شديد العطش ولو لم يكن فيه القذى لشربته نوبة واحدة وقد يضرك شربه فتعجب أنو شروان من كلامها وعلم أنها قالته عن ذكاء وفطنة. ثم قال لها من كم عصرت ذلك الماء فقالت من قصبة واحدة فتعجب أنو شروان وأضمر في نفسه أنع إذا عاد يأمر بزيادة الخراج على تلك الناحية. ثم عاد إلى تلك الناحية بعد وقت آخر واجتاز على ذلك الباب منفرداً وطلب ماء فخرجت إليه تلك الصبية بعينها فعرفته ثم عادت لتخرج الماء فأبطأت عليه فأستعجلها أنو شروان وقال لأي شيء أبطأت قالت لأنه لم يخرج من قصبة واحدة قدر حاجتك وقد دققت ثلاث قصبات ولم يخرج منها قدر ما كان يخرج من قصبة واحدة فقال أنو شروان وما سبب ذلك العجز? فقالت سببه تغير نية السلطان فقد قيل أنه إذا تغيرت نية السلطان على قوم طارت بركتهم، وقلت خيراتهم فضحك أنو شروان وعجب من قول الصبية وأزال من نفسه ما كان أضمره لهم وتزوج الصبية لحسن ذكائها وفصاحة كلامها.
حكمة: يقال أن الصادقين من الناس ثلاثة الأنبياء والملوك والمجانين وقيل السكر جنون وإن المجنون يخاف من السكران لأن المجنون سكره باطن والسكران جنونه ظاهر والويل لمن يبقى في سكر الغفلة دائماً كما قال الشاعر: من أسكرَتُه الخمرُ في عقلِه ليس عليهِ إن صحاَ من خجلِ ومن يكُن بالمُلكِ ذا سـكـرة يصح إذا ما الملكُ عنه انتقلَ والقليل جداً من كان من سكر سلطنته صاحياً وكان المقدم على أعماله ثقة نصوحاً معيناً. وعلامة سكر السلطان أن يسلم وزارته إلى محتاج ومعوز ثم يستديمه ويتمسك به إلى أن تزول حاجته، وتنقضي فاقته، ثم يعزله وينصب غيره فيكون مثله مثل من يربي طفلاً صغيراً إلى أن يصير بالغاً كبيراً يصلح للأشغال، وإمضاء الأعمال، ثم يقتله ويستأصله. قيل أربعة أشياء على الملوك من جملة الفرائض وهي إبعاد الأدنياء عن مملكتهم، وعمارة المملكة بتقريب العقلاء، وحفظ المشايخ وأُولى الحكمة والتجربة والزيادة في أمر الملك بالإقلال من الأعمال المذمومة. إشارة لطيفة: لما تولى الأمر عمر بن عبد العزيز كتب إلى الحسن البصري أن أعني بأصحابك فكتب إليه الحسن البصري أما طالب الدنيا فلا ينصح لك، وأما طالب الآخرة فلا يرغب فيك، ولا يجوز للسلطان أن يسلم وزارته ولا عملاً من أعماله إلى من ليس بأهل فإن سلم الأعمال إلى ذلك الرجل فقد أفسد ملكه وظهر له الخلل الوافر من كل وجه ومن كل جانب كما قال الشاعر: البيتُ إذا مـا حـانَ خَـرَابـه ظهَر التخلخُلُ مِن أساسِ الحائطِ وإذا تولىَ المُلكُ غير رِجـالـهُ ولُوا الأمورَ لكُلِ فدم سـاقـطِ وينبغي لمن خدم الملوك أن يكون كما قال الشاعر: إذا خدمَت الملوكَ فـالـبـس مِن التوقِي اعـزَ مـلـبـس وأدخُل إذا ما دخلَت أعـمـى واخرُج إذا ما خرجَت أخرسَ وأما من تبسط مع السلطان فقد ظلم نفسه ولو كان ولد السلطان فليس للانبساط معهم في خدمتهم وجه كقول الشاعر: إذا كُنت للسُلطَانِ نجـلاً فـداره وخف مِنه إن أحبَبَت رأسك تسلمُ ومثل من تبسط مع السلطان كمثل الحواء الذي يكون دهره مع الحيات يأكل معها وينام معها، أو كرجل في البحر بين التماسيح التي تبلع الناس فلا يزال مخاطراً. حكمة: قيل ويل لن ابتلى بصحبة السلاطين فإنهم ليس لهم صديق ولا قرابة ولا خادم ولا ولد ولا احترام إلا من كانوا محتاجين إليه لعلمه أو لشجاعته فإذا أخذوا حاجتهم منه لم يبق لهم عنده مودة ولم يبق له عندهم وفاء ولا حياء وأكثر أشغالهم رياء يستصغرون كبار ذنوبهم وسيتعظمون صغار ذنوب غيرهم. قال سفيان لا تصحب السلطان وإياك وخدمته لأنك إن كنت له مطيعاً أتعبك، وإن خالفته قتلك وأعطيك. حكاية: يقال أن يزدجر بن شهريار دخل على والده في وقت لم يكن لأحد إذن في الدخول فقال شهريار لبهرام أمض وأضرب الحاجب الفلاني ثلاثنين خشبة واطرده عن الدركاه وأقم عوضه فلانا الحر. وكان عمر يزدجرد يومئذ ثلاث عشرة سنة فعزل ذلك الحاجب الأول عن الباب فعاد يزدجرد في بعض الأيام وأراد أن يدخل على والده شهريار فجعل الحاجب يده في صدره ورده على عقبه وقال إن عدت ورأيتك ههنا ضربتك ستين خشبة ثلاثين لأجل الحاجب المعزول وثلاثين لئلا تعود تدخل على الملك في غير وقت الآذن وإن كنت ولده لئلا تجلب إلى الضرب والهوان والطرد. وأصلح الأشياء للملك أن لا يباشر الأسباب بنفسه ويحفظ ناموسه لأن كثيراً من الأرواح يتعلق بروحه وصلاح الرعية في حياته. وكذا ينبغي أن لا يجور على نفسه ولا يجور على الناس. ولا ينبغي للملك أن يجازف في الأشغال ولا يتساهل فيها. ويجب عليه أن ينيم على فراشه كل ليلة غيره ويتحول بنفسه عن ذلك الموضع حتى إذا قصده عدو لاتلاف نفسه وجد في مكانه غيره فلا تصل يد عدوه إليه كما جاء في الحكاية. حكاية: يقال أنه انهزم خسروبن ابرويز من بهرام جور وقال خربت وإن كان هربي عيباً لاخلص بهربي أرواح جماعة من أصحابي لأني إن هلكت بسببي ألوف من الخلائق. والمقصود من المقال أن زماننا هذا غير موافق والناس فيه بين قبيح الفعل وعاقل الملوك مشغولون بالدنيا وحب المال ولا يجوز الإهمال والتغافل بين أناس السوء. في أمثال العرب )العبد يقرع بالعصا، والحر تكفيه الإشارة( وهذا المثل يضرب في من له أصل ومن لا أصل له وقد كان للناس وقت وزمان يؤمن فيه رجل واحد جميع أهل الدنيا ويسخرهم بدرة كان يحملها على عاتقه وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه والفضل في ذلك الزمان للوقت والرعية مشغولون ولو عوملوا بتلك المعاملة لم يحتملوا ولبدا فيها الفساد. لكن ينبغي للسلطان في هذا الوقت أن يكون له أتم سياسة وهيبة ليشتغل كل إنسان بشغله ويأمن الناس بعضهم من بعض. ونحن الآن نورد خبراً يستفيد به القارىء والسامع: سئل أمير المؤمنين على بن أبى طالب كرم الله وجهه لأي شيء لا تنفع الموعظة هؤلاء الخلق فقال الخبر المعروف أن رسول الله ﷺ لما أوصى عند وفاته أشار بأصابعه الثلاث وقال لا تسألوني عن حال أولئك فقال قوم من الصحابة أشار إلى ثلاثة أشهر وقال قوم إلى ثلاث سنين وقال قوم إلى ثلاثين سنة وقال قوم ثلاثمائة سنة يعني إذا مضت ثلاثمائة سنة فلا تسألوني عن حال أولئك الرجال فإذا قال النبي ﷺ لا تسألوني عن حال أولئك فكيف ينفع الوعظ فيهم. وسئل عن هذا السؤال فقال كان الناس في ذلك الوقت نياماً وكان العلماء أيقاظاً واليوم العلماء نيام والخلق موتى فأي نفع لكلام النائم مع الميت. أما زماننا هذا فهو الزمان الذي هلك فيه الخلائق جميعهم وقد خبثت أعمال الناس ونياتهم وإذا لم يكن فيه للسلطان سياسة على الخلائق لا هيبة لم يثبتوا على الطاعة والصلاح. وقد قال النبي ﷺ العدل من الدين وفيه صلاح السلطان وقوة الخاص والعام وفيه يكون خير الرعية وأمنهم وعافيتهم وكل الأعمال توزن بميزان العدل. وقال عز وجل في موضع آخر: )الذي أنزلَ الكِتَابَ بِالحقِِ والمِيزانِ( وأحق الناس بالجاه والمملكة من كان في قلبه مكان للعدل، وبيته مقر ذوي الدين والفضل، ورأيه من أرباب الدين والعقل، وصحبته مع العقلاء، ومشورته مع ذوي الآراء. كما قال الشاعر: يدُه خِـزَانة جُـودِه والقلبُ خازنُ قصدهِ قد رتبًـت أبـوابـهَ أبداً لطلبِ عـدلـهِ قال الحسن البصرى كل ملك عظم أمر الدين كان عند رعيته مهيباً عظيم القدر والأمر ومن عرف الله تعالى تعرف الخلق به واختاروا أن يكونوا معارفه كما قال الشاعر:
من عرفَ اللَهُ تعالىَ اسُمَهِ آثرَ كُلُ الخلق عرفـاتَـه طُوبي لمن أول ما حـازهُ معرفة الخالق سُبحـانـه قال بزر جمهر ينبغي للملك أن لا يكون في مملكته أقل من البستاني ف حفظ بستانه إذا زرع الريحان ونبت بينه الحشيش إستعجل في قلع الحشيش كيلاً يضبط أماكن الريحان. قال أفلاطون علامة السلطان لامظفر على العدو أن يكون قوياً في نفسه لازماً لصمته مفكراً في رأيه وتدبيره بقلبه وان يكون عاقلاً في ملكه شريفاً في نفسه حلواً في قلوب الرعية رفيقاً في سائر أعماله، مجرباً لعهد من تقدمه خبيراً بأعمال من هو أقدم منه صلباً في دينه وعزمه. وكل ملك تجمعت فيه هذه الخلال، وحصلت له هذه الخصال، كان في عين عدوه مهيباً، ولا يجد العائب له معيباً، إذا كان الملك يرى أن حوله وقوته بالله جلت قدرته وإن كان عدوه قوياً فإنه يظفر به وينتصر عليه، مثاله قول الله عز وجل )كم مِن فئةٍ قليلةِ غلبًت فئةً كثيرة بإذنِ اللهِ والُله مع الصابرينَ( . نكتة: قال سقراط الحكيم علامة السلطان الذي يدوم ملكه أن يكون الدين والعقل منه حيين في قلبه ليكون في قلوب الرعية محبوباً، وأن يكون العقل قريباً، وأن يكون طالباً للعلم ليعلم من العلماء وأن يكون فضله غزيراً، وبيته كبيراً، ليعظم عند الفضلاء، ويربي الأدباء ليتفرع عنه الأدباء، وأن يبعد عن مملكته متطلبي العيوب لتبعد عنه العيوب. وكل ملك لم يكن له مثل هذه الخصال لا يفرح بمملكته، وتسرع إليه دواعي هلكته، ويتلف أقرباؤه على يده وجلساؤه لأن القيل يظهر من عدم العقل كما قال الشاعر: يقولُ الحكيمُ المقـالَ الأسـدَ دع المُزح إذ لستُ فيهِ أسدِ تحفظُ بنفسِك مع مُفلـتِـي ك فعينك للملكِ تجني الحردِ وخف أن تنازعَه مُـلـكـهُ وفي حالةِ السخطِ عنه ابتعدِ سمِعًتُ عن الخمرِ أن المليكَ يسكرُ مِنها قُـبـيل الأمـدِ إشارة وحكمة: سأل معاوية الأحنف بن قيس فقال يا أبا يحيى كيف الزمان فقال الزمان أنتا إن صلحت صلح الزمان وإن فسدت فسد الزمان. وقال الأحنف بن قيس أن الدنيا عمرت بالعدل فكذلك تخرب بالجور لأن العدل يصفو نوره، وتلوح تباشيره، من مسيرة ألف فرسخ والجور يتراكم ظلامه، ويسود قتامه من مسيرة ألف فرسخ. وقال الفضيل بن عياض لو كان دعائي مستجاباً لم أدع به لغير السلطان العادل لأن السلطان العادل صلاح العباد، وزينة البلاد، وقد جاء في الخبر، عن سيد البشر صلوات الله وسلامه )عليه المقسطون على منابر اللؤلؤ يوم القيامة( . حكاية: كان الاسكندر يوماً على تخت مملكته وقد وقع الحجاب فقدم بين يديه لص فأمر فقال أيها الملك سرقت ولم يكن لي شهوة السرقة ولم يطلبها قلبي فقال له الاسكندر لا جرم تصلب ولا يطلب قلبك الصلب ولا يريده، فواجب على السلطان أن يعدل وينظر غاية النظر فيما يأمر به من السياسة لينفذ ذلك في أصحابه مثل وزيره وحاجبه ونائبه وعامله لأن كثيراً من سياسة السلطان وعدله ونظره وحسن تأمله يغطي عليه بالبراطيل ويغرب وقته وذلك من تغافل الملك وتهاونه فينبغي أن يجتهد غاية الاجتهاد في تدارك ذلك كما جاء في الحكاية. حكاية: كان للملك كستاشب وزير اسمه راشت روش وبهذا الاسم كان يظن كستاشب أنه تقي صالح وما كان يسمع فيه كلام أحد يقدح فيه ولم يكن يخبر حاله فقال راشت روش لخليفة الملك أن الرعية قد بطرت الآن من كثرة عدلنا فيهم وقلة تأديبنا لهم وقد قيل إذا عدل السلطان جارت الرعية والآن قد قامت منهم رائحة الفساد ويجب علينا أن نؤدبهم ونزجرهم ونبعد المعتدين ونقرب الصالحين ثم إنه كان كل من ألزمه الخليفة أن يؤدبه ارتشى منه راشت روش وأطلقه إلى أن ضعفت الرعية وضاقت بها الأحوال، وخلت الخزائن من الأموال، فظهر لكستاشب عدو فاعتبر خزائنه فلم يجد فيها شيئاً يصلح به أمور عسكره فركب يوماً في شغل عليه وسار في البرية فرأى من بعد قطيع غنم فقصده فرأى خيمة مضروبة والأغنام نيام ورأى كلباً مصلوباً فلما قرب من الخيمة خرج إليه شاب فسلم عليه وسأله النزول فأكرمه وقدم بين يديه ما حضر كما وجب فقال كستاشب اخبرنا عن حال هذا الكلب وصلبه قال يا مولانا كان هذا الكلب أميناً لي على أعنامي فصادف ذئبة فكان ينام معها ويقوم معها والذئبة كل يوم تأتي من الغنم رأساً بعد رأس فجاء في بعض الأيام صاحب الموضع وطلب مني حق المرعى فقعدت اتفكر واحسب حساب الغنم وهي تنقص في الحساب ورأيت ذئباً أخذ شاة والكلب ساكت مكانه فعلمت أنه كان سبب تلف الغنم وانه كان يخون أمانته فلزمته وصلبته فاعتبر كستاشب جعل يتفكر في نفسه وقال رعيتنا أغنامنا فيجب أن نسأل نحن أيضاً عنها لنصل إلى حقيقة أمرها فرجع إلى دراه فجعل ينظر في الوزمجات فإذا جميعها شفاعات راشت روش فضرب مثلاً وقال من اغتر بالاسم من ذوي الفساد، بقي بغير زاد، ومن خان في الزاد بقي بلا روح ثم أمر بصلب الوزير وهذه الحكاية مكتوبة في كتاب بادركارنامه وفيها يقول الشاعر: وما أنا بالمُغتـرِ بـاسـمـكِ إنـمـا تسميتُ كي تحَتال في طلبِ الـرزقِ ومن يجعل الأسماءَ فـخـاً لِـرزقِـه يُعد غيرَ ذي روحِ على الجذعِ مستلقيِ حكاية: يقال أنه كان لعمرو بن ليث نسيب يعرف بأبي جعفر بن زيدويه وكان عمرو به حفياً ومن جملة محبته له أنه كان يصله من هراة في كل سنة مائة جمل حمر الوبر على كل جمل حمل من الحوائج فانفذ عمرو من كل حاجة حملاً إلى دار أبي جعفر بن زيدويه وقال ليوسع عليه في مطبخه فقيل لعمرو بن ليث أن أبا جعفر قد بطح علاماً له وقد ضربه عشرين خشبة فأمر أن يحضر ثم أمر بكل سيف في خزائنه فقال يا أبا جعفر اختر من هذه السيوف أجودها واعزله ناحية فجعل أبو جعفر يتخير وينتقي إلى أن أفرد منها مائة سيف فقال اختر الآن منها سيفين فاختار أبوجعفر منها سيفين أجودها فقال عمرو ارسم الآن أن يجعلا في قراب واحد فقال أبو جعفر أيها الأمير كيف يمكن أن يكون سيفان في قراب واحد فقال عمرو بن ليث فكيف يمكن أن يكون أميران في بلد واحد فعلم أبو جعفر أنه أخطأ فقبل الأرض والتمس العفو والإقالة فقال عمرو بن ليث لولا حق القرابة ما جئت بيتك فخل عن هذا الأمر لنا فقد عفونا هذه النوبة عنك. حكمة: قال ازدشير إذا كان الملك عاجزاً عن اصلاح خواصه ومنعهم عن الظلم فكيف يقدر على رد العوام الى الصلاح قال الله تعالى: )وأنذر عشيرتك الأقربين( فالعرب تقول أنه ليس شيء أضيع للملك وأفسد للرعية من تعذر الإذن في الدخول وتكاثر الحجاب، وصعوبة الحجاب. وإذا كان الملك سهل الحجاب لم يكن للعمال أن يجوروا على الرعايا وخافت الرعية من جور بعضهم على بعض ومن سهولة الحجاب يكون للملك على الرعية من جور بعضهم على بعض ومن سهولة الحجاب يكون للملك على سائر العمال اطلاع. لا يجوز للسلطان أن يكون غافلاً لتكون الهيبة من ناموس المملكة باقية ويستريح من الهموم الحادثة عن الغفلة. حكاية: يقال أن ازدشير كان متيقظاً ذا فطنة بالأمور بحيث إذا جاءه ندماؤه من الغد حدث كل واحد منهم بما صنعه وكان يقول لأحدهم انك البارحة فعلت الشيء الفلاني ونمت مع زوجتك ومع جاريتك الفلانية ويظنون أن ملكاً من السماء يأتي ويعرفه بأفعالهم وكذلك كان السلطان محمود بن سبكتكين رحمه الله. حكمة: قال أرسطاطاليس خير الملوك من كان في حدة نظره على مثال العقاب وكان الذين حوله كعقبان لا كالجيف يعني إذا كان السلطان جيد النظر ذا يقظة بالأمور ذا فكرة في العاقبة وكان المقربون منه وخواص دولته بهذه الصفة انتظمت أحوال مملكته واستقامت أمور أهل ولايته. حكمة: قال الاسكندر خير الملوك من بدل السنة السيئة بالسنة الحسنة وشر الملوك من بدل السنة الحسنة بالسنة السيئة. حكمة: قال أبرويز ثلاثة لا يجوز للملك التجاوز عنهم ولا يصفح عن ذنوبهم: من قدح في ملكه، أو أفسد حرمه، أو أفشى سره. قال سفيان الثوري خير الملوك من جالس أهل العلم ويقال أن جميع الأشياء تتجمل بالناس يتجملون بالعلم وتعلو أقدراهم بالعقل وليس شيء خيراً من العقل والعلم فإن العلم بقاء العز ودوامه، والعقل بقاء السرور ونظامه. ومن اجتمع العلم والعقل فيه فقد اجتمعت فيه اثنتا عشرة خصلة: العفة، والأدب، والتقى، والأمانة، والصحة، والحياء، والرحمة، وحسن الخلق، والوفاء، والصبر، والحلم، والمدارة في مكانها وهذه من خواص آداب الملك. وينبغي أن يكون مع العقل العلم كما أن مع النعمة الشكر، ومع الصباحة الحلاوة، ومع الاجتهاد الدولة فإذا جاءت الدولة حصل المراد جميعه. حكاية: قال عبد الله بن ظاهر أن يعقوب بن ليث علا أمره وارتفع قدره، وظهر اسمه وذكره، وملك كرمان وفارس وخورستان وقصر الواق وكان الخليفة في ذلك الزمان المعتمد فكتب إليه المعتمد انك كنت رجلاً صفاراً فمن أين تعملت تدبير الملك فكتب إليه يعقوب جواباً وقال إن المولى الذي آتاني الدولة آتاني التدبير. وف عهد ازدشير كتوب كل عزيز لا يضع قدمه على بساط العلم كانت عاقبته ذلاً وكل عبد ليس معه خوف من الله تعالى وإن كان تاماً فإن مصيره إلى الندم. حكمة: قال عبد الله بن طاهر يوماً لأبيه كم تبقى هذه الدولة فينا وتبقى في بيتنا قال مادام بساط العدل والإنصاف مبسوطاً في هذه الإيوان. حكمة: كان المأمون قد جلس في بعض الأيام لفصل الدعاوى والأحكام فرفعت إليه فسلم القصة إلى وزيره الفضل بن سهل وقال اقض قصته ارفع هذه القصة في هذه الساعة فإن الفلك في سرعة دروانه قل أن يثبت على حاله. قال مؤلف الكتاب يجب على الملوك العقلاء، والافاضل الألباء أن ينظروا في هذه الأخبار ليأخذوا نصيباً من أيام دولتهم وينصفوا المظلومين ويقضوا حوائج السائلين، ويتيقنوا أن هذا الفلك لا يثبت على دور واحد لأنه لا اعتماد على الدولة وإن القضاء سماوي لا يرد بالعساكر، وكثرة الأموال والذخائر، وإذا انحلت الدولة وتلاشت الأموال، وتفانت الرجال، فلا ينفع الندم إذا زلت القدم كما جاء في الحكاية. حكاية: أن مروان آخر خلفاء بني أمية عرض العسكر فكان ثلاثمائة ألف رجل بالعدد الكاملة فقال وزيره إن هذا لمن أعظم الجيوش فقال له مروان اسكت فإنه إذا انقضت المدة، لم تنفع العدة وإذا نزل القضاء السماوي وإن كان العسكر عظيماً كثيراً بان قليلاً حقيراً، ولو ملكنا الدنيا بأسرها فلا بد أن تنزع منا ولمن وفت الدنيا حتى تفي لنا. حكمة: قال أبو الحسن الاهوازي في كتاب الفرائد والقلائد الدنيا لا تصفو لشارب، ولا تبقى لصاحب فخذ زاداً من يومك لغدك فلا يبقى يوم عليك ولا غد. ويقال أنه كان على قبر يعقوب بن ليث مكتوباً هذه الأبيات عملها قبل موته وأمر أن تكتب على قبره وهي هذه: سَلامُ عَلىَ أهلِ القُبُورِ الدوارِس كأنُهم لم يجلِسُوا فِي المجَالِـسِ ولم يشَربُوا مِن بارِدِ الماءِ شربة ولم يأكلُوا ما بين رطبٍ ويابِسِ فقد جاءنِي الموتُ المهولُ بِسكرةٍ فلم تَغن عنِي ألف آلافِ فارِسِ فياَ زائرُ القبرِ اتعظ واعتبر بِنـا ولا تك فِي الدُنيا هُدِيتَ بآنـسِ خُرَاسان نحويها وأطرافُ فارسِ وما كُنتَ عن مُلكِ العِراقِ بآيسِ سَلامُ علىَ الدُنيا وطِيبِ نعِيمٍهـا كأن لم يكُن يعقُوبُ فِيها بِجالسِ سؤال وجواب: سئل ملك كان قد زال عنه الملك فقيل لاي سبب انتقلت الدولة عنك وسلمت إلى غيرك وسلبت منك? فقال لاغتراري بالدولة والقوة ورضاي برايي وعلمي وغفلتي عن المشورة وتوليتي لآصاغر العمال، على اكابر الأعمال، وتضييعي الحيلة في وقتها وقلة تفكري في الحيلة وإعمالها وقت الحاجة إليها والتباطؤ والوقفة في مكان العجلة والفرصة والاشتغال عن قضاء الحوائج. وقيل أي الاشرار أكثر شراً فقال الرسل الخونة الذين يخونون في الرسالة لاجل اطماعهم فكل خراب المملكة منهم كما قال ازدشير ف يحقهم كم سفكوا من الدماء وكم هزموا من الجيوشن وكم هتكوا من أستار ذوي الحرمات الاحرار، وكم من يمين كذبوها بخيانتهم، وكم من عهود نقضوها بقلة أمانهم وكم اجتاحوا من الأموال، وكان ملوك العجم يتحرزن وما كانوا ينفذون رسولاً إلا بعد أن يجربوه ويمتحنوه.
حكمة: يقال أن ملوك العجم كانوا إذا أرسلوا رسولاً إلى الملوك أرسلوا معه جاسوساً ليكتب ما قال وما سمعه فإذا عاد الرسول قابلوا كلامه بالنسخة التي كتبها الجاسوس فإن صح مقاله علموا أنه صادق فكانوا يرسلونه بعد ذلك إلى الأعداء. حكاية: أرسل الاسكندر رسولاً إلى الملك دارا فلما عاد الرسول وأعاد الجواب شك الاسكندر في كلمة من كلامه فلزمها عليه فقال الرسول يا مولاي أنا سمعت هذه الكلمة منه بأذني هاتين فأمر الاسكندر أن يكتب ذلك اللفظ بعينه وأنفذه على يد رسول آخر إلى دارا بن دارا فلما وصل وعرض المكتوب عليه قرأه وطلب سكيناً وقطع تلك الكلمة من الكتاب وأعاده إلى الاسكندر وكتب إليه أن إسّ الملك على حسن نية الملك وصحة طبعه وأساس صحة السلطان على صحة لفظ السفراء وصدق مقالة الرسل الأمناء لأن الرسول يقول ما قاله عن لسان الملك ويسمع ما يسمعه من الجواب بسمع املك والآن فقد قلعت تلك الكلمة من الكتاب لآنها لم تكن من كلامي ولم أجد سبيلاً إلى قطع لسان رسولك فلما عاد الرسول وأعاد الجواب إلى الاسكندر استدعى الرسول وصاح عليه وقال له ويلك من وضعك وقال إنه قصر في حقي وأسخطني فقال اسكندر سبحان الله ظننت أنا أرسلناك لتصلح أمورك أو تسعى في حقوق الناس إلينا ثم أمر به فسل لسانه من قفاه. فصل يجب على السلطان أنه متى وقعت رعيته في ضائقة أو حصلوا في شدة وفاقه أن يعينهم لا سيما في أوقات القحط وغلاء الأسعار حيث يحجزون عن التعيش ولا يقدرون علىالاكتساب فينبغي حينئذ للسلطان أن يعينهم بالطعام ويساعدهم من خزائنه بالمال ولا يمكن أحداً من حشمه وخدعه وأتباعه أن يجور على رعيته لئلا يضعف الناس وينتقلوا إلى غير ولايته، ويتحولوا إلى سوى مملكته، فينكسر إرتفاع السلطان، ويقل حاصل اليوان، وتعود المنفعة على ذوي الاحتكار، الذين يسرون بغلاء الأسعار، ويقبح ذكر الملك ويدعى عليه ولاجل هذا كان الملوك المتقدون يحذرون من هذا غاية الحذر ويراعون الرعايا من خزائنهم، ويساعدونهم من ذخائرهم ودفائنهم. حكاية: يقال أنه كان رسم ملوك العجم أنياذنوا لرعاياهم في الدخول إليهم في أيام النوروز والمهرجان وكان المنادي ينادي قبل ذلك بثلاثة أيام أن استعدوا لليوم الفلاني ليأخذ كل من الناس أهبته، ويصلح أمره ويكشف قصته، ويتيقن حجته، ومن كان له خصم يعلم أنه يتألم منه عند الملك طلب رضاه فإذا كان ذلك اليوم وقف المنادي على باب الملك ونادى أن منه إنسان إنساناً من الدخول على الملك كان الملك بريئاً من دمه ثم كانت تؤخذ القصص من الناس وتوضع بين يدي الملك وكان ينظر في كل واحدة منها على الانفراد وموبذان قاعد عن يمينه وموبذان بلسانهم قاضي القضاة وإن كان في القصص قصة يتألم فيها من الملك قام الملك من مقامه وبرك بين يدي موبذموبذان مقابل خصمه وقال انصف أولاً هذا الرجل مني ولا تخلد إلى الميل والمجاباة ولا تخترني عن نفسك لأن الله إذا أهدى الحظوظ إلى عباده اختار لهم وولى عليهم خير خلقه وإذا أراد أن يرى عباده أي قدر لذلك الخليفة عنده اطلق على لسانه ما لم يطلق على لسانك ثم كان ينظر الموبذان فإن كان بين الملك وخصمه دعوى صحيحة وقامت البينة على الملك أخذ الحق منه بتمامه وكماله، وإن لم يكن بين الملك وخصمه دعوى صحيحة وكانت دعواه باطلة لا يثبت على صحتها حجة أمر بعقوبة ونادى عليه هذا جزاء من يريد عيب الملك والمملكة وكان الملك إذا فرغ من الدعاوي واستوى على سرير ملكه وضع التاج على مفرقه وأقبل على جماعته وخاصته وقال إنما انصفت من نفسي لئلا يطمع أحد منكم في الظلم والجور على أحد فلك من كان له منكم خصم فليرضه وكان يبعد في ذلك اليوم كل من كان قريباً منه ومن كان قوياً ضعف عنده وكانت الملوك على هذا السبيل وعلى هذا المذهب إلى أيام يزدجرد الاثيم فانه عبر قواعد بني ساسان وظلم الخلق وافسد حتى جاء في بعض الأيام فرسه في غاية الجودة والكمال بحيث أنه لم ير أحد في ذلك الزمان مثله في حسن خلقته، وجمال هيئته، فدخل من باب الدار واجتهد جميع من في عسكره أن يلزموه فامتنع منهم ولم يقدروا على إمساكه حتى وصل قريباً من يزدجرد فوقف إلى جانب الايوان ساكناً فقال يزدجرد تنحوا عن هذا الفرس فلا يقربه أحد منكم فإنه هدية من الله تعالى خاصة لي فنهض من مكانه وجعل يمسح وجهه قليلاً ثم أمر يده على ظهر الفرس والفرس ساكن لا يتحرك فاستدعى يزدجرد السرج فأسرجه بيده وجذب حزامه وأوثقه وانحرف نحو كفله ليضع التفر فيه فرفسه الفرس على فؤاده رفسة محكمة فخر ميتاً في الحال وخرج الفرس ولم يعلم أحد من أين جاء ولا إلى أين ذهب فقال الناس كان هذا الفرس ملكاً أرسله الله تعالى ليهلكه ويخلصنا من جوره وظلمه.
حكاية: قال القاضي أبو يوسف حضر عندي ف مجلس حكمي يحي ابن خالد البرمكي مع خصم له مجوسي فادعي المجوسي عليه فطلب منه الشاهد فقال مالي شاهد فحلفه فحلفت يحي بن خالد وأرضيت خصمه بأحلافه وساويت في الحكم بين يحيى وبين الجوسي لعزة الإسلام وما ملت قط مع أحد ولا حابيت أحداً خوفاً أن يسألني الله تعالى عن ذلك بل يجب أن يعرفوا قدر الزعماء والأكابر وينبغي أن لا يظلموا أصاغرهم وإن يعظموا أمر الحق ويطيعوا أمر السلطان ولا يعصوه في حال ليكونوا قد عملوا بقول الله تعالى: )أطيِعُوُا الَلهَ وأطيعُوُا الرَسولَ وأولِي الأمرِ مِنكُم( ومن يجعل الله له هذه المرتبة الشريفة، والدرجة المنيفة، ويقرن طاعته بطاعته جل اسمه وطاعة رسوله ﷺ فالواجب على الخلق أن يطيعوه ويخافوه ويجب على السلطان شكر هذه النعمة والطاعة لربه تعالى وامتثال ما أمره به من العدل والإحسان والرأفة بالمظلومين. فقد قيل احذروا من دعاء المظلومين وخافوا من ظلم من لا ينتصر من ظلمه إلا بدمع عينيه فما دون دعاء المظلوم حجاب، ودعاؤه مستجاب، لا سيما الدعاء في الأسحار، والتضرع في هدوء الليالي إلى الجبار، كما قال الشاعر: فلا تعجلن بالجُورِ ما دُمتَ قادراً فآخره إثـمُ وخـوفُ عـذابِ تنامُ وما المظلومُ عنـك بـنـائمِ ودعوته لا تنثني بـحـجـابِ وقال رسول الله ﷺ )تأسفت على موت أربعة من الكفار على أنوشروان لعدله وحاتم الطائي لسخائه وأمرىء القيس لشعره وأبي طالب لبره( . الباب الثاني: في سياسة الوزارة وسيرة الوزراء اعلم أن السلطان يرتفع ذكره ويعلو قدره بالوزير إذا كان صالحاً كافياً عادلاً لأنه لا يمكن لأحد من الملوك أن يصرف زمانه ويدير سلطانه بغير وزير ومن انفرد برأيه زل من غير شك. ألا ترى أن النبي ﷺ مع جلالة قدره وعظم درجته وفصاحته أمره الله تعالى بالمشاورة لأصحابه العقلاء العلماء فقال عز من قائل: )وشَاوِرِهُم فيِ الأمرِ( . وأخبر في موضع آخر عن موسى عليه السلام: )واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي اشدد به أزري واشركه في أمري( وإذا لم يستغن الأنبياء عليهم السلام عن الوزراء واحتاجوا اليهم كان غيرهم من الناس أحوج.
سئل ازدشير بن بابك أي الأصحاب أصلح للملك? فقال الوزير العاقل المتقن الأمين الصالح التدبير ليدبر معه أمره ويشير اليه بما في نفسه. وعلى السلطان أن يعامل الوزير بثلاثة أشياء. أحدها: إذا ظهرت منه زلة وجدت منه هفوة لا يعاجله بالعقوبة الثاني: إذا استغنى في خدمته وأينع ظله في دولته لا يطمع في ماله وثروته. الثالث: إذا سأله حاجة لا يتوقف في قضاء حاجته وينبغي أن لا يمنعه من ثلاثة أشياء وهي متى أحب أن يراه لا يمنعه من رؤيته وأن لا يسمع في حقه كلام مفسد، ولا يكتم عنه شيئاً من سره لأن الوزير الصالح حافظ سر السلطان ومدبر أحوال المملكة وعمارة الولايات والخزائن وزينة المملكة وشدة الهيبة والقدرة وله الكلام على الأعمال واستماع الأجوبة وبه يكون سرور الملك وقمع أعدائه وهو أحق الناس بالاستماع له وتفخيم القدر، وتعظيم الأمر. وقال لقمان لابنه أكرم وزيرك لأنه إذا رآك على أمر لا يجوز أن يوافقك عليه. وينبغي للوزير أن يكون مائلاً في الأمور إلى الخير متوقياً من الشر وإذا كان سلطانه حسن الاعتقاد، مشفقاً على العباد، كان له عوناً على ذلك وأمره بالازدياد،وإذا كان سلطانه ذا حنق أو كان غير ذي سياسة كان على الوزير أن يرشده قليلاً قليلاً بألطف وجه ويهديه إلى الطريق المحمودة، وينبغي أن يعلم أن دوام الملك بالوزير وان دوام الدنيا بالملك، وينبغي أن يعلم أنه لا يجوز له أن يهتم بغير الخير ويعلم أنه أول إنسان يحتاج إليه السلطان. وسئل بهرام جور إلى كم يحتاج السلطان حتى تتم سلطنته وتتكامل بالسرور دولته. فقال إلى ستة من الأصحاب: الوزير الصالح ليظهر إليه سره، ويدبر معه رأيه ويسوس أمره، والفرس الجواد لينجيه يوم الحاجة إلى النجاة والسيف القاطع والسلاح الحصين، والمال الكثير الذي يخف حمله ويثقل ثمنه كالجوهر واللؤلؤ والياقوت، والزوجة الحسناء لتكون مؤنسة لقلبه، مزيلة لكربه، والطباخ الخبير الذي إذا أمسك شيئاً دبره بلطفه. حكمة: قال ازدشير: حقيق على الملك أن يكون طالباً لأربعة فإذا وجدهم احتفظ بهم: الوزير الأمين والكاتب العالم، والحاجب المشفق، وإذا كان الكاتب عالماً دل على عقل الملك ورزانته، وإذا كان الحاجب مشفقاً دل على رضا الملك عن رعيته، ولم يغضب على أهل مملكته، وإذا كان النديم صالحاً دل على انتظام الأمر وصلاحه. حكمة: قال موبذان في عهد أنو شروان أنه لا يمكن حفظ السلطنة إلا بالأصحاب الناصحين المساعدين ولا ينفع خير الأصحاب إلا إذا كان الملك تقياً أنه ينبغي أن يكون الأصل جيداً ثم الفرع، ومعنى تقوى السلطان وصدقه وصحته أن يكون صحيحاً في سائر الأمور يأمر بالصحة بأقواله وأفعاله ليصح بصحته سائر حشمه ورعيته وأن يكون واثقاً بالله تعالى وأن يرى أن قوته وقدرته وظفره بأعدائه ونصرته ووصوله إلى مرداه من الله تعالى وأن لا يعجب بنفسه فإن أعجب خشي عليه الهلاك كما جاء في الحكاية. حكاية: يقال ان سليمان عليه السلام كان جالساً على سرير ملكه وقد حملته الريح في الجو فنظر سليماه إلى مملكته وطاعة الإنس والجن وانقيادهم لعظيم هيبته وسياسته فاضطرب السرير وهم بالانقلاب فقال سليما للسرير استقم فنطق السرير وقال استقم أنت حتى نستقيم نحن كما قال عز من قائل: )إن اللهَ لا يُغير ما بقومٍ حتى يُغيروُا ما بأنفسِهمِ( وقال أبو عبيدة في أمثاله )من سلك منهج الجد أمن العثار( ويجب أن يكون الوزير عالماً عاقلاً شيخاً لأن الشاب وإن كان عاقلاً لا يكون في التجربة كالشيخ والذي يتعلمه الناس من تجارب الأيام لا يتعلم إلا من المشايخ والوزير زين السلطن والزين يجب أن يكون صالحاً طاهراً من الشين ويحتاج الوزير إلى خمسة أشياء لتحمد خبرته، وتحسن سيرته، التيقظ ليظهر في كل أمر يدخل فيه له وجه المخرج منه، والعلم حتى تتضح له الأمور الحقيقية، والشجاعة حتى لا يخاف من شيء في غير موضع الخوف، والصدق لئلا يعمل مع أحد غير الصحيح وكتمان سر السلطان إلى أن يدركه الموت. قال أزدشير بابك يجب أن يكون الوزير ساكناً متمهلاً شجاعاً واسع الصدر حسن المقال مليح الوجه مستحيياً صامتاً حيث يحسن الصمت ومتكلماً إذا حسن الكلام ومع ذلك يجب أن يكون تقياً حسن المذهب ليطهر نفسه وينفي عنها كل ما لا يليق ولا بد من حسن الاعتقاد، وينبغي أن يكون ذا تجارب ليسهل الأمور على الملك متيقظاً لينظر عواقب الأمور، ويخاف عليه من تصاريف الدهور ويتحفظ أن يصيبه عيب الزمان وكل ملك كان وزيره له محباً وعليه مشفقاً كان ذلك الوزير كثير الأعداء وكان أعداؤه أكثر من أصدقائه، ولا يجوز للسلطان أن يسمع في وزيره كلام المحرضين عليه الساعين به إليه ليحسده أصدقاؤه، وتنكبت أعداؤه. ويجب أن يكون الوزير محمود الطريقة حتى إذا رأى ي الملك خلة مذمومة غير رشيدة رده إلى العادة المستقيمة الحميدة من غير غلظة شديدة، لأن الملك إذا كان على ما لا يريده وسمع ما يكرهه منه من التقريع عمل شراً من ذلك، والدليل على ذلك أن البارىء تعالى لما أرسل موسى إلى فرعون بأمره قال عز من قائل: )فقُولا لهُ قولاً ليناً( وإذا كان الحق سبحانه وتعالى أمر نبيه عليه السلام أن يقول لعدوه قولاً ليناً فالناس أجدر أن يلينوا أقوالهم، وإن كان السلطان يخشن كلامه فلا يجوز للوزير أن يحقد بما يريد. وإذا كان الوزير محباً للملك صحيح المقال، حسن الفعال كان له عوناً على ذلك وأمره بالملازمة لذلك، ولا يجوز أن يعلم الوزير وسائر خاصة الملك انهم مهما فعلوه من حسن فإن ذلك بإقبال الملك وببركة ظله انفعل فالمنة حينئذ تصلح أن تكون له على الناس، وأعظم فساد ينشأ في دولة الملك يكون من أمرين أحدهما من الوزير الخائن، والثاني من نية الملك الرديئة الفاسدة. قال أنو شروان شر الوزراء من جرأ السلطان على الحرب وجرأه على القتال في موضع يمكن أن ينصلح الحال بغير حرب لأن الحرب في سائر الأحوال تفني ذخائر الأموال، وفيها تبذل كرائم النفوس ومصونات الأرواح. وقال أيضاً كل ملك كان وزيره جاهلاً فمثله كمثل الغيم الذي يبدو ويظهر، ولا يندي ولا يمطر. حكمة: في كتاب وصايا أرسطاطاليس: كل أمر ينقضي على يد غيرك بلا حرب ولا خشونة فهو خير مما تقضيه بيدك. وترتيب الوزراء انهم متى أمكنهم أن يحاربوا بالكتب فليحاربوا وان لم تتأت الأمور بالاحتيال والتدبير فليحتالوا في تأتيها بعطاء الأموال، وبذل الصلات والنوال، ومتى انهزم عسكر عفوا عن جنود الجند ولا يستعدجلوا بقتلهم لأنه قد يمكن قتل الأحياء ولا يمكن أحياء القتلى فإن الرجل يصير رجلاً في أربعين سنة ومائة رجل يكون رجل يصلح لخدمة الملوك وان أسر احد من الجند م أصحاب الملك كان على الوزير ان يفكه ويفديه ويخلصه ويشتريه ليسمع الجند بصنيعه فتقوى قلوبهم إذا باشروا حروبهم، وعلى الوزير أن يحفظ أرزاق الجند كل إنسان على قدره وإن يدرب الرجال الشجعان بألات الحرب، وان يخاطبهم بأحسن كلام ويلين لهم في الخطاب، ويلطف بهم في الجواب، فان الجند قد قتلوا كثيراً من الوزراء في قديم الأيام، وسالف الأعوام، ومن سعادة السلطان ويمن طالعه وتوحده أن يسهل الله له وزيراً صالحاً، ومشيراً ناصحاً. وقال رسول الله ﷺ: )إذا أراد الله بأمير خيراً قيض له وزيراً نصيحاً صادقاً صبيحاً، إن نسي ذكره وإن إستعان به أعانه.
قال المؤلف الكتاب إن الله سبحانه وتعالى يظهر قدرته في كل حين وزمان، ووقت وأوان، ويصطفي جماعة يختارهم من عباده مثل السلاطين والوزراء وأكابر العلماء ليعمر بهم الدنيا. ومن عجائب الزمان حديث البرامكة الذين لم يوجد لهم في الدنيا نظير في الكرم والعطاء، وبذل المعروف والسخاء. وكان تحت حكمهم الولايات الوافرة المرتفعات وبعد انقراضهم فسدت أحوال الوزراء ولم يبق لخدمة الملوك رونق ولا نضارة إلى أن أوجد الله تعالى بركات آل سلجوق وظل دولتهم إلى النظام وأوصلهم إلى درجة الوزراء المتقدمين وأرفع بحيث أنه لم يبق أحد في الدنيا من أهل الفضل والادباء، وأبناء السبيل الغرباء، من شريف ووضيع إلا هو مشمول بإحسانهم، مغمور بامتنانهم ولم يكن أحد من خيرهم محروماً وإنما ذكرنا هذا ليعلم من يقرأ كتابنا هذا الفرق بين الصالح وغير الصالح. حكمة: قال بزرجمهر: لا تقاس الأشياء بعضها ببعض لأن جوهر الناس أجل من كل جوهر وانما زينة الدنيا جميعها بالناس، والباري تعالى لا ينسب إلى الخطأ وهو واهب الصلاح لمن يشاء وأنه يؤتي كل أحد ما يصلح له ويليق به فينبغي أن يكون وزراء الملوك ومدبرو دولتهم على هذه الصفة وأن يحفظوا رسوم المتقدمين وطرائفهم وأن يلتمسوا الأموال التي تؤخذ من الرعية في أوقاتها وأحيانها، وعند وجوبها واتيانها، وليعرفوا الرسم ويحملوا الرعية بحسب طاقتها وقدرتها، وأن يكونوا في تصيدهم كصائد الكركي لا قاتل العصفور. ولا يجوز أن يحرصوا على تناول أموال المواريث مادام الوارث موجوداً فالطمع في ذلك مشؤوم غير جائز ويجب عليهم استمالة قلوب الرعية والحشم، بهبات الفوائد والنعم، ليعلموا أن كفايتهم وسمو مرتبتهم وصلاحهم، منوط بصلاح الرعية ليحسن ذكرهم في الدنيا وينالوا جزيل الثواب في العقبى. الباب الثالث : في ذكر الكتاب وآدابهم قالت العلماء ليس شيء أفضل من القلم لأنه به يمكن اعادة السالف والماضي. ومن فضل القلم وشرفه أ الله تعالى اقسم به فقال عز من قائل: )ن والَقلَم وما يسطرَون( . وقال تعالى: )اِِقرَأ ورُبكَ الأكَرمُ الذِي عَلَمَ بِالَقلمِ عَلَمَ الِإنسانِ ما لم يعَلم( . وقال رسول الله ﷺ )أول ما خلق الله تعالى القلم فجرى بما هو سائر إلى يوم القيامة الحديث( . قال عبد الله بن عباس في تفسير هذه الآية حكاية عن يوسف عليه السلام: )اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم( . قال معناه كاتب حاسب. وقال إن القلم صائغ الكلام. حكمة: قال ابن المعتز القلم معدن والعقل جوهر والقلم صائغ والخط صناعة. قال جالينوس القلم طبيب الكلام. قال بليناس القلم طلسم كبير. قال اسكندر الدنيا تحت شيئين السيف والقلم والسيف تحت القلم والقلم أدب المتعملين وبضاعتهم وبه يعرف رأي كل إنسان من قريب وبعيد ومهما كان الرجل مجرباً للزمان فانه ما لم ينظر في الكتب لا يكون كامل العقل لأن مدة عمر الإنسان معلومة ومعلوم أيضاً أن في هذه المدة القريبة والعمر قصير كم يمكنه أن يدرك بتجربته ومعلوم أيضاً كم يمكنه أن يحفظ بقلبه. السيف والقلم حاكمان في جميع الأشياء، ولولا السيف والقلم ما قدمت الدنيا. وأما الكتاب فلا يجوز لهم أن يعرفوا أكثر من حدود الكتابة ليصلحوا لخدمة الاكابر. وقالت الحكماء والملوك القدماء: ينبغي أن يكون الكاتب عالماً بعشرة أشياء. الأول بعد الماء وقربه تحت الأرض، ومعرفة استخراج الافتاء، ومعرفة زيادة الليل والنهار ونقصانهما في الصيف والشتاء وسير الشمس والقمر والنجوم، ومعرفة الاجتماع والاستقبال، والحساب بالأصابع وحساب الهندسة والتقويم واختيارات الأيام وما يصلح للمزارعين ومعرفة الطب والأدوية، ومعرفة ريح الجنوب ولشمال، وعلم الشعر والقوافي. ومع هذا كله ينبغي أن يكون الكاتب خفيف الروح طيب اللقاء عالماً ببراية القلم وتدبيره وقطه ورفعه وخطه ومهما كان في قلبه أظهره بسنان قلمه وان يحرس نفسه أن يكون مجتمعاً متصلاً. وأن يكون الخط مبنياً ويعطي كل حرف حقه كما يحكى أنه كان لامير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنع عامل فكتب إلى عمرو بن العاص كتاباً لم يظهر سين سم الله الرحمن الرحيم فاستدعاه عمرو وقال له اظهر أولاً سين بسم الله ثم توجه بعد ذلك إلى عملك. وأول ما ينبغي للكاتب أن يعلم براية القلم فإن الإنسان إذا كان يحسن الخط ويعرف أن يبري قلمه فإن الخط على كل حال يجيء صالحاً.
حكاية: كان لشاهنشاه عشرة من الوزراء وكان في حملتهم لصاحب إسماعيل بن عباد فاجتمع الوزراء على تنكيسه واتفقوا على التضريب عليه وقالوا أن الصاحب لا يقدر أن يبري قلمه فلما علم بذلك شاهنشاه جمعهم وقالوا أن الصاحب أي أدب فيكم ليس لي مثله حتى تتجاسروا أن تتحدثوا عني بحضرة شاهنشاه وأن أبي علمني الوزارة ولم يعلمني التجارة أقل أدبي براية القلم وهل فيكم من يقدر أن يكتب كتاباً تاماً بقلم مكسور الرأس فجز الجماعة عن ذلك فقال له شاهنشاه اكتب أنت فأخذ الصاحب قلماً وكسر رأسه وكتب به درجاً تاماً فأقر الجماعة بفضله، واعترفوا بسداده ونبله، وأجود الأقلام ما كان مستقيماً أصفر اللون رقيق الوسط، والقلم المحرف من جانبه الايمن يصلح للخط العربي والفارسي والعبري واللسان الدري يجب أن يكون قلمه محرفاً من الجانب الأيسر، وخير الأقلام ما وصفه يحيى بن جعفر البرمكي في كتاب كتبه إلى يحيى بن ليث قلم لا غليظ ولا رقيق وسطه دقيق، يجب أن تكون السكين التي يبرى بها الأقلام في غاية الحدة وان تكون براية القلم على شكل منقار الكركي محرفاً من الجانب الايمن، وينبغي أن يكون المقط الذي يقط عليه في غاية الصلابة، ويجب أن تكون الانقاش فارسية خفيفة الوزن والكاغد صقيلاً متساوياً وان يجوز مده لانه يتوحش بذلك الخط وأن تكون صور الحروف يشبه بعضها بعضاً ولا يقدر ذلك إلا حكيم عاقل أو من تعودت بذلك أنامله. وكان عبد الله بن رافع كاتباً لامير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فقال كنت أكتب يوماً فقال لي أمير المؤمنين ألق دواتك وأطل جلفة قلمك ووسع ما بين السطور واجمع ما بين الحروف وكان عبد الله بن جبلة كاتباً محسناً فقال لغلمانه لتكون أقلامكم بحرية فإن لم تكن بحرية فلتكن صفراً واقطعوا عقد الأقلام لئلا تنعقد الأمور، ولا يجوز انفاذ كتاب بغير ختم فإن كرم الكتاب ختمه. وقال عبد الله بن عباس في تفسير قوله تعالى: )أنِي ألقِي إِلي كِتَابٍ كَرِيمٍ( . أي مختوم.وأمر النبي ﷺ أن يكتب كتاباً إلى العجم وقال انهم لا يريدون كتاباً بغير ختم فختمه بخاتمه المبارك وكان عليه ثلاثة أسطر محمد رسول الله. خبر روى صخر بن عمرو أن رسول الله ﷺ لما كتب كتاباً إلى النجاشي رماه على التراب ثم أنفذه فلا جرم أنه أسلم. ولما كتب كتاباً إلى كسرى أنوشروان لم يلقه على التراب لا جرم أنه لم يسلم وقال ﷺ تربوا كتبكم فإنه أنجح لحوائجكم. وقال تربوا الكتاب فإن التراب مبارك وإذا كتب الكتاب فليقرأ قبل طيه فإن رأى فيه خطأ تدراكه وأصلحه. وينبغي أن يجتهد الكاتب أن يكون الكلام قصيراً والمعنى طويلاً، وأن لا يكرر كلمة يكتبها، وأن يحترز من الألفاظ الثقيلة الغثة ليكون كاتبها محموداً. وفي باب الكتابة كلام طويل كثير ان ذكرناه طال الكتاب ونقتنع منه بهذا القدر فقد قيل خير الكلام ما قل ودل وجل ولم يمل. الباب الرابع: في سمو همم الملوك قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه اجتهد أن لا تكون دنيء الهمة فاني ما رأيت أسقط لقدم الإنسان من تداني همته. وقال عمرو بن العاص المرء حيث وضع نفسه يريد إن أعز نفسه علا أمره، وان أذله ذل وهان قدره. وتفسير معنى الهمة أن يرفع نفسه فإن أنفة القلب من همم الاكابر لانهم يعرفون قدر أنفسهم فيعزونها ولا يرفع قدر أحد حتى يكون هو الرافع لقدر نفسه. واعزاز المرء نفسه أن لا يختلط بالاراذل ولا يشرع في عمل ما لا يجوز لمثله أن يعمله ولا ما يعاب به والهمة والآنفة للملوك لأن الله ركب فيهم الخصلة ليتعلمها منهم الوزراء والندماء كما جاء في الحكاية.
حكاية: أمر أبو الدوانيق لرجل بخمسمائة درهم فقال أحمد بن الخصيب لا يجوز للملك أن يهب ما دون الألف من الاعداد. وكان هارون الرشيد يوماً راكباً في موكبه فسقط فرس رجل من عسكره فقال هارون ليعط خمسمائة درهم فأشار إليه يحيى بعينه وقال هذا خطأ فلما نزلوا قال الرشيد أي خطأ بدا مني حتى أشرت ألي بعينك فقال لا يجوز أن يجري على لسان أحد من الملوك أقل من الألف من الاعداد فقال الرشيد فإن اتفق أمر لا يجوز أن يعطى فيه أكثر من خمسمائة درهم مثل هذا فكيف يقال قل ليعطى فرساً فيدفع إليه فرس على جاري العادة والرسم وتكون قد نزهت همتك عن ذكر الحقير. ولهذا خلع المأمون ولده من ولاية عهده وذلك أن المأمون اجتاز بحجرة العباس فسمعه يقول لغلامه يا غلام قد رأيت بباب الرصافة بقلاً حسناً فخذ نصف درهم وصل إلى باب الرصافة وائتني بشيء منه فناداه المأمون من الآن علمت أن للدرهم نصفاً فأنت لا تصلح لولاية العهد وتدبير المملكة ولا يأتي منك صلاح ولا فلاح. حكمة: في وصية نامةأزدشير لولده إذا أردت أن تهب لاحد من ولدك شيئاً فاجتهد أن لا يكون عطاؤك أقل من دخل ولاية أو قرية أو قيمة بلد أو رستاق يستغني به الشخص الذي تهبه تزول حاجته ويستغني اعقابه به وأولاده ما عاشوا فيحصل بذلك في حساب الاحياء لا في حساب الأموات واجتهد انك لا ترغب في التجارة بوجه من الوجود فإن ذلك يدل على دناءة همة الملك. حكمة: يقال أنه كان الملك هرمز بن سابور وزير فكتب إليه كتاباً يذكر فيه أنه وصل من جانب البحر تجار معهم اللؤلؤ والياقوت والجواهر النفيسة القيمة وانني ابتعت منهم برسم الخزانة بمبلغ ألف دينار والآن قد حضر فلان التاجر وهو يطلب الجوهر بربح كثير فإن رغب مولانا فليرسم بما يرى. فكتب هرمز جوابه وقال مائة ألف ومائة ألف مثلها وأمثالها ليس لها في أعيننا خطر ولا نرغب فيها بوجه من الوجوه لنفسك ولا تعد لمثل هذا الكلام ولا تخلط في أموالنا درهماً واحداً ولا دانقاً فرداً من أرباح التجارة فإن ذلك يسقط قيمة الملك ويزري بحسن اسمه، ويعود بقبح قاعدته ورسمه، ويضر بصيته في حال حياته وبعد وفاته. حكاية: حكى أن الأمير عمارة بن حمزة كان في بعض الأيام جالساً في مجلس الخليفة المنصور وكان يوم نظره في المظالم فنهض رجل على قدميه وقال انا مظلوم فقال من ظلمك فقال عمارة بن حمزة اغتصب ضياعي وابتز ملكي وعقاري فأمره المنصور أن يقوم من مقامه ويساوس خصمه للمحاكمة فقال عمارة يا أمير المؤمنين ان كانت الضياع له فما أنازعه فيها وإن كانت لي فقد وهبتها له ومالي حاجة في محاكمته وما ابيع مكاني الذي أكرمن به أمير بضياع ولا غيرها فتعجب الأكابر الحاضرون من علو همته، وشرف نفسه ومروءته، الهة والنهمة على شكل واحد وكل إنسان له منهما نصيب فواحد بالسخاء وإطعام الطعام وآخر بالعلم وآخر بالعبادة والقناعة والزهادة، وترك الدنيا، وطلب العقبى وآخر بطلب الزيادة. وأما الهمة بالسخاء وبذل المال، واسداء النوال فينبغي أن تكون كما جاء في الحكاية. حكاية: يقال أن يحيى بن خالد خرج يوماً من دار الخلافة راكباً إلى داره فرأى على باب الدار رجلاً فلما قرب نهض قائماً وسلم عليه وقال يا أبا جعفر أنا محتاج إلى ما في يدك وقد جعلت الله وسيلتي اليك فأمر يحيى أن يفرد له موضع في داره وان يحمل إليه في كل يوم ألف درهم وأن يكون طعامه من طعامه المختص به فبقي على ذلك شهراً كاملاً فلما انقضى الشهر كان قد وصل إليه ثلاثون ألف درهم فأخذ الرجل الدراهم وانصرف فقيل ليحيى في ذلك فقال والله لو أقام مدة عمره، وطول دهره، ما منعته صلتي ولا قطعت عنه ضيافتي. حكاية: كان لجعفر بن موسى الهادي جارية عوادة تعرف ببدر الكبرى ولم يكن في زمانها أحسن وجهاً منها ولا أحذق بصناعة الغناء وضرب الأوتار منها وكانت في غاية الكمال، ونهاية الجمال، فسمع بخبرها محمد ابن زبيدة الأمين فالتمس منه أن يبيعها له فقال له جعفر أنه لا يجيء من مثلي بيع الجواري، ولا المساومة في السراري، ولولا أنها مزينة داري، لأنفذتها إليك، ولم أبخل بها عليك. ثم بعد ذلك بأيام جاء محمد ابن زبيدة إلى داره فرتب مجلس الشراب وأمر بدراً أن تغني له وتطربه فأخذ محمد في الشراب والطرب ومال على جعفر بكثرة الشرب حتى اسكره وأخذ الجارية معه ألى داره ولم يمد اليها يده من شرف نفسه وهمته ثم رسم من الغد باستدعاء جعفر فلما حضر قدم بين يديه الشراب وأمر الجارية أن تغني من وراء الستر فسمع جعفر غناءها فلم ينطق من شرف نفسه ولم يظهر تغيراً في محاضرته ثم أمر محمد الأمين أن يملأ ذلك الزورق الذي ركب فيه جعفر أليه دراهم فكانت الفي ألف بدرة وجملتها عشرون ألف الف درهم حتى استغاث الملاحون وقالوا ما بقي الزورق يحمل شيئاً آخر وأمر بحمله ألى دار جعفر والجارية أيضاً. هكذا كانت همم الأكابر. وسئل بعض الحكماء من أعلا الناس حالاً فقال أعلاهم همة وأكثرهم علماً، وأغزرهم فهماً واصفاهم حالاً فقيل له فمن ينبغي أن يتوصل ليخلص من نحوسة حظه وضائقته فقال بالملوك والأكابر وذوي الهمم العالية، والنفوس الشريفة السامية، كما قيل جاور بحراً أن ملكاً.
حكاية: قال سعد بن سالم الباهلي اشتدت بي الحال في زمن الرشيد واجتمع علي ديون يعجزني بعض قضائها، وعسر علي أداؤها، واحتشد ببابي أرباب الديون، وتزاحم الطالبون، ولازمني الغمرماء فضاقت حيلتي، وازدادت فكرتي فقصدت عبد الله بن مالك الخزاعي التمست منه أن يمدني برأيه وإن يرشدني ألى باب الفرج فقال عبد الله لا يقدر أحد على خلاصك من محنتك وهمك، وضائقتك وغمكم، ألا البرامكة فقلت ومن يقدر على احتمال تكبرهم، والصبر على تيههم وتجبرهمز فقال تصبر على ذلك لمصلحة أحوالك فنهضت إلى الفضل وجعفر ابني يحيى بن خالد فقصصت عليهما قصتي وأبديت لهما غصتي. فقالا أعانك الله وأقام لك الكفاية فعدت إلى عبد الله ابن مالك ضيق الصدر، منقسم الفكر، منكسر القلب وأعدت عليه ما قالاه فقال يجب أن تكون عندنا اليوم لننظر ما يقدره الله تعالى فجلست عنده ساعة وإذا بغلامي قد أقبل فقال عبد الله أرجو أن يكون قد جاء الفرج فقم وانظر ما الشأن فنهضت وأسرعت عدواً فرأيت ببابي رجلاً معه رقعة مكتوب فيها انك لما عدت من عندنا مضيت إلى الخليفة وعرفته ما قد أفضت بك الحال أليه يصرفها إلى غرمائه فمن أين يقيم وجوه نفقاته فأمر بثمانمائة ألف درهم أخرى وقد حملت أنا من خاصتي الف الف درهم فصارت الجملة الفي ألف درهم وثمانمائة ألف درهم أصلح بها أحوالك. حكاية: يقال انه كان لانو شروان نديم وكان في مجلس الشراب جام من ذهب مرصع باللؤلؤ والجواهر النفيسة فسرقه النديم ونظر اليه انو شروان فرآه وهو يخفيه فجاء الشرابي وطلب الجام فلم يجده فنادى يا أهل المجلس قد ضاع لنا جام مرصع بالجواهر فلا يخرجن أحد حتى يرد الجام فقال أنو شروان مكنهم من الخروج فإن الذي سرق الجام لا يرده والذي رآه لا يقر عليه فأين كان السخاء وعلو الهمة كانت الراحة والخير ولكن من ينكر الاحسان، ويحجد الامتنان لا أصل له ومن لا أصل له لا يقدر أن يستر فكره. حكاية: يقال أن الرشيد استدعى صالحاً في التاريخ الذي تغير فيه علىالبرامكة وقال صالح صر إلى منصور بن زياد وقل له لنا عليك عشرة الآف ألف درهم نريد أن تحصلها في هذه الساعة وان لم يحصلها ألى المغرب فخذ رأسه عن جسده وأتني به واياك ومراجعتي في شيء من أمره. قال صالح فصرت إلى منصور وعرفته ما ذكره الرشيد من سياسته فقال له هلكت وحلف أن جميع أسبابه وأملاكه لا يقوم بمائة ألف درهم فمن أين يقوم بتحصيل عشرة الآف ألف درهم قال صالح فقلت له دبر حيلة في امرك فاني لا أقدر أن أمهل احابي فيما أمر به أمير المؤمنين فقال احملني إلى بيتي أودع أولادي وأهلي وصبيتي وأوصي أقاربي فجعل منصور يودع أهل بيته وارتفع ف منزله البكاء والاستغاثة والصراخ. قال صالح فقلت له ربما يكون لك فرج على أيدي البرامكة فامض بنا اليهم فأخذ يبكي ويصرخ حتى أتينا يحيى بن خالد فقصصت عليه القصة وشرحت عليه ما ناله فاغتم لذلك وأطرق إلى الأرض ساكناً زماناً ثم رفع رأسه ثم استدعى خازنه وقال له كم في خزانتنا من الدراهم فقال مقدار ألف ألف درهم فأمر باحضارها وأنفذ قاصداً إلى الفضل ولده فقال للرسول قل له انه عرض بيع ضياع جليلة فانفذ ما عندك من الدراهم فانفذ ألفي ألف درهم وأنفذ بآخر إلى جعفر وقال للرسول قل له اتفق لنا شغل ونحتاج فيه إلى شيء من الدراهم فانفذ جعفر ألفي ألف درهم فقال منصور يا مولاي قد تمسكت بك وما اعرف خلاصي إلا منك واتمام بقية ديني فاطرق يحيى إلى الأرض وبكى وقال يا غلام إن أمير المؤمنين هارون الرشيد كان وهب جاريتنا العوادة منانير وجوهرة عظيمة القيمة فامض إليها وقل لها تنفذ تلك الجوهرة فمضى الغلام وأتى بها إليه فقال يحيى يا صالح أنا ابتعت هذه لامير المؤمنين من التجار بمائتي ألف درهم ووهبها أمير المؤمنين لدنانير العوادة وإذا رآها عرفها وقد بم الآن مال مصارة منصور يا صالح قل لامير المؤمنين ليهب لنا منصوراً. قال صالح فحملت المال والجوهرة إلى الخليفة فبينما نحن في الطريق أنا ومنصور إذ سمعته يتمثل ببيت من الشعر فتعجبت من ردائته وفساده. وخبث أصله وميلاده، وهو هذا البيت.
فما استوهبَتَنِي مُتمَسكاً بِي ولكن خفت مِن ألمِ النِبالِ قال صالح فحردت عليه وقلت ما على الأرض خير من البرامكة ولا شر منك اشتروك وانقذوك من الهلاك، ومنوا عليك بالفكاك ولم تشكرهم وتحمدهم ولم تفعل فعل الاحرار وقلت ما قلت ثم مضيت إلى الرشيد وقصصت عليه القصة وعرفته ما جرى وكتمت عنه ما جرى من منصور من خبث الطوية مخافة على نفسه من الرشيد فعند ذلك تعجب وأمر برد تلك الجوهرة وقال شيء وهبناه لا يجوز ان نعود فيه فأعدتها إلى يحيى وقصصت عليه القصة وما جرى من منصور من سوء فعله. قال يحيى إذا كان الإنسان مقلاً وجعل يطلب العذر لمنصور. قال صالح فبكيت وقلت لا يعود الفلك الدائريخرج رجلاً مثلك في الوجود، فوا أسفاً كيف يتوارى رجل مثلك له خلق مثل أخلاقك تحت التراب. حكاية: يقال أنه كان بين يحيى بن خالد البرمكي وبين عبد الله بن مالك الحزاعي عداوة في السر ما كانا يظهرانها وكان سبب تلك العداوة التي بينهما أن هارون الرشيد كان يحب عبد الله بن مالك إلى ابعد غاية بحيث أن يحيى بن خالد وأولاده كانوا يقولون إن عبد الله يسحر أمير المؤمنين حتى مضى على ذلك زمان والحقد في صدورهما وقلوبهما فولى الرشيد ولاية أومينية لعبد الله وسيره إليها. ثم أن رجلاً من أهل العراق كان له أدب وذكاء وفطنة فضاق ما بيده وفني ماله، واختل عليه حاله، فزور كتاباً عن يحيى بن خالد إلى عبد الله بن مالك وسافر به إلى أرمينية فحين وصل إليها قصد باب عبد الله وسلم الكتاب إلى بعض حجابه فأخذ الحاجب الكتاب وسلمه إلى عبد الله بن مالك ففضه وقرأه وتدبره وعلم أنه مزور فأذن للرجل فدخل عليه فقال له حملت بعض المشقة وجئني بكتاب مزور ولكن طب نفساً فانا لا نخيب سعيك فقا الرجل أطال الله بقاء الأمير إن كان قد ثقل عليك وصولي إليك فلا تحتج في منعي لحجة فأرض الله واسعة والرازق حي متين والكتاب الذي وصل صحيح غير مزور. فقال عن حال هذا الكتاب الذي اتيت به فأن الف درهم مع الفرس والجنيب والحلة والتشريف. وان كان الكتاب مزوراً أمرت أن تضرب مائتي خشبة وان تحلق محاسنك. ثم أمر عبد الله أن يحمل إلى حجرة الحبس وان يحمل اليه ما يحتاج اليه وكتب كتاباً الى وكيله ببغداد أنه قد وصل الينا رجل معه كتاب يذكر أنه من يحيى بن خالد وأن سيء الظن في هذا الكتاب فيجب أن تتحقق الحال في هذا الكتاب لتعلم صحته من سقمه وعرفني الجواب فلما وصل كتاب عبد الله الى وكيله ركب ومضى الى باب دار يحيى بن خالد فوجده مع ندمائه وخواصه جالساً فسلم الكتاب إليه فقرأه يحيى بن خالد ثم قال للوكيل عد الينا من الغد لأكتب لك الجواب ثم التفت الى ندمائه وقال لهم ما جزاء من حمل عني كتاباً مزوراً الى عدوي فقال كل واحد منهم شيئاً يصف نوعاً من العذاب، ويذكر جنساً من العقاب، فقال يحيى كلكم أخطأتم وهذا الذي ذكرتم من خسة الأصل ودنائته وكلكم تعرفون قرب عبد الله من أمير المؤمنين وتعرفون ما بيني وبينه من البغض والآن قد سبب الله هذا الرجل وجعله متوسطاً في الصلح بيننا ووفقه لذلك وقيضه ليمحو حقد عشرين سنة من قلوبنا، وتنصلح بواسطته شؤوننا وقد وجب علي أن أفي لهذا الرجل بتأميله وأصدق ظنونه واكتب له كتاباً إلى عبد الله ليتوفر على اكرامه، واعزازه واحترامه وسمو همته. ثم إنه طلب الكاغد والدواة وكتب إلى عبد الله بخط يده. بسم الله الرحمن الرحيم وصل كتابك أطال الله بقائك وقرأته وفهمته وسررت بسلامتك،وابتهجت باستقامتك، وكان ظنك أن ذلك الحر زور عني كتاباً، ولفق عني خطاباً، وليس كذلك فإن الكتاب أنا الذي كتبته وعلى يديه أنفذته، وليس بمزور عني، وتوقعي من كرمك، وحسن شيمك أن تفي لذلك الحر الكريم بأمله، وتعرف له حرمة قصده، وان تخصه منك بغامر الإحسان، ووافر الامتنان، فمهما فعلته في حقه فأنا المعتد به والشاكر عليه. ثم عنون الكتاب وختمه وسلمه الى الوكيل فأنفذه الوكيل الى عبد الله فحين قرأه ابتهج بما حواه وأحضر الرجل وقال
أي الأمرين اللذين ذكرتهما تختار أن أفعل معك فقال الرجل العطاء أحب الي فامر له بمائتي ألف درهم وعشرة أفراس عربية منها خمسة بالمراكب المحلاة وخمسة بالحلال وعشرين تختاً من الثياب وعشرة مماليك ركاب الخيول وما يليق بذلك من الجواهر المثمنة من الثياب وسيره بصحبة مأمونه الى بغداد فلما وصل الى أهله قصد باب دار يحيى بن خالد وطلب الإذن فدخل الحاجب وقال يا مولانا ببابنا رجل ظاهر الحشمة جميل الهيئة حسن الجمال كثير الغلمان، فاذن له في الدخول فدخل اليه، وقبل الأرض بين يديه. فقال له يحيى ما أعرفك فقال أنا الرجل الذي كنت ميتاً من جور الزمان، وغدر الحدثان، فنشرتني واحييتني، أنا الذي فعل معك، وأي شيء أعطاك ووهب لك. فقال من بركاتك وظلك، وكرمك وهمتك وفضلك أعطاني، ونولني وأغنائي، وقد حملت جميع عطيته وها هي ببابك والأمر اليك، والحكم في يديك، فقال له يحيى صنيعك معي أكثر من صنيعي معك ولك على المنة العظيمة، واليد الجسيمة، إذ بدلت تلك العداوة التي كانت بين وبينك وبين ذلك الرجل المحتشم بالصداقة وأنت كنت في ذلك السبب وأنا أهب من المال مثل ما وهب لك. ثم أمر له من المال بمثل ما اعطاه عبد الله ابن مالك. وإنما أوردنا هذه الحكاية ليعلم من يقرؤها أن الإنسان إذا كانت همته عالية لا يضيع أبداً كما لم يضع ذلك الرجل ولو كان خسيس الطبع لالتجأ ألى عمل دنيء وتعلق بلئام الناس ولكنه لما كانت له همة سامية تهور وأقدم، وخاطر مع رجل محتشم، كريم الأخلاق، طاهر الأعراق، فوصل بذلك التهور الى مراده. انظر الى الرجلين الكريمين المحتشمين الزعيمين السيدين، وإلى سمو همتهما بماذا عاملاه، وبماذا قابلاه، ولم يريا في مروءتهما عقوبته وعذابه ونال من بركتهما طلابه وتخلص من شدة زمانه وضائقته، وأفلت من شر محنته وعاد ذا نعمة سنية، ورتبة علية وحصل بجميل الذكر على جزيل الأجر. حكاية: يقال أنه تفاخر عبدان: عبد لبني هاشم وعبد لبني أمية فكل واحد منهما قال موالي أكرم من مواليك فقالا نمضي ونجرب فمضى مولى بني أمية إلى واحد من مواليه وشكا حالته وضائقته وتألم من فاقته فأعطاه عشرة آلاف درهم حتى طاف على عشرة من مواليه فاجتمع له مائة ألف درهم فأخذها وأحضرها بين يدي مولى بني هاشم وقال امض أنت الى بني هاشم وجربهم وانظر كرمهم فأتى مولى بني هاشم الى الحسين بن علي رضي الله عنهما وشكا حاله وذكر فقره وما أفضى به الحال إليه فأمر له بمائة الف درهم ثم مضى الى عبد الله بن جعفر وشكا اليه فأعطاه مائة الف درهم ثم مضى الى عبد الله بن ربيعة فأعطاه مائة ألف درهم فمضى بالمال الى مولى بني أمية وقال له: إن مواليك تعلموا الكرم من موالي، ولكن عد بنا اليهم لنجربهم ثايناً ونعيد المال إليهم فمضى مولى بني أمية الى مواليه وقال لهم قد استغنيت عن هذا المال وقد سهل الله تعالى لي من مكان ما أسدّ به فقري ولم يبق لي في هذه الدراهم حاجة وقد اعدتها فأخذ كل واحد منهم دراهمه، وحمل مولى هاشم الدراهم الى مواليه قال لهم قد تيسر لي من مكان ما زالت به حاجتي وانقضت وقد أعدت المال الذي أخذت منكم فاستعيدوه فقالوا نحن لا نأخذ شيئاً قد وهبناه ولاتعود هباتنا تختلط بأموالنا. حكمة: قال بعض الحكماء اجلال الأكابر من الكرم وحسن الخلال، واحتقار الناس من لؤم الأصل وقبح الخلال، والهمة بغير آلة خفة وإنما الهمة مع الجد تجمل وتلطف، وتحسن وتظرف، لأن الرجل إذا كان ذا همة وجدة غير مساعد لم يكن له من همته سوى الانحطاط لأنه يجب أن تكون الهمة علوية والجد عالياً، وقد قيل أيضاً الكلام بالدرجة والعمل بالقدرة. وينبغي أن تكون الهمة الى بغداد والزاد الى فرسخين وكذا الجلال. حكاية: كان عبد العزيز بن مروان أميراً بمصر فركب ذات يوم واجتاز بموضع وإذا برجل ينادي ولده يا عبد العزيز فسمع الأمير نداءه فأمر له بعشرة الآف درهم لينفقها على ذلك الولد الذي هو سميه ففشا الخبر بمدينة مصر فكل من ولد في تلك السنة ولد سماه عبد العزيز.وبضد ذلك كان الحاجب تاش الأمير الكبير بخراسان فإنه اجتاز يوماً بصيارف بخارى ورجل ينادي غلامه وكان اسم الغلام تاس فأمر بإزالة الصيارف ومصادرتهم وقال إنما أردتم الاستخفاف باسمي. فانظر الآن بين الحر القرشي وبين المتشرف بالدراهم. وفي هذا الباب كلام طويل ونكتفي بهذا لئلا يطول الكتاب.وينبغي أن تعلم أن الهمة وإن تأخرت فإنها توصل صاحبها الى مراده يوماً من الزمان قال الشاعر:
سَعيي لِمجدِ ولولاَ صِدقُ معَرفتـي انِي سأَدرك ما قد كُنتُ أطلُـبـه لو كُنتُ فِي خِدمةِ السُلطانِ ذا طلبِ للِزَادِ ما كُنت مِن حَامِيهِ أخَطُبـه وإنما المحمود في الرجال أن لا يتجاوز بهمته، فوق قدره وقدرته، لئلا يعيش مغتماً طول زمانه ومدته، كما قال الشاعر: لو كُنتَ تَقَنعُ بِالكِفَايةِ لَم يكُن بِالدَهرِ أرفَه مِنكَ عَيشاً فِيه أو كُنتَ يُوَماً َفوقَ ذَلِكَ طَامعَاً لم تكفِك الدُنيَا بِما تَـحـوِيه ماذا يَفيد عُلو هِمَتـكَ الـذِي لا يسَتجيب لِنيلِ ما تَبـغِـيِه الباب الخامس: في ذكر حلم الحكماء أما الحكمة فإنها عطاء من الله جلت قدرته يؤتيها من يشاء من عباده. قال سقراط مثل من أعطاه الله الحكمة وهو يعرف قدرها وهو بحرصه يعمل للدنيا وللمال الكثير كمثل من يكون في صحة وسلامة فيبيعها بالتعب والنصب فإن ثمرة الحكمة الراحة والعلاء، وثمرة المال التعب والبلاء. قال ابن المقفع كان لملوك الهند كتب كثيرة بحيث كانت تحمل على الفيلة فامروا حكماءهم أن يختصروها فاتفق العلماء في اختصارها فاختصروها على أربعة كلمات أحداها للملوك وهي العدل، والثانية للرعية وهي الطاعة، والثالثة للنفس وهي الامساك عن الطعام الى وقت الجوع، والرابعة للانسان وهي أن لا ينظر الى غير نفسه. حكمة: قال بعض الحكماء الناس أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري فذلك عالم فاتبعوه، ورجل يدري ولا يدري وذلك ناس فذكروه، ورجل لا يدري أنه لا يدري فذلك مسترشد فأرشدوه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذلك جاهل فاحذروه. )حكمة( سئل بعض الحكماء أي شي أقرب فقال الأجل فقيل أي شيء أبعد قال الأمل. حكمة: قال لقمان الحكيم لولده: شيئان إذا حفظتهما لا تبالي بما ضيعت بعدهما درهمك لمعاشك، ودينك لمعادك. حكمة: سأل أنو شروان بزر جمهر لاي شيء يمكن أن يجعل العدو صديقاً قال لأن تخريب العامر أسهل من عمارة الخراب وكسر الزجاج إذا كان صحيحاً أسهل من تصحيحه إذا كان مكسوراً. وقال صحة الجسم خير من شرب الأدوية، وترك الذنب خير من الاستغفار، وكظم الشهوات خير من كظم الحزن، ومخالفة الهوى في الاستكبار خير من دخول النار. حكمة: كان رجل من الحكماء المتقدمين يطوف البلاد عدة سنين وكان يعلم الناس هذه الكلمات الست وهي: من ليس له علم فليس له عز في الدنيا ولا في الآخرة، ومن ليس له صبر فما له سلامة في دينه، ومن كان جاهلاً لم ينتفع بعمله، ومن لا تقوى له فما له عند الله كرامة، ومن لا سخاء له فما له من ماله نصيب، ومن لا طاعة له فما له عند الله حجة. حكمة: سئل بزر جمهر أي عز يكون بالذل متصلاً فقال العز في خدمة السلطان، والعز مع الحرص والعز مع السفه. حكمة: سئل بزر جمهر بماذا يؤدب البله فقال بان يؤمروا بكثرة الأعمال، ويستخدموا في مشقات الأشغال، بحيث لا يجعل لهم الى الفضول طريقاً ولا فراغاً، قيل وبماذا يؤدب الاخساء فقال باهانتهم واحتقارهم، ليعرفوا وضاعة أقدارهم. قيل فبماذا يؤدب الاحرار قال بالتوقف في قضاء حوائجهم. وسئل أيضاً من الكريم فقال الذي يهب ولا يذكر أنه وهب. حكمة: قيل لاي سبب تتلف الناس نفوسهم لاجل المال فقال لانهم يظنون أن المال خير الأشياء ولا يعلمون أن الذي يراد من أجله المال خير من المال. حكمة: قيل له أيكون شيء أعز من الروح بحيث تعطي الناس فيه أرواحهم ولا يبالون فقال ثلاثة هي أعز من الروح الدين والعقل والخلاص من الشدائد. وسئل أيضاً في أي شيء يكون العلم والكرم والشجاعة فقال زينة العلم الصدق وزينة الكرم البشر وزينة الشجاعة العفو عند القدرة.
حكمة: قال يونان الوزير أربعة أشياء من عظيم البلاء: كثرة العيال مع قلة المال والجار المسيء الجوار، والمرأة التي لا تقية لها ولا وقار. واتفق أهل الدنيا على أن أعمال الخلائق كلها خمسة وعشرون وجهاً: خمسة منها بالقضاء والقدر وهي طلب الزوجة، والولد، والمال، والملك، والحياة، وخمسة منها بالكسب والاجتهاد وهي العلم، والكتابة، والفروسية ودخول الجنة، والنجاة من النار. وخمسة منها بالطبع وهي الوفاء، والمداراة والتواضع والسخاء. وخمسة منها بالعادة وهي المشي في الطريق، والأكل والنوم والجماع والبول والتغوط. وخمسة منها بالإرث وهي الجمال، وطيب الخلق وعلو الهمة، والتكبر، والدناءة. حكمة: ستة أشياء تساوي الدنيا: الطعام السائغ، والولد السليم الأعضاء والصاحب الموافق، والأمير المشفق، والكلام الصحيح النظام، والعقل التام. حكمة: قال الحكيم خمسة أشياء ضائعة: السراج في الشمس والمطر في السباخ المالحة، والمرأة الحسناء عند الأعمى، والطعام الطيب يقدم بين يدي الشبعان، وكلام الله سبحانه في صدر الظالم. حكمة: سئل الاسكندر لم تكرم معلمك فوق كرامة أبيك فقال ان أبي سبب حياتي الفانية ومعلمي سبب حياتي الباقية. حكمة: قال الحكيم إذا كنت بقسمة الله تجري الأمور، فالاجتهاد محظور، وتاركه مشكور. وقال إذا لم يمش معك الزمان كما تريد، فامش مع الزمان كما يريد، فإن الإنسان عبد الزمان، والزمان عدو الإنسان، وكل تنفس تنفسه فبقدره عن الحياة ويقرب من الممات. حكمة: سأل قوم من الحكماء بزر جمهر فقالوا عرفنا من أبواب الحكمة ما ينفع أرواحنا وأشباحنا لنجتهد فيه وما يضرنا فيه وما يضرنا للبعد عنه فقال اعلموا وتيقنوا أن أربعة من الأشياء تزيد ف نور العين وتحد النظر. واربعة تنقص نورها وأربعة تسمن الجسم وتخصبه، وأربعة تضعفه وتهزله، وأربعة أشياء تحيي القلب، وأربعة تميتهن وأربعة يصح بها الجسم دائماً،وأربعة تكسر البدن. أما الأربعة التي تزيد في نور العين فهي الخضرة، والماء الجاري، والشراب الصافي والنظر الي وجوه الأحباب. وأما الأربعة التي تنقصه فهي أكل المالح واللحم القديد، وصب الماء على الرأس، والنظر الدائم في عين الشمس، ورؤية العدو. وأما الأربعة التي تسمن الجسم وتخصبه فهي الثوب الناعم، وخلو البال من الأحزان، والرائحة الزكية، والنوم في المكان الساخن. وأما الأربعة التي تضعفه وتهزله فأكل اللحم القديد، وكثرة الجماع، وطول المكث في الحمام، ونوم العشايا. وأما الأربعة التي يصح به الجسم فأكل الطعام في قته، وحفظ مقادير الأشياء ومجانية الأعمال الشاقة، وترك الحزن على غير موجب. وأما الأربعة التي تكسر البدن دائماً فسلوك الطريق الصعب، وركوب الفرس الحرون، والمشي على التعب، ومجامعة العجائز، وأما الأربعة التي تحيي القلب فالعقل النافع، والأستاذ العالم والشريك الأمين والزوجة الموافقة، والصديق المساعد. وأما الأربعة التي تميته فبرد الزمهرير وحر السموم والدخان الكريه ومخافة العدو. وقال سقراط الحكيم خمسة أشياء يهلك الأنسان فيها نفسه: خديعة الاصدقاء، والالتفات عن العلماء، واحتقار الرجل نفسه، وتكبر من لا يسوى واتباع الهوى. حكمة: قال سقراط خمسة أشياء لا يشبع منها خمس: عين من نظر، وأنثى من ذكر، وأذن من خبر، ونار من حطب، وعالم من علم. حكمة: سئل حكيم ما أمر الأشياء في الدنيا وما أحلاها فقال أمر الأشياء استماع الحسن ممن لا قيمة له والدين الفادح وضائقة اليد وأحلى الأشياء الولد والكلام الطيب واليسار. حكمة: سئل حكيم ما الموت وما النوم فقال النوم موت خفيف والموت نوم ثقيل. حكمة: سئل حكيم ما الغنى فقال القناعة والرضا فقيل ما العشق فقال مرض الروح وموت في حسرة. حكمة: سئل ارسطاطاليس أي صديق أوثق وأي صاحب أشفق فقال الصديق الأصيل أوثق والصاحب القديم أشفق وتدبير العقلاء أفضل. حكمة: قال حالينوس سبعة أشياء تجلب النسيان: استماع الكلام الخشن ولا يصوره القلب، والحجامة على خرزة العتق، والبول في الماء الراكد وأكل الحوامض، والنظر في وجه الميت، والنوم الكثير، والنظر في الأماكن الخراب. وقال أيضاً في كتاب الأدوية أن النسيان يحدث من سبعة أشياء وهي البلغم، وضحك القهقهة، وأكل المالح واللحم السمين وكثرة الجماع، والسهر مع التعب، وسائر البرودات والرطوبات فإن أكلها يضر ويجلب النسيان.
حكمة: قال أبو القاسم الحكيم فتن الدنيا تنشأ من ثلاثة نفر من قائل الأخبار، وطالب استماع الأخبار ومتلقي الأخبار وهؤلاء الثلاثة لا يخلصون من الندامة. حكمة: قيل ثلاثة أشياء لا تجتمع مع ثلاثة أكل الحلال مع اتباع الشهوات والشفقة مع ارتكاب الغضب وصدق المقال مع كثرة الكلام. حكمة: قال بزر جمهر الحكيم إن شئت إن تصبر من جملة الابدال فحول أخلاقك الى أخلاق الصبيان الأطفال. فقيل كيف ذلك فقال في الأطفال خمس خصال لو كانت في الكبار لكانوا أبدالاً وهي أنهم لا يغتمون للرزق، وإذا مرضوا لم يشكوا من خالقهم تعالى، وانهم يأكلون الطعام فيجتمعون، وإذا تخاصموا لم يتحاقدوا ويساعون الى الصلح، وانهم يخوفون فيخافون بأدنيى تخويف وتدمع أعينهم. حكمة: قال وعب بن منبه ف التوراة أربع كلمات مكتوبة وهي كل عالم لم يكن متورعاً فهو كاللص وكل رجل خلا عن العقل فهو والبهيمة على مثال واحد. حكمة: قال بعض الحكماء أصل الزعامة العطف وأصل الذنب العجلة، وأصل الذل البخل. حكمة: قال الحكيم ينبغي أن لا يكون الانسان لقلبه خادماً وبقلبه متقدماً وبعادته أبله أي يتجاوز عن الجيد والرديء وينبغي أن يسمع كلام الحكمة من غير حكيم فإنه قد يصيب الغرض من لم يكن رامياً. حكمة: قال الاحنف بن قيس لا صديق لملول، ولا وفاء لكذوب ولا راحة لحسود، ولا مروءة لدنيء ولا زعامة لسيء الخلق. حكمة: قال ذو الرياستين اشتكى رجل من خصم له الى الاسكندر فقال له الاسكندر أتحب أن أسمع كلامك فيه بشرط أن أسمع كلامه فيك فخاف الرجل وأمسك فقال الاسكندر كفوا أنفسكم عن الناس لتأمنوا من أناس السوء. حكمة: قال بزر جمهر العوافي أربعة وهي عافية الدين، وعافية المال عافية الجسم وعافيت الأهل. فأما عافية الدين ففي ثلاثة أشياء.: أن لا تتابع الهوى وأن تعمل بأوامر الشرع وأن لا تحسد أحداً. وعافية المال في ثلاثة أشياء: انعام النظر، وأداء الأمانة واخراج الحق من المال. وعافية الجسم في ثلاثة قلة الكلام، والاقلال من الكلام، والاقلال من النوم. وعافية الأهل في ثلاثة القناعة، وحسن العشرة، وحفظ طاعة الله تعالى. وسئل حاتم الأصم لأي شيء لا نجد ما وجده المتقدمون فقال: لأنكم فاتكم خمسة أشياء: المعلم الناصح، والصاحب الموافق، والجهد الدائم والكسب الحلال والزمان المساعد. خبر: جاء في الخبر ان رسول الله ﷺ قال يا علي أقبل على بوجهك واخل إلى قلبك وسمعك، كل وغط، واجمع وهب، وتشدد فقال علي ما معنى هذه الكلمات يا رسول الله فقال كل الغضب وغط عيب أخيك وهب ظلم الظالم وأجمع لذلك القبر المظلم وتشدد في دين الإسلام. حكمة: سئل حكيم أي شيء أكثر بين الخلق فقال: كثرة التدبير وليس قدرة ومع الاستكثار لا تزول الحاجة والعبد يحرص على كل شيء الا على الفقر فليس يحرص عليه أحد لأن الخلق كلهم يطلبون الغنى ولا يحرص أحد على الغم لأن الكل يطلبون السرور ويحرصون على الفرح لا يحرص أحد على الموت لانهم يحرصون على الحياة. حكمة: قال أبو القاسم الحكيم هلاك العبد في شيئين المعصية والانفراد بالرأي. حكمة: قال الحكيم بلاء الخلق من ثلاثة: العلماء المضلين، والقراء البله، والعوام الحسدة. وقيل لا تطلب صحبة من طامع، ولا تطلب وفاء من خسيس الأصل. وقال الحكيم شيئان غريبان في هذا الزمان الدين والفقر. حكمة: قال الحكيم اربعة أحوال ان حفظتها كنت من جملة الرجال: أحدها سرك يجب أن يكون بحيث إذا علمه الناس رضيت والثاني علانيتك يجب أن تكون بحيث لو اقتدى بك الناس جاز لك. والثالث أن تعامل الناس بما لو عاملوك به اخترته لنفسك. والرابع أن تكون حالتك للناس بحيث لو كانت لك رضيت بها. حكمة: قال الحكيم ينبغي أن تنظر ثلاثة أشياء بعين ثلاثة وهي أن تنظر الفقراء بعين التواضع لا بعين التكبر وأن تنظر الأغنياء بعين النصح لا بعين الحسد. وأن تنظر النساء بعين الشفقة لا بعين الشهوة.
حكمة: قال وهب بن منبه: في التوراة مكتوب أن أم المعاصي ثلاثة الكبر والحرص والحسد وانها نتيجة خمسة أشياء الأكل والنوم وراحة الجسم وحب الدنيا ومدح الناس. وقال من خلص من ثلاثة أشياء فمأواه الجنة وهي المنة والمؤونة والملامة إذا أحسن لم يمن باحسانه،وأن يخفف مؤونته عن الناس وإذا رأى في أحد عيباً لم يلمه. حكمة: يقال ان ابن القرية دخل على الحجاج وكان من أكابر أهل زمانه فطنة وعلماً فسأله الحجاج وقال له ما الكفر قال البطر بالنعمة، والاياس من الرحمة. فقال ما الرضى قال الثقة بقضاء الله والصبر على المكاره فقال ما الحلم قال اظهار الرحمة عند القدرة والرضى عند الغضب. فقال ما الصبر قال كظم الغيظ والاحتمال لما يراد. فقال ما الكرم قال حفظ الصديق وقضاء الحقوق. قال ما القناعة قال الصبر على الجوع والعري عن اللباس. قال ما الغنى قال استعظام الصغير واستكثار القليل. فقال ما الرفق قال اصابة الأشياء الكبيرة بالآلة الصغيرة الحقيرة. فقال ما الحمية قال الوقوف على رأس من هو دونك. قال ما الشجاعة قال الحملة في وجوه الاعداء والكفار، والثبات في موضع الفرار. فقال ما العقل قال صدق المقال وارضاء الرجال فقال ما العدل قال ترك المراد وصحة السيرة والاعتقاد. فقال ما الانصاف قال المساواة عند الدعاوي بين الناس. فقال ما الذل قال المرض من خلو اليد والانكسار من قلة الرزق. فقال ما الحرص قال حدة الشهوة عند الرجال. فقال ما الأمانة قال قضاء الواجب. فقال: ما الخيانة قال التراخي مع القدرة قال فما الفهم قال التفكر وإدراك الأشياء على حقائقها. حكمة: قال الحكيم ثمانية تجلب الذل على أصحابها وهي جلوس الرجل على مائدة لم يدع اليها، ومن تأمر على صاحب البيت والطامع في الاحسان من اعدائه، والمصغي الى حديث اثنين لم يدخلاه بينهما، ومحتقر السلطان، ومن جلس فوق مرتبته ومن تكلم عند من لا يستمع ومن صادق من ليس بأهل. حكمة: سئل بزر حمهر أي شيء يقبح بالانسان ذكره وإن كان صحيحاً قال مدح الإنسان نفسه لأنك لا تجد بخيلاً ممدوحاً، ولا ذا غضب مسروراً، ولا عاقلاً حريصاً، ولا ترى كريماً حاسداً، ولا قنوطاً عتياً، ولا تجد لملول صديقاً. حكمة: قال الحكيم خمسة يفرحون بخمس ثم يندمون بعدها الكسلان إذا فاتته الأمور والمنقطع عن اخوانه إذا نالته شدة، ومن أمكنته فرصة على اعدائه ثم عجز عن انتهازها، ومن ابتلى بامرأة سوء وتذكر المرأة الصالحة قبلها، والرجل الصالح يندم على ارتكاب الذنوب. حكمة: سئل بزر جمهر هل يقلب المال قلوب العلماء من الرجال فقال من قلب المال قلبه فليس بعالم. حكمة: قال الحكيم العتاب الظاهر خير من الحقد الباطن. حكمة: قال بزرجمهر أصحاب الغم والحزن في الدنيا ثلاثة: محب فارق حبيبه، ووالد شفوق ضل عنه ولده، وغني عاد فقيراً. حكمة: قال عمرو بن معدي كرب الكلام اللين يلين القلوب التي هي أقسى من الصخر، والكلام الخشن يخشن القلوب التي هي أنعم من الحرير. حكمة: قال الحكيم الحزن مرض الروح كما ان الوجع مرض الجسد والفرح غذاء الروح كما أن الطعام غذاء الجسد. وطلب حكيم من رجل أن يدينه ديناراً فلم يفعل فقال الحكيم لم يكن من منعك إياي الا أن احمر وجهي من الحياء مرة واحدة ولوأعطيتني لم يصفر وجهي من مطالبتك مرة بل الف مرة. حكمة: قال الحكيم من يزرع وطينه رطب لم يساو قيمته شيئاً. وقال من ليس له لب ولا خطر فهو شجر بلا ثمر. وقال من سل سيف الجور قتل به، ومن لم ينصف من نفسه لم يخلص من حسرته، ومن أطلق يده بالعطاء أشرق وجهه بالضياء. وقال من لم يجترز من ذنبه فقد تعلق به. وقال الشباب رضيع الجنون، والشيب قرين التوفيق والسكون. وقال تزود طاهر الزاد، ولا تخف من الاضداد. عظة: قال لقمان كنت أسير في طريق فرأيت رجلاً عليه مسح فقلت ما انت أيها الرجل فقال آدمي فقلت ما اسمك فقال حتى انظر بماذا اسمى فقلت ماذا تصنع قال ترك الأذى فقلت ماذا تأكل قال الذي يطعمني ويسقيني فقلت من أين يطعمك فقال من حيث شاء فقلت طوبى لك وقرة عين فقال ما الذي يمنعك عن هذه الطوبى وقرة العين.
حكمة: قيل ثلاثة تذهب عن القلب العمى: صحبة العالم، وقضاء الدين، ومشاهدة الحبيب. وقيل شيئان يجلبان الحزن الى القلب: الطمع في وجود البخلاء، والمراء مع الوضعاء. حكمة: قال الحكيم تجنب أربعة أشياء تخلص من أربعة أشياء: تجنب الحسد لتخلص من الحزن ولا تجالس جليس السوء وقد تخلصت من الملامة ولا ترتكب المعاصي وقد خلصت من النار، ولا تجمع المال وقد خلصت من العداوة. حكمة: قال الحكيم أربعة أعمال مذمومة يعملها الناس فيجازون بها في الدنيا والآخرة. الغيبة فقد قيل فارس يلحق سريعاً، والثاني احتقار العلماء لأن من احتقر عالماً عاد حقيراً، والثالث كفران نعم الله عز وجل، والرابع قتل النفس بغير حق، وللأكابر والحكماء مثل قديم كل قاتل مقتول ولو بعد حين. قال الشاعر: إذَا مكَنتَ بِالسَكِـينِ كَـفـاً لِقتلِ النَاسِ فاذكَر الَسبـيلا رأى عِيسَى قَتِيلاً فِي طَريِقِ فعَضَ عَلى أنَامِلِهِ طَـويلاً وقاَلَ لِمن قَتلَت نَراَك حَتـى غَدوت كَما أرى مُلقَى قَتِيلاً وَقاتلك الـذي ارَادك أيضَـاً يَذوُقَ القَتلَ فَاليطل العويلا الباب السادس: في شرف العقل والعقلاء إن الله سبحانه وتعالى خلق العقل على أحسن صورة وقال له أقبل فاقبل ثم قال له أدبر فأدبر فقال وعزتي وجلالي ما خلقت في خلقي شياً أحسن منك بك آخذ وبك أعطي وبك أحاسب وبك أعاقب. والدليل على صحة هذا أن الله تعالى على العباد شيئين وكلاهما موقوفان على العقل وهما الأمر والنهي كما جاء في محكم التنزيل قوله جل ذكره: )فاتقوا الله يا أولي الألباب( . وهم ذوو العقول، واشتقاق العقل من العقال، والمعقل المنيع القلعة على رأس الجبل لا يصل إليها يد أحد لامتناعها وقوتها واحكامها. سئل حكيم الفرس لم سمي العاقل عاقلاً فقال للعاقل أربع علامات يعرف بها. وهي أن يتجاوز عن ذنب من ظلمه، وان يتواضع لمن دونه، وان يسابق الى فع الخير لمن هو أعلى منه، وان يذكر ربه دائماً وان يتكلم عن العلم ويعرف منفعة الكلام في موضعه وإذا وقع في شدة التجأ الى الله تعالى. وكذلك الجاهل له علامات وهو أن يجور على الناس ويظلمهم ويعسف بمن دونه وأن يتكبر على الزعماء والتقدمين وأن يتكلم بغير علم، وأن يسكت عن خطأ وإذا وقع في شدة أهلك نفسه وإذا رأى أعمال الخير لفت عنها وجهه. حكمة: قال سعيد بن جبر: ما رأيت للإنسان لباساً أشرف من العقل إن انكسر صححه، وان وقع أقامه وان ذل أعزه وإن سقط في هوة جذبه بضبعه منها واستنقذه منها وان افتقر أغناه وأول شيء يحتاج إليه البليغ العلم الممتزج بالعقل كما جاء في الحكاية. حكاية: يقال انه ما كان في خلفاء بني العباس اعلم من المأمون في جميع العلوم فكان له في كل أسبوع يومان يجلس فيهما لمناظرة الفقهاء وكان يجتمع عنده الفقهاء والمناظرون، والعلماء والمتكلمون، فدخل في بعض الأيام الى مجلسه رجل غريب عليه ثياب بياض رثة فجلس في أواخر الناس وقعد من وراء الفقهاء في مكان مجهول فلما ابتدأوا في المسائل وكان رسمهم يديرون المسألة على جماعة أهل المجلس فكل من وجد زيادة لطيفة او نكتة غريبة ذكرها فدارت المسألة الى ان وصلت الى ذلك الرجل الغريب فتكلم بكلام عجيب فاستحسنه المأمون فأمر أن يرفع الى أعلى من تلك المرتبة. فلما وصلت الثالثة أجاب بجواب أحسن من أجوبة الفقهاء كلهم فأمر أن يرفع الى أعلى من تلك المرتبة. فلما وصلت الثالثة أجاب بجواب أحسن وأصوب من الجوابيين الأولين فأمر المأمون أن يجلس قريباً منه فلما اتقضت المناظرة أحضر الماء وغسلوا أيديهم ثم أحضر الطعام فأكلوا ثم نهض الفقهاء وخرجوا وقرب المأمون ذلك الرجل وأدناه وطيب قلبه ووعده بالاحسان إليه والإنعام عليه. ثم عبي مجلس الشراب ونضد وحضر الندماء الملاح، ودارت الراح. فلما وصل الدور الى الرجل نهض قائماً وقال ان أذن أمير المؤمنين تكلمت بكلمة واحدة فقال قل ما تشاء فقال قد علم الرأي العالي زاده الله علواً ان العبد كان في مجلس الشريف من مجاهيل الناس ووضعاء الجلاس، وان أمير المؤمنين بقدر يسير من العقل الذي أبداه جعله مرفوعاً على درجة غيره وبلغ به الغاية التي لم تسم اليها همته وإن العبد إذا شرب الشراب تباعد عنه العقل وقرب منه الجهل وسلب أدبه فعاد الى تلك الدرجة ووقع في اعين الناس كما كان ذليلاً فإن رأى الرأي العالي أن لا يفرق بينه وبين ذلك القدر اليسير من العقل الذي أعزه بعد الذلة وكثرة بعد القلة بمنه وفضله وكرمه، وسيادته وحسن شيمه، فعل متطولاً، وأنعم متفضلاً. فلما سمع المأمون منه ذلك مدحه وشكره وأجلسه في رتبته ووفره وأمر له بمائة ألف درهم وحمله على فرس وأعطاه ثياب تجمل وكان كل مجلس يرفعه على جماعة الفقهاء حتى صار أرفع منهم درجة، وأعلى منزلة. وإنما أوردنا هذه الحكاية لأجل نعت العقل لأن العقل يوصل صاحبه الى درجة عالية، ومرتبة سامية، وان الجهل يحط صاحبه عن درجته ويهبط به من علو مكانته.
حكاية: يقال أنه جاء في بعض الأيام رجل الى باب الخليفة المنصور فقال أيها الحاجب أعلم أمير المؤمنين أن بالباب رجلاً من أهل العلم واسمه عاصم وهو يذكر أنه كان في الزمن الماضي بينه وبين أمير المؤمنين صحبة مدة سنة وأكثر بالشام في التعليم والدرس وقد وصل الأن للسلام، ولتجديد العهد بالامام. فلما عرفه الحاجب أذن له فلما دخل وسلم عليه ثقل قدومه ووصوله على قلب أبي الوانيق لغاثة منطقه وسوء أدبه فأجلسه وسأله وقال له في أي حاجة قدمت فقال لرؤية أمير المؤمنين بوسيلة تلك الصحبة القديمة فأمر له بألف درهم فأخذها الرجل وانصرف ثم عاد بعد سنة أخرى وكان قد مات للمنصور ولد وهو جالس في العزاء فدخل الرجل وسلم عليه ودعا له فقال فيم قدمت قال أنا ذلك الرجل الذي كنت معك في الشام وقد قدمت معزياً برزيتك، ومؤدياً حق تعزيتك، فأمر له بخمسمائة درهم فأخذها ثم عاد بعد سنة أخرى فلم يجد حجة يحتج بها في الدخول إلا أنه دخل في جملة الناس وسلم فقال له الخليفة لأي سبب وصلت فقال أنا ذلك الرجل الذي كنت معك في الشام في التعليم والدرس وكتابة الأخيار واستماع الأحاديث وكنت قد كتبت معك دعاء الحاجة وان كل من دعا به في حاجة قضى الله حاجته وقد ضاع المنصور لا تتعب في طلب ذلك الدعاء فانه غير أخلص ولو كان مستحباً لتخلصت منك فخجل ذلك الرجل لما سمع هذا الكلام. وإنما أوردنا هذه الحكاية لأن الإنسان إذا كان عالماً ولم يكن له عقل سقط جاهه ومرتبته. حكاية: كان في ذلك العصر وصل رجل من مدينة الرسول ﷺ الى المنصور بحكم الصداقة التي كانت بينهما قديماً فلما وصل خليفة الزمان قدم عليه، ووفد إليه، وكان الرجل عاقلاً لبيباً ولم يكن عالماً. فلما رآه المنصور قربه وأدناه، وأزلفه واستدعاه. فقال له الرجل يا أمير المؤمنين أنا محب لك شديد المحبة والولاء مخلص في الطاعة والدعاء غير انني لا أصلح لخدمة الملوك فكيف ينبغي أن أزروك بحيث لا يظهر مني سوء انني لا أصلح لخدمة الملوك فكيف ينبغي أن أزورك بحيث لا يظهر مني سوء أدب فقال المنصور أخر الزيارة وإذا زرتني فاجعل بين زيارتك وانقطاعك مدة إذا غبت فيها لم أنسك وإذا حضرت لم أملك وازدادت محبتك عندي عما كانت عليه أولاً. وإذا دخلت فاجلس بعيداً مني حتى يقربك الحاجب بالتدريج ولا تطل جلوسك فتنسب الى سوء الأدب ولا تسأل حاجتك لئلا تثقل على قلبي، وإذا أحسنت اليك فاشكرني في كل محلة تحلها ومنزلة تنزل بحيث إذا بلغني سررت بشكرك، وازددت في برك، ولا تذكر في المجالس ما جرى بيني وبينك في الزمان الماضي. فامتثل الرجل هذه الوصايا فكان في كل سنة يمضي الى سلامه مرتين وكان المنصور يعطيه في كل مرة يسلم عليه ألف درهم. وانما ذكرت هذه الحكاية ليعلم أن من كان له عقل وان لم يكن عالماً فان عقله يكون له دليلاً، ومن كان ذا علم وليس له عقل عادت أموره كلها منعكسة منقلبة، ومن كان تام العقل والعلم كان في الدنيا نبياً أو حكيماً أو إماما فان جمال الانسان وعزه ومرتبته وصلاح أحوال دنياه وآخرته بالعقل وتمامه، فتتكامل صفاته وأقسامه كما قال الشاعر:
بِالعَقلِ يَنَالُ المَرءُ أوَجَ البَـدرِ والَعقلُ بِه الجَاه وسَامِي القَدرِ والعَقَلُ بِه يُغسَلُ عَارَ الـوِزرِ فِي العَقلِ التَاجُ مَع نَفاذِ الأمرِ والعقل أول الإيمان ووسط الإيمان وآخر الإيمان. قال بعض القدماء ليس العقل أن الإنسان إذا وقع في أمر اجتهد في حسن خلاصه منه بل العقل ان لا يوقع نفسه في أمر يحتاج الى الخلاص منه. حكمة: قال أبرويز الملك لولده احفظ الرعية ليحفظك العقل واصرف آفتك عن الرعية ليصرف العقل آفته عنك. واعلم انك حكم بين الناس والعقل حكم جليل فكما ينبغي أن يقبل الناس أمرك فكذلك ينبغي أن تقبل أمر العقل. حكمة: كتب يونان الوزير كتاباً الى الملك العادل كسرى انو شروان وأدى رسائل في باب العقل وما يأمر به العقل فشكره أنو شروان وأمر الكاتب أن يكتب اليه جواباً وقال أيها الحكيم لقد أحسنت في تأدية رسالة العقل لأننا ومن تقدمنا من الملوك إنما تحلينا بالعقل فكيف يمكننا مخالفته فان العاقل أقرب الناس الى الله تعالى والعقل كالشمس في الدنيا وهو قلب الحسنات والعقل حسن في كل واحد وهو في الأكابر والزعماء أحسن كالرطوبة في الشجرة مادامت طرية رطبة كان الناس من رائحتها ونشر أزهارها وطيب ثمارها ونضارتها وطراوتها في سرور وغيظة ونزهة وفرحة فاذا جفت رطوبتها وقحلت نضارتها فلا تصلح حينئذ لسوى القلع وكذلك الإنسان مادام عقله قويماً، وجسمه سليماً، صحبته مباركة ومواصلته حسنة نافعة فاذا زال عقله، وغلب عليه جهله. فحينئذ لا يصلح للحياة، ولا يستره غير الوفاة. وقال أنو شروان كيف يسعني أن أخالف العقل ولا أفعل ما يامرني به العقل وأنه ليس لملك ولا رعية خير من العقل فان بضيائه يفرق بين المليح والقبيح والجيد والردئ والحق والباطل والصدق والكذب. قال بزرجمهر شيئان لا يمكن وجودهما في شخص كاملين العقل والشجاعة. حكمة: قال لقمان الحكيم مهما كان الرجل عالماً فانه لا ينتفع بعلمه ما لم يكن العقل لعلمه مصاحباً. حكمة: سأل أنو شروان بزرجمهر من تحب أن يكون أعقل الناس فقال العدو إذا عاداني فقال لم? قال لآمن اساءته وكل شيء إذا كثر هان إلا العقل فإنه كلما كان أكثر كان صاحبه أعز. حمكمة: قيل لبزرجمهر أي شيء لا بد للإنسان منه ولا مندوحة له عنه فقال العقل فقيل له ما قدر العقل فقال شيء لا يوجد في الإنسان كاملاً كيف يعرف قدره. حكمة: قال بعض الحكماء جميع الأشياء مفتقرة الى العقل والعقل مفتقر الى التجربة ولا غنى أعم من العقل ولا فقر أشد من الجهل وكل من كان علمه أكثر كانت حاجته الى العقل أوفر، والمرء في هذا كراع ضعيف معه قطيع كبير يضرب للعالم الذي لا عقل له.
حكمة: قالت العلماء العقل أمير وله جنود وجنوده التمييز والحفظ والفهم. وسرور الروح العقل لأن به ثبات الجسم والروح سراج نوره العقل ثم ينبسط في جميع الجسد والعاقل لا يغتم أبداً لأنه لا يفعل ما يوجب الاغتنام ولا يشرع في أمر لا يجوز لمثله الاهتمام به. حكمة: سئل ابن عباس العقل أم الأدب? فقال لأن العقل من الله تعالى والأدب تلكيف من العبد. وسئل عبد الله بن المبارك العقل خير أخ الأدب فقال العقل فقيل له ما العقل فقال العقل تعلم العلم والعمل بالعلم أن تعلم أنه ينبغي أن تعمل والعقل أنك متى علمت عملت. وقال النبي ﷺ: ما قسم الله لعباده خيراً من العقل ونوم العاقل خير من عبادة الجاهل والعاقل المفطر خير من الجاهل الصائم، وضحك العاقل خير من بكاء الجاهل. حكمة: قال رجل لأقليدس لا أستريح أو أتلف روحك فقال أنا لا أستريح أو أخرج الحقد من قلبك. حكمة: قال الحكيم كما تفوح من الميتة الرائحة المكروهة يفوح من الجاهل نتونة الجهل فتضرّ به وبجيرانه وأهله وأقاربه. حكمة: سئل الحكيم ما العقل فقال سداد وعقد بين ثلاثة وعشرين شيئاً فلولا هذه العقود لاختلط الجيد بالردىء. أولاً هو عقد بين التوحيد والشرك، وبين الايمان والكفر، وبين الحقد والتهور، وبين الإسلام والغفلة، وبين اليقين والشك وبين العاقبة والبلاء، وبين الكرم والبخل، وبين حسن الخلق والقباحة وبين التواضع والتكبر، وبين الصداقة والعداوة، وبين العلم والجهل، وبين الحياء والوقاحة، وبين الحق والباطل ، وبين الرزانة والخفة، وبين الظلمة والضياء، وبين الكرامة والزلة، وبين الطاعة والمعصية، وبين ذكر الله تعالى والغفلة، وبين النصيحة والحسد، وبين السنة والبدعة، وبين الرحمة والقساوة، وبين الحلم والحمق. وقال صاحب الكتاب رحمه الله تعالى جميع محاسن الدنيا في العقل وسائر العلوم والأعمال مرجعها الى العقل كما جاء في الحكاية. حكاية: روي أن الريح حملت كرسي سليمان بن داود عليهما السلام وجعلت تسير به فلاح لسليمان بلد فامر الريح أن تحطه فنزل على باب ذلك البلد فرأى على بابه مكتوباً: أجرة اجتهاد يوم واحد درهم، والحسن والجمال أجرتهما في يوم مائتا مثقال وعلم ساعة واحدة لا تحصى قيمته وجميع الأشياء منوط بالعلم والعلم أسير والتدبير مع العقل توأمان ون آتاه الله العقل فقد آتاه خيراً كثيراً كما قال الشاعر: ان كُنتَ مِن أصلِ جُوهَرٍ مَنسوُب أو يُوسف الحَسَن ولدُ يَعـقُـوب ما أنَت مُجَالسُ بِعقِلكَ المحبُـوبِ فِي النَاسِ سِوى مُحقرُ معـيوبِ لتعلم أيها الأخ كنه العقل ونفاسته وعلو قيمته فيجب عليك أيها العاقل الحمد والشكر لواهب الشكر الباري جلت قدرته. الباب السابع : في ذكر النساء خير النساء وأبركهن الحسناء الولود الخفيفة المهر. قال عليه الصلاة والسلام )عليكم بالمرأة الحرة فإنها أطهر وأبرك( . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه )التجئوا الى الله عز وجل من شرار النساء واحذورا خيارهن( . قال صاحب الكتاب من أراد صلاحه وتدبيره ولم يجد المرأة الحسناء يلهو بها فعليه بالمرأة الدينة فذات الدين خير وأبرك وإذا جاءت الديانة أتى المال وكان أبرك لأن المرأة لا دين لها فما لها أصل لا معها بركة وببركة الديانة يوجد كل خير كما في الحكاية. حكاية: كان بمدينة مرو رجل اسمه نوح بن مريم وكان رئيس مرو وقاضيها وكان له نعمة كبيرة وحال موفورة وكانت له ابنة ذات حسن وجمال وبهاء وكمال، قد خطبها جماعة من الأكابر والرؤساء وذوي النعمة والثروة فلم ينعم بها لأحد منهم وتحير في أمرها ولم يدر لأيهم يزوجها وقال ان زوجتها لفلان أسخطت فلاناً وكان له غلام هندي تقي اسمه مبارك وكان له كرم عامر الأشجار والفاكهة والثمار. فقال للغلام أريد أن تمضي وتحفظ الكرم لينظره فقال له يا مبارك ناولني عنقود عنب فناوله عنقوداً من العنب فوجده حامضاً فقال له سيده أعطني غير هذا فناوله عنقوداً حامضاً فقال له سيده ما السبب في أنك لا تناولني من هذا الكثير غير الحامض فقال لأني لا أعلم أحامض هو أم حلو فقال له سيده سبحان الله لك في هذا الكرم شهر كامل ما تعرف الحامض من الحلو فقال وحقك أيها السيد انني ما ذقته ولم أعلم أحامض أم حلو فقال له لم لا أكلت منه فقال لأنك أمرتني بحفظه ولم تأمرني بأكله فما كنت أخونك فعجب القاضي منه فقال له حفظ الله عليك أمانتك وعلم القاضي أن الغلام غزير العقل فقال له القاضي أيها الغلام قد وقع لي رغبة فيك وينبغي أن تفعل ما آمرك به فقال الغلام أنا مطيع لله لك فقال القاضي: إعلم أن لي بنتاً جميلة وقد خطبها كثير من الرؤساء والتقدمين ولا أعلم لمن أزوجها فأشر علي بما ترى فقال الغلام: إن الكفار في زمن الجاهلية كانوا يريدون الأصل والنسب والبيت والحسب واليهود والنصارى يطلبون الحسن والجمال وفي عهد رسول الله ﷺ كان الناس يطلبون الدين والتقى. أما وفي زماننا هذا فالناس يطلبون المال فاختر من هذه الأربعة ما تريد فقال القاضي قد اخترت الدين والأمانة، وجربت منك العفة والصيانة. فقال الغلام أيها السيد أنا عبد رقيق هندي أسود أبتعتني بمالك كيف تزوجني بإبنتك وترضاني فقال له القاضي قم بنا إلى البيت لندبر هذا الأمر فلما صارا الى المنزل قال القاضي لزوجته اعلمي أن هذا الغلام الهندي دين تقي وقد رغبت في صلاحه وأريد أن أزوجه ابنتي فما تقولين فقالت الأمر إليك ولكن أمضي الى الصبية وأخبرها وأعيد عليك جوابها فجاءت المرأة الى الصبية وأدت إليها رسالة أبيها فقالت مهما أمرتماني به فعلته ولا أخرج من تحت حكمكما ولا أعاندكما بالمخالفة بل أبركما فزوج القاضي ابنته بالمبارك واعطاهما مالاً عظيماً فأولدها المبارك ولداً وسماه عبد الله وهو معروف في جميع العالم وهو عبد الله بن المبارك صاحب العلم والزاهد ورواية الأحاديث فما دامت الدنيا يحدث عنه يروى.
نعم أيها الأخ إذا تزوجت فاطلب ذات الدين ولا تطلب ذات الصيت والمال فإن المال يعود وبالاً ولا تعطيكه المرأة وإذا أردت أن تطلب زوجة فلا تطلبها وتخطبها لأجل بلوغ الشهوة وارغب فيها بنية أنها دينة وصالحة لتكون في خدرك وطاعتك وتكون لك ستراً من النار. حكاية: نزل بعبد الله بن المبارك في بعض الأيام عشرة من العلماء ولم يكن عنده ما يضيفهم به وما كان يملك سوى فرس يحج عليها سنة ويغزو سنة فذبح ذلك الفرس وطبخ منه وقدمه بين يدي أضيافه فقالت له زوجته سبحان الله ما كنت تملك سوى هذا الفرس من الدنيا فلم ذبحته فدخل سريعاً الى بيته وأخرج من متاع بيته بقدر مهرها وطلقها في وقته وساعته وقال امرأة تبغض الأضياف لا تصلح لنا فأتاه بعد ذلك بأيام رجل وقال له يا امام المسلمين لي بنت وقد توفيت أمها وهي في كل يوم تمزق دست ثياب حزناً وغماً واليوم تريد أن تقصد مجلسك فقل في تسليتها شيئاً لعل قلبها يرق فلما جلس على المنبر ذكر من هذا الباب ما تسلت به الصبية عن أمها فلما عادت الى البت قالت يا أبت قد تبت ولا أعود أسخط الله تعالى ولكن لي اليك حاجة قال وما حاجتك قالت أنت تقول دائماً أرباب الأحوال وأبناء الدنيا يطلبونك ويخطبونك فناشدك الله لاتزوجني لغير عبد الله بن المبارك فإن كان ماله دنيا فإن لنا دنيا فزوجها أبوها بعبد الله بن المبارك وحمل اليه جهازاً كثيراً ومالاً كبيراً وأنفذ اليه عشرة أفراس ليجاهد عليها في سبيل الله فرأى عبد الله في بعض الليالي في منامه قائلاً يقول ان كنت طلقت من أجلنا عجوزاً فقد أعطيناك صبية بكراً وان كنت ذبحت فرساً واحداً فقد أعطيناك عشرة أفراس وعوضها لتعلم أن الحسنة بعشر أمثالها عندنا ولا يضيع عندنا أجر المحسنين وما عاملنا احد فخسر ولا يخسر كما جاء في الحكاية.
حكاية: حكى أبو سعيد أنه كان في بني اسرائيل رجل صالح وله زوجة دينة تقية ذات رأي وحزم فأوحى الله تعالى الى نبي الزمان أن قل لذلك العبد الصالح أني قدرت له أن يمضي نصف عمره بالغنى ونصفه بالفقر فإن اختار أن يكون غناه في شبيبته اغنيناه وإن اختار أن يكون في شيخوخته قدرنا له ذلك فيسرناه له. لما أعلم الرجل ذلك اخبر به زوجته وقال لها قد جاء خطاب من الله تعالى وقص عليه ما سمعه وقال لها ما تريد فقالت له الاختيار اليك فقال الرجل قد رأيت الفقر في الشبيبة فإذا كنت شاباً فقيراً احتملت وصبرت عليه فإذا صرت كبيراً غنياً كان لي ما أتقوت به وأشتغل بطاعة ربي وعبادته فقالت المرأة أيها الرجل إذا كنا في الشبيبة في ضنك ولم نقدر على طاعة ربنا تعالى ولم تصل أيدينا الى فعل الخيرات واعطاء الصدقات فالواجب أن تختار الغنى في زمان الشباب فيكون لنا شباب وغنى وطاعة فنقدر حينئذ على عبادته باجسمامنا وأموالنا فقال الرجل نعم ما رأيت وكذلك نفعل فنزل الوحي على ذلك النبي عليه السلام فقال قل لذلك الرجل إذا آثرت طاعتنا واستفرغت جهدك في عبادتنا واتفقت نيتك ونية زوجتك على طاعتنا فقد قضيت وقدرت أن أقضي جميع عمرك في الغنى وكن أنت وزوجتك على عبادتي ومهما رزقتكما فتصدقا به على بريتي ليكون لكما حظ الدنيا والآخرة. قال صاحب الكتاب وما أوردنا هذه الحكاية إلا لتعلم قدر الزوجة الصالحة وما فيها من النعمة من الله تعالى. فصل واعلم أن ديانة المرأة وسترها نعمة من نعم الله تعالى على عباده وهيهات أن يقدر على المرأة العفيفة طامع كما جاء في الحكاية. حكاية: يقال أنه اراد رجل فاسق أن يكابر امرأة عفيفة فقال لها امضي وأغلقي أبواب الدار جميعها واحكمي اغلاقها فمضت المرأة ثم عادت فقالت قد أغلقت سائر الأبواب وأوثقت اغلاقها سوى باب واحد فقال أي الأبواب ذلك الباب فقالت تلك الأبواب التي بيننا وبين الخلق قد أغلقتها وقد بقي الباب الذي بيني وبين الخالق جلت عظمته ما قدرت عليه ولا استطعت أن أغلقه وهو بحاله مفتوح فرقع في نفس هذا لرجل من هذا الكلام الهيبة فاخلص لله التوبة وأقلع عن ذنبه وعاد الى طاعة ربه الأعلى. حكاية مثلها: يقال أنه كان رجل علوي بسمرقند في بعض الأيام قائماً على باب داره فاجتازت عليه امرأة ذات حسن وجمال وكان الدرب خالياً فقبض العلوي على زند المرأة وجذبها الى داخل الدار وهم أن يفسد معها فقالت له المرأة أسألك مسألة اجبني عنها وافعل ما بدا لك فقال اذكري ما تريدين فقالت إذا أنت وطئتني حراماً وحبلت منك وولدت ولداً هل يكون ذلك الولد علوياً أو خبيثاً عامياً فقال إنه يكون علوياً فقالت المرأة لا شك أنك أنت من خبيثي العلويين ولو لم تكن خبيثاً لم تفعل مثل هذا فخجل العلوي في الحال ورفع يده عنها ونذر على نفسه لله نذراً أنه لا يعود ينظر الى امرأة محرمة عليه نظرة فساد. وينبغي أن يكون الرجل صاحب حمية وغيرة على حرمه وناسه فإن الحمية من الدين الى حد أنه لا يجوز للرجل الأجنبي أن يسمع دق المرأة الأجنبية بالهاون وإذا دق رجل أجنبي باب الدار فلا يحل للمرأة أن تجيبه بلين وسهولة لأن قلوب الرجال تتعلق بأقل الأشياء وأكثرها وان كان لابد للمرأة أن تجيبه فلتضع أصبعها في فمها ولتجبه ليصير صوتها شبيهاً بصوت العجائز ولايجوز للنساء أن ينظرن الى الرجال الأجانب ولو كان المنظور أعمى. وجاء في الخبر إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل الى بيت عائشة رضي الله عنها فرأى عبد الله بن أم مكتوم قاعداً النساء فقال يا عائشة لا يحل للمرأة أن تقعد عند غير ذي محرم فقالت يا رسول الله إنه أعمى فقال ان كان لا يراك فانك تريه.
حكاية: يقال أن الحسن البصري رحمة الله عليه قصد زيارة رابعة العدوية رضي الله عنها في جماعة من اصحابه فلما وصلوا الباب قالوا اتأذنين لنا في الدخول فقالت تمهلوا ساعة وجعلت الكساء بينها وبينهم ستراً وأذنت لهم فدخلوا وسلموا عليها فأجابتهم من وراء الستر فقالوا لم علقت بيننا وبينك ستراً فقالت أمرت بذلك في قوله تعالى: )فَاسألَوُهِن مِن وَراَء حِجَابِ( وواجب على الرجل أن لا ينظر الىامرأة أجنيبة بحال فإنه قبل أن يجازي به في الآخرة يجازي به في الدنيا كما جاء في الحكاية. حكاية: كان بمدينة بخارى رجل سقاء يحمل الماء الى دار رجل صائغ مدة ثلاثين سنة وكان لذلك الصائغ زوجة في نهاية الحسن والجمال والظرف والكمال، معروفة بالديانة، موصوفة بالستر والصيانة. فجاء السقاء على عادته يوماً وقلب الماء في البات وكانت المرأة قائلة في وسط الدار فدنا منها واخذ بيدها ولواها وفركها وعصرها ثم مضى وتركها. فلما جاء زوجها من السوق قالت له أريد أن تعرفني أي شيء صنعت اليوم في السوق لم يكن لله تعالى فيه رضا فقال الرجل ما صنعت شيئاً فقالت المرأة ان لم تصدقني وتعرفني فلا أقعد في بيتك ولا تعود تراني ولا أراك فقال اعلمي أن في يومنا هذا اتت امرأة الى دكاني فصنعت لها سواراً من ذهب فأخرجت المرأة يدها ووضعت السوار في ساعدها فحيرت من بياض يدها وحسن زندها فتذكرت هذا المثنوي. فِي سَاعِدِهَا سُوارُ تِبـرِ وأرَى كنَارَ يَلُوحُ فَوَقَ ماءٍ جَـارِي هل يَخطُر فِي هَواجِسِ الأفَكارِ ماء ولهُ منَطقَـه مِـن نَـارِ ثم أخذت يدها فعصرتها ولويتها فقالت المرأة الله أكبر لم فعلت مثل هذا الحال? لا جرم أن ذلك الرجل الذي كان يدخل البيت منذ ثلاثين سنة ولم نر منه خيانة أخذ اليوم يدي فعصرها ولواها فقال الرجل الأمان أيتها المرأة مما بدا مني فاجعلني في حل فقالت المرأة الله المسؤول أن يجعل عاقبة أمرنا الى خير فلما كان من الغد جاء الرجل السقاء اجعليني في حل فإن الشيطان أضلني وأغواني فقالت المرأة امض في حال سبيلك فأن ذلك الخطأ لم يكن منك وانما كان من ذلك الشخص صاحب الدكان فاقتص الله منه في الدنيا. وكذلك ينبغي أن تكون المرأة مع زوجها ظاهرها وباطنها واحد وتقنع معه بالقليل إن لم يقدر على الكثير وتقتدي بعائشة وفاطمة رضي الله عنهما من أهل الجنة كما جاء في الحكاية. حكاية: كانت فاطمة رضي الله عنها تطحن الجاروشة الى أن أدمت أناملها فشكت ذلك في بعض الأيام الىبعلها علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فقال قولي لأبيك يبتع لك خادمة فأتت رسول الله ﷺ وقالت يا رسول الله إني مفتقرة الى خادمة تعينني على اشغالي وتحمل عني بعض اثقالي فقال عليه الصلاة والسلام ألا أعلمك ما هو خير لك من خادم وأعز من سبع سموات وسبع أرضين فقالت يا رسول الله علمني فقال ﷺ اذا أردت فقولي قبل منامك ثلاث مرات سبحان الله والحمد لله ولا آله الا الله والله اكبر. وفي الأخبار انهم لم يكن لهم في البيت إلا كساء كانوا إذا غطوا به رؤوسهم انكشفت أرجلهم، وفي الليلة التي كانت فاطمة عروساً وزفت الى علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان تحتها جلد شاة وكانا ينامان عليه وما كان لفاطمة من متاع البيت سوى كساء ومخدة من أدم حشوها ليف لاجرم ينادي لها يوم القيامة يا أهل الموقف غضوا أبصاركم حتى سيدة النساء فاطمة الزهراء.
والمرأة تعز عند زوجها وتنو محبتها في قلبه باكرامها له وكاعتها لامره وقت خلوته ومجامعته لها وبحفظها منافعه واجتنابها مضاره وتربيتها ولده واكتنافها في بيته وقلة خروجها من خدرها وأن تكون عنده كاتمة للسر محتملة للأمر وأن تحفظ وقت طعامه ومهما علمت أن يشتهيه اصطنعته بطلاقة وجه وبشر وان لا تكلفه حاجة ثقيلة وان لا تكون لجوجة وان تستر نفسها عند منامها وان تحفظ سر زوجها في غيبته وحضوره. قال صاحب الكتاب وواجب على الرجال أن يؤدوا حق النساء العورات وأن يتحفظوا بهن من وجه الرحم والإحسان والمدارة ومن أحب أن يكون مشفقاً على زوجته رحيماً لها فليذكر عشرة أشياء من أحوالها لينصفها بها. أولها أ المرأة لا تقدر أن تطلقه بغير اذن وهو قادر على ذلك متى شاء، وانها لا تقدر ان تأخذ شيئاً بغير اذنه وهو يقدر على ذلك، وانها ما دامت في حباله لا تقدر على زوج سواه وهو يقدر على الزواج عليها، وانها لا يجوز لها أن تخرج من البيت بغير إذنه وهو يجوز له ذلك، وانها لا يمكنها ان تعزي وهو يمكنه ذلك، وانها تخاف منه وهو لا يخافها، وأنها تفارق أمها وأباها وجميع أقاربها، وإنها تخدمه دائماً وهو لايخدمها دائماً، وإنها تتلف نفسها إذا كان مريضاً وهو لايغتم لو ماتت. فلهذه الوجوه التي ذكرناها يجب على العقلاء أن يكونوا رحماء على النساء ولا يظلمونهن ولا يجوروا عليهن فإن المرأة أسير الرجل ويجب على الرجال مداراة النساء لنقص عقولهن وبسبب نقص عقولهن لا يجوز لأحد أن يتدبر برأيهن ولا يتلفت إلى أقوالهن ومن اعتمد على آرائهن ودبر نفسه بمشورتهن كان كما جاء في الحكاية. حكاية: يقال أن خسرو بن أبرويز كان يحب أكل السمك فكان يوماً جالساً وشيرين معه فجاء الصياد ومعه سمكة كبيرة فأهداها لخسرو ووضعها بين يديه فأعجبته فأمر له بأربعة آلاف درهم فقالت شيرين بئس ما فعلت فقال ولم فقالت لأنك إذا أعطيت أحداً من حشمك بعد هذا مثل هذه العطية احتقرها وقال أعطاني مثل ما اعطى الصياد فقال الملك لقد صدقت ولكن يقبح بالملك استرجاع ما وهبه وقد فات ذلك الأمر فقالت شيرين أنا أدبر هذا الحال فقال وكيف ذاك فقالت تدعو الصياد وتقول له هذه السمكة ذكر أم أنثى فإن قال أنثى فقل إنما أردت ذكراً وان قال ذكر فقل إنما أردت أنثى فنودي الصياد وكان ذا ذكاء وفطنة فقال خسرو هذه السمكة ذكر أم أنثى فقبل الصياد الأرض وقال أدام الله إقبال الملك هذه السمكة خنثى لا ذكر ولا أنثى فضحك خسرو من كلامه وأمر له بأربعة آلاف درهم أخرى فمضى الصياد إلى الخازن وقبض منه ثمانية آلاف درهم ووضعها في جراب كان معه وحملها على كاهله وهم بالخروج فوقع من الجراب درهم واحد فوضع الصياد الجراب عن كاهله وانحنى على الدرهم والملك وشيرين ينظران إليه فقالت شيرين لخسروا أرايت إلى خسة هذا الصياد وسفالته سقط منه درهم واحد فألقى عن عنقه ثمانية آلاف درهم وانحنى على ذلك الدرهم فأخذه ولم يسهل عليه أن يتركه فكان يأخذه بعض غلمان الملك فحرد خسرو من ذلك ثم أعاد الصياد إليه وقال له يا ساقط الهمة ألست بإنسان وضعت مثل هذا المال عن عنقك لأجل درهم واحد وأسفت أن تتركه فكان يتبلغ به بعض الصعاليك فقبل الصياد الأرض وقال أطال الله إقبال الملك لم أرفع ذلك الدرهم لخطره عندي وإنما رفعته عن الأرض لأن على أحد وجهيه اسم الملك وعلى وجهه الآخر صورته فخشيت أن يجيء أحد بغير علم فيضع قدمه عليه فيكون ذلك استخفافاً باسم الملك وصورته فاكون أنا المأخوذ بهذا الذنب فعجب خسرو من كلامه وأمر له بأربعة آلاف درهم أخرى فعاد الصياد ومعه اثنا عشر ألف درهم وأمر خسرو منادياً ينادي لا يتدبر أحد برأي النساء فإن من تدبر بآرائهن أو ائتمر بمشورتهن خسر درهمه درهمين.
قال صاحب الكتاب رضي الله عنه عمارة الدنيا وتناسل بني آدم بالنساء والعمارة لا تصح بغير رأي وتدبير وقيل شاورهن وخالفوهن ويجب على الرجل الفاضل المتيقظ أن يحتاط في خطبة النساء وطلبهن وليزوج البنت لا سيما إذا بلغت لئلا يقع في الغدر والعيب ومرض الروح وتعب القلب. وعلى الحقيقة كلما ينال الرجل من البلاء الهلاك والمحن فبسبب النساء كما قال الشاعر: مِن فِتنَةِ النِسوانِ قَد يَعصِى الَفتَى الر اللصُ لـولاهِـن لَـم يك بَـائِعـاً مِنُـهـن قَـرَعَ آدَمُ مـعَ يُوسِـفُ وكذاَك هَارُوت بِبَابِـلِ مُـنَـكَـسُ مَجنُونُ عَامِرِ هَامَ مِن أجلِ النِـسَـا كُل البلا منِـهُـن يأتِـي والـوفَـا
==================================

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

البرص و العميان-أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ

البرص و العميان-أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ  المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله عليه محمد وسلم وهب الله لك حسن الاستماع وأشعر ...