Translate

السبت، 19 فبراير 2022

3-الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الثاني/فصل في المرسل+المجلد الأول/الجزء الثاني/فصل في أقسام السنن +المجلد الأول/الجزء الثاني/فصل في خلاف الصاحب للرواية وتعلل أهل الباطل بذلك+{المجلد الأول/الجزء الثاني/فصل في حكم العدل }



ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الثاني/فصل في المرسل
قال أبو محمد: المرسل من الحديث، هو الذي سقط بين أحد رواته وبين النبي ﷺ ناقل واحد فصاعداً، وهو المنقطع أيضاً.
وهو غير مقبول، ولا تقوم به حجة لأنه عن مجهول، وقد قدمنا أن من جهلنا حاله ففرض علينا التوقف عن قبول خبره، وعن قبول شهادته حتى نعلم حاله، وسواء قال الراوي العدل حدثنا الثقة أو لم يقل، لا يجب أن يلتفت إلى ذلك. إذ قد يكون عنده ثقة من لا يعلم من جرحته ما يعلم غيره، وقد قدمنا أن الجرح أولى من التعديل، وقد وثق سفيان جابراً الجعفي، وجابر من الكذب والفسق والشر والخروج عن الإسلام بحيث قد عرف، ولكن خفي أمره على سفيان فقال بما ظهر منه إليه، ومرسل سعيد بن المسيب، ومرسل الحسن البصري، وغيرهما سواء، لا يؤخذ منه بشيء، وقد ادعى بعض من لا يحصل ما يقول، أن الحسن البصري كان إذا حدَّثه بالحديث أربعة من الصحابة أرسله.
قال: فهو أقوى من المسند.
قال أبو محمد: وقائل هذا القول اترك خلق الله لمرسل الحسن، وحسبك بالمرء سقوطاً أن يضعف قولاً يعتقده ويعمل به، ويقوي قولاً يتركه ويرفضه، وقد توجه عن رسول الله ﷺ رجل إلى قوم ممن يجاور المدينة فأخبرهم أن رسول الله ﷺ أمره أن يعرس بامرأة منهم، فأرسلوا إلى النبي ﷺ من أخبره بذلك فوجه رسول الله ﷺ إليه رسولاً وأمر بقتله إن وجده حياً، فوجده قد مات.
فهذا كما ترى قد كذب على النبي ﷺ وهو حي، وقد كان في عصر الصحابة رضي الله عنهم منافقون ومرتدون.
فلا يقبل حديث قال راويه فيه عن رجل من الصحابة، أو حدثني من صحب رسول الله إلا حتى يسميه، ويكون معلوماً بالصحبة الفاضلة ممن شهد الله تعالى لهم بالفضل والحسنى. قال الله عز وجل: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ } وقد ارتد قوم ممن صحب النبي ﷺ عن الإسلام كعيينة بن حصن، والأشعث بن قيس، والرجال، وعبد الله بن أبي سرح.
قال علي: ولقاء التابع لرجل من أصاغر الصحابة شرف وفخر عظيم، فلأي معنى يسكت عن تسميته لو كان ممن حمدت صحبته، ولا يخلو سكوته عنه من أحد وجهين: إما أنه لا يعرف من هو، ولا عرف صحة دعواه الصحبة، أو لأنه كان من بعض ما ذكرنا.
حدثنا عبد الله بن يوسف، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم بن الحجاج، ثنا يحيى بن يحيى، حدثنا خالد بن عبد الله ، عن عبد الملك، عن عبد الله مولى أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، وكان خالد ولد عطاء قال: أرسلتني أسماء إلى عبد الله بن عمر فقالت: بلغني أنك تحرم أشياء ثلاثة: العلم في الثوب، ومِيثَرة الأرجوان، وصوم رجب كله، فأنكر ابن عمر أن يكون حرّم شيئاً من ذلك. فهذه أسماء وهي صحابية، من قدماء الصحابة وذوات الفضل منهم، قد حدثها بالكذب من شغل بالها حديثه عن ابن عمر حتى استبرأت ذلك، فصح كذب ذلك المخبر، وقد ذكر عن ابن سيرين في أمر طلاق ابن عمر امرأته على عهد رسول الله نحو ذلك، فواجب على كل أحد ألا يقبل إلا من عرف اسمه، وعرفت عدالته وحفظه.
قال أبو محمد: والمخالفون لنا في قبول المرسل هم أصحاب أبي حنيفة، وأصحاب مالك، وهم أترك خلق الله للمرسل إذا خالف مذهب صاحبهم ورأيه، وقد ترك مالك حديث أبي العالية في الوضوء من الضحك في الصلاة، ولم يعيبوه إلا بالإرسال، وأبو العالية قد أدرك الصحابة رضي الله عنهم، وقد رواه أيضاً الحسن وإبراهيم النخعي والزهري مرسلاً، وتركوا حديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه أن النبي ﷺ صلَّى في مرضه الذي مات فيه بالناس جالساً والناس قيام، وترك مالك وأصحابه الحديث المروي من طريق الليث، عن عقيل بن خالد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب والقاسم وسالم وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أن النبي فرض زكاة الفطر مُدَّين من بُرَ على كل إنسان، مكان صاع من شعير، وذكر سعيد بن المسيب أن ذلك كان من عمل الناس أيام أبي بكر وعمر، وذكر غيره أنه حكم عثمان أيضاً وابن عباس، وذكر ابن عمر أنه عمل الناس، فهؤلاء فقهاء المدينة رووا هذا الحديث مرسلاً، وأنه صحبه العمل عندهم، فترك ذلك أصحاب مالك. فأين اتباعهم المرسل وتصحيحهم إياه؟ وأين اتباعهم رواية أهل المدينة وعمل الأئمة بها؟.
وترك الحنفيون حديث سعيد بن المسيب، عن النبي في ألا يباع الحيوان باللحم، وهو أيضاً فعل أبي بكر الصديق رضوان الله عليه، ومثل هذا كثير جداً، ولو تتبعنا ما تركت كلتا الطائفتين لبلغت أزيد من ألفي حديث بلا شك، وسنجمع من ذلك ما تيسر إن شاء الله تعالى في كتاب مفرد لذلك إن أعان الله تعالى بقوة من عنده، وأمد بفسحة من العمر.
فإنما أوقعهم في الأخذ بالمرسل، أنهم تعلقوا بأحاديث مرسلات في بعض مسائلهم فقالوا فيها بالأخذ بالمرسل، ثم تركوه في غير تلك المسائل، وإنما غرض القوم نصر المسألة الحاضرة بما أمكن من باطل أو حق، ولا يبالون بأن يهدموا بذلك ألف مسألة لهم، ثم لا يبالون بعد ذلك بإبطال ما صححوه في هذه المسألة إذا أخذوا في الكلام في أخرى، وسنبين من ذلك كثيراً إن شاء الله تعالى.
ونحن ذاكرون من عيب المرسل ما فيه كفاية لمن نصح نفسه إن شاء الله تعالى.
أخبرني أحمد بن عمر العذري/ حدثنا أبو ذر عبد بن أحمد الهروي، ثنا زاهر بن أحمد أبو علي السرخسي الفقيه، ثنا زنجويه بن محمد النيسابوري، ثنا محمد بن إسماعيل البخاري هو مؤلف الصحيح ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد عن النعمان بن راشد، عن زيد بن أبي أنيسة: أن رجلاً أجنب فغسل فمات، فقال النبي ﷺ : «لَو يَمَّمُوهُ، قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ الله» .
قال النعمان: فحدثت به الزهري فرأيته بعد يروي عن النبي ﷺ فقلت: من حدثك؟ قال: أنت حدثتني ، عمن تحدثه؟ قلت: عن رجل من أهل الكوفة، قال: أفسدته، في حديث أهل الكوفة دغل كثير. وبالاستناد المتقدم إلى البخاري قال: قال معاذ، عن أشعث، عن ابن سيرين، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة كان النبي ﷺ لا يصلي في شعرنا. قال البخاري: ثنا سليمان بن حرب، ثنا حماد بن زيد، عن سعيد بن أبي صدقة، قلت لمحمد بن سيرين: ممن سمعت هذا الحديث؟ قال سمعته من زمان لا أدري ممن سمعته، ولا أدري أثبت أم لا، فسلوا عنه. وفيما كتب إلي به يوسف بن عبد الله النمري قال: قال يحيى بن سعيد القطان: مالك عن سعيد بن المسيب أحب إليَّ من الثوري عن إبراهيم. لو كان شيخ الثوري فيه رمق لبرح به وصاح وقال مرة أخرى: كلاهما عندي شبه الريح.
قال أبو محمد: فإذا كان الزهري، ومحمد بن سيرين، وسفيان ومالك وهم من هم في التحفظ والحفظ والثقة، في مراسليهم ما ترى، فما أحد ينصح نفسه يثق بمرسل أصلاً، ولو جمعنا بلايا المراسيل لاجتمع من ذلك جزء ضخم وفي هذا دليل على ما سواه، وبالله تعالى التوفيق.
==============
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الثاني/فصل في أقسام السنن
قال أبو محمد: السنن تنقسم ثلاثة أقسام:
قول من النبي ﷺ
أو فعل منه ﷺ
أو شيء رآه وعلمه فأقر عليه ولم ينكره .
فحكم أوامره ﷺ الفرض والوجوب على ما نبينه إن شاء الله عز وجل في باب الأوامر من هذا الكتاب ما لم يقم دليل على خروجه من باب الوجوب إلى باب الندب ، أو سائر وجوه الأوامر وحكم فعله ﷺ الائتساء به فيه، وليس واجباً إلا أن يكون تنفيذاً لحكم، أو بياناً لأمر على ما يقع في باب الكلام في أفعاله ﷺ من هذا الكتاب، وأما إقراره ﷺ على ما علم وترك إنكاره إياه، فإنما هو مبيح لذلك الشيء فقط، وغير موجب له، ولا نادب إليه، لأن الله عز وجل افترض عليه التبليغ وأخبره أنه يعصمه من الناس وأوجب عليه أن يبين للناس ما نزل إليهم فمن ادعى أنه ﷺ علم منكراً فلم ينكره، فقد كفر لأنه جحد أن يكون عليه السلام بلغ كما أمر، ووصفه بغير ما وصفه به ربه تعالى ، وكذبه في قوله ﷺ : «اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ» فقال الناس: نعم، فقال: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ» قال ذلك في حجة الوداع.
فإن اعترض معترض بحديث جابر أنه سمع عمر رضوان الله عليهما يحلف بحضرة النبي ﷺ على أن ابن صياد هو الدجال فلم ينكر ذلك رسول الله ﷺ فلا حجة علينا في هذا، لأن ابن صياد في أول أمره كان رسول الله ﷺ شاكاً في أمره، أهو الدجال أم لا ؟
بذلك جاءت الأحاديث الصحاح ويبين ذلك قول عمر فيه: دعني يا رسول الله ﷺ أضرب عنقه، فقال ﷺ : «إِنْ يَكُنْ هُوَ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ» أو نحو ذلك من الكلام، فحلف عمر على تقديره ومن حلف على ما لا يعلم ولا يوقن أنه باطل ولا حق فليس هو عندنا حانثاً ولا آثماً، إذا كان تقديره أنه كما حلف عليه، فهذا الحديث حجة لنا، وليس فيه أيضاً أن النبي ﷺ صدق يمينه فإنا في الحديث أن أمر ابن صياد كان حينئذ ممكناً، والحالف على الممكن كما ذكرنا لم يأت منكراً، فيلزم رسول الله ﷺ تغييره.
قال أبو محمد: وأما من قال: إن أفعاله ﷺ على الوجوب، فقوله ساقط ، لأن الله تعالى لم يوجب علينا قط في شيء من القرآن والسنن أن نفعل مثل فعله ﷺ بل قال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً }
وإنما أنكر ﷺ على تنزه أن يفعل مثل فعله ﷺ وهذا هو غاية المنكر كمن تنزه عن التقبيل في رمضان نهاراً وهو صائم، أو تنزه أن يمشي حافياً حاسراً زارياً على من فعل ذلك، وأما من ترك أن يفعل مثل فعله ﷺ لا عن رغبة عنه فما أنكر ذلك رسول الله ﷺ قط، وهذا التارك للائتساء به غير راغب عن ذلك لا محسن ولا مسيء ولا مأجور ولا آثم، والمؤتسي به ﷺ محسن مأجور والراغب عن الائتساء به بعد قيام الحجة عليه إن كان زارياً على محمد ﷺ فهو كافر، وما نعلم لمن صحح عنه فعلاً ثم رغب عنه وجهاً ينجو به من الشرك، إلا أن يتعلق بفعل له ﷺ آخر، أو بأمر له آخر أو يكون لم يصح عنده ذلك الأمر الذي رغب عنه، فإن تعلق بأنه خصوص له ، فهو أحد الكاذبين الفساق، ما لم يأت على دعواه بدليل من نص أو إجماع.
قال أبو محمد: وأما من ادعى أن أفعال رسول الله ﷺ فرض علينا أن نفعل مثلها فقد أغفل جداً، وأتى بما لا برهان له على صحته، وما كان هكذا فهو دعوى كاذبة، لأن الأصل ألا يلزمنا حكم حتى يأتي نص قرآن أو نص سنة بإيجابه، وأيضاً فإنه قول يؤدي إلى ما لا يفعل، ولزمه أن يوجب على كل مسلم أن يسكن حيث سكن رسول الله ﷺ ، وأن يجعل رجليه حيث جعلهما ﷺ وأن يصلي حيث صلى ﷺ وأن يصوم فرضاً الأيام التي كان يصومها ﷺ ، وأن يجلس حيث جلس، وأن يتحرك مثل كل حركة تحركها ﷺ ، وأن يحرم الأكل متكئاً وعلى خوان والشبع من خبز البر مأدوماً ثلاثاً تباعاً ، وأن يوجب فرضاً أكل الدُّبَّاء ويتتبعها وهذا ما لا يوجبه مسلم ، مع أن هذا يخرج إلى المحال، وإلى إرجاع ما لا سبيل إلى إرجاعه مما قد فات وبطل بالأكل والشرب منه ﷺ .
فبطل بما ذكرنا أن تكون أفعاله ﷺ واجبة علينا، إذ لم يأت على ذلك دليل، بل قد قام الدليل والبرهان على أن ذلك غير واجب بالآية التي ذكرنا، وكل من له أقل علم باللغة العربية فإنه يعلم أن ما قيل فيه: «هذا لك» أنه غير واجب قبوله، بل مباح له تركه إن أحب كالمواريث وكل ما خيرنا فيه، وأن ما جاء بلفظ: «عليك كذا» فهذا هو الملزم لنا، ولا بد فلما قال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } كنا مندوبين إلى ذلك، وكنا مباحاً لنا ألا نأتسي غير راغبين عن الائتساء به، لكن عالمين أن الذي تركنا أفضل والذي فعلنا مباح كجلوس الإنسان وتركه أن يصلي تطوعاً، فليس آثماً بذلك ولو صلى تطوعاً لكان أفضل إلا أن يكون ترك التطوع راغباً عنها في الوقت المباح فيه التطوع، فهذا خارج عن الإسلام بلا خلاف، لأنه شارع شريعة لم يأت بها إذن.
قال أبو محمد: وإنما نازعنا في وجوب الأفعال بعض أصحاب مالك، على أنهم أترك خلق الله تعالى لأفعال رسول الله ﷺ ، فمن ذلك أنه ﷺ جلد في الخمر أربعين ، وهم يجلدون ثمانين وودى حضريّاً وهو عبد الله بن سهل ادعى قتله على حضريين وهم يهود خيبر بالإبل، فقالوا هم : لا يجوز ذلك ولا يودى إلا بالذهب أو الفضة. وصلى على قبر ، فقالوا هم: لا نفعل ذلك ، وصلى على غائب، فقالوا هم: لا نرى ذلك ، وقبّل وهو صائم. فقالوا هم: نكره ذلك، وصلى ﷺ حاملاً أمامة، فقالوا نكره ذلك، وصلى ﷺ جالساً والناس وراءه وأبو بكر إلى جنبه قائم.
فقالوا: لا يجوز ذلك، ومن صلى كذلك بطلت صلاته، في كثير جداً اقتصرنا منه على ما ذكرنا.
وبعضهم تعلق في هذه الأفعال بأنها خصوص له ﷺ ومن فعل ذلك فقد تعرض لغضب رسول الله ﷺ ، ومن تعرض لغضبه ﷺ فقد تعرض لغضب الله عز وجل، فقد غضب ﷺ غضباً شديداً حين سأله الأنصاري عن قُبْلة الصائم: فأخبر ﷺ أنه يفعل ذلك، فقال القائل: لست مثلنا يا رسول الله ﷺ ، أنت قد غفر لك ذنبك ، فغضب رسول الله ﷺ حينئذ غضباً شديداً وأنكر هذا القول، فمن أضل ممن تعرض لغضب الله عز وجل، وغضب رسوله ﷺ في تقليد إنسان لا ينفعه ولا يضره، ولا يغني عنه من الله تعالى شيئاً.
قال أبو محمد: واحتجوا في تخصيص القُبْلة للصائم بقول عائشة رضي الله عنها: وأيكم أملك لإربه من رسول الله ﷺ .
قال أبو محمد: وهذا القول منها، رضي الله عنها، أعظم الحجة عليهم، لأنها لم تقل ذلك على ما توهموا، وإنما قالته إنكاراً على من استعظم القُبْلة للصائم. فأخبرهم أنه ﷺ كان أورع منهم، وأملك لإربه، ولكنه مع ذلك لم يمتنع من التقبيل وهو صائم، فكيف أنتم.
ويدل على صحة هذا التأويل دليلان بينان:
أحدهما: أنها رضي الله عنها هكذا قالت في مباشرة الحائض أنه ﷺ كان يأمرها فتتزر ثم يباشرها، وأيكم أملك لإربه من رسول الله ﷺ ، فيلزمهم أن يتركوا إباحة مباشرة الحائض، لقول عائشة، وأيكم أملك لإربه كما قالت في قُبْلة الصائم سواء بسواء.
والثاني: أنهم رووا عنها أنها قالت لابن أخيها عبد الله بن عبد الرحمن وهو أشب ما كان: ألا تُقبِّل زوجتك وتلاعبها؟ تعني عائشة بنت طلحة وهي بنت أختها وأجمل جواري أهل زمانها قاطبة، فقال: إني صائم. فقالت لقد كان رسول الله ﷺ يقبِّل وهو صائم، فهي دأباً تحض الصائم الشاب على التقبيل للجارية الحسناء، اقتداء برسول الله ﷺ وائتساء به.
وهذا هو قولنا لا قولهم، ففعلوا ما ترى فيما أخبر ﷺ أنه عموم، وغضب على من ادعى أنه خصوص ، ثم أتوا إلى ما أخبر ﷺ أنه خصوص له دون سائر الناس ، وهو قتله بمكة من قتل الكفار، وخطب ﷺ الناس فنهاهم عن أن يسفك فيها أحد دماً، ثم لم يقنع ﷺ بذلك، حتى قال في خطبته تلك : «وإنْ أحدَ تَرَخَّصَ لقتالِ رسول الله فيها فَقُولوا: إِنَ الله أحَلَّهَا لنبيهِ ولمْ يُحِلَّها لَكُمْ، وإنما أحلّتْ لي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ عَادَتْ كَحُرْمَتِها بِالأمسِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ» أو كلاماً هذا معناه، فقالوا: هذا عموم وليس خصوصاً.
قال أبو محمد: فلو قيل لهؤلاء القوم اعكسوا الحقائق، ما زادوا على ما فعلوا، وأن هذا لعظائم لا ندري كيف استجاز من له أدنى ورع التقليد في مثل هذا، لمن قد أداه اجتهاده إلى الخطأ في ذلك، ممن قد بلغتهم الآثار، وقامت عليهم الحجة، وسقطت عنهم المعذرة، وإن الظن ليسوء جدّاً بمن هذا معتقده، ونعوذ بالله من كل حب رياسة تقود إلى مثل هذا، وبالله تعالى التوفيق.
قال أبو محمد: وإذا مدح الله تعالى أو رسوله ﷺ أحداً على فعل ما كان ذلك الفعل مندوباً إليه، مستحباً يؤجر فاعله ولا يؤجر تاركه ولا يأثم، وليس ذلك الشيء فرضاً لما قد أوردنا في الحجاج في أن الفرض ليس إلا ما جاء به الأمر فقط، وإن لم نؤمر به فمعفواً عنه، وأما ما ذمه الله تعالى فهو مكروه، وليس حراماً إلا بدليل، لما ذكرناه في المدح ولا فرق، وقد ذم الله تعالى الشح، وليس حراماً إذا أدى المرء فرائضه، ولكنه مذموم مكروه، وقد مدح الله تعالى المغتسلين بالماء للاستنجاء، وليس فرضاً، ومدح النبي ﷺ من لم يكتوا ولا استرقى، وليس كل ذلك حراماً، لكن إن قام دليل من أمر أو نهي على الشيء المذموم أو الممدوح صير فيه إلى دليل الأمر والنهي، وبالله تعالى التوفيق.
=============
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الثاني/فصل في خلاف الصاحب للرواية وتعلل أهل الباطل بذلك
فصل في خلاف الصاحب للرواية وتعلل أهل الباطل بذلكوفيما زعموا أن البلوى تكثر به فلا يقبل فيه إلا التواتر
قال أبو محمد: ووجدنا الصاحب من الصحابة رضي الله عنهم يبلغه الحديث فيتناول فيه تأويلاً يخرجه به عن ظاهره، ووجدناهم رضي الله عنهم يقرون ويعترفون بأنهم لم يبلغهم كثير من السنن، وهكذا الحديث المشهور عن أبي هريرة إن إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام على أموالهم .
وهكذا قال البراء: حدثنا محمد بن سعيد بن نبات، ثنا أحمد بن عون، ثنا قاسم بن أصبغ، ثنا محمد بن عبد السلام الخشني، ثنا محمد بن المثنى العنزي، ثنا أبو أحمد الزبيري وسفيان الثوري، عن أبي إسحاق السبيعي، عن البراء بن عازب قال: أما كل ما تحدثتموه سمعناه من رسول الله ﷺ ، ولكن حدثنا أصحابنا وكانت تشغلنا رعية الإبل. وهذا أبو بكر رضي الله عنه لم يعرف فرض ميراث الجدة، وعرفه محمد بن مسلمة، والمغيرة بن شعبة، وقد سأل أبو بكر رضي الله عنه عائشة في كم كفن رسول الله ﷺ .
وهذا عمر رضي الله عنه يقول في حديث الاستئذان : أخفي علي هذا من أمر رسول الله ﷺ ؛ ألهاني الصفق في الأسواق.
وقد جهل أيضاً أمر إملاص المرأة وعرفه غيره، وغضب على عيينة بن حصن حتى ذكره الحر بن قيس بن حصن بقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } وخفي عليه أمر رسول الله ﷺ بإجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب إلى آخر خلافته، وخفي على أبي بكر رضي الله عنه قبله أيضاً طول مدة خلافته، فلما بلغ ذلك عمر أمر بإجلائهم فلم يترك بها منهم أحداً. وخفي على عمر أيضاً أمره ﷺ بترك الإقدام على الوباء، وعرف ذلك عبد الرحمن بن عوف.
وسأل عمر أبا واقد الليثي عما كان يقرأ به رسول الله في صلاتي الفطر والأضحى.
وهذا وقد صلاهما رسول الله أعواماً كثيرة، ولم يدر ما يصنع بالمجوس، حتى ذكره عبد الرحمن بأمر رسول الله ﷺ فيهم، ونسي قبوله ﷺ الجزية من مجوس البحرين، وهو أمر مشهور، ولعله رضي الله عنه قد أخذ من ذلك المال حظاً كما أخذ غيره منه.
ونسي أمره ﷺ بأن يتيمم الجنب فقال: لا يتيمم أبداً ولا يصلي ما لم يجد الماء، وذكره بذلك عمار، وأراد قسمة مال الكعبة حتى احتج عليه أبيّ بن كعب بأن النبي ﷺ لم يفعل ذلك فأمسك، وكان يرد النساء اللواتي حضن ونفرن قبل أن يودعن البيت، حتى أخبر بأن رسول الله ﷺ أذن في ذلك، فأمسك عن ردهن، وكان يفاضل بين ديات الأصابع، حتى بلغه عن النبي ﷺ أمره بالمساواة بينها، فترك قوله وأخذ بالمساواة، وكان يرى الدية للعصبة فقط، حتى أخبره الضحاك بن سفيان بأن النبي ﷺ ورث المرأة من الدية فانصرف عمر إلى ذلك، ونهى عن المغالاة في مهور النساء استدلالاً بمهور النبي ﷺ حتى ذكرته امرأة بقول الله عز وجل: {وآتيتم إحداهن قنطارا} (النساء: 20) فرجع عن نهيه، وأراد رجم مجنونة حتى أعلم بقول رسول الله ﷺ : «رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاثَةٍ» فأمر ألا ترجم، وأمر برجم مولاة حاطب حتى ذكره عثمان بأن الجاهل لا حد عليه، فأمسك عن رجمها، وأنكر على حسان الإنشاد في المسجد، فأخبره هو وأبو هريرة أنه قد أنشد فيه بحضرة رسول الله ﷺ فسكت عمر.
وقد خفي على الأنصار وعلى المهاجرين كعثمان وعلي وطلحة والزبير وحفصة أم المؤمنين وجوب الغسل من الإيلاج إلا أن يكون أنزل، وهذا مما تكثر فيه البلوى، وخفي على عائشة، وأم حبيبة، أُمَّي المؤمنين: وابن عمر، وأبي هريرة، وأبي موسى. وزيد بن ثابت، وسعيد بن المسيب، وسائر الجلة من فقهاء المدينة وغيرهم نسخ الوضوء مما مست النار وكل هذا تعظم البلوى به وتعم، وهذا كله وما بعد هذا يبطل ما قاله من لا يبالي بكلامه من الحنفيين والمالكيين. إن الأمر إذا كان مما تعم البلوى به لم يقبل خبر الواحد.
والعجب أن كلتا الطائفتين قد قبلت أخباراً خالفها غيرهم تعم البلوى، كقبول الحنفيين الوضوء من الضحك، وجهله غيرهم وكقبول المالكيين اليمين مع الشاهد، وجهله غيرهم، ومثل هذا كثير جداً.
حدثنا محمد بن سعيد، ثنا أحمد به عبد النصير، حدثنا قاسم بن أصبغ، ثنا محمد بن عبد السلام الخشني، ثنا محمد بن المثنى، ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا صخر بن جويرية، حدثنا عامر بن عبد الله بن الزبير، أن عبد الرحمن بن الأسود أخبره قال: كنت جالساً مع أبي بعرفة وابن الزبير يخطب الناس ، فقال ابن الزبير: إن هذا يوم تكبير وتحميد وتهليل، فكبروا الله واحمدوه وهللوا، فقام أبي يجوس حتى انتهى إليه فأصغى إليه فقال: أشهد لسمعت عمر بن الخطاب على هذا المنبر يلبي، فقال ابن الزبير: لبيك اللهم لبيك وكان صيتاً.
قال أبو محمد: فقد خفي هذا كما ترى على ابن الزبير وغيره، وهو مشهور عن النبي ﷺ . وقد نهى عمر أن يسمى بأسماء الأنبياء، وهو يرى محمد بن مسلمة يغدو عليه ويروح وهو أحد الصحابة الجلة منهم، ويرى أبا أيوب الأنصاري، وأبا موسى الأشعري، وهما لا يعرفان إلا بكناهما من الصحابة، ويرى محمد بن أبي بكر الصديق، وقد ولد بحضرة رسول الله ﷺ وفي حجة الوداع، واستفتته أمه إذ ولدته ماذا تصنع في إحرامها وهي نفساء، وقد علم يقيناً أن النبي ﷺ علم بأسماء من ذكرنا وبكناهم بلا شك، وأقرهم عليها ودعاهم بها، ولم يغير شيئاً من ذلك ﷺ .
فلما أخبره طلحة وصهيب عن النبي ﷺ بإباحة ذلك، أمسك عن النهي عنه، وهم بترك الرَّمَل في الحج، ثم ذكر أن النبي ﷺ فعله.
فقال: لا يجب لنا أن نتركه.
وهذا عثمان رضي الله عنه، فقد رووا عنه أنه بعث إلى الفريعة أخت أبي سعيد الخدري يسألها عما أفتاها به رسول الله ﷺ في أمر عدتها، وأنه أخذ بذلك، وأمر برجم امرأة قد ولدت لستة أشهر، فذكره علي بالقرآن وأن الحمل قد يكون ستة أشهر، فرجع عن الأمر برجمها.
وهذا علي رضوان الله عليه: يعترف بأن كثيراً من الصحابة كانوا يحدثونه بما ليس عنده عن النبي ﷺ ، وأنه كان يستحلفهم على ذلك حاشا أبا بكر فإنه كان لا يستحلفه، وأن الله تعالى كان ينفعه بما شاء أن ينفعه مما سمع من ذلك مما لم يكن عنده قبل ذلك.
وهذا طلحة: يبيح الذهب بالفضة نسيئة، حتى ذكره عمر. وهذا ابن عمر وابن عباس: يبيعان الدرهم بالدرهمين، حتى ذكرا فأمسكا، ثم رواه ابن عمر عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ ، ذكره مسلم، فرجع ابن عمر إلى ذلك وترك رأيه ثم رواه ابن عمر فقال: هذا عهد نبينا ﷺ إلينا.
ذكره مالك عن حميد عن مجاهد عن ابن عمر، وصدق ابن عمر، ونحن نقول في حديث النبي ﷺ إذا بلغنا: هذا عهد نبينا ﷺ إلينا فهكذا نحمل أمر جميع ما روي من رواية الصاحب للحديث ، ثم روي عنه مخالفته إياه أنه إنما أفتى بخلاف الحديث قبل أن يبلغه، فلما حدث بما بلغه، لا يحل أن يظن بالصاحب غير هذا، وهذا نص ما ذكرنا عن ابن عمر ببيان لا يخفى، وأنهم تأولوا فيما سمعوا من الحديث.
ومن حمل ذلك على غير ما قلنا فإنه يوقع الصاحب ولا محالة تحت أمرين، وقد أعاذهم الله تعالى منهما، كلاهما ضلال وفسق، وهما إما المجاهرة بخلاف النبي ﷺ وهذا لا يحل لأحد، ولا يحل أن يظن بهم، وإما أن يكون عندهم علم أوجب عليهن مخالفة ما رووا فما هم في حل أن يكتموه عنا ويحدثوا بالمنسوخ، ويكتموا عنا الناسخ. وهذه الصفة كفر من فاعلها وتلبيس في الدين، ولا ينسب هذا إليهم إلا زائغ القلب أو جاهل أعمى القلب، فبطل ظنهم الفاسد، وصح قولنا والحمد لله رب العالمين.
ولا سبيل إلى وجه ثالث أصلاً إلا أن يكونوا نسوا حينئذ بعض ما قد رووه قبل ذلك فهذا ممكن أيضاً. فإن كانوا تأولوا فالتأويل منهم رضي الله عنهم ظن، وروايتهم على النبي يقين، ولا يحل لمسلم أن يترك اليقين للظن، فارتفع الإشكال جملة هذا الباب، والحمد لله رب العالمين.
وأما هم رضوان الله عليهم فمعذورون، لأنه اجتهاد منهم، مع أن ذلك منهم أيضاً قليل جداً، وليس كذلك من يقلدهم بعد أن نبه على ما ذكرناه.
وهذه عائشة وأبو هريرة رضي الله عنهما خفي عليهما المسح على الخفين، وعلى ابن عمر معهما، وعلمه جرير ولم يسلم إلا قبل موت النبي ﷺ بأشهر، وأقرت عائشة أنها لا علم لها به، وأمرت بسؤال من يرجى عنده علم ذلك وهو علي رضي الله عنه، وهذه حفصة أم المؤمنين سئلت عن الوطء يجنب فيه الواطىء، أفيه غسل أم لا؟ فقالت لا علم لي.
وهذا ابن عمر توقع أن يكون حدث نهي من النبي ﷺ عن كراء الأرض بعد أزيد من أربعين سنة من موت النبي ﷺ ، فأمسك عنها وأقر أنهم كانوا يكرونها على عهد أبي بكر وعمر وعثمان، ولم يقل إنه لا يمكن أن يخفى على هؤلاء ما يعرف رافع وجابر وأبو هريرة.
وهؤلاء إخواننا يقولون فيما اشتهوا : لو كان هذا حقّاً ما خفي على عمر. وقد خفي على زيد بن ثابت، وابن عمر، وجمهور أهل المدينة إباحة النبي ﷺ للحائض أن تنفر، حتى أعلمهم بذلك ابن عباس وأم سليم، فرجعوا عن قولهم: وخفي على ابن عمر الإقامة حتى يدفن الميت، حتى أخبره بذلك أبو هريرة وعائشة فقال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة، وقيل لابن عمر في اختياره متعة الحج على الإفراد: إنك تخالف أباك.
فقال: أكتاب الله أحق أن يتبع أم عمر ؟ روينا ذلك عنه من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر.
وخفي على عبد الله بن عمر الوضوء من مس الذكر، حتى أمرته بذلك عن النبي ﷺ بسرة بنت صفوان، فأخذ بذلك. وخفي على ابن عباس النهي عن المتعة، وعن تحريم الحمر الأهلية، حتى أعلمه بذلك علي رضي الله عنه.
وقال ابن عباس : ألا تخافون أن يخسف الله بكم الأرض، أقول لكم قال رسول الله وتقولون قال أبو بكر وعمر ، وهؤلاء الأنصار نسوا قوله ﷺ : «الأَئمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» ، وقد رواه أنس.
وقد روى عبادة بن الصامت ما يدل على ذلك وما كانوا يتركون اجتهادهم إلا لأمر بلغهم عن النبي ﷺ ، وهذا أبو هريرة يذكر أنهم كانوا رضوان الله عليهم تشغلهم أموالهم ومتاجرهم، وأنه هو كان يلازم رسول الله ويحضر ما لا يحضرون، وقد ذكرنا هذا الحديث في باب الإجماع في ديواننا هذا في فصل ترجمته : «إبطال قول من قال إن الجمهور إذا أجمعوا على قول وخالفهم واحد فإنه لا يلتفت إلى قوله» فأغنى ذكرنا إياه هنالك عن ترداده ههنا.
وإذا وجدنا الصاحب تخفى عليه السنة، أو تبلغه فيتأول فيها التأويلات كما فعلوا في تحريم الخمر، فإن البخاري روى أنهم اختلفوا فمن قائل: حرمت لأنها كانت تأكل العذرة، ومن قائل: لأنها لم تخمس. ومن قائل: إنه خشي فناء الظهر، وقال بعضهم: بل حينئذ حرمت البتة.
قال أبو محمد: وكل ذلك باطل إلا قول من قال: حرمت البتة، وقد جاء النص بتحريمها لعينها، ولأنها رجس، روى ذلك أنس.
فلما صح كل ما ذكرنا وبطل التقليد جملة، وجب أن يؤخذ برأي صاحب، وإن تعرى من مخالفة الخبر فكيف إذا استضاف إلى مخالفة الخبر .
وقد كتبنا في باب إبطال التقليد من هذا الكتاب ما أفتوا به رضوان الله عليهم، فأخبر ﷺ : أنه ليس كذلك .
قال أبو محمد: وكل ما تعلق به أهل اللواذ عن الحقائق عند غلبة الحيرة عليهم من مثل هذا وشبهه فهم أترك خلق الله تعالى له، وإنما تعلق بهذا أصحاب أبي حنيفة في خلافهم أمر النبي ﷺ : بغسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً فقالوا: قد روي أن أبا هريرة أفتى من رأيه بأن يغسل منه ثلاثاً، ثم تركوا قول أبي هريرة، وقول رسول الله ﷺ فخالفوا روايته التي لا يحل خلافها، ورأيه الذي احتجوا به، وأحدثوا ديناً حديثاً، فقالوا: لا يغسل إلا مرة واحدة، ونقدها هنا المالكيون أصولهم ووفقوا في ذلك فقالوا: يغسل سبعاً فأخذوا برواية أبي هريرة وتركوا رأيه ، وتعلقوا كلهم بذلك أيضاً في حديث ابن عباس وعائشة في الصوم عن الميت فقالوا: قد أفتى ابن عباس وعائشة بخلاف ذلك، فتناقض المالكيون والحنفيون ههنا، فأخذوا بقول ابن عباس وعائشة وتركوا روايتهما.
وأخذ المالكيون آنفاً برواية أبي هريرة، وتركوا قوله، ولا حجة للحنفيين في خلاف عائشة وابن عباس هذا الحديث، لأنه إن كان تركته عائشة، فقد رواه أيضاً بريدة الأسلمي، ولم يخالفه، وأما ابن عباس فالأصح عنه أنه أفتى بما رواه عنه محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، وليس بالقوي، وروى سعيد بن جبير خلاف ذلك وهو أصح.
وأما تعلقهم بأن عائشة رضي الله عنها خالفت في فتياها ما روت من الأمر بالصيام عن الميت، فأين هم عن طرد هذا الأصل الفاسد ؟
إذ روت عائشة رضي الله عنها أن الصلاة فرضت ركعتين، فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر، وكانت هي تتم في السفر، فأخذوا بروايتها وتركوا رأيها وعملها، وإذ روت التحريم بلبن العجل، ثم كانت لا تأخذ بذلك، ولا يدخل عليها من أرضعته نساء إخوتها، ويدخل عليها من أرضعته بنات أخواتها فتركوا رأيها، وأخذوا بروايتها، وإذ روت أن كل امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فخالفت ذلك وأنكحت بنت أخيها عبد الرحمن المنذر ابن الزبير وعبد الرحمن حي غائب غيبة قريبة بالشام بغير علمه ولا أمره، فأخذ المالكيون بروايتها وتركوا رأيها وعملها.
فإن قالوا: تأولت في كل هذا قلنا لهم : وهكذا تأولت في فتياها بألا يصام عن الميت، ولعل المرأة التي أفتت ألا يصام عنها كانت لا وليّ لها، فلم تر عائشة رضي الله عنها أن تخرج من ظاهر الحديث الذي روت في ذلك لأن نصه «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» .
وهكذا فعل المالكيون فيما روي عن عمر أنه رأى للمبتوتة السكنى والنفقة، وبلغه حديث فاطمة بنت قيس فلم يأخذ به، فخالف المالكيون رأي عمر، وأخذوا بنصف حديث فاطمة فلم يروا للمبتوتة نفقة، فخالفوا الحديث وعمر في النصف الثاني فرأوا لها السكنى.
وعمر قد قرأ الآية كما قرؤوها. وهكذا فعلوا في رواية ابن عباس في حديث: «حَدُّ المُكاتَبِ وَمِيرَاثُهُ وَدَيْنُه بِمِقْدَارِ مَا أَدَّى» فقالوا: خالفه ابن عباس فأفتى بغير ذلك، ولا حجة لهم في هذا لأن هذا الحديث قد رواه أيضاً علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأخذوا به وأفتي به.
فلم كان ترك ابن عباس للحديث حجة على عمل عليَ به ؟ وقد يحتمل ترك ابن عباس وغيره لما روي وجوهاً: منها أن يتأول فيه تأويلاً كما ذكرنا آنفاً، أو يكون نسيه جملة، أو يكون نسيه حين أفتى بهذه الفتيا المخالفة له كما ذكرنا آنفاً فيمن أفتى منهم بخلاف القرآن وهو ناس لما في حفظه من ذلك، أو يكون لم يكن يبلغه حين أفتى بما أفتى به ثم بلغه الحديث بعد ذلك، فإن هذه الوجوه كلها موجودة فيما روي عنهم، فلا يحل لأحد ترك كلامه ﷺ الفتيا جاءت عن صاحب فمن دونه مخالفة لما صح عنه ﷺ ، ولو تتبعنا ما تركوا فيه روايات الصحابة وأخذوا بفتياهم، وما تركوا فيه فتيا الصحابة وأخذوا برواياتهم، لكثر ذلك جداً، لأن القوم إنما حسبهم ما نصروا به المسألة التي بين أيديهم فقط، وإن هدموا بذلك سائر مسائلهم. وفيما ذكرنا كفاية.
وبالجملة فصرف الداخلة التي يعترضون بها على رواية الصاحب لما ترك برأيه أولى أن يكون إلى النقل لمخالفته لذلك منه إلى الرواية التي يلزم اتباعها.
وهذا باب قد عظم تناقضهم فيه، فهذا ابن عمر وأبو برزة هما رويا حديث: «البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» فحملاه على تفرق الأبدان، فخالفهما المالكيون والحنفيون فقالوا: التفرق بالكلام ولم يلتفوا إلى ما حمل عليه الحديث الصاحبان اللذان روياه. وهذا علي رضي الله عنه روى: «الصَّلاةُ تَحْرِيمُها التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُها التَّسْلِيمُ» ثم روي عنه تركه وأنه أفتى بأنه إذ وقع رأسه من السجود فقد تمت صلاته فخالفه المالكيون، ورأوا التسليم فرضاً لا بد منه.
وتناقضهم في الباب عظيم جداً.
======
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الثاني/فصل في حكم العدل
قال علي : وإذ علمنا أن الراوي العدل قد أدرك من روى عنه من العدول فهو على اللقاء والسماع، لأن شرط العدل القبول، والقبول يضاد تكذيبه في أن يسند إلى غيره ما لم يسمعه منه، إلا أن يقوم دليل على ذلك من فعله، وسواء قال حدثنا أو أنبأنا، أو قال عن فلان، أو قال: قال فلان، كل ذلك محمول على السماع منه ولو علمنا أن أحداً منهم يستجير التلبيس بذلك كان ساقط العدالة في حكم الناس، وحكم العدل الذي قد تبنت عدالته فهن على الورع والصدق لا على الفسق والتهمة وسوء الظن المحرم بالنص حتى يصح خلاف ذلك، ولا خلاف في هذه الجملة بين أحد من المسلمين، وإنما تناقض من تناقض في تفريع المسائل، وبالله التوفيق.
فصل فيما ادَّعاه قوم من تعارض النصوص
قال علي : إذا تعارض الحديثان، أو الآيتان، أو الآية والحديث، فيما يظن من لا يعلم، ففرض على كل مسلم استعمال كل ذلك، لأنه ليس بعض ذلك أولى بالاستعمال من بعض، ولا حديث بأوجب من حديث آخر مثله، ولا آية أولى بالطاعة لها من آية أخرى مثلها، وكل من عند الله عز وجل، وكل سواء في باب وجوب الطاعة والاستعمال ولا فرق.
حدثنا عبد الله بن ربيع التميمي قال أنبأنا محمد بن إسحاق بن السليم، وأحمد بن عون الله، قال: حدثنا ابن الأعرابي، قال حدثنا سليمان بن الأشعث السجستاني، حدثنا محمد بن عيسى، حدثنا أشعث بن شعبة، أنبأنا أرطاة بن المنذر، سمعت أبا الأحوص حكيم بن عمير يحدث عن العرباض بن سارية/ أنه حضر رسول الله ﷺ يخطب الناس وهو يقول: «أَيَحْسَبُ أَحَدُكُمْ مُتَّكِئاً عَلَى أَرِيكَتِهِ قَدْ يَظُنُّ أَنَّ الله تَعَالى لَمْ يُحَرِّمْ شَيْئاً إِلاَّ ما فِي القُرْآنِ أَلا وَإِنِّي وَالله قَدْ أَمَرْتُ وَوَعَظْتُ وَنَهَيْتُ عَنْ أَشْيَاءَ إِنها لَمِثْلِ القُرْآنِ» .
قال علي : صدق النبي هي مثل القرآن، ولا فرق في وجوب طاعة كل ذلك علينا. وقد صدق الله تعالى هذا القول إذ يقول: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } وهي أيضاً مثل القرآن في أن كل ذلك وحي من عند الله تعالى قال الله عز وجل: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } .
قال علي : ولا خلاف بين المسلمين في أنه لا فرق بين وجوب طاعة قول الله عز وجل: {وَأَقِيمُواْ الصَّـلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَـاةَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } وبين وجوب طاعة رسوله ﷺ في أمره: أن يصلي المقيم الظهر أربعاً، والمسافر ركعتين، وأنه ليس ما في القرآن من ذلك بأوجب ولا أثبت مما جاء من ذلك منقولاً نقلاً صحيحاً عن النبي ﷺ ، وإن كانوا قد اختلفوا في كيفية الطريق التي بها يصح النقل فقط.
قال علي : وقد روينا في هذا الحديث من بعض الطرق: «إِنَّها لَمِثْلُ القُرْآنِ وَأَكْثَرُ» .
قال علي : ولا نكرة في هذا اللفظ لأنه إنما أراد بذلك اللفظ أنها أكثر عدداً مما ذكر في القرآن، وهذا أمر تعلم صحته بالمشاهدة، لأن الفرائض الواردة في كلامه بياناً لأمر ربه تعالى أكثر من الفرائض الواردة في القرآن.
قال علي : فإذا ورد النصان كما ذكرنا، فلا يخلو ما يظن به التعارض منهما، وليس تعارضاً من أحد أربعة أوجه لا خامس لها، إما أن يكون أحدهما أقل معاني من الآخر، أو يكون أحدهما حاظراً والآخر مبيحاً، أو يكون أحدهما موجباً والثاني نافياً، فواجب ههنا أن يستثنى الأقل معاني من الأكثر معاني، وذلك مثل أمره عليه السلام ألا ينفر أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت، وأذن للحائض أن تنفر قبل أن تودع فوجب استثناء الحائض من جملة النافرين، وكذلك حديث نهي النبي عن الرطب بالتمر مع إباحة ذلك في العرايا فيها دون خمسة أوسق، ومثل أمر الله عز وجل بقطع (يد) السارق والسارقة جملة مع قوله ﷺ : «لا قَطْعَ إِلاَّ فِي رُبُعِ دِينارٍ فَصَاعِداً» فوجب استثناء سارق أقل من ربع دينار من القطع، وبقي سارق ما عدا ذلك على وجوب القطع عليه، وكذلك تحريمه تعالى أمهات الرضاعة، مع قوله : «لا تُحَرِّمَ الرَّضْعَةُ وَالرَّضْعَتَانِ» ونسخ العشر المحرمات بالخمس المحرمات، فوجب استثناء ما دون الخمس رضعات من التحريم، ويبقى الخمس فصاعداً على التحريم، ومثل قوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ الْمُشِرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } مع إباحته المحصنات من نساء أهل الكتاب بالزواج، فكن بذلك مستثنيات من جملة المشركات، وبقي سائر المشركات على التحريم، ومثل قوله ﷺ : «دِماؤُكُمْ وَأَمْوَالُكُمْ وَأَعْرَاضُكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» مع قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ } وأمر على لسان نبيه ﷺ بقتل من ارتد بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفساً، أو شرب خمراً بعد أن حُدَّ فيها ثلاثاً، وأباح قتل من سعى في الأرض فساداً، وأمر بأخذ أموال معروفة في الزكوات والنفقات والكفارات، وأمر بتغيير المنكر باليد، فكان كل ذلك مستثنى من جملة تحريم الدماء والأموال والأعراض، وبقي سائرها على التحريم.
فقد أرينا في هذه المسائل استثناء الأقل معاني من الأكثر معاني، وأرينا في ذلك إباحة من حظر، وحظراً من إباحة، وحديثاً من آية، وآية من حديث، وآية من آية، وحديثاً من حديث، ولا نبالي في هذا الوجه كما نعلم أي النصين ورد أولاً أو لم نعلم ذلك، وسواء كان الأكثر معاني ورد أولاً، أو ورد آخراً كل ذلك سواء، ولا يترك واحد منهما للآخر، لكن يستعملان معاً كما ذكرنا فهذا وجه.
والوجه الثاني أن يكون أحد النصين موجباً بعض ما أوجبه النص الآخر، أو حاظراً بعض ما حظره النص الآخر، فهذا يظنه قوم تعارضاً، وتحيروا في ذلك فأكثروا وخبطوا العشواء، وليس في شيء من ذلك تعارض.
وقد بينا غلطهم في هذا الكتاب في كلامنا في باب دليل الخطاب، وذلك قوله عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً }
وقال في موضع آخر: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } وقال ﷺ : «إِنَّ الله كَتَبَ الإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ» فكان أمره تعالى بالإحسان إلى الوالدين غير معارض للإحسان إلى سائر الناس وإلى البهائم المتمالكة والمقتولة، بل هو بعضه وداخل في جملته، ومثل نهيه ﷺ أن يزني أحدنا بحليلة جاره مع عموم قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً } فليس ذكره ﷺ امرأة الجار معارضاً لعموم النهي عن الزنى، بل هو بعضه. فغلط قوم في هذا الباب فظنوا قوله ﷺ في سائمة الغنم كذا، معارضاً لقوله ﷺ في مكان آخر: «في كُلِّ أَرْبَعِين شَاةٍ شَاةٍ» وليس كما ظنوا، بل الحديث الذي فيه ذكر السائمة هو بعض الحديث الآخر وداخل في عمومه، والزكاة واجبة في السائمة بالحديث الذي فيه ذكر السائمة وبالحديث الآخر معاً والزكاة واجبة في غير السائمة بالحديث الآخر خاصة.
وكذلك غلط قوم أيضاً فظنوا قوله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ } معارضاً لقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ } والآية الأولى بعض هذه وداخلة في جملتها كما قلنا في حديث السائمة ولا فرق.
وكذلك غلط قوم آخرون فظنوا قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } معارضاً لقوله تعالى: {يأَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } ولقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ }
وظن قوم أن قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً } معارضاً لقوله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
وليس كذلك على ما قدمنا قبل، لأنه ليس في شيء من النصوص التي ذكرنا نهي عما في الآخر، ليس في حديث السائمة نهي عن أن يزكي غير السائمة، ولا أمر بها فحكمها مطلوب من غير حديث السائمة، ولا في الأمر بتمتيع المطلقة غير المحسوسة نهي عن تمتيع الممسوسة، ولا أمر به فحكمها مطلوب من موضع آخر، ولا في إخباره تعالى بأن خلق الخيل لتركب وزينة نهي عن أكلها وبيعها، ولا إباحة لهما فحكمها مطلوب من مكان آخر، ولا في تحريمه تعالى الدم المسفوح إخباراً بأن ما عدا المسفوح حلال، بل هو كله حرام بالآية الأخرى، كما قلنا إنه ليس في أمره تعالى بالإحسان إلى الآباء نهي عن الإحسان إلى غيرهم، ولا أمر به، فحكم الإحسان إلى غير الآباء مطلوب من مكان آخر، ومن فرق بين شيء من هذا الباب فقد تحكم بلا دليل وتكلم بالباطل من غير علم ولا هدى من الله تعالى.
قال علي : فهذا وجه ثان.
والوجه الثالث : أن يكون أحد النصين فيه أمر بعمل ما، معلق بكيفية ما، أو بزمان ما، أو على شخص ما، أو في مكان ما، ويكون في النص الآخر نهي عن عمل ما، بكيفية ما، أو في زمان ما، أو مكان ما، أو عدد ما، أو عذر ما، ويكون في كل واحد من العملين المذكورين اللذين أمر بأحدهما ونهى عن الآخر شيء ما يمكن أن يستثنى من الآخر، وذلك بأن يكون على ما وصفنا في كل نص من النصين المذكورين حكمان فصاعداً، فيكون بعض ما ذكر في أحد النصين عاماً لبعض ما ذكر في النص الآخر، ولا شيء آخر معه، ويكون الحكم الثاني الذي في النص الثاني عامّاً أيضاً لبعض ما ذكر في هذا النص الآخر، ولا شيئاً آخر معه.
قال علي : وهذا من أدق ما يمكن أن يعترض أهل العلم من تأليف النصوص وأغمضه وأصعبه، ونحن نمثل من ذلك أمثلة تعين بحول الله وقوته على فهم هذا المكان اللطيف. وليعلم طالب العلم والحريص عليه وجه العمل في ذلك إن شاء الله عز وجل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وما وجدنا أحداً قبلنا شغل باله في هذا المكان بالشغل الذي يستحقه هذا الباب، فإن الغلط والتناقض فيه يكثر جداً إلا من سدَّده الله بمنّه ولطفه، لا إله إلا هو.
قال علي : فمن ذلك قول الله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّـنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } وقال ﷺ : «لا يَحِلُّ لامْرَأةٍ تُؤْمِنُ بِالله وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ إِلاَّ مَعَ زَوْجٍ أَوْ ذِي مَحْرَمٍ مِنْها» ففي الآية عموم الناس وإيجاب عمل خاص عليهم وهو السفر إلى مكان واحد نفسه بعينه من سائر الأماكن، وهو مكة أعزها الله، فاضبط هذا، وفي الحديث المذكور تخصيص بعض الناس وهم النساء، ونهيهن عن عمل عام وهو السفر جملة، لم يخص بذلك مكان دون مكان.
فاختلف الناس في كيفية استعمال هذين النصين.
فقالت طوائف منهم: معنى ذلك ولله على الناس حج البيت حاشا النساء اللواتي لا أزواج لهن ولا ذا محرم، فليس عليهم حج إذا سافرت إليه سفراً قدره كذا، فاستثنوا كما ترى النساء من الناس.
وقالت طوائف أخر: معنى ذلك لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخرأن تسافر إلا مع زوج أو ذي محرم، إلا أن يكون سفراً أمرت به كالحج أو ندبت إليه كالنظر في مالها، أو ألزمته كالتغريب، فإنها تسافر إليه دون زوج ودون ذي محرم، فاستثنوا كما ترى الأسفار الواجبة والمندوب إليها من جملة الأسفار المباحة كلها، وأبقوا على كل سفر مباح غير واجب ولا مندوب إليه على عموم التحريم على النساء إلا مع زوج أو ذي محرم.
قال علي : لم يكن بيد كل طائفة من الطائفتين اللتين ذكرنا، إلا وصفها ترتيب مذهبها في استعمال النصين المذكورين فليس أحدهما أولى من الثاني فلا بد من طلب الدليل على صحة أحد الاستثناءين، وابتغاء البرهان على الواجب منهما من مكان غيرهما.
قال علي : وأما نحن فإنما ملنا إلى استثناء الأسفار الواجبة والمندوب إليها من سائر الأسفار المباحة، وأوجبنا على المرأة السفر إلى الحج والعمرة الواجبتين، والتغريب، وأبحنا لها التطوع بالعمرة والحج، ومطالعة ما لها دون زوج ودون ذي محرم لقول رسول الله ﷺ : «البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ سَنَةٍ» ولقوله ﷺ : «لا تَمْنَعُوا إِمَاءِ الله مَسَاجِدَ الله» فجاء النص كما ترى في النساء بأنه لا يحل منعهن عن المساجد، ومكة من المساجد فكان هذا النص أقل معاني من حديث النهي عن سفر النساء جملة فوجب أن يكون مستثنى منه ضرورة، وخرجنا إلى القسم الذي ذكرنا أولاً، وإلا صار المانع لهن عاصياً لهذا الحديث، تاركاً له بلا دليل.
قال علي : وقد احتج للاستثناء الثاني بعض القائلين به بحديث فيه أنه ﷺ لما نهى عن أن تسافر المرأة إلا مع زوج أو ذي محرم قال له ﷺ رجل من الأنصار: يا رسول الله ﷺ إني اكتتبت في غزوة كذا، وإن امرأتي خرجت حاجة فقال ﷺ : «حُجَّ مَعَ امْرَأَتِكَ» .
قال علي : وهذا الحديث حجة عليهم لأنه ﷺ لم يلزمها الرجوع، ولا أوقع عليها النهي عن الحج، ولكنه ﷺ أمر زوجها بالحج معها، فكل زوج أبى من الحج مع امرأته فهو عاصٍ، ولا يسقط عنها لأجل معصيته فرض الحج، هذا نص الحديث الذي احتجوا به، وليس يفهم منه غير ذلك أصلاً، لأن الأمر في هذا الحديث متوجه إلى الزوج لا إلى المرأة.
قال علي : ومن هذا النوع أمره ﷺ بالإنصات للخطبة، وفي الصلاة، مع قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً } الآية: فنظرنا في النصين المذكورين فوجدنا الإنصات عامّاً لكل كلام، سلاماً كان أو غيره، ووجدنا ذلك في وقت خاص وهو وقت الخطبة والصلاة، ووجدنا في النص الثاني إيجاب ردّ السلام وهو بعض الكلام في كل حالة على العموم. فقال بعض العلماء: معنى ذلك أنصت إلا عن السلام الذي أمرت بإفشائه وردّه في الخطبة، وقال بعضهم: ردّ السلام وسلم إلا أن تكون منصتاً للخطبة أو في الصلاة.
قال علي : فليس أحد الاستثناءين أولى من الثاني، فلا بد من طلب الدليل من غير هذه الرتبة.
قال علي : وإنما صرنا إلى إيجاب السلام رد السلام وابتدائه في الخطبة دون الصلاة لأن الصلاة قد ورد فيها نص بيّن بأنه ﷺ ، سلم عليه فيها فلم يرد بعد أن كان يرد، وأنه سُئِلَ عن ذلك فقال ﷺ : «إِنَّ الله يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَإِنَّهُ أَحْدَثَ أَلاَّ تَكَلَّمُوا فِي الصَّلاةِ» أو كلاماً هذا معناه.
قال علي : وليس امتناع رد السلام في الصلاة موجباً ألا يرد أيضاً في الخطبة، لأن الخطبة ليست صلاة، ولم يلزم فيها استقبال القبلة ولا شيء مما يلزم في الصلاة، وأما الخطبة فإنا نظرنا في أمرها فوجدنا المعهود، والأصل إباحة الكلام جملة، ثم جاء النهي عن الكلام في الخطبة، وجاء الأمر برد السلام واجباً وإفشائه، فكان النهي عن الكلام زيادة على معهود الأصل، وشريعة واردة قد تيقنَّا لزومها، وكان ردّ السلام وإفشاؤه أقل معاني من النهي عن الكلام فوجب استثناؤه، فصرنا بهذا الترتيب الذي ذكرناه في القسم الأول آنفاً.
قال علي : ومن ذلك أمره ﷺ : من نام عن الصلاة أو نسيها أن يصليها إذا ذكرها، ونهيه عن الصلاة بعد العصر وبعد الصبح، وحين استواء الشمس، فقال بعض العلماء: معناه فليصلها إذا ذكرها إلا أن يكون وقتاً منهياً عن الصلاة فيها.
وقال آخرون: معناه لا تصلوا بعد العصر، ولا بعد الصبح ولا حين استواء الشمس، إلا أن تكون صلاة نمتم عنها أو نسيتموها أو أمرتم بها ندباً أو فرضاً أو تعودتموها.
قال علي : فليس أحد الاستثناءين أولى من الثاني إلا ببرهان من غيرهما، ولكن العمل في ذلك أن يطلب البرهان على أصح العملين المذكورين من نص آخر غيرهما، فإن لم يوجد صبر إلى الأخذ بالزيادة، وبالله التوفيق.
قال علي : ومن هذا قول الله تعالى : {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } ومع قوله تعالى لنا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }
فليس أحد النصين أولى بالاستثناء من الآخر، إلا بنص أو إجماع، لأنه جائز أن يقول قائل: معناه: كنتم خير أمة أخرجت للناس إلا بني إسرائيل الذين فضلهم الله على العالمين، وجائز أن يقول قائل معناه: أني فضلتكم على العالمين إلا أمة محمد ﷺ الذين هم خير أمة أخرجت للناس، فلا بد من ترجيح أحد الاستثناءين على الآخر ببرهان آخر وإلا فليس أحدهما أولى من الثاني.
قال علي : فنظرنا فوجدنا قوله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ }
وقد قام البرهان على أنه ليس على عمومه، لأن الملائكة أفضل منهم بيقين، فوقفنا على هذا، ثم نظرنا قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ }
ولم يأت نص ولا إجماع بأنه ليس على ظاهره، لأن الملائكة يدخلون في العالمين، وقد خرج من عموم ذلك الجن بالنصوص في ذلك، ولا يدخلون في الأمم المخرجة للناس، فلما كان هذا النص لم يأت نص آخر ولا إجماع بأنه ليس على عمومه لم يجز لأحد بأن يخصه، فإذا لم يجز تخصيصه فالفرض الحمل له على عمومه؛ فإذاً ذلك فرض، ولا بد من أن نخص أحد ذينك النصين من الآخر، ولم يجز تخصيص هذا، فقد وجب تخصيص الآخر ولا بد، إذ لا بد من تخصيص أحدهما، وهذا برهان ضروري صحيح من الخبر الثابت: بأن مثلنا مع من قبلنا كمن أجَّر أجراء فعملوا إلى نصف النهار بقيراط قيراط، ثم أجر آخرين فعملوا إلى العصر بقيراط قيراط، ثم أجرَّ آخرين فعملوا إلى الليل بقيراطين قيراطين قال ﷺ : «فأنتم أقل عملاً وأكثر أجراً» وبالله تعالى التوفيق.
قال علي : ونقول قطعاً إنه لا بد ضرورة في كل ما كان هكذا، من دليل قائم بين البرهان على الصحيح من الاستثناءين والحق من الاستعمالين، لأن الله تعالى قد تكفل بحفظ دينه فلو لم يكن ههنا دليل لائح، وبرهان واضح لكان ضمان الله تعالى خائساً، وهذا كفر ممن أجازه، فصح أنه لا بد من وجوده لمن يسرَّه الله تعالى لفهمه، وبالله تعالى التوفيق.
والوجه الرابع : أن يكون أحد النصين حاظراً لما أبيح في النص الآخر بأسره أي يكون أحدهما موجباً والآخر مسقطاً لما وجب في هذا النص بأسره.
قال علي : فالواجب في هذا النوع أن ننظر إلى النص الموافق لما كنا عليه لو لم يرد واحد منهما فنتركه ونأخذ بالآخر، لا يجوز غير هذا أصلاً وبرهان ذلك أننا على يقين من أننا قد كنا على ما في ذلك الحديث الموافق لمعهود الأصل، ثم لزمنا يقيناً للعمل بالأمر الوارد بخلاف ما كنا عليه بلا شك فقد صح عندنا يقيناً إخراجنا عما كنا عليه، ثم لم يصح عندنا نسخ ذلك الأمر الزائد الوارد بخلاف معهود الأصل، ولا يجوز لنا أن نترك يقيناً بشك، ولا أن نخالف الحقيقة للظن، وقد نهى الله تعالى عن ذلك فقال: {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً }
وقال: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } وقال تعالى ذامّاً لقوم قالوا حاكمين بظنهم: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } وقال رسول الله ﷺ : «فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الحَدِيثِ» .
ولا يحل أن يقال فيما صحّ وورد الأمر به هذا منسوخ إلا بيقين، ولا يحل أن يترك أمر قد تيقن وروده خوفاً أن يكون منسوخاً، ولا أن يقول قائل: لعله منسوخ، وكيف ونحن على يقين مقطوع به من أن المخالف لمعهود الأصل هو الناسخ بلا شك ولا مرية عند الله تعالى، برهان ذلك ما قد ذكرناه آنفاً من ضمان الله تعالى حفظ الشريعة والذكر المنزل، فلو جاز أن يكون ناسخ من الدين مشكلاً بمنسوخ، حتى لا يدرى الناسخ من المنسوخ أصلاً، لكان الدين غير محفوظ، والذكر مضيعاً قد تلفت الحامق فيه، وحاش لله من هذا وقد صح بيقين لا إشكال فيه، نسخ الموافق لمعهود الأصل من النصين الناقل عن تلك الحال إذ ورد ذلك النص، فهذا يقين الذي أمر الله تعالى به وأقرّه، وأقام الحجة به وأثبت البرهان وجوبه، ومدعي خلاف هذا كاذب مقطوع بكذبه إذ لا برهان له على دعواه، إلا الظن، والله تعالى يقول: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
فصح أن من لا برهان له على صحة قوله فليس صادقاً فيه أصلاً، وصح بهذا النص أن جميع دين الله تعالى، فإن البرهان قائم ظاهر فيه، وحرم القول بما عدا هذا، لأنه ظن من قائله بإقراره على نفسه، وقد حرم الله تعالى القول بالظن، وأخبر أنه خلاف الحق، وأنه أكذب الحديث، فوجب القطع على كذب الظن في الدين كله. وهذا أيضاً برهان واضح في إبطال القول بالقياس، والتعليل والاستحسان في جميع المسائل الجزئيات إلى الشريعة، وفي جملة القول بكل ذلك، لأن القول بكل ذلك ظن من قائله بلا شك، وبالله تعالى التوفيق.
ومن ذلك الحديث الوارد: في ألا يغتسل من الإكسال والحديث الوارد في الغسل منه، فإن ترك الغسل منه موافق لمعهود الأصل، إذ الأصل أن لا غسل على أحد إلا أن يأمره الله تعالى بذلك، فلما جاء الأمر بالغسل وإن لم ينزل، علمنا يقيناً أن هذا الأمر قد لزمنا، وأنه للحكم الأول بلا شك، ثم لا ندري، أنسخ بالحديث الذي فيه أن لا غسل على من أكسل أم لا، فلم يسعنا ترك ما أيقنا أننا أمرنا به إلا بيقين، ومن ذلك أمره ﷺ ألا يشرب أحد قائماً، وجاء حديث بأنه عليه السلام شرب قائماً، فقلنا نحن على يقين من أنه كان الأصل أن يشرب كل أحد كما شاء من قيام أو قعود أو اضطجاع، ثم جاء النهي عن الشرب قائماً، بلا شك، فكان مانعاً مما كنا عليه من الإباحة السالفة. ثم لا ندري أنسخ ذلك بالحديث الذي فيه إباحة الشرب قائماً أم لا ؟ فلم يحل لأحد ترك ما قد تيقن أنه أمر به خوفاً أن يكون منسوخاً.
قال علي: فإن صح النسخ بيقين صرنا إليه، ولم نبال زائداً كان على معهود الأصل أم موافقاً له، كما فعلنا في الوضوء مما مست النار، فإنه لولا أنه روى جابر: أنه كان آخر الأمرين من رسول الله ﷺ ترك الوضوء مما مست النار لأوجبنا الوضوء من كل ما مست النار، ولكن لما صح أنه منسوخ تركناه، وكذلك فعلنا في حديث أبي هريرة: «مَنْ أَدْرَكَهُ الصُّبْحُ جُنُباً فَقَدْ أَفْطَرَ» لأنه علمنا أنه موافق للحكم المنسوخ من ألا يأكل أحد ولا يشرب، ولا يطأ بعد أن ينام فنسخ ذلك بالإباحة بيقين، فصرنا إلى الناسخ. وكذلك أخذنا بالحديث الذي فيه إيجاب الوضوء من مس الفرج، لأنه زائد على ما في حديث طلق من إسقاط الوضوء منه، لأن حديث طلق موافق لمعهود الأصل.
وأما من تناقض فأخذ مرة بحديث قد ترك مثله في مكان آخر، وأخذ بضده فذو بنيان هار يوشك أن ينهار به في مخالفة ربه عز وجل في قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } .
قال علي: وإن أمدنا الله بعمر، وأيدنا بعون من عنده فسنجمع في النصوص التي ظاهرها التعارض كتباً كافية من غيرها إن شاء الله تعالى، ولا حول ولا قوة إلا به، فهذه الوجوه التي فيها بعض الغموض قد بيناها بتوفيق الله عز وجل، لا إله إلا هو.
قال علي: وها هنا وجه خامس، ظنه أهل الجهل تعارضاً ولا تعارض فيه أصلاً ولا إشكال، وذلك ورود حديث بحكم مَّا، في وجه ما وورود حديث آخر بحكم آخر في ذلك الوجه بعينه، فظنه قوم تعارضاً وليس كذلك، ولكنهما جميعاً مقبولان ومأخوذ بهما، ونحو ذلك ما روي عن النبي من طريق ابن مسعود: بالتطبيق في الركوع، وروي من طريق أبي حميد الأكف على الركب فهذا لا تعارض فيه، وكلا الأمرين جائز، أي ذلك فعله المرء حسن.
قال علي : إلا أن يأتي أمر بأحد الوجهين فيكون حينئذ مانعاً من الوجه الآخر، وقد جاء الأمر بوضع الأكف على الركب، فصار مانعاً من التطبيق على ما بينا من أخذ الزائد المتيقن في حال وروده، ومنعه ما كان مباحاً قبل ذلك، وقد وجدنا أمراً ثابتاً عن رسول الله بالأخذ بالركب، فخرج عن هذا الباب، وصح أن التطبيق منسوخ بيقين على ما جاء عن سعد «إنّا كنا نفعله ثم نهينا عنه، وأمرنا بالركب»
لكن من هذا الباب اغتساله بين وطئه المرأتين من نسائه رضي الله عنهن، وتركه الاغتسال بينهما حتى يغتسل من آخرهن غسلاً واحداً.
فهذا كله مباح، وهذا إنما هو في الأفعال منه ﷺ لا في الأوامر المتدافعة، ومثل ذلك ما روي عن نهيه ﷺ عن الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، مع قوله تعالى، وقد ذكر ما حرم من النساء. ثم قال تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } فكان نهي النبيِّ ﷺ مضافاً إلى ما نهى الله عنه في هذه الآية المذكورة، ومثل ما حرم الله تعالى على لسان نبيه من لحوم الحمر والسباع وذوات المخالب من الطير، مع قوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } الآية.
فكان ما حرمه الله تعالى على لسان نبيه مضافاً إلى ما في هذه الآية ومضموماً معه، وكذلك ما روي عن مسحه ﷺ برأسه ثلاثاً واثنتين وواحدة، وعلى ناصيته وعمامته، وعلى عمامته فقط كل ذلك مضموم بعضه إلى بعض، وشرائع لازمة كلها، وقد سقط ههنا قوم أساؤوا النظر جداً، فقالوا: إن ذكر بعض ما قلنا في نص ما، وعدمه في نص آخر، دليل على سقوطه.
قال علي : وهذا إقدام عظيم، وإسقاط لجميع الشرائع، ويجب عليهم من هذا أن كل شريعة لم تذكر في كل آية وفي كل حديث هي ساقطة وهذا كفر مجرد، لأنه لا فرق بين من قال لما قال الله تعالى: { وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } ولم يذكر الافتراق وقال ﷺ : «إِذَا اخْتَلَفَ المُتَبَايِعَانِ فَالقَوْلُ مَا قَالَ البَائِعُ أَوْ يَتَرَادَّانِ»
فلم يذكر الافتراق، دل ذلك على سقوط حكم الافتراق، وعلى تمام البيع دونه، فلا فرق بين هذا الكلام وبين من قال لما لم يذكر الله تعالى ورسوله ﷺ في الآية المذكورة النهي عن بيع الغرر، وعن الملامسة والمنابذة، وعن بيع الخمر والخنازير، وجب أن يكون كل ذلك مباحاً، ولما لم يذكر الله تعالى في قوله: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الآية.
إن العذرة حرام، وإن الخمر حرام، وجب أن يكون حلالاً، وهذا الكلام مع أنه كفر فهو ساقط جداً، لأنه لا يلزم تكرير كل شريعة في كل حديث، ولو لزم ذلك لبطلت جميع شرائع الدين أولها عن آخرها، لأنها غير مذكورة في كل آية ولا في كل حديث.
قال علي : ويبين صحة ما قلنا من أنه لا تعارض بين شيء من نصوص القرآن ونصوص كلام النبي ﷺ وما نقل من أفعاله قول الله عز وجل مخبراً عن رسوله ﷺ : {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } وقوله تعالى : {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً } وقال تعالى : {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } فأخبر عز وجل أن كلام نبيه ﷺ وحي من عنده، كالقرآن في أنه وحي، وفي أنه كل من عند الله عز وجل، وأخبرنا تعالى أنه راض عن أفعال نبيه ﷺ ، وأنه موفق لمراد ربه تعالى فيها لترغيبه عز وجل في الائتساء به ﷺ فلما صح أن كل ذلك من عند الله تعالى، ووجدناه تعالى قد أخبرنا أنه لا اختلاف فيما كان من عنده تعالى صح أنه لا تعارض ولا اختلاف في شيء من القرآن والحديث الصحيح، وأنه كله متفق كما قلنا ضرورة، وبطل مذهب من أراد ضرب الحديث بعضه ببعض، أو ضرب الحديث بالقرآن، وصح أن ليس شيء من كل ذلك مخالفاً لسائره، علمه من علمه، وجهله من جهله، إلا أن الذي ذكرنا من العمل هو القائم في بديهة العقل الذي يقود إليه مفهوم اللغة التي خوطبنا بها في القرآن والحديث، وبالله تعالى التوفيق، وكل ذلك كلفظة واحدة وخبر واحد موصول بعضه ببعض، ومضاف بعضه إلى بعض، ومبني بعضه على بعض، إما بعطف وإما باستثناء ، وهذان الوجهان نعني العطف والاستثناء يوجبان الأخذ بالزائد أبداً.
وقد بيّن ذلك رسول الله ﷺ في حلة عطارد إذ قال لعمر رضي الله عنه: «إِنَّما يَلْبَسُ هذِهِ مَنْ لا خلاقَ لَهُ» ثم بعث إلى عمر حلة سِيَرَاء فأتاه عمر فقال: يا رسول الله أبعثت إليَ هذه، وقد قلت في حلة عطارد ما قلت؟ فقال ﷺ : ﷺ وفي بعض الأحاديث: «إِنَّما بَعَثْتُها إِلَيْكَ لِتُصِيبَ بِها حَاجَتَكَ» أو كلاماً هذا معناه.
ففي هذا الحديث تعليم عظيم لاستعمال الأحاديث والنصوص والأخذ بها كلها، لأنه أباح ملك الحلة من الحرير وبيعها وهبتها وكسوتها النساء، وأمر عمر أن يستثني من ذلك اللباس المذكور في حديث النهي فقط، وألا يتعدى ما أمر إلى غيره، وألا تعارض بين أحكامه ﷺ.
قال علي : وفي هذا الحديث إبطال القياس، لأن عمر رضي الله عنه أراد أن يحمل الحكم الوارد في النهي عن اللباس على سائر وجوه الانتفاع به، فأخبره رسول الله ﷺ أن ذلك باطل، وفيه أيضاً أن حكمه ﷺ في عين مّا حكم على جميع نوع تلك العين، لأنه إنما وقع الكلام على حلة سيراء كان يبيعها عطارد، ثم أخبر ﷺ أن ذلك حكم جار في كل حلة حرير. وأخبر أن ذلك الحكم لا يتعدى إلى غير نوع اللباس، وهذا هو نص قولنا في عموم الحكم وإبطال القياس.
قال علي : وقد استعمل قوم بعض الوجوه الذي ذكرنا في غير موضعه، ونحن نوقف على ذلك ونرى منه طرفاً ليتنبه الطالب للعلم على سائره إذا ما ورد عليه إن شاء الله عز وجل، وما توفيقي إلا بالله. وذلك أننا قد قلنا باستعمال الحديثين إذا كان أحدهما أقل معاني من الآخر، بأن يستثنى الأقل من الأكثر، فيستعمل الأقل معاني على عمومه، ويستعمل الأكثر معاني حاشا ما أخرجنا منه بالاستثناء المذكور على ما بينا قبل فورد حديث النبي ﷺ فيه النهي عن استقبال القبلة واستدبارها لبول أو غائط، وورد حديث عن ابن عمر أنه أشرف على سطح فنظر إلى رسول الله ﷺ قاعداً لحاجته على لبنتين وهو مستدبر القبلة.
قال علي : فقال قوم: نستبيح استدبار القبلة واستقبالها في البنيان، ونمنع منه في الصحارى.
قال علي : وأخطؤوا من وجهين: أحدهما، تحكمهم في الفرق بين البنيان وغيره وليس في شيء من الحديثين نص ولا دليل على ذلك، بل وجدنا أبا أيوب الأنصاري وهو بعض رواة حديث النهي قد أنكر ذلك في البيوت، فلو عكس عاكس فقال: بل يستباح ذلك في الصحارى ولا يستباح في البنيان، هل كان يكون بينهم وبينه فرق ؟ ومثل هذا في دين الله تعالى لا يستسله ولا يتمادى عليه بعد أن يوقف عليه ذو ورع، لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }
مع آيات كثيرة تزجر عن ذلك وليس في حديث ابن عمر أن النبي ﷺ كان في بنيان، بل قد وصفت عائشة رضي الله عنها أنهم كانوا يأنفون من اتخاذ الكنف في البيوت، وأنهم كانوا يتبرزون خارج المنازل، والرواية الصحيحة أنه ﷺ كان إذا أراد أن يتبرز أبعد، وليس لأحد أن يقول: إن ابن عمر إذا أشرف من السطح رآه في بنيان إلا كان متكهناً فهذا وجه.
والوجه الثاني: أنه حتى لو صح أنه عليه السلام كان في بنيان فليس في ذلك الحديث إلا الاستدبار وحده، فبأي شيء استحلوا استقبال القبلة بالغائط، ولا نص عندهم فيه ؟
وليس إذا نسخ أو خص بعض ما ذكر في الحديث وجب أن ينسخ أو يترك سائره، فإن قالوا: بل يترك سائره كانوا متحكمين في الدين، ومسقطين لشرائع الله تعالى بلا دليل، وسنستوعب الكلام في هذا الفصل في باب الخصوص أو النسخ من كتابنا هذا إن شاء الله عز وجل.
ولزمهم أيضاً أن يقولوا: إن النبي ﷺ لما نهى عن مهر البغي وحلوان الكاهن وثمن الكلب وكسب الحجام، ثم أباح كسب الحجام، أن يستباح حلوان الكاهن ومهر البغي وثمن الكلب، لأن كل ذلك مذكور في حديث واحد، وإلا كانوا متناقضين.
قال علي : ووجه العمل في هذين الحديثين، هو الأخذ بالزائد، وقد كان الأصل بلا شك أن يجلس كل أحد لحاجته كما يشاء، فحديث ابن عمر موافق لما كان الناس عليه قبل ورود النهي ، ثم صار ذلك النهي رافعاً لتلك الإباحة بيقين، ولا يقين عندنا أنسخ شيء من ذلك النهي أم لا ؟ فحرام أن نترك يقيناً لشك، وأن نخالف حقيقة لظن، وليس لأحد أن يقول: إن حديث ابن عمر متأخر، إلا لكان لغيره، أن يقول بل حديث النهي هو المتأخر، لأنه قد رواه سليمان، وإسلامه في سنة الخندق، وأبو هريرة وإسلامه بعد انقضاء فتح خيبر، إلا أن النهي شريعة واردة رافعة لما كان الناس عليه من إباحة ذلك بيقين، ولا يقين عندنا في أن الإباحة عادت بعد ارتفاعها، ولو صحّ أن حديث ابن عمر كان متأخراً ما كان فيه إلا رفع النهي عن استدبار القبلة فقط، وليبق استقبالها على التحريم.
فصل في تمام الكلام في تعارض النصوص
قال علي : وذهب بعض أصحابنا إلى ترك الحديثين إذا كان أحدهما حاظراً والآخر مبيحاً، أو كان أحدهما موجباً والآخر مسقطاً. قال: فيرجع حينئذ إلى ما كنا نكون عليه لو لم يرد ذانك الحديثان.
قال علي : وهذا خطأ من جهات :
أحدها: أننا قد أيقنا أن الأحاديث لا تتعارض لما قد قدمنا من قوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } مع إخباره تعالى أن كل ما قال نبيه فإنه وحي فبطل أن يكون في شيء من النصوص تعارض أصلاً، وإذا بطل التعارض فقد بطل الحكم الذي يوجبه التعارض، إذ كل شيء بطل سببه فالمسبب من السبب الباطل باطل بضرورة الحس والمشاهدة.
والثاني: أنهم يتركون كلا الخبرين والحق في أحدهما بلا شك؛ فإذا تركوهما جميعاً فقد تركوا الحق يقيناً في أحدهما، ولا يحل لأحد أن يترك الحق اليقين أصلاً.
والثالث : أنهم لا يفعلون ذلك في الآيتين اللتين إحداهما حاظرة والأخرى مبيحة، أو إحداهما موجبة والثانية نافية، بل يأخذون بالحكم الزائد ويستثنون الأقل من الأكثر، وقد بينا فيما سلف أنه لا فرق بين وجوب ما جاء في القرآن، وبين وجوب ما جاء في كلام النبي ﷺ .
قال علي : كان حجتهم في ذلك أن قالوا إن أحد الخبرين ناسخ بلا شك، ولسنا نعلمه بعينه، فلما نعلمه لم يجز لنا أن نقدم عليه بغير علم فيدخل في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } .
قال علي : وهذه الحجة فاسدة من وجهين :
أحدهما: أنه يلزمهم مثل ذلك الآيتين وهم لا يفعلون ذلك.
والوجه الثاني: أنه لا يجوز أن يقال في خبر ولا آية: إن هذا منسوخ إلا بيقين.
قال علي : ويكفي من بطلان هذا الذي احتجوا به أننا على يقين من أن الحكم الزائد على معهود الأصل رافع لما كان الناس عليه قبل وروده، فهو الناسخ بلا شك، ونحن على شك من هل نسخ ذلك الحكم بحكم آخر يردنا إلى ما كنا عليه أو لا ؟ فحرام ترك اليقين للشكوك. وبالله تعالى التوفيق.
قال علي : وقد اضطرب خاطر أبي بكر محمد بن داود رحمه الله إلى ما ذهبنا إليه إلا أنه رحمه الله اخترم قبل إنعام النظر في ذلك، وذلك أنه قال في كتاب الوصول والعمل في الخبرين المتعارضين كالعمل في الآيتين ولا فرق.
قال علي : وقال بعض أهل القياس: نأخذ بأشبه الخبرين بالكتاب والسنة.
قال علي : وهذا باطل، لأنه ليس الذي ردوا إليه حكم هذين الخبرين أولى بأن يأخذ به من الخبرين المردودين إليه، بل النصوص كلها سواء في وجوب الأخذ بها، والطاعة لها، فإذ قد صح ذلك بيقين، فما الذي جعل بعضها مردوداً وبعضها مردوداً إليه، وما الذي أوجب أن يكون بعضها أصلاً وبعضها فرعاً، وبعضها حاكماً وبعضها محكوماً فيه ؟
فإن قال: الاختلاف الواقع في هذين هو الذي حطّ درجتهما إلى أن يعرضا على غيرهما.
قال علي: وهذه دعوى مفتقرة إلى برهان ، لأنه ليس الاختلاف موجباً لكونهما معروضين على غيرهما، لأن الاختلاف باطل، فظنهم أنه اختلاف ظن فاسد يكذبه قول الله عز وجل: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } فإذ قد أبطل الله تعالى الاختلاف الذي جعلوه سبباً لعرض الحديثين على سنة أخرى أو آية أخرى، فقد وجب ضرورة أن يبطل مسببه الذي هو العرض، وهذا برهان ضروري، وبالله تعالى التوفيق.
قال علي : وإذا كانت النصوص كلها سواء في باب وجوب الأخذ بها، فلا يجوز تقوية أحدها بالآخر، وإنما ذلك من باب طيب النفس، وهذا هو الاستحسان الباطل وقد أنكره بعضهم على بعض.
قال علي : وقد رجح بعض أصحاب القياس أحد الخبرين على الآخر بترجيحات فاسدة، نذكرها إن شاء الله تعالى، ونبين غلطهم فيها بحول الله تعالى وقوته. فمن ذلك أن قالوا: إن كان أحد الخبرين معمولاً به والآخر غير معمول به رجحنا بذلك الخبر المعمول به على غير المعمول به.
قال علي : وهذا باطل لما نذكره إن شاء الله تعالى بعد هذا في فصل فيه إبطال قوم من احتج بعمل أهل المدينة إلا أننا نقول ها هنا جملة: لا يخلو الخبر قبل أن يعمل به من أن يكون حقاً واجباً أو باطلاً، فإن كان حقاً واجباً لم يزده العمل به قوة، لأنه لا يمكن أن يكون حق أحق من حق آخر في أنه حق، وإن كان باطلاً فالباطل لا يحققه أن يعمل به.
قال علي : واحتج بعضهم في وجوب ترجيح أحد الخبرين على الآخر. فقال: كما نرجح إحدى البينتين على الأخرى إذا تعارضتا مرة بالقرعة ومرة باليد.
قال علي : وهذا هو عكس الخطأ على الخطأ ولسنا نساعدهم على ترجيح بينة على أخرى لا بيد ولا بقرعة، لأن ذلك لم يوجبه نص ولا إجماع. وأيضاً: فحتى لو صح ترجيح إحدى البينتين على الأخرى لما جاز ذلك في الحديثين، لأن هذا قياس والقياس باطل، وأيضاً فحتى لو صح ترجيح إحدى البينتين على الأخرى وكان القياس حقاً، لكان ترجيح الحديثين أحدهما على الآخر لا يجوز لأن الاختلاف في الحديثين باطل، والتعارض عنهما منفي بما ذكرنا من قوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } وبإخباره تعالى أن كلام نبيه وحي كله، وأما البينتان فالتعارض فيهما موجود، والاختلاف فيهما ممكن .
قال علي : وقالوا إن كان أحد الخبرين حاظراً والآخر مبيحاً فإنما نأخذ بالحاظر وندع المبيح.
قال علي : وهذا خطأ لأنه تحكم بلا برهان، ولو عكس عاكس فقال: بل نأخذ بالمبيح لقوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَـذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَـاةَ وَاعْتَصِمُواْ بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ }
ولقوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
ولقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً } أما كان يكون قوله أقوى من قولهم ؟
ولكنا لا نقول ذلك، بل نقول: إن كل أمر من الله تعالى لنا فهو يسر، وهو رفع الحرج، وهو التخفيف، ولا يسر ولا تخفيف ولا رفع حرج أعظم من شيء أدى إلى الجنة ونجى من جهنم، وسواء كان حظراً أو إباحة، ولو أنه قتل الأنفس والأبناء والآباء.
قال علي : ويبطل ما قالوا أيضاً بقوله ﷺ : «إِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» .
قال علي : فأوجب ﷺ من الفعل ما انتهت إليه الطاقة، ولم يفسح في ترك شيء منه إلا ما خرج عن الاستطاعة، ووقع العجز عنه فقط، وقد ظن قوم أن هذا الحديث مؤكد للنهي عن الأمر.
قال علي : وهذا ظن فاسد لأن الاجتناب ترك، والترك لا يعجز عنه أحد، وأما العمل فهو حركة لها كلفة أو إمساك عما تقتضيه الطبيعة من الأكل والشرب، وفي ذلك تكلف، وربما يعجز المرء عن كثير منه، فكلفنا من ذلك كل ما انتهى إليه الوسع، ولم يسقط عنا منه شيء إلا لم يكن بنا طاقة على فعله، هذا نص الحديث لمن تأمله ولم يحله عن مفهوم لفظه، فصح بذلك التسوية بين الأمر والنهي، وإيجاب الطاعة للحظر والإباحة على السواء، فليس الحاظر بأوكد من المبيح، ولا المبيح بأوكد من الحاظر.
قال علي : وقالوا: نرجح أيضاً بأن يكون راوي أحد الخبرين أضبط وأتقن.
قال علي : هذا أيضاً خطأ بما قد أبطلنا فيما سلف من هذا الباب قول من رام ترجيح الخبر بأن فلاناً أعدل من فلان، فأغنى ذلك عن إعادته، ولكنا نقول ههنا: إن هذا الذي الذي قالوا دعوى لا برهان عليها من نصّ ولا إجماع وما كان كذلك فهو ساقط.
قال علي : وقالوا نرجح أحد الخبرين بأن يكون رواه جماعة، وروى الآخر واحد.
قال علي : وقد أبطلنا هذا فيما سلف من هذا الباب بأن القائلين بذلك قد تركوا ظاهر القرآن الذي نقله أهل الأرض كلهم لخبر نقله واحد، ومثلنا ذلك بتحريمهم الجمع بين المرأة وعمتها، وقطعهم السارق في ربع دينار ولا يقطعونه في أقل، ويرجمون المحصن ومثل هذا كثير، وبيّنا فيما خلا أن خبر الواحد وخبر الجماعة سواء في باب وجوب العمل بهما، وفي القطع بأنهما حق ولا فرق.
وقالوا: نرجح أحد الخبرين بأن يكون أحدهما قصد به بيان الحكم، والآخر لم يقصد به الحكم، ومثلوا ذلك بالنهي عن جلود السباع مع قوله ﷺ : «إِذَا دُبِغَ الإِهَابُ فَقَدْ طَهُرَ» .
قال علي : أما هذا الترجيح فصحيح، لأن الحديث إذا لم يقصد به بيان الحكم فلا إشكال فيه في أنه خلاف الذي قصد به بيان الحكم، وأما الحديثان اللذان ذكروا فليسا واقعين تحت هذه الجملة التي ذكروا، بل كل واحد من الحديثين المذكورين فهو مقصود به بيان الحكم والتنظير الصحيح ههنا هو مثل أمره ، بأن يكفن المحرم إذا مات في ثوبيه، وألا يمس طيباً ولا يغطي وجهه ولا رأسه، فهذا قصد به بيان حكم العمل في تكفين المحرم، فهو أولى من منع من ذلك بما روي من قوله ﷺ : «إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاثٍ» لأن هذا الحديث لم يقصد به بيان حكم عملنا نحن فيمن مات من محرم أو غيره، وأيضاً فحديث النهي عن جلود السباع لا يصح، ولو صح لكانت إذ دبغت جلودها يجب أن تستثنى من سائر الجلود السبعية التي لم تدبغ ، لأن المدبوغة منها أقل من غير المدبوغة.
وقالوا: ونرجح أحد الخبرين بأن يكون راوي أحدهما باشر الأمر الذي حدث به بنفسه وراوي الآخر لم يباشره، فتكون رواية من باشر أولى، ومثلوا ذلك بالرواية عن ميمونة: نكحني رسول الله ﷺ ونحن حلالان.
وبالرواية عن ابن عباس: نكح رسول الله ﷺ ميمونة وهو محرم.
قال علي : وهذا ترجيح صحيح، لأنا قد تيقنا أن من لم يحضر الخبر إنما نقله غيره، ولا ندري عمن نقله، ولا تقوم الحجة بمجهول، ولا شك في أن كل أحد أعلم بما شاهد من أمر نفسه.
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الثاني
فصل في المرسل | فصل في أقسام السنن | فصل في خلاف الصاحب للرواية وتعلل أهل الباطل بذلك | فصل في حكم العدل | تتمة فصل في حكم العدل | فصل وقد يرد خبر مرسل إلا أن الإجماع صح بما فيه متيقناً | فصل أجاز بعض أصحابنا أن يرد الحديث الصحيح | فصل ليس كل قول الصحابي إسناداً | فصل في قوم لا يتقون الله فيما ينسب إلى النبي | فصل ليس كل من أدرك النبي ورآه صحابياً | فصل في حكم الخبر عن النبي | فصل في زيادة العدل | فصل في إبطال ترجيح الحديث بعمل أهل المدينة وإبطال الاحتجاج بعملـهم أيضاً | فصل فيه بيان سبب الاختلاف الواقع بين الأئمة في صدر هذه الأمة | فصل في فضل الإكثار من الرواية للسنن | فصل في صفة الرواية | فصل وقد تعلل قوم في أحاديث صحاح بأن قالواهذا حديث أسنده فلان وأرسله فلان
=========

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

البرص و العميان-أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ

البرص و العميان-أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ  المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله عليه محمد وسلم وهب الله لك حسن الاستماع وأشعر ...