ج7. الروض الأنف إسْلَامُ بَعْضِ بَنِي هَدَلٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ ثَعْلَبَةَ بْنَ سَعْيَةَ ، وَأُسَيْدَ بْنَ
سَعْيَةَ ، وَأَسَدَ بْنَ عُبَيْدٍ ، وَهُمْ نَفَرٌ مِنْ بَنِي هَدَلٍ لَيْسُوا
مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَلَا النّضِيرِ نَسَبُهُمْ فَوْقَ ذَلِكَ هُمْ بَنُو عَمّ
الْقَوْمِ أَسْلَمُوا تِلْكَ اللّيْلَةَ الّتِي نَزَلَتْ فِيهَا بَنُو قُرَيْظَةَ
عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
عَمْرُو بْنُ سُعْدَى
وَخَرَجَ فِي تِلْكَ اللّيْلَةِ عَمْرُو بْنُ سُعْدَى الْقُرَظِيّ ، فَمَرّ
بِحَرَسِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَعَلَيْهِ مُحَمّدُ بْنُ
مَسْلَمَةَ تِلْكَ اللّيْلَةَ فَلَمّا رَآهُ قَالَ مَنْ هَذَا ؟ قَالَ أَنَا
عَمْرُو بْنُ سُعْدَى - وَكَانَ عَمْرٌو قَدْ أَبَى أَنْ يَدْخُلَ مَعَ بَنِي
قُرَيْظَةَ فِي غَدْرِهِمْ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَقَالَ لَا أَغْدِرُ بِمُحَمّدِ أَبَدًا - فَقَالَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ
حِينَ عَرَفَهُ اللّهُمّ لَا تَحْرِمْنِي إقَالَةَ عَثَرَاتِ الْكِرَامِ ثُمّ
خَلّى سَبِيلَهُ . فَخَرَجَ عَلَى وَجْهِهِ حَتّى أَتَى بَابَ مَسْجِدِ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْمَدِينَةِ تِلْكَ اللّيْلَةَ ثُمّ
ذَهَبَ فَلَمْ يُدْرَ أَيْنَ تَوَجّهَ مِنْ الْأَرْضِ إلَى يَوْمِهِ هَذَا ،
فَذُكِرَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَأْنُهُ فَقَالَ ذَاكَ
رَجُلٌ نَجّاهُ اللّهُ بِوَفَائِهِ وَبَعْضُ النّاسِ يَزْعُمُ أَنّهُ كَانَ
أُوثِقَ بِرُمّةِ فِيمَنْ أُوثِقَ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ حِينَ نَزَلُوا عَلَى
حُكْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَصْبَحَتْ رُمّتُهُ
مُلْقَاةً وَلَا يُدْرَى أَيْنَ ذَهَبَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيهِ تِلْكَ الْمَقَالَةَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ
كَانَ .
تَحْكِيمُ سَعْدٍ فِي أَمْرِ
بَنِي قُرَيْظَةَ وَرِضَاءُ الرّسُولِ بِهِ
[ ص 443 ] ( قَالَ ) فَلَمّا أَصْبَحُوا نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَتَوَاثَبَتْ الْأَوْسُ ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ
اللّهِ إنّهُمْ مَوَالِينَا دُونَ الْخَزْرَجِ ، وَقَدْ فَعَلْت فِي مَوَالِي
إخْوَانِنَا بِالْأَمْسِ مَا قَدْ عَلِمْت - وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ بَنِي قُرَيْظَةَ قَدْ حَاصَرَ بَنِي قَيْنُقَاعَ
وَكَانُوا حُلَفَاءَ الْخَزْرَجِ ، فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ فَسَأَلَهُ إيّاهُمْ
عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابْنِ سَلُولَ فَوَهَبَهُمْ لَهُ . فَلَمّا كَلّمَتْهُ
الْأَوْسُ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلَا تَرْضَوْنَ
يَا مَعْشَرَ الْأَوْسِ أَنْ يَحْكُمَ فِيهِمْ رَجُلٌ مِنْكُمْ ؟ قَالُوا : بَلَى
، قَالَ رَسُولُ اللّهِ فَذَاكَ إلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ جَعَلَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي خَيْمَةٍ
لِامْرَأَةِ مِنْ أَسْلَمَ ، يُقَالُ لَهَا : رُفَيْدَةُ فِي مَسْجِدِهِ كَانَتْ
تُدَاوِي الْجَرْحَى ، وَتَحْتَسِبُ بِنَفْسِهَا عَلَى خِدْمَةِ مَنْ كَانَتْ بِهِ
ضَيْعَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ قَدْ قَالَ لِقَوْمِهِ حِينَ أَصَابَهُ السّهْمُ بِالْخَنْدَقِ
اجْعَلُوهُ فِي خَيْمَةِ رُفَيْدَةَ حَتّى أَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ . فَلَمّا
حَكّمَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ
أَتَاهُ قَوْمُهُ فَحَمَلُوهُ عَلَى حِمَارٍ قَدْ وَطّئُوا لَهُ بِوِسَادَةِ مِنْ
أَدَمٍ وَكَانَ رَجُلًا جَسِيمًا جَمِيلًا ، ثُمّ أَقْبَلُوا مَعَهُ إلَى رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُمْ يَقُولُونَ يَا أَبَا عَمْرٍو ،
أَحْسِنْ فِي مَوَالِيك ، فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
إنّمَا وَلّاك ذَلِكَ لِتُحْسِنَ فِيهِمْ فَلَمّا أَكْثَرُوا عَلَيْهِ قَالَ
لَقَدْ آنَ لِسَعْدِ أَنْ لَا تَأْخُذَهُ فِي اللّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ . فَرَجَعَ
بَعْضُ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ إلَى دَارِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ ،
فَنَعَى لَهُمْ رِجَالَ بَنِي قُرَيْظَةَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِمْ سَعْدٌ
عَنْ كَلِمَتِهِ الّتِي سَمِعَ مِنْهُ . فَلَمّا انْتَهَى سَعْدٌ إلَى رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْمُسْلِمِينَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قُومُوا إلَى سَيّدِكُمْ - فَأَمّا
الْمُهَاجِرُونَ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَيَقُولُونَ إنّمَا أَرَادَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْأَنْصَارَ ، وَأَمّا الْأَنْصَارُ ،
فَيَقُولُونَ قَدْ عَمّ بِهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
فَقَامُوا إلَيْهِ فَقَالُوا : يَا أَبَا عَمْرٍو ، إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ وَلّاك أَمْرَ مَوَالِيك لِتَحْكُمَ فِيهِمْ
فَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ : عَلَيْكُمْ بِذَلِكَ عَهْدَ اللّهِ وَمِيثَاقَهُ ،
أَنّ الْحُكْمَ فِيهِمْ لَمَا حَكَمْت ؟ قَالُوا : نَعَمْ وَعَلَى مَنْ هَاهُنَا ،
فِي النّاحِيَةِ الّتِي فِيهَا رَسُولُ اللّهِ وَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إجْلَالًا لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَعَمْ قَالَ سَعْدٌ فَإِنّي أَحْكُمُ فِيهِمْ
أَنْ تُقْتَلَ الرّجَالُ وَتُقْسَمَ الْأَمْوَالُ وَتُسْبَى الذّرَارِيّ
وَالنّسَاءُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ
قَتَادَةَ ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ، عَنْ
عَلْقَمَةَ بْنِ وَقّاصٍ اللّيْثِيّ ، قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِسَعْدِ لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ اللّهِ مِنْ فَوْقِ
سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ . [ ص 444 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي بَعْضُ مَنْ
أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ صَاحَ وَهُمْ
مُحَاصِرُو بَنِي قُرَيْظَةَ يَا كَتِيبَةَ الْإِيمَانِ ، وَتَقَدّمَ هُوَ
وَالزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ ، وَقَالَ وَاَللّهِ لَأَذُوقَنّ مَا ذَاقَ حَمْزَةُ
أَوْ لَأَفْتَحَنّ حِصْنَهُمْ فَقَالُوا : يَا مُحَمّدُ نَنْزِلُ عَلَى حُكْمِ
سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍSمِنْ
أَسْمَاءِ السّمَاءِ
فَصْلٌ
[ ص 443 ] وَذَكَرَ حُكْمَ سَعْدٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ وَقَوْلُ النّبِيّ
عَلَيْهِ السّلَامُ لَهُ [ ص 444 ] لَقَدْ حَكَمْت فِيهِمْ بِحُكْمِ اللّهِ مِنْ
فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ هَكَذَا فِي السّيرَةِ أَرْقِعَةٍ وَفِي الصّحِيحِ
مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ لِأَنّ الرّقِيعَ مِنْ
أَسْمَاءِ السّمَاءِ لِأَنّهَا رُقِعَتْ بِالنّجُومِ وَمِنْ أَسْمَائِهَا :
الْجَرْبَاءُ وَبِرْقِعُ وَفِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْبَكّائِيّ أَنّهُ عَلَيْهِ
السّلَامُ قَالَ فِي حُكْمِ سَعْدٍ بِذَلِكَ طَرَقَنِي الْمَلَكُ سَحَرًا .
فَوْقِيّةُ اللّهِ سُبْحَانَهُ
وَفِيهِ مِنْ الْفِقْهِ تَعْلِيمُ حُسْنِ اللّفْظِ إذَا تَكَلّمَتْ بِالْفَوْقِ
مُخْبِرًا عَنْ اللّهِ سُبْحَانَهُ أَلَا تَرَاهُ كَيْفَ قَالَ بِحُكْمِ اللّهِ
مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ وَلَمْ يَقُلْ فَوْقُ عَلَى الظّرْفِ فَدَلّ عَلَى
أَنّ الْحُكْمَ نَازِلٌ مِنْ فَوْقُ وَهُوَ حُكْمُ اللّهِ تَعَالَى ، وَهَذَا
نَحْوٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : { يَخَافُونَ رَبّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ } [
النّحْلَ 50 ] ، أَيْ يَخَافُونَ عِقَابًا يَنْزِلُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَهُوَ
عِقَابُ رَبّهِمْ . فَإِنْ قِيلَ أَوَلَيْسَ بِجَائِزِ أَنْ يُخْبَرَ عَنْهُ
سُبْحَانَهُ أَنّهُ فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتٍ ؟ قُلْنَا : لَيْسَ فِي هَذِهِ
الْآيَةِ وَلَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى إطْلَاقِ ذَلِكَ فَإِنْ جَازَ
فَبِدَلِيلِ آخَرَ وَكَذَلِكَ قَوْلُ زَيْنَبَ زَوّجَنِي اللّهُ مِنْ نَبِيّهِ
مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ وَإِنّمَا مَعْنَاهُ أَنّ تَزْوِيجَهُ إيّاهَا
نَزَلَ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ وَلَا يَبْعُدُ فِي الشّرْعِ وَصْفُهُ
سُبْحَانَهُ بِالْفَوْقِ عَلَى الْمَعْنَى الّذِي يَلِيقُ بِجَلَالِهِ لَا عَلَى
الْمَعْنَى الّذِي يَسْبِقُ لِلْوَهْمِ مِنْ التّحْدِيدِ وَلَكِنْ لَا يُتَلَقّى
إطْلَاقُ ذَلِكَ الْوَصْفِ مِمّا تَقَدّمَ مِنْ الْآيَةِ وَالْحَدِيثَيْنِ
لِارْتِبَاطِ حَرْفِ الْجَرّ بِالْفِعْلِ حَتّى صَارَ وَصْفًا لَهُ لَا وَصْفًا
لِلْبَارِي سُبْحَانَهُ وَقَدْ أَمْلَيْنَا فِي حَدِيثِ الْأُمّةِ الّتِي قَالَ
لَهَا : أَيْنَ اللّهُ ؟ قَالَتْ فِي السّمَاءِ مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ شَافِيَةٌ
رَافِعَةٌ لِكُلّ لَبْسٍ وَالْحَمْدُ لِلّهِ .
تَنْفِيذُ الْحُكْمِ فِي
بَنِي قُرَيْظَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 445 ] ثُمّ اسْتُنْزِلُوا ، فَحَبَسَهُمْ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْمَدِينَةِ فِي دَارِ بِنْتِ
الْحَارِثِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي النّجّارِ ثُمّ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى سُوقِ الْمَدِينَةِ ، الّتِي هِيَ سُوقُهَا
الْيَوْمَ فَخَنْدَقَ بِهَا خَنَادِقَ ثُمّ بَعَثَ إلَيْهِمْ فَضَرَبَ
أَعْنَاقَهُمْ فِي تِلْكَ الْخَنَادِقِ يُخْرَجُ بِهِمْ إلَيْهِ أَرْسَالًا ،
وَفِيهِمْ عَدُوّ اللّهِ حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ ، وَكَعْبُ بْنُ أَسَدٍ ، رَأْسُ
الْقَوْمِ وَهُمْ سِتّ مِائَةٍ أَوْ سَبْعُ مِائَةٍ وَالْمُكْثِرُ لَهُمْ يَقُولُ
كَانُوا بَيْن الثّمَانِ مِائَةٍ وَالتّسْعِ مِائَةٍ . وَقَدْ قَالُوا لِكَعْبِ
بْنِ أَسَدٍ ، وَهُمْ يُذْهَبُ بِهِمْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أَرْسَالًا : يَا كَعْبُ مَا تَرَاهُ يَصْنَعُ بِنَا ؟ قَالَ أَفِي كُلّ
مَوْطِنٍ لَا تَعْقِلُونَ ؟ أَلَا تَرَوْنَ الدّاعِيَ لَا يَنْزِعُ وَأَنّهُ مَنْ
ذُهِبَ بِهِ مِنْكُمْ لَا يَرْجِعُ ؟ هُوَ وَاَللّهِ الْقَتْلُ فَلَمْ يَزَلْ
ذَلِكَ الدّأْبَ حَتّى فَرَغَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ
مَقْتَلُ حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ
[ ص 446 ] وَأُتِيَ بِحُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ عَدُوّ اللّهِ وَعَلَيْهِ حُلّةٌ لَهُ
فُقّاحِيّةٌ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فُقّاحِيّةٌ ضَرْبٌ مِنْ الْوَشْيِ - قَدْ
شَقّهَا عَلَيْهِ مِنْ كُلّ نَاحِيَةٍ قَدْرَ أُنْمُلَةٍ لِئَلّا يَسْلُبَهَا ،
مَجْمُوعَةً يَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ بِحَبْلِ . فَلَمّا نَظَرَ إلَى رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ أَمَا وَاَللّهِ مَا لُمْت نَفْسِي فِي
عَدَاوَتِك ، وَلَكِنّهُ مَنْ يَخْذُلْ اللّهُ يُخْذَلْ لَمّا أَقْبَلَ عَلَى
النّاسِ فَقَالَ أَيّهَا النّاسُ إنّهُ لَا بَأْسَ بِأَمْرِ اللّهِ كِتَابٌ
وَقَدَرٌ وَمَلْحَمَةٌ كَتَبَهَا اللّهُ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ ثُمّ جَلَسَ
فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ فَقَالَ جَبَلُ بْنُ جَوّالٍ الثّعْلَبِيّ :
لَعَمْرُك مَا لَامَ ابْنُ أَخْطَبَ نَفْسَهُ ... وَلَكِنّهُ مَنْ يَخْذُلْ اللّهُ
يُخْذَلْ
لَجَاهَدَ حَتّى أَبْلَغَ النّفْسَ عُذْرَهَا ... وَقَلْقَلَ يَبْغِي الْعِزّ كُلّ
مُقَلْقَلِ
الْمَرْأَةُ الْقَتِيلُ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزّبَيْرِ
، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ عَائِشَةَ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ أَنّهَا
قَالَتْ لَمْ يُقْتَلْ مِنْ نِسَائِهِمْ إلّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ . قَالَتْ
وَاَللّهِ إنّهَا لَعِنْدِي تَحَدّثُ مَعِي ، وَتَضْحَكُ ظَهْرًا وَبَطْنًا ،
وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقْتُلُ رِجَالَهَا فِي السّوقِ
إذْ هَتَفَ هَاتِفٌ بِاسْمِهَا : أَيْنَ فُلَانَةُ ؟ قَالَتْ أَنَا وَاَللّهِ
قَالَتْ قُلْت لَهَا : وَيْلَك ، مَا لَك ؟ قَالَتْ أُقْتَلُ قُلْت : وَلِمَ ؟
قَالَتْ لِحَدَثِ أَحْدَثْته ، قَالَتْ فَانْطُلِقَ بِهَا ، فَضُرِبَتْ عُنُقُهَا
، فَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ فَوَاَللّهِ مَا أَنْسَى عَجَبًا مِنْهَا ، طِيبَ
نَفْسِهَا ، وَكَثْرَةَ ضَحِكِهَا ، وَقَدْ عَرَفَتْ أَنّهَا تُقْتَلُ [ ص 447 ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهِيَ الّتِي طَرَحَتْ الرّحَا عَلَى خَلّادِ بْنِ
سُوَيْدٍ ، فَقَتَلَتْهُ .
شَأْنُ الزّبِيرِ بْن بَاطَا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ الشّمّاسِ كَمَا
ذَكَرَ لِي ابْنُ شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، أَتَى الزّبِيرَ بْنَ بَاطَا الْقُرَظِيّ
وَكَانَ يُكَنّى أَبَا عَبْدِ الرّحْمَنِ وَكَانَ الزّبِيرُ قَدْ مَنّ عَلَى
ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ فِي الْجَاهِلِيّةِ . ذَكَرَ لِي بَعْضُ وَلَدِ
الزّبِيرِ أَنّهُ كَانَ مَنّ عَلَيْهِ يَوْمَ بُعَاثٍ أَخَذَهُ فَجَزّ نَاصِيَتَهُ
ثُمّ خَلّى سَبِيلَهُ - فَجَاءَهُ ثَابِتٌ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ فَقَالَ يَا
أَبَا عَبْدِ الرّحْمَنِ هَلْ تَعْرِفُنِي ؟ قَالَ وَهَلْ يَجْهَلُ مِثْلِي
مِثْلَك ، قَالَ إنّي قَدْ أَرَدْت أَنْ أَجْزِيَك بِيَدِك عِنْدِي ، قَالَ إنّ
الْكَرِيمَ يَجْزِي الْكَرِيمَ ثُمّ أَتَى ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّهُ قَدْ كَانَتْ لِلزّبِيرِ
عَلَيّ مِنّةٌ وَقَدْ أَحْبَبْت أَنْ أَجْزِيَهُ بِهَا ، فَهَبْ لِي دَمَهُ
فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هُوَ لَك ، فَأَتَاهُ
فَقَالَ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ وَهَبَ لِي دَمَك
، فَهُوَ لَك ، قَالَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا أَهْلَ لَهُ وَلَا وَلَدَ فَمَا يَصْنَعُ
بِالْحَيَاةِ ؟ قَالَ فَأَتَى ثَابِتٌ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَقَالَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي يَا رَسُولَ اللّهِ هَبْ لِي امْرَأَتَهُ
وَوَلَدَهُ قَالَ هُمْ لَك . قَالَ فَأَتَاهُ فَقَالَ قَدْ وَهَبَ لِي رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَهْلَك وَوَلَدَك ، فَهُمْ لَك ، قَالَ
أَهْلُ بَيْتٍ بِالْحِجَازِ لَا مَالَ لَهُمْ فَمَا بَقَاؤُهُمْ عَلَى ذَلِكَ ؟
فَأَتَى ثَابِتٌ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا
رَسُولَ اللّهِ مَالَهُ قَالَ هُوَ لَك . فَأَتَاهُ ثَابِتٌ فَقَالَ قَدْ
أَعْطَانِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَالَك ، فَهُوَ لَك ،
قَالَ أَيْ ثَابِتُ مَا فَعَلَ الّذِي كَأَنّ وَجْهَهُ مِرْآةٌ صِينِيّةٌ
يَتَرَاءَى فِيهَا عَذَارَى الْحَيّ كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ ؟ قَالَ قُتِلَ قَالَ
فَمَا فَعَلَ سَيّدُ الْحَاضِرِ وَالْبَادِي حُيَيّ بْنُ أَخْطَبَ ؟ قَالَ قُتِلَ
قَالَ فَمَا فَعَلَ مُقَدّمَتُنَا إذَا شَدَدْنَا ، وَحَامِيَتُنَا إذَا فَرَرْنَا
، عَزّالُ بْنُ سَمَوْأَلٍ ؟ قَالَ قُتِلَ قَالَ فَمَا فَعَلَ الْمَجْلِسَانِ ؟
يَعْنِي بَنِي كَعْبِ بْنِ قُرَيْظَةَ وَبَنِيّ عَمْرِو بْنِ قُرَيْظَةَ ؟ قَالَ
ذَهَبُوا قُتِلُوا . قَالَ فَإِنّي أَسْأَلُك يَا ثَابِتُ بِيَدِي عِنْدَك إلّا
أَلْحَقْتنِي بِالْقَوْمِ فَوَاَللّهِ مَا فِي الْعَيْشِ بَعْدَ هَؤُلَاءِ مِنْ
خَيْرٍ فَمَا أَنَا بِصَابِرِ لِلّهِ قَتْلَةُ دَلْوٍ نَاضِحٍ حَتّى أَلْقَى
الْأَحِبّةَ . فَقَدّمَهُ ثَابِتٌ فَضَرَبَ عُنُقَهُ . فَلَمّا بَلَغَ أَبَا
بَكْرٍ الصّدّيقَ قَوْلُهُ أَلْقَى الْأَحِبّةَ . قَالَ يَلْقَاهُمْ وَاَللّهِ فِي
نَارِ جَهَنّمَ خَالِدًا مُخَلّدًا . [ ص 448 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَبَلَةَ
دَلْوٍ نَاضِحٍ . وَقَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى فِي " قَبَلَةٍ "
:
وَقَابِلٍ يَتَغَنّى كُلّمَا قَدَرَتْ ... عَلَى الْعَرَاقِيّ يَدَاهُ قَائِمًا
دَفَقَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُرْوَى :
وَقَابِلٍ يُتَلَقّى ، يَعْنِي قَابِلَ الدّلْوِ يُتَنَاوَلُ .
عَطِيّةُ الْقُرَظِيّ وَرِفَاعَةُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَدْ أَمَرَ بِقَتْلِ كُلّ مَنْ أَنْبَتَ مِنْهُمْ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
وَحَدّثَنِي شُعْبَةُ بْنُ الْحَجّاجِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ ، عَنْ
عَطِيّةَ الْقُرَظِيّ ، قَالَ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ قَدْ أَمَرَ أَنْ يُقْتَلَ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ كُلّ مَنْ أَنْبَتَ
مِنْهُمْ وَكُنْت غُلَامًا ، فَوَجَدَنِي لَمْ أُنْبِتْ فَخَلّوْا سَبِيلِي . [ ص
449 ] قَالَ وَحَدّثَنِي أَيّوبُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
أَبِي صَعْصَعَةَ أَخُو بَنِي عَدِيّ بْنِ النّجّارِ أَنّ سَلْمَى بِنْتَ قَيْسٍ ،
أُمّ الْمُنْذِرِ أُخْتَ سَلِيطِ ابْنِ أُخْتِ سَلِيطِ بْنِ قَيْسٍ - وَكَانَتْ
إحْدَى خَالَاتِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ صَلّتْ
مَعَهُ الْقِبْلَتَيْنِ وَبَايَعَتْهُ بَيْعَةَ النّسَاءِ - سَأَلَتْهُ رِفَاعَةُ
بْنُ سَمَوْأَلٍ الْقُرَظِيّ ، وَكَانَ رَجُلًا قَدْ بَلَغَ فَلَاذَ بِهَا ،
وَكَانَ يَعْرِفُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ فَقَالَتْ يَا نَبِيّ اللّهِ بِأَبِي أَنْتَ
وَأُمّي ، هَبْ لِي رِفَاعَةَ ، فَإِنّهُ قَدْ زَعَمَ أَنّهُ سَيُصَلّي وَيَأْكُلُ
لَحْمَ الْجَمَلِ قَالَ فَوَهَبَهُ لَهَا فَاسْتَحْيَتْهُSكَيّسَةُ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ حَبْسَ بَنِي قُرَيْظَةَ فِي دَارِ بِنْتِ الْحَدَثِ كَذَا وَقَعَ فِي
هَذَا الْكِتَابِ [ ص 445 ] وَاسْمُهَا : كَيّسَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ
كُرَيْزِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ، وَكَانَتْ تَحْتَ مُسَيْلِمَةَ
الْكَذّابِ ، ثُمّ خَلَفَ عَلَيْهَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ ،
وَكَيّسَةُ أُخْرَى مَذْكُورَةٌ فِي النّسَاءِ وَهِيَ بِنْتُ عَبْدِ الْحَمِيدِ
بْنِ عَامِرِ بْنِ كُرَيْزٍ وَكَيّسَةُ بِنْتُ أَبِي بَكْرَة ، رَوَتْ عَنْ
أَبِيهَا عَنْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنّهُ كَانَ يَنْهَى
عَنْ الْحِجَامَةِ يَوْمَ الثّلَاثَاءِ أَشَدّ النّهْيِ وَيَقُولُ فِيهِ سَاعَةٌ
لَا يَرْقَأُ فِيهَا الدّمُ وَأَمّا كَيْسَةُ بِسُكُونِ الْيَاءِ فَهِيَ بِنْتُ
أَبِي كَثِيرٍ تَرْوِي عَنْ أُمّهَا عَنْ عَائِشَةَ فِي الْخَمْرِ لَا طَيّبَ
اللّهُ مَنْ تَطَيّبَ بِهَا ، وَلَا شَفَى مَنْ اسْتَشْفَى بِهَا ذَكَرَهُ
الْبُخَارِيّ فِي الْأَشْرِبَةِ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْكِتَابِ وَوَقَعَ
اسْمُهَا فِي السّيرَةِ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ : زَيْنَبُ بِنْتُ
الْحَارِثِ النّجّارِيّةُ فَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَأَمّا كَيّسَةُ بِنْتُ
الْحَارِثِ فَهِيَ الّتِي أُنْزِلَ فِي دَارِهَا وَفْدُ بَنِي حَنِيفَةَ
وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا .
رُفَيْدَةُ
وَذَكَرَ رُفَيْدَةَ وَهِيَ امْرَأَةٌ مِنْ أَسْلَمَ الّذِي كَانَ سَعْدٌ يُمَرّضُ
فِي خَيْمَتِهَا لَمْ يَذْكُرْهَا أَبُو عُمَرَ وَزَادَهَا أَبُو عَلِيّ
الْغَسّانِيّ فِي كِتَابِ أَبِي عُمَرَ حَدّثَنِي بِتِلْكَ الزّوَائِدِ أَبُو
بَكْرِ بْنُ طَاهِرٍ عَنْهُ وَحَدّثَنِي عَنْهُ أَيْضًا عَنْ أَبِي عُمَرَ أَنّهُ
قَالَ لِأَبِي عَلِيّ أَمَانَةُ اللّهِ فِي عُنُقِك ، مَتَى عَثَرْت عَلَى اسْمٍ
مِنْ أَسْمَاءِ الصّحَابَةِ لَمْ أَذْكُرْهُ إلّا أَلْحَقْته فِي كِتَابِي الّذِي
فِي الصّحَابَةِ .
غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ
فَصْلٌ
[ ص 446 ] وَذَكَرَ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ ثَعْلَبَةَ بْنَ سَعْيَةَ ، وَأَسَدَ
بْنَ سَعْيَةَ ، وَأُسَيْدَ بْنَ سَعْيَةَ وَهُمْ مِنْ بَنِي هَدَلٍ وَقَدْ
تَكَلّمْنَا فِي الْجُزْءِ الثّانِي مِنْ هَذَا الْكِتَابِ عَلَى سَعْيَةَ
وَسُعْنَةَ بِالنّونِ وَذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِي أَسِيدٍ وَأُسَيْدٍ
وَذَكَرْنَا خَبَرًا عَجِيبًا لِزَيْدِ بْنِ سَعْيَةَ بِالْيَاءِ وَمَنْ قَالَ
مِنْ النّسّابِينَ هَدْلٌ بِسُكُونِ الدّالِ فِي بَنِي هَدَلٍ فَأَغْنَى ذَلِكَ
عَنْ إعَادَتِهِ .
قَتْلُ الْمُرْتَدّةِ
وَأَمّا حَدِيثُ الْمَرْأَةِ الْمَقْتُولَةِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ فَفِيهَا
دَلِيلٌ لِمَنْ قَالَ بِقَتْلِ الْمُرْتَدّةِ مِنْ النّسَاءِ أَخْذًا بِعُمُومِ
قَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ مَنْ بَدّلَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ وَفِي
هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ الْعُمُومِ قُوّةٌ أُخْرَى ، وَهُوَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ
بِالْعِلّةِ وَهُوَ التّبْدِيلُ وَالرّدّةُ وَلَا حُجّةَ مَعَ هَذَا لِمَنْ زَعَمَ
مِنْ أَهْلِ الْعِرَاق ِ بِأَنْ لَا تُقْتَلَ الْمَرْأَةُ لِنَهْيِهِ عَلَيْهِ
السّلَامُ عَنْ قَتْلِ النّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ وَلِلِاحْتِجَاجِ لِلْفَرِيقَيْنِ
وَمَا نَزَلَ بِهِ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَوْطِنٌ غَيْرُ هَذَا .
الزّبِيرُ بْنُ بَاطَا
فَصْلٌ
[ ص 447 ] وَذَكَرَ حَدِيثَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ مَعَ الزّبِيرِ بْنِ بَاطَا ،
وَهُوَ الزّبِيرُ بِفَتْحِ الزّايِ وَكَسْرِ الْبَاءِ جَدّ الزّبِيرِ بْنِ عَبْدِ
الرّحْمَنِ الْمَذْكُورِ فِي الْمُوَطّأِ فِي كِتَابِ النّكَاحِ وَاخْتُلِفَ فِي
الزّبِيرِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ فَقِيلَ الزّبِيرُ بِفَتْحِ الزّايِ وَكَسْرِ
الْبَاءِ كَاسْمِ جَدّهِ وَقِيلَ الزّبَيْرُ وَهُوَ قَوْلُ الْبُخَارِيّ فِي
التّارِيخِ . [ ص 448 ] وَذَكَرَ فِيهِ قَوْلَ الزّبِيرِ فَمَا أَنَا بِصَابِرِ
لِلّهِ فَتْلَةَ دَلْوٍ نَاضِحِ
وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ : إنّمَا هُوَ قَبَلَةُ دَلْوٍ بِالْقَافِ وَالْبَاءِ
وَقَابِلُ الدّلْوِ هُوَ الّذِي يَأْخُذُهَا مِنْ الْمُسْتَقَى . وَذَكَرَ أَبُو
عُبَيْدٍ الْحَدِيثَ فِي الْأَقْوَالِ عَلَى غَيْرِ مَا قَالَاهُ جَمِيعًا ،
فَقَالَ قَالَ الزّبِيرُ يَا ثَابِتُ أَلْحِقْنِي بِهِمْ فَلَسْت صَابِرًا
عَنْهُمْ إفْرَاغَةُ دَلْوٍ .
الْإِنْبَاتُ أَصْلٌ فِي مَعْرِفَةِ الْبُلُوغِ
وَذَكَرَ حَدِيثَ عَطِيّةَ الْقُرَظِيّ ، وَهُوَ جَدّ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ
الْقُرَظِيّ ، وَذَكَرَ أَنّهُ لَمْ يَكُنْ أَنْبَتَ فَتُرِكَ فَفِي هَذَا أَنّ
الْإِنْبَاتَ أَصْلٌ فِي مَعْرِفَةِ الْبُلُوغِ إذَا جُهِلَ الِاحْتِلَامُ وَلَمْ
تُعْرَفْ سِنُوهُ .
حُلّةُ حُيَيّ
وَذَكَرَ حُيَيّ بْنَ أَخْطَبَ حِينَ قُدّمَ إلَى الْقَتْلِ وَعَلَيْهِ حُلّةٌ
فُقّاحِيّةٌ . الْحُلّةُ : إزَارٌ وَرِدَاءٌ وَأَصْلُ تَسْمِيَتِهَا بِهَذَا إذَا
كَانَ الثّوْبَانِ جَدِيدَيْنِ كَمَا حَلّ طَيّهُمَا ، فَقِيلَ لَهُ حُلّةٌ
لِهَذَا ، ثُمّ اسْتَمَرّ عَلَيْهِ الِاسْمُ قَالَهُ الْخَطّابِيّ . وَقَوْلُهُ
فُقّاحِيّةٌ نُسِبَتْ إلَى الْفُقّاحِ وَهُوَ الزّهْرُ إذَا انْشَقّتْ أَكِمّتُهُ
وَانْضَرَجَتْ بَرَاعِيمُهُ وَتَفَتّقَتْ أَخْفِيَتُهُ فَيُقَالُ لَهُ حِينَئِذٍ
فَقّحَ وَهُوَ فُقّاحٌ . وَالْقَنَابِعُ أَيْضًا فِي مَعْنَى الْبَرَاعِيمِ
وَاحِدُهَا : قُنْبُعَةٌ وَأَمّا الْفُقّاعُ بِالْعَيْنِ فَهُوَ الْفِطْرُ
وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا : آذَانُ الْكَمْأَةِ مِنْ كِتَابِ النّبَاتِ . [ ص 449 ]
شُقَحِيّةٌ وَهُوَ سَنْحُ الْبُسْرِ إذَا تَلَوّنَ . قَالَهُ الْخَطّابِيّ .
وَلَكِنّهُ مَنْ يَخْذُلْ اللّهَ يُخْذَلْ
بِنَصْبِ الْهَاءِ مِنْ اسْمِ اللّهِ وَيُصَحّحُ هَذِهِ الرّوَايَةَ أَنّ فِي
الْخَبَرِ قَوْلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلَمْ يُمَكّنْ اللّهُ
مِنْك ؟ فَقَالَ بَلَى ، وَلَقَدْ قَلْقَلْت كُلّ مُقَلْقَلِ وَلَكِنْ مَنْ
يَخْذُلْك يُخْذَلْ فَقَوْلُهُ يَخْذُلْك كَقَوْلِ الْآخَرِ فِي الْبَيْتِ
وَلَكِنّهُ مَنْ يَخْذُلْ اللّهَ يُخْذَلْ
لِأَنّهُ إنّمَا نَظَمَ فِي الْبَيْتِ كَلَامَ حُيَيّ .
سَلْمَى بِنْتُ أَيّوبَ
وَذَكَرَ حَدِيثَهُ عَنْ أَيّوبَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
أَبِي صَعْصَعَةَ وَأَلْفَيْت فِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ قَالَ وَقَعَ فِي تَارِيخِ
الْبُخَارِيّ أَنّ أَيّوبَ نَفْسَهُ هُوَ الْمُخْبِرُ أَنّ سَلْمَى بِنْتَ قَيْسٍ
هِيَ سَلْمَى بِنْتُ أَيّوبَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ وَهُوَ
الصّحِيحُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
سَلْمَى بِنْتُ قَيْسٍ
وَقَوْلُهُ عَنْ سَلْمَى بِنْتِ قَيْسٍ ، هِيَ سَلْمَى بِنْتُ قَيْسِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ عُبَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَدِيّ بْنِ عَامِرِ بْنِ غَنْمِ
بْنِ عَدِيّ بْنِ النّجّارِ .
الرّسُولُ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُقَسّمُ فَيْءَ بَنِي قُرَيْظَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَسّمَ أَمْوَالَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ عَلَى
الْمُسْلِمِينَ وَأَعْلَمَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ سُهْمَانَ الْخَيْلِ وَسُهْمَانَ
الرّجَالِ وَأَخْرَجَ مِنْهَا الْخُمُسَ فَكَانَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ
الْفَرَسُ سَهْمَانِ وَلِفَارِسِهِ سَهْمٌ وَلِلرّاجِلِ مَنْ لَيْسَ لَهُ فَرَسٌ
سَهْمٌ . وَكَانَتْ الْخَيْلُ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ سِتّةً وَثَلَاثِينَ
فَرَسًا ، وَكَانَ أَوّلَ فَيْءٍ وَقَعَتْ فِيهِ السّهْمَانُ وَأُخْرِجَ مِنْهَا
الْخُمُسُ فَعَلَى سُنّتِهَا وَمَا مَضَى مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيهَا وَقَعَتْ الْمَقَاسِمُ وَمَضَتْ السّنّةُ فِي
الْمَغَازِي . [ ص 450 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَعْدَ بْنَ زَيْدٍ
الْأَنْصَارِيّ أَخَا بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ بِسَبَايَا مِنْ سَبَايَا بَنِي
قُرَيْظَةَ إلَى نَجْدٍ ، فَابْتَاعَ لَهُمْ بِهَا خَيْلًا وَسِلَاحًا .
شَأْنُ رَيْحَانَةَ
وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ اصْطَفَى لِنَفْسِهِ
مِنْ نِسَائِهِمْ رَيْحَانَةَ بِنْتَ عَمْرِو بْنِ خُنَافَةَ إحْدَى نِسَاءِ بَنِي
عَمْرِو بْنِ قُرَيْظَةَ فَكَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ حَتّى تُوُفّيَ عَنْهَا وَهِيَ فِي مُلْكِهِ وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَرَضَ عَلَيْهَا أَنْ يَتَزَوّجَهَا ، وَيَضْرِبَ
عَلَيْهَا الْحِجَابَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ بَلْ تَتْرُكُنِي فِي مُلْكِك
، فَهُوَ أَخَفّ عَلَيّ وَعَلَيْك ، فَتَرَكَهَا . وَقَدْ كَانَتْ حِينَ سَبَاهَا
قَدْ تَعَصّتْ بِالْإِسْلَامِ وَأَبَتْ إلّا الْيَهُودِيّةَ فَعَزَلَهَا رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَوَجَدَ فِي نَفْسِهِ لِذَلِكَ مِنْ
أَمْرِهَا . فَبَيْنَا هُوَ مَعَ أَصْحَابِهِ إذْ سَمِعَ وَقْعَ نَعْلَيْنِ
خَلْفَهُ فَقَالَ إنّ هَذَا لِثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْيَةَ يُبَشّرُنِي بِإِسْلَامِ
رَيْحَانَةَ فَجَاءَهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ قَدْ أَسْلَمَتْ رَيْحَانَةُ
فَسَرّهُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهَا
مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ
فِي الْخَنْدَقِ وَبَنِيّ قُرَيْظَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي أَمْرِ الْخَنْدَقِ ،
وَأَمَرَ بَنِي قُرَيْظَةَ مِنْ الْقُرْآنِ الْقِصّةُ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ ،
يَذْكُرُ فِيهَا مَا نَزَلَ مِنْ الْبَلَاءِ وَنِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ
وَكِفَايَتِهِ إيّاهُمْ فَرّجَ ذَلِكَ عَنْهُمْ بَعْدَ مَقَالَةِ مَنْ قَالَ مِنْ
أَهْلِ النّفَاقِ [ ص 451 ] { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ
اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا
وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا }
وَالْجُنُودُ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ وَبَنُو قُرَيْظَةَ ، وَكَانَتْ الْجُنُودُ
الّتِي أَرْسَلَ اللّهُ عَلَيْهِمْ مَعَ الرّيحِ الْمَلَائِكَةَ . يَقُولُ اللّهُ
تَعَالَى : { إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ
الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنّونَ بِاللّهِ الظّنُونَ
} فَاَلّذِينَ جَاءُوهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ بَنُو قُرَيْظَةَ ، وَاَلّذِينَ
جَاءُوهُمْ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ . يَقُولُ اللّهُ (
تَبَارَكَ وَ ) تَعَالَى : { هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا
زِلْزَالًا شَدِيدًا وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ إِلّا غُرُورًا } لِقَوْلِ مُعَتّبِ بْنِ
قُشَيْرٍ إذْ يَقُولُ مَا قَالَ { وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ
يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ
النّبِيّ يَقُولُونَ إِنّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ
يُرِيدُونَ إِلّا فِرَارًا } لِقَوْلِ أَوْسِ بْنِ قَيْظِيّ وَمَنْ كَانَ عَلَى رَأْيِهِ
مِنْ قَوْمِهِ { وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا } أَيْ
الْمَدِينَةِ .
تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْأَقْطَارُ الْجَوَانِبُ وَوَاحِدُهَا : قُطْرٌ ، وَهِيَ
الْأَقْتَارُ وَوَاحِدُهَا : قُتْرٌ . قَالَ الْفَرَزْدَقُ :
كَمْ مِنْ غِنَى فَتَحَ الْإِلَهُ لَهُمْ بِهِ ... وَالْخَيْلُ مُقْعِيَةٌ عَلَى
الْأَقْطَارِ
وَيُرْوَى : " عَلَى الْأَقْتَارِ " . وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ
لَهُ . [ ص 452 ] { ثُمّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ } أَيْ الرّجُوعَ إلَى الشّرْكِ {
لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبّثُوا بِهَا إِلّا يَسِيرًا وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا
اللّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللّهِ مَسْئُولًا
} فَهُمْ بَنُو حَارِثَةَ ، وَهُمْ الّذِينَ هَمّوا أَنْ يَفْشَلُوا يَوْمَ أُحُدٍ
مَعَ بَنِي سَلِمَةَ حِينَ هَمّتَا بِالْفَشَلِ يَوْمَ أُحُدٍ ، ثُمّ عَاهَدُوا
اللّهَ أَنْ لَا يَعُودُوا لِمِثْلِهَا أَبَدًا ، فَذَكَرَ لَهُمْ الّذِينَ
أَعْطَوْا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ
الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا
تُمَتّعُونَ إِلّا قَلِيلًا قُلْ مَنْ ذَا الّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللّهِ إِنْ
أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ
دُونِ اللّهِ وَلِيّا وَلَا نَصِيرًا قَدْ يَعْلَمُ اللّهُ الْمُعَوّقِينَ
مِنْكُمْ } أَيْ أَهْلَ النّفَاقِ { وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمّ
إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلّا قَلِيلًا } أَيْ إلّا دَفْعًا
وَتَعْذِيرًا { أَشِحّةً عَلَيْكُمْ } أَيْ لِلضّغْنِ الّذِي فِي أَنْفُسِهِمْ {
فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ
كَالّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } أَيْ إعْظَامًا لَهُ وَفَرَقًا مِنْهُ
{ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } أَيْ فِي
الْقَوْلِ بِمَا لَا تُحِبّونَ لِأَنّهُمْ لَا يَرْجُونَ آخِرَةً وَلَا تَحَمّلُهُمْ
حِسْبَةً فَهُمْ يَهَابُونَ الْمَوْتَ هَيْبَةَ مَنْ لَا يَرْجُونَ مَا بَعْدَهُ .
تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : سَلَقُوكُمْ بَالَغُوا فِيكُمْ بِالْكَلَامِ
فَأَحْرَقُوكُمْ وَآذَوْكُمْ . تَقُولُ الْعَرَبُ : خَطِيبٌ سَلّاقٌ وَخَطِيبٌ
مِسْلَقٌ وَمِسْلَاقٌ . قَالَ أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ
فِيهِمْ الْمَجْدُ وَالسّمَاحَةُ وَالنّ ... جْدَةُ فِيهِمْ وَالْخَاطِبُ
السّلّاقُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . { يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ
يَذْهَبُوا } قُرَيْشٌ وَغَطَفَانُ { وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدّوا لَوْ
أَنّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ
كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلّا قَلِيلًا } ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ } أَيْ لِئَلّا
يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا عَنْ مَكَانٍ هُوَ بِهِ . ثُمّ
ذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ وَصِدْقَهُمْ وَتَصْدِيقَهُمْ بِمَا وَعَدَهُمْ اللّهُ مِنْ
الْبَلَاءِ يَخْتَبِرُهُمْ بِهِ فَقَالَ { وَلَمّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ
الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللّهُ
وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا } أَيْ صَبْرًا عَلَى
الْبَلَاءِ وَتَسْلِيمًا لِلْقَضَاءِ وَتَصْدِيقًا لِلْحَقّ لَمّا [ ص 453 ] كَانَ
اللّهُ تَعَالَى وَعَدَهُمْ وَرَسُولُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ
قَالَ { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللّهَ عَلَيْهِ
فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ } أَيْ فَرَغَ مِنْ عَمَلِهِ وَرَجَعَ إلَى رَبّهِ
كَمَنْ اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ أُحُدٍ .
تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَضَى نَحْبَهُ مَاتَ وَالنّحْبُ النّفْسُ فِيمَا
أَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ وَجَمْعُهُ نُحُوبٌ قَالَ ذُو الرّمّةِ
عَشِيّةَ فَرّ الْحَارِثِيّونَ بَعْدَ مَا ... قَضَى نَحْبَهُ فِي مُلْتَقَى
الْخَيْلِ هَوْبَرُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَهَوْبَرُ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ
كَعْبٍ أَرَادَ زَيْدَ بْنَ هَوْبَرٍ . وَالنّحْبُ ( أَيْضًا ) : النّذْرُ قَالَ
جَرِيرُ بْنُ الْخَطَفَى :
بِطِخْفَةَ جَالَدْنَا الْمُلُوكَ وَخَيْلُنَا ... عَشِيّةَ بَسْطَامٍ جَرَيْنَ
عَلَى نَحْبِ
يَقُولُ عَلَى نَذْرٍ كَانَتْ نَذَرَتْ أَنْ تَقْتُلَهُ فَقَتَلَتْهُ وَهَذَا
الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَبَسْطَامٌ بَسْطَامُ بْنُ قَيْسِ بْنِ مَسْعُودٍ
الشّيْبَانِيّ ، وَهُوَ ابْنُ ذِي الْجَدّيْنِ حَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ أَنّهُ
كَانَ فَارِسَ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ . وَطِخْفَةُ : مَوْضِعٌ بِطَرِيقِ
الْبَصْرَةِ . وَالنّحْبُ ( أَيْضًا ) : الْخِطَارُ وَهُوَ الرّهَانُ . قَالَ
الْفَرَزْدَقُ :
وَإِذْ نَحَبَتْ كَلْبٌ عَلَى النّاسِ أَيّنَا ... عَلَى النّحْبِ أَعْطَى
لِلْجَزِيلِ وَأَفْضَلُ
وَالنّحْبُ ( أَيْضًا ) : الْبُكَاءُ . وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ يَنْتَحِبُ .
وَالنّحْبُ ( أَيْضًا ) : الْحَاجَةُ وَالْهِمّةُ تَقُولُ مَا لِي عِنْدَهُمْ
نَحْبٌ . قَالَ مَالِكُ بْنُ نُوَيْرَةَ الْيَرْبُوعِيّ :
وَمَا لِي نَحْبٌ عِنْدَهُمْ غَيْرَ أَنّنِي ... تَلَمّسْت مَا تَبْغِي مِنْ
الشّدُنِ الشّجْرِ
وَقَالَ نَهَارُ بْنُ تَوْسِعَةَ أَحَدُ بَنِي تَيْمِ اللّاتِ بْنِ ثَعْلَبَةَ
بْنِ عُكَابَةَ بْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ . قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ : هَؤُلَاءِ مَوَالِي بَنِي حَنِيفَةَ
وَنَجّى يُوسُفَ الثّقَفِيّ رَكَضٌ ... دِرَاكٌ بَعْدَ مَا وَقَعَ اللّوَاءُ
وَلَوْ أَدْرَكْنَهُ لَقَضَيْنَ نَحْبًا ... بِهِ وَلِكُلّ مُخْطَأَةٍ وِقَاءُ
وَالنّحْبُ ( أَيْضًا ) : السّيْرُ الْخَفِيفُ الْمَرّ . [ ص 454 ] قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ } أَيْ مَا وَعَدَ اللّهُ بِهِ مِنْ
نَصْرِهِ وَالشّهَادَة عَلَى مَا مَضَى عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ . يَقُولُ اللّهُ
تَعَالَى : { وَمَا بَدّلُوا تَبْدِيلًا } أَيْ مَا شَكّوا وَمَا تَرَدّدُوا فِي دِينِهِمْ
وَمَا اسْتَبْدَلُوا بِهِ غَيْرَهُ . { لِيَجْزِيَ اللّهُ الصّادِقِينَ
بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنّ
اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا وَرَدّ اللّهُ الّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ }
أَيْ قُرَيْشًا وَغَطَفَانَ { لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللّهُ
الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللّهُ قَوِيّا عَزِيزًا وَأَنْزَلَ الّذِينَ
ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } أَيْ بَنِي قُرَيْظَةَ { مِنْ صَيَاصِيهِمْ
} وَالصّيَاصِي : الْحُصُونُ وَالْآطَامُ الّتِي كَانُوا فِيهَا . قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ : قَالَ سُحَيْمٌ عِنْدَ بَنِي الْحَسْحَاسِ وَبَنُو الْحَسْحَاسِ مِنْ
بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ :
وَأَصْبَحَتْ الثّيرَانُ صَرْعَى وَأَصْبَحَتْ ... نِسَاءُ تَمِيمٍ يَبْتَدِرْنَ
الصّيَاصِيَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَالصّيَاصِي ( أَيْضًا ) : الْقُرُونُ .
قَالَ النّابِغَةُ الْجَعْدِيّ :
وَسَادَةَ رَهْطِي حَتّى بَقِي ... ت فَرْدًا كَصِيصَةِ الْأَعْضَبِ
يَقُولُ أَصَابَ الْمَوْتُ سَادَةَ رَهْطِي . وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ
لَهُ . وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ الْإِيَادِيّ :
فَذَعَرْنَا سُحْمَ الصّيَاصِي بِأَيْدِي ... هِنّ نَضْحٌ مِنْ الْكُحَيْلِ
وَقَارُ
[ ص 455 ] قَصِيدَةٍ لَهُ . وَالصّيَاصِي أَيْضًا : الشّوْكُ الّذِي لِلنّسّاجِينَ
فِيمَا أَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ . وَأَنْشَدَنِي لِدُرَيْدِ بْنِ الصّمّةِ
الْجُشَمِيّ جُشَمَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ :
نَظَرْت إلَيْهِ وَالرّمَاحُ تَنُوشُهُ ... كَوَقْعِ الصّيَاصِي فِي النّسِيجِ
الْمُمَدّدِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَالصّيَاصِي ( أَيْضًا ) : الّتِي
تَكُونُ فِي أَرْجُلِ الدّيَكَةِ نَاتِئَةٍ كَأَنّهَا الْقُرُونُ الصّغَارُ
وَالصّيَاصِي ( أَيْضًا ) : الْأُصُولُ . أَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ أَنّ
الْعَرَبَ تَقُولُ جَذّ اللّهُ صِيصِيَتَهُ أَيْ أَصْلَهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ
: { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ
فَرِيقًا } أَيْ قَتْلَ الرّجَالِ وَسَبْيَ الذّرَارِيّ وَالنّسَاءِ {
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ
تَطَئُوهَا } يَعْنِي خَيْبَرَ { وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرًا }Sتَفْسِيرُ
آيَاتٍ قُرْآنِيّةٍ
[ ص 450 ] { وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ } وَالْقَلْبُ لَا يَنْتَقِلُ
مِنْ مَوْضِعِهِ وَلَوْ انْتَقَلَ إلَى الْحَنْجَرَةِ لَمَاتَ صَاحِبُهُ وَاَللّهُ
سُبْحَانَهُ لَا يَقُولُ إلّا الْحَقّ فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنّ التّكَلّمَ
بِالْمَجَازِ عَلَى جِهَةِ الْمُبَالَغَةِ فَهُوَ حَقّ إذَا فَهِمَ الْمُخَاطَبُ
عَنْك ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضّ فَأَقَامَهُ } [
الْكَهْفَ : 77 ] ، أَيْ مَثَلُهُ كَمَثَلِ مَنْ يُرِيدَ أَنْ يَفْعَلَ الْفِعْلَ
وَبِهِمْ بِهِ فَهُوَ مِنْ مَجَازِ التّشْبِيهِ وَكَذَلِكَ هَؤُلَاءِ مِثْلُهُمْ
فِيمَا بَلَغَهُمْ مِنْ الْخَوْفِ وَالْوَهَلِ وَضِيقِ الصّدْرِ كَمِثْلِ
الْمُنْخَلِعِ قَلْبُهُ مِنْ مَوْضِعِهِ وَقِيلَ هُوَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ .
تَقْدِيرُهُ بَلَغَ وَجِيفُ الْقُلُوبِ الْحَنَاجِرَ وَأَمّا قَوْلُهُ { إِذِ الْقُلُوبُ
لَدَى الْحَنَاجِرِ } [ غَافِرَ 18 ] ، فَلَا مَعْنَى لِحَمْلِهِ عَلَى [ ص 451 ]
الْقِيَامَةِ وَالْأَمْرُ فِيهِ أَشَدّ مِمّا تَقَدّمَ لَا سِيمَا وَقَدْ قَالَ
فِي أُخْرَى : { لَا يَرْتَدّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ } [
إبْرَاهِيمَ 43 ] ، أَيْ قَدْ فَارَقَ الْقَلْبُ الْفُؤَادَ وَبَقِيَ فَارِغًا
هَوَاءً وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنّ الْقَلْبَ غَيْرُ الْفُؤَادِ كَأَنّ
الْفُؤَادَ هُوَ غِلَافُ الْقَلْبِ وَيُؤَيّدُهُ قَوْلُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَهْلِ الْيَمَنِ : أَلْيَنُ قُلُوبًا وَأَرَقّ أَفْئِدَةً
مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى : { فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ } [ الزّمَرَ 22 ]
. ولم يقل القاسية أفئدتهم ، والقسوة ضد اللين ، فتأمله . [ ص 452 ] { قَدْ
يَعْلَمُ اللّهُ الْمُعَوّقِينَ مِنْكُمْ } [ الْأَحْزَابَ : 18 ] أَيْ
الْمُخَذّلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ فَيُعَوّقُونَهُمْ بِالتّخْذِيلِ عَنْ الطّاعَةِ
لِقَوْلِهِمْ هَلُمّ إلَيْنَا . تَقُولُ عَاقَنِي الْأَمْرُ عَنْ كَذَا ،
وَعَوّقَنِي فُلَانٌ عَنْ كَذَا ، أَيْ صَرَفَنِي عَنْهُ . [ ص 453 ] [ ص 454 ]
وَذَكَرَ الصّيَاصِيَ وَأَنّهَا الْحُصُونُ وَاسْتَشْهَدَ بِقَوْلِ سُحَيْمٍ
يَصِفُ سَيْلًا :
وَأَصْبَحَتْ الثّيرَانُ صَرْعَى ، وَأَصْبَحَتْ ... نِسَاءُ تَمِيمٍ يَبْتَدِرْنَ
الصّيَاصِيَا
وَأَلْفَيْت فِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ رَحِمَهُ اللّهُ عَلَى هَذَا
الْبَيْتِ الصّيَاصِي : قُرُونُ الثّيرَانِ الْمَذْكُورَةُ فِيهِ لَا مَا تَوَهّمَ
ابْنُ هِشَامٍ أَنّهَا الْحُصُونُ وَالْآطَامُ يَقُولُ لَمّا أَهْلَكَ هَذَا
السّيْلُ الثّيرَانَ وَغَرّقَهَا أَصْبَحَتْ نِسَاءُ تَمِيمٍ يَبْتَدِرْنَ أَخْذَ
قُرُونِهَا ، لِيَنْسِجْنَ بِهَا الْبُجُدَ وَهِيَ الْأَكْسِيَةُ قَالَ هَذَا
يَعْقُوبُ عَنْ الْأَصْمَعِيّ . وَيُصَحّحُ هَذَا أَنّهُ لَا حُصُونَ فِي
بَادِيَةِ الْأَعْرَابِ قَالَ الْمُؤَلّفُ وَيُصَحّحُ هَذَا التّفْسِيرَ أَيْضًا
رِوَايَةُ أَحْمَدَ بْنِ دَاوُدَ لَهُ فَإِنّهُ أَنْشَدَهُ فِي كِتَابِ النّبَاتِ
لَهُ فَقَالَ فِيهِ يَلْتَقِطْنَ الصّيَاصِيَا وَلَمْ يَقُلْ يَبْتَدِرْنَ
وَأَنْشَدَ
فَذَعَرْنَا سُحْمَ الصّيَاصِي بِأَيْدِي ... هِنّ نَضْحٌ مِنْ الْكُحَيْلِ
وَقَارُ
[ ص 455 ] وَالْقَارُ الزّفْتُ شَبّهَ السّوَادَ الّذِي فِي أَيْدِيهِنّ بِنَضْحِ
مِنْ ذَلِكَ الْكُحَيْلِ وَالْقَارِ يَصِفُ بَعْرَ وَحْشٍ وَأَنْشَدَ لِدُرَيْدِ
بْنِ الصّمّةِ كَوَقْعِ الصّيَاصِي فِي النّسِيجِ الْمُمَدّدِ
وَحَمَلَهُ الْأَصْمَعِيّ عَلَى مَا تَقَدّمَ فِي الْبَيْتِ قَبْلَ هَذَا مِنْ
أَنّهَا الْقُرُونُ الّتِي يُنْسَجُ بِهَا ، لَا أَنّهَا شَوْكٌ كَمَا قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ .
إكْرَامُ سَعْدٍ فِي مَوْتِهِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا انْقَضَى شَأْنُ بَنِي قُرَيْظَةَ انْفَجَرَ
بِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ جُرْحُهُ فَمَاتَ مِنْهُ شَهِيدًا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
حَدّثَنِي مُعَاذُ بْنُ رِفَاعَةَ الزّرَقِيّ ، قَالَ حَدّثَنِي مَنْ شِئْت مِنْ
رِجَالِ قَوْمِي : أَنّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ قُبِضَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مِنْ جَوْفِ اللّيْلِ
مُعْتَجِرًا بِعِمَامَةِ مِنْ إسْتَبْرَقٍ فَقَالَ يَا مُحَمّدُ مَنْ هَذَا
الْمَيّتُ الّذِي فُتّحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السّمَاءِ وَاهْتَزّ لَهُ الْعَرْشُ ؟
قَالَ فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَرِيعًا يَجُرّ
ثَوْبَهُ إلَى سَعْدٍ فَوَجَدَهُ قَدْ مَاتَ . [ ص 456 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ
الرّحْمَنِ قَالَتْ أَقْبَلَتْ عَائِشَةُ قَافِلَةً مِنْ مَكّةَ ، وَمَعَهَا
أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَلَقِيَهُ مَوْتُ امْرَأَةٍ لَهُ فَحَزِنَ عَلَيْهَا
بَعْضَ الْحُزْنِ فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ يَغْفِرُ اللّهُ لَك يَا أَبَا يَحْيَى
، أَتَحْزَنُ عَلَى امْرَأَةٍ وَقَدْ أُصِبْت بِابْنِ عَمّك ، وَقَدْ اهْتَزّ لَهُ
الْعَرْشُ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ الْحَسَنِ
الْبَصْرِيّ ، قَالَ كَانَ سَعْدٌ رَجُلًا بَادِنًا ، فَلَمّا حَمَلَهُ النّاسُ
وَجَدُوا لَهُ خِفّةً فَقَالَ رِجَالٌ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَاَللّهِ إنْ كَانَ
لَبَادِنًا ، وَمَا حَمَلْنَا مِنْ جِنَازَةٍ أَخَفّ مِنْهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ إنّ لَهُ حَمَلَةً
غَيْرَكُمْ ، وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ اسْتَبْشَرَتْ الْمَلَائِكَةُ
بِرُوحِ سَعْدٍ وَاهْتَزّ لَهُ الْعَرْشُ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي
مُعَاذُ بْنُ رِفَاعَةَ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
الْجَمُوحِ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ، قَالَ لَمّا دُفِنَ سَعْدٌ
وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَبّحَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَسَبّحَ النّاسُ مَعَهُ ثُمّ كَبّرَ
فَكَبّرَ النّاسُ مَعَهُ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ مِمّ سَبّحْت ؟ قَالَ لَقَدْ
تَضَايَقَ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ الصّالِحِ قَبْرُهُ ، حَتّى فَرّجَهُ اللّهُ
عَنْهُ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَمَجَازُ هَذَا الْحَدِيثِ قَوْلُ عَائِشَةَ قَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّ لِلْقَبْرِ لَضَمّةً لَوْ
كَانَ أَحَدٌ مِنْهَا نَاجِيًا لَكَانَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ
: وَلِسَعْدِ يَقُولُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ :
وَمَا اهْتَزّ عَرْشُ اللّهِ مِنْ مَوْتِ هَالِكٍ ... سَمِعْنَا بِهِ إلّا
لِسَعْدِ أَبِي عَمْرٍو
[ ص 457 ] وَقَالَتْ أُمّ سَعْدٍ حِينَ اُحْتُمِلَ نَعْشُهُ وَهِيَ تَبْكِيهِ -
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ - وَهِيَ كُبَيْشَةُ بِنْتُ رَافِعِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ
عُبَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَبْدِ بْنِ الْأَبْجَرِ وَهُوَ خُدْرَةُ بْنُ
عَوْفِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ :
وَيْلُ أُمّ سَعْدٍ سَعْدًا ... صَرَامَةً وَحَدّا
وسُودَدًا وَمَجْدًا ... وَفَارِسًا مُعَدّا
سُدّ بِهِ مَسَدّا ... يَقُدّ هَامًا قَدّا
يَقُولُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كُلّ نَائِحَةٍ تَكْذِبُ
إلّا نَائِحَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ
شُهَدَاءُ الْغَزْوَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمْ يُسْتَشْهَدْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ
الْخَنْدَقِ إلّا سِتّةُ نَفَرٍ . وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ سَعْدُ بْنُ
مُعَاذٍ ، وَأَنَسُ بْنُ أَوْسِ بْنِ عَتِيكِ بْنِ عَمْرٍو ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ
سَهْلٍ . ثَلَاثَةُ نَفَرٍ . وَمِنْ بَنِي جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ ، ثُمّ مِنْ
بَنِي سَلِمَةَ الطّفَيْلُ بْنُ النّعْمَانَ وَثَعْلَبَةُ بْنُ غَنَمَةَ .
رَجُلَانِ . وَمِنْ بَنِي النّجّارِ ثُمّ مِنْ بَنِي دِينَارٍ : كَعْبُ بْنُ
زَيْدٍ أَصَابَهُ سَهْمُ غَرْبٍ فَقَتَلَهُ .
تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : سَهْمُ غَرْبٍ وَسَهْمٌ غَرْبٌ بِإِضَافَةِ وَغَيْرِ
إضَافَةٍ وَهُوَ الّذِي لَا يُعْرَفُ مِنْ أَيْنَ جَاءَ وَلَا مَنْ رَمَى بِهِ .
قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ
وَقُتِلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ . مِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ بْنِ
قُصَيّ : مُنَبّهُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ السّبّاقِ بْنِ عَبْدِ
الدّارِ ، أَصَابَهُ سَهْمٌ فَمَاتَ مِنْهُ بِمَكّةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هُوَ
عُثْمَانُ بْنُ أُمَيّةَ بْنِ مُنَبّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ السّبّاقِ . [ ص 458 ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمِنْ بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ نَوْفَلُ بْنُ
عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، سَأَلُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أَنْ يَبِيعَهُمْ جَسَدَهُ وَكَانَ اقْتَحَمَ الْخَنْدَقَ ، فَتَوَرّطَ
فِيهِ فَقُتِلَ فَغَلَبَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى جَسَدِهِ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا حَاجَةَ لَنَا فِي جَسَدِهِ وَلَا بِثَمَنِهِ
، فَخَلّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَعْطَوْا رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِجَسَدِهِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فِيمَا
بَلَغَنِي عَنْ الزّهْرِيّ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ
لُؤَيّ ، ثُمّ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ حِسْلٍ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدّ ،
قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ . قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي الثّقَةُ أَنّهُ حُدّثَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ
أَنّهُ قَالَ قَتَلَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَئِذٍ عَمْرَو بْنَ عَبْدِ
وُدّ وَابْنَهُ حِسْلَ بْنَ عَمْرٍو . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ عَمْرُو
بْنُ عَبْدِ وُدّ ، وَيُقَالُ عَمْرُو بْنُ عَبْدٍ .
شُهَدَاءُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ ثُمّ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ : خَلّادُ بْنُ
سُوَيْدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرٍو ، طُرِحَتْ عَلَيْهِ رَحَى ، فَشَدَخَتْهُ
شَدْخًا شَدِيدًا ، فَزَعَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ قَالَ إنّ لَهُ لَأَجْرَ شَهِيدَيْنِ وَمَاتَ أَبُو سِنَانِ بْنُ
مِحْصَنِ بْنِ حُرْثَانَ ، أَخُو بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ ، وَرَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُحَاصِرٌ بَنِي قُرَيْظَةَ فَدُفِنَ فِي
مَقْبَرَةِ بَنِي قُرَيْظَةَ الّتِي يَدْفِنُونَ فِيهَا الْيَوْمَ وَإِلَيْهِ
دَفَنُوا أَمْوَاتَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ .Sاهْتِزَازُ
الْعَرْشِ
وَذَكَرَ اهْتِزَازَ الْعَرْشِ وَقَدْ تَكَلّمَ النّاسُ فِي مَعْنَاهُ وَظَنّوا
أَنّهُ مُشْكِلٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ الِاهْتِزَازُ هَاهُنَا بِمَعْنَى
الِاسْتِبْشَارِ بِقُدُومِ رُوحِهِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ يُرِيدُ حَمَلَةَ الْعَرْشِ
وَمَنْ عِنْدَهُ [ ص 456 ] الْحَقِيقَةِ وَلَا بُعْدَ فِيهِ لِأَنّهُ مَخْلُوقٌ
وَتَجُوزُ عَلَيْهِ الْحَرَكَةُ وَالْهَزّةُ وَلَا يُعْدَلُ عَنْ ظَاهِرِ اللّفْظِ
مَا وُجِدَ إلَيْهِ سَبِيلٌ وَحَدِيثُ اهْتِزَازِ الْعَرْشِ لِمَوْتِ سَعْدٍ
صَحِيحٌ . قَالَ أَبُو عُمَرَ هُوَ ثَابِتٌ مِنْ طُرُقٍ مُتَوَاتِرَةٍ وَمَا
رُوِيَ مِنْ قَوْلِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ فِي مَعْنَاهُ أَنّهُ سَرِيرُ سَعْدٍ
اهْتَزّ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ الْعُلَمَاءُ وَقَالُوا : كَانَتْ بَيْنَ
هَذَيْنِ الْحَيّيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ ضَغَائِنُ . وَفِي لَفْظِ الْحَدِيثِ
اهْتَزّ عَرْشُ الرّحْمَنِ رَوَاهُ أَبُو الزّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ يَرْفَعُهُ وَرَوَاهُ
الْبُخَارِيّ مِنْ طَرِيقِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَأَبِي سُفْيَانَ
كِلَاهُمَا عَنْ جَابِرٍ وَرَوَاهُ مِنْ الصّحَابَةِ جَمَاعَةٌ غَيْرُ جَابِرٍ
مِنْهُمْ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ ، وأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَرُمَيْثَةُ
بِنْتُ عَمْرٍو ، ذَكَرَ ذَلِكَ التّرْمِذِيّ . وَالْعَجَبُ لِمَا رُوِيَ عَنْ
مَالِكٍ رَحِمَهُ اللّهُ مِنْ إنْكَارِهِ [ ص 457 ] وَكَرَاهِيَتِهِ لِلتّحَدّثِ
بِهِ مَعَ صِحّةِ نَقْلِهِ وَكَثْرَةِ الرّوَاةِ لَهُ وَلَعَلّ هَذِهِ الرّوَايَةَ
لَمْ تَصِحّ عَنْ مَالِكٍ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . [ ص 458 ]
الْبِشَارَةُ بِغَزْوِ
قُرَيْشٍ
وَلَمّا انْصَرَفَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ عَنْ الْخَنْدَقِ ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا بَلَغَنِي : لَنْ تَغْزُوَكُمْ قُرَيْشٌ
بَعْدَ عَامِكُمْ هَذَا ، وَلَكِنّكُمْ تَغْزُونَهُمْ . فَلَمْ تَغْزُهُمْ
قُرَيْشٌ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَانَ هُوَ الّذِي يَغْزُوهَا ، حَتّى فَتَحَ اللّهُ
عَلَيْهِ مَكّةَ .
مَا قِيلَ مِنْ الشّعْرِ فِي
أَمْرِ الْخَنْدَقِ وَبَنِيّ قُرَيْظَةَ
شِعْرُ ضِرَارٍ
[ ص 459 ] وَقَالَ ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ بْنِ مِرْدَاسٍ ، أَخُو بَنِي مُحَارِبِ
بْنِ فِهْرٍ ، فِي يَوْمِ الْخَنْدَقِ [ ص 460 ]
وَمُشْفِقَةٍ تَظُنّ بِنَا الظّنُونَا ... وَقَدْ قُدْنَا عَرَنْدَسَةً طَحُونَا
كَأَنّ زُهَاءَهَا أُحُدٌ إذَا مَا ... بَعُدَتْ أَرْكَانُهُ لِلنّاظِرِينَا
تَرَى الْأَبْدَانَ فِيهَا مُسْبَغَاتٍ ... عَلَى الْأَبْطَالِ وَالْيَلَبَ
الْحَصِينَا
وَجُرْدًا كَالْقِدَاحِ مُسَوّمَاتٍ ... نَؤُمّ بِهَا الْغُوَاةَ الْخَاطِيِينَا
كَأَنّهُمْ إذَا صَالُوا وَصُلْنَا ... بِبَابِ الْخَنْدَقَيْنِ مُصَافِحُونَا
أَنَاسٌ لَا نَرَى فِيهِمْ رَشِيدًا ... وَقَدْ قَالُوا أَلَسْنَا رَاشِدِينَا
فَأَحْجَرْنَاهُمُ شَهْرًا كَرِيتًا ... وَكُنّا فَوْقَهُمْ كَالْقَاهِرِينَا
مُزَاوِحُهُمْ وَتَغْدُو كُلّ يَوْمٍ ... عَلَيْهِمْ فِي السّلَاحِ مُدَجّجِينَا
بِأَيْدِينَا صَوَارِمُ مُرْهَفَاتٍ ... نَقُدّ بِهَا الْمَفَارِقَ وَالشّؤُونَا
كَأَنّ وَمِيضَهُنّ مُعَرّيَاتٍ ... إذْ لَاحَتْ بِأَيْدِي مُصَلّتِينَا
وَمِيضُ عَقِيقَةٍ لَمَعَتْ بِلَيْلِ ... تَرَى فِيهَا الْعَقَائِقَ مُسْتَبِينَا
فَلَوْلَا خَنْدَقٌ كَانُوا لَدَيْهِ ... لَدَمّرْنَا عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَا
وَلَكِنْ حَالَ دُونَهُمْ وَكَانُوا ... بِهِ مِنْ خَوْفِنَا مُتَعَوّذِينَا
فَإِنْ نَرْحَلْ فَإِنّا قَدْ تَرَكْنَا ... لَدَى أَبْيَاتِكُمْ سَعْدًا رَهِينًا
إذَا جَنّ الظّلَامُ سَمِعْت نَوْحَى ... عَلَى سَعْدٍ يُرَجّعْنَ الْحَنِينَا
وَسَوْفَ نَزُورُكُمْ عَمّا قَرِيبٍ ... كَمَا زُرْنَاكُمْ مُتَوَازِرِينَا
بِجَمْعِ مِنْ كِنَانَةَ غَيْرِ عُزْلٍ ... كَأُسْدِ الْغَابِ قَدْ حَمَتْ
الْعَرِينَا
كَعْبٌ يَرُدّ عَلَى ضِرَارٍ
فَأَجَابَهُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ ، فَقَالَ [ ص 461 ]
وَسَائِلَةٍ تُسَائِلُ مَا لَقِينَا ... وَلَوْ شَهِدَتْ رَأَتْنَا صَابِرِينَا
صَبَرْنَا لَا نَرَى لِلّهِ عَدْلًا ... عَلَى مَا نَابَنَا مُتَوَكّلِينَا
وَكَانَ لَنَا النّبِيّ وَزِيرَ صِدْقٍ ... بِهِ نَعْلُو الْبَرِيّةَ أَجْمَعِينَا
نُقَاتِلُ مَعْشَرًا ظَلَمُوا وَعَقّوا ... وَكَانُوا بِالْعَدَاوَةِ مُرْصِدِينَا
نُعَاجِلُهُمْ إذَا نَهَضُوا إلَيْنَا ... بِضَرْبِ يُعْجِلُ الْمُتَسَرّعِينَا
تَرَانَا فِي فَضَافِضَ سَابِغَاتٍ ... كَغُدْرَانِ الْمَلَا مُتَسَرْبِلِينَا
وَفِي أَيْمَانِنَا بِيضٌ خِفَافٌ ... بِهَا نَشْفِي مِرَاحَ الشّاغِبِينَا
بِبَابِ الْخَنْدَقَيْنِ كَأَنّ أُسْدًا ... شَوَابِكُهُنّ يَحْمِينَ الْعَرِينَا
فَوَارِسُنَا إذَا بَكَرُوا وَرَاحُوا ... عَلَى الْأَعْدَاءِ شُوسًا مُعْلَمِينَا
لِنَنْصُرَ أَحْمَدًا وَاَللّهَ حَتّى ... نَكُونَ عِبَادَ صِدْقٍ مُخْلِصِينَا
وَيَعْلَمُ أَهْلُ مَكّةَ حِينَ سَارُوا ... وَأَحْزَابٌ أَتَوْا مُتَحَزّبِينَا
بِأَنّ اللّهَ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ ... وَأَنّ اللّهَ مَوْلَى الْمُؤْمِنِينَا
فَإِمّا تَقْتُلُوا سَعْدًا سِفَاهًا ... فَإِنّ اللّهَ خَيْرُ الْقَادِرِينَا
سَيُدْخِلُهُ جِنَانًا طَيّبَاتٍ ... تَكُونُ مُقَامَةً لِلصّالِحِينَا
كَمَا قَدْ رَدّكُمْ فَلّا شَرِيدًا ... بِغَيْظِكُمْ خَزَايَا خَائِبِينَا
خَزَايَا لَمْ تَنَالُوا ثَمّ خَيْرًا ... وَكِدْتُمْ أَنْ تَكُونُوا دَامِرِينَا
بِرِيحِ عَاصِفٍ هَبّتْ عَلَيْكُمْ ... فَكُنْتُمْ تَحْتَهَا مُتَكَمّهِينَا .Sفَصْلٌ
فِي أَشْعَارِ يَوْمِ الْخَنْدَقِ
شِعْرُ ضِرَارٍ
[ ص 459 ] ذَكَرَ فِيهَا شِعْرَ ضِرَارِ بْنِ الْخَطّابِ : عَلَى الْأَبْطَالِ
وَالْيَلَبَ الْحَصِينَا
الْيَلَبُ التّرَسَةُ وَقِيلَ الدّرَقُ وَقِيلَ بَيْضَاتٌ وَدُرُوعٌ كَانَتْ
تُتّخَذُ مِنْ جُلُودِ الْإِبِلِ وَيَشْهَدُ لِهَذَا قَوْلُ حَبِيبٍ
هَذِهِ الْأَسِنّةُ وَالْمَاذِيّ قَدْ كَثُرَا ... فَلَا الصّيَاصِي لَهَا قَدْرٌ
وَلَا الْيَلَبُ
أَيْ لَا حَاجَةَ بَعْدَ وُجُودِ الدّرُوعِ الْمَاذِيّةِ إلَى الْيَلَبِ وَبَعْدَ
الْأَسِنّةِ إلَى الصّيَاصِي ، وَهِيَ الْقُرُونُ وَكَانَتْ أَسِنّتُهُمْ مِنْهَا
فِي الْجَاهِلِيّةِ . قَالَ الشّاعِرُ
يُهَزْهِزُ صَعْدَةً جَرْدَاءَ فِيهَا ... نَقِيعُ السّمّ أَوْ قَرْنٌ مُحِيقُ
شِعْرُ كَعْبٍ
[ ص 460 ] وَذَكَرَ فِي شِعْرِ كَعْبٍ فَكُنْتُمْ تَحْتَهَا مُتَكَمّهِينَا
[ ص 461 ] أَعْمَى ، وَقَدْ قِيلَ فِيهِ إنّهُ الّذِي لَا يُبْصِرُ بِاللّيْلِ
شَيْئًا ، ذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ الْبُخَارِيّ فِي التّفْسِيرِ .
شِعْرُ ابْنِ الزّبَعْرَى
وَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الزّبَعْرَى السّهْمِيّ فِي يَوْمِ الْخَنْدَقِ :
حَيّ الدّيَارِ مَحَا مَعَارِفَ رَسْمِهَا ... طُولُ الْبِلَى وَتَرَاوُحُ
الْأَحْقَابِ
فَكَأَنّمَا كَتَبَ الْيَهُودُ رُسُومَهَا ... إلّا الْكَنِيفَ وَمَعْقِدَ
الْأَطْنَابِ
قَفْرًا كَأَنّك لَمْ تَكُنْ تَلْهُو بِهَا ... فِي نِعْمَةٍ بِأَوَانِسٍ
أَتْرَابِ
فَاتْرُكْ تَذَكّرَ مَا مَضَى مِنْ عِيشَةٍ ... وَمَحِلّةٍ خَلْقِ الْمَقَامِ
يَبَابِ
وَاذْكُرْ بَلَاءَ مَعَاشِرَ وَاشْكُرْهُمْ ... سَارُوا بِأَجْمَعِهِمْ مِنْ
الْأَنْصَابِ
أَنْصَابِ مَكّةَ عَامِدِينَ لِيَثْرِبِ ... فِي ذِي غَيَاطِلَ جَحْفَلٍ جَبْجَابِ
يَدَعُ الْخُزُونَ مَنَاهِجًا مَعْلُومَةً ... فِي كُلّ نَشْرٍ ظَاهِرٍ وَشِعَابِ
فِيهَا الْجِيَادُ شَوَازِبٌ مَجْنُوبَةٌ ... قُبّ الْبُطُونِ لَوَاحِقُ
الْأَقْرَابِ
مِنْ كُلّ سَلْهَبَةٍ وَأَجْرَدَ سَلْهَبٍ ... كَالسّيّدِ بَادَرَ غَفْلَةَ
الرّقّابِ
جَيْشٌ عُيَيْنَةُ قَاصِدٌ بِلِوَائِهِ ... فِيهِ وَصَخْرٌ قَائِدُ الْأَحْزَابِ
قَرْمَانُ كَالْبَدْرَيْنِ أَصْبَحَ فِيهِمَا ... غَيْثَ الْفَقِيرِ وَمَعْقِلَ
الْهُرّابِ
حَتّى إذَا وَرَدُوا الْمَدِينَةَ وَارْتَدَوْا ... لِلْمَوْتِ كُلّ مُجَرّبٍ
قَضّابِ
شَهْرًا وَعَشْرًا قَاهِرِينَ مُحَمّدًا ... وَصِحَابُهُ فِي الْحَرْبِ خَيْرُ
صِحَابِ
نَادَوْا بِرِحْلَتِهِمْ صَبِيحَةَ قُلْتُمْ ... كِدْنَا نَكُونُ بِهَا مَعَ
الْخُيّابِ
لَوْلَا الْخَنَادِقُ غَادَرُوا مِنْ جَمْعِهِمْ ... قَتْلَى لِطَيْرِ سُغّبٍ
وَذِئَابِ
حَسّانُ يَرُدّ عَلَى ابْنِ الزّبَعْرَى
[ ص 462 ] حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيّ فَقَالَ
هَلْ رَسْمُ دَارِسَةِ الْمَقَامِ يَبَابِ ... مُتَكَلّمٍ لِمُحَاوِرِ بِجَوَابِ
قَفْرٌ عَفَا رِهَمُ السّحَابِ رُسُومَهُ ... وَهُبُوبُ كُلّ مُطِلّةٍ مِرْبَابِ
وَلَقَدْ رَأَيْت بِهَا الْحُلُولَ يَزِينُهُمْ ... بِيضُ الْوُجُوهِ ثَوَاقِبُ
الْأَحْسَابِ
فَدَعْ الدّيَارَ وَذِكْرَ كُلّ خَرِيدَةٍ ... بَيْضَاءَ آنِسَةِ الْحَدِيثِ
كَعَابِ
وَاشْكُ الْهُمُومَ إلَى الْإِلَهِ وَمَا تَرَى ... مِنْ مَعْشَرٍ ظَلَمُوا
الرّسُولَ غِضَابِ
سَارُوا بِأَجْمَعِهِمْ إلَيْهِ وَأَلّبُوا ... أَهْلَ الْقُرَى وَبَوَادِيَ
الْأَعْرَابِ
جَيْشٌ عُيَيْنَةُ وَابْنُ حَرْبٍ فِيهِمْ ... مُتَخَمّطُونَ بِحَلْبَةِ
الْأَحْزَابِ
حَتّى إذَا وَرَدُوا الْمَدِينَةَ وَارْتَجَوْا ... قَتْلَى الرّسُولِ وَمَغْنَمَ
الْأَسْلَابِ
وَغَدَوْا عَلَيْنَا قَادِرِينَ بِأَيْدِهِمْ ... رُدّوا بِغَيْظِهِمْ عَلَى
الْأَعْقَابِ
بِهُبُوبِ مُعْصِفَةٍ تُفَرّقُ جَمْعَهُمْ ... وَجُنُودِ رَبّك سَيّدِ
الْأَرْبَابِ
فَكَفَى الْإِلَهُ الْمُؤْمِنِينَ قِتَالَهُمْ ... وَأَثَابَهُمْ فِي الْأَجْرِ
خَيْرَ ثَوَابِ
مِنْ بَعْدِ مَا قَنِطُوا فَفَرّقَ جَمْعَهُمْ ... تَنْزِيلُ نَصْرِ مَلِيكِنَا
الْوَهّابِ
وَأَقَرّ عَيْنَ مُحَمّدٍ وَصِحَابِهِ ... وَأَذَلّ كُلّ مُكَذّبٍ مُرْتَابِ
عَاتِي الْفُؤَادِ مُوَقّعٍ ذِي رِيبَةٍ ... فِي الْكُفْرِ لَيْسَ بِطَاهِرِ
الْأَثْوَابِ
عَلِقَ الشّقَاءُ بِقَلْبِهِ فَفُؤَادُهُ ... فِي الْكُفْرِ آخِرُ هَذِهِ
الْأَحْقَابِ
[ ص 463 ] [ ص 464 ]Sمِنْ
شِعْرِ حَسّانَ حَوْلَ أَسْمَاءِ اللّهِ
[ ص 462 ] وَجُنُودِ رَبّك سَيّدِ الْأَرْبَابِ
[ ص 463 ] زَعَمَ أَنّ السّيّدَ مِنْ أَسْمَاءِ اللّهِ وَقَدْ كَرِهَ أَكْثَرُ
الْعُلَمَاءِ أَنْ يَقُولَ فِي الدّعَاءِ يَا سَيّدِي ، وَأَجَازَهُ بَعْضُهُمْ
وَاحْتَجّ بِحَدِيثِ لَيْسَ إسْنَادُهُ بِالْقَوِيّ أَنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لَهُ رَجُلٌ يَا سَيّدُ فَقَالَ " السّيّدُ اللّهُ
" وَأَمّا مَذْهَبُ الْقَاضِي فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ الْأَسْمَاءِ الّتِي
يُرَادُ بِهَا الْمَدْحُ وَالتّعْظِيمُ فَذِكْرُ اللّهِ بِهِ جَائِزٌ مَا لَمْ
يَرِدْ نَهْيٌ عَنْهُ أَوْ تُجْمِعْ الْأُمّةُ عَلَى تَرْكِ الدّعَاءِ بِهِ كَمَا
أَجْمَعُوا أَلّا يُسَمّى بِفَقِيهِ وَلَا عَاقِلٍ وَلَا سَخِيّ وَإِنْ كَانَ فِي
ذَلِكَ مَدْحٌ . قَالَ الْمُؤَلّفُ وَاَلّذِي أَقُولُ فِي السّيّدِ أَنّهُ اسْمٌ
يُعْتَبَرُ بِالْإِضَافَةِ لِأَنّهُ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ بَعْضُ مَا أُضِيفَ
إلَيْهِ . تَقُولُ فُلَانٌ سَيّدُ قَيْسٍ ، إذَا كَانَ وَاحِدًا مِنْهُمْ وَلَا
يُقَالُ فِي قَيْسٍ هُوَ سَيّدُ تَمِيمٍ لِأَنّهُ لَيْسَ وَاحِدًا مِنْهُمْ
فَكَذَلِكَ لَا يُقَالُ فِي اللّهِ تَعَالَى : هُوَ سَيّدُ النّاسِ وَلَا سَيّدُ
الْمَلَائِكَةِ وَإِنّمَا يُقَالُ رَبّهُمْ فَإِذَا قُلْت : سَيّدُ الْأَرْبَابِ
وَسَيّدُ الْكُرَمَاءِ جَازَ لِأَنّ مَعْنَاهُ أَكْرَمُ الْكُرَمَاءِ وَأَعْظَمُ
الْأَرْبَابِ ثُمّ يُشْتَقّ لَهُ مِنْ اسْمِ الرّبّ فَيُوصَفُ بِالرّبُوبِيّةِ
وَلَا يُوصَفُ بِالسّؤْدُدِ لِأَنّهُ لَيْسَ لَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَقَدْ جَاءَ
فِي شِعْرِ حَسّانَ الّذِي يَرْثِي بِهِ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَذَا الْعُلَا وَالسّؤْدَدِ
يَصِفُ الرّبّ وَلَكِنْ لَا تَقُومُ الْحُجّةُ فِي إطْلَاقِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ
إلّا أَنْ يَسْمَعَهَا الرّسُولُ عَلَيْهِ السّلَامُ فَلَا يُنْكِرَهَا ، كَمَا
سَمِعَ شِعْرَ كَعْبٍ فَلَمْ يُنْكِرْهُ وَإِنّمَا وُصِفَ عَلَى الْوَجْهِ الّذِي
قَدّمْنَاهُ وَعَلَى الْمَعْنَى الّذِي بَيّنّاهُ .
كَعْبٌ يَرُدّ عَلَى ابْنِ
الزّبَعْرَى
وَأَجَابَهُ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ أَيْضًا ، فَقَالَ
أَبْقَى لَنَا حَدَثُ الْحُرُوبِ بَقِيّةً ... مِنْ خَيْرِ نِحْلَةِ رَبّنَا
الْوَهّابِ
بَيْضَاءَ مُشْرِفَةَ الذّرَى وَمَعَاطِنًا ... حُمّ الْجُذُوعِ غَزِيرَةَ الْأَحْلَابِ
كَاللّوبِ يُبْذَلُ جَمّهَا وَحَفِيلُهَا ... لِلْجَارِ وَابْنِ الْعَمّ
وَالْمُنْتَابِ
وَنَزَائِعًا مِثْلَ السّرَاجِ نَمَى بِهَا ... عَلَفُ الشّعِيرِ وَجِزّةُ
لِلْقَضّابِ
عَرِيَ الشّوَى مِنْهَا وَأَرْدَفَ نَحْضَهَا ... جُرْدُ الْمُتُونِ وَسَائِرُ
الْآرَابِ
قُودًا تَرَاحُ إلَى الصّيَاحِ إذْ غَدَتْ ... فِعْلَ الضّرَاءِ تَرَاحُ
لِلْكُلّابِ
وَتَحُوطُ سَائِمَةَ الدّيَارِ وَتَارَةً ... تُرْدِي الْعِدَا وَتَثُوبُ
بِالْأَسْلَابِ
حُوشُ الْوُحُوشِ مَطَارَةٌ عِنْدَ الْوَغَى ... عُبْسُ اللّقَاءِ مُبِينَةُ الْإِنْجَابِ
عُلِفَتْ عَلَى دَعَةٍ فَصَارَتْ بُدّنًا ... دُخْسَ الْبَضِيعِ خَفِيفَةَ
الْأَقْصَابِ
يَغْدُونَ بِالزّغْفِ الْمُضَاعِفِ شَكّهُ ... وَبِمُتْرَصَاتِ فِي الثّقَافِ
صِيَابِ
وَصَوَارِمٍ نَزَعَ الصّيَاقِلُ غَلْبَهَا ... وَبِكُلّ أَرْوَعَ مَاجِدِ الْأَنْسَابِ
يَصِلُ الْيَمِينَ بِمَارِنِ مُتَقَارِبٍ ... وُكِلَتْ وَقِيعَتُهُ إلَى خَبّابِ
وَأَغَرّ أَزْرَقَ فِي الْقَنَاةِ كَأَنّهُ ... فِي طُخْيَةِ الظّلْمَاءِ ضَوْءَ
شِهَابِ
وَكَتِيبَةٍ يَنْفِي الْقِرَانُ قَتِيرَهَا ... وَتَرُدّ حَدّ قَوَاحِذِ النّشّابِ
جَأْوَى مُلَمْلَمَةٍ كَأَنّ رِمَاحَهَا ... فِي كُلّ مَجْمَعَةٍ ضَرِيمَةُ غَابِ
يَأْوِي إلَى ظِلّ اللّوَاءِ كَأَنّهُ ... فِي صَعْدَةِ الْخَطّيّ فَيْءُ عُقَابِ
أَعْيَتْ أَبَا كَرِبٍ وَأَعْيَتْ تُبّعًا ... وَأَبَتْ بَسَالَتُهَا عَلَى
الْأَعْرَابِ
وَمَوَاعِظٌ مِنْ رَبّنَا نُهْدَى بِهَا ... بِلِسَانِ أَزْهَرَ طَيّبِ
الْأَثْوَابِ
عُرِضَتْ عَلَيْنَا فَاشْتَهَيْنَا ذِكْرَهَا ... مِنْ بَعْدِمَا عُرِضَتْ عَلَى
الْأَحْزَابِ
حِكَمًا يَرَاهَا الْمُجْرِمُونَ بِزَعْمِهِمْ ... حَرَجًا وَيَفْهَمُهَا ذَوُو
الْأَلْبَابِ
جَاءَتْ سَخِينَةُ كَيْ تُغَالِبَ رَبّهَا ... فَلَيُغْلَبَنّ مُغَالِبُ
الْغَلّابِ
[ ص 465 ] [ ص 466 ] [ ص 467 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ
قَالَ حَدّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ
بْنِ الزّبَيْرِ ، قَالَ لَمّا قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ :
جَاءَتْ سَخِينَةُ كَيْ تُغَالِبَ رَبّهَا ... فَلَيُغْلَبَنّ مُغَالِبُ
الْغَلّابِ
قَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَقَدْ شَكَرَك اللّهُ
يَا كَعْبُ عَلَى قَوْلِك هَذَا .Sمِنْ
شِعْرِ كَعْبٍ
[ ص 464 ] بَيْضَاءَ مُشْرِفَةَ الذّرَى وَمَعَاطِنًا
يَعْنِي : الْآطَامَ وَقَوْلُهُ مَعَاطِنًا يَعْنِي : مَنَابِتَ النّخْلِ عِنْدَ
الْمَاءِ شَبّهَهَا بِمَعَاطِنِ الْإِبِلِ وَهِيَ مَبَارِكُهَا عِنْدَ الْمَاءِ .
وَقَوْلُهُ حُمّ الْجُذُوعِ وَصَفَهَا بِالْحُمّةِ وَهِيَ السّوَادُ لِأَنّهَا
تَضْرِبُ إلَى السّوَادِ مِنْ الْخُضْرَةِ وَالنّعْمَةِ وَشَبّهَ مَا يُجْتَنَى
مِنْهَا بِالْحَلَبِ فَقَالَ غَزِيرَةَ الْأَحْلَابِ . وَقَوْلُهُ كَاللّوبِ
اللّوبُ جَمْعُ لُوبَةٍ وَاللّابُ جَمْعُ لَابَةٍ وَهِيَ الْحَرّةُ ، يُقَالُ مَا
بَيْنَ لَابَتَيْهَا مِثْلُ فُلَانٍ وَلَا يُقَالُ ذَلِكَ فِي كُلّ بَلَدٍ فَقَدْ
قَالَ شَبِيبُ بْنُ شَبِيبَةَ لِرَجُلِ نَسَبَهُ إلَى التّصْحِيفِ فِي حَدِيثِ
السّقْطِ إنّهُ يَظِلّ مُحْبَنْطِئًا عَلَى بَابِ الْجَنّةِ فَقَالَ لَهُ شَبِيبٌ
بِالظّاءِ مَنْقُوطَةً فَقَالَ الرّجُلُ أَخْطَأْت ، إنّمَا هُوَ بِالطّاءِ .
قَالَ الرّاجِزُ
إِنّي إِذَا اسْتَنْشَدْت لا أَحْبَنْطِي وَلَا ... أُحِبّ كَثْرَةَ التّمَطّي
[ ص 465 ] فَقَالَ لَهُ شَبِيبٌ أَتُلَحّنُنِي وَمَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا أَفْصَحُ
مِنّي ، فَقَالَ لَهُ الرّجُلُ وَهَذِهِ لَحْنَةٌ أُخْرَى ، أوَ لِلْبَصْرَةِ
لَابَتَانِ ؟ إنّمَا اللّابَتَانِ لِلْمَدِينَةِ وَالْكُوفَةِ . وَقَوْلُهُ
يُبْذَلُ جَمّهَا وَحَفِيلُهَا ، أَيْ الْكَثِيرُ مِنْهَا ، وَالْمُنْتَابِ
الزّائِرُ مُفْتَعِلٌ مِنْ نَابَ يَنُوبُ إذَا أَلَمّ . وَقَوْلُهُ وَنَزَائِعًا
مِثْلَ السّرَاجِ يَعْنِي : الْخَيْلَ الْعَرَبِيّةَ الّتِي نَزَعَتْ مِنْ
الْأَعْدَاءِ .
وَقَوْلُهُ مِثْلَ السّرَاجِ بِالْجِيمِ كَذَا وَقَعَ فِي الْأَصْلِ أَيْ كُلّ
وَاحِدٍ مِنْهَا كَالسّرَاجِ وَوَقَعَ فِي الْحَاشِيَةِ بِالْحَاءِ وَفَسّرَهُ
فَقَالَ جَمْعُ سِرْحَانٍ وَهُوَ الذّئْبُ وَهَذَا الْجَمْعُ إنّمَا جَازَ عَلَى
تَقْدِيرِ حَذْفِ الزّائِدَتَيْنِ مِنْ الِاسْمِ وَهِيَ الْأَلِفُ وَالنّونُ
وَلَوْ جَمَعَهُ عَلَى لَفْظِهِ لَقَالَ سَرَاحِينَ . وَقَوْلُهُ وَجِزّةُ
الْمِقْضَابِ الْمِقْضَابُ مَزْرَعَةٌ وَجِزّتُهَا مَا يُجَزّ مِنْهَا لِلْخَيْلِ
.
وَقَوْلُهُ عَرِيَ الشّوَى مِنْهَا ، يَعْنِي : الْقَوَائِمَ . وَالنّحْضُ
اللّحْمُ . وَالْآرَابُ الْمَفَاصِلُ وَاحِدُهُمَا إرْبٌ وَفِي الْحَدِيثِ أُمِرْت
أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ آرَابٍ . وَقَوْلُهُ قُودًا ، أَيْ طِوَالُ الْأَعْنَاقِ
وَالضّرَاءُ الْكِلَابُ الضّارِيَةُ وَفِي الْحَدِيثِ إنّ قَيْسًا ضِرَاءُ اللّهِ
فِي الْأَرْضِ أَيّ أَشُدّهُ الضّارِيَةُ وَالْكُلّابُ جَمْعُ كَالِبٍ وَهُوَ
صَاحِبُ الْكِلَابِ الّذِي يَصِيدُ بِهَا .
وَقَوْلُهُ عُبْسُ اللّقَاءِ جَمْعُ عَبُوسٍ . [ ص 466 ] دُخْسَ الْبَضِيعِ .
الْبَضْعُ اللّحْمُ الْمُسْتَطِيلُ وَالدّخِيسُ مِنْ اللّحْمِ الْكَثِيرُ .
وَقَوْلُهُ خَفِيفَةَ الْأَقْصَابِ يَعْنِي : جَمْعَ قُصْبٍ وَهُوَ الْمِعَى
وَمِنْهُ سُمّيَ الْجَزّارُ قَصّابًا ، وَقَوْلُهُ يَعْدُونَ بِالزّغْفِ أَيّ
بِالدّرُوعِ . وَقَوْلُهُ شَكّهُ حِلَقُهُ وَنَسْجُهُ وَقَوْلُهُ وَبِمُتْرَصَاتِ
فِي الثّقَافِ صِبَابِ
الْمُتْرَصَاتُ الْمُحْكَمَةُ يَعْنِي : الرّمَاحَ الْمُثَقّفَةَ .
وَقَوْلُهُ نَزَعَ الصّيَاقِلُ عَلْبَهَا ، أَيْ جُسْأَتَهَا وَخُشُونَةَ
دَرْئِهَا ، يُقَالُ عَلِبَ اللّحْمُ إذَا لَمْ يَكُنْ رَخْصًا ، وَعَلِبَ
النّبَاتُ إذَا جَسَأَ .
وَقَوْلُهُ بِمَارِنِ مُتَقَارِبٍ . الْمَازِنُ اللّيّنُ وَوَقِيعَتُهُ صَقْلُهُ
وَخَبّابُ اسْمُ صَيْقَلٍ .
وَقَوْلُهُ وَأَغَرّ أَزْرَقَ يَعْنِي : الرّمْحَ وَطُخْيَةِ الظّلْمَاءِ أَيْ
شِدّتِهَا ، وَطَخَاءُ الْقَلْبِ ظُلْمَتُهُ وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ
فِي السّفَرْجَلِ إنّهُ يَذْهَبُ بِطَخَاءِ الْقَلْبِ . [ ص 467 ] جَاءَتْ
سَخِينَةُ كَيْ تُغَالِبَ رَبّهَا
كَانَ هَذَا الِاسْمُ مِمّا سُمّيَتْ بِهِ قُرَيْشٌ قَدِيمًا ، ذَكَرُوا أَنّ قُصَيّا
كَانَ إذَا ذُبِحَتْ ذَبِيحَةٌ أَوْ نُحِرَتْ نَحِيرَةٌ بِمَكّةَ أَتَى
بِعَجُزِهَا ، فَصَنَعَ مِنْهُ خَزِيرَةً وَهُوَ لَحْمٌ يُطْبَخُ بِبُرّ
فَيُطْعِمُهُ النّاسَ فَسُمّيَتْ قُرَيْشٌ بِهَا سَخِينَةَ . وَقِيلَ إنّ
الْعَرَبَ كَانُوا إذَا أَسْنَتُوا أَكَلُوا الْعِلْهِزَ وَهُوَ الْوَبْرُ
وَالدّمُ وَتَأْكُلُ قُرَيْشٌ الْخَزِيرَةَ وَالْفَتّةَ فَنَفِسَتْ عَلَيْهِمْ
ذَلِكَ فَلَقّبُوهُمْ سَخِينَةَ وَلَمْ تَكُنْ قُرَيْشٌ تَكْرَهُ هَذَا اللّقَبَ
وَلَوْ كَرِهَتْهُ مَا اسْتَجَازَ كَعْبٌ أَنْ يَذْكُرَهُ وَرَسُولُ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْهُمْ وَلَتَرَكَهُ أَدَبًا مَعَ النّبِيّ
عَلَيْهِ السّلَامُ إذْ كَانَ قُرَشِيّا ، وَلَقَدْ اُسْتُنْشِدَ عَبْدُ الْمَلِكِ
بْنُ مَرْوَانَ مَا قَالَهُ الْهَوَازِنِيّ فِي قُرَيْشٍ :
يَا شَدّةً مَا شَدَدْنَا غَيْرَ كَاذِبَةٍ ... عَلَى سَخِينَةَ لَوْلَا اللّيْلُ
وَالْحَرَمُ
فَقَالَ مَا زَادَ هَذَا عَلَى أَنْ اسْتَثْنَى ، وَلَمْ يَكْرَهْ سَمَاعَ
التّلْقِيبِ بِسَخِينَةَ فَدَلّ هَذَا عَلَى أَنّ هَذَا اللّقَبَ لَمْ يَكُنْ
مَكْرُوهًا عِنْدَهُمْ وَلَا كَانَ فِيهِ تَعْيِيرٌ لَهُمْ بِشَيْءِ يُكْرَهُ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 468
] وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي يَوْمِ الْخَنْدَقِ :
مَنْ سَرّهُ ضَرْبٌ يُمَعْمِعُ بَعْضُهُ ... بَعْضًا كَمَعْمَعَةِ الْأَبَاءِ
الْمُحْرَقِ
فَلْيَأْتِ مَأْسَدَةً تُسَنّ سُيُوفُهَا ... بَيْنَ الْمَذَادِ وَبَيْنَ جَزْعِ
الْخَنْدَقِ
دَرِبُوا بِضَرْبِ الْمُعْلِمِينَ وَأَسْلَمُوا ... مُهُجَاتِ أَنْفُسِهِمْ لِرَبّ
الْمَشْرِقِ
فِي عُصْبَةٍ نَصَرَ الْإِلَهُ نَبِيّهُ ... بِهِمْ وَكَانَ بِعَبْدِهِ ذَا
مَرْفِقِ
فِي كُلّ سَابِغَةٍ تَخُطّ فُضُولُهَا ... كَالنّهْيِ هَبّتْ رِيحُهُ
الْمُتَرَقْرِقِ
بَيْضَاءَ مُحْكَمَةٍ كَأَنّ قَتِيرَهَا ... حَدَقُ الْجَنَادِبِ ذَاتِ شَكّ
مُوثَقِ
جَدْلَاءَ يَحْفِزُهَا نِجَادُ مُهَنّدٍ ... صَافِي الْحَدِيدَةِ صَارِمٍ ذِي
رَوْنَقِ
تِلْكُمْ مَعَ التّقْوَى تَكُونُ لِبَاسَنَا ... يَوْمَ الْهِيَاجِ وَكُلّ سَاعَةِ
مَصْدَقِ
نَصِلُ السّيُوفَ إذَا قَصُرْنَ بِخَطْوِنَا ... قُدُمًا وَنُلْحِقُهَا إذَا لَمْ
تَلْحَقْ
فَتَرَى الْجَمَاجِمَ ضَاحِيًا هَامَاتُهَا ... بَلْهَ الْأَكُفّ كَأَنّهَا لَمْ
تُخْلَقْ
نَلْقَى الْعَدُوّ بِفَخْمَةِ مَلْمُومَةٍ ... تَنْفِي الْجُمُوعَ كَقَصْدِ رَأْسِ
الْمَشْرِقِ
وَنُعِدّ لِلْأَعْدَاءِ كُلّ مُقَلّصٍ ... وَرْدٍ وَمَحْجُولِ الْقَوَائِمِ
أَبْلَقِ
تُرْدِي بِفُرْسَانِ كَأَنّ كُمَاتَهُمْ ... عِنْدَ الْهِيَاجِ أُسُودُ طَلّ
مُلْثِقِ
صُدُقٌ يُعَاطُونَ الْكُمَاةَ حُتُوفَهُمْ ... تَحْتَ الْعَمَايَةِ بِالْوَشِيجِ
الْمُزْهِقِ
أَمَرَ الْإِلَهُ بِرَبْطِهَا لِعَدُوّهِ ... فِي الْحَرْبِ إنّ اللّهَ خَيْرُ
مُوَفّقِ
لِتَكُونَ غَيْظًا وَحُيّطًا ... لِلدّارِ إنْ دَلَفَتْ خُيُولُ النّزّقِ
وَيُعِينُنَا اللّهُ الْعَزِيزُ بِقُوّةِ ... مِنْهُ وَصِدْقِ الصّبْرِ سَاعَةَ
نَلْتَقِي
وَنُطِيعُ أَمْرَ نَبِيّنَا وَنُجِيبُهُ ... وَإِذَا دَعَا لِكَرِيهَةِ لَمْ
نُسْبَقْ
وَمَتَى يُنَادِ إلَى الشّدَائِدِ نَأْتِهَا ... وَمَتَى نَرَ الْحَوْمَاتِ فِيهَا
نُعْنِقْ
مَنْ يَتّبِعْ قَوْلَ النّبِيّ فَإِنّهُ ... فِينَا مُطَاعُ الْأَمْرِ حَقّ
مُصَدّقِ
فَبِذَاكَ يَنْصُرُنَا وَيَظْهَرُ عِزّنَا ... وَيُصِيبُنَا مِنْ نَيْلِ ذَلِكَ
بِمِرْفَقِ
إنّ الّذِينَ يُكَذّبُونَ مُحَمّدًا ... كَفَرُوا وَضَلّوا عَنْ سَبِيلِ
الْمُتّقِي
[ ص 469 ] [ ص 470 ] [ ص 471 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي بَيْتَهُ
تِلْكُمْ مَعَ التّقْوَى تَكُونُ لِبَاسَنَا
وَبَيْتُهُ مَنْ يَتّبِعْ قَوْلَ النّبِيّ
أَبُو زَيْدٍ . وَأَنْشَدَنِي :
تَنْفِي الْجُمُوعَ ... كَرَأْسِ قُدْسِ الْمَشْرِقِ .Sشِعْرٌ
آخَرُ لِكَعْبِ
وَفِي شِعْرِ كَعْبٍ أَيْضًا : مَنْ سَرّهُ ضَرْبٌ يُمَعْمِعُ بَعْضُهُ
[ ص 468 ] وَنَحْوِهَا ، وَالْكَلْحَبَةُ صَوْتُهَا فِيمَا دَقّ كَالسّرَاجِ
وَنَحْوِهِ وَالْقَطْمَطَةُ صَوْتُ الْغَلَيَانِ وَكَذَلِكَ الْغَرْغَرَةُ
وَالْجَعْجَعَةُ صَوْتُ الرّحَى ، وَالدّرْدَبَةُ صَوْتُ الطّبْلِ . وَقَوْلُهُ
الْأَبَاءَ هُوَ الْقَصَبُ وَاحِدَتُهَا أَبَاءَةٌ وَالْهَمْزَةُ الْآخِرَةُ
فِيهَا بَدَلٌ مِنْ يَاءٍ قَالَهُ ابْنُ جِنّيّ ، لِأَنّهُ عِنْدَهُ مِنْ
الْأَبَايَةِ كَأَنّ الْقَصَبَ يَأْبَى عَلَى مَنْ أَرَادَهُ بِمَضْغِ أَوْ
نَحْوِهِ وَيَشْهَدُ لِمَا قَالَهُ ابْنُ جِنّيّ قَوْلُ الشّاعِرِ [ بِشْرُ بْنُ
أَبِي خَازِمٍ ] :
يَرَاهُ النّاسُ أَخْضَرَ مِنْ بَعِيدٍ ... وَتَمْنَعُهُ الْمَرَارَةُ
وَالْإِبَاءُ
وَقَوْلُهُ فَلْيَأْتِ مَأْسَدَةً هِيَ الْأَرْضُ الْكَثِيرَةُ الْأُسْدِ
وَكَذَلِكَ الْمَسْبَعَةُ الْأَرْضُ الْكَثِيرَةُ السّبَاعِ وَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ مَأْسَدَةٌ جَمْعَ أَسَدٍ كَمَا قَالُوا : مَشْيَخَةً وَمَعْلَجَةً حَكَى
سِيبَوَيْهِ مَشْيَخَةً وَمَشْيُوخَاءَ وَمَعْلَجَةً وَمَعْلُوجَاءَ وَأَلْفَيْت
أَيْضًا فِي النّبَاتِ مَسْلُومَاءَ لِجَمَاعَةِ السّلَمِ وَمَشْيُوحَاءَ لِلشّيحِ
بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ الْكَثِيرُ . وَقَوْلُهُ تَسُنّ سُيُوفَهَا ، بِنَصْبِ
الْفَاءِ وَهُوَ الْأَصَحّ عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي الْوَلِيدِ وَوَقَعَ فِي
الْأَصْلِ عِنْدَ أَبِي بَحْرٍ تُسَنّ سُيُوفُهَا بِالرّفْعِ وَمَعْنَى
الرّوَايَةِ الْأُولَى : تَسُنّ أَيْ تَصْقُلُ وَمَعْنَى الرّوَايَةِ الثّانِيَةِ
أَيْ تُسَنّ لِلْأَبْطَالِ وَلِمَنْ بَعْدَهَا مِنْ الرّجَالِ سَنّةَ الْجُرْأَةِ
وَالْإِقْدَامِ . وَقَوْلُهُ فِي وَصْفِ الدّرْعِ جَدْلَاءَ يَحْفِزُهَا نِجَادُ
مُهَنّدٍ
جَدْلَاءَ مِنْ الْجَدَلِ وَهُوَ قُوّةُ الْفَتْلِ وَمِنْهُ الْأَجْدَلُ لِلصّقْرِ
وَفِي هَذَا الْبَيْتِ دَلِيلٌ عَلَى قُوّةِ امْتِنَاعِ الصّرْفِ فِي أَجْدَلَ
وَأَنّهُ مِنْ بَابِ أَفْعَلَ الّذِي مُؤَنّثُهُ فَعْلَاءُ وَمَنْ صَرَفَهُ
شَبّهَهُ [ ص 469 ] أَضْعَفُ الْوَجْهَيْنِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ قَالُوا فِي
جَمْعِهِ أَجَادِلُ مِثْلَ أَرَانِبَ فَقَدْ قَالُوا أَيْضًا : الْأَجَارِعُ
وَالْأَبَاطِحُ فِي جَمْعِ أَجْرَعَ وَأَبْطَحَ وَلَكِنّهُمْ لَا يَصْرِفُونَهُمَا
مِنْ حَيْثُ قَالُوا فِي الْمُؤَنّثِ بَطْحَاءَ وَجَرْعَاءَ وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ
فِي أَبْرَقَ وَبَرْقَاءَ . وَقَوْلُهُ يَحْفِزُهَا نِجَادُ مُهَنّدٍ كَقَوْلِ [
أَبِي قَيْسِ ] بْنِ الْأَسْلَتِ فِي وَصْفِ الدّرْعِ
أَحْفِزُهَا عَنّي بِذِي رَوْنَقٍ ... أَبْيَضَ مِثْلِ الْمَلِحِ قَطّاعِ
وَذَلِكَ أَنّ الدّرْعَ إذَا طَالَتْ فُضُولُهَا حَفَزُوهَا ، أَيْ شَمّرُوهَا
فَرَبَطُوهَا بِنِجَادِ السّيْفِ . وَقَوْلُهُ تِلْكُمْ مَعَ التّقْوَى تَكُون
لِبَاسَنَا
مِنْ أَجْوَدِ الْكَلَامِ وَأَمْلَحِ الِالْتِفَاتَاتِ لِأَنّهُ قَوْلٌ
انْتَزَعَهُ مِنْ قَوْلِ اللّهِ تَعَالَى : { وَلِبَاسُ التّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ }
[ الْأَعْرَافَ 26 ] . وَقَالَ الشّاعِرُ
إنّي كَأَنّي أَرَى مَنْ لَا وَفَاءَ لَهُ ... وَلَا أَمَانَةَ وَسْطَ الْقَوْمِ
عُرْيَانَا
وَمَوْضِعُ الْإِجَادَةِ وَالْإِحْسَانِ مِنْ قَوْلِ كَعْبٍ أَنّهُ جَعَلَ لِبَاسَ
الدّرْعِ تَبَعًا لِلِبَاسِ التّقْوَى ، لِأَنّ حَرْفَ مَعَ تُعْطِي فِي
الْكَلَامِ أَنّ مَا بَعْدَهُ هُوَ الْمَتْبُوعُ وَلَيْسَ بِتَابِعِ وَقَدْ
احْتَجّ الصّدّيقُ عَلَى الْأَنْصَارِ يَوْمَ السّقِيفَةِ بِأَنْ قَالَ لَهُمْ
أَنْتُمْ الّذِينَ آمَنُوا ، وَنَحْنُ الصّادِقُونَ وَإِنّمَا أَمَرَكُمْ اللّهُ
أَنْ تَكُونُوا مَعَنَا فَقَالَ { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ
وَكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ } [ التّوْبَةَ 119 ] . وَالصّادِقُونَ هُمْ
الْمُهَاجِرُونَ . قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ }
إلَى قَوْلِهِ { أُولَئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ } [ الْحَشْرَ 8 ] .
حُكْمُ بَلْهَ وَمَا بَعْدَهَا
وَقَوْلُهُ بَلْهَ الْأَكُفّ بِخَفْضِ الْأَكُفّ هُوَ الْوَجْهُ وَقَدْ رُوِيَ
بِالنّصْبِ لِأَنّهُ مَفْعُولٌ أَيْ دَعْ الْأَكُفّ فَهَذَا كَمَا تَقُولُ
رُوَيْدَ زَيْدٍ وَرُوَيْدَ زَيْدَ بِلَا تَنْوِينٍ مَعَ النّصْبِ وَبَلْهَ
كَلِمَةٌ بِمَعْنَى [ ص 470 ] عِنْدِي مِنْ لَفْظِ الْبَلَهِ وَالتّبَالُهِ وَهُوَ
مِنْ الْغَفْلَةِ لِأَنّ مَنْ غَفَلَ عَنْ الشّيْءِ تَرَكَهُ وَلَمْ يُسْأَلْ
عَنْهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ بَلْهَ الْأَكُفّ أَيْ لَا تَسْأَلْ عَنْ الْأَكُفّ
إذَا كَانَتْ الْجَمَاجِمُ ضَاحِيَةً مُقَطّعَةً وَفِي الْحَدِيثِ يَقُولُ اللّهُ
تَعَالَى : أَعْدَدْت لِعِبَادِي الصّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ
سَمِعَتْ بَلْهَ مَا أَطْلَعْتهمْ عَلَيْهِ . وَقَوْلُهُ بِفَخْمَةِ مَلْمُومَةٍ
أَيْ كَتِيبَةٍ مَجْمُوعَةٍ . وَقَوْلُهُ كَفَصْدِ رَأْسِ الْمَشْرِقِ الصّحِيحُ
فِيهِ مَا رَوَاهُ ابْنُ هِشَامٍ عَنْ أَبِي زَيْدٍ كَرَأْسِ قُدْسِ الْمَشْرِقِ
لِأَنّ قُدْسَ جَبَلٌ مَعْرُوفٌ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَشْرِقِ . وَقَوْلُهُ عِنْدَ
الْهِيَاجِ أُسُودُ طَلّ مُلْثِقِ
الطّلّ مَعْرُوفٌ وَاللّثَقُ مَا يَكُونُ عَنْ الطّلّ مِنْ زَلَقٍ وَطِينٍ
وَالْأُسْدُ أَجْوَعَ مَا تَكُونُ وَأَجْرَأَ فِي ذَلِكَ الْحِينِ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي يَوْمِ الْخَنْدَقِ :
لَقَدْ عَلِمَ الْأَحْزَابُ حِينَ تَأَلّبُوا ... عَلَيْنَا وَرَامُوا دِينَنَا
مَا نُوَادِعُ
أَضَامِيمَ مِنْ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ أَصْفَقَتْ ... وَخِنْدِفَ لَمْ يَدْرُوا
بِمَا هُوَ وَاقِعُ
يَذُودُونَنَا عَنْ دِينِنَا وَنَذُودُهُمْ ... عَنْ الْكُفْرِ وَالرّحْمَنُ رَاءٍ
وَسَامِعُ
إذَا غَايَظُونَا فِي مَقَامٍ أَعَانَنَا ... عَلَى غَيْظِهِمْ نَصْرٌ مِنْ اللّهِ
وَاسِعُ
وَذَلِكَ حِفْظُ اللّهِ فِينَا وَفَضْلُهُ ... عَلَيْنَا وَمَنْ لَمْ يَحْفَظْ
اللّهُ ضَائِعُ
هَدَانَا لِدِينِ الْحَقّ وَاخْتَارَهُ لَنَا ... وَلِلّهِ فَوْقَ الصّانِعِينَ
صَنَائِعُ
[ ص 472 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ .Sقَصِيدَةُ
كَعْبٍ الْعَيْنِيّةُ
[ ص 471 ] الْعَيْنِيّةِ : أَضَامِيمَ مِنْ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ أَصْفَقَتْ
وَاحِدُ الْأَضَامِيمِ إضْمَامَةٌ وَهُوَ كُلّ شَيْءٍ مُجْتَمَعٍ يُقَالُ
إضْمَامَةٌ مِنْ النّاسِ وَإِضْمَامَةٌ مِنْ كُتُبٍ .
قَيْسُ عَيْلَانَ وَقَيْسُ كُبّةَ
وَقَوْلُهُ مِنْ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ هُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ النّسَبِ
وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ إنّ قَيْسًا هُوَ عَيْلَانُ لَا ابْنُهُ قَالَ وَعُرِفَ
قَيْسُ بْنُ عَيْلَانَ بِفَرَسِ كَانَ لَهُ يُسَمّى : عَيْلَانًا ، كَمَا عُرِفَ
قَيْسُ كُبّةَ مِنْ بَجِيلَةَ بِفَرَسِ اسْمُهُ كُبّةُ وَكَانَ هُوَ وَقَيْسُ
عَيْلَانَ مُتَجَاوِرَيْنِ فَكَانَ إذَا ذُكِرَ أَحَدُهُمَا وَقِيلَ أَيّ
الْقَيْسَيْنِ هُوَ قِيلَ قَيْسُ عَيْلَانَ أَوْ قَيْسُ كُبّةَ وَقِيلَ إنّ
عَيْلَانَ اسْمُ كَلْبٍ ، كَانَ لَهُ وَقِيلَ عَيْلَانُ اسْمُ جَبَلٍ وُلِدَ
عِنْدَهُ وَقِيلَ اسْمُ غُلَامٍ لِمُضَرَ كَانَ حَضَنَهُ [ ص 472 ] وَقِيلَ كَانَ
جَوَادًا أَتْلَفَ مَالَهُ فَأَدْرَكَهُ عَيْلَةُ فَسُمّيَ عَيْلَانَ وَمِمّا
يُحْتَجّ بِهِ لِلْقَوْلِ الْآخَرِ قَوْلُ رُؤْبَةَ وَقَيْسَ عَيْلَانَ وَمَنْ
تَقَيّسَا
.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي يَوْمِ الْخَنْدَقِ :
أَلَا أَبْلِغْ قُرَيْشًا أَنّ سَلْعًا ... وَمَا بَيْنَ الْعُرَيْضِ إلَى
الصّمَادِ
نَوَاضِحُ فِي الْحُرُوبِ مُدَرّبَاتٌ ... وَخُوصٌ ثُقّبَتْ مِنْ عَهْدِ عَادِ
رَوَاكِدَ يَزْخَرُ الْمُرّارُ فِيهَا ... فَلَيْسَتْ بِالْجِمَامِ وَلَا
الثّمَادِ
كَأَنّ الْغَابَ وَالْبَرْدِيّ فِيهَا ... أَجَشّ إذَا تَبَقّعَ لِلْحَصَادِ
وَلَمْ نَجْعَلْ تِجَارَتَنَا اشْتِرَاءَ الْحَمِ ... يرِ لِأَرْضِ دَوْسٍ أَوْ
مُرَادِ
بِلَادٌ لَمْ تَثُرْ إلّا لِكَيْمَا ... نُجَالِدَ إنْ بِشِطْمٍ لِلْجِلَادِ
أَثَر سِكّة الأَنْبَاط فِيهَا
فَلَم تَر مِثْلَها جَلْهَاتِ وَاد
قَصَرْنَا كُلّ ذِي حُضْرٍ وَطُولٍ ... عَلَى الْغَايَاتِ مُقْتَدِرٍ جَوَادِ
أَجِيبُونَا إلَى مَا نَجْتَدِيكُمْ ... مِنْ الْقَوْلِ الْمُبَيّنِ وَالسّدَادِ
وَإِلّا فَاصْبِرُوا لِجِلَادِ يَوْمٍ ... لَكُمْ مِنّا إلَى شَطْرِ الْمِدَادِ
نُصَبّحُكُمْ بِكُلّ أَخِي حُرُوبٍ ... وَكُلّ مُطَهّمٍ سَلِسِ الْقِيَادِ
وَكُلّ طِمِرّةٍ خَفِقٍ حَشَاهَا ... تَدِفّ دَفِيفَ صَفْرَاءِ الْجَرَادِ
وَكُلّ مُقَلّصٍ الْآرَابِ نَهْدٍ ... تَمِيمِ الْخَلْقِ مِنْ أُخْرٍ وَهَادِي
خُيُولٌ لَا تُضَاعُ إذَا أُضِيعَتْ ... خُيُولُ النّاسِ فِي السّنَةِ الْجَمَادِ
يُنَازِعْنَ الْأَعِنّةَ مُصْغِيَاتٍ ... إذَا نَادَى إلَى الْفَزَعِ الْمُنَادِي
إذَا قَالَتْ لَنَا النّذُرُ اسْتَعِدّوا ... تَوَكّلْنَا عَلَى رَبّ الْعِبَادِ
وَقُلْنَا لَنْ يُفَرّجَ مَا لَقِينَا ... سِوَى ضَرْبِ الْقَوَانِسِ وَالْجِهَادِ
فَلَمْ تَرَ عُصْبَةً فِيمَنْ لَقِينَا ... مِنْ الْأَقْوَامِ مِنْ قَارٍ وَبَادِي
أَشَدّ بَسَالَةً مِنّا إذَا مَا ... أَرَدْنَاهُ وَأَلْيَنَ فِي الْوِدَادِ
إذَا مَا نَحْنُ أَشْرَجْنَا عَلَيْهَا ... جِيَادَ الْجُدْلِ فِي الْأُرَبِ
الشّدَادِ
قَذَفْنَا فِي السّوَابِغِ كُلّ صَقْرٍ ... كَرِيمٍ غَيْرِ مُعْتَلِثِ الزّنَادِ
أَشَمّ كَأَنّهُ أَسَدٌ عَبُوسٌ ... غَدَاةَ بَدَا بِبَطْنِ الْجِزْعِ غَادِي
يُغَشّى هَامَةُ الْبَطَلِ الْمُذَكّى ... صَبِيّ السّيْفِ مُسْتَرْخِي النّحَادِ
لِنُظْهِرَ دِينَك اللّهُمّ إنّا ... بِكَفّك فَاهْدِنَا سُبُلَ الرّشَادِ
[ ص 473 ] [ ص 474 ] [ ص 475 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ بَيْتُهُ قَصَرْنَا كُلّ ذِي
حُضْرٍ وَطُولٍ
وَالْبَيْتُ الّذِي يَتْلُوهُ وَالْبَيْتُ الثّالِثُ مِنْهُ وَالْبَيْتُ الرّابِعُ
مِنْهُ وَبَيْتُهُ أَشَمّ كَأَنّهُ أَسَدٌ عَبُوسٌ
وَالْبَيْتُ الّذِي يَتْلُوهُ عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيّ .Sشِعْرُ
كَعْبٍ فِي الْخَنْدَقِ
وَقَوْلُهُ فِي الدّالِيّةِ وَمَا بَيْنَ الْعُرَيْضِ إلَى الصّمَادِ
الْعُرَيْضِ : مَوْضِعٌ وَالصّمَادُ : جَمْعُ صَمْدٍ وَهُوَ مَا غَلُظَ مِنْ
الْأَرْضِ . وَقَوْلُهُ نَوَاضِحُ فِي الْحُرُوبِ . يَعْنِي : حَدَائِقَ نَخْلٍ
تُسْقَى بِالنّضْحِ وَأَرَادَ بِالْخُوصِ آبَارًا ، وَإِنّمَا جَعَلَ الْبِئْرَ
خُوصًا لِأَنّ الْعَيْنَ الْخَوْصَاءَ هِيَ الْغَائِرَةُ وَجَمْعُهَا خُوصٌ .
فَعُيُونُ الْمَاءِ فِي الْآبَارِ كَذَلِكَ غَائِرَةٌ . وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدٍ
فِي وَصْفِ الْإِبِلِ
مُحَبّسَةً بُزْلًا كَأَنّ عُيُونَهَا ... عُيُونُ الرّكَايَا أَنْكَزَتْهَا
الْمَوَاتِحُ
وَقَوْلُهُ يَزْخَرُ الْمُرّارُ فِيهَا . الْمُرّارُ اسْمُ نَهَرٍ . [ ص 473 ]
كَأَنّ الْغَابَ وَالْبَرْدِيّ فِيهَا ... أَجَشّ إذَا تَبَقّعَ لِلْحَصَادِ
يُرِيدُ صَوْتَ حَفِيفِ الرّيحِ كَصَوْتِ الْأَجَشّ وَهُوَ الْأَبَحّ ، وَقَدْ
يُوصَفُ النّبَاتُ أَيْضًا بِالْغُنّةِ مِنْ أَجْلِ حَفِيفِ الرّيحِ فِيهِ
فَيُقَالُ رَوْضَةٌ غَنّاءُ وَقَدْ قِيلَ إنّمَا ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ صَوْتِ
الذّبَابِ الّذِي يَكُونُ فِيهِ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ . وَقَوْلُهُ تَبَقّعَ
لِلْحَصَادِ أَيْ صَارَتْ فِيهِ بُقَعٌ بِيضٌ مِنْ الْيَبْسِ يُقَالُ لِلزّرْعِ
إذَا صَارَ كَذَلِكَ ارْقَاطّ وَاسْحَامّ وَاسْحَارّ وَإِذَا أَخَذَ السّبَلُ
الْحَبّ قِيلَ أَلْحَمَ وَأَسْفَى مِنْ السّفَى ، وَأَشَعّ مِنْ الشّعَاعِ
بِفَتْحِ الشّينِ وَكَسْرِهَا ، وَهُوَ السّفَى ، وَيُقَالُ أَسْبَلَ الزّرْعُ
مِنْ السّبَلِ كَمَا يُقَالُ بَعِيرٌ حَظِلٌ وَأَحْظَلَ الْمَكَانُ مِنْ
الْحَنْظَلِ وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ ، وَبَنُو تَمِيمٍ يَقُولُونَ سَبَلٌ
وَأَمّا هَمْدَان ُ فَيُسَمّونَ السّنْبُلَ سُبُولًا ، وَالْوَاحِدَةُ سَبُولَةٌ
فَقِيَاسُ لُغَتِهِمْ أَنْ يُقَالَ أَسْبَلَ وَإِنّمَا فَخَرَتْ الْأَنْصَارُ فِي
هَذَا الشّعْرِ وَاَلّذِي قَبْلَهُ بِنَخْلِهَا وَآطَامِهَا ، إشَارَةً إلَى
عِزّهَا وَمَنَعَتِهَا ، وَأَنّهَا لَمْ تُغْلَبُ عَلَى بِلَادِهَا عَلَى قَدِيمِ
الدّهْرِ كَمَا أُجْلِيَتْ أَكْثَرُ الْأَعَارِيبِ عَنْ مَحَالّهَا ، وَأَزْعَجَهَا
الْخَوْفُ عَنْ مَوَاطِنِهَا ، وَهَذَا الْمَعْنَى أَرَادَ حَسّانُ فِي قَوْلِهِ
أَوْلَادُ جَفْنَةَ حَوْلَ قَبْرِ أَبِيهِمْ ... قَبْرِ ابْنِ مَارِيَةَ
الْكَرِيمِ الْمُفْضِلِ
لِأَنّ إقَامَتَهُمْ حَوْلَ قُبُورِ آبَائِهِمْ وَأَجْدَادِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى
مَنَعَتِهِمْ وَأَلّا مُغَالِبَ لَهُمْ عَلَى مَا تَخَيّرُوهُ مِنْ بِقَاعِ
الْأَرْضِ وَآثَرُوهُ عِنْدَ ارْتِيَادِهِمْ . وَقَوْلُهُ أَثَرْنَا سِكّةَ
الْأَنْبَاطِ فِيهَا
السّكّةُ النّخْلُ الْمُصْطَفّ ، أَيْ حَرَثْنَاهَا وَغَرَسْنَاهَا ، كَمَا
تَفْعَلُ الْأَنْبَاطُ فِي أَمْصَارِهَا لَا تَخَافُ عَلَيْهَا كَيْدَ كَائِدٍ
وَإِيّاهَا أَرَادَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقَوْلِهِ خَيْرُ
الْمَالِ سِكّةٌ مَأْبُورَةُ . وَالسّكّةُ أَيْضًا : السّنّةُ وَهِيَ الْحَدِيدَةُ
الّتِي يَشُقّ بِهَا الْفَدّانُ الْأَرْضَ وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا : الْمَانُ
وَهُوَ تَفْسِيرُ الْأَصْمَعِيّ ، وَفَسّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ عَلَى الْمَعْنَى
الْآخَرِ وَأَنّهَا النّخْلُ وَيُقَالُ أَيْضًا : أُبِيثَتْ الْأَرْضُ فِي مَعْنَى
أُثِيرَتْ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَيُرْوَى فِي الْحَمَاسَةِ هَلُمّ إلَيْهَا
قَدْ أُبِيثَتْ زُرُوعُهَا
[ ص 474 ]
وَحَقّ بَنِي شِغَارَةَ أَنْ يَقُولُوا ... لِصَخْرِ الْغَيّ مَاذَا تَسْتَبِيثُ
وَغَلِطَ أَبُو عُبَيْدٍ [ الْقَاسِمُ بْنُ سَلّامٍ ] فَجَعَلَ تَسْتَبِيثُ مِنْ
نَبِيثَةِ الْبِئْرِ وَهُوَ تُرَابُهَا ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَقَالَ
تَسْتَنْبِيثُ بِنُونِ قَبْلَ الْبَاءِ . وَقَوْلُهُ جَلْهَاتِ وَادٍ .
الْجَلْهَاتُ مِنْ الْوَادِي مَا كَشَفَتْ عَنْهُ السّيُولُ الشّعْرَاءُ
فَأَبْرَزَتْهُ وَهُوَ مِنْ الْجَلَهِ وَهُوَ انْحِسَارُ الشّعْرِ عَنْ مُقَدّمِ
الرّأْسِ .
وَقَوْلُهُ صَفْرَاءِ الْجَرَادِ وَهِيَ الْخَيْفَانَةُ مِنْهَا ، وَهِيَ الّتِي
أَلْقَتْ سُرُأَهَا ، أَيْ بَيْضَهَا ، وَهِيَ أَخَفّ طَيَرَانًا ، وَالْكُتْفَانُ
مِنْ الْجَرَادِ أَكْبَرُ مِنْ الْخَيْفَانِ وَأَوّلُ أَمْرِ الْجَرَادِ دُودٌ
وَيُقَالُ لَهُ الْغَمَص يُلْقِيهِ بَحْرُ الْيَمَنِ ، وَلَهُ عَلَامَةٌ قَبْلَ
خُرُوجِهِ وَهُوَ بَرْقٌ يَلْمَعُ مِنْ ذَلِكَ الْبَحْرِ سَبْعَ عَشْرَةَ مَرّةً
فَيَعْلَمُونَ بِخُرُوجِ الْجَرَادِ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ . وَقَوْلُهُ غَيْرِ
مُعْتَلِثِ الزّنَادِ . [ ص 475 ] عُودٍ هُوَ وَأَصْلُ الِاعْتِلَاثِ
الِاخْتِلَاطُ يُقَالُ عَلَثْت الطّعَامَ إذَا خَلَطْت حِنْطَةً بِشَعِيرِ
وَالْعُلَاثَةُ الزّنْدُ الّذِي لَا يُورِي نَارًا . [ ص 476 ] [ ص 477 ] [ ص 478
] [ ص 479 ] [ ص 480 ]
مُسَافِعٌ يَبْكِي عَمْرًا
فِي شِعْرِهِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ مُسَافِعُ بْنُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ وَهْبِ بْنِ
حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ يَبْكِي عَمْرَو بْنَ عَبْدِ وُدّ ، وَيَذْكُرُ قَتْلَ
عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إيّاهُ
عَمْرُو بْنُ عَبْدٍ كَانَ أَوّلَ فَارِسٍ ... جَزِعَ الْمَذَادِ وَكَانَ فَارِسَ
يَلْيَلِ
سَمْحُ الْخَلَائِقِ مَاجِدٌ ذُو مِرّةٍ ... يَبْغِي الْقِتَالَ بِشِكّةٍ لَمْ
يَنْكُلْ
وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ حِينَ وَلّوْا عَنْكُمْ ... أَنّ ابْنَ عَبْدٍ فِيهِمْ لَمْ
يَعْجَلْ
حَتّى تَكَنّفَهُ الْكُمَاةُ وَكُلّهُمْ ... يَبْغِي مَقَاتِلَهُ وَلَيْسَ
بِمُؤْتَلِي
وَلَقَدْ تَكَنّفَتْ الْأَسِنّةُ فَارِسًا ... بِجَنُوبِ سَلْعٍ غَيْرَ نَكْسٍ
أَمْيَلِ
تَسَلُ النّزَالَ عَلِيّ فَارِسَ غَالِبٍ ... بِجَنُوبِ سَلْعٍ لَيْتَهُ لَمْ
يَنْزِلْ
فَاذْهَبْ عَلِيّ فَمَا ظَفِرْت بِمِثْلِهِ ... فَخْرًا وَلَا لَاقَيْت مِثْلَ
الْمُعْضِلِ
نَفْسِي الْفِدَاءُ لِفَارِسِ مِنْ غَالِبٍ ... لَاقَى حِمَامَ الْمَوْتِ لَمْ
يَتَحَلْحَلْ
أَعْنِي الّذِي جَزِعَ الْمِدَادُ بِمُهْرِهِ ... طَلَبًا لِثَأْرِ مَعَاشِرٍ لَمْ
يُخْذَلْ
مُسَافِعٌ يُؤَنّبُ الْفُرْسَانَ الّذِينَ كَانُوا مَعَ عَمْرٍو
وَقَالَ مُسَافِعٌ أَيْضًا يُؤَنّبُ فُرْسَانَ عَمْرٍو الّذِينَ كَانُوا مَعَهُ
فَأَجْلَوْا عَنْهُ وَتَرَكُوهُ
عَمْرُو بْنُ عَبْدٍ وَالْجِيَادُ يَقُودُهَا ... خَيْلٌ تُقَادُ لَهُ وَخَيْلٌ
تُنْعَلُ
أَجْلَتْ فَوَارِسُهُ وَغَادَرَ رَهْطُهُ ... رُكْنًا عَظِيمًا كَانَ فِيهَا
أَوّلُ
عَجَبًا وَإِنْ أَعْجَبْ فَقَدْ أَبْصَرْته ... مَهْمَا تَسُومُ عَلِيّ عَمْرًا
يَنْزِلُ
لَا تَبْعَدَنّ فَقَدْ أُصِبْت بِقَتْلِهِ ... وَلَقِيت قَبْلَ الْمَوْتِ أَمْرًا
يَثْقُلُ
وَهُبَيْرَةُ الْمَسْلُوبُ وَلّى مُدْبِرًا ... عِنْدَ الْقِتَالِ مَخَافَةً أَنْ
يُقْتَلُوا
وَضِرَارُ كَانَ الْبَأْسُ مِنْهُ مُحْضَرًا ... وَلّى كَمَا وَلّى اللّئِيمُ
الْأَعْزَلُ
[ ص 476 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ
يُنْكِرُهَا لَهُ . وَقَوْلُهُ " عَمْرًا يَنْزِلُ " عَنْ غَيْرِ ابْنِ
إسْحَاقَ .
هُبَيْرَةُ يَبْكِي عَمْرًا وَيَعْتَذِرُ مِنْ فِرَارِهِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ يَعْتَذِرُ مِنْ
فِرَارِهِ وَيَبْكِي عَمْرًا ، وَيَذْكُرُ قَتْلَ عَلِيّ إيّاهُ
لَعَمْرِي مَا وَلّيْت ظَهْرِي خَمْدًا ... وَأَصْحَابُهُ جُبْنًا وَلَا خِيفَةَ
الْقَتْلِ
وَلَكِنّنِي قَلّبْت أَمْرِي فَلَمْ أَجِدْ ... لِسَيْفِي عَنَاءً إنْ شَرِبْت
وَلَا نَبْلِي
وَقَفْت فَلَمّا لَمْ أَجِدْ لِي مُقَدّمًا ... صَدَدْت كَضِرْغَامِ هِزَبْرٍ
أَبِي شِبْلِ
ثَنَى عِطْفَهُ عَنْ قَرْنِهِ حِينَ لَمْ يَجِدْ ... مَكَرّا وَقِدْمًا كَانَ
ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي
فَلَا تَبْعَدَنْ يَا عَمْرُو حَيّا وَهَالِكًا ... وَحُقّ لِحُسْنِ الْمَدْحِ
مِثْلُك مِنْ مِثْلِي
وَلَا تَبْعَدَنْ يَا عَمْرُو حَيّا وَهَالِكًا ... فَقَدْ بِنْت مَحْمُودَ
الثّنَا مَاجِدَ الْأَصْلِ
فَمَنْ لِطِرَادِ الْخَيْلِ تُقْدَعُ بِالْقَنَا ... وَلِلْفَخْرِ يَوْمًا عِنْدَ
قَرْقَرَةِ الْبُزْلِ
هُنَالِكَ لَوْ كَانَ ابْنُ عَبْدٍ لَزَارَهَا ... وَفَرّجَهَا حَقّا فَتَى غَيْرُ
مَا وَغْلِ
فَعَنْك عَلَى لَا أَرَى مِثْلَ مَوْقِفٍ ... وَقَفْت عَلَى نَجْدِ الْمُقَدّمِ
كَالْفَحْلِ
فَمَا ظَفِرَتْ كَفّاك فَخْرًا بِمِثَالِهِ ... أَمِنْت بِهِ مَا عِشْت مِنْ
زَلّةِ النّعْلِ
هُبَيْرَةُ يَبْكِي عَمْرًا فِي شِعْرِهِ
قَالَ هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ يَبْكِي عَمْرَو بْنَ عَبْدِ وُدّ ،
وَيَذْكُرُ قَتْلَ عَلِيّ إيّاهُ
لَقَدْ عَلِمَتْ عُلْيَا لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ ... لَفَارِسُهَا عَمْرٌو إذَا نَابَ
نَائِبُ
لَفَارِسُهَا عَمْرٌو إذَا مَا يَسُومُهُ ... عَلِيّ وَإِنّ اللّيْثَ لَا بُدّ
طَالِبُ
عَشِيّةَ يَدْعُوهُ عَلِيّ وَإِنّهُ ... لَفَارِسُهَا إذْ هَامَ عَنْهُ الْكَائِبُ
فَيَا لَهْفَ نَفْسِي إنّ عَمْرًا تَرَكْته ... بِيَثْرِبَ لَا زَالَتْ هُنَاكَ
الْمَصَائِبُ
حَسّانُ يَفْتَخِرُ بِقَتْلِ عَمْرٍو
[ ص 477 ] وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَفْتَخِرُ بِقَتْلِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ
وُدّ :
بَقِيّتُكُمْ عَمْرٌو أَبَحْنَاهُ بِالْقَنَا ... بِيَثْرِبَ نَحْمِي وَالْحُمَاةُ
قَلِيلُ
وَنَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ بِكُلّ مُهَنّدٍ ... وَنَحْنُ وُلَاةُ الْحَرْبِ حِينَ
نَصُولُ
وَنَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ بِبَدْرِ فَأَصْبَحَتْ ... مَعَاشِرُكُمْ فِي
الْهَالِكِينَ تَجُولُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ يُنْكِرُهَا لِحَسّانَ
. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا فِي شَأْنِ
عَمْرِو بْنِ عَبْدِ وُدّ :
أَمْسَى الْفَتَى عَمْرُو بْنُ عَبْدٍ يَبْتَغِي ... بِجُنُونِ يَثْرِبَ ثَأْرَهُ
لَمْ يُنْظَرْ
فَلَقَدْ وَجَدْت سُيُوفَنَا مَشْهُورَةً ... وَلَقَدْ وَجَدْت جِيَادَنَا لَمْ
تُقْصَرْ
وَلَقَدْ لَقِيت غَدَاةَ بَدْرٍ عُصْبَةً ... ضَرَبُوك ضَرْبًا غَيْرَ ضَرْبِ
الْحُسّرِ
أَصْبَحْت لَا تُدْعَى لِيَوْمِ عَظِيمَةٍ ... يَا عَمْرُو أَوْ لِجَسِيمِ أَمْرٍ
مُنْكَرِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ يُنْكِرُهَا
لِحَسّانَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا :
أَلَا أَبْلِغْ أَبَا هِدْمٍ رَسُولًا ... مُغَلْغَلَةً تَخُبّ بِهَا الْمَطِيّ
أَكُنْت وَلِيّكُمْ فِي كُلّ كُرْهٍ ... وَغَيْرِي فِي الرّخَاءِ هُوَ الْوَلِيّ
وَمِنْكُمْ شَاهِدٌ وَلَقَدْ رَآنِي ... رُفِعْت لَهُ كَمَا اُحْتُمِلَ الصّبِيّ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَتُرْوَى هَذِهِ الْأَبْيَاتُ لِرَبِيعَةَ بْنِ أُمَيّةَ
الدّيلِيّ وَيُرْوَى فِيهَا آخِرُهَا :
كَبَبْت الْخَزْرَجِيّ عَلَى يَدَيْهِ ... وَكَانَ شِفَاءُ نَفْسِي الْخَزْرَجِيّ
وَتُرْوَى أَيْضًا لِأَبِي أُسَامَةَ الْجُشَمِيّ .
شِعْرُ حَسّانَ فِي يَوْمِ
بَنِي قُرَيْظَةَ وَبُكَاءُ ابْنِ مُعَاذٍ
[ ص 478 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي يَوْمِ بَنِي
قُرَيْظَةَ يَبْكِي سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ وَيَذْكُرُ حِكْمَةً فِيهِمْ
لَقَدْ سَجَمَتْ مِنْ دَمْعِ عَيْنِي عَبْرَةٌ ... وَحُقّ لِعَيْنِي أَنْ تَفِيضَ
عَلَى سَعْدِ
قَتِيلٍ ثَوَى فِي مَعْرَكٍ فُجِعَتْ بِهِ ... عُيُونٌ ذَوَارِي الدّمْعِ
دَائِمَةُ الْوَجْدِ
عَلَى مِلّةِ الرّحْمَنِ وَارِثَ جَنّةٍ ... مَعَ الشّهَدَاءِ وَفْدُهَا أَكْرَمُ
الْوَفْدِ
فَإِنْ تَكُ قَدْ وَدّعْتنَا وَتَرَكْتنَا ... وَأَمْسَيْت فِي غَبْرَاءَ
مُظْلِمَةِ اللّحْدِ
فَأَنْتَ الّذِي يَا سَعْدُ أُبْت بِمَشْهَدِ ... كَرِيمٍ وَأَتْوَابِ
الْمَكَارِمِ وَالْحَمْدِ
بِحُكْمِك فِي حَيّيْ قُرَيْظَةَ بِاَلّذِي ... قَضَى اللّهُ فِيهِمْ مَا قَضَيْت
عَلَى عَمْدِ
فَوَافَقَ حُكْمَ اللّهِ حُكْمُك فِيهِمْ ... وَلَمْ تَعْفُ إذْ ذُكّرْت مَا كَانَ
مِنْ عَهْدِ
فَإِنْ كَانَ رَيْبُ الدّهْرِ أَمْضَاكَ فِي الْأُلَى ... شَرَوْا هَذِهِ
الدّنْيَا بِجَنّاتِهَا الْخُلْدِ
فَنِعْمَ مَصِيرُ الصّادِقِينَ إذَا دُعُوا ... إلَى اللّهِ يَوْمًا لِلْوَجَاهَةِ
وَالْقَصْدِ
شِعْرُ حَسّانَ فِي بُكَاءِ ابْنِ مُعَاذٍ وَغَيْرِهِ
وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا ، يَبْكِي سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ ، وَرِجَالًا
مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الشّهَدَاءِ ،
وَيَذْكُرُهُمْ بِمَا كَانَ فِيهِمْ مِنْ الْخَيْرِ
أَلَا يَا لَقَوْمِي هَلْ لِمَا حُمّ دَافِعٌ ... وَهَلْ مَا مَضَى مِنْ صَالِحِ
الْعَيْشِ رَاجِعُ
تَذَكّرْت عَصْرًا قَدْ مَضَى فَتَهَافَتَتْ ... بَنَاتُ الْحَشَى وَانْهَلّ مِنّي
الْمَدَامِعُ
صَبَابَةَ وَجْدٍ ذَكّرَتْنِي أَحِبّةً ... وَقَتْلَى مَضَى فِيهَا طُفَيْلُ
وَرَافِعُ
وَسَعْدٌ فَأَضْحَوْا فِي الْجِنَانِ وَأَوْحَشَتْ ... مَنَازِلُهُمْ فَالْأَرْضُ
مِنْهُمْ بَلَاقِعُ
وَفَوْا يَوْمَ بَدْرٍ لِلرّسُولِ وَفَوْقَهُمْ ... ظِلَالُ الْمَنَايَا
وَالسّيُوفُ اللّوَامِعُ
دَعَا فَأَجَابُوهُ بِحَقّ وَكُلّهُمْ ... مُطِيعٌ لَهُ فِي كُلّ أَمْرٍ وَسَامِعُ
فَمَا نَكَلُوا حَتّى تَوَلّوْا جَمَاعَةً ... وَلَا يَقْطَعُ الْآجَالَ إلّا
الْمَصَارِعُ
لِأَنّهُمْ يَرْجُونَ مِنْهُ شَفَاعَةً ... إذَا لَمْ يَكُنْ إلّا النّبِيّونَ
شَافِعُ
فَذَلِكَ يَا خَيْرَ الْعِبَادِ بَلَاؤُنَا ... إجَابَتُنَا لِلّهِ وَالْمَوْتُ
نَاقِعُ
لَنَا الْقَدَمُ الْأُولَى إلَيْك وَخَلْفَنَا ... لِأَوّلِنَا فِي مِلّة اللّهِ
تَابِعُ
وَنَعْلَمُ أَنّ الْمُلْكَ لِلّهِ وَحْدَهُ ... وَأَنّ قَضَاءَ اللّهِ لَا بُدّ
وَاقِعُ
شِعْرٌ آخَرُ لِحَسّانَ فِي يَوْمِ بَنِي قُرَيْظَةَ
[ ص 479 ] وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا فِي يَوْمِ بَنِي قُرَيْظَةَ
لَقَدْ لَقِيَتْ قُرَيْظَةُ مَاسَآهَا ... وَمَا وَجَدَتْ لِذُلّ مِنْ نَصِيرِ
أَصَابَهُمْ بَلَاءٌ كَانَ فِيهِ ... سِوَى مَا قَدْ أَصَابَ بَنِي النّضِيرِ
غَدَاةَ أَتَاهُمْ يَهْوِي إلَيْهِمْ ... رَسُولُ اللّهِ كَالْقَمَرِ الْمُنِيرِ
لَهُ خَيْلٌ مُجَنّبَةٌ تَعَادَى ... بِفُرْسَانِ عَلَيْهَا كَالصّقُورِ
تَرَكْنَاهُمْ وَمَا ظَفِرُوا بِشَيْءِ ... دِمَاؤُهُمْ عَلَيْهِمْ كَالْغَدِيرِ
فَهُمْ صَرْعَى تَحُومُ الطّيْرُ فِيهِمْ ... كَذَاكَ يَدَانِ ذُو الْعَنْدِ
الْفَجُورِ
فَأَنْذِرْ مِثْلَهَا نُصْحًا قُرَيْشًا ... مِنْ الرّحْمَنِ إنْ قَبِلَتْ
نَذِيرِي
وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ
لَقَدْ لَقِيَتْ قُرَيْظَةُ مَاسَآهَا ... وَحَلّ بِحِصْنِهَا ذُلّ ذَلِيلُ
وَسَعْدٌ كَانَ أَنْذَرَهُمْ بِنُصْحِ ... بِأَنّ إلَهَكُمْ رَبّ جَلِيلُ
فَمَا بَرِحُوا بِنَقْضِ الْعَهْدِ حَتّى ... فَلَاهُمْ فِي بِلَادِهِمْ الرّسُولُ
أَحَاطَ بِحِصْنِهِمْ مِنّا صُفُوفٌ ... لَهُ مِنْ حَرّ وَقْعَتِهِمْ صَلِيلُ
وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا فِي يَوْمِ بَنِي قُرَيْظَةَ
تَفَاقَدَ مَعْشَرٌ نَصَرُوا قُرَيْشًا ... وَلَيْسَ لَهُمْ بِبَلْدَتِهِمْ
نَصِيرُ
هُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ فَضَيّعُوهُ ... وَهُمْ عُمْيٌ مِنْ التّوْرَاةِ بُورُ
كَفَرْتُمْ بِالْقُرْآنِ وَقَدْ أُتِيتُمْ ... بِتَصْدِيقِ الّذِي قَالَ النّذِيرُ
فَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيّ ... حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ
شِعْرُ أَبِي سُفْيَانَ فِي الرّدّ عَلَى حَسّانَ
[ ص 480 ] أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، فَقَالَ
أَدَامَ اللّهُ ذَلِكَ مِنْ صَنِيعٍ ... وَحَرّقَ فِي طَرَائِقِهَا السّعِيرُ
سَتَعْلَمُ أَيّنَا مِنْهَا بِنُزْهِ ... وَتَعْلَمُ أَيّ أَرَضِينَا تَضِيرُ
فَلَوْ كَانَ النّخِيلُ بِهَا رِكَابًا ... لَقَالُوا لَا مُقَامَ لَكُمْ
فَسِيرُوا
شِعْرُ بْنِ جَوّالٍ فِي الرّدّ عَلَى حَسّانَ
وَأَجَابَهُ جَبَلُ بْنُ جَوّالٍ الثّعْلَبِيّ أَيْضًا ، وَبَكَى النّضِيرَ
وَقُرَيْظَةَ فَقَالَ
أَلَا يَا سَعْدُ بَنِي مُعَاذٍ ... لِمَا لَقِيَتْ قُرَيْظَةُ وَالنّضِيرُ
لَعَمْرُك إنّ سَعْدَ بَنِي مُعَاذٍ ... غَدَاةَ تَحَمّلُوا لَهُوَ الصّبُورُ
فَأَمّا الْخَزْرَجِيّ أَبُو حُبَابٍ ... فَقَالَ لِقَيْنُقَاعِ لَا تَسِيرُوا
وَبُدّلَتْ الْمَوَالِي مِنْ حُضَيْرٍ ... أُسَيْدًا وَالدّوَائِرُ قَدْ تَدُورُ
وَأَقْفَرَتْ الْبُوَيْرَةُ مِنْ سَلَامٍ ... وَسَعْيَةَ وَابْنِ أَخْطَبَ فَهْيَ
بُورُ
وَقَدْ كَانُوا بِبَلْدَتِهِمْ ثِقَالًا ... كَمَا ثَقُلَتْ بِمَيْطَانَ الصّخُورُ
فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو حَكَمٍ سَلَامٌ ... فَلَا رَثّ السّلَاحِ وَلَا دَثُورُ
وَكُلّ الْكَاهِنِينَ وَكَانَ فِيهِمْ ... مَعَ اللّينِ الْخَضَارِمَةُ الصّقُورُ
وَجَدْنَا الْمَجْدَ قَدْ ثَبَتُوا عَلَيْهِ ... بِمَجْدِ لَا تُغَيّبُهُ
الْبُدُورُ
أَقِيمُوا يَا سَرَاةَ الْأَوْسِ فِيهَا ... كَأَنّكُمْ مِنْ الْمَخْزَاةِ عُورُ
تَرَكْتُمْ قِدْرَكُمْ لَا شَيْءَ فِيهَا ... وَقِدْرُ الْقَوْمِ حَامِيَةٌ
تَفُورُ
مَقْتَلُ سَلّامِ بْنِ أَبِي
الْحُقَيْقِ
الْخَزْرَجُ يَسْتَأْذِنُونَ فِي قَتْلِ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ
[ ص 481 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا انْقَضَى شَأْنُ الْخَنْدَقِ ، وَأَمْرُ
بَنِي قُرَيْظَةَ ، وَكَانَ سَلّامُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ وَهُوَ أَبُو رَافِعٍ
فِيمَنْ حَزّبَ الْأَحْزَابَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَكَانَتْ الْأَوْسُ قَبْلَ أُحُدٍ قَدْ قَتَلَتْ كَعْبَ بْنَ
الْأَشْرَفِ ، فِي عَدَاوَتِهِ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَتَحْرِيضِهِ عَلَيْهِ اسْتَأْذَنَتْ الْخَزْرَجُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي قَتْلِ سَلّامِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ وَهُوَ بِخَيْبَرِ
فَأَذِنَ لَهُمْ
التّنَافُسُ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فِي عَمَلِ الْخَيْرِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ
الزّهْرِيّ ، عَنْ عَبْدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ وَكَانَ مِمّا صَنَعَ
اللّهُ بِهِ لِرَسُولِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ هَذَيْنِ
الْحَيّيْنِ مِنْ الْأَنْصَارِ وَالْأَوْسِ ، وَالْخَزْرَجِ ، كَانَا
يَتَصَاوَلَانِ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَصَاوُلَ
الْفَحْلَيْنِ لَا تَصْنَعُ الْأَوْسُ شَيْئًا عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ غَنَاءً إلّا قَالَتْ الْخَزْرَجُ : وَاَللّهِ لَا تَذْهَبُونَ
بِهَذِهِ فَضْلًا عَلَيْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَفِي الْإِسْلَامِ قَالَ فَلَا يَنْتَهُونَ حَتّى يُوقِعُوا مِثْلَهَا ؛ وَإِذَا
فَعَلَتْ الْخَزْرَجُ شَيْئًا قَالَتْ الْأَوْسُ مِثْلَ ذَلِكَ . وَلَمّا
أَصَابَتْ الْأَوْسُ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ فِي عَدَاوَتِهِ لِرَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَتْ الْخَزْرَجُ : وَاَللّهِ لَا تَذْهَبُونَ
بِهَا فَضْلًا عَلَيْنَا أَبَدًا ، قَالَ فَتَذَاكَرُوا : مَنْ رَجُلٌ لِرَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْعَدَاوَةِ كَابْنِ الْأَشْرَفِ ؟
فَذَكَرُوا ابْنَ أَبِي الْحُقَيْقِ ، وَهُوَ بِخَيْبَرِ فَاسْتَأْذَنُوا رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي قَتْلِهِ فَأَذِنَ لَهُمْ
قِصّةُ الّذِينَ خَرَجُوا لِقَتْلِ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ
فَخَرَجَ إلَيْهِ مِنْ الْخَزْرَجِ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ خَمْسَةُ نَفَرٍ عَبْدُ
اللّهِ بْنُ عَتِيكٍ ، وَمَسْعُودُ بْنُ سِنَانٍ ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أُنَيْسٍ
، وَأَبُو قَتَادَةَ الْحَارِثُ بْنُ رِبْعِيّ ، وَخُزَاعِيّ بْنُ أَسْوَدَ ،
حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ أَسْلَمَ . فَخَرَجُوا وَأَمّرَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَتِيكٍ ، وَنَهَاهُمْ عَنْ
أَنْ [ ص 482 ] خَيْبَرَ ، أَتَوْا دَارَ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ لَيْلًا ،
فَلَمْ يَدَعُوا بَيْتًا فِي الدّارِ إلّا أَغْلَقُوهُ عَلَى أَهْلِهِ . وَكَانَ
فِي عِلّيّةٍ لَهُ إلَيْهَا عَجَلَةٌ قَالَ فَأَسْنَدُوا فِيهَا حَتّى قَامُوا
عَلَى بَابِهِ فَاسْتَأْذَنُوا عَلَيْهِ فَخَرَجَتْ إلَيْهِمْ امْرَأَتُهُ
فَقَالَتْ مَنْ أَنْتُمْ ؟ قَالُوا : نَاسٌ مِنْ الْعَرَبِ نَلْتَمِسُ الْمِيرَةَ
. قَالَتْ ذَاكُمْ صَاحِبُكُمْ فَأُدْخِلُوا عَلَيْهِ قَالَ فَلَمّا دَخَلْنَا
عَلَيْهِ أَغْلَقْنَا عَلَيْنَا وَعَلَيْهَا الْحُجْرَةَ تَخَوّفًا أَنْ تَكُونَ
دُونَهُ مُحَاوَلَةٌ تَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ قَالَتْ فَصَاحَتْ امْرَأَتُهُ
فَنَوّهَتْ بِنَا وَابْتَدَرْنَاهُ وَهُوَ عَلَى فِرَاشِهِ بِأَسْيَافِنَا ،
فَوَاَللّهِ مَا يَدُلّنَا عَلَيْهِ فِي سَوَادِ اللّيْلِ إلّا بَيَاضُهُ كَأَنّهُ
قُبْطِيّةٌ مُلْقَاةٌ . قَالَ وَلَمّا صَاحَتْ بِنَا امْرَأَتُهُ جَعَلَ الرّجُلُ
مِنّا يَرْفَعُ عَلَيْهَا سَيْفَهُ ثُمّ يَذْكُرُ نَهْيَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَيَكُفّ يَدَهُ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَفَرَغْنَا مِنْهَا
بِلَيْلِ . قَالَ فَلَمّا ضَرَبْنَاهُ بِأَسْيَافِنَا تَحَامَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ
اللّهِ بْنُ أُنَيْسٍ بِسَيْفِهِ فِي بَطْنِهِ حَتّى أَنْفَذَهُ وَهُوَ يَقُولُ
قَطْنِي قَطْنِي : أَيْ حَسْبِي حَسْبِي . قَالَ وَخَرَجْنَا ، وَكَانَ عَبْدُ
اللّهِ بْنُ عَتِيكٍ رَجُلًا [ ص 483 ] قَالَ فَوَقَعَ مِنْ الدّرَجَةِ فَوَثِئَتْ
يَدُهُ وَثْئًا شَدِيدًا - وَيُقَالُ رِجْلُهُ فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ -
وَحَمَلْنَاهُ حَتّى نَأْتِيَ بِهِ مَنْهَرًا مِنْ عُيُونِهِمْ فَنَدْخُلُ فِيهِ .
قَالَ فَأَوْقَدُوا النّيرَانَ وَاشْتَدّوا فِي كُلّ وَجْهٍ يَطْلُبُونَنَا ،
قَالَ حَتّى إذَا يَئِسُوا رَجَعُوا إلَى صَاحِبِهِمْ فَاكْتَنَفُوهُ وَهُوَ
يُقْضَى بَيْنَهُمْ . قَالَ فَقُلْنَا : كَيْفَ لَنَا بِأَنْ نَعْلَمَ بِأَنّ
عَدُوّ اللّهِ قَدْ مَاتَ ؟ قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنّا : أَنَا أَذْهَبُ فَأَنْظُرُ
لَكُمْ فَانْطَلَقَ حَتّى دَخَلَ فِي النّاسِ . قَالَ فَوَجَدْت امْرَأَتَهُ
وَرِجَالَ يَهُودَ حَوْلَهُ وَفِي يَدِهَا الْمِصْبَاحُ تَنْظُرُ فِي وَجْهِهِ
وَتُحَدّثُهُمْ وَتَقُولُ أَمَا وَاَللّهِ لَقَدْ سَمِعْت صَوْتَ ابْنِ عَتِيكٍ
ثُمّ أَكْذَبْت نَفْسِي وَقُلْت : أَنّى ابْنُ عَتِيكٍ بِهَذِهِ الْبِلَادِ ؟ ثُمّ
أَقْبَلَتْ عَلَيْهِ تَنْظُرُ فِي وَجْهِهِ ثُمّ قَالَتْ فَاظَ وَإِلَهِ يَهُودَ
فَمَا سَمِعْت مِنْ كَلِمَةٍ كَانَتْ أَلَذّ إلَى نَفْسِي مِنْهَا . قَالَ ثُمّ
جَاءَنَا الْخَبَرُ فَاحْتَمَلْنَا صَاحِبَنَا فَقَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرْنَاهُ بِقَتْلِ عَدُوّ اللّهِ
وَاخْتَلَفْنَا عِنْدَهُ فِي قَتْلِهِ كُلّنَا يَدّعِيهِ . قَالَ فَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَاتُوا أَسْيَافَكُمْ قَالَ فَجِئْنَاهُ
بِهَا ، فَنَظَرَ إلَيْهَا ، فَقَالَ لِسَيْفِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُنَيْسٍ :
هَذَا قَتَلَهُ أَرَى فِيهِ أَثَرَ الطّعَامِ .
شِعْرُ حَسّانَ فِي قَتْلِ ابْنِ الْأَشْرَفِ وَابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَهُوَ يَذْكُرُ قَتْلَ
كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَقَتْلَ سَلّامِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ
لِلّهِ دَرّ عِصَابَةٍ لَاقَيْتهمْ ... يَا ابْنَ الْحُقَيْقِ وَأَنْتَ يَا ابْنَ
الْأَشْرَفِ
يَسْرُونَ بِالْبِيضِ الْخِفَافِ إلَيْكُمْ ... مَرَحًا كَأُسْدِ فِي عَرِينٍ
مُغْرِفِ
حَتّى أَتَوْكُمْ فِي مَحَلّ بِلَادِكُمْ ... فَسَقَوْكُمْ حَتْفًا بِبِيضِ ذُفّفِ
مُسْتَبْصِرِينَ لِنَصْرِ دِينِ نَبِيّهِمْ ... مُسْتَصْغِرِينَ لِكُلّ أَمْرٍ
مُجْحِفِ
[ ص 484 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْلُهُ " ذُفّفِ " ، عَنْ غَيْرِ
ابْنِ إسْحَاقَ .Sمَقْتَلُ
ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ
[ ص 481 ] ذَكَرَ فِيهِ النّفَرَ الْخَمْسَةَ الّذِينَ قَتَلُوهُ وَسَمّاهُمْ
وَذَكَرَ فِيهِمْ ابْنَ عُقْبَةَ أَسْعَدَ بْنَ حَرَامٍ وَلَا يُعْرَفُ أَحَدٌ
ذَكَرَهُ غَيْرُهُ . [ ص 482 ]
قَطْنِي وَقَدْ وَنُونُ الْوِقَايَةِ
وَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ قَطْنِي قَطْنِي ، قَالَ مَعْنَاهُ حَسْبِي حَسْبِي .
قَالَ الْمُؤَلّفُ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ أَصْلُهَا مِنْ الْقَطّ وَهُوَ الْقَطْعُ
ثُمّ خُفّفَتْ وَأُجْرِيَتْ مَجْرَى الْحَرْفِ وَكَذَلِكَ قَدْ بِمَعْنَى قَطْ
هِيَ أَيْضًا مِنْ الْقَدّ وَهُوَ الْقَطْعُ طُولًا ، وَالْقَطّ بِالطّاءِ هُوَ
الْقَطْعُ عَرْضًا ، يُقَالُ إنّ عَلِيّا - رَحِمَهُ اللّهُ - كَانَ إذَا
اسْتَعْلَى الْفَارِسَ قَدّهُ وَاذَا اسْتَعْرَضَهُ قَطّهُ وَلَمّا كَانَ الشّيْءُ
الْكَافِي الّذِي لَا يُحْتَاجُ مَعَهُ إلَى غَيْرِهِ يَدْعُو إلَى قَطْعِ
الطّلَبِ وَتَرْكِ الْمَزِيدِ جَعَلُوا قَدْ وَقَطْ تُشْعِرُ بِهَذَا الْمَعْنَى ،
فَإِذَا ذَكَرْت نَفْسَك قُلْت : قَدِي وَقَطِي ، كَمَا تَقُولُ حَسْبِي ، وَإِنْ
شِئْت أَلْحَقْت نُونًا ، فَقُلْت : قَدْنِي ، وَذَلِكَ مِنْ أَجْلِ سُكُونِ
آخِرِهَا فَكَرِهُوا تَحْرِيكَهُ مِنْ أَجْلِ الْيَاءِ كَمَا كَرِهُوا تَحْرِيكَ
آخِرِ الْفِعْلِ فَقَالُوا : ضَرَبَنِي ، وَكَذَلِكَ كَرِهُوا تَحْرِيكَ آخِرِ
لَيْتَ فَقَالُوا : لَيْتَنِي ، وَقَدْ يَقُولُونَ لَيْتِي وَهُوَ قَلِيلٌ
وَقَالُوا : لَعَلّنِي وَلَعَلّي ، وَقَالُوا : مِنْ لَدُنّي فَأَدْخَلُوهَا عَلَى
الْيَاءِ الْمَخْفُوضَةِ بِالظّرْفِ كَمَا أَدْخَلُوهَا عَلَى الْيَاءِ
الْمَخْفُوضَةِ بِمِنْ وَعَنْ فَعَلُوا هَذَا وِقَايَةً لِأَوَاخِرِ هَذَا
الْكَلِمِ مِنْ الْخَفْضِ وَخَصّوا النّونَ بِهَذَا ؛ لِأَنّهَا إذَا كَانَتْ تَنْوِينًا
فِي آخِرِ الِاسْمِ آذَنَتْ بِامْتِنَاعِ الْإِضَافَةِ وَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ
الْمَوَاطِنِ الّتِي سَمّيْنَا تُشْعِرُ بِامْتِنَاعِهَا مِنْ الْخَفْضِ
وَتُشْعِرُ فِي الْفِعْلِ وَالْحُرُوفِ بِامْتِنَاعِهَا مِنْ الْإِضَافَةِ أَيْضًا
، لِأَنّ الْحَرْفَ لَا يُضَافُ وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ مَعَ أَنّ النّونَ مِنْ
عَلَامَاتِ الْإِضْمَارِ فِي فَعَلْنَا ، وَفَعَلَنَا فِي ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ
فَأَمّا قَدْ وَقَطْ فَاسْمَانِ وَكَذَلِكَ لَدُنْ وَلَكِنْ كَرِهُوا تَحْرِيكَ
أَوَاخِرِهَا لِشَبَهِهَا بِالْحُرُوفِ . فَإِنْ قِيلَ فَمَا مَوْضِعُ نِيّ مِنْ
قَوْلِهِ قَطْنِي ؟ قُلْنَا : مَوْضِعُهَا خَفْضٌ بِالْإِضَافَةِ كَمَا هِيَ فِي
لَدُنّي . فَإِنْ قُلْت : كَيْفَ تَكُونُ ضَمِيرَ الْمَفْعُولِ وَالْمَنْصُوبِ فِي
ضَرَبَنِي وَلَيْتَنِي ، ثُمّ تَقُولُ إنّهَا فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ ؟ قُلْنَا :
الضّمِيرُ فِي الْحَقِيقَةِ هِيَ الْيَاءُ وَحْدَهَا فِي الْخَفْضِ [ ص 483 ]
قَالُوا : مِنّي وَعَنّي ، وَهُوَ ضَمِيرُ خَفْضٍ وَفِيهِ النّونُ وَقَالُوا :
لَيْتِي وَلَعَلّي ، وَهُوَ ضَمِيرُ نَصْبٍ وَلَيْسَ فِيهِ نُونٌ فَإِنْ قِيلَ
فَمَا مَوْضِعُ الِاسْمِ مِنْ الْإِعْرَابِ إذَا قُلْت : قَطِي وَقَدِي ؟ قُلْنَا
: إعْرَابُهُمَا كَإِعْرَابِ حَسْبِي مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ وَإِنّمَا
لَزِمَ حَذْفُ خَبَرِهِ لِمَا دَخَلَهُ مِنْ مَعْنَى الْأَمْرِ وَمِنْ هَذَا
الْبَابِ قَوْلُ جَهَنّمَ أَعَاذَنَا اللّهُ مِنْهَا : قَطِي وَعِزّتِك قَطِي ،
وَيُرْوَى : قَطْنِي ، وَذَلِكَ بَعْدَ قَوْلِهَا : هَلْ مِنْ مَزِيدٍ فَإِذَا
وُضِعَتْ فِيهَا الْقَدَمُ وَزَوَى بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ قَالَتْ قَطْنِي .
وَقَدْ جَمَعَ الشّاعِرُ بَيْنَ اللّغَتَيْنِ فَقَالَ قَدْنِي مِنْ نَصْرِ الْحُبَيْبَيْنِ
قَدِي
[ ص 484 ] قَطّ الْمَبْنِيّةُ عَلَى الضّمّ فَهِيَ ظَرْفٌ لِمَا مَضَى ، وَهِيَ
تُقَالُ بِالتّخْفِيفِ وَ التّثْقِيلِ وَهِيَ مِنْ الْقَطّ أَيْضًا الّذِي
بِمَعْنَى الْقَطْعِ وَفِي مُقَابَلَتِهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَوْضُ مَا
فَعَلْته قَطّ ، وَلَا أَفْعَلُهُ عَوْضُ مِثْلُ قَبْلُ وَبَعْدُ .
إسْلَامُ عَمْرِو بْنِ
الْعَاصِ وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ
عَمْرٌو وَصَحْبُهُ عِنْدَ النّجَاشِيّ
[ ص 485 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ ، عَنْ
رَاشِدٍ مَوْلَى حَبِيبِ بْنِ أَبِي أَوْسٍ الثّقَفِيّ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي
أَوْسٍ الثّقَفِيّ قَالَ حَدّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مِنْ فِيهِ قَالَ لَمّا
انْصَرَفْنَا مَعَ الْأَحْزَابِ عَنْ الْخَنْدَقِ جَمَعْت رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ
، كَانُوا يَرَوْنَ رَأْيِي ، وَيَسْمَعُونَ مِنّي ، فَقُلْت لَهُمْ تَعْلَمُونَ
وَاَللّهِ أَنّي أَرَى أَمْرَ مُحَمّدٍ يَعْلُو الْأُمُورَ عُلُوّا مُنْكَرًا ،
وَإِنّي قَدْ رَأَيْت أَمْرًا ، فَمَا تَرَوْنَ فِيهِ ؟ قَالُوا : وَمَاذَا
رَأَيْت ؟ قَالَ رَأَيْت أَنْ نَلْحَقَ بِالنّجَاشِيّ فَنَكُونَ عِنْدَهُ فَإِنْ
ظَهَرَ مُحَمّدٌ عَلَى قَوْمِنَا كُنّا عِنْدَ النّجَاشِيّ ، فَإِنّا أَنْ نَكُونَ
تَحْتَ يَدَيْهِ أَحَبّ إلَيْنَا مِنْ أَنْ نَكُونَ تَحْتَ يَدَيْ مُحَمّدٍ وَإِنْ
ظَهَرَ قَوْمُنَا فَنَحْنُ مَنْ قَدْ عَرَفُوا ، فَلَنْ يَأْتِيَنَا مِنْهُمْ إلّا
خَيْرٌ قَالُوا : إنّ هَذَا الرّأْيُ . قُلْت : فَاجْمَعُوا لَنَا مَا نُهْدِيهِ
لَهُ وَكَانَ أَحَبّ مَا يُهْدَى إلَيْهِ مِنْ أَرْضِنَا الْأَدَمُ . فَجَمَعْنَا
لَهُ أَدَمًا كَثِيرًا ، ثُمّ خَرَجْنَا حَتّى قَدِمْنَا عَلَيْهِ . [ ص 486 ]
عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ قَدْ بَعَثَهُ إلَيْهِ فِي شَأْنِ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ . قَالَ
فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثُمّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ . قَالَ فَقُلْت لِأَصْحَابِي :
هَذَا عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ ، لَوْ قَدْ دَخَلْت عَلَى النّجَاشِيّ
وَسَأَلْته إيّاهُ فَأَعْطَانِيهِ فَضَرَبْت عُنُقَهُ فَإِذَا فَعَلْت ذَلِكَ
رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنّي قَدْ أَجْزَأْت عَنْهَا حِينَ قَتَلْت رَسُولَ مُحَمّدٍ .
قَالَ فَدَخَلْت عَلَيْهِ فَسَجَدْت لَهُ كَمَا كُنْت أَصْنَعُ فَقَالَ مَرْحَبًا
بِصَدِيقِي ، أَهْدَيْت إلَيّ مِنْ بِلَادِك شَيْئًا ؟ قَالَ قُلْت : نَعَمْ
أَيّهَا الْمَلِكُ قَدْ أَهْدَيْت إلَيْك أَدَمًا كَثِيرًا ؛ قَالَ ثُمّ قَرّبْته
إلَيْهِ فَأَعْجَبَهُ وَاشْتَهَاهُ ثُمّ قُلْت لَهُ أَيّهَا الْمَلِكُ إنّي قَدْ
رَأَيْت رَجُلًا خَرَجَ مِنْ عِنْدِك ، وَهُوَ رَسُولُ رَجُلٍ عَدُوّ لَنَا ،
فَأَعْطِنِيهِ لِأَقْتُلَهُ فَإِنّهُ قَدْ أَصَابَ مِنْ أَشْرَافِنَا وَخِيَارِنَا
، قَالَ فَغَضِبَ ثُمّ مَدّ يَدَهُ فَضَرَبَ بِهَا أَنْفَهُ ضَرْبَةً ظَنَنْت
أَنّهُ قَدْ كَسَرَهُ فَلَوْ انْشَقّتْ لِي الْأَرْضُ لَدَخَلْت فِيهَا فَرَقًا
مِنْهُ ثُمّ قُلْت لَهُ أَيّهَا الْمَلِكُ وَاَللّهِ لَوْ ظَنَنْت أَنّك تَكْرَهُ
هَذَا مَا سَأَلْتُكَهُ قَالَ أَتَسْأَلُنِي أَنْ أُعْطِيَك رَسُولَ رَجُلٍ
يَأْتِيهِ النّامُوسُ الْأَكْبَرُ الّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى لِتَقْتُلَهُ قَالَ
قُلْت : أَيّهَا الْمَلِكُ أَكَذَاك هُوَ ؟ قَالَ وَيْحَك يَا عَمْرُو أَطِعْنِي
وَاتّبِعْهُ فَإِنّهُ وَاَللّهِ لَعَلَى الْحَقّ وَلَيَظْهَرَنّ عَلَى مَنْ
خَالَفَهُ كَمَا ظَهَرَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ وَجُنُودِهِ . قَالَ قُلْت :
أَفَتُبَايِعُنِي لَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ ؟ قَالَ نَعَمْ فَبَسَطَ يَدَهُ
فَبَايَعْته : عَلَى الْإِسْلَامِ ثُمّ خَرَجْت إلَى أَصْحَابِي وَقَدْ حَالَ
رَأْيِي عَمّا كَانَ عَلَيْهِ وَكَتَمْت أَصْحَابِي إسْلَامِي
اجْتِمَاعُ عَمْرٍو مَعَ خَالِدٍ فِي الطّرِيقِ
ثُمّ خَرَجْت عَامِدًا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
لِأُسْلِمَ فَلَقِيت خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ ، وَذَلِكَ قُبَيْلَ الْفَتْحِ
وَهُوَ مُقْبِلٌ مِنْ مَكّةَ ، فَقُلْت : أَيْنَ يَا أَبَا سُلَيْمَانَ ؟ قَالَ
وَاَللّهِ لَقَدْ اسْتَقَامَ الْمِيسَمُ وَإِنّ الرّجُلَ لَنَبِيّ ، أَذْهَبُ
وَاَللّهِ فَأُسْلِمُ فَحَتّى مَتَى ؛ قَالَ قُلْت : وَاَللّهِ مَا جِئْت إلّا
لِأُسْلِمَ . قَالَ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَتَقَدّمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فَأَسْلَمَ وَبَايَعَ ثُمّ
دَنَوْت ، فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي أُبَايِعُك عَلَى أَنْ يُغْفَرَ لِي
مَا تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِي ، وَلَا أَذْكُرُ مَا تَأَخّرَ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا عَمْرُو ، بَايِعْ فَإِنّ الْإِسْلَامَ
يَجُبّ مَا كَانَ قَبْلَهُ ، وَإِنّ الْهِجْرَةَ تَجُبّ مَا كَانَ قَبْلَهَا ؛
قَالَ فَبَايَعْته ، ثُمّ انْصَرَفْت . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ فَإِنّ
الْإِسْلَامَ يَحُتّ مَا كَانَ قَبْلَهُ وَإِنّ الْهِجْرَةَ تَحُتّ مَا كَانَ
قَبْلَهَا . [ ص 487 ]
إسْلَامُ ابْنِ طَلْحَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ أَنّ عُثْمَانَ بْنَ
طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، كَانَ مَعَهُمَا ، حِينَ أَسْلَمَا . [ ص 488 ]
شِعْرُ ابْنِ الزّبَعْرَى فِي إسْلَامِ ابْنِ طَلْحَةَ وَخَالِدٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَقَالَ ابْنُ الزّبَعْرَى السّهْمِيّ :
أَنْشُدُ عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ حِلْفَنَا ... وَمُلْقَى نِعَالِ الْقَوْمِ
عِنْدَ الْمُقَبّلِ
وَمَا عَقَدَ الْآبَاءُ مِنْ كُلّ حِلْفِهِ ... وَمَا خَالِدٌ مِنْ مِثْلِهَا
بِمُحَلّلِ
أَمِفْتَاحَ بَيْتٍ غَيْرِ بَيْتِك تَبْتَغِي ... وَمَا يُبْتَغَى مِنْ مَجْدِ
بَيْتٍ مُؤَثّلِ
فَلَا تَأْمَنَنّ خَالِدًا بَعْدَ هَذِهِ ... وَعُثْمَانُ جَاءَ بِالدّهَيْمِ
الْمُعَضّلِ
وَكَانَ فَتْحُ بَنِي قُرَيْظَةَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ وَصَدْرِ ذِي الْحِجّةِ
وَوَلِيَ تِلْكَ الْحَجّةَ الْمُشْرِكُونَ .Sإسْلَامُ
عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رَحْمَةُ اللّهِ عَلَيْهِمَا
[ ص 485 ] أَبِي بَكْرٍ الْخَطِيبِ بِإِسْنَادِ يَرْفَعُهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ اللّيْلَةَ رَجُلٌ
حَكِيمٌ فَقَدِمَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ مُهَاجِرًا ، ذَكَرَ فِيهِ اجْتِمَاعَهُ
مَعَ خَالِدٍ فِي الطّرِيقِ [ ص 486 ] مَنْ رَوَاهُ الْمِيسَمُ بِالْيَاءِ فَهِيَ
الْعَلَامَةُ أَيْ قَدْ تَبَيّنَ الْأَمْرُ وَاسْتَقَامَتْ الدّلَالَةُ وَمَنْ
رَوَاهُ الْمَنْسَمُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَبِالنّونِ فَمَعْنَاهُ اسْتَقَامَ
الطّرِيقُ وَوَجَبَتْ الْهِجْرَةُ وَالْمَنْسَمُ مُقَدّمُ خُفّ الْبَعِيرِ
وَكُنّيَ بِهِ عَنْ الطّرِيقِ لِلتّوَجّهِ بِهِ فِيهِ . [ ص 487 ] وَذَكَرَ
الزّبَيْرُ خَبَرَ عَمْرٍو هَذَا ، وَزَادَ فِيهِ أَنّ عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ
بْنِ أَبِي طَلْحَةَ صَحِبَهُمَا فِي تِلْكَ الطّرِيقِ فَلَمّا قَدِمُوا عَلَى
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ عَمْرٌو : وَكُنْت أَسَنّ
مِنْهُمَا ، فَأَرَدْت أَنْ أَكِيدَهُمَا ، فَقَدّمْتهمَا قَبْلِي لِلْبَيْعَةِ
فَبَايَعَا ، وَاشْتَرَطَا أَنْ يُغْفَرَ مِنْ ذَنْبِهِمَا مَا تَقَدّمَ فَأَضْمَرْت
فِي نَفْسِي أَنْ نُبَايِعَ عَلَى أَنْ يَغْفِرَ اللّهُ مِنْ ذَنْبِي مَا تَقَدّمَ
وَمَا تَأَخّرَ فَلَمّا بَايَعْت ذَكَرْت مَا تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِي وَأُنْسِيت
أَنْ أَقُولَ وَمَا تَأَخّرَ .
مَا قَالَهُ الضّمْرِيّ لِلنّجَاشِيّ
وَذَكَرَ فِيهِ قُدُومَ عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ عَلَى النّجَاشِيّ
بِكِتَابِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَ فِي الْكِتَابِ مَا
تَكَلّمَ بِهِ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ فَإِنّهُ لَمّا قَدِمَ عَلَيْهِ قَالَ لَهُ
يَا أَصْحَمَةُ إنّ عَلَيّ الْقَوْلَ وَعَلَيْك الِاسْتِمَاعَ إنّك كَأَنّك فِي
الرّقّةِ عَلَيْنَا مِنّا ، وَكَأَنّا بِالثّقَةِ بِك مِنْك لِأَنّا لَمْ نَظْنُنْ
بِك خَيْرًا قَطّ إلّا نِلْنَاهُ وَلَمْ نَخَفْك عَلَى شَيْءٍ إلّا أَمِنّاهُ
وَقَدْ أَخَذْنَا الْحُجّةَ عَلَيْك مِنْ فِيك أَلّا يُحِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَك
شَاهِدٌ لَا يُرَدّ ، وَقَاضٍ لَا يَجُورُ وَفِي ذَلِكَ وَقْعُ الْحَزّ
وَإِصَابَةُ الْمَفْصِلِ وَإِلّا فَأَنْتَ فِي هَذَا النّبِيّ الْأُمّيّ
كَالْيَهُودِ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، وَقَدْ فَرّقَ النّبِيّ عَلَيْهِ
السّلَامُ رُسُلَهُ إلَى النّاسِ فَرَجَاك لِمَا لَمْ يَرْجُهُمْ لَهُ وَأَمِنَك
عَلَى مَا خَافَهُمْ عَلَيْهِ لِخَيْرِ سَالِفٍ وَأَجْرٍ يُنْتَظَرُ فَقَالَ
النّجَاشِيّ : أَشْهَدُ بِاَللّهِ أَنّهُ النّبِيّ الْأُمّيّ الّذِي يَنْتَظِرُهُ
أَهْلُ الْكِتَابِ وَأَنّ بِشَارَةَ مُوسَى بِرَاكِبِ الْحِمَارِ كَبِشَارَةِ
عِيسَى بِرَاكِبِ الْجَمَلِ وَإِنّ الْعِيَانَ لَهُ لَيْسَ بِأَشْفَى مِنْ
الْخَبَرِ عَنْهُ وَلَكِنّ أَعْوَانِي مِنْ الْحَبَشِ قَلِيلٌ فَأَنْظِرْنِي حَتّى
أُكَثّرَ الْأَعْوَانَ وَأُلَيّنَ الْقُلُوبَ وَسَنَذْكُرُ فِيمَا بَعْدُ - إنْ
شَاءَ اللّهُ - مَا قَالَتْهُ أَرْسَالُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - إلَى الْمُلُوكِ وَمَا رَدّتْ عَلَيْهَا .
الرّسُلُ إلَى الْمُلُوكِ
فَإِنّ دِحْيَةَ كَانَ رَسُولَهُ إلَى قَيْصَرَ ، وَخَارِجَةَ بْنَ حُذَافَةَ
كَانَ رَسُولَهُ إلَى كِسْرَى ، وَشُجَاعَ بْنَ وَهْبٍ إلَى جَبَلَةَ بْنِ
الْأَيْهَمِ الْغَسّانِيّ وَسَلِيطَ بْنَ عَمْرٍو إلَى هَوْذَةَ بْنِ عَلِيّ
الْحَنَفِيّ صَاحِبِ الْيَمَامَةِ ، وَالْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيّ إلَى
الْمُنْذِرِ بْنِ سَاوِي [ مَلِكِ الْبَحْرَيْنِ ] وَالْمُهَاجِرَ بْنَ أَبِي
أُمَيّةَ إلَى الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِي إلَى
الْجُلَنْدَى صَاحِبِ عُمَانَ ، [ ص 488 ] وَحَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ إلَى
الْمُقَوْقَسِ صَاحِبِ مِصْرَ ، وَعَمْرَو بْنَ أُمَيّةَ إلَى النّجَاشِيّ كَمَا
تَقَدّمَ وَلِكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَلَامٌ قَالَهُ وَشِعْرٌ نَظَمَهُ
سَنَذْكُرُهُ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللّهُ .
السّمْهَرِيّةُ
فَصْلٌ
وَمَا وَقَعَ فِي أَشْعَارِ السّيرَةِ مِنْ ذِكْرِ السّمْهَرِيّةِ مِنْ الرّمَاحِ
فَمَنْسُوبَةٌ إلَى سَمْهَرٍ وَكَانَ صَنَعًا فِيمَا زَعَمُوا يَصْنَعُ الرّمَاحَ
وَكَانَتْ امْرَأَتُهُ رُدَيْنَةُ تَبِيعُهَا ، فَقِيلَ لِلرّمَاحِ الرّدَيْنِيّةُ
لِذَلِكَ وَأَمّا الْمَاسِخِيّ مِنْ الْقِسِيّ فَمَنْسُوبَةٌ إلَى مَاسِخَةَ
وَاسْمُهُ نُبَيْشَةُ بْنُ الْحَارِثِ أَحَدُ بَنِي نَصْرِ بْنِ الْأَزْدِ ،
وَقَالَ الْجَعْدِيّ :
بِعِيسِ تُعَطّفُ أَعْنَاقَهَا ... كَمَا عَطّفَ الْمَاسِخِيّ الْقِيَانَا
وَقَدْ تُنْسَبُ الْقِسِيّ أَيْضًا إلَى زَارَةَ وَهِيَ امْرَأَةُ مَاسِخَةَ .
قَالَ صَخْرُ الْغَيّ
سَمْحَةٍ مِنْ قِسِيّ زَارَةَ حَمْ ـ ... رَاءَ هَتُوفٍ عِدَادُهَا غِرَدُ
مِنْ كِتَابِ النّبَاتِ لِلدّينَوَرِيّ وَالْيَزَنِيّةُ مَنْسُوبَةٌ إلَى عُبَيْدِ
الطّعّانِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِيَزَنَنَ بْنِ هَمَاذِي ، وَالْمَاذِيّةُ
مَنْسُوبَةٌ إلَى مَاذِي بْنِ يَافِثَ بْنِ نُوحٍ قَالَهُ الطّبَرِيّ ، وَزَعَمَ
أَنّهُ أَوّلُ مَنْ عَمِلَ السّيُوفَ جَمّ وَهُوَ رَابِعُ مُلُوكِ الْأَرْضِ .
غَزْوَةُ بَنِي لِحْيَانَ
"بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ"
[ ص 489 ] قَالَ حَدّثَنَا أَبُو مُحَمّدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ قَالَ
حَدّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَكّائِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ
الْمُطّلِبِيّ قَالَ ثُمّ أَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
بِالْمَدِينَةِ ذَا الْحِجّةِ وَالْمُحَرّمَ وَصَفَرًا وَشَهْرَيْ رَبِيعٍ
وَخَرَجَ فِي جُمَادَى الْأُولَى عَلَى رَأْسِ سِتّةِ أَشْهُرٍ مِنْ فَتْحِ
قُرَيْظَةَ إلَى بَنِي لِحْيَانَ يَطْلُبُ بِأَصْحَابِ الرّجِيعِ خُبَيْبِ بْنِ
عَدِيّ وَأَصْحَابِهِ وَأَظْهَرَ أَنّهُ يُرِيدُ الشّامَ ، لِيُصِيبَ مِنْ
الْقَوْمِ غِرّةً . فَخَرَجَ مِنْ الْمَدِينَةِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ ، فِيمَا قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَسَلَكَ عَلَى غُرَابٍ ، جَبَلٍ بِنَاحِيَةِ
الْمَدِينَةِ عَلَى طَرِيقِهِ إلَى الشّامِ ، ثُمّ عَلَى مَحِيصٍ ، ثُمّ عَلَى
الْبَتْرَاءِ ، ثُمّ صَفّقَ ذَاتَ الْيَسَارِ فَخَرَجَ عَلَى بِينٍ ثُمّ عَلَى
صُخَيْرَاتِ الْيَمَامِ ، ثُمّ اسْتَقَامَ بِهِ الطّرِيقُ عَلَى الْمَحَجّةِ مِنْ
طَرِيقِ مَكّةَ ، فَأَغَذّ السّيْرَ سَرِيعًا ، حَتّى نَزَلَ عَلَى غُرَانٍ ،
وَهِيَ مَنَازِلُ بَنِي لِحْيَانَ ، وَغُرَانٌ وَادٍ بَيْنَ آمَجَ وَعُسْفَانَ ،
إلَى بَلَدٍ يُقَالُ لَهُ سَايَةُ ، فَوَجَدَهُمْ قَدْ حَذِرُوا وَتَمَنّعُوا فِي
رُءُوسِ الْجِبَالِ . فَلَمّا نَزَلَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ [ ص 490 ] غِرّتِهِمْ مَا أَرَادَ قَالَ لَوْ أَنّا هَبَطْنَا عُسْفَانَ
لَرَأَى أَهْلُ مَكّةَ أَنّا قَدْ جِئْنَا مَكّةَ فَخَرَجَ فِي مِائَتَيْ رَاكِبٍ
مِنْ أَصْحَابِهِ حَتّى نَزَلَ عُسْفَانَ ، ثُمّ بَعَثَ فَارِسَيْنِ مِنْ
أَصْحَابِهِ حَتّى بَلَغَا كُرَاعَ الْغَمِيمِ ، ثُمّ كَرّ وَرَاحَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَافِلًا . فَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ
يَقُولُ سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ حِينَ
وَجّهَ رَاجِعًا : آيِبُونَ تَائِبُونَ إنْ شَاءَ اللّهُ لِرَبّنَا حَامِدُونَ
أَعُوذُ بِاَللّهِ مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ وَسُوءِ
الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْحَدِيثُ فِي غَزْوَةِ بَنِي لِحْيَانَ
، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ،
عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ ، فَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي
غَزْوَةِ بَنِي لِحْيَانَ .
لَوْ أَنّ بَنِي لِحْيَانَ كَانُوا تَنَاظَرُوا ... لَقُوا عُصَبًا فِي دَارِهِمْ
ذَاتَ مَصْدَقِ
لَقُوا سَرَعَانًا يَمْلَأ السّرْبَ رَوْعُهُ ... أَمَامَ طَحُونٍ كَالْمَجَرّةِ
فَيْلَقِ
وَلَكِنّهُمْ كَانُوا وِبَارًا تَتَبّعَتْ ... شِعَابَ حِجَازٍ غَيْرَ ذِي
مُتَنَفّقِ
[ ص 491 ]Sغَزْوَةُ
بَنِي لِحْيَانَ
[ ص 489 ] لَقُوا سَرَعَانًا يَمْلَأُ السّرْبَ رَوْعُهُ
[ ص 490 ] سُبّاقُهُمْ وَالسّرْبُ الْمَالُ الرّاعِي ، كَأَنّهُ جَمْعُ سَارِبٍ
وَيُقَالُ هُوَ آمِنٌ فِي سَرْبِهِ إذَا لَمْ يُذْعَرْ وَلَا خَافَ عَلَى مَالِهِ
مِنْ الْغَارَةِ وَمَنْ قَالَ فِي سِرْبِهِ بِكَسْرِ السّينِ فَهُوَ مَثَلٌ لِأَنّ
السّرْبَ هُوَ الْقَطِيعُ مِنْ الْوَحْشِ وَالطّيْرِ فَمَعْنَى : آمِنٌ فِي
سِرْبِهِ أَيْ لَمْ يُذْعَرْ هُوَ نَفْسُهُ وَلَا ذُعِرَ أَهْلُهُ وَلِهَذَا
الْمَعْنَى أَشَارَ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ اللّغَةِ مَعْنَى فِي سِرْبِهِ أَيْ
فِي نَفْسِهِ لَمْ يُرِدْ أَنّ النّفْسَ يُقَالُ لَهَا : سِرْبٌ وَإِنّمَا أَرَادَ
أَنّهُ لَمْ يُذْعَرْ هُوَ وَلَا مَنْ مَعَهُ لَا كَالْآخَرِ الّذِي تَقَدّمَ
ذِكْرُهُ وَقِيلَ فِيهِ آمِنٌ فِي سَرْبِهِ بِفَتْحِ السّينِ فَكَانَ الْوَاحِدُ
آمِنٌ فِي مَالِهِ وَالْآخَرُ آمِنٌ فِي نَفْسِهِ وَيُقَالُ فِي سَرْبِهِ أَيْ فِي
طَرِيقِهِ أَيْضًا . وَقَوْلُهُ أَمَامَ طَحُونٍ كَالْمَجَرّةِ فَيْلَقِ
يَعْنِي : كَتِيبَةً جَعَلَهَا كَالْمَجَرّةِ لِلَمَعَانِ السّيُوفِ وَالْأَسِنّةِ
فِيهَا كَالنّجُومِ حَوْلَ الْمَجَرّةِ لِأَنّ النّجُومَ - وَأَكْثَرَ مَا تَكُونُ
- حَوْلَهَا ، وَقَدْ قِيلَ إنّ الْمَجَرّةَ نَفْسَهَا نُجُومٌ صِغَارٌ
مُتَلَاصِقَةٌ فَبَيَاضُ الْمَجَرّةِ مِنْ بَيَاضِ تِلْكَ النّجُومِ وَقَدْ رُوِيَ
فِي حَدِيثٍ مُنْقَطِعٍ أَنّ الْمَجَرّةَ الّتِي فِي السّمَاءِ هِيَ مِنْ لُعَابِ حَيّةٍ
تَحْتَ الْعَرْشِ وَفِي حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ بَعَثَهُ إلَى [ ص 491 ] الْيَمَنِ قَالَ لَهُ إنّك
سَتَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ يَسْأَلُونَك عَنْ الْمَجَرّةِ فَقُلْ لَهُمْ هِيَ مِنْ
عَرَقِ الْأَفْعَى الّتِي تَحْتَ الْعَرْشِ لَكِنّ إسْنَادَ هَذَا الْحَدِيثِ
ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ النّقْلِ لَا يُعَرّجُ عَلَيْهِ ذَكَرَهُ الْعُقَيْلِيّ ،
وَعَنْ عَلِيّ أَنّهَا شَرَجُ السّمَاءِ الّذِي تَنْشَقّ مِنْهُ وَأَمّا قَوْلُ
الْمُنَجّمِينَ غَيْرِ الْإِسْلَامِيّينَ فِي مَعْنَى الْمَجَرّةِ فَذَكَرَ لَهُمْ
الْقَاضِي فِي النّقْضِ الْكَبِيرِ نَحْوًا مِنْ عَشَرَةِ أَقْوَالٍ وَأَكْثَرَ
مِنْهَا مَا يُجَوّزُهُ الْعَقْلُ وَمِنْهَا مَا هُوَ شِبْهُ الْهَذَيَانِ
وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ كَالْمَجَرّةِ أَيْ أَثَرُ
هَذِهِ الْكَتِيبَةِ الطّحُونِ كَأَثَرِ الْمَجَرّةِ تَقْشِرُ مَا مَرّتْ عَلَيْهِ
وَتَكْنُسُهُ . وَالْفَيْلَقُ فَيْعَلٌ مِنْ الْفِلْقِ وَهِيَ الدّاهِيَةُ
كَأَنّهَا تَفْلِقُ الْقُلُوبَ وَهِيَ الْفِلْقَةُ أَيْضًا . قَالَ ابْنُ أَحْمَرَ
قَدْ طَرّقَتْ بِبِكْرِهَا أُمّ طَبَقْ ... فَدَبّرُوهُ خَبَرًا ضَخْمَ الْعُنُقْ
فَقِيلَ وَمَا ذَاكَ ؟ قَالَ مَوْتُ الْإِمَامِ فَلِقَةٌ مِنْ الْفِلَقْ
غَزْوَةُ ذِي قَرَدٍ
[ ص 3 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ ، فَلَمْ يُقِمْ بِهَا إلّا
لَيَالِيَ قَلَائِلَ حَتّى أَغَارَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ
بَدْرٍ الْفَزَارِيّ ، فِي خَيْلٍ مِنْ غَطَفَانَ عَلَى لِقَاحٍ لِرَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْغَابَةِ وَفِيهَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ
وَامْرَأَةٌ لَهُ فَقَتَلُوا الرّجُلَ وَاحْتَمَلُوا الْمَرْأَةَ فِي اللّقَاحِ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَعَبْدُ
اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ ، وَمَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ كَعْبِ
بْنِ مَالِكٍ ، كُلّ قَدْ حَدّثَ فِي غَزْوَةِ ذِي قَرَدٍ بَعْضَ الْحَدِيثِ
أَنّهُ كَانَ أَوّلَ مَنْ نَذَرَ بِهِمْ سَلَمَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْأَكْوَعِ
الْأَسْلَمِيّ غَدَا يُرِيدُ الْغَابَةَ مُتَوَشّحًا قَوْسَهُ وَنَبْلَهُ وَمَعَهُ
غُلَامٌ لِطَلْحَةِ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ مَعَهُ فَرَسٌ لَهُ يَقُودُهُ حَتّى إذَا
عَلَا ثَنِيّةَ الْوَدَاعِ نَظَرَ إلَى بَعْضِ خُيُولِهِمْ فَأَشْرَفَ فِي
نَاحِيَةِ سَلْعٍ . ثُمّ صَرَخَ وَاصَبَاحَاه ، ثُمّ خَرَجَ يَشْتَدّ فِي آثَارِ
الْقَوْمِ وَكَانَ مِثْلَ السّبُعِ حَتّى لَحِقَ بِالْقَوْمِ فَجَعَلَ يَرُدّهُمْ
بِالنّبْلِ وَيَقُولُ إذَا رَمَى خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ ، الْيَوْمَ
يَوْمُ الرّضّعِ فَإِذَا وَجّهَتْ الْخَيْلُ نَحْوَهُ انْطَلَقَ هَارِبًا ، ثُمّ
عَارَضَهُمْ فَإِذَا أَمْكَنَهُ الرّمْيُ رَمَى ، ثُمّ قَالَ خُذْهَا وَأَنَا
ابْنُ الْأَكْوَعِ ، الْيَوْمَ يَوْمُ الرّضّعِ قَالَ فَيَقُولُ قَائِلُهُمْ
أُوَيْكِعُنَا هُوَ أَوّلُ النّهَارِ [ ص 4 ]
تَسَابُقُ الْفُرْسَانِ إلَى الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَالَ وَبَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صِيَاحُ ابْنِ
الْأَكْوَعِ فَصَرَخَ بِالْمَدِينَةِ الْفَزَعَ الْفَزَعَ فَتَرَامَتْ الْخُيُولُ
إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَكَانَ أَوّلَ مَنْ
انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْفُرْسَانِ
الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو ، وَهُوَ الّذِي يُقَالُ لَهُ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ
حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ ثُمّ كَانَ أَوّلَ فَارِسٍ وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْدَ الْمِقْدَادِ مِنْ الْأَنْصَارِ ، عَبّادُ
بْنُ بِشْرِ بْنِ وَقْشِ بْنِ زُغْبَةَ بْنِ زَعُورَاءَ ، أَحَدُ بَنِي عَبْدِ
الْأَشْهَلِ وَسَعْدُ بْنُ زَيْدٍ ، أَحَدُ بَنِي كَعْبِ بْنِ عَبْدِ الْأَشْهَلِ
وَأُسَيْدُ بْنُ ظَهِيرٍ ، أَخُو بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ يَشُكّ فِيهِ
وَعُكَاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ أَخُو بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ ؛ وَمُحْرِزُ بْنُ
نَضْلَةَ أَخُو بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ ، وَأَبُو قَتَادَةَ الْحَارِثُ بْنُ
رِبْعِيّ ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ وَأَبُو عَيّاشٍ وَهُوَ عُبَيْدُ بْنُ زَيْدِ
بْنِ الصّامِتِ ، أَخُو بَنِي زُرَيْقٍ . فَلَمّا اجْتَمَعُوا إلَى رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمّرَ عَلَيْهِمْ سَعْدَ بْنَ زَيْدٍ فِيمَا
بَلَغَنِي ، ثُمّ قَالَ اُخْرُجْ فِي طَلَبِ الْقَوْمِ ، حَتّى أَلْحَقَك فِي
النّاسِ
نَصِيحَةُ الرّسُولِ لِأَبِي عَيّاشٍ
وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا بَلَغَنِي
عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ لِأَبِي عَيّاشٍ يَا أَبَا عَيّاشٍ لَوْ
أَعْطَيْت هَذَا الْفَرَسَ رَجُلًا ، هُوَ أَفْرَسُ مِنْك فَلَحِقَ بِالْقَوْمِ ؟
قَالَ أَبُو عَيّاشٍ فَقُلْت يَا رَسُولَ اللّهِ أَنَا أَفْرَسُ النّاسِ ثُمّ
ضَرَبْت الْفَرَسَ ، فَوَاَللّهِ مَا جَرَى بِي خَمْسِينَ ذِرَاعًا حَتّى طَرَحَنِي
، فَعَجِبْت أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ لَوْ
أَعْطَيْته أَفْرَسَ مِنْك ، وَأَنَا أَقُولُ أَنَا أَفْرَسُ النّاسِ فَزَعَمَ
رِجَالٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَعْطَى فَرَسَ أَبِي عَيّاشٍ مُعَاذَ بْنَ مَاعِصٍ أَوْ عَائِذَ بْنَ مَاعِصِ
بْنِ قَيْسِ بْنِ خُلْدَةَ وَكَانَ ثَامِنًا ، وَبَعْضُ النّاس يَعُدّ سَلَمَةَ
بْنَ عَمْرِو بْنِ الْأَكْوَعِ أَحَدَ الثّمَانِيّةِ وَيَطْرَحُ أُسَيْدَ بْنَ
ظُهَيْرٍ ، أَخَا بَنِي حَارِثَةَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِك كَانَ . وَلَمْ
يَكُنْ سَلَمَةُ يَوْمَئِذٍ فَارِسًا ، وَقَدْ كَانَ أَوّلَ مَنْ لَحِقَ
بِالْقَوْمِ عَلَى رِجْلَيْهِ . فَخَرَجَ الْفُرْسَانُ فِي طَلَبِ الْقَوْمِ حَتّى
تَلَاحَقُوا .
مَقْتَلُ مُحْرِزِ بْنِ نَضْلَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ : [ ص 5 ]
أَنّ أَوّلَ فَارِسٍ لَحِقَ بِالْقَوْمِ مُحْرِزُ بْنُ نَضْلَةَ أَخُو بَنِي
أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ - وَكَانَ يُقَالُ لِمُحْرِزِ الْأَخْرَمُ وَيُقَالُ لَهُ
قُمَيْرٌ - وَأَنّ الْفَزَعَ لَمّا كَانَ جَالَ فَرَسٌ لِمَحْمُودِ بْنِ
مَسْلَمَةَ فِي الْحَائِطِ ، حِينَ سَمِعَ صَاهِلَةَ الْخَيْلِ وَكَانَ فَرَسًا
صَنِيعًا جَامّا ، فَقَالَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ حِينَ
رَأَيْنَ الْفَرَسَ يَجُولُ فِي الْحَائِطِ بِجِذْعِ نَخْلٍ هُوَ مَرْبُوطٌ فِيهِ
يَا قُمَيْرُ هَلْ لَك فِي أَنْ تَرْكَبَ هَذَا الْفَرَسَ ؟ فَإِنّهُ كَمَا تَرَى
، ثُمّ تَلْحَقُ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَبِالْمُسْلِمِينَ ؟ قَالَ نَعَمْ فَأَعْطَيْنَهُ إيّاهُ . فَخَرَجَ عَلَيْهِ
فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ بَذّ الْخَيْلَ بِجَمَامِهِ حَتّى أَدْرَكَ الْقَوْمَ
فَوَقَفَ لَهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهمْ ثُمّ قَالَ قِفُوا يَا مَعْشَرَ بَنِي
اللّكِيعَةِ حَتّى يَلْحَقَ بِكُمْ مَنْ وَرَاءَكُمْ مِنْ أَدْبَارِكُمْ مِنْ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ . قَالَ وَحَمَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَقَتَلَهُ
وَجَالَ الْفَرَسُ ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ حَتّى وَقَفَ عَلَى آرِيّهِ مِنْ
بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ فَلَمْ يُقْتَلْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غَيْرُهُ قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَعَ مُحْرِزٍ وَقّاصُ
بْنُ مُجَزّرٍ الْمُدْلِجِيّ ، فِيمَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ .
أَسْمَاءُ أَفْرَاسِ الْمُسْلِمِينَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ اسْمُ فَرَسِ مَحْمُودٍ ذَا اللّمّةِ . قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : وَكَانَ اسْمُ فَرَسِ سَعْدِ بْنِ زَيْدٍ : لَاحِقٌ وَاسْمُ
فَرَسِ الْمِقْدَادِ بَعْزَجَةُ وَيُقَالُ سُبْحَةُ وَاسْمُ فَرَسِ عُكَاشَةَ بْنِ
مِحْصَنٍ ذُو اللّمّةِ وَاسْمُ فَرَسِ أَبِي قَتَادَةَ : حَزْوَةُ وَفَرَسِ
عَبّادِ بْنِ بِشْرٍ لَمّاعُ وَفَرَسُ أُسَيْدِ بْنِ ظُهَيْرٍ : مَسْنُونٌ
وَفَرَسُ أَبِي عَيّاشٍ جُلْوَةُ . [ ص 6 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي
بَعْضُ مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ : أَنّ
مُجَزّرًا إنّمَا كَانَ عَلَى فَرَسٍ لَعُكَاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ يُقَالُ لَهُ
الْجَنَاحُ فَقُتِلَ مُجَزّرٌ وَاسْتُلِبَتْ الْجَنَاحُ .
قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ
وَلَمّا تَلَاحَقَتْ الْخَيْلُ قَتَلَ أَبُو قَتَادَةَ الْحَارِثَ بْنَ رِبْعِيّ ،
أَخُو بَنِي سَلِمَةَ حَبِيبَ بْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَغَشّاهُ بُرْدَهُ
ثُمّ لَحِقَ بِالنّاسِ . وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فِي الْمُسْلِمِينَ .
اسْتِعْمَالُ ابْنِ أُمّ مَكْتُومٍ عَلَى الْمَدِينَةِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمّ مَكْتُومٍ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَإِذَا حَبِيبٌ مُسَجّى بِبُرْدِ أَبِي قَتَادَةَ ،
فَاسْتَرْجَعَ النّاسُ وَقَالُوا : قُتِلَ أَبُو قَتَادَةَ ؛ فَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَيْسَ بِأَبِي قَتَادَةَ وَلَكِنّهُ
قَتِيلٌ لِأَبِي قَتَادَةَ ، وَضَعَ عَلَيْهِ بُرْدَهُ لِتَعْرِفُوا أَنّهُ
صَاحِبُهُ [ ص 7 ] وَأَدْرَكَ عُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ أَوْبَارًا وَابْنَهُ
عَمْرَو بْنَ أَوْبَارٍ ، وَهُمَا عَلَى بَعِيرٍ وَاحِدٍ فَانْتَظَمَهُمَا
بِالرّمْحِ فَقَتَلَهُمَا جَمِيعًا ، وَاسْتَنْقَذُوا بَعْضَ اللّقَاحِ وَسَارَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى نَزَلَ بِالْجَبَلِ مِنْ ذِي
قَرَدٍ وَتَلَاحَقَ بِهِ النّاسُ فَنَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بِهِ وَأَقَامَ عَلَيْهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً وَقَالَ لَهُ سَلَمَةُ بْنُ
الْأَكْوَعِ : يَا رَسُولَ اللّهِ لَوْ سَرّحْتنِي فِي مِائَةِ رَجُلٍ
لَاسْتَنْقَذْت بَقِيّةَ السّرْحِ وَأَخَذْت بِأَعْنَاقِ الْقَوْمِ ؟ فَقَالَ لَهُ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا بَلَغَنِي : إنّهُمْ الْآنَ
لَيَغْبَقُونَ فِي غَطَفَانَ
تَقْسِيمُ الْفَيْءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ
فَقَسَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَصْحَابِهِ فِي كُلّ
مِائَةِ رَجُلٍ جَزُورًا ، وَأَقَامُوا عَلَيْهَا ، ثُمّ رَجَعَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَافِلًا حَتّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ .Sغَزْوَةُ
ذِي قَرَد
[ ص 3 ] وَيُقَالُ فِيهِ قُرُدٌ بِضَمّتَيْنِ هَكَذَا أَلْفَيْته مُقَيّدًا عَنْ
أَبِي عَلِيّ وَالْقَرَدُ فِي اللّغَةِ الصّوفُ الرّدِيءُ يُقَالُ فِي مِثْلِ
عَثَرْت عَلَى الْغَزْلِ بِأُخْرَةٍ فَلَمْ تَدَعْ بِنَجْدِ قَرَدَةً . [ ص 4 ] [
ص 5 ] وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ أَسْمَاءَ خَيْلِ جَمَاعَةٍ
مِمّنْ حَضَرَهَا ، فَذَكَرَ بَعْزَجَةَ فَرَسَ الْمِقْدَادِ ، وَالْبَعْزَجَةُ
شِدّةُ جَرْيٍ فِي مُغَالَبَةٍ كَأَنّهُ مَنْحُوتٌ مِنْ بَعَجَ إذَا شَقّ وَعَزّ
أَيْ غَلَبَ . وَأَمّا سُبْحَةُ فَمِنْ سَبَحَ إذَا عَلَا عُلُوّا فِي اتّسَاعٍ
وَمِنْهُ سُبْحَانَ اللّهِ وَسُبُحَاتُ اللّهِ عَظَمَتُهُ وَعُلُوّهُ لِأَنّ
النّاظِرَ الْمُفَكّرَ فِي [ اللّهِ ] سُبْحَانَهُ يَسْبَحُ فِي بَحْرٍ لَا
سَاحِلَ لَهُ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ حَقَائِقَ
وَدَقَائِقَ أَسْرَارٍ فِي شَرْحِ سُبْحَانَ اللّهِ وَبِحَمْدِهِ . وَأَمّا
حَزْوَةُ فَمِنْ حَزَوْت الطّيْرَ إذَا زَجَرْتهَا ، أَوْ مِنْ حَزَوْت الشّيْءَ
إذَا أَظْهَرْته . قَالَ الشّاعِرُ
تَرَى الْأَمْعَزَ الْمَحْزُوّ فِيهِ كَأَنّهُ ... مِنْ الْحَرّ وَاسْتِقْبَالِهِ
الشّمْسَ مَسْطَحُ
وَجُلْوَةُ مِنْ جَلَوْت السّيْفَ وَجَلَوْت الْعَرُوسَ كَأَنّهَا تَجْلُو الْفَمَ
عَنْ قَلْبِ صَاحِبِهَا ، وَمَسْنُونٌ مِنْ سَنَنْت الْحَدِيدَةَ إذَا صَقَلْتهَا
.
سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ
[ ص 6 ] وَذَكَرَ سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ ، وَاسْمُ الْأَكْوَعِ سِنَانٌ
وَخَبَرُ سَلَمَةَ فِي ذَلِك الْيَوْمِ أَطْوَلُ مِمّا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ ،
وَأَعْجَبُ فَإِنّهُ اسْتَلَبَ وَحْدَهُ فِي ذَلِك الْيَوْمِ مِنْ الْعَدُوّ
وَهُوَ رَاجِلٌ قَبْلَ أَنْ تَلْحَقَ بَهْ الْخَيْلُ ثَلَاثِينَ بُرْدَةً
وَثَلَاثِينَ دَرَقَةً وَقَتَلَ مِنْهُمْ بِالنّبْلِ كَثِيرًا ، فَكُلّمَا
هَرَبُوا أَدْرَكَهُمْ وَكُلّمَا رَامُوهُ أَفْلَتْ مِنْهُمْ وَشُهْرَةُ حَدِيثِهِ
تُغْنِي عَنْ سَرْدِهِ فَإِنّهُ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورَةِ وَقِيلَ إنّ
سَلَمَةَ هَذَا هُوَ الّذِي كَلّمَهُ الذّئْبُ وَقِيلَ إنّ الّذِي كَلّمَهُ
الذّئْبُ هُوَ أُهْبَانُ بْنُ صَيْفِيّ وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ .
شَرْحُ الْيَوْمَ يَوْمُ الرّضّعِ
وَقَوْلُهُ الْيَوْمَ يَوْمُ الرّضّعِ يُرِيدُ يَوْمَ اللّئَامِ أَيْ يَوْمُ
جُبْنِهِمْ وَفِي قَوْلِهِمْ لَئِيمٌ رَاضِعٌ أَقْوَالٌ ذَكَرَهَا ابْنُ
الْأَنْبَارِيّ . قِيلَ الرّاضِعُ هُوَ الّذِي رَضَعَ اللّؤْمَ فِي ثَدْيَيْ
أُمّهِ أَيْ غُذّيَ بِهِ وَقِيلَ هُوَ الّذِي يَرْضِعُ مَا بَيْنَ أَسْنَانِهِ
يَسْتَكْثِرُ مِنْ الْجَشَعِ بِذَلِك . وَشَاهِدُ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ
امْرَأَةٍ مِنْ الْعَرَبِ تَذُمّ رَجُلًا : إنّهُ لَأُكُلَةٌ ثُكُلَةٌ يَأْكُلُ
مِنْ جَشَعِهِ خِلَلَهُ أَيْ مَا يَتَخَلّلُ بَيْنَ أَسْنَانِهِ . قَالَ ابْنُ
قُتَيْبَةَ : وَلَمْ أَسْمَعْ فِي الْجَشَعِ وَالْحِرْصِ أَبْلَغَ مِنْ هَذَا ،
وَمِنْ قَوْلِهِمْ هُوَ يُثِيرُ الْكِلَابَ مِنْ [ ص 7 ] وَقِيلَ فِي اللّئِيمِ
الرّاضِعِ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِمّا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النّاسِ
وَمَذْكُورٌ فِي كُتُبِهِمْ . وَقَوْلُهُ الْيَوْمَ يَوْمُ الرّضّعِ بِالرّفْعِ
فِيهِمَا ، وَبِنَصْبِ الْأَوّلِ وَرَفْعِ الثّانِي ، حَكَى سِيبَوَيْهِ :
الْيَوْمَ يَوْمُك ، عَلَى أَنْ تَجْعَلَ الْيَوْمَ ظَرْفًا فِي مَوْضِعِ خَبَرٍ
لِلثّانِي ، لِأَنّ ظُرُوفَ الزّمَانِ يُخْبَرُ بِهَا عَنْ زَمَانٍ مِثْلِهَا إذَا
كَانَ الظّرْفُ يَتّسِعُ وَلَا يَضِيقُ عَلَى الثّانِي ، مِثْلُ أَنْ تَقُولَ
السّاعَةَ يَوْمُك ، وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ
يَوْمٌ عَسِيرٌ [ الْمُدّثّرُ 90 ] أَنّ يَوْمَئِذٍ ظَرْفٌ لِيَوْمٌ عَسِيرٌ
وَذَلِك أَنّ ظُرُوفَ الزّمَانِ أَحْدَاثٌ وَلَيْسَتْ بِجُثَثِ فَلَا يَمْتَنِعُ
فِيهَا مِثْلُ هَذَا ، كَمَا لَا يَمْتَنِعُ فِي سَائِرِ الْأَحْدَاثِ .
امْرَأَةُ الْغِفَارِيّ وَمَا
نَذَرَتْ مَعَ الرّسُولِ
[ ص 8 ] وَأَقْبَلَتْ امْرَأَةُ الْغِفَارِيّ عَلَى نَاقَةٍ مِنْ إبِلِ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى قَدِمَتْ عَلَيْهِ فَأَخْبَرَتْهُ
الْخَبَرَ ، فَلَمّا فَرَغَتْ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي قَدْ نَذَرْت
لِلّهِ أَنْ أَنْحَرَهَا إنْ نَجّانِي اللّهُ عَلَيْهَا ؛ قَالَ فَتَبَسّمَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ قَالَ بِئْسَ مَا جَزَيْتهَا
أَنْ حَمَلَك اللّهُ عَلَيْهَا وَنَجّاك بِهَا ثُمّ تَنْحَرِينَهَا إنّهُ لَا
نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللّهِ وَلَا فِيمَا لَا تَمْلِكِينَ إنّمَا هِيَ نَاقَةٌ
مِنْ إبِلِي ، فَارْجِعِي إلَى أَهْلِك عَلَى بَرَكَةِ اللّهِ وَالْحَدِيثُ عَنْ
امْرَأَةِ الْغِفَارِيّ وَمَا قَالَتْ وَمَا قَالَ لَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ أَبَى الزّبَيْرِ الْمَكّيّ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ
أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيّ .Sوَقَوْلُهُ
عَلَيْهِ السّلَامُ لِلْغِفَارِيّةِ وَاسْمُهَا لَيْلَى ، وَيُقَالُ هِيَ
امْرَأَةُ أَبِي ذَرّ حِينَ أَخْبَرَتْهُ أَنّهَا نَذَرَتْ إنْ اللّهُ نَجّاهَا ،
عَلَيْهَا أَنْ تَنْحَرَهَا ، قَالَ فَتَبَسّمَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ثُمّ قَالَ بِئْسَ مَا جَزَيْتهَا أَنْ حَمَلَك اللّهُ
عَلَيْهَا وَنَحّاك بِهَا ، ثُمّ تَنْحَرِينَهَا إنّهُ لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ
اللّهِ وَلَا فِي مَا لَا تَمْلِكِينَ فِيهِ حُجّةٌ لِلشّافِعِيّ وَمَنْ قَالَ
بِقَوْلِهِ إنّ مَا أَحْرَزَهُ الْعَدُوّ مِنْ مَالٍ إنّهُ لَهُمْ بِلَا ثَمَنٍ
قَبْلَ الْقَسْمِ وَبَعْدَهُ لِأَنّهُ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ مِلْكِهِ حَوْزُ
الْعَدُوّ لَهُ وَقَالَ مَالِكٌ هُوَ أَوْلَى بِهِ قَبْلَ الْقَسْمِ وَصَاحِبُهُ
بَعْدَ الْقَسْمِ أَوْلَى بِهِ بِالثّمَنِ وَفِيهِ قَوْلَانِ آخَرَانِ لِأَهْلِ
الْعِرَاقِ .
حَوْلَ النّذْرِ وَالطّلَاقِ وَالْعِتْقِ
[ ص 8 ] إنّهُ لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللّهِ وَلَا فِيمَا لَا تَمْلِكِينَ
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لَا نَذْرَ لِأَحَدِ فِيمَا لَا يَمْلِكُ وَلَا
طَلَاقَ لِأَحَدِ فِيمَا لَا يَمْلِكُ وَلَا عِتْقَ لِأَحَدِ فِيمَا لَا يَمْلِكُ
حَدِيثٌ مَرْوِيّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي
هُرَيْرَةَ وَلَكِنّهُ لَمْ يُخَرّجْ فِي الصّحِيحَيْنِ لِعِلَلِ فِي أَسَانِيدِهِ
وَقَدْ قَالَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْ لَا طَلَاقَ قَبْلَ الْمِلْكِ جَمَاعَةٌ
مِنْ الصّحَابَةِ وَفُقَهَاءِ التّابِعِينَ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَسَوَاءٌ
عِنْدَهُمْ عَيّنَ امْرَأَةً أَوْ لَمْ يُعَيّنْ وَإِلَيْهِ مَالَ الْبُخَارِيّ
رَحِمَهُ اللّهُ وَرَوَاهُ ابْنُ كِنَانَةَ عَنْ مَالِكٍ وَابْنِ وَهْبٍ ، وَاحْتَجّ
ابْنُ عَبّاسٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إِذَا نَكَحْتُمُ
الْمُؤْمِنَاتِ ثُمّ طَلّقْتُمُوهُنّ } [ الْأَحْزَابُ : 49 ] قَالَ فَإِذًا لَا
طَلَاقَ إلّا بَعْدَ نِكَاحٍ وَقَالَ شَرِيكٌ الْقَاضِي : النّكَاحُ عَقْدٌ
وَالطّلَاقُ حَلّ ، فَلَا يَكُونُ الْحَلّ إلّا بَعْدَ الْعَقْدِ .
شِعْرُ حَسّانَ فِي ذِي
قَرَدٍ
وَكَانَ مِمّا قِيلَ مِنْ الشّعْرِ فِي يَوْمِ ذِي قَرَدٍ قَوْلَ حَسّانَ بْنِ
ثَابِتٍ [ ص 9 ] [ ص 10 ] [ ص 11 ]
لَوْلَا الّذِي لَاقَتْ وَمَسّ نُسُورَهَا ... بِجَنُوبِ سَايَةَ أَمْسِ فِي التّقْوَادِ
لَلَقِينَكُمْ يَحْمِلْنَ كُلّ مُدَجّجٍ ... حَامِي الْحَقِيقَةِ مَاجِدِ
الْأَجْدَادِ
وَلَسَرّ أَوْلَادَ اللّقِيطَةِ أَنّنَا ... سِلْمٌ غَدَاةَ فَوَارِسِ
الْمِقْدَادِ
كُنّا ثَمَانِيَةً وَكَانُوا جَحْفَلًا ... لَجِبًا فَشُكّوا بِالرّمَاحِ بَدَادِ
كُنّا مِنْ الْقَوْمِ الّذِينَ يَلُونَهُمْ ... وَيُقَدّمُونَ عِنَانَ كُلّ
جَوَادِ
كَلّا وَرَبّ الرّاقِصَاتِ إلَى مِنًى ... يَقْطَعْنَ عَرْضَ مَخَارِمِ
الْأَطْوَادِ
حَتّى نُبِيلُ الْخَيْلَ فِي عَرَصَاتِكُمْ ... وَنَئُوبُ بِالْمَلَكَاتِ
وَالْأَوْلَادِ
رَهْوًا بِكُلّ مُقَلّصٍ وَطِمِرّةٍ ... فِي كُلّ مُعْتَرَكٍ عَطَفْنَ رَوَادِي
أَفْنَى دَوَابِرَهَا وَلَاحَ مُتُونَهَا ... يَوْمٌ تُقَادُ بِهِ وَيَوْمُ
طِرَادِ
فَكَذَاك إنّ جِيَادَنَا مَلْبُونَةٌ ... وَالْحَرْبُ مُشْعَلَةٌ بِرِيحِ غَوَادِ
وَسُيُوفُنَا بِيضُ الْحَدَائِدِ تَجْتَلِي ... جُنَنَ الْحَدِيدِ وَهَامَةَ
الْمُرْتَادِ
أَخَذَ الْإِلَهُ عَلَيْهِمْ لِحَرَامِهِ ... وَلِعِزّةِ الرّحْمَنِ
بِالْأَسْدَادِ
كَانُوا بِدَارِ نَاعِمِينَ فَبَدّلُوا ... أَيّامَ ذِي قَرَدٍ وُجُوهَ عِبَادِ
غَضَبُ سَعْدٍ عَلَى حَسّانَ وَمُحَاوَلَةُ حَسّانَ اسْتِرْضَاءَهُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَلَمّا قَالَهَا حَسّانُ غَضِبَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ
زَيْدٍ ، وَحَلَفَ أَنْ لَا يُكَلّمَهُ أَبَدًا ؛ قَالَ انْطَلَقَ إلَى خَيْلِي
وَفَوَارِسِي فَجَعَلَهَا لِلْمِقْدَادِ فَاعْتَذَرَ إلَيْهِ حَسّانُ وَقَالَ وَاَللّهِ
مَا ذَاكَ أَرَدْت ، وَلَكِنّ الرّوِيّ وَافَقَ اسْمَ الْمِقْدَادِ ، وَقَالَ
أَبْيَاتًا يُرْضِي بِهَا سَعْدًا :
إذَا أَرَدْتُمْ الْأَشَدّ الْجَلْدَا ... أَوْ ذَا غِنَاءٍ فَعَلَيْكُمْ سَعْدَا
سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ لَا يُهَدّ هَدّا
فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ سَعْدٌ وَلَمْ يُغْنِ شَيْئًا .Sمِنْ
شَرْحِ شِعْرِ حَسّانَ أَعْضَاءَ الْخَيْلِ
وَذَكَرَ شِعْرَ حَسّانَ لَوْلَا الّذِي لَاقَتْ وَمَسّ نُسُورَهَا
[ ص 9 ] الْفَرَسِ عِشْرُونَ عُضْوًا ، كُلّ عُضْوٍ مِنْهَا يُسَمّى بِاسْمِ
طَائِرٍ فَمِنْهَا النّسْرُ وَالنّعَامَةُ وَالْهَامَةُ وَالسّمَامَةُ
وَالسّعْدَانَةُ وَهِيَ الْحَمَامَةُ وَالْقَطَاةُ الذّبَاب وَالْعُصْفُورُ
وَالْغُرَابُ وَالصّرَدُ وَالصّقْرُ وَالْخَرَبُ وَالنّاهِضُ وَهُوَ فَرْخُ
الْعُقَابِ وَالْخُطّابِ ذَكَرَهَا وَبَقِيّتَهَا الْأَصْمَعِيّ ، وَرَوَى فِيهَا
شِعْرًا لِأَبِي حَزْرَةَ جَرِيرٍ وَهُوَ
وَأَقَبّ كَالسّرْحَانِ تَمّ لَهُ ... مَا بَيْنَ هَامَتِهِ إلَى النّسْرِ
رَحِبَتْ نَعَامَتُهُ وَوُفّرَ فَرْخُهُ ... وَتَمَكّنَ الصّرْدَانُ فِي النّحْرِ
وَأَنَافَ بِالْعُصْفُورِ فِي سَعَفٍ ... هَامٍ أَشَمّ مُوَثّقُ الْجِذْرِ
وَازْدَانَ بِالدّيكَيْنِ صَلْصَلُهُ ... وَنَبَتْ دَجَاجَتُهُ عَنْ الصّدْرِ
وَالنّاهِضَانِ أُمِرّ جَلْزُهُمَا ... فَكَأَنّمَا عُثِمَا عَلَى كَسْرِ
مُسْحَنْفِرُ الْجَنْبَيْنِ مُلْتَئِمٌ ... مَا بَيْنَ شِيمَتِهِ إلَى الْغُرّ
وَصَفَتْ سُمَانَاهُ وَحَافِرُهُ ... وَأَدِيمُهُ وَمَنَابِتُ الشّعْرِ
وَسَمَا الْغُرَابُ لِمَوْقِعَيْهِ مَعًا ... فَأَبَيْنَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ
وَاكْتَنّ دُونَ قَبِيحِهِ خُطّافُهُ ... وَنَأْتِ سَمَامَتُهُ عَلَى الصّقْرِ
وَتَقَدّمَتْ عَنْهُ الْقَطَاةُ لَهُ ... فَنَأْتِ بِمَوْقِعِهَا عَنْ الْحُرّ
وَسَمَا عَلَى نِقْوَيْهِ دُونَ حِدَاتِهِ ... خَرَبَانُ بَيْنَهُمَا مَدَى
الشّبْرِ
يَدَعُ الرّضِيمَ إذَا جَرَى فِلَقًا ... بَتَوَائِمٍ كَمَوَاسِمٍ سُمْرِ
رُكّبْنَ فِي مَحْضِ الشّوَى سَبِطٍ ... كَفْتِ الْوُثُوبِ مُشَدّدِ الْأَسْرِ
بَدَادٌ وَفِجَارٌ
وَقَوْلُهُ فَشَكّوا بِالرّمَاحِ بَدَادِ . بَدَادُ مِنْ التّبَدّدِ وَهُوَ
التّفَرّقُ وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ غَيْرَ أَنّهُ مَبْنِيّ وَنَصْبُهُ
كَانْتِصَابِ الْمَصْدَرِ إذَا قُلْت : مَشَيْت الْقَهْقَرَى ، وَقَعَدْت
الْقُرْفُصَاءَ وَكَأَنّهُ [ ص 10 ] قَالَ طَعَنُوا الطّعْنَةُ الّتِي يُقَالُ
لَهَا بَدَادِ وَبَدَادُ مِثْلُ فَجَارِ مِنْ قَوْلِهِ احْتَمَلْت فَجَارِ
جَعَلُوهُ اسْمًا عَلَمًا لِلْمَصْدَرِ كَمَا قَالُوا : فَحَمَلْت بَرّةَ فَجُعِلَ
بَرّةُ عَلَمًا لِلْبِرّ وَسِرّ هَذِهِ الْعَلَمِيّةِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ
أَنّهُمْ أَرَادُوا الْفِعْلَ الْأَتَمّ الّذِي يُسَمّى بِاسْمِ ذَلِكَ الْفِعْلِ
حَقِيقَةً فَقَدْ يَقُولُ الْإِنْسَانُ بَرّ فُلَانٌ وَفَجَرَ أَيْ قَارَبَ أَنْ
يَفْعَلَ ذَلِك ، أَوْ فَعَلَ مِنْهُ بَعْضَهُ فَإِذَا قَالَ فَعَلْت بَرّةَ
فَإِنّمَا يُرِيدُ الْبِرّ الّذِي يُسَمّى بِرّا عَلَى الْحَقِيقَةِ فَجَاءَ
بِالِاسْمِ الْعَلَمِ الّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مُسَمّاهُ حَقِيقَةً إذْ لَا
يُتَصَوّرُ هَذَا الضّرْبُ مِنْ الْمَجَازِ فِي الْأَعْلَامِ وَكَذَلِكَ إذَا
أَرَادَ الْفُجُورَ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَأَرَادَ رَفْعَ الْمَجَازِ سَمّاهُ
فَجَازَ تَحْقِيقًا لِلْمَعْنَى ، أَيْ مِثْلَ هَذِهِ الْفَعْلَةِ يَنْبَغِي أَنْ
تُسَمّى بِاسْمِ الْفُجُورِ حَقِيقَةً وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي النّدَاءِ يَا
فَسَاقِ وَيَا فُسْقُ فَجَاءُوا بِالصّيغَةِ الْمَعْرُوفَةِ الْعَلَمِيّةِ
الْمَعْرُوفَةِ مَعَ النّدَاءِ خَاصّةً أَيْ إنّ هَذَا الِاسْمَ يَنْبَغِي أَنْ
يَكُونَ اسْمَهُ الّذِي يُدْعَى بِهِ إذْ الِاسْمُ الْعَلَمُ أَلْزَمُ لِمُسَمّاهُ
مِنْ اسْمٍ مُشْتَقّ مِنْ فِعْلٍ فَعَلَهُ لِأَنّ الْفِعْلَ لَا يَثْبُتُ
وَالِاسْمَ الْعَلَمَ يَثْبُتُ فَهَذَا هُوَ مَعْزَاهُمْ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ
الّتِي هِيَ عَلَى صِيَغِ الْأَعْلَامِ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ فَتَأَمّلْهَا ،
وَقَدْ بَسَطْنَا هَذِهِ الْغُرُضَ بَسْطًا شَافِيًا فِي أَسْرَارِ مَا يَنْصَرِفُ
وَمَا لَا يَنْصَرِفُ فَلْتُنْظَرْ هُنَالِكَ فَثَمّ تَرَى سِرّ بِنَائِهَا عَلَى
الْكَسْرِ مَعَ مَا يَتّصِلُ بِمَعَانِيهَا إنْ شَاءَ اللّهُ وَأَلْفَيْت فِي
حَاشِيَةِ الشّيْخِ رَحِمَهُ اللّهُ عَلَى قَوْلِهِ فَشُكّوا بِالرّمَاحِ فَشُلّوا
بِاللّامِ الرّوَايَةُ الصّحِيحَةُ وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى ، وَوَقَعَ فِي
الْأَصْلَيْنِ فَشُكّوا بِالْكَافِ كَمَا فِي هَذَا الْأَصْلِ . إلَى هَاهُنَا
انْتَهَى كَلَامُ الشّيْخِ وَالشّلّ بِاللّامِ الطّرْدُ وَالشّكّ بِالْكَافِ
الطّعْنُ كَمَا قَالَ
شَكّ الْفَرِيصَةَ بِالْمِدْرَى فَأَنْفَذَهَا ... شَكّ الْمُبَيْطَرِ إذْ يَشْفِي
مِنْ الْعَضَدِ
عَوْدٌ إلَى شَرْحِ شِعْرِ حَسّانَ
وَقَوْلُهُ رَهْوًا أَيْ مَشْيًا بِسُكُونِ وَيُقَالُ لِمُسْتَنْقَعِ الْمَاءِ
أَيْضًا رَهْوٌ وَالرّهْوُ أَسْمَاءُ الْكُرْكِيّ وَالرّهْوُ الْمِرْآةُ
الْوَاسِعَةُ . وَقَوْلُهُ رَوَادِي ، أَيْ تَرْدِي بِفُرْسَانِهَا ، أَيْ
تُسْرِعُ .
شِعْرٌ آخَرُ لِحَسّانَ فِي
يَوْمِ ذِي قَرَدٍ
وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ فِي يَوْمِ ذِي قَرَدٍ [ ص 11 ] [ ص 12 ]
أَظَنّ عُيَيْنَةُ إذْ زَارَهَا ... بِأَنْ سَوْفَ يَهْدِمَ فِيهَا قُصُورَا
فَأُكْذِبْت مَا كُنْت صَدّقْته ... وَقُلْتُمْ سَنَغْنَمُ أَمْرًا كَبِيرَا
فَعِفْت الْمَدِينَةَ إذْ زُرْتهَا ... وَآنَسْت لِلْأَسَدِ فِيهَا زَئِيرًا
فَوَلّوْا صِرَاعًا كَشَدّ النّعَامِ ... وَلَمْ يَكْشِفُوا عَنْ مُلِطّ حَصِيرًا
أَمِيرٌ عَلَيْنَا رَسُولُ الْمَلِيكِ ... أَحْبِبْ بِذَاكَ إلَيْنَا أَمِيرَا
رَسُولٌ نُصَدّقُ مَا جَاءَهُ ... وَيَتْلُو كِتَابًا مُضِيئًا مُنِيرَاSقَصِيدَةٌ
أُخْرَى لِحَسّانَ
وَقَوْلُ حَسّانَ فِي خَيْلِ عُيَيْنَةَ
فَوَلّوْا سِرَاعًا كَشَدّ النّعَا ... مِ وَلَمْ يَكْشِفُوا عَنْ مُلِطّ حَصِيرَا
[ ص 12 ] عِيدَانِ الْحَظِيرَةِ وَالْمُلِطّ مِنْ قَوْلِهِمْ لَطّتْ النّاقَةُ
وَأَلَطّتْ بِذَنَبِهَا إذَا أَدْخَلَتْهُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا .
شِعْرُ كَعْبٍ فِي يَوْمِ ذِي
قَرَدٍ
وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ فِي يَوْمِ ذِي قَرَدٍ لِلْفَوَارِسِ
أَتَحْسَبُ أَوْلَادُ اللّقِيطَةِ أَنّنَا ... عَلَى الْخَيْلِ لَسْنَا مِثْلَهُمْ
فِي الْفَوَارِسِ
وَإِنّا أُنَاسٌ لَا نَرَى الْقَتْلَ سُبّةً ... وَلَا نَنْثَنِي عِنْدَ الرّمَاحِ
الْمَدَاعِسِ
وَإِنّا لَنَقْرِي الضّيْفَ مِنْ قَمَعِ الذّرَا ... وَنَضْرِبُ رَأْسَ
الْأَبْلَجِ الْمُتَشَاوِسِ
نَرُدّ كُمَاةَ الْمُعْلَمِينَ إذَا انْتَخَوْا ... بِضَرْبِ يُسَلّي نَخْوَةَ
الْمُتَقَاعِسِ
بِكُلّ فَتًى حَامِي الْحَقِيقَةِ مَاجِدٍ ... كَرِيمٍ كَسِرْحَانِ الْغَضَاةِ
مُخَالِسِ
يَذُودُونَ عَنْ أَحْسَابِهِمْ وَتِلَادِهِمْ ... بِبِيضِ تَقُدّ الْهَامَ تَحْتَ
الْقَوَانِسِ
فَسَائِلْ بَنِي بَدْرٍ إذَا مَا لَقِيتهمْ ... بِمَا فَعَلَ الْإِخْوَانُ يَوْمَ
التّمَارُسِ
إذَا مَا خَرَجْتُمْ فَاصْدُقُوا مِنْ لَقِيتُمْ ... وَلَا تَكْتُمُوا
أَخْبَارَكُمْ فِي الْمَجَالِسِ
وَقُولُوا زَلَلْنَا عَنْ مَخَالِبِ خَادِرٍ ... بِهِ وَحَرٌ فِي الصّدْرِ مَا
لَمْ يُمَارِسْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي بَيْتَهُ " وَإِنّا لَنُقْرِي الضّيْفَ
" أَبُو زَيْدٍ .
شِعْرُ شَدّادٍ لِعُيَيْنَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ شَدّادُ بْنُ عَارِضٍ الْجُشَمِيّ ، فِي يَوْمِ
ذِي قَرَدٍ لِعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَكَانَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ يُكَنّى
بِأَبِي مَالِكٍ [ ص 13 ]
فَهَلّا كَرَرْت أَبَا مَالِكٍ ... وَخَيْلُك مُدْبِرَةٌ تُقْتَلُ
ذَكَرْت الْإِيَابَ إلَى عَسْجَرٍ ... وَهَيْهَاتَ قَدْ بَعُدَ الْمُقْفَلُ
وَطَمّنْتَ نَفْسَك ذَا مَيْعَةٍ ... مِسَحَ الْفَضَاءِ إذَا يُرْسَلْ
إذَا قَبّضَتْهُ إلَيْك الشّمَا ... لُ جَاشَ كَمَا اضْطَرَمَ الْمِرْجَلُ
فَلَمّا عَرَفْتُمْ عِبَادَ الْإِلَ ... هِ لَمْ يَنْظُرْ الْآخِرَ الْأَوّلُ
عَرَفْتُمْ فَوَارِسَ قَدْ عَوّدُوا ... طِرَادَ الْكُمَاةِ إذَا أَسْهَلُوا
إذَا طَرَدُوا الْخَيْلَ تَشْقَى بِهِمْ ... فَضَاحًا وَإِنْ يُطْرَدُوا
يَنْزِلُوا
فَيَعْتَصِمُوا فِي سَوَاءِ الْمَقَا ... مِ بِالْبِيضِ أَخْلَصَهَا الصّيْقَلُ
غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
بِالْمَدِينَةِ بَعْضَ جُمَادَى الْآخِرَةِ وَرَجَبًا ثُمّ غَزَا بَنِي
الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ ، فِي شَعْبَانَ سَنَةَ سِتّ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ
: وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا ذَرّ الْغِفَارِيّ وَيُقَالُ نُمَيْلَةَ
بْنَ عَبْدِ اللّهِ اللّيْثِيّ .
سَبَبُ الْغَزْوَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ وَعَبْدُ
اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ ، وَمُحَمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبّانَ ، كُلّ قَدْ
حَدّثَنِي بَعْضَ حَدِيثِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ قَالُوا : بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ بَنِي الْمُصْطَلِقِ يَجْمَعُونَ لَهُ
وَقَائِدُهُمْ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي ضِرَارٍ أَبُو جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ
الْحَارِثِ ، زَوْجِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا
سَمِعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِهِمْ خَرَجَ إلَيْهِمْ
حَتّى لَقِيَهُمْ عَلَى مَاءٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ الْمُرَيْسِيعُ ، مِنْ
نَاحِيَةِ قُدَيْدٍ إلَى السّاحِلِ ، فَتَزَاحَفَ النّاسُ [ ص 14 ] فَهَزَمَ
اللّهُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ وَنَفَلَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ
وَأَمْوَالَهُمْ فَأْفَاءَهُمْ عَلَيْهِ .
مَقْتَلُ ابْنِ صُبَابَةَ خَطَأً
وَقَدْ أُصِيبَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَنِي كَلْبِ بْنِ عَوْفِ بْنِ
عَامِرِ بْنِ لَيْثِ بْنِ بَكْرٍ يُقَالُ لَهُ هِشَامُ بْنُ صُبَابَةَ ، أَصَابَهُ
رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ رَهْطِ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ ، وَهُوَ يَرَى
أَنّهُ مِنْ الْعَدُوّ فَقَتَلَهُ خَطَأً .Sغَزْوَةُ
بَنِي الْمُصْطَلِقِ
[ ص 13 ] بَنُو جُذَيْمَةَ بْنِ كَعْبٍ مِنْ خُزَاعَةَ ، فَجُذَيْمَةُ هُوَ
الْمُصْطَلِقُ وَهُوَ مُفْتَعِلٌ مِنْ الصّلْقِ وَهُوَ رَفْعُ الصّوْتِ . وَذَكَرَ
الْمُرَيْسِيعَ ، وَهُوَ مَاءٌ لِخُزَاعَةَ وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ رَسَعَتْ
عَيْنُ الرّجُلِ إذَا دَمَعَتْ مِنْ فَسَادٍ . [ ص 14 ] وَذَكَرَ سِنَانَ بْنَ
وَبْرَةَ وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ سِنَانُ بْنُ تَمِيمٍ مِنْ جُهَيْنَةَ بْنِ سَوْدِ
بْنِ أَسْلَمَ حَلِيفُ الْأَنْصَارِ .
فِتْنَةٌ
[ ص 15 ] فَبَيْنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى ذَلِكَ
الْمَاءِ وَرَدَتْ وَارِدَةُ النّاسِ وَمَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ أَجِيرٌ لَهُ
مِنْ بَنِي غِفَارٍ ، يُقَالُ لَهُ جَهْجَاهُ بْنُ مَسْعُودٍ يَقُودُ فَرَسَهُ
فَازْدَحَمَ جَهْجَاهٌ وَسِنَانُ بْنُ وَبَرٍ الْجُهَنِيّ حَلِيفُ بَنِي عَوْفِ
بْنِ الْخَزْرَجِ عَلَى الْمَاءِ فَاقْتَتَلَا ، فَصَرَخَ الْجُهَنِيّ يَا
مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ، وَصَرَخَ جَهْجَاهٌ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ
فَغَضِبَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابْنُ سَلُولَ وَعِنْدَهُ رَهْطٌ مِنْ
قَوْمِهِ فِيهِمْ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ غُلَامٌ حَدَثٌ فَقَالَ أَوَقَدْ
فَعَلُوهَا ، قَدْ نَافَرُونَا وَكَاثَرُونَا فِي بِلَادِنَا ، وَاَللّهِ مَا
أَعُدّنَا وَجَلَابِيبَ قُرَيْشٍ إلّا كَمَا قَالَ الْأَوّلُ سَمّنْ كَلْبَك
يَأْكُلْك ، أَمَا وَاَللّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ
الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ . ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنْ قَوْمِهِ
فَقَالَ لَهُمْ هَذَا مَا فَعَلْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ أَحْلَلْتُمُوهُمْ
بِلَادَكُمْ وَقَاسَمْتُمُوهُمْ أَمْوَالَكُمْ أَمَا وَاَللّهِ لَوْ أَمْسَكْتُمْ
عَنْهُمْ مَا بِأَيْدِيكُمْ لَتَحَوّلُوا إلَى غَيْرِ دَارِكُمْ . فَسَمِعَ ذَلِكَ
زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ فَمَشَى بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَذَلِكَ عِنْدَ فَرَاغِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
مِنْ عَدُوّهِ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ ، وَعِنْدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ ،
فَقَالَ مُرْ بِهِ عَبّادَ بْنَ بِشْرٍ فَلْيَقْتُلْهُ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَكَيْفَ يَا عُمَرُ إذَا تَحَدّثَ النّاسُ
أَنّ مُحَمّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ لَا وَلَكِنْ أَذّنْ بِالرّحِيلِ وَذَلِكَ
فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
يَرْتَحِلُ فِيهَا ، فَارْتَحَلَ النّاسُ
حَوْلَ فِتْنَةِ ابْنِ أُبَيّ وَنِفَاقِهِ
وَقَدْ مَشَى عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ابْنُ سَلُولَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ بَلَغَهُ أَنّ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ قَدْ بَلَغَهُ
مَا سَمِعَ مِنْهُ فَحَلَفَ بِاَللّهِ مَا قُلْت مَا قَالَ وَلَا تَكَلّمْت بِهِ -
وَكَانَ فِي قَوْمِهِ شَرِيفًا عَظِيمًا - فَقَالَ مَنْ حَضَرَ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِهِ يَا رَسُولَ
اللّهِ عَسَى أَنْ يَكُونَ الْغُلَامُ قَدْ أَوْهَمَ فِي حَدِيثِهِ وَلَمْ
يَحْفَظْ مَا قَالَ الرّجُلُ حَدَبًا عَلَى ابْنِ أُبَيّ ابْنِ سَلُولَ وَدَفْعًا
عَنْهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 16 ] فَلَمّا اسْتَقَلّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسَارَ لَقِيَهُ أُسَيْدَ بْنُ حُضَيْرٍ فَحَيّاهُ
بِتَحِيّةِ النّبُوّةِ وَسَلّمَ عَلَيْهِ ثُمّ قَالَ يَا نَبِيّ اللّهِ وَاَللّهِ
لَقَدْ رُحْت فِي سَاعَةٍ مُنْكَرَةٍ مَا كُنْت تَرُوحُ فِي مِثْلِهَا ، فَقَالَ
لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوَمَا بَلَغَك مَا قَالَ
صَاحِبُكُمْ ؟ قَالَ وَأَيّ صَاحِبٍ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ عَبْدُ اللّهِ
بْنُ أُبَيّ . قَالَ وَمَا قَالَ ؟ قَالَ زَعَمَ أَنّهُ إنْ رَجَعَ إلَى
الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنّ الْأَعَزّ مِنْهَا الْأَذَلّ قَالَ فَأَنْتَ يَا
رَسُولَ اللّهِ وَاَللّهِ تُخْرِجُهُ مِنْهَا إنْ شِئْت ، هُوَ وَاَللّهِ
الذّلِيلُ وَأَنْت الْعَزِيزُ ثُمّ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ اُرْفُقْ بِهِ
فَوَاَللّهِ لَقَدْ جَاءَنَا اللّهُ بِك ، وَإِنّ قَوْمَهُ لَيَنْظِمُونَ لَهُ
الْحَرَزَ لِيُتَوّجُوهُ فَإِنّهُ لَيَرَى أَنّك قَدْ اسْتَلَبْته مُلْكًا . ثُمّ
مَشَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالنّاسِ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ
حَتّى أَمْسَى ، وَلَيْلَتَهُمْ حَتّى أَصْبَحَ وَصَدْرَ يَوْمِهِمْ ذَلِكَ حَتّى
آذَتْهُمْ الشّمْسُ ثُمّ نَزَلَ بِالنّاسِ فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ وَجَدُوا مَسّ
الْأَرْضِ فَوَقَعُوا نِيَامًا ، وَإِنّمَا فَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِيَشْغَلَ النّاسَ عَنْ الْحَدِيثِ الّذِي كَانَ بِالْأَمْسِ
مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ . ثُمّ رَاحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالنّاسِ وَسَلَكَ الْحِجَازَ حَتّى نَزَلَ عَلَى مَاءٍ
بِالْحِجَازِ فُوَيْقَ النّقِيعِ ؛ يُقَالُ لَهُ بَقْعَاءُ . فَلَمّا رَاحَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَبّتْ عَلَى النّاسِ رِيحٌ
شَدِيدَةٌ آذَتْهُمْ وَتَخَوّفُوهَا ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا تَخَافُوهَا ، فَإِنّمَا هَبّتْ لِمَوْتِ عَظِيمٍ مِنْ
عُظَمَاءِ الْكُفّارِ . فَلَمّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ وَجَدُوا رِفَاعَةَ بْنَ
زَيْدِ بْنِ التّابُوتِ أَحَدَ بَنِي قَيْنُقَاعِ وَكَانَ عَظِيمًا مِنْ عُظَمَاءِ
يَهُودَ وَكَهْفًا لِلْمُنَافِقِينَ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ
مَا نَزَلَ فِي ابْنِ أُبَيّ مِنْ الْقُرْآنِ
وَنَزَلَتْ السّورَةُ الّتِي ذَكَرَ اللّهُ فِيهَا الْمُنَافِقِينَ فِي ابْنِ
أُبَيّ وَمَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ أَمْرِهِ فَلَمّا نَزَلَتْ أَخَذَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأُذُنِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ ثُمّ قَالَ
هَذَا الّذِي أَوْفَى اللّهُ بِأُذُنِهِ وَبَلَغَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَبْدِ
اللّهِ بْنِ أُبَيّ الّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِ أَبِيهِ .
مَوْقِفُ عَبْدِ اللّهِ مِنْ أَبِيهِ
[ ص 17 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ
: أَنّ عَبْدَ اللّهِ أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّهُ بَلَغَنِي أَنّك تُرِيدُ قَتْلَ عَبْدَ اللّهِ
بْنَ أُبَيّ فِيمَا بَلَغَك عَنْهُ فَإِنْ كُنْت لَا بُدّ فَاعِلًا فَمُرْنِي بِهِ
فَأَنَا أَحْمِلُ إلَيْك رَأْسَهُ فَوَاَللّهِ لَقَدْ عَلِمَتْ الْخَزْرَجُ مَا
كَانَ لَهَا مِنْ رَجُلٍ أَبَرّ بِوَالِدِهِ مِنّي ، وَإِنّي أَخْشَى أَنْ
تَأْمُرَ بِهِ غَيْرِي فَيَقْتُلُهُ فَلَا تَدْعُنِي نَفْسِي أَنْظُرُ إلَى
قَاتِلِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ يَمْشِي فِي النّاسِ فَأَقْتُلُهُ فَأَقْتُلُ (
رَجُلًا ) مُؤْمِنًا بِكَافِرِ فَأَدْخُلُ النّارَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَلْ نَتَرَفّقُ بِهِ وَنُحْسِنُ صُحْبَتَهُ مَا بَقِيَ
مَعَنَا . وَجَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ إذَا أَحْدَثَ الْحَدَثَ كَانَ قَوْمُهُ هُمْ
الّذِينَ يُعَاتِبُونَهُ وَيَأْخُذُونَهُ وَيُعَنّفُونَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطّاب ، حِينَ بَلَغَهُ ذَلِكَ
مِنْ شَأْنِهِمْ كَيْفَ تَرَى يَا عُمَرُ أَمَا وَاَللّهِ لَوْ قَتَلْته يَوْمَ
قُلْت لِي اُقْتُلْهُ لَأَرْعِدْت لَهُ آنِفَ لَوْ أَمَرْتهَا الْيَوْمَ
بِقَتْلِهِ لَقَتَلْته ؛ قَالَ قَالَ عُمَرُ قَدْ وَاَللّهِ عَلِمْت لَأَمْرُ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَعْظَمُ بَرَكَةً مِنْ أَمْرِيSتَحْرِيمُ
دَعْوَى الْجَاهِلِيّةِ
وَذَكَرَ أَنّهُ نَادَى : يَا لَلْأَنْصَارِ وَنَادَى جَهْجَاهٌ الْغِفَارِيّ يَا
لَلْمُهَاجِرِينَ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ حِينَ سَمِعَهُمَا ، وَفِي الصّحِيحِ أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ حِينَ
سَمِعَهُمَا مِنْهُمَا ، قَالَ دَعُوهَا فَإِنّهَا مُنْتِنَةٌ يَعْنِي : إنّهَا
كَلِمَةٌ خَبِيثَةٌ لِأَنّهَا مِنْ دَعْوَى الْجَاهِلِيّةِ وَجَعَلَ اللّهُ
الْمُؤْمِنِينَ إخْوَةً وَحِزْبًا وَاحِدًا ، فَإِنّمَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ
الدّعْوَةُ يَا لَلْمُسْلِمِينَ فَمَنْ دَعَا فِي الْإِسْلَامِ بِدَعْوَى
الْجَاهِلِيّةِ فَيَتَوَجّهُ لِلْفُقَهَاءِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا
: أَنْ يُجْلَدَ مَنْ اسْتَجَابَ لَهَا بِالسّلَاحِ خَمْسِينَ سَوْطًا اقْتِدَاءً
بِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ فِي جَلْدِهِ النّابِغَةَ الْجَعْدِيّ خَمْسِينَ
سَوْطًا ، حِينَ سَمِعَ يَا لَعَامِرٍ فَأَقْبَلَ يَشْتَدّ بِعُصْبَةِ لَهُ .
وَالْقَوْلُ الثّانِي : أَنّ فِيهَا الْجَلْدَ دُونَ الْعَشْرَةِ لِنَهْيِهِ
عَلَيْهِ السّلَامُ أَنْ [ ص 15 ] يُجْلَدَ أَحَدٌ فَوْقَ الْعَشْرَةِ إلّا فِي
حَدّ وَالْقَوْلُ الثّالِثُ اجْتِهَادُ الْإِمَامِ فِي ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ مَا
يَرَاهُ مِنْ سَدّ الذّرِيعَةِ وَإِغْلَاقِ بَابِ الشّرّ إمّا بِالْوَعِيدِ
وَإِمّا بِالسّجْنِ وَإِمّا بِالْجَلْدِ . فَإِنْ قِيلَ إنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يُعَاقِبْ الرّجُلَيْنِ حِينَ دَعَوْا بِهَا قُلْنَا :
قَدْ قَالَ دَعُوهَا فَإِنّهَا مُنْتِنَةٌ فَقَدْ أَكّدَ النّهْيَ فَمَنْ عَادَ
إلَيْهَا بَعْدَ هَذَا النّهْيِ وَبَعْدَ وَصْفِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ لَهَا بِالْإِنْتَانِ وَجَبَ أَنْ يُؤَدّبَ حَتّى يَشُمّ نَتْنَهَا ،
كَمَا فَعَلَ أَبُو مُوسَى رَحِمَهُ اللّهُ بِالْجَعْدِيّ فَلَا مَعْنَى
لِنَتْنِهَا إلّا سُوءُ الْعَاقِبَةِ فِيهَا وَالْعُقُوبَةُ عَلَيْهَا .
جَهْجَاهٌ
[ ص 16 ] جَهْجَاهٌ فَهُوَ ابْنُ مَسْعُودِ بْنِ سَعْدِ بْنِ حَرَامٍ وَهُوَ
الّذِي رَوَى عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ
فِي مِعًى وَاحِدٍ وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ وَهُوَ كَانَ
صَاحِبَ هَذِهِ الْقِصّةِ فِيمَا رَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَزّارُ ،
وَقَدْ قِيلَ أَيْضًا : إنّ الرّجُلَ الّذِي قَالَ فِيهِ عَلَيْهِ السّلَامُ
هَذِهِ الْمَقَالَةَ هُوَ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ الْحَنَفِيّ ، ذَكَرَهُ ابْنُ
إسْحَاقَ ، وَقِيلَ بَلْ هُوَ أَبُو بَصْرَةَ [ جَمِيلُ بْن بَصْرَةَ ]
الْغِفَارِيّ ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ ، وَمَاتَ جَهْجَاهٌ هَذَا بَعْدَ قَتْلِ
عُثْمَانَ رَحِمَهُ اللّهُ أَخَذَتْهُ الْأَكِلَةُ فِي رُكْبَتِهِ فَمَاتَ مِنْهَا
، وَكَانَ قَدْ كَسَرَ بِرُكْبَتِهِ عَصَا رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - الّتِي كَانَ يَخْطُبُ بِهَا ، وَذَلِكَ أَنّهُ انْتَزَعَهَا مِنْ
عُثْمَانَ حِينَ أُخْرِجَ مِنْ الْمَسْجِدِ وَمُنِعَ مِنْ الصّلَاةِ فِيهِ فَكَانَ
هُوَ أَحَدَ الْمُعِينِينَ عَلَيْهِ حَتّى كَسَرَ الْعَصَا عَلَى رُكْبَتِهِ
فِيمَا ذَكَرُوا ، فَابْتُلِيَ بِمَا اُبْتُلِيَ بِهِ مِنْ الْأَكِلَةِ . نَعُوذُ
بِاَللّهِ مِنْ عُقُوبَتِهِ وَنَسْتَجِيرُ بِهِ مِنْ الْأَهْوَاءِ الْمُضِلّةِ .
مَوْقِفُ عَبْدِ اللّهِ الصّحَابِيّ مِنْ أَبِيهِ الْمُنَافِقِ وَدِلَالَتُهُ
[ ص 17 ] وَذَكَرَ مَقَالَةَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ ، وَأَنّ ابْنَهُ عَبْدَ
اللّهِ بْنَ عَبْدِ اللّهِ اسْتَأْذَنَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فِي قَتْلِ أَبِيهِ مِنْ أَجْلِ تِلْكَ الْمَقَالَةِ وَفِي هَذَا الْعِلْمُ
الْعَظِيمُ وَالْبُرْهَانُ النّيّرُ مِنْ أَعْلَامِ النّبُوّةِ فَإِنّ الْعَرَبَ
كَانَتْ أَشَدّ خَلْقِ اللّهِ حَمِيّةً وَتَعَصّبًا ، فَبَلَغَ الْإِيمَانُ
مِنْهُمْ وَنُورُ الْيَقِينِ مِنْ قُلُوبِهِمْ إلَى أَنْ يَرْغَبَ الرّجُلُ
مِنْهُمْ فِي قَتْلِ أَبِيهِ وَوَلَدِهِ تَقَرّبًا إلَى اللّهِ وَتَزَلّفًا إلَى
رَسُولِهِ مَعَ أَنّ الرّسُولَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - أَبْعَدُ النّاسِ نَسَبًا
مِنْهُمْ وَمَا تَأَخّرَ إسْلَامُ قَوْمِهِ وَبَنِيّ عَمّهِ وَسَبَقَ إلَى
الْإِيمَانِ بِهِ الْأَبَاعِدُ إلّا لِحِكْمَةِ عَظِيمَةٍ إذْ لَوْ بَادَرَ
أَهْلُهُ وَأَقْرَبُوهُ إلَى الْإِيمَانِ بِهِ لَقِيلَ قَوْمٌ أَرَادُوا الْفَخْرَ
بِرَجُلِ مِنْهُمْ وَتَعَصّبُوا لَهُ فَلَمّا بَادَرَ إلَيْهِ الْأَبَاعِدُ
وَقَاتَلُوا عَلَى حُبّهِ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ عُلِمَ أَنّ
ذَلِكَ عَنْ بَصِيرَةٍ صَادِقَةٍ وَيَقِينٍ قَدْ تَغَلْغَلَ فِي قُلُوبِهِمْ
وَرَهْبَةٍ مِنْ اللّهِ أَزَالَتْ صِفَةً قَدْ كَانَتْ سَدِكَتْ فِي نُفُوسِهِمْ
مِنْ أَخْلَاقِ الْجَاهِلِيّةِ لَا يَسْتَطِيعُ إزَالَتُهَا إلّا الّذِي فَطَرَ
الْفِطْرَةَ الْأُولَى ، وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى مَا يَشَاءُ وَأَمّا عَبْدُ
اللّهِ بْنُ عَبْدِ اللّهِ فَكَانَ مِنْ كُتّابِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - وَكَانَ اسْمُهُ حُبَابٌ وَبِهِ كَانَ يُكَنّى أَبُوهُ فَسَمّاهُ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَبْدَ اللّهِ مَاتَ شَهِيدًا
بِالْيَمَامَةِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَرَوَى الدّارَقُطْنِيّ مُسْنَدًا [ ص 18 ]
أَنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَرّ عَلَى جَمَاعَةٍ فِيهِمْ
عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ فَسَلّمَ عَلَيْهِمْ ثُمّ وَلّى ، فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ
لَقَدْ عَنَا ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ فَسَمِعَهَا ابْنُهُ
عَبْدُ اللّهِ فَاسْتَأْذَنَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي أَنْ
يَأْتِيَهُ بِرَأْسِ أَبِيهِ فَقَالَ لَا ، وَلَكِنْ بِرّ أَبَاك وَذَكَرَ ابْنُ
إسْحَاقَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ
بَلَغَتْهُ مَقَالَةُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ : مَتَنَ النّاسَ يَوْمَهُمْ
ذَلِكَ وَيُرْوَى مَشَى ، فَأَمّا مَتَنَ فَقَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ يُقَالُ
سَارُوا سَيْرًا مُمَاتِنًا ، أَيْ بَعِيدًا .
قُدُومُ مَقْيَسٍ مُسْلِمًا
وَشِعْرُهُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 18 ] وَقَدِمَ مَقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ مِنْ مَكّةَ
مُسْلِمًا ، فِيمَا يَظْهَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ جِئْتُك مُسْلِمًا ،
وَجِئْتُك أَطْلُبُ دِيَةَ أَخِي ، قُتِلَ خَطَأً . فَأَمَرَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِدِيَةِ أَخِيهِ هِشَامِ بْنِ صُبَابَةَ ؛
فَأَقَامَ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ غَيْرَ كَثِيرٍ
ثُمّ عَدَا عَلَى قَاتِلِ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ ثُمّ خَرَجَ إلَى مَكّةَ مُرْتَدّا
فَقَالَ فِي شِعْرٍ يَقُولُهُ
شَفَى النّفْسَ أَنْ قَدْ مَاتَ بِالْقَاعِ مُسْنَدًا ... تُضَرّجُ ثَوْبَيْهِ
دِمَاءُ الْأَخَادِعِ
وَكَانَتْ هُمُومُ النّفْسِ مِنْ قَبْلِ قَتْلِهِ ... تُلِمّ فَتَحْمِينِي وِطَاءَ
الْمَضَاجِعِ
حَلَلْت بِهِ وِتْرِي وَأَدْرَكْت ثُؤْرَتِي ... وَكُنْت إلَى الْأَوْثَانِ أَوّلَ
رَاجِعِ
ثَأَرْت بِهِ فِهْرًا وَحَمّلْت عَقْلَهُ ... سَرَاةَ بَنِي النّجّارِ أَرْبَابِ
فَارِعِ
وَقَالَ مَقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ أَيْضًا :
جَلّلْته ضَرْبَةً بَاءَتْ لَهَا وَشَلٌ ... مِنْ نَاقِعِ الْجَوْفِ يَعْلُوهُ
وَيَنْصَرِمُ
فَقُلْت وَالْمَوْتُ تَغْشَاهُ أَسِرّتُهُ ... لَا تَأْمَنَنّ بَنِي بَكْرٍ إذْ
ظَلَمُوا
شِعَارُ الْمُسْلِمِينَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَكَانَ شِعَارُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ
: يَا مَنْصُورُ ، أَمِتْ أَمِتْ .
قَتْلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأُصِيبَ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ يَوْمَئِذٍ نَاسٌ ،
وَقَتَلَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْهُمْ رَجُلَيْنِ مَالِكًا وَابْنَهُ
وَقَتَلَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَجُلًا مِنْ فُرْسَانِهِمْ يُقَالُ لَهُ
أَحْمَرُ أَوْ أُحَيْمِرُ .
أَمْرُ جُوَيْرِيَةَ بِنْتِ
الْحَارِثِ
[ ص 19 ] وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ أَصَابَ
مِنْهُمْ سَبْيًا كَثِيرًا ، فَشَاءَ قَسْمَهُ فِي الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ فِيمَنْ
أُصِيبَ يَوْمَئِذٍ مِنْ السّبَايَا جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي
ضِرَارٍ ، زَوْجُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ عُرْوَةَ
بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ لَمّا قَسَمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَبَايَا بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَقَعَتْ جُوَيْرِيَةُ
بِنْتُ الْحَارِثِ فِي السّهْمِ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ الشّمّاسِ أَوْ
لِابْنِ عَمّ لَهُ فَكَاتَبَتْهُ عَلَى نَفْسِهَا ، وَكَانَتْ امْرَأَةً حُلْوَةً
مُلّاحَةً لَا يَرَاهَا أَحَدٌ إلّا أَخَذَتْ بِنَفْسِهِ فَأَتَتْ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَسْتَعِينُهُ فِي كِتَابَتِهَا [ ص 20 ] قَالَتْ
عَائِشَةُ فَوَاَللّهِ مَا هُوَ إلّا أَنْ رَأَيْتهَا عَلَى بَابِ حُجْرَتِي
فَكَرِهْتهَا ، وَعَرَفْت أَنّهُ سَيَرَى مِنْهَا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
مَا رَأَيْت ، فَدَخَلَتْ عَلَيْهِ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ أَنَا
جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ ، سَيّدِ قَوْمِهِ وَقَدْ
أَصَابَنِي مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَمْ يَخَفْ عَلَيْك ، فَوَقَعْت فِي السّهْمِ
لِثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ بْنِ الشّمّاسِ أَوْ لِابْنِ عَمّ لَهُ فَكَاتَبْته عَلَى
نَفْسِي فَجِئْتُك أَسْتَعِينُك عَلَى كِتَابَتِي ، قَالَ فَهَلْ لَك فِيّ خَيْرٌ
مِنْ ذَلِكَ ؟ قَالَتْ وَمَا هُوَ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ أَقْضِي عَنْك
كِتَابَتَك وَأَتَزَوّجُك ؛ قَالَتْ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ قَدْ فَعَلْت
. قَالَتْ وَخَرَجَ الْخَبَرُ إلَى النّاسِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ تَزَوّجَ جُوَيْرِيَةَ ابْنَةَ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي
ضِرَارٍ ، فَقَالَ النّاسُ أَصْهَارُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَأَرْسَلُوا مَا بِأَيْدِيهِمْ قَالَتْ فَلَقَدْ أُعْتِقَ بِتَزْوِيجِهِ إيّاهَا
مِائَةُ أَهْلِ بَيْتٍ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَمَا أَعْلَمُ امْرَأَةً كَانَتْ
أَعْظَمَ عَلَى قَوْمِهَا بَرَكَةً مِنْهَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ [ ص
21 ] لَمّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ
غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَمَعَهُ جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ ، وَكَانَ
بِذَاتِ الْجَيْشِ دَفَعَ جُوَيْرِيَةَ إلَى رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَدِيعَةً
وَأَمَرَهُ بِالِاحْتِفَاظِ بِهَا ، وَقَدِمَ رَسُولُ اللّهِ الْمَدِينَةَ ،
فَأَقْبَلَ أَبُوهَا الْحَارِثُ بْنُ أَبِي ضِرَارٍ بِفِدَاءِ ابْنَتِهِ فَلَمّا
كَانَ بِالْعَقِيقِ نَظَرَ إلَى الْإِبِلِ الّتِي جَاءَ بِهَا لِلْفِدَاءِ
فَرَغِبَ فِي بَعِيرَيْنِ مِنْهَا ، فَغَيّبَهُمَا فِي شِعْبٍ مِنْ شِعَابِ الْعَقِيقِ
، ثُمّ أَتَى إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ يَا مُحَمّدُ
أَصَبْتُمْ ابْنَتِي ، وَهَذَا فِدَاؤُهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَيْنَ الْبَعِيرَانِ اللّذَانِ غَيّبْتهمَا بِالْعَقِيقِ ،
فِي شِعْبِ كَذَا وَكَذَا ؟ فَقَالَ الْحَارِثُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا
اللّهُ ، وَأَنّك مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَوَاَللّهِ مَا اطّلَعَ عَلَى ذَلِكَ إلّا اللّهُ فَأَسْلَمَ الْحَارِثُ
وَأَسْلَمَ مَعَهُ ابْنَانِ لَهُ وَنَاسٌ مِنْ قَوْمِهِ وَأَرْسَلَ إلَى
الْبَعِيرَيْنِ فَجَاءَ بِهِمَا ، فَدَفَعَ الْإِبِلَ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَدُفِعَتْ إلَيْهِ ابْنَتُهُ جُوَيْرِيَةُ فَأَسْلَمَتْ
وَحَسُنَ إسْلَامُهَا ، فَخَطَبَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إلَى أَبِيهَا ، فَزَوّجَهُ إيّاهَا ، وَأَصْدَقَهَا أَرْبَعَمِائَةِ
دِرْهَمٍSحَوْلَ
حَدِيثِ جُوَيْرِيَةَ " مُلّاحَةٌ وَمَلِيحٌ "
[ ص 19 ] وَذَكَرَ جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ ، وَوُقُوعَهَا فِي السّهْمِ
لِثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ ، أَوْ لِابْنِ عَمّ لَهُ ثُمّ جَاءَتْ تَسْتَعِينُ فِي
كِتَابَتِهَا ، قَالَتْ عَائِشَةُ وَكَانَتْ امْرَأَةً حُلْوَةً مُلّاحَةً .
الْمُلّاحُ أَبْلَغُ مِنْ الْمَلِيحِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ، وَكَذَلِكَ
الْوَضّاءُ أَبْلَغُ مِنْ الْوَضِيءِ وَالْكُبّارُ كَذَلِكَ أَبْلَغُ مِنْ
الْكَبِيرِ غَيْرَ أَنّهُ لَا يُوصَفُ الْبَارِي سُبْحَانَهُ بِهَذَا اللّفْظِ
فَيُقَالُ فِيهِ كُبّارٌ بِمَعْنَى كَبِيرٍ لِأَنّهُ عَلَى بِنْيَةِ الْجَمْعِ
نَحْوَ ضُرّابٍ وَشُهّادٍ فَكَانَ لَفْظُ الْكَبِيرِ وَنَحْوُهُ أَبْعَدَ مِنْ
الِاشْتِرَاكِ وَأَدَلّ عَلَى الْوَحْدَانِيّةِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَأَمّا
مَعْنَى : الْمُلّاحَةِ فَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنّهَا مِنْ الْمُلْحَةِ وَهِيَ
الْبَيَاضُ ، تَقُولُ الْعَرَبُ : عِنَبٌ مُلّاحِيّ وَالصّحِيحُ فِي مَعْنَى
الْمَلِيحِ ، أَنّهُ مُسْتَعَارٌ مِنْ قَوْلِهِمْ طَعَامٌ مَلِيحٌ إذَا كَانَ فِيهِ
مِنْ الْمِلْحِ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهُ وَلِذَلِكَ إذَا بَالَغُوا فِي الْمَدْحِ
قَالُوا : مَلِيحٌ قَزِيحٌ فَمَلِيحٌ مِنْ مَلَحْت الْقِدْرَ وَقَزِيحٌ مِنْ
قَزَحْتهَا إذَا طَيّبْت نَكْهَتَهَا بِالْأَفَاوِيَةِ وَهِيَ الْأَقْزَاحُ
وَبِذَلِكَ عَلَى بُعْدِ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ الْبَيَاضِ قَوْلُهُمْ فِي
الْأَسْوَدِ مَلِيحٌ وَفِي الْعَيْنَيْنِ إذَا اشْتَدّ سَوَادُهُمَا وَحُسْنُهُمَا
كَمَا جَاءَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبّةً
مِنّي } [ طَه : 29 ] . أَنّهَا مَلَاحَةٌ فِي الْعَيْنَيْنِ وَقَالَ
الْأَصْمَعِيّ : الْحُسْنُ فِي الْعَيْنَيْنِ وَالْجَمَالُ فِي الْأَنْفِ
وَالْمَلَاحَةُ فِي الْفَمِ . وَقَالَتْ امْرَأَةُ خَالِدِ بْنِ صَفْوَانَ
لِبَعْلِهَا : إنّك لَجَمِيلٌ يَا أَبَا صَفْوَانَ فَقَالَ وَكَيْفَ وَلَيْسَ
عِنْدِي رِدَاءُ الْجَمَالِ وَلَا بُرْنُسُهُ وَلَا عَمُودُهُ ؟ ثُمّ قَالَ
عَمُودُهُ الطّولُ وَأَنَا رَبْعَةٌ وَبُرْنُسُهُ سَوَادُ الشّعْرِ وَأَنَا
أَشْمَطُ وَرِدَاؤُهُ الْبَيَاضُ ، وَأَنَا آدَمُ وَلَكِنْ قُولِي : إنّك مَلِيحٌ
ظَرِيفٌ . فَعَلّمَهَا أَنّ الْمَلَاحَةَ قَدْ تَكُونُ مِنْ صِفَةِ الْآدَمِ
فَهِيَ إذًا لَيْسَتْ مِنْ مَعْنَى الْبَيَاضِ فِي شَيْءٍ وَإِنّمَا هِيَ ضِدّ
الْمَسَاسَةِ .
غَيْرَةُ نِسَاءِ النّبِيّ وَالنّظَرُ إلَى الْمَرْأَةِ
[ ص 20 ] عَائِشَةَ فِي جُوَيْرِيَةَ فَوَاَللّهِ مَا هُوَ إلّا أَنْ رَأَيْتهَا
عَلَى بَابِ حُجْرَتِي فَكَرِهْتهَا . فِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَزْوَاجُ
النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ
وَالْعِلْمِ بِمَوْقِعِ الْجَمَالِ مِنْهُ كَمَا قَدْ رُوِيَ أَنّهُ - عَلَيْهِ
السّلَامُ - أَنّهُ خَطَبَ امْرَأَةً فَأَرْسَلَ عَائِشَةَ لِتَنْظُرَ إلَيْهَا ،
فَلَمّا رَجَعَتْ إلَيْهِ قَالَتْ مَا رَأَيْت طَائِلًا ، فَقَالَ بَلَى لَقَدْ
رَأَيْت : خَالًا قَدْ خَدّهَا اقْشَعَرّتْ مِنْهُ كُلّ شَعْرَةٍ فِي جَسَدِك .
وَأَمّا نَظَرُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لِجُوَيْرِيَةَ حَتّى عَرَفَ مِنْ حُسْنِهَا
مَا عَرَفَ فَإِنّمَا ذَلِكَ لِأَنّهَا كَانَتْ امْرَأَةً مَمْلُوكَةً وَلَوْ
كَانَتْ حُرّةً مَا مَلَأَ عَيْنَهُ مِنْهَا ، لِأَنّهُ لَا يُكْرَهُ النّظَرُ
إلَى الْإِمَاءِ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نَظَرَ إلَيْهَا ، لِأَنّهُ نَوَى
نِكَاحَهَا ، كَمَا نَظَرَ إلَى الْمَرْأَةِ الّتِي قَالَتْ لَهُ إنّي قَدْ
وَهَبْت نَفْسِي لَك يَا رَسُولَ اللّهِ فَصَعّدَ فِيهَا النّظَرَ ثُمّ صَوّبَ
ثُمّ أَنْكَحَهَا مِنْ غَيْرِهِ وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ عَلَيْهِ السّلَامُ
الرّخْصَةُ فِي النّظَرِ إلَى الْمَرْأَةِ عِنْدَ إرَادَةِ نِكَاحِهَا ، وَقَالَ
لِلْمُغِيرَةِ حِينَ شَاوَرَهُ فِي نِكَاحِ امْرَأَةٍ لَوْ نَظَرْت إلَيْهَا ،
فَإِنّ ذَلِكَ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ
لِمُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ حِينَ أَرَادَ نِكَاحَ ثُبَيْتَةَ بِنْتَ الضّحّاكِ ،
وَقَدْ أَجَازَهُ مَالِكٌ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ذَكَرَهَا ابْنُ
أَبِي زَيْدٍ . وَفِي [ ص 21 ] مُسْنَدِ الْبَزّارِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرَةَ
لَا حَرَجَ أَنْ يَنْظُرَ الرّجُلُ إلَى الْمَرْأَةِ إذَا أَرَادَ تَزَوّجَهَا ،
وَهِيَ لَا تَشْعُرُ وَفِي تَرَاجِمِ الْبُخَارِيّ : النّظَرُ إلَى الْمَرْأَةِ
قَبْلَ التّزْوِيجِ وَأَوْرَدَ فِي الْبَابِ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ
لِعَائِشَة : أَرَيْتُك فِي الْمَنَامِ يَجِيءُ بِك الْمَلَكُ فِي سَرَقَةٍ مِنْ
حَرِيرٍ فَكُشِفَتْ عَنْ وَجْهِك ، فَقَالَ هَذِهِ امْرَأَتُك ، فَقُلْت : إنْ
يَكُنْ مِنْ عِنْدِ اللّهِ يَمْضِهِ وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ حَسَنٌ . وَفِي قَوْلِهِ
إنْ يَكُنْ مِنْ عِنْدِ اللّهِ سُؤَالٌ لِأَنّ رُؤْيَاهُ وَحْيٌ فَكَيْفَ يُشَكّ
فِي أَنّهَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ . وَالْجَوَابُ أَنّهُ لَمْ يَشُكّ فِي صِحّةِ
الرّؤْيَا ، وَلَكِنّ الرّؤْيَا قَدْ تَكُونُ عَلَى ظَاهِرِهَا ، وَقَدْ تَكُونُ
لِمَنْ هُوَ نَظِيرُ الْمَرْءِ أَوْ سَمِيّهُ فَمِنْ هَاهُنَا تَطَرّقَ الشّكّ مَا
بَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهَا ، أَوْ لَهَا تَأْوِيلٌ كَذَلِكَ وَسَمِعْت
شَيْخَنَا يَقُولُ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ وَلِغَيْرِهِ فِيهِ قَوْلٌ لَا
أَرْضَاهُ فَلَا يَخْلُو نَظَرُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ إلَيْهَا مِنْ أَحَدِ
الْأَمْرَيْنِ أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ الْحِجَابُ وَإِلّا
فَقَدْ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضّوا مِنْ
أَبْصَارِهِمْ } وَهُوَ إمَامُ الْمُتّقِينَ وَقُدْوَةُ الْوَرِعِينَ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
جُوَيْرِيَةُ
[ ص 22 ] جُوَيْرِيَةُ فَهِيَ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارِ بْنِ حَبِيبِ
بْنِ عَائِدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ جَذِيمَةَ ، وَجَذِيمَةُ الْمُصْطَلِقِ مِنْ
خُزَاعَةَ ، كَانَ اسْمُهَا بَرّةُ فَسَمّاهَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - جُوَيْرِيَةَ وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ هَذَا فِي حَدِيثِ
مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ وَكَذَلِكَ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ ، كَانَ
اسْمُهَا بَرّةَ أَيْضًا ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ رَبِيبَتُهُ عَلَيْهِ
السّلَامُ كَانَ اسْمُهَا بَرّةُ فَسَمّاهُنّ جُمَعٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ الِاسْمِ
تُوُفّيَتْ جُوَيْرِيَةُ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ سَنَةَ سِتّ أَوْ خَمْسٍ
وَخَمْسِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ وَكَانَتْ قَبْلَ أَنْ تُسْبَى عِنْدَ مُسَافِعِ
بْنِ صَفْوَانَ الْخُزَاعِيّ .
مَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ
فِي حَقّ الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ : [ ص 22 ] أَنّ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعَثَ إلَيْهِمْ بَعْدَ
إسْلَامِهِمْ الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ ، فَلَمّا سَمِعُوا
بِهِ رَكِبُوا إلَيْهِ فَلَمّا سَمِعَ بِهِمْ هَابَهُمْ فَرَجَعَ إلَى رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَهُ أَنّ الْقَوْمَ قَدْ هَمّوا
بِقَتْلِهِ وَمَنَعُوهُ مَا قِبَلَهُمْ مِنْ صَدَقَتِهِمْ فَأَكْثَرَ
الْمُسْلِمُونَ فِي ذِكْرِ غَزْوِهِمْ حَتّى هَمّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأَنْ يَغْزُوَهُمْ فَبَيْنَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ قَدِمَ
وَفْدُهُمْ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالُوا : يَا
رَسُولَ اللّهِ سَمِعْنَا بِرَسُولِك حِينَ بَعَثْته إلَيْنَا ، فَخَرَجْنَا
إلَيْهِ لِنُكْرِمَهُ وَنُؤَدّيَ إلَيْهِ مَا قِبَلَنَا مِنْ الصّدَقَةِ
فَانْشَمَرَ رَاجِعًا ، فَبَلَغَنَا أَنّهُ زَعَمَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّا خَرَجْنَا إلَيْهِ لِنَقْتُلَهُ وَوَاللّهِ مَا جِئْنَا
لِذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِ وَفِيهِمْ { يَا أَيّهَا الّذِينَ
آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا
بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ وَاعْلَمُوا أَنّ
فِيكُمْ رَسُولَ اللّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتّمْ }
إلَى آخِرِ الْآيَاتِ . [ الْحُجُرَاتُ 6 - 8 ] .
وَقَدْ أَقْبَلَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ سَفَرِهِ ذَلِكَ كَمَا حَدّثَنِي مَنْ
لَا أَتّهِمُ عَنْ الزّهْرِيّ ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهَا ، حَتّى إذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ الْمَدِينَةِ ، وَكَانَ مَعَهُ
عَائِشَةُ فِي سَفَرِهِ ذَلِكَ قَالَ فِيهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا .
خَبَرُ الْإِفْكِ فِي غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ سَنَةَ سِتّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنَا الزّهْرِيّ ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقّاصٍ
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، وَعَنْ
عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ كُلّ قَدْ حَدّثَنِي
بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَعْضُ الْقَوْمِ كَانَ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ
وَقَدْ جَمَعْت لَك الّذِي حَدّثَنِي الْقَوْمُ .
الْهَدْيُ فِي السّفَرِ مَعَ الزّوْجَاتِ
قَالَ مُحَمّدُ بْنُ إسْحَاقَ وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ
اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي
بَكْرٍ ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرّحْمَنِ ، عَنْ عَائِشَةَ عَنْ نَفْسِهَا
، حِينَ قَالَ فِيهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا ، فَكُلّ قَدْ دَخَلَ فِي
حَدِيثِهَا عَنْ هَؤُلَاءِ جَمِيعًا يُحَدّثُ بَعْضُهُمْ مَا لَمْ يُحَدّثْ
صَاحِبُهُ وَكُلّ كَانَ عَنْهَا ثِقَةً فَكُلّهُمْ حَدّثَ عَنْهَا مَا سَمِعَ
قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا أَرَادَ
سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيّتُهُنّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا
مَعَهُ فَلَمّا كَانَتْ غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ
كَمَا كَانَ يَصْنَعُ فَخَرَجَ سَهْمِي عَلَيْهِنّ مَعَهُ فَخَرَجَ بِي رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 23 ]
حَدِيثُ الْإِفْك
قَالَتْ وَكَانَ النّسَاءُ إذْ ذَاكَ إنّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلَقَ لَمْ
يُهَيّجْهُنّ اللّحْمُ فَيَثْقُلْنَ وَكُنْت إذَا رُحّلَ لِي بَعِيرِي جَلَسْت فِي
هَوْدَجِي ، ثُمّ يَأْتِي الْقَوْمُ الّذِينَ يُرَحّلُونَ لِي وَيَحْمِلُونَنِي ،
فَيَأْخُذُونَ بِأَسْفَلِ الْهَوْدَجِ فَيَرْفَعُونَهُ فَيَضَعُونَهُ عَلَى ظَهْرِ
الْبَعِيرِ فَيَشُدّونَهُ بِحِبَالِهِ ثُمّ يَأْخُذُونَ بِرَأْسِ الْبَعِيرِ
فَيَنْطَلِقُونَ بِهِ . قَالَتْ فَلَمّا فَرَغَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ سَفَرِهِ ذَلِكَ وَجّهَ قَافِلًا حَتّى إذَا كَانَ
قَرِيبًا مِنْ الْمَدِينَةِ نَزَلَ مَنْزِلًا ، فَبَاتَ بِهِ بَعْضَ اللّيْلِ ثُمّ
أَذّنَ فِي النّاسِ بِالرّحِيلِ فَارْتَحَلَ النّاسُ وَخَرَجْت لِبَعْضِ حَاجَتِي
، وَفِي عُنُقِي عِقْدٌ لِي ، فِيهِ جَزْعُ ظَفَارٍ ، فَلَمّا فَرَغْت انْسَلّ
مِنْ عُنُقِي وَلَا أَدْرِي ، فَلَمّا رَجَعْت إلَى الرّحْلِ ذَهَبْت أَلْتَمِسُهُ
فِي عُنُقِي ، فَلَمْ أَجِدْهُ وَقَدْ أَخَذَ النّاسُ فِي الرّحِيلِ فَرَجَعْت
إلَى مَكَانِي الّذِي ذَهَبْت إلَيْهِ فَالْتَمَسْته حَتّى وَجَدْته ، وَجَاءَ
الْقَوْمُ حلافى ، الّذِينَ كَانُوا يُرَحّلُونَ لِي الْبَعِيرَ وَقَدْ فَرَغُوا
مِنْ رَاحِلَتِهِ فَأَخَذُوا الْهَوْدَجَ وَهُمْ يَظُنّونَ أَنّي فِيهِ كَمَا
كُنْت أَصْنَعُ فَاحْتَمَلُوهُ فَشَدّوهُ عَلَى الْبَعِيرِ وَلَمْ يَشُكّوا أَنّي
فِيهِ ثُمّ أَخَذُوا بِرَأْسِ الْبَعِيرِ فَانْطَلَقُوا بِهِ فَرَجَعْت إلَى
الْعَسْكَرِ وَمَا فِيهِ مِنْ دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ قَدْ انْطَلَقَ النّاسُ .
قَالَتْ فَتَلَفّفْت بِجِلْبَابِي ، ثُمّ اضْطَجَعْت فِي مَكَانِي ، وَعَرَفْت
أَنْ لَوْ قَدْ اُفْتُقِدْت لَرُجِعَ إلَيّ . قَالَتْ فَوَاَللّهِ إنّي
لَمُضْطَجِعَةٌ إذْ مَرّ بِي صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطّلِ السّلَمِيّ ، وَقَدْ
كَانَ [ ص 24 ] فَأَقْبَلَ حَتّى وَقَفَ عَلَيّ وَقَدْ كَانَ يَرَانِي قَبْلَ أَنْ
يُضْرَبَ عَلَيْنَا الْحِجَابُ فَلَمّا رَآنِي قَالَ إنّا لِلّهِ وَإِنّا إلَيْهِ
رَاجِعُونَ ، ظَعِينَةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنَا
مُتَلَفّفَةٌ فِي ثِيَابِي ، قَالَ مَا خَلْفَك يَرْحَمُك اللّهُ ؟ قَالَتْ
فَلَمّا كَلّمْته ، ثُمّ قَرّبَ الْبَعِيرَ فَقَالَ ارْكَبِي وَاسْتَأْخَرَ عَنّي
. قَالَتْ فَرَكِبْت ، وَأَخَذَ بِرَأْسِ الْبَعِيرِ فَانْطَلَقَ سَرِيعًا ،
يَطْلُبُ النّاسَ فَوَاَللّهِ مَا أَدْرَكْنَا النّاسَ وَمَا اُفْتُقِدْت حَتّى
أَصْبَحْت ، وَنَزَلَ النّاسُ فَلَمّا اطْمَأَنّوا طَلَعَ الرّجُلُ يَقُودُ بِي ،
فَقَالَ أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا ، فَارْتَعَجَ الْعَسْكَرُ وَوَاللّهِ مَا
أَعْلَمُ بِشَيْءِ مِنْ ذَلِكَ . [ ص 25 ] الْمَدِينَةَ ، فَلَمْ أَلْبَثْ أَنْ
اشْتَكَيْت شَكْوَى شَدِيدَةً وَلَا يَبْلُغُنِي مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ وَقَدْ
انْتَهَى الْحَدِيثُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِلَى
أَبَوِيّ لَا يَذْكُرُونَ لِي مِنْهُ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا ، إلّا أَنّي قَدْ
أَنْكَرْت مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعْضَ لُطْفِهِ
بِي ، كُنْت إذَا اشْتَكَيْت رَحِمَنِي وَلَطَفَ بِي ، فَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بِي
فِي شَكْوَايَ تِلْكَ فَأَنْكَرْت ذَلِكَ مِنْهُ كَانَ إذَا دَخَلَ عَلَيّ
وَعِنْدِي أُمّي تَمَرّضَنِي - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهِيَ أُمّ رُومَانَ ،
وَاسْمُهَا زَيْنَبُ بِنْتُ عَبْدِ دُهْمَانَ ، أَحَدُ بَنِي فِرَاسِ بْنِ غَنْمِ
بْنِ مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ - قَالَ كَيْفَ تِيكُمْ ، لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ [
ص 26 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : قَالَتْ حَتّى وَجَدْت فِي نَفْسِي ، فَقُلْت : يَا
رَسُولَ اللّهِ حِينَ رَأَيْت مَا رَأَيْت مِنْ جَفَائِهِ لِي : لَوْ أَذِنْت لِي
، فَانْتَقَلْت إلَى أُمّي ، فَمَرّضَتْنِي ؟ قَالَ لَا عَلَيْك . قَالَتْ
فَانْتَقَلْت إلَى أُمّي ، وَلَا عِلْمَ لِي بِشَيْءِ مِمّا كَانَ حَتّى نَقِهْت
مِنْ وَجَعِي بَعْدَ بِضْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً وَكُنّا قَوْمًا عَرَبًا ، لَا
نَتّخِذُ فِي بُيُوتِنَا هَذِهِ الْكُنُفَ الّتِي تَتّخِذُهَا الْأَعَاجِمُ ،
نَعَافُهَا وَنَكْرَهُهَا ، إنّمَا كُنّا نَذْهَبُ فِي فُسَحِ الْمَدِينَةِ ،
وَإِنّمَا كَانَتْ النّسَاءُ يَخْرُجْنَ كُلّ لَيْلَةٍ فِي حَوَائِجِهِنّ
فَخَرَجْت لَيْلَةً لِبَعْضِ حَاجَتِي وَمَعِي أُمّ مِسْطَحٍ بِنْتُ أَبِي رُهْمِ
بْنِ الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ ، وَكَانَتْ أُمّهَا بِنْتَ صَخْرِ بْنِ
عَامِرِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمٍ خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ
رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَتْ فَوَاَللّهِ إنّهَا لَتَمْشِي مَعِي إذْ عَثَرَتْ
فِي مِرْطِهَا ، فَقَالَتْ تَعِسَ مِسْطَحٌ وَمِسْطَحٌ لَقَبٌ وَاسْمُهُ عَوْفٌ
قَالَتْ قُلْت : بِئْسَ لَعَمْرُ اللّهِ مَا قُلْت لِرَجُلِ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ
قَدْ شَهِدَ بَدْرًا ، قَالَتْ أَوَمَا بَلَغَك الْخَبَرُ يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ
؟ قَالَتْ قُلْت : وَمَا الْخَبَرُ ؟ فَأَخْبَرَتْنِي بِاَلّذِي كَانَ مِنْ قَوْلِ
أَهْلِ الْإِفْكِ قَالَتْ قُلْت : أَوَقَدْ كَانَ هَذَا ؟ قَالَتْ نَعَمْ
وَاَللّهِ فَقَدْ كَانَ . قَالَتْ فَوَاَللّهِ مَا قَدَرْت عَلَى أَنْ أَقْضِيَ
حَاجَتِي ، وَرَجَعْت ، فَوَاَللّهِ مَا زِلْت أَبْكِي حَتّى ظَنَنْت أَنّ
الْبُكَاءَ سَيُصَدّعُ كَبِدِي ؛ قَالَتْ وَقُلْت لِأُمّي : يَغْفِرُ اللّهُ لَك ،
تَحَدّثَ النّاسُ بِمَا تَحَدّثُوا بِهِ وَلَا تَذْكُرِينَ لِي مِنْ ذَلِكَ
شَيْئًا قَالَتْ أَيْ بُنَيّةُ خَفّضِي عَلَيْك الشّأْنَ فَوَاَللّهِ لَقَلّمَا
كَانَتْ امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبّهَا ، لَهَا ضَرَائِرُ إلّا
كَثُرْنَ وَكَثُرَ النّاسُ عَلَيْهَا . [ ص 27 ] قَالَتْ وَقَدْ قَامَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي النّاسِ يَخْطُبُهُمْ وَلَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ
فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمّ قَالَ أَيّهَا النّاسُ مَا بَالُ رِجَالٍ
يُؤْذُونَنِي فِي أَهْلِي ، وَيَقُولُونَ عَلَيْهِمْ غَيْرَ الْحَقّ وَاَللّهِ مَا
عَلِمْت مِنْهُمْ إلّا خَيْرًا وَيَقُولُونَ ذَلِكَ لِرَجُلِ وَاَللّهِ مَا
عَلِمْت مِنْهُ إلّا خَيْرًا ، وَمَا يَدْخُلُ بَيْتًا مِنْ بُيُوتِي إلّا وَهُوَ
مَعِي . قَالَتْ وَكَانَ كَبُرَ ذَلِكَ عِنْدَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيّ ابْنُ
سَلُولَ فِي رِجَالٍ مِنْ الْخَزْرَجِ مَعَ الّذِي قَالَ مِسْطَحٌ وَحَمْنَةُ
بِنْتُ جَحْشٍ ، وَذَلِكَ أَنّ أُخْتَهَا زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ كَانَتْ عِنْدَ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَمْ تَكُنْ مِنْ نِسَائِهِ
امْرَأَةٌ تُنَاصِينِي فِي الْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُ غَيْرَهَا ، فَأَمّا زَيْنَبُ
فَعَصَمَهَا اللّهُ تَعَالَى بِدِينِهَا فَلَمْ تَقُلْ إلّا خَيْرًا وَأَمّا
حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ ، فَأَشَاعَتْ مِنْ ذَلِكَ مَا أَشَاعَتْ تُضَادّنِي
لِأُخْتِهَا ، فَشَقِيَتْ بِذَلِكَ . [ ص 28 ] قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ تِلْكَ الْمَقَالَةَ قَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ يَا رَسُولَ
اللّهِ إنْ يَكُونُوا مِنْ الْأَوْسِ نَكْفِكَهُمْ وَإِنْ يَكُونُوا مِنْ
إخْوَانِنَا مِنْ الْخَزْرَجِ ، فَمُرْنَا بِأَمْرِك ، فَوَاَللّهِ إنّهُمْ
لَأَهْلٌ أَنْ تُضْرَبَ أَعْنَاقُهُمْ قَالَتْ فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ ،
وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يُرَى رَجُلًا صَالِحًا ، فَقَالَ كَذَبْت لَعَمْرُ اللّهِ
لَا تَضْرِبُ أَعْنَاقَهُمْ أَمَا وَاَللّهِ مَا قُلْت هَذِهِ الْمَقَالَةَ إلّا
أَنّك قَدْ عَرَفْت أَنّهُمْ مِنْ الْخَزْرَجِ ، وَلَوْ كَانُوا مِنْ قَوْمِك مَا
قُلْت هَذَا ، فَقَالَ أُسَيْدٌ كَذَبْت لَعَمْرُ اللّهِ وَلَكِنّك مُنَافِقٌ
تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ قَالَتْ وَتَسَاوَرَ النّاسُ حَتّى كَادَ يَكُونُ
بَيْنَ هَذَيْنِ الْحَيّيْنِ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ شَرّ . وَنَزَلَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَدَخَلَ عَلَيّ . [ ص 29 ]
قَالَتْ ) : فَدَعَا عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ
وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ فَاسْتَشَارَهُمَا ، فَأَمّا أُسَامَةُ فَأَثْنَى عَلَيّ
خَيْرًا وَقَالَهُ ثُمّ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَهْلُك وَلَا نَعْلَمُ مِنْهُمْ
إلّا خَيْرًا ، وَهَذَا الْكَذِبُ وَالْبَاطِلُ وَأَمّا عَلِيّ فَإِنّهُ قَالَ يَا
رَسُولَ اللّهِ إنّ النّسَاءَ لَكَثِيرٌ وَإِنّك لَقَادِرٌ عَلَى أَنْ
تَسْتَخْلِفَ وَسَلْ الْجَارِيَةَ فَإِنّهَا سَتَصْدُقُك . فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَرِيرَةَ لِيَسْأَلَهَا ، قَالَتْ فَقَامَ
إلَيْهَا عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، فَضَرَبَهَا ضَرْبًا - 30ْ - شَدِيدًا ،
وَيَقُولُ اُصْدُقِي رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَتْ
فَتَقُولُ وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُ إلّا خَيْرًا ، وَمَا كُنْت أَعِيبُ عَلَى
عَائِشَةَ شَيْئًا ، إلّا أَنّي كُنْت أَعْجِنُ عَجِينِي ، فَآمُرُهَا أَنْ
تَحْفَظَهُ فَتَنَامُ عَنْهُ فَتَأْتِي الشّاةُ فَتَأْكُلُهُSحَدِيثُ
الْإِفْكِ
[ ص 23 ] عَائِشَةَ وَالنّسَاءُ يَوْمَئِذٍ لَمْ يُهَيّجْهُنّ اللّحْمُ فَيَثْقُلْنَ
. التّهْيِيجُ انْتِفَاخٌ فِي الْجِسْمِ قَدْ يَكُونُ مِنْ سِمَنٍ وَقَدْ يَكُونُ
مِنْ آفَةٍ قَالَ الْأَصْمَعِيّ أَوْ غَيْرُهُ هَجَمْت عَلَى حَيّ مِنْ الْعَرَبِ
بِوَادٍ خَصِيبٍ وَإِذَا أَلْوَانُهُمْ مُصْفَرّةٌ وَوُجُوهُهُمْ مُهَيّجَةٌ
فَقُلْت لَهُمْ مَا بَالُكُمْ ؟ وَادِيكُمْ أَخْصَبُ وَادٍ وَأَنْتُمْ لَا
تُشْبِهُونَ الْمَخَاصِبَ فَقَالَ لِي شَيْخٌ مِنْهُمْ إنّ بَلَدَنَا لَيْسَتْ
لَهُ رِيحٌ يُرِيدُ أَنّ الْجِبَالَ أَحَاطَتْ بِهِ فَلَا تُذْهِبُ الرّيَاحُ
وَبَاءَهُ وَلَا رَمَدَهُ .
صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطّلِ
وَفِيهِ ذِكْرُ [ ص 24 ] صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطّلِ بْنِ رُبَيْضَةَ بْنِ
خُزَاعِيّ بْنِ مُحَارِبِ بْنِ مُرّةَ بْنِ فَالِجِ بْن ذَكُوَانُ بْنُ ثَعْلَبَةَ
بْنِ بُهْثَةَ بْنِ سُلَيْمٍ السّلَمِيّ ، ثُمّ الذّكُوَانِيّ يُكَنّى أَبَا
عَمْرٍو ، وَكَانَ يَكُونُ عَلَى سَاقَةِ الْعَسْكَرُ يَلْتَقِطُ مَا يَسْقُطُ
مِنْ مَتَاعِ الْمُسْلِمِينَ حَتّى يَأْتِيَهُمْ بِهِ وَلِذَلِكَ تَخَلّفَ فِي
هَذَا الْحَدِيثِ الّذِي قَالَ فِيهِ أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا ، وَقَدْ
رُوِيَ فِي تَخَلّفِهِ سَبَبٌ آخِرُ وَهُوَ أَنّهُ كَانَ ثَقِيلُ النّوْمِ لَا
يَسْتَيْقِظُ حَتّى يَرْتَحِلَ النّاسُ . وَيَشْهَدُ لِصِحّةِ هَذَا حَدِيثُ أَبِي
دَاوُدَ أَنّ امْرَأَةَ صَفْوَانَ اشْتَكَتْ بِهِ إلَى النّبِيّ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَذَكَرَتْ أَشْيَاءَ مِنْهَا أَنّهُ لَا يُصَلّي الصّبْحَ
فَقَالَ صَفْوَانُ يَا رَسُولِ اللّهِ إنّي امْرِئِ ثَقِيلُ الرّأْسِ لَا
أَسْتَيْقِظُ حَتّى تَطْلُعَ الشّمْسُ فَقَالَ لَهُ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ
فَإِذَا اسْتَيْقَظْت فَصَلّ وَقَدْ ضَعّفَ الْبَزّارُ حَدِيثَ أَبِي دَاوُدَ
هَذَا فِي مُسْنَدِهِ . وَقُتِلَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطّلِ شَهِيدًا فِي
خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ وَانْدَقّتْ رِجْلُهُ يَوْمَ قُتِلَ فَطَاعَنَ بِهَا ،
وَهِيَ مُنْكَسِرَةٌ حَتّى مَاتَ وَذَلِكَ بِالْجَزِيرَةِ بِمَوْضِعِ يُقَالُ لَهُ
شِمْطَاطٌ .
تَفْسِيرُ أَسْقَطُوا
وَفِيهِ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّهُمْ دَعَوْا الْجَارِيَةَ
فَسَأَلُوهَا حَتّى أَسْقَطُوا لَهَا بِهِ يُرِيدُ أَفْصَحُوا بِالْأَمْرِ
وَنَقَرُوا عَنْهُ يُقَالُ سَاقَطْته الْحَدِيثَ مُسَاقَطَةً وَأَسْقَطُوا بِهِ
فِي هَذَا الْمَعْنَى قَالَ أَبُو حَيّةَ [ النّمَيْرِيّ ] :
إذَا هُنّ سَاقَطْنَ الْحَدِيثَ كَأَنّهُ ... سِقَاطُ حَصَى الْمَرْجَانِ مِنْ
سِلْكٍ نَاظِمٍ
كَذَا فَسّرَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بَطّالٍ وَفِيمَا ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ مِنْ
رِوَايَةِ الشّيْبَانِيّ عَنْهُ أَنّهُمْ أَدَارُوا الْجَارِيَةَ عَلَى الْحَدِيثِ
وَلَمْ يَصْرُخُوا لَهَا حَتّى فَطِنَتْ بِمَا أَرَادُوا ، فَقَالَتْ مَا أَعْلَمُ
عَلَيْهَا عَيْبًا ، الْحَدِيثُ . وَأَمّا ضَرْبُ عَلِيّ لِلْجَارِيَةِ وَهِيَ
حُرّةٌ وَلَمْ تَسْتَوْجِبْ ضَرْبًا ، وَلَا اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي ضَرْبِهَا ، فَأَرَى مَعْنَاهُ أَنّهُ أَغْلَظَ
لَهَا بِالْقَوْلِ وَتَوَعّدَهَا بِالضّرْبِ وَاتّهَمَهَا أَنْ تَكُونَ خَانَتْ
اللّهَ وَرَسُولَهُ فَكَتَمَتْ مِنْ الْحَدِيثِ مَا لَا يَسَعُهَا كَتْمُهُ مَعَ
إدْلَالِهِ وَأَنّهُ كَانَ مِنْ [ ص 25 ] أَهْلُ الْبَيْتِ ، وَفِي غَيْرِ حَدِيثِ
ابْنِ إسْحَاقَ قَالَتْ الْجَارِيَةُ وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُ عَلَيْهَا إلّا مَا
يَعْلَمُ الصّائِغُ عَلَى الذّهَبِ الْأَحْمَرِ .
بَرِيرَةُ
وَأَمّا بَرِيرَةُ فَهِيَ مَوْلَاةُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - الّتِي
اشْتَرَتْهَا مِنْ بَنِي كَاهِلٍ فَأَعْتَقَتْهَا ، وَخُيّرَتْ فِي زَوْجِهَا ،
وَكَانَ عَبْدًا لِبَنِي جَحْشٍ . هَذِهِ رِوَايَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَفِي
رِوَايَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَنّهُ كَانَ حُرّا ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْأَسْوَدِ
بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَائِشَةَ وَالْأَوْلَى رِوَايَةُ عُرْوَةَ وَالْقَاسِمِ بْنِ
مُحَمّدٍ عَنْ عَائِشَةَ وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ بِتَخْيِيرِ الْأَمَةِ إذَا
عَتَقَتْ وَإِنْ كَانَ بَعْلُهَا حُرّا ، وَقَوْلُ أَهْلِ الْحِجَازِ عَلَى حَسَبِ
رِوَايَتِهِمْ فَلَا يَرَوْنَ تَخْيِيرَهَا ، إلّا إذَا كَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا ،
وَعَاشَتْ بَرِيرَةُ حَتّى رَوَى عَنْهَا الْحَدِيثَ بَعْضُ التّابِعِينَ . قَالَ
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ : كُنْت أُجَالِسُ بَرِيرَةَ قَبْلَ أَنْ أَلِيَ
هَذَا الْأَمْرَ فَتَقُولُ لِي : يَا أَبَا عَبْدِ الْمَلِكِ إنّ فِيك خِصَالًا خَلِيقَةً
بِهَذَا الْأَمْرِ فَإِنْ وُلّيت هَذَا الْأَمْرَ فَاتّقِ اللّهَ فِي الدّمَاءِ
فَإِنّي سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَقُولُ إنّ
الرّجُلَ لَيُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنّةِ بَعْدَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا
بِمِحْجَمَةِ دَمٍ أَرَاقَهَا مِنْ مُسْلِمٍ فِي غَيْرِ حَقّ وَالْبَرِيرَةُ
وَاحِدَةُ الْبَرِيرِ وَهُوَ ثَمَرُ الْأَرَاكِ .
أُمّ رُومَانَ
وَأَمّا أُمّ رُومَانَ ، وَهِيَ أُمّ عَائِشَةَ فَقَدْ مَرّ ذِكْرُهَا فِي هَذَا
الْحَدِيثِ وَهِيَ زَيْنَبُ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ عُوَيْمِرِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ
بْنِ دُهْمَانَ ، وَهِيَ مِنْ كِنَانَةَ وَاخْتُلِفَ فِي عَمُودِ نَسَبِهَا ،
وُلِدَتْ لِأَبِي بَكْرٍ عَائِشَةُ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ وَكَانَتْ قَبْلَ أَبِي
بَكْرٍ عِنْدَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ سَخْبَرَةَ فَوَلَدَتْ لَهُ
الطّفَيْلَ [ ص 26 ] وَتُوُفّيَتْ أُمّ رُومَانَ سَنَةَ سِتّ مِنْ الْهِجْرَةِ
وَنَزَلَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي قَبْرِهَا ، وَقَالَ
اللّهُمّ إنّهُ لَمْ يَخَفْ عَلَيْك مَا لَقِيَتْ أُمّ رُومَانَ فِيك ، وَفِي
رَسُولِك وَقَالَ مَنْ سَرّهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى امْرَأَةٍ مِنْ الْحُورِ
الْعِينِ ، فَلْيَنْظُرْ إلَى أُمّ رُومَانَ
وَهْمٌ لِلْبُخَارِيّ
وَرَوَى الْبُخَارِيّ حَدِيثًا عَنْ مَسْرُوقٍ ، وَقَالَ فِيهِ " سَأَلْت
أُمّ رُومَانَ وَهِيَ أُمّ عَائِشَةَ عَمّا قِيلَ فِيهَا " وَمَسْرُوقٌ
وُلِدَ بَعْدَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِلَا خِلَافٍ
فَلَمْ يَرَ أُمّ رُومَانَ قَطّ ، فَقِيلَ إنّهُ وَهِمَ فِي الْحَدِيثِ وَقِيلَ
بَلْ الْحَدِيثُ صَحِيحٌ وَهُوَ مُقَدّمٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ السّيرَةِ
مِنْ مَوْتِهَا فِي حَيَاةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ
تَكَلّمَ شَيْخُنَا أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللّهُ - عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ
وَاعْتَنَى بِهِ لِإِشْكَالِهِ فَأَوْرَدَهُ مِنْ طُرُقٍ فَفِي بَعْضِهَا :
حَدّثَتْنِي أُمّ رُومَانَ ، وَفِي بَعْضِهَا عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ أُمّ رُومَانَ
مُعَنْعَنًا ، قَالَ رَحِمَهُ اللّهُ وَالْعَنْعَنَةُ أَصَحّ فِيهِ وَإِذَا كَانَ
الْحَدِيثُ مُعَنْعَنًا كَانَ مُحْتَمَلًا ، [ ص 27 ] لِلرّاوِي أَنْ يَقُولَ عَنْ
فُلَانٍ وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهُ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْحَدِيثِ . تُنَاصِبُنِي
أَوْ تُنَاصِينِي : وَقَوْلُ عَائِشَةَ لَمْ تَكُنْ امْرَأَةٌ تُنَاصِبُنِي فِي
الْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُ غَيْرَهَا ، هَكَذَا فِي الْأَصْلِ تُنَاصِبُنِي ،
وَالْمَعْرُوفُ فِي الْحَدِيثِ تُنَاصِينِي مِنْ الْمُنَاصَاةُ وَهِيَ
الْمُسَاوَاةُ وَأَصْلُهُ مِنْ النّاصِيَةِ .
الْقُرْآنُ وَبَرَاءَةُ
عَائِشَةَ
قَالَتْ ثُمّ دَخَلَ عَلَيّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَعِنْدِي أَبَوَايَ وَعِنْدِي امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ ، وَأَنَا أَبْكِي ،
وَهِيَ تَبْكِي مَعِي ، فَجَلَسَ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمّ قَالَ
يَا عَائِشَةُ ، إنّهُ [ ص 31 ] كَانَ مَا قَدْ بَلَغَك مِنْ قَوْلِ النّاسِ
فَاتّقِي اللّهَ وَإِنْ كُنْت قَدْ قَارَفْت سُوءًا ، مِمّا يَقُولُ النّاسُ
فَتُوبِي إلَى اللّهِ فَإِنّ اللّهَ يَقْبَلُ التّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ قَالَتْ
فَوَاَللّهِ مَا هُوَ إلّا أَنْ قَالَ لِي ذَلِكَ فَقَلَصَ دَمْعِي ، حَتّى مَا
أُحِسّ مِنْهُ شَيْئًا ، وَانْتَظَرْت أَبَوَيّ أَنْ يُجِيبَا عَنّي رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمْ يَتَكَلّمَا . قَالَتْ وَاَيْمُ
اللّهِ لَأَنَا كُنْت أَحْقَرُ فِي نَفْسِي ، وَأَصْغَرُ شَأْنًا مِنْ أَنْ
يُنَزّلَ اللّهُ فِيّ قُرْآنًا يُقْرَأُ بِهِ فِي الْمَسَاجِدِ وَيُصَلّى بِهِ
وَلَكِنّي قَدْ كُنْت أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فِي نَوْمِهِ شَيْئًا يُكَذّبُ بِهِ اللّهُ عَنّي ، لِمَا يَعْلَمُ مِنْ
بَرَاءَتِي ، أَوْ يُخْبَرَ خَبَرًا ، فَأَمّا قُرْآنٌ يَنْزِلُ فِيّ فَوَاَللّهِ
لَنَفْسِي كَانَتْ أَحْقَرَ عِنْدِي مِنْ ذَلِكَ . قَالَتْ فَلَمّا لَمْ أَرَ
أَبَوَيّ يَتَكَلّمَانِ قَالَتْ قُلْت لَهُمَا : أَلَا تُجِيبَانِ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ؟ قَالَتْ فَقَالَا : وَاَللّهِ مَا نَدْرِي
بِمَاذَا نُجِيبُهُ قَالَتْ وَاَللّهِ مَا أَعْلَمُ أَهْلَ بَيْتٍ دَخَلَ
عَلَيْهِمْ مَا دَخَلَ عَلَى آلِ أَبِي بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْأَيّامِ قَالَتْ
فَلَمّا أَنْ اسْتَعْجَمَا عَلَيّ اسْتَعْبَرْت فَبَكَيْت ، ثُمّ قُلْت : وَاَللّهِ
لَا أَتُوبُ إلَى اللّهِ مِمّا ذَكَرْت أَبَدًا . وَاَللّهِ إنّي لَأَعْلَمُ
لَئِنْ أَقْرَرْت بِمَا يَقُولُ النّاسُ وَاَللّهُ يَعْلَمُ أَنّي مِنْهُ
بَرِيئَةٌ لَأَقُولَنّ مَا لَمْ يَكُنْ وَلَئِنْ أَنَا أَنْكَرْت مَا يَقُولُونَ
لَا تُصَدّقُونَنِي . قَالَتْ ثُمّ الْتَمَسْت اسْمَ يَعْقُوبَ فَمَا أَذْكُرُهُ
فَقُلْت : وَلَكِنْ سَأَقُولُ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ
وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ } [ يُوسُفُ 18 ] . قَالَتْ
فَوَاَللّهِ مَا بَرِحَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَجْلِسَهُ
حَتّى تَغَشّاهُ مِنْ اللّهِ مَا كَانَ يَتَغَشّاهُ فَسُجّيَ بِثَوْبِهِ
وَوُضِعَتْ لَهُ وِسَادَةٌ مِنْ أُدْمٍ تَحْتَ رَأْسِهِ فَأَمّا أَنَا حِينَ
رَأَيْت مِنْ ذَلِكَ مَا رَأَيْت ، فَوَاَللّهِ مَا فَزِعْت وَلَا بَالَيْت ، قَدْ
عَرَفْت أَنّي بَرِيئَةٌ وَأَنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ غَيْرُ ظَالِمِي ، وَأَمّا
أَبَوَايَ فَوَاَلّذِي نَفْسُ عَائِشَةَ بِيَدِهِ مَا سُرّيَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى ظَنَنْت لَتَخْرُجَنّ أَنْفُسُهُمَا ،
فَرَقًا مِنْ أَنْ يَأْتِيَ مِنْ اللّهِ تَحْقِيقُ مَا قَالَ النّاسُ قَالَتْ ثُمّ
سُرّيَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَجَلَسَ وَإِنّهُ
لَيَتَحَدّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ فِي يَوْمٍ شَاتٍ فَجَعَلَ يَمْسَحُ
الْعَرَقَ عَنْ جَبِينِهِ وَيَقُولُ أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ ، فَقَدْ أَنْزَلَ
اللّهُ بَرَاءَتَك ، قَالَتْ قُلْت : بِحَمْدِ اللّهِ ثُمّ خَرَجَ إلَى النّاسِ
فَخَطَبَهُمْ وَتَلَا عَلَيْهِمْ مَا أَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْهِ مِنْ الْقُرْآنِ
فِي ذَلِكَ ثُمّ أَمَرَ بِمِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ وَحَسّانَ بْنِ ثَابِتٍ ،
وَحَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ ، وَكَانُوا مِمّنْ أَفْصَحَ بِالْفَاحِشَةِ فَضُرِبُوا
حَدّهُمْ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي أَبِي إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ
بَعْضِ رِجَالِ بَنِي النّجّار ِ أَنّ أَبَا أَيّوبَ خَالِدَ بْنَ زَيْدٍ ،
قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ أُمّ أَيّوبَ [ ص 32 ] يَا أَبَا أَيّوبَ أَلَا تَسْمَعُ
مَا يَقُولُ النّاسُ فِي عَائِشَةَ ؟ قَالَ بَلَى ، وَذَلِكَ الْكَذِبُ أَكُنْت
يَا أُمّ أَيّوبَ فَاعِلَةً ؟ قَالَتْ لَا وَاَللّهِ مَا كُنْت لِأَفْعَلَهُ قَالَ
فَعَائِشَةُ وَاَللّهِ خَيْرٌ مِنْك قَالَتْ فَلَمّا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِذِكْرِ
مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْفَاحِشَةِ مَا قَالَ مِنْ أَهْلِ الْإِفْكِ فَقَالَ
تَعَالَى : { إِنّ الّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا
تَحْسَبُوهُ شَرّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا
اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ
عَظِيمٌ } [ النّورُ 11 وَمَا بَعْدَهَا ] ، وَذَلِكَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ
وَأَصْحَابُهُ الّذِينَ قَالُوا مَا قَالُوا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ
وَذَلِكَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ وَأَصْحَابُهُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
وَاَلّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ ، وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ
ابْنُ إسْحَاقَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَبْلَ هَذَا . ثُمّ قَالَ تَعَالَى : {
لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ
خَيْرًا } أَيْ فَقَالُوا كَمَا قَالَ أَبُو أَيّوبَ وَصَاحِبَتُهُ ثُمّ قَالَ {
إِذْ تَلَقّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ
لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللّهِ عَظِيمٌ }
فَلَمّا نَزَلَ هَذَا فِي عَائِشَةَ ، وَفِيمَنْ قَالَ لَهَا مَا قَالَ قَالَ
أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ وَحَاجَتِهِ
وَاَللّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا ، وَلَا أَنْفَعُهُ
بِنَفْعِ أَبَدًا بَعْدَ الّذِي قَالَ لِعَائِشَة ، وَأَدْخَلَ عَلَيْنَا قَالَتْ
فَأَنْزَلَ اللّهُ فِي ذَلِكَ { وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ
وَالسّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ
فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبّونَ أَنْ يَغْفِرَ
اللّهُ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : يُقَالُ كِبْرُهُ وَكُبْرُهُ فِي الرّوَايَةِ وَأَمّا فِي
الْقُرْآنِ فَكِبْرَهُ بِالْكَسْرِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : { وَلَا يَأْتَلِ
أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ } وَلَا يَأْلُ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ . قَالَ
امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ حَجَرٍ الْكِنْدِيّ :
أَلَا رُبّ خَصْمٍ فِيك أَلْوَى رَدَدْته ... نَصِيحٌ عَلَى تَغْذَالِهِ غَيْرِ
مُؤْتَلِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ وَيُقَالُ { وَلَا يَأْتَلِ أُولُو
الْفَضْلِ } وَلَا يَحْلِفُ أُولُو الْفَضْلِ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي
الْحَسَنِ الْبَصْرِيّ ، فِيمَا بَلَغَنَا عَنْهُ . [ ص 33 ] { لِلّذِينَ
يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ } [ الْبَقَرَةُ 226 ] وَهُوَ مِنْ الْأَلْيَةِ
وَالْأَلْيَةُ الْيَمِينُ . قَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ :
آلَيْتَ مَا فِي جَمِيعِ النّاسِ مُجْتَهِدًا ... مِنّي أَلِيّةَ بَرّ غَيْرِ
إفْنَادِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللّهُ فِي
مَوْضِعِهَا . فَمَعْنَى : أَنْ يُؤْتُوا فِي هَذَا الْمَذْهَبِ أَنْ لَا يُؤْتُوا
، وَفِي كِتَابِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ { يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلّوا } [
النّسَاءُ : 176 ] يُرِيدُ أَنْ لَا تَضِلّوا ، { وَيُمْسِكُ السّمَاءَ أَنْ
تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ } [ الْحَجّ : 65 ] يُرِيدُ أَنْ لَا تَقَعَ عَلَى
الْأَرْضِ وَقَالَ ابْنُ مُفَرّغٍ الْحِمْيَرِيّ :
لَا ذَعَرْت السّوَامَ فِي وَضَحِ الصّبْ ... حِ مُغِيرًا وَلَا دُعِيَتْ يَزِيدَا
يَوْمَ أُعْطِي مَخَافَةَ الْمَوْتِ ضَيْمًا ... وَالْمَنَايَا يَرْصُدْنَنِي أَنْ
أَحِيدَا
يُرِيدُ أَنْ لَا أَحِيدَ وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ . قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : قَالَتْ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ بَلَى وَاَللّهِ إنّي لَأُحِبّ
أَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لِي ، فَرَجَعَ إلَى مِسْطَحٍ نَفَقَتَهُ الّتِي كَانَ
يُنْفِقُ عَلَيْهِ وَقَالَ وَاَللّهِ لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا .
ابْنُ الْمُعَطّلِ يَهِمّ
بِقَتْلِ حَسّانَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ صَفْوَانَ بْنَ الْمُعَطّلِ اعْتَرَضَ حَسّانَ
بْنَ ثَابِتٍ بِالسّيْفِ حِينَ بَلَغَهُ مَا كَانَ يَقُولُ فِيهِ وَقَدْ كَانَ
حَسّانُ قَالَ شِعْرًا مَعَ ذَلِكَ يُعَرّضُ بِابْنِ الْمُعَطّلِ فِيهِ وَبِمَنْ
أَسْلَمَ مِنْ الْعَرَبِ مِنْ مُضَرَ ، فَقَالَ [ ص 34 ]
أَمْسَى الْجَلَابِيبُ قَدْ عَزّوا وَقَدْ كَثُرُوا ... وَابْنُ الْفُرَيْعَةِ
أَمْسَى بَيْضَةَ الْبَلَدِ
قَدْ ثَكِلَتْ أُمّهُ مَنْ كُنْت صَاحِبَهُ ... أَوْ كَانَ مُنْتَشِبًا فِي
بُرْثُنِ الْأَسَدِ
مَا لِقَتِيلِي الّذِي أَغْدُو فَآخُذُهُ ... مِنْ دِيّةٍ فِيهِ يُعْطَاهَا وَلَا
قَوَدِ
مَا الْبَحْرُ حِينَ تَهُبّ الرّيحُ شَامِيَةً ... فَيَغْطَئِلُ وَيَرْمِي
الْعُبْرَ بِالزّبَدِ
يَوْمًا بِأَغْلَبَ مِنّي حِينُ تُبْصِرُنِي ... مِلْغَيْظِ أَفْرِي كَفَرْيِ
الْعَارِضِ الْبَرِدِ
أَمّا قُرَيْشٌ فَإِنّي لَنْ أُسَالِمَهُمْ ... حَتّى يُنِيبُوا مِنْ الْغَيّاتِ
لِلرّشَدِ
وَيَتْرُكُوا اللّاتَ وَالْعُزّى بِمَعْزِلَةٍ ... وَيَسْجُدُوا كُلّهُمْ
لِلْوَاحِدِ الصّمَدِ
وَيَشْهَدُوا أَنّ مَا قَالَ الرّسُولُ لَهُمْ ... حَقّ وَيُوفُوا بِعَهْدِ اللّهِ
وَالْوُكْدِ
فَاعْتَرَضَهُ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطّلِ ، فَضَرَبَهُ بِالسّيْفِ ثُمّ قَالَ
كَمَا حَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ :
تَلْقَ ذُبَابَ السّيْفِ عَنّي فَإِنّنِي ... غُلَامٌ إذَا هُوجِيَتْ لَسْت
بِشَاعِرِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ
التّيْمِيّ : أَنّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ الشّمّاسِ وَثَبَ عَلَى صَفْوَانَ
بْنِ الْمُعَطّلِ ، حِينَ ضَرَبَ حَسّانَ فَجَمَعَ يَدَيْهِ إلَى عُنُقِهِ
بِحَبْلِ ثُمّ انْطَلَقَ بِهِ إلَى دَارِ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ ،
فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ ، فَقَالَ مَا هَذَا ؟ قَالَ مَا
أَعْجَبَك ضَرَبَ حَسّانَ بِالسّيْفِ وَاَللّهِ مَا أَرَاهُ إلّا قَدْ قَتَلَهُ
قَالَ لَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ : هَلْ عَلِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِشَيْءِ مِمّا صَنَعْت ؟ قَالَ لَا وَاَللّهِ قَالَ
لَقَدْ اجْتَرَأْت ، أَطْلِقْ الرّجُلَ فَأَطْلِقْهُ ثُمّ أَتَوْا رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَدَعَا حَسّانَ
وَصَفْوَانَ بْنَ الْمُعَطّلِ ، فَقَالَ ابْنُ الْمُعَطّلِ يَا رَسُولَ اللّه :
آذَانِي وَهَجَانِي ، فَاحْتَمَلَنِي الْغَضَبُ فَضَرَبْته ، فَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِحَسّانَ أَحْسِنْ يَا حَسّانُ
أَتَشَوّهْت عَلَى قَوْمِي أَنْ هَدَاهُمْ اللّهُ لِلْإِسْلَامِ ثُمّ قَالَ
أَحْسِنْ يَا حَسّانُ فِي الّذِي أَصَابَك قَالَ هِيَ لَك يَا رَسُولَ اللّهِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ أَبَعْدَ أَنْ هَدَاكُمْ اللّهُ لِلْإِسْلَامِ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ أَنّ رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَعْطَاهُ عِوَضًا مِنْهَا بِيرَحَاءٍ ،
وَهِيَ قَصْرُ بَنِي حُدَيْلَةَ الْيَوْمَ بِالْمَدِينَةِ وَكَانَتْ مَالًا
لِأَبِي طَلْحَةَ بْنِ سَهْلٍ تَصَدّقَ بِهَا عَلَى آلِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَعْطَاهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ حَسّانَ فِي ضَرْبَتِهِ وَأَعْطَاهُ سِيرِينَ ، أَمَةٌ قِبْطِيّةٌ
فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ حَسّانَ ، قَالَتْ وَكَانَتْ عَائِشَةُ
تَقُولُ لَقَدْ سُئِلَ عَنْ ابْنِ الْمُعَطّلِ فَوُجِدَهُ رَجُلًا حَصُورًا ، مَا
يَأْتِي النّسَاءَ ثُمّ قُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ شَهِيدًا .Sشِعْرُ
حَسّانَ فِي الْتعَرِيضِ بِابْنِ الْمُعَطّلِ
[ ص 28 ] وَذَكَرَ قَوْلَ حَسّانَ
أَمْسَى الْجَلَابِيبُ قَدْ عَزّوا وَقَدْ كَثُرُوا ... وَابْنُ الْفُرَيْعَةِ
أَمْسَى بَيْضَةَ الْبَلَدِ
يَعْنِي بِالْجَلَابِيبِ الْغُرَبَاءَ وَبَيْضَةُ الْبَلَدِ يَعْنِي : مُنْفَرِدًا
، وَهِيَ كَلِمَةٌ يُتَكَلّمُ بِهَا فِي الْمَدْحِ تَارَةً وَفِي مَعْنَى الْقِلّ
أُخْرَى ، يُقَالُ فُلَانٌ بَيْضَةُ الْبَلَدِ أَيْ أَنّهُ وَاحِدٌ فِي قَوْمِهِ
عَظِيمٌ فِيهِمْ وَفُلَانٌ بَيْضَةُ الْبَلَدِ يُرِيدُ أَنّهُ ذَلِيلٌ لَيْسَ مَعَهُ
أَحَدٌ . وَأَمّا قَوْلُهُ قَدْ ثَكِلَتْ أُمّهُ مَنْ كُنْت صَاحِبَهُ
فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ مَنْ مُبْتَدَأٌ وَقَدْ ثَكِلَتْ أُمّهُ فِي
مَوْضِعِ الْخَبَرِ الْمُقَدّمِ عَلَيْهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ مَفْعُولًا
بِثَكِلَتْ وَأُضْمِرَ قَبْلَ الذّكْرِ مَعَ اتّصَالِ الضّمِيرِ بِالْفَاعِلِ
فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ جَزَى رَبّهُ عَنّي عَدِيّ بْنَ حَاتِمٍ
وَمِثْلُ قَوْلِهِ أَبْقَى الْيَوْمَ مَجْدُهُ مُطْعِمَا
وَقَدْ تَقَدّمَ الْقَوْلُ فِيهِ . وَقَوْلُهُ فَيَغْطَئِلُ يُرِيدُ الْبَحْرَ
أَيْ يَهِيجُ وَيَعْتَلِمُ وَأَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنْ الْغَيْطَلَةِ وَهِيَ
الظّلْمَةُ وَأَصْلُهَا : يَغْطَالّ مِثْلَ يَسْوَادّ ، لَكِنّهُ هَمَزَ الْأَلِفَ
لِئَلّا يَجْتَمِعَ سَاكِنَانِ وَإِنْ كَانَ اجْتِمَاعُهُمَا فِي مِثْلِ هَذَا
الْمَوْضِعِ حَسَنًا كَقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { وَلَا الضّالّينَ }
وَلَكِنّهُمَا فِي الشّعْرِ لَا يَجْتَمِعَانِ إلّا فِي عُرُوضٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ
الْمُتَقَارِبُ وَمَعَ هَذَا فَقَدْ قَرَأَ أَيّوبُ بْنُ أَبِي [ ص 29 ] تَمِيمَةَ
[ كَيْسَانُ ] السّخْتِيَانِيّ { وَلَا الضّالّينَ } بِهَمْزَةِ مَفْتُوحَةٍ
وَقَرَأَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ : { إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانّ } [ الرّحْمَنُ
56 ] وَأَنْشَدَ الْخَطّابِيّ :
سَقَى مُطْغِيَاتِ الْمَحْلِ سَكْبًا وَدِيمَةً ... عِظَامُ ابْنُ لَيْلَى حَيْثُ
كَانَ رَمِيمُهَا
فَأَصْبَحَ مِنْهَا كُلّ وَادٍ وَتَلْعَةٍ ... حَدَائِقَ خُضْرًا مُزْهَئِرّا
عَمِيمُهَا
أَنْشَدَ خَاطِمَهَا زَأَمّهَا أَنْ تَهْرُبَا
فَإِنْ قِيلَ الْهَمْزَةُ فِي هَذَا كُلّهِ مَفْتُوحَةٌ وَفِي قَوْلِهِ يَغْطَئِلّ
مَكْسُورَةٌ وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الصّحِيحِ أَسْوَدُ مُرْبَئِدّ فِي
رِوَايَةٍ . قُلْنَا : إنّمَا كُسِرَتْ الْهَمْزَةُ فِي مُزْهَئِرّ وَمُرْبَئِدّ
وَيَغْطَئِلّ ، بَعْدَ أَنْ فُتِحَتْ فِي الْمَاضِي ، فَقِيلَ اغْطَأَلّ
وَازْهَأَرّ فَصَارَ عَلَى وَزْنِ اطْمَأَنّ فَجَاءَ اسْمُ الْفَاعِلِ
وَالْمُسْتَقْبَلِ عَلَى ذَلِكَ الْقِيَاسِ مَكْسُورًا كَمَا يُكْسَرُ فِي
مُطْمَئِنّ .
تَفْسِيرُ الْعَجَبِ
وَقَوْلُ ثَابِتٍ لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ رَوَاحَةَ أَمَا أَعْجَبَك ضَرْبُ حَسّانَ
بِالسّيْفِ مَعْنَاهُ أَمَا جَعَلَك تَعْجَبُ تَقُولُ عَجِبْت مِنْ الشّيْءِ
وَأَعْجَبَنِي الشّيْءُ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْعَجَبُ مِنْ مَكْرُوهٍ أَوْ
مَحْبُوبٍ وَهُوَ عِنْدَ النّاسِ بِمَعْنَى سَرّنِي لَا غَيْرَ وَفِي الْحَدِيثِ
وَكَلَام الْعَرَبِ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مِنْهَا فِي
الْكَامِل فَلَأَعْجَبَنِي أَنْ أَعْجَبَهُ بُكَاءُ أَبِيهِ وَفِي حَدِيثٍ
ذَكَرَهُ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ حَسّانَ ، وَكَذَلِكَ أَنْشَدَ أَلَا
هُزِئَتْ بِنّا قُرَشِيّةٌ يَهْتَزّ مَنْكِبُهَا
تَقُول لِي : ابْنُ قَيْسٍ ذَا وَبَعْضُ الشّيْبِ يُعْجِبُهَا . وَقَالَ كَعْبُ
بْنُ زُهَيْرٍ :
لَوْ كُنْت أَعْجَبُ مِنْ شَيْءٍ لَأَعْجَبَنِي ... سَعْيُ الْفَتَى ، وَهُوَ
مَخْبُوءٌ لَهُ الْقِدْرُ لَهُ
- 30 - وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ أَتَشَوّهْت عَلَى قَوْمِي أَنْ هَدَاهُمْ
اللّهُ مَعْنَاهُ أَقَبّحْت ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ حِينَ سَمّيْتهمْ
بِالْجَلَابِيبِ مِنْ أَجْلِ هِجْرَتِهِمْ إلَى اللّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ ؟
بِيرُحَاءٍ
وَقَوْلُهُ فَأَعْطَاهُ عِوَضًا مِنْهَا بِيرَحَاءٍ ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ أَنّ
هَذِهِ الْبِئْرَ سُمّيَتْ بِيرَحَاءٍ ، بِزَجْرِ الْإِبِلِ عَنْهَا ، وَذَلِكَ
أَنّ الْإِبِلَ يُقَالُ لَهَا إذَا زُجِرَتْ عَنْ الْمَاءِ وَقَدْ رَوِيَتْ حا حا
، وَهَكَذَا كَانَ الْأَصِيلِيّ يُقَيّدُهُ بِرَفْعِ الرّاءِ إذَا كَانَ الِاسْمُ
مَرْفُوعًا ، وَبِالْمَدّ وَغَيْرُ الْأَصِيلِيّ يَقُولُ بِيرَحَا بِالْفَتْحِ
عَلَى كُلّ حَالٍ وَبِالْقَصْرِ يَجْعَلُهُ اسْمًا وَاحِدًا ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ
بَعْضِهِمْ فِيهِ بَيْرَحَا ، بِفَتْحِ الْبَاء مَعَ الْقَصْرِ وَفِي الصّحِيحِ
أَنّ أَبَا طَلْحَةَ دَفَعَ بِيرَحَاءٍ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَجَعَلَهَا صَدَقَةً فَأَمَرَهُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنْ يَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ فَقَسَمَهَا بَيْنَ
أُبَيّ وَحَسّانَ وَفَسّرَ الْبُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُدَ الْقَرَابَةَ الّتِي
بَيْنَ أَبِي طَلْحَةَ وَبَيْنَهُمَا قَالَا : فَأَمّا حَسّانُ فَهُوَ ابْنُ
الْمُنْذِرِ بْنُ ثَابِتِ بْنِ حَرَامٍ وَأَبُو طَلْحَةَ هُوَ زَيْدُ بْنُ سَهْلِ
بْنِ حَرَامٍ فَهَذِهِ قَرَابَةٌ قَرِيبَةٌ وَأَمّا أُبَيّ ، فَيَجْتَمِعُ مَعَهُ
فِي الْأَبِ السّادِسِ وَهُوَ عَمْرُو بْنُ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ وَقَدْ كَانَ
أُبَيّ غَنِيّا ، فَكَيْفَ تَرَكَ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ وَخَصّهُ ؟
وَالْوَجْهُ فِي ذَلِكَ أَنّ أُبَيّا كَانَ ابْنَ عَمّةِ أَبِي طَلْحَةَ وَهِيَ
صُهَيْلَةُ بِنْتُ الْأَسْوَدِ بْنِ حَرَامٍ وَهُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ
النّسَبِ فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ النّسَبِ خَصّهُ بِهَا ، لَا مِنْ أَجْلِ النّسَبِ
الّذِي ذَكَرْنَاهُ فَإِنّهُ بَعِيدٌ وَإِنّمَا قَالَ لَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ اجْعَلْهَا فِي الْأَقْرَبِينَ
حَوْلَ بَرَاءَةِ عَائِشَةَ
وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنّهُ لَمّا أَنْزَلَ اللّهُ
بَرَاءَتَهَا قَامَ إلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ فَقَبّلَ رَأْسَهَا ، فَقَالَتْ لَهُ هَلّا
كُنْت عَذَرْتنِي ، فَقَالَ أَيّ سَمَاءٍ تُظِلّنِي ، وَأَيّ أَرْضٍ تُقِلّنِي ،
إنْ قُلْت بِمَا لَا أَعْلَمُ وَكَانَ نُزُولُ بَرَاءَةِ عَائِشَةَ - رَضِيَ
اللّهُ عَنْهَا - بَعْدَ قُدُومِهِمْ الْمَدِينَةَ بِسَبْعِ وَثَلَاثِينَ لَيْلَةً
فِي قَوْلِ بَعْضِ الْمُفَسّرِينَ .
قَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ
يَعْتَذِرُ مِنْ الّذِي كَانَ قَالَ فِي شَأْنِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا [
ص 35 ] [ ص 36 ]
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنّ بِرِيبَةِ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ
الْغَوَافِلِ
عَقِيلَةُ حَيّ مِنْ لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ ... كِرَامِ الْمَسَاعِي مَجْدُهُمْ
غَيْرُ زَائِلِ
مُهَذّبَةٌ قَدْ طَيّبَ اللّهُ خِيمَهَا ... وَطَهّرَهَا مِنْ كُلّ سُوءٍ
وَبَاطِلِ
فَإِنْ كُنْت قَدْ قُلْت الّذِي قَدْ زَعَمْتُمْ ... فَلَا رَفَعَتْ سَوْطِي إلَيّ
أَنَامِلِي
وَكَيْفَ وَوُدّي مَا حَيِيت وَنُصْرَتِي ... لِآلِ رَسُولِ اللّهِ زَيْنُ
الْمَحَافِلِ
لَهُ رَتَبٌ عَالٍ عَلَى النّاسِ كُلّهِمْ ... تَقَاصَرُ عَنْهُ سَوْرَةُ
الْمُتَطَاوِلِ
فَإِنّ الّذِي قَدْ قِيلَ لَيْسَ بِلَائِطِ ... وَلَكِنّهُ قَوْلُ امْرِئِ بِي
مَاحِلِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : بَيْتُهُ " عَقِيلَةُ حَيّ " وَاَلّذِي بَعْدَهُ
وَبَيْتُهُ " لَهُ رَتَبٌ عَالٍ " عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيّ .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ أَنّ امْرَأَةً مَدَحَتْ
بِنْتَ حَسّانَ بْنِ ثَابِتٍ عِنْدَ عَائِشَةَ ، فَقَالَتْ
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنّ بِرِيبَةِ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ
الْغَوَافِلِ
فَقَالَتْ عَائِشَةُ : لَكِنْ أَبُوهَا .
شِعْرٌ فِي هِجَاءِ حَسّانَ وَمِسْطَحٍ
[ ص 37 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ قَائِلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي ضَرْبِ
حَسّانَ وَأَصْحَابِهِ فِي فِرْيَتِهِمْ عَلَى عَائِشَةَ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
فِي ضَرْبِ حَسّانَ وَصَاحِبَيْهِ [ ص 38 ]
لَقَدْ ذَاقَ حَسّانُ الّذِي كَانَ أَهْلَهُ ... وَحَمْنَةُ إذْ قَالُوا هَجِيرًا
وَمِسْطَحُ
تَعَاطَوْا بِرَجْمِ الْغَيْبِ زَوْجَ نَبِيّهِمْ ... وَسَخْطَةَ ذِي الْعَرْشِ
الْكَرِيمِ فَأُتْرِحُوا
وَآذَوْا رَسُولَ اللّهِ فِيهَا فَجُلّلُوا ... مَخَازِيَ تَبْقَى عَمّمُوهَا
وَفُضّحُوا
وَصَبّتْ عَلَيْهِمْ مُحْصِدَاتٌ كَأَنّهَا ... شَآبِيبُ قَطْرٍ مِنْ ذُرَى
الْمُزْنِ تُسْفَحُSشِعْرُ
حَسّانَ فِي مَدْحِ عَائِشَةَ
[ ص 34 ] عَائِشَةَ :
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنّ بِرِيبَةِ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ
الْغَوَافِلِ
[ ص 35 ] بِتَوَالِي الْفَتَحَاتِ مُشَاكَلَةَ خِفّةِ اللّفْظِ لِخِفّةِ
الْمَعْنَى ، أَيْ الْمُسَمّى بِهَذِهِ الصّفَاتِ خَفِيفٌ عَلَى النّفْسِ
وَحَصَانٌ مِنْ الْحِصْنِ وَالتّحَصّنِ وَهُوَ الِامْتِنَاعُ عَلَى الرّجَالِ مِنْ
نَظَرِهِمْ إلَيْهَا ، وَقَالَتْ جَارِيَةٌ مِنْ الْعَرَبِ لِأُمّهَا :
يَا أُمّتَا أَبْصَرَنِي رَاكِبٌ ... يَسِيرُ فِي مُسْحَنْفَرٍ لَاحِبِ
جَعَلْت أَحْثِي التّرَابَ فِي وَجْهِهِ ... حُصْنًا وَأَحْمِي حَوْزَةَ
الْغَائِبِ
فَقَالَتْ لَهَا أُمّهَا :
الْحُصْنُ أَدْنَى لَوْ تَآبَيْتِهِ ... مِنْ حَثْيِك التّرَبَ عَلَى الرّاكِبِ
ذَكَرَ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ السّيرَافِيّ فِي شَرْحِ
أَبْيَاتِ الْإِيضَاحِ وَالرّزَانُ وَالثّقَالُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهِيَ
الْقَلِيلَةُ الْحَرَكَةِ . وَقَوْلُهُ وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ
الْغَوَافِلِ
أَيْ خَمِيصَةَ الْبَطْنِ مِنْ لُحُومِ النّاسِ أَيْ اغْتِيَابِهِمْ وَضَرَبَ
الْغَرْثَ مَثَلًا ، وَهُوَ عَدَمُ الطّعْمِ وَخُلُوّ الْجَوْفِ وَفِي التّنْزِيلِ
{ أَيُحِبّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا } [ الْحُجُرَاتُ 12
] ضَرَبَ الْمَثَلَ لِأَخْذِهِ فِي الْعِرْضِ بِأَكْلِ اللّحْمِ لِأَنّ اللّحْمَ
سِتْرٌ عَلَى الْعَظْمِ وَالشّاتِمُ لِأَخِيهِ كَأَنّهُ يُقَشّرُ وَيَكْشِفُ مَا
عَلَيْهِ مِنْ سِتْرٍ . وَقَالَ مَيْتًا ، لِأَنّ الْمَيّتَ لَا يُحِسّ ،
وَكَذَلِكَ الْغَائِبُ لَا يَسْمَعُ مَا يَقُولُ فِيهِ الْمُغْتَابُ ثُمّ هُوَ فِي
التّحْرِيمِ كَأَكْلِ لَحْمِ الْمَيّتِ . وَقَوْلُهُ مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ
يُرِيدُ الْعَفَائِفَ الْغَافِلَةُ قُلُوبُهُنّ عَنْ الشّرّ كَمَا قَالَ
سُبْحَانَهُ { إِنّ الّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ
الْمُؤْمِنَاتِ } [ النّورُ 23 ] جَعَلَهُنّ غَافِلَاتٍ لِأَنّ الّذِي [ ص 36 ]
قَطّ وَلَا خَطَرَ عَلَى قُلُوبِهِنّ فَهُنّ فِي غَفْلَةٍ عَنْهُ وَهَذَا أَبْلَغُ
مَا يَكُونُ مِنْ الْوَصْفِ بِالْعَفَافِ . وَقَوْلُهُ لَهُ رَتَبٌ عَالٍ عَلَى
النّاسِ كُلّهِمْ
الرّتَبُ مَا ارْتَفَعَ مِنْ الْأَرْضِ وَعَلَا ، وَالرّتَبُ أَيْضًا : قُوّةٌ فِي
الشّيْءِ وَغِلَظٌ فِيهِ وَالسّوْرَةُ رُتْبَةٌ رَفِيعَةٌ مِنْ الشّرَفِ
مَأْخُوذَةُ اللّفْظِ مِنْ سُورِ الْبِنَاءِ . وَقَوْلُهُ فَإِنّ الّذِي قَدْ
قِيلَ لَيْسَ بِلَائِطِ
أَيْ بِلَاصِقِ يُقَالُ مَا يَلِيطُ ذَلِكَ بِفُلَانِ أَيْ مَا يُلْصَقُ بِهِ
وَمِنْهُ سُمّيَ الرّبَا : لِيَاطًا ، لِأَنّهُ أُلْصِقَ بِالْبَيْعِ وَلَيْسَ
بِبَيْعِ . وَفِي الْكِتَابِ الّذِي كَتَبَ لِثَقِيفِ وَمَا كَانَ مِنْ دَيْنٍ
لَيْسَ فِيهِ رَهْنٌ فَإِنّهُ لِيَاطٌ مُبَرّأٌ مِنْ اللّهِ . وَسَيَأْتِي
حَدِيثُهُ مُفَسّرًا إنْ شَاءَ اللّهُ . وَقَوْلُهُ فِي الشّعْرِ فَلَا رَفَعَتْ
سَوْطِي إلَيّ أَنَامِلِي
دُعَاءٌ عَلَى نَفْسِهِ وَفِيهِ تَصْدِيقٌ لِمَنْ قَالَ إنّ حَسّانَ لَمْ يُجْلَدْ
فِي الْإِفْكِ وَلَا خَاضَ [ ص 37 ] ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ : لَقَدْ ذَاقَ
حَسّانُ الّذِي كَانَ أَهْلَهُ
عَلَى خِلَافِ هَذَا اللّفْظِ
لَقَدْ ذَاقَ عَبْدُ اللّهِ مَا كَانَ أَهْلَهُ ... وَحَمْنَةُ إذْ قَالُوا : هَجِيرًا
وَمِسْطَحُ
مَا نَزَلَ فِي حَقّ
أَصْحَابِ الْإِفْكِ
وَذَكَرَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي أَصْحَابِ الْإِفْكِ وَقَوْلَهُ
تَعَالَى : { إِذْ تَلَقّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ } [ النّورُ 15ْ ] وَكَانَتْ
عَائِشَةُ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا تَقْرَؤُهَا : إذْ تَلِقُونَهُ
بِأَلْسِنَتِكُمْ مِنْ الْوَلَقِ وَهُوَ اسْتِمْرَارُ اللّسَانِ بِالْكَذِبِ .
وَأَمّا إقَامَةُ الْحَدّ عَلَيْهِمْ فَفِيهِ التّسْوِيَةُ بَيْنَ أَفْضَلِ
النّاسِ بَعْدَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأَدْنَى النّاسِ
دَرَجَةً فِي الْإِيمَانِ لَا يُزَادُ الْقَاذِفُ عَلَى الثّمَانِينَ وَإِنْ
شَتَمَ خَيْرَ النّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَلَا يَنْقُصُ مِنْهَا ، فَإِنْ قَذَفَ قَاذِفٌ الْيَوْمَ إحْدَى أُمّهَاتِ
الْمُؤْمِنِينَ سِوَى عَائِشَةَ ، فَيَتَوَجّهُ فِيهِ لِلْفُقَهَاءِ قَوْلَانِ
أَحَدُهُمَا : أَنْ يُجْلَدَ ثَمَانِينَ كَمَا يَقْتَضِيهِ عُمُومُ التّنْزِيلِ
وَكَمَا فَعَلَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِاَلّذِينَ قَذَفُوا
أَهْلَهُ قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ بِبَرَاءَتِهَا ، وَأَمّا بَعْدَ نُزُولِ
الْقُرْآنِ بِبَرَاءَتِهَا فَيُقْتَلُ قَاذِفُهَا قَتْلَ كُفْرٍ وَلَا يُصَلّى
عَلَيْهِ وَلَا يُورَثُ لِأَنّهُ كَذّبَ اللّهَ تَعَالَى . وَالْقَوْلُ الثّانِي
فِي قَاذِفِ أُمّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُنّ
أَنْ يُقْتَلَ أَيْضًا ، وَبِهِ كَانَ يَأْخُذُ شَيْخُنَا - رَحِمَهُ اللّهُ
تَعَالَى - وَيَحْتَجّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إِنّ الّذِينَ يُؤْذُونَ اللّهَ
وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللّهُ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ } [ الْأَحْزَابُ : 57
] الْآيَةُ وَإِذَا قَذَفَ أَزْوَاجَ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ فَقَدْ سَبّهُ .
فَمِنْ أَعْظَمِ الْإِذَايَةِ أَنْ يُقَالَ عَنْ الرّجُلِ قَرْنَانٌ وَإِذَا سُبّ
نَبِيّ بِمِثْلِ هَذَا فَهُوَ كُفْرٌ صُرَاحٌ وَقَدْ قَالَ الْمُفَسّرُونَ فِي
قَوْلِهِ تَعَالَى : { فَخَانَتَاهُمَا } أَيْ خَانَتَا فِي الطّاعَةِ لَهُمَا ،
وَالْإِيمَانِ وَمَا بَغَتْ امْرَأَةُ نَبِيّ قَطّ ، أَيْ مَا زَنَتْ .
إهْدَاءُ سِيرِينَ إلَى حَسّانَ
[ ص 38 ] وَذَكَرَ أَنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَعْطَى
حَسّانَ جَارِيَتَهُ بِضَرْبِ صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطّلِ لَهُ وَهَذِهِ
الْجَارِيَةُ اسْمُهَا سِيرِينُ بِنْتُ شَمْعُونَ أُخْتُ مَارِيَةَ سُرّيّةُ
النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهِيَ أُمّ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ
حَسّانَ الشّاعِرِ وَكَانَ عَبْدُ الرّحْمَنِ يَفْخَرُ بِأَنّهُ ابْنُ خَالَةِ
إبْرَاهِيمَ ابْنِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ رَوَتْ
سِيرِينُ هَذِهِ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَدِيثًا قَالَتْ
رَأَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَلَلًا فِي قَبْرِ
إبْرَاهِيمَ ابْنِهِ فَأَصْلَحَهُ وَقَالَ إنّ اللّهَ يُحِبّ مِنْ الْعَبْدِ إذَا
عَمِلَ عَمَلًا أَنْ يُصْلِحَهُ
أَمْرُ الْحُدَيْبِيَةِ فِي
آخِرِ سَنَةِ سِتّ ، وَذَكَرَ بَيْعَةَ الرّضْوَانِ وَالصّلْحَ
بَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَ سُهَيْلِ بْنِ
عَمْرٍو
[ ص 39 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ أَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْمَدِينَةِ شَهْرَ رَمَضَانَ وَشَوّالًا ، وَخَرَجَ فِي ذِي
الْقِعْدَةِ مُعْتَمِرًا ، لَا يُرِيدُ حَرْبًا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ نُمَيْلَةَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ اللّيْثِيّ . [ ص
40 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَاسْتَنْفَرَ الْعَرَبَ وَمَنْ حَوْلَهُ مِنْ أَهْلِ
الْبَوَادِي مِنْ الْأَعْرَابِ لِيَخْرُجُوا مَعَهُ وَهُوَ يَخْشَى مِنْ قُرَيْشٍ
الّذِي صَنَعُوا ، أَنْ يَعْرِضُوا لَهُ بِحَرْبِ أَوْ يَصُدّوهُ عَنْ الْبَيْتِ ،
فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ الْأَعْرَابِ ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ مَنْ
لَحِقَ بِهِ مِنْ الْعَرَبِ ، وَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ
لِيَأْمَنَ النّاسُ مِنْ حَرْبِهِ وَلِيَعْلَمَ النّاسُ أَنّهُ إنّمَا خَرَجَ
زَائِرًا لِهَذَا الْبَيْتِ وَمُعَظّمًا لَهُ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي
مُحَمّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ
عَنْ مِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ أَنّهُمَا حَدّثَاهُ
قَالَا : خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَامَ
الْحُدَيْبِيَةِ يُرِيدُ زِيَارَةَ الْبَيْتِ لَا يُرِيدُ قِتَالًا ، وَسَاقَ
مَعَهُ الْهَدْيَ سَبْعِينَ بَدَنَةً وَكَانَ النّاسُ سَبْعَمِائَةِ رَجُلٍ
فَكَانَتْ كُلّ بَدَنَةٍ عَنْ عَشْرَةِ نَفَر وَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ
، فِيمَا بَلَغَنِي ، يَقُولُ كُنّا أَصْحَابُ الْحُدَيْبِيَة أَرْبَعَ عَشْرَةَ
مِائَةً . [ ص 41 ] قَالَ الزّهْرِيّ : وَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى إذَا كَانَ بِعُسْفَانَ لَقِيَهُ بِشْرُ بْنُ سُفْيَانَ
الْكَعْبِيّ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ بُسْرٌ - فَقَالَ يَا رَسُولَ
اللّهِ هَذِهِ قُرَيْشٌ ، قَدْ سَمِعَتْ بِمَسِيرِك ، فَخَرَجُوا مَعَهُمْ
الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ قَدْ لَبِسُوا جُلُودَ النّمُورِ وَقَدْ نَزَلُوا بِذِي
طُوًى ، يُعَاهِدُونَ اللّهَ لَا تَدْخُلُهَا عَلَيْهِمْ أَبَدًا ، وَهَذَا
خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي خَيْلِهِمْ قَدْ قَدّمُوهَا إلَى كُرَاعِ الْغَمِيمِ
، قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا وَيْحَ
قُرَيْشٍ لَقَدْ أَكَلَتْهُمْ الْحَرْبُ ، مَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ خَلّوْا بَيْنِي
وَبَيْنَ سَائِرِ الْعَرَبِ ، فَإِنْ هُمْ أَصَابُونِي كَانَ الّذِي أَرَادُوا ،
وَإِنْ أَظْهَرَنِي اللّهُ عَلَيْهِمْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ وَافِرِينَ
وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا قَاتَلُوا وَبِهِمْ قُوّةٌ فَمَا تَظُنّ قُرَيْشٌ ،
فَوَاَللّهِ لَا أَزَالُ أُجَاهِدُ عَلَى الّذِي بَعَثَنِي اللّهُ بِهِ حَتّى
يُظْهِرَهُ اللّهُ أَوْ تَنْفَرِدَ هَذِهِ السّالِفَةُSغَزْوَةُ
الْحُدَيْبِيَةِ
[ ص 39 ] يُقَالُ فِيهَا : الْحُدَيْبِيَةُ بِالتّخْفِيفِ وَهُوَ الْأَعْرَفُ عِنْدَ
أَهْلِ الْعَرَبِيّةِ . قَالَ الْخَطّابِيّ : أَهْلُ الْحَدِيثِ يَقُولُونَ
الْحُدَيْبِيَةُ بِالتّشْدِيدِ وَالْجِعْرَانَةُ كَذَلِكَ وَأَهْلُ الْعَرَبِيّةِ
يَقُولُونَهُمَا : بِالتّخْفِيفِ وَقَالَ الْبَكْرِيّ : أَهْلُ الْعِرَاقِ
يُشَدّدُونَ الرّاءَ وَالْيَاءَ فِي الْجِعْرَانَةِ وَالْحُدَيْبِيَةِ وَأَهْلُ
الْحِجَازِ يُخَفّفُونَ وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النّحّاسُ سَأَلْت كُلّ مَنْ
لَقِيته مِمّنْ أَثِقُ بِعِلْمِهِ عَنْ الْحُدَيْبِيَةِ فَلَمْ يَخْتَلِفُوا عَلَى
أَنّهَا بِالتّخْفِيفِ . الْعِرَاقِ يُشَدّدُونَ الرّاءَ وَالْيَاءَ فِي
الْجِعْرَانَةِ وَالْحُدَيْبِيَةِ ، وَأَهْلُ الْحِجَازِ يُخَفّفُونَ وَقَالَ
أَبُو جَعْفَرٍ النّحّاسُ سَأَلْت كُلّ مَنْ لَقِيته مِمّنْ أَثِقُ بِعِلْمِهِ
عَنْ الْحُدَيْبِيَةِ ، فَلَمْ يَخْتَلِفُوا عَلَى أَنّهَا بِالتّخْفِيفِ .
الْمِيقَاتُ وَالْإِشْعَارُ
فَصْلٌ وَذَكَرَ خُرُوجَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مُعْتَمِرًا
إلَى مَكّةَ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي حَدِيثِهِ مِنْ أَيْنَ أَحْرَمَ وَفِي
الصّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ الزّهْرِيّ أَنّهُ أَحْرَمَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ
وَهُوَ خِلَافُ مَا يُرْوَى عَنْ [ ص 40 ] عَلِيّ رَحِمَهُ اللّهُ مِنْ قَوْلِهِ
إنّ تَمَامَ الْعُمْرَةِ أَنْ تُحْرِمَ بِهَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِك وَهَذَا
مِنْ قَوْلِ عَلِيّ مُتَأَوّلٌ فِيمَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ مِنْ وَرَاءِ الْمِيقَاتِ
فَهُوَ الّذِي يُحْرِمُ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ كَمَا يُحْرِمُ أَهْلُ مَكّةَ
مِنْ مَكّةَ فِي الْحَجّ . وَفِيهِ أَنّهُ أَشْعَرَ الْهَدْيَ وَهُوَ خِلَافُ
قَوْلِ النّخَعِيّ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ فِي قَوْلِهِمْ إنّ الْإِشْعَارَ مَنْسُوخٌ
بِنَهْيِهِ عَنْ الْمُثْلَةِ وَيُقَالُ لَهُمْ إنّ النّهْيَ عَنْ الْمُثْلَةِ
كَانَ بِإِثْرِ غَزْوَةِ أُحُدٍ فَلَا يَكُونُ النّاسِخُ مُتَقَدّمًا عَلَى
الْمَنْسُوخِ . الْكُوفَةِ فِي قَوْلِهِمْ إنّ الْإِشْعَارَ مَنْسُوخٌ بِنَهْيِهِ
عَنْ الْمُثْلَةِ وَيُقَالُ لَهُمْ إنّ النّهْيَ عَنْ الْمُثْلَةِ كَانَ بِإِثْرِ
غَزْوَةِ أُحُدٍ ، فَلَا يَكُونُ النّاسِخُ مُتَقَدّمًا عَلَى الْمَنْسُوخِ .
مِنْ شَرْحِ حَدِيثِ الْحُدَيْبِيَةِ
وَفِيهِ أَنّهُمْ مَرّوا بِطَرِيقِ أَجْرَدَ وَمَعْنَاهُ كَثِيرُ الْحِجَارَةِ
وَالْجَرَدُ الْحَجَرُ . وَفِيهِ أَنّهُ بَعَثَ عَيْنًا لَهُ مِنْ خُزَاعَةَ إلَى
مَكّةَ ، فَدَلّ عَلَى أَنّهُ يَجُوزُ لِلرّجُلِ أَنْ يُسَافِرَ وَحْدَهُ إذَا
مَسّتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ أَوْ كَانَ فِي ذَلِكَ صَلَاحٌ لِلْمُسْلِمَيْنِ .
وَفِي الْبُخَارِيّ وَالنّسَوِيّ أَنّ عَيْنَهُ الّذِي أَرْسَلَ جَاءَهُ بِغَدِيرِ
الْأَشْطَاطِ وَالْأَشْطَاطُ جَمْعُ شَطّ وَهُوَ السّنَامُ قَالَ الرّاجِزُ شَطّا
رَمَيْت فَوْقَهُ بِشَطّ
[ ص 41 ] الْوَادِي : أَيْضًا جَانِبُهُ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ فِيهِ الْأَشْظَاظُ
بِالظّاءِ الْمُعْجَمَةِ وَاسْمُ عَيْنِهِ ذَلِكَ بُسْرُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ
عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الْخُزَاعِيّ وَهُوَ الّذِي بَعَثَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَ بُدَيْلِ ابْنِ أُمّ أَصْرَمَ وَهُوَ بُدَيْلُ بْنُ
سَلَمَةَ إلَى خُزَاعَةَ يَسْتَنْفِرُهُمْ إلَى قِتَالِ أَهْلِ مَكّةَ عَامَ
الْفَتْحِ . وَفِيهِ أَنّ قُرَيْشًا خَرَجَتْ وَمَعَهَا الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ .
الْعُوذُ جَمْعُ عَائِذٍ وَهِيَ النّاقَةُ الّتِي مَعَهَا وَلَدُهَا ، يُرِيدُ
أَنّهُمْ خَرَجُوا بِذَوَاتِ الْأَلْبَانِ مِنْ الْإِبِلِ لِيَتَزَوّدُوا
أَلْبَانَهَا ، وَلَا يَرْجِعُوا ، حَتّى يُنَاجِزُوا مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ فِي
زَعْمِهِمْ وَإِنّمَا قِيلَ لِلنّاقَةِ عَائِذٌ وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ هُوَ
الّذِي يَعُوذُ بِهَا ، لِأَنّهَا عَاطِفٌ عَلَيْهِ كَمَا قَالُوا : تِجَارَةٌ
رَابِحَةٌ وَإِنْ كَانَتْ مَرْبُوحًا فِيهَا ، لِأَنّهَا فِي مَعْنَى نَامِيَةٍ
وَزَاكِيَةٍ ، وَكَذَلِكَ عِيشَةٌ رَاضِيَةٌ لِأَنّهَا فِي مَعْنَى صَالِحَةٍ
وَمِنْ نَحْوِ هَذَا قَوْلُهُ { وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا } [ الْفَتْحُ 25 ] وَإِنْ
كَانَ عَاكِفًا ، لِأَنّهُ مَحْبُوسٌ فِي الْمَعْنَى ، فَتَحَوّلَ وَزْنُهُ فِي
اللّفْظِ إلَى وَزْنِ مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ كَمَا قَالُوا فِي الْمَرْأَةِ
تُهْرَاقُ الدّمَاءَ وَقِيَاسُهُ تُهْرِيقُ الدّمَاءَ وَلَكِنّهُ فِي مَعْنَى :
تُسْتَحَاضُ فَحُوّلَ إلَى وَزْنِ مَا لَمْ يُسَمّ فَاعِلُهُ الدّمَاءُ
مَنْصُوبَةٌ عَلَى الْمَفْعُولِ كَمَا كَانَتْ . وَقَوْلُهُ فِي بِئْرِ
الْحُدَيْبِيَةِ : إنّمَا يُتَبَرّضُ مَاؤُهَا تَبَرّضًا مِنْ الْبَرَضِ وَهُوَ
الْمَاءُ الّذِي يَقْطُرُ قَلِيلًا قَلِيلًا ، وَالْبَارِضُ مِنْ النّبَاتِ الّذِي
كَأَنّهُ يَقْطُرُ مِنْ الرّيّ وَالنّعْمَةِ . قَالَ الشّاعِرُ
رَعَى بَارِضَ الْبُهْمَى جَمِيمًا وَبُسْرَةً ... وَصَمْعَاءَ حَتّى آنَفَتْهُ
نِصَالُهَا
يُقَالُ لِكُلّ شَيْءٍ فِي أَوّلِهِ بُسْرَةٌ حَتّى لِلشّمْسِ عِنْدَ طُلُوعِهَا ،
وَصَمْعَاءُ مُتّحِدَةٌ قَدْ شَوّكَتْ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ .
الرّسُولُ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَسْلُكُ طَرِيقًا غَيْرَ طَرِيقِ قُرَيْشٍ
[ ص 42 ] قَالَ مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ بِنَا عَلَى طَرِيقٍ غَيْرِ طَرِيقِهِمْ
الّتِي هُمْ بِهَا ؟ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي
بَكْرٍ : أَنّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ قَالَ أَنَا يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ
فَسَلَكَ بِهِمْ طَرِيقًا وَعِرًا أَجْرَلَ بَيْنَ شِعَابٍ فَلَمّا خَرَجُوا
مِنْهُ وَقَدْ شَقّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَفْضَوْا إلَى أَرْضٍ سَهْلَةٍ
عِنْدَ مُنْقَطَعِ الْوَادِي ؛ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ لِلنّاسِ " قُولُوا : نَسْتَغْفِرُ اللّهَ وَنَتُوبُ إلَيْهِ "
؛ فَقَالُوا ذَلِكَ فَقَالَ " وَاَللّهِ إنّهَا لَلْحِطّةُ الّتِي عُرِضَتْ
عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ " . فَلَمْ يَقُولُوهَا قَالَ ابْنُ شِهَابٍ :
فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّاسَ فَقَالَ اُسْلُكُوا
ذَاتَ الْيَمِينِ بَيْنَ ظَهْرَيْ الْحَمْشِ ، فِي طَرِيقٍ تُخْرِجُهُ عَلَى
ثَنِيّةِ الْمُرَارِ مَهْبِطِ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ أَسْفَلِ مَكّةَ قَالَ
فَسَلَكَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الطّرِيقَ فَلَمّا رَأَتْ خَيْلُ قُرَيْشٍ فَتْرَةَ
الْجَيْشِ قَدْ خَالَفُوا عَنْ طَرِيقِهِمْ رَجَعُوا رَاكِضِينَ إلَى قُرَيْشٍ ،
وَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى إذَا سَلَكَ فِي
ثَنِيّةِ الْمُرَارِ بَرَكَتْ نَاقَتُهُ فَقَالَتْ النّاسُ خَلَأَتْ النّاقَةُ
قَالَ " مَا خَلَأَتْ وَمَا هُوَ لَهَا بِخُلُقِ ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ
الْفِيلِ عَنْ مَكّةَ . لَا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ الْيَوْمَ إلَى خُطّةٍ
يَسْأَلُونَنِي فِيهَا صِلَةَ الرّحِمِ إلّا أَعْطَيْتهمْ إيّاهَا [ ص 43 ] قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَسْلَمَ
: أَنّ الّذِي نَزَلَ فِي الْقَلِيبِ بِسَهْمِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدُبِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ يَعْمَرَ بْنِ
دَارِمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَائِلَةَ بْنِ سَهْمِ بْنِ مَازِنِ بْنِ سَلَامَانَ
بْنِ أَسْلَمَ بْنِ أَفَصَى بْنِ أَبِي حَارِثَةَ ، وَهُوَ سَائِقُ بُدْنِ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَفْصَى بْنُ
حَارِثَةَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ زَعَمَ لِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ
أَنّ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ كَانَ يَقُولُ أَنَا الّذِي نَزَلْت بِسَهْمِ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ .
وَقَدْ أَنْشَدَتْ أَسْلَمُ أَبْيَاتًا مِنْ شِعْرٍ قَالَهَا نَاجِيَةُ قَدْ
ظَنَنّا أَنّهُ هُوَ الّذِي نَزَلَ بِالسّهْمِ فَزَعَمَتْ أَسْلَمُ أَنّ جَارِيَةً
مِنْ الْأَنْصَارِ أَقْبَلَتْ بِدَلْوِهَا ، وَنَاجِيَةُ فِي الْقَلِيبِ يَمِيحُ
عَلَى النّاسِ فَقَالَتْ
يَا أَيّهَا الْمَائِحُ دَلْوِي دُونَكَا ... إنّي رَأَيْت النّاسَ يَحْمَدُنّكَا
يُثْنُونَ خَيْرًا وَيُمَجّدُونَكَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُرْوَى : إنّي رَأَيْت النّاسَ يَمْدَحُونَكَا
- 44 - قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَقَالَ نَاجِيَةُ وَهُوَ فِي الْقَلِيبِ يَمِيحُ
عَلَى النّاسِ
قَدْ عَلِمَتْ جَارِيَةٌ يَمَانِيَهْ ... أَنّي أَنَا الْمَائِحُ وَاسْمِي
نَاجِيَهْ
وَطَعْنَةٍ ذَاتِ رَشَاشٍ وَاهِيَهْ ... طَعَنْتهَا عِنْدَ صُدُورِ الْعَادِيَهْS[ ص 42 ] وَذَكَرَ
أَنْ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ سَلَكَ بِهِمْ طَرِيقًا وَعِرًا أَجْرَلَ يُقَالُ إنّ
ذَلِكَ الرّجُلُ هُوَ نَاجِيَةُ الْأَسْلَمِيّ وَهُوَ سَائِقُ بُدْنِهِ وَهُوَ
نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدُبٍ وَيُقَالُ فِيهِ ابْنُ عُمَيْرٍ وَكَانَ اسْمُهُ
ذَكْوَانُ ، فَسَمّاهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَاجِيَةَ حِينَ
نَجَا مِنْ كُفّارِ قُرَيْشٍ ، وَعَاشَ إلَى زَمَنِ مُعَاوِيَةَ وَأَمّا صَاحِبُ
بُدْنِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثٍ
آخَرَ فِي الْمُوَطّإِ وَغَيْرِهِ فَاسْمُهُ ذُؤَيْبُ بْنُ حَلْحَلَةَ بْنِ
عَمْرِو بْنِ كُلَيْبِ بْنِ أَصْرَمَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ قُمَيْرِ بْنِ
حُبْشِيّةَ بْنِ سَلُولَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ ، وَهُوَ لُحَيّ
بْنُ حَارِثَةَ جَدّ خُزَاعَةَ ، وَذُؤَيْبٌ هَذَا هُوَ وَالِدُ قَبِيصَةَ بْنِ
ذُؤَيْبٍ الْقَاضِي صَاحِبُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ ، وَعَاشَ ذُؤَيْبٌ
إلَى خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ أَيْضًا . وَذَكَرَ فِي نَسَبِ أَسْلَمَ بْنِ أَفْصَى
بْنِ أَبِي حَارِثَةَ وَهُوَ وَهْمٌ وَقَدْ أَصْلَحَهُ ابْنُ هِشَامٍ ، فَقَالَ
هُوَ حَارِثَةُ يَعْنِي ابْنَ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ مَاءِ
السّمَاءِ بْنِ حَارِثَةَ الْغِطْرِيفُ بْنُ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ
بْنِ مَازِنِ بْنِ الْأَسَدِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ إسْحَاقَ لَمْ
يَهِمْ فِيهِ وَلَكِنّهُ نَسَبَهُ إلَى أَبِي حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ
، وَهُوَ عَمّ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ وَحَارِثَةُ هُوَ أَبُو الْأَوْسِ
وَالْخَزْرَجِ . وَذَكَرَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لَا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ
الْيَوْمَ إلَى خُطّةٍ الْحَدِيثُ وَفِي غَيْرِ [ ص 43 ] ابْنِ إسْحَاقَ عَنْ
الزّهْرِيّ أَنّهُ قَالَ وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْعُونِي قُرَيْش
وَلَمْ يَقُلْ فِي الْحَدِيثِ إنْ شَاءَ اللّهُ وَقَدْ تَكَلّمُوا فِي ذَلِكَ
فَقِيلَ إنّمَا أَسْقَطَ الِاسْتِثْنَاءَ لِأَنّهُ أَمْرٌ وَاجِبٌ كَانَ قَدْ
أَمَرَ بِهِ أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ فِي الْحَدِيثِ إنّمَا أَنَا عَبْدُ اللّهِ
وَرَسُولُهُ لَنْ أُخَالِفَ أَمْرَهُ ، وَلَنْ يُضَيّعَنِي وَقِيلَ إنّ إسْقَاطَ
الِاسْتِثْنَاءِ إنّمَا هُوَ مِنْ الرّاوِي إمّا نَسِيَهُ وَإِمّا لَمْ يَحْفَظْهُ
. وَفِي الْحَدِيثِ أَوْ تَنْفَرِدُ هَذِهِ السّالِفَةُ . السّالِفَةُ صَفْحَةُ
الْعُنُقِ وَانْفِرَادُهَا عِبَارَةٌ عَنْ الْقَتْلِ أَوْ الذّبْحِ وَفِي الرّجَزِ
الّذِي أَنْشَدَهُ يَا أَيّهَا الْمَائِحُ دَلْوِي دُونَكَا
لَوْ قَالَ دُونَك دَلْوِي لَكَانَ الدّلْوُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْإِغْرَاءِ
فَلَمّا قَدّمَهَا عَلَى دُونَك ، لَمْ يَجُزْ نَصْبُهَا بِدُونِك ، وَلَكِنّهُ
بِفِعْلِ آخَرَ كَأَنّهُ قَالَ امْلَأْ دَلْوِي ، فَقَوْلُهُ دُونَكَا أَمْرٌ
بَعْدَ أَمْرٍ .
فَقَالَ الزّهْرِيّ فِي
حَدِيثِهِ فَلَمّا اطْمَأَنّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَتَاهُ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيّ ، فِي رِجَالٍ مِنْ خُزَاعَةَ ،
فَكَلّمُوهُ وَسَأَلُوهُ مَا الّذِي جَاءَ بِهِ ؟ فَأَخْبَرَهُمْ أَنّهُ لَمْ
يَأْتِ يُرِيدُ حَرْبًا ، وَإِنّمَا جَاءَ زَائِرًا لِلْبَيْتِ ، وَمُعَظّمًا
لِحُرْمَتِهِ ثُمّ قَالَ لَهُمْ نَحْوًا مِمّا قَالَ لِبِشْرِ بْنِ سُفْيَانَ
فَرَجَعُوا إلَى قُرَيْشٍ فَقَالُوا : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إنّكُمْ
تَعْجَلُونَ عَلَى مُحَمّدٍ إنّ مُحَمّدًا لَمْ يَأْتِ لِقِتَالِ وَإِنّمَا جَاءَ
زَائِرًا هَذَا الْبَيْتَ ، فَاتّهَمُوهُمْ وَجَبّهُوهُمْ وَقَالُوا : وَإِنْ
كَانَ جَاءَ وَلَا يُرِيدُ قِتَالًا ، فَوَاَللّهِ لَا يَدْخُلُهَا عَلَيْنَا
عَنْوَةً أَبَدًا ، وَلَا تَحَدّثُ بِذَلِكَ عَنّا الْعَرَبُ . قَالَ الزّهْرِيّ :
وَكَانَتْ خُزَاعَةُ عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
مُسْلِمُهَا وَمُشْرِكُهَا ، لَا يُخْفُونَ عَنْهُ شَيْئًا كَانَ بِمَكّةَ . قَالَ
ثُمّ بَعَثُوا إلَيْهِ مِكْرَزَ بْنَ حَفْصِ بْنِ الْأَخْيَفِ ، أَخَا بَنِي
عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ ، فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مُقْبِلًا قَالَ هَذَا رَجُلٌ غَادِر فَلَمّا انْتَهَى إلَى رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَلّمَهُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَحْوًا مِمّا قَالَ لِبُدَيْلٍ وَأَصْحَابِهِ
فَرَجَعَ إلَى قُرَيْشٍ فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . ثُمّ بَعَثُوا إلَيْهِ الْحُلَيْسَ بْنَ عَلْقَمَةَ
أَوْ ابْنَ زَبّانٍ وَكَانَ يَوْمَئِذٍ سَيّدَ الْأَحَابِيشِ ، وَهُوَ أَحَدُ
بَنِي الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ ؛ فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ إنّ هَذَا مِنْ قَوْمٍ يَتَأَلّهُونَ ،
فَابْعَثُوا الْهَدْيَ فِي وَجْهِهِ حَتّى يَرَاهُ فَلَمّا رَأَى الْهَدْيَ
يَسِيلُ عَلَيْهِ مِنْ عُرْضِ الْوَادِي فِي قَلَائِدِهِ وَقَدْ أَكَلَ
أَوْبَارَهُ مِنْ طُولِ الْحَبْسِ عَنْ مَحَلّهِ رَجَعَ إلَى قُرَيْشٍ ، وَلَمْ
يَصِلْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إعْظَامًا لِمَا رَأَى
، فَقَالَ لَهُمْ ذَلِكَ . قَالَ فَقَالُوا لَهُ اجْلِسْ فَإِنّمَا أَنْتَ
أَعْرَابِيّ لَا عِلْمَ لَك . [ ص 45 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَبْدُ
اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ : أَنّ الْحُلَيْسَ غَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ وَقَالَ يَا
مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وَاَللّهِ مَا عَلَى هَذَا حَالَفْنَاكُمْ ، وَلَا عَلَى هَذَا
عَاقَدْنَاكُمْ . أَيُصَدّ عَنْ بَيْتِ اللّهِ مَنْ جَاءَ مُعَظّمًا لَهُ
وَاَلّذِي نَفْسُ الْحُلَيْسِ بِيَدِهِ لَتُخَلّنّ بَيْنَ مُحَمّدٍ وَبَيْنَ مَا
جَاءَ لَهُ أَوْ لَأُنَفّرَنّ بِالْأَحَابِيشِ نُفْرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ . قَالَ
فَقَالُوا لَهُ مَهْ كُفّ عَنّا يَا حُلَيْسُ حَتّى نَأْخُذَ لِأَنْفُسِنَا مَا
نَرْضَى بِهِ - 44ْ - وَفِيهِ قَوْلُهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي
الْحُلَيْسِ إنّ هَذَا مِنْ قَوْمٍ يَتَأَلّهُونَ أَيْ يُعَظّمُونَ أَمْرَ
الْإِلَهِ وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ سَبّحْنَ وَاسْتَرْجَعْنَ مَنْ تَأَلّهَ
أَيْ مِنْ تَنَسّكٍ وَتَعْظِيمٍ لِلّهِ سُبْحَانَهُ .
قَالَ الزّهْرِيّ فِي حَدِيثِهِ
ثُمّ بَعَثُوا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عُرْوَةَ بْنَ
مَسْعُودٍ الثّقَفِيّ ؛ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إنّي قَدْ رَأَيْت مَا
يَلْقَى مِنْكُمْ مَنْ بَعَثْتُمُوهُ إلَى مُحَمّدٍ إذْ جَاءَكُمْ مِنْ
التّعْنِيفِ وَسُوءِ اللّفْظِ وَقَدْ عَرَفْتُمْ أَنّكُمْ وَالِدٌ وَإِنّي وَلَدٌ
- وَكَانَ عُرْوَةُ لِسُبَيْعَةَ بِنْتِ عَبْدِ شَمْسٍ - وَقَدْ سَمِعْت بِاَلّذِي
نَابَكُمْ فَجَمَعْت مَنْ أَطَاعَنِي مِنْ قَوْمِي ، ثُمّ جِئْتُكُمْ حَتّى
آسَيْتُكُمْ بِنَفْسِي ، قَالُوا : صَدَقْت ، مَا أَنْتَ عِنْدَنَا بِمُتّهَمِ .
فَخَرَجَ حَتّى أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَجَلَسَ
بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمّ قَالَ يَا مُحَمّدُ أَجَمَعْت أَوْشَابَ النّاسِ ثُمّ جِئْت
بِهِمْ إلَى بَيْضَتِك لِتَفُضّهَا بِهِمْ إنّهَا قُرَيْشٌ قَدْ خَرَجَتْ مَعَهَا
الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ . قَدْ لَبِسُوا جُلُودَ النّمُورِ يُعَاهِدُونَ اللّهَ
لَا تَدْخُلُهَا عَلَيْهِمْ عَنْوَةً أَبَدًا وَاَيْمُ اللّهِ لَكَأَنّي
بِهَؤُلَاءِ قَدْ انْكَشَفُوا عَنْك غَدًا . قَالَ وَأَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ
خَلْفَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَاعِدٌ فَقَالَ اُمْصُصْ
بَظْرَ اللّاتِ ، أَنَحْنُ نَتَكَشّفُ عَنْهُ ؟ قَالَ مَنْ هَذَا يَا مُحَمّدُ ؟
قَالَ هَذَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ ، قَالَ أَمَا وَاَللّهِ لَوْلَا يَدٌ [ ص 46 ]
كَانَتْ لَك عِنْدِي لَكَافَأْتُك بِهَا ، وَلَكِنّ هَذِهِ بِهَا ، قَالَ ثُمّ
جَعَلَ يَتَنَاوَلُ لِحْيَةَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَهُوَ يُكَلّمُهُ قَالَ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَاقِفٌ عَلَى رَأْسِ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْحَدِيدِ . قَالَ فَجَعَلَ
يَقْرَعُ يَدَهُ إذَا تَنَاوَلَ لِحْيَةَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَيَقُولُ اُكْفُفْ يَدَك عَنْ وَجْهِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ أَنْ لَا تَصِلَ إلَيْك ، قَالَ فَيَقُولُ عُرْوَةُ
وَيْحَك مَا أَفَظّك وَأَغْلَظَك قَالَ فَتَبَسّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ مَنْ هَذَا يَا مُحَمّدُ ؟ قَالَ "
هَذَا ابْنُ أَخِيك الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ " ، قَالَ أَيْ غُدَرُ وَهَلْ
غَسَلْت سَوْءَتَك إلّا بِالْأَمْسِ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَرَادَ عُرْوَةُ
بِقَوْلِهِ هَذَا أَنّ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ قَبْلَ إسْلَامِهِ قَتَلَ
ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي مَالِكٍ مِنْ ثَقِيفٍ ، فَتَهَايَجَ
الْحَيّانِ مِنْ ثَقِيفٍ : بَنُو مَالِكٍ رَهْطُ الْمَقْتُولِينَ وَالْأَحْلَافُ
رَهْطُ الْمُغِيرَةِ فَوَدَى عُرْوَةُ الْمَقْتُولِينَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ دِيَةً
وَأَصْلَحَ ذَلِكَ الْأَمْرَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : قَالَ الزّهْرِيّ :
فَكَلّمَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِنَحْوِ مِمّا كَلّمَ
بِهِ أَصْحَابَهُ وَأَخْبَرَهُ أَنّهُ لَمْ يَأْتِ يُرِيدُ حَرْبًا . فَقَامَ مِنْ
عِنْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ رَأَى مَا يَصْنَعُ
بِهِ أَصْحَابُهُ لَا يَتَوَضّأُ إلّا ابْتَدَرُوا وَضُوءَهُ وَلَا يَبْصُقُ
بُصَاقًا إلّا ابْتَدَرُوهُ وَلَا يَسْقُطُ مِنْ شَعْرِهِ شَيْءٌ إلّا أَخَذُوهُ .
فَرَجَعَ إلَى قُرَيْشٍ ، فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إنّي قَدْ جِئْت كِسْرَى
فِي مُلْكِهِ ، وَقَيْصَرَ فِي مُلْكِهِ وَالنّجَاشِيّ فِي مُلْكِهِ وَإِنّي
وَاَللّهِ مَا رَأَيْت مَلِكًا فِي قَوْمٍ قَطّ مِثْلَ مُحَمّدٍ فِي أَصْحَابِهِ
وَلَقَدْ رَأَيْت قَوْمًا لَا يُسْلِمُونَهُ لِشَيْءِ أَبَدًا ، فَرُوا رَأْيَكُمْ
[ ص 47 ] ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَعَا خِرَاشَ بْنَ أُمَيّةَ الْخُزَاعِيّ
، فَبَعَثَهُ إلَى قُرَيْشٍ بِمَكّةَ ، وَحَمَلَهُ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ يُقَالُ
لَهُ الثّعْلَبُ لِيُبْلِغَ أَشْرَافَهُمْ عَنْهُ مَا جَاءَ لَهُ فَعَقَرُوا بِهِ
جَمَلَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَرَادُوا قَتْلَهُ
فَمَنَعَتْهُ الْأَحَابِيشُ ، فَخَلّوْا سَبِيلَهُ حَتّى أَتَى رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ حَدّثَنِي بَعْضُ
مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ :
أَنّ قُرَيْشًا كَانُوا بَعَثُوا أَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ أَوْ خَمْسِينَ
رَجُلًا ، وَأَمَرُوهُمْ أَنْ يُطِيفُوا بِعَسْكَرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِيُصِيبُوا لَهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِ أَحَدًا ، فَأُخِذُوا
أَخْذًا ، فَأُتِيَ بِهِمْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَعَفَا
عَنْهُمْ وَخَلّى سَبِيلَهُمْ وَقَدْ كَانُوا رَمَوْا فِي عَسْكَرِ رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْحِجَارَةِ وَالنّبْلِ . ثُمّ دَعَا عُمَرُ
بْنُ الْخَطّابِ لِيَبْعَثَهُ إلَى مَكّةَ ، فَيُبَلّغَ عَنْهُ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ
مَا جَاءَ لَهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي أَخَافُ قُرَيْشًا عَلَى نَفْسِي
، وَلَيْسَ بِمَكّةَ مِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ أَحَدٌ يَمْنَعُنِي ، وَقَدْ
عَرَفَتْ قُرَيْشٌ عَدَاوَتِي إيّاهَا ، وَغِلْظَتِي عَلَيْهَا ، وَلَكِنّي
أَدُلّك عَلَى رَجُلٍ أَعَزّ بِهَا مِنّي ، عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ . فَدَعَا رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ ، فَبَعَثَهُ إلَى
أَبِي سُفْيَانَ وَأَشْرَافِ قُرَيْشٍ ، يُخْبِرُهُمْ أَنّهُ لَمْ يَأْتِ لِحَرْبِ
وَأَنّهُ إنّمَا جَاءَ زَائِرًا لِهَذَا الْبَيْتِ ، وَمُعَظّمًا لِحُرْمَتِهِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَخَرَجَ عُثْمَانُ إلَى مَكّةَ ، فَلَقِيَهُ أَبَانُ بْنُ
سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ حِينَ دَخَلَ مَكّةَ ، أَوْ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَهَا ،
فَحَمَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمّ أَجَارَهُ حَتّى بَلّغَ رِسَالَةَ رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَانْطَلَقَ عُثْمَانُ حَتّى أَتَى أَبَا
سُفْيَانَ وَعُظَمَاءَ قُرَيْشٍ ، فَبَلّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَا أَرْسَلَهُ بِهِ فَقَالُوا لِعُثْمَانِ حِينَ فَرَغَ مِنْ
رِسَالَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَيْهِمْ إنْ شِئْت
أَنْ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ فَطُفْ فَقَالَ مَا كُنْت لِأَفْعَل حَتّى يَطُوفَ بِهِ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَاحْتَبَسَتْهُ قُرَيْشٌ
عِنْدَهَا ، فَبَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَالْمُسْلِمِينَ أَنّ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ قَدْ قُتِلَ .Sوَصْفُ
الْجَمْعِ بِالْمُفْرَدِ
[ ص 45 ] وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنْتُمْ حَيّ قَدْ وَلَدَنِي ، لِأَنّهُ كَانَ
لِسُبَيْعَةَ بِنْتِ عَبْدِ شَمْسٍ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي
الْجَمَاعَةِ هُمْ لِي صَدِيقٌ وَعَدُوّ . وَفِي التّنْزِيلِ { وَحَسُنَ أُولَئِكَ
رَفِيقًا } [ النّسَاءُ 69 ] فَيُفْرَدُ لِأَنّهُ صِفَةٌ لِفَرِيقِ وَحِزْبٍ
وَيَقْبُحُ أَنْ تَقُولَ قَوْمُك ضَاحِكٌ أَوْ بَاكٍ وَإِنّمَا يَحْسُنُ هَذَا
إذَا وَصَفْت بِصَدِيقِ وَرَفِيقٍ وَعَدُوّ لِأَنّهَا صِفَةٌ تَصْلُحُ لِلْفَرِيقِ
وَالْحِزْبِ لِأَنّ الْعَدَاوَةَ وَالصّدَاقَةَ صِفَتَانِ مُتَضَادّتَانِ فَإِذَا
كَانَ عَلَى أَحَدِهِمَا الْفَرِيقُ الْوَاحِدُ كَانَ الْآخَرُ عَلَى ضِدّهَا ،
وَكَانَتْ قُلُوبُ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ فِي تِلْكَ الصّفَةِ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ
وَاحِدٍ فِي عُرْفِ الْعَادَةِ فَحَسُنَ الْإِفْرَادُ وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِثْلُ
هَذَا فِي الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَنَحْوِهِ حَتّى يُقَالَ هُمْ قَاعِدٌ أَوْ
قَائِمٌ كَمَا يُقَالُ هُمْ صَدِيقٌ لِمَا قَدّمْنَاهُ مِنْ الِاتّفَاقِ
وَالِاخْتِلَافِ . وَأَمّا قَوْلُهُ تَعَالَى : { يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا } [
غَافِرٌ 67 ] ، بِلَفْظِ الْإِفْرَادِ وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ { وَإِذَا
بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ } [ النّورُ 59 ] فَالْأَحْسَنُ فِي
حُكْمِ الْبَلَاغَةِ أَنْ يُعَبّرَ عَنْ الْأَطْفَالِ الرّضّعِ بِالطّفْلِ فِي الْوَاحِدِ
وَالْجَمِيعِ لِأَنّهُمْ مَعَ حِدْثَانِ الْوِلَادَةِ كَالْجِنْسِ الّذِي يَقَعُ
عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ بِلَفْظِ وَاحِدٍ أَلَا تَرَى أَنّ بَدْءَ
الْخَلْقِ طِينٌ ثُمّ مَنِيّ ، وَالْمَنِيّ جِنْسٌ لَا يَتَمَيّزُ بَعْضُهُ مِنْ
بَعْضٍ فَلِذَلِكَ لَا [ ص 46 ] وَعَرَفَ النّاسُ صُوَرَهُمْ بَعْضَهُمْ مِنْ
بَعْضٍ فَصَارُوا كَالرّجَالِ وَالْفِتْيَانِ قِيلَ فِيهِمْ حِينَئِذٍ أَطْفَالٌ
كَمَا يُقَالُ رِجَالٌ وَفِتْيَانٌ وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ
بِالْأَجِنّةِ أَنّهُمْ مُغَيّبُونَ فِي الْبُطُونِ فَلَمْ يَكُونُوا كَالْجِنْسِ
الظّاهِرِ لِلْعُيُونِ كَالْمَاءِ وَالطّينِ وَالْعَلَقِ وَإِنّمَا جَمْعُ
الْجَنِينِ عَلَى أَجِنّةٍ وَحَسُنَ ذَلِكَ فِيهِ لِأَنّهُ تَبَعٌ لِلْبَطْنِ
الّذِي هُوَ فِيهِ وَيُقَوّي هَذَا الْغَرَضَ الّذِي صَمَدْنَا إلَيْهِ فِي
الطّفْلِ قَوْلُ رَجُلٍ مِنْ بَنِي مَجَاعَةَ لِعُمَرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ
وَقَدْ سَأَلَهُ هَلْ بَقِيَ مِنْ كُهُولِ بَنِي مَجَاعَةَ أَحَدٌ ؟ قَالَ نَعَمْ
وَشَكِيرٌ كَثِيرٌ فَانْظُرْ كَيْفَ قَالَ الْكُهُولُ وَجَمَعَ ، وَقَالَ فِي
الصّغَارِ شَكِيرٌ كَمَا تَقُولُ حَشِيشٌ وَنَبَاتٌ فَتُفْرَدُ لِأَنّهُ جِنْسٌ
وَاحِدٌ وَالطّفْلُ فِي مَعْنَى الشّكِيرِ مَا دَامُوا رُضّعًا ، حَتّى
يَتَمَيّزُوا بِالْأَسْمَاءِ وَالصّوَرِ عِنْدَ النّاسِ فَهَذَا حُكْمُ
الْبَلَاغَةِ وَمَسَاقُ الْفَصَاحَةِ فَافْهَمْهُ . [ ص 47 ] الْأَوْبَاشُ . وَقَوْلُهُ
فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ أَمّا الْمَالُ فَلَسْت مِنْهُ فِي شَيْء فِيهِ مِنْ
الْفِقْهِ أَنّ أَمْوَالَ الْمُشْرِكِينَ حَرَامٌ إذَا أَمّنُوك وَأَمّنْتهمْ
وَإِنّمَا يَحِلّ بِالْمُحَارَبَةِ وَالْمُغَالَبَةِ لَا عِنْدَ طُمَأْنِينَتِهِمْ
إلَيْك وَأَمَنَتِهِمْ مِنْك ، فَإِنّ ذَلِكَ هُوَ الْغَدْرُ وَفِي هَذَا
الْمَعْنَى آثَارٌ قَدْ مَضَى بَعْضُهَا ، وَسَيَأْتِي بَعْضُهَا فِي غَزْوَةِ
خَيْبَرَ وَغَيْرِهَا . [ ص 48 ] كَانُوا يَتَدَلّكُونَ بِنُخَامَةِ النّبِيّ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا تَنَخّمَ . وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى
طَهَارَةِ النّخَامَةِ خِلَافًا لِلنّخَعِيّ وَمَا يُرْوَى فِي ذَلِكَ عَنْ
سَلْمَانَ الْفَارِسِيّ . وَحَدِيثُ إذَا تَنَخّمَ أَحَدُكُمْ فِي الصّلَاة
أَبْيَنُ فِي الْحُجّةِ لِأَنّ حَدِيثَ السّيرَةِ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ
بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
بَيْعَةُ الرّضْوَانِ
[ ص 48 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ :
أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ حِينَ بَلَغَهُ أَنّ
عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ لَا نَبْرَحُ حَتّى نُنَاجِزَ الْقَوْمَ فَدَعَا رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّاسَ إلَى الْبَيْعَةِ . فَكَانَتْ
بَيْعَةُ الرّضْوَانِ تَحْتَ الشّجَرَةِ ، فَكَانَ النّاسُ يَقُولُونَ بَايَعَهُمْ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى الْمَوْتِ وَكَانَ جَابِرُ
بْنُ عَبْدِ اللّهِ يَقُولُ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
لَمْ يُبَايِعْنَا عَلَى الْمَوْتِ وَلَكِنْ بَايَعَنَا عَلَى أَنْ لَا نَفِرّ .
فَبَايَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّاسَ وَلَمْ
يَتَخَلّفْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَضَرَهَا ، إلّا الْجَدّ بْنُ
قَيْسٍ ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ فَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ يَقُولُ
وَاَللّهِ لَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَيْهِ لَاصِقًا بِإِبْطِ نَاقَتِهِ . قَدْ ضَبَأَ
إلَيْهَا ، يَسْتَتِرُ بِهَا مِنْ النّاسِ . ثُمّ أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ الّذِي ذُكِرَ مِنْ أَمْرِ عُثْمَانَ بَاطِلٌ .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَذَكَرَ وَكِيعٌ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ ،
عَنْ الشّعْبِيّ : أَنّ أَوّلَ مَنْ بَايَعَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بَيْعَةَ الرّضْوَانِ أَبُو سِنَانٍ الْأَسَدِيّ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
وَحَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ عَمّنْ حَدّثَهُ بِإِسْنَادِ لَهُ عَنْ ابْنِ أَبِي
مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ أَبِي عُمَرَ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بَايَعَ لِعُثْمَانِ فَضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى .
أَمْرُ الْهُدْنَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : قَالَ الزّهْرِيّ : ثُمّ بَعَثَتْ قُرَيْشٌ سُهَيْلَ بْنَ
عَمْرٍو ، أَخَا بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ ، إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالُوا لَهُ ائْتِ مُحَمّدًا فَصَالِحْهُ وَلَا يَكُنْ فِي
صُلْحِهِ إلّا أَنْ [ ص 49 ] عَامَهُ هَذَا ، فَوَاَللّهِ لَا تُحَدّثُ الْعَرَبُ
عَنّا أَنّهُ دَخَلَهَا عَلَيْنَا عَنْوَةً أَبَدًا . فَأَتَاهُ سُهَيْلُ بْنُ
عَمْرٍو ؛ فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُقْبِلًا
، قَالَ قَدْ أَرَادَ الْقَوْمُ الصّلْحَ حِينَ بَعَثُوا هَذَا الرّجُلَ فَلَمّا
انْتَهَى سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ تَكَلّمَ فَأَطَالَ الْكَلَامَ وَتَرَاجَعَا ثُمّ جَرَى بَيْنَهُمَا الصّلْحُ
. فَلَمّا الْتَأَمَ الْأَمْرُ وَلَمْ يَبْقَ إلّا الْكِتَابُ وَثَبَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطّابِ ، فَأَتَى أَبَا بَكْر ٍ فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ ، أَلَيْسَ
بِرَسُولِ اللّهِ ؟ قَالَ بَلَى . قَالَ أَوَلَسْنَا بِالْمُسْلِمِينَ ؟ قَالَ
بَلَى ، قَالَ أَوَلَيْسُوا بِالْمُشْرِكِينَ ؟ قَالَ بَلَى ، قَالَ فَعَلَامَ
نُعْطِيَ الدّنِيّةَ فِي دِينِنَا ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : يَا عُمَرُ الْزَمْ
غَرْزَهُ فَإِنّي أَشْهَدُ أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ قَالَ عُمَرُ وَأَنَا أَشْهَدُ
أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ ثُمّ أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَلَسْت بِرَسُولِ اللّهِ ؟ قَالَ " بَلَى "
، قَالَ أَوَلَسْنَا بِالْمُسْلِمِينَ ؟ قَالَ " بَلَى " ، قَالَ
أَوَلَيْسُوا بِالْمُشْرِكِينَ ؟ قَالَ " بَلَى " ، قَالَ فَعَلَامَ
نُعْطِي الدّنِيّةَ فِي دِينِنَا ؟ قَالَ " أَنَا عَبْدُ اللّهِ وَرَسُولُهُ
لَنْ أُخَالِفَ أَمْرَهُ ، وَلَنْ يُضَيّعَنِي " قَالَ فَكَانَ عُمَرُ
يَقُولُ مَا زِلْت أَتَصَدّقُ وَأَصُومُ وَأُصَلّي وَأُعْتِقُ مِنْ الّذِي صَنَعْت
يَوْمَئِذٍ مَخَافَةَ كَلَامِي الّذِي تَكَلّمْت بِهِ حَتّى رَجَوْت أَنْ يَكُونَ
خَيْرًا .
عَلِيّ يَكْتُبُ شُرُوطَ الصّلْحِ
[ ص 50 ] قَالَ ثُمّ دَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلِيّ
بْنَ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ فَقَالَ اُكْتُبْ بِسْمِ اللّهِ
الرّحْمَنِ الرّحِيمِ قَالَ فَقَالَ سُهَيْلٌ لَا أَعْرِفُ هَذَا ، وَلَكِنْ
اُكْتُبْ بِاسْمِك اللّهُمّ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ " اُكْتُبْ بِاسْمِك اللّهُمّ " ، فَكَتَبَهَا ، ثُمّ قَالَ
" اُكْتُبْ هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ سُهَيْلَ
بْنَ عَمْرٍو " ، قَالَ فَقَالَ سُهَيْلٌ لَوْ شَهِدْت أَنّك رَسُولُ اللّهِ
لَمْ أُقَاتِلْك ، وَلَكِنْ اُكْتُبْ اسْمَك وَاسْمَ أَبِيك ، قَالَ فَقَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " اُكْتُبْ هَذَا مَا صَالَحَ
عَلَيْهِ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو ، اصْطَلَحَا عَلَى
وَضْعِ الْحَرْبِ عَنْ النّاسِ [ ص 51 ] قُرَيْشٍ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيّهِ رَدّهُ
عَلَيْهِمْ وَمَنْ جَاءَ قُرَيْشًا مِمّنْ مَعَ مُحَمّدٍ لَمْ يَرُدّوهُ عَلَيْهِ
وَأَنّ بَيْنَنَا عَيْبَةً مَكْفُوفَةً وَأَنّهُ لَا إسْلَالَ وَلَا إغْلَالَ
وَأَنّهُ مَنْ أَحَبّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عِقْدِ مُحَمّدٍ وَعَهْدِهِ دَخَلَ فِيهِ
وَمَنْ أَحَبّ أَنْ يَدْخُلَ فِي عِقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ دَخَلَ فِيهِ
خُزَاعَةُ فِي عَهْدِ مُحَمّدٍ وَبَنُو بَكْرٍ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ
[ ص 52 ] خُزَاعَةُ فَقَالُوا : نَحْنُ فِي عِقْدِ مُحَمّدٍ وَعَهْدِهِ
وَتَوَاثَبَتْ بَنُو بَكْرٍ فَقَالُوا : نَحْنُ فِي عِقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ
وَأَنّك تَرْجِعُ عَنّا عَامَك هَذَا ، فَلَا تَدْخُلُ عَلَيْنَا مَكّةَ ،
وَأَنّهُ إذَا كَانَ عَامٌ قَابِلٌ خَرَجْنَا عَنْك فَدَخَلْتهَا بِأَصْحَابِك ،
فَأَقَمْت بِهَا ثَلَاثًا ، مَعَك سِلَاحُ الرّاكِبِ السّيُوفُ فِي الْقُرُبِ لَا
تَدْخُلُهَا بِغَيْرِهَا .Sحَوْلَ
الْمُصَالَحَةِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ مُصَالَحَةَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
لِقُرَيْشِ وَشَرْطَهُمْ أَنْ لَا يَأْتِيَهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ مِمّنْ هُوَ عَلَى
دِينِهِ إلّا رَدّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُصَالَحَةُ
الْمُشْرِكِينَ عَلَى غَيْرِ مَالٍ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ وَذَلِكَ جَائِزٌ إذَا كَانَ
بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ وَقَدْ تَقَدّمَ مُصَالَحَتُهُمْ عَلَى مَالٍ يُعْطُونَهُ
فِي غَزْوَةِ [ ص 49 ] ، وَاخْتُلِفَ هَلْ يَجُوزُ صُلْحُهُمْ إلَى أَكْثَرَ مِنْ
عَشْرِ سِنِينَ ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ يَجُوزُ ذَلِكَ إذَا رَآهُ الْإِمَامُ
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَا يَتَجَاوَزُ فِي صُلْحِهِمْ إلَى أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ
سِنِينَ وَحُجّتُهُمْ أَنّ حَظْرَ الصّلْحِ هُوَ الْأَصْلُ بِدَلِيلِ آيَةِ
الْقِتَالِ وَقَدْ وَرَدَ التّحْدِيدُ بِالْعَشْرِ فِي حَدِيثِ ابْنِ إسْحَاقَ
فَحَصَلَتْ الْإِبَاحَةُ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ مُتَحَقّقَةً وَبَقِيَتْ
الزّيَادَةُ عَلَى الْأَصْلِ وَهُوَ الْحَظْرُ وَفِيهِ الصّلْحُ عَلَى أَنْ يُرَدّ
الْمُسْلِمُ إلَى دَارِ الْكُفْرِ وَهَذَا مَنْسُوخٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
بِحَدِيثِ سُرّيّةِ خَالِدٍ حِينَ وَجّهَهُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - إلَى خَثْعَمٍ ، وَفِيهِمْ نَاسٌ مُسْلِمُونَ فَاعْتَصَمُوا
بِالسّجُودِ فَقَتَلَهُمْ خَالِدٌ فَوَدَاهُمْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - نِصْفَ الدّيَةِ وَقَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ مُسْلِمٍ بَيْنَ
مُشْرِكِين وَقَالَ فُقَهَاءُ الْحِجَازِ : هُوَ جَائِزٌ وَلَكِنْ لِلْخَلِيفَةِ
الْأَكْبَرِ لَا لِمَنْ دُونَهُ وَفِيهِ نَسْخُ السّنّةِ بِالْقُرْآنِ عَلَى
أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَإِنّ هَذَا الْعَهْدَ كَانَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَأْتِيَهُ
مُسْلِمٌ إلّا رَدّهُ فَنَسَخَ اللّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي النّسَاءِ خَاصّةً
فَقَالَ عَزّ وَجَلّ { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنّ
إِلَى الْكُفّارِ } [ الْمُمْتَحَنَةُ 10 ] هَذَا عَلَى رِوَايَةِ عُقَيْلِ بْنِ
خَالِدٍ عَنْ الزّهْرِيّ ، فَإِنّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ أَنْ لَا يَأْتِيَهُ
أَحَدٌ ، وَأَحَدٌ يَتَضَمّنُ الرّجَالَ وَالنّسَاءَ وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ
فِي مِثْلِ هَذَا تَخْصِيصُ عُمُومٍ لَا نَسْخٌ عَلَى أَنّ بَعْضَ حُذّاقِ
الْأُصُولِيّينَ قَدْ قَالَ فِي الْعُمُومِ إذَا عُمِلَ بِمُقْتَضَاهُ فِي عَصْرِ
[ ص 50 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَاعْتُقِدَ فِيهِ الْعُمُومُ ثُمّ
وَرَدَ التّخْصِيصُ فَهُوَ نَسْخٌ وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى
أَنْ لَا يَأْتِيَهُ رَجُلٌ . فَهَذَا اللّفْظُ لَا يَتَنَاوَلُ النّسَاءَ .
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ إنّمَا اسْتَجَازَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
- رَدّ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ فِي هَذَا الصّلْحِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ
لَا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ إلَى خُطّةٍ يُعَظّمُونَ فِيهَا الْحَرَمَ إلّا
أَجَبْتهمْ إلَيْهَا وَفِي رَدّ الْمُسْلِمِ إلَى مَكّةَ عِمَارَةُ الْبَيْتِ
وَزِيَادَةُ خَيْرٍ لَهُ فِي الصّلَاةِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالطّوَافِ
بِالْبَيْتِ ، فَكَانَ هَذَا مِنْ تَعْظِيمِ حُرُمَاتِ اللّهِ تَعَالَى ، فَعَلَى
هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ حُكْمًا مَخْصُوصًا بِمَكّةَ وَبِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَيَكُونُ غَيْرَ جَائِزٍ لِمَنْ بَعْدَهُ كَمَا قَالَ
الْعِرَاقِيّونَ .
حُكْمُ الْمُهَاجِرَاتِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ قَوْلَ اللّهِ سُبْحَانَهُ { إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ
مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنّ } [ الْمُمْتَحَنَةُ 1 ] . هَذَا عِنْدَ أَهْلِ
الْعِلْمِ مَخْصُوصٌ بِنِسَاءِ أَهْلِ الْعَهْدِ وَالصّلْحِ وَكَانَ الِامْتِحَانُ
أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْمَرْأَةَ الْمُهَاجِرَةَ أَنّهَا مَا خَرَجَتْ نَاشِزًا
وَلَا هَاجَرَتْ إلّا لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ فَإِذَا حَلَفَتْ لَمْ تُرَدّ وَرُدّ
صَدَاقُهَا إلَى بَعْلِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْعَهْدِ لَمْ
تُسْتَحْلَفْ وَلَمْ يُرَدّ صَدَاقُهَا . وَفِيهِ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَحَا اسْمَهُ وَهُوَ رَسُولُ اللّهِ وَكَتَبَ هَذَا مَا
صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ لِأَنّهُ قَوْلُ حَقّ كُلّهُ وَظَنّ
بَعْضُ النّاسِ أَنّهُ كَتَبَ بِيَدِهِ وَفِي الْبُخَارِيّ أَنّهُ كَتَبَ وَهُوَ
لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ فَتَوَهّمَ أَنّ اللّهَ تَعَالَى أَطْلَقَ يَدَهُ
بِالْكِتَابَةِ فِي تِلْكَ السّاعَةِ خَاصّةً وَقَالَ هِيَ آيَةٌ فَيُقَالُ لَهُ
كَانَتْ تَكُونُ آيَةً لَوْلَا أَنّهَا مُنَاقِضَةٌ لِآيَةِ أُخْرَى ، وَهُوَ
كَوْنُهُ أُمّيّا لَا يَكْتُبُ وَبِكَوْنِهِ أُمّيّا فِي أُمّةٍ أُمّيّةٍ قَامَتْ
الْحُجّةُ وَأُفْحِمَ الْجَاحِدُ وَانْحَسَمَتْ الشّبْهَةُ فَكَيْفَ يُطْلِقُ
اللّهُ يَدَهُ لِتَكُونَ آيَةً ؟ وَإِنّمَا الْآيَةُ أَنْ لَا يَكْتُبَ
وَالْمُعْجِزَاتُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَدْفَعَ بَعْضُهَا بَعْضًا ، وَإِنّمَا مَعْنَى
: كَتَبَ أَيْ أَمَرَ أَنْ يُكْتَبَ . [ ص 51 ] وَكَانَ الْكَاتِبُ فِي ذَلِكَ
الْيَوْمِ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، وَقَدْ كَتَبَ لَهُ عِدّةٌ مِنْ
أَصْحَابِهِ مِنْهُمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْأَرْقَمِ ، وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ ،
وَأَخُوهُ أَبَانُ ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ اللّهِ
بْنِ أُبَيّ ابْنُ سَلُولَ ، وَأُبَيّ بْنُ كَعْبٍ الْقَارِي ، وَقَدْ كَتَبَ لَهُ
أَيْضًا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُمْ وَكَتَبَ لَهُ كَثِيرًا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بَعْدَ عَامِ
الْفَتْحِ وَكَتَبَ لَهُ أَيْضًا الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ ، وَمُعَيْقِيبُ بْنُ
أَبِي فَاطِمَةَ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ ، وَشُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ
وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ ، وَجُهَيْمُ بْنُ الصّلْتِ
وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ ، وَمُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَعَبْدُ اللّهِ
بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ ، وَحَنْظَلَةُ الْأُسَيْدِيّ وَهُوَ حَنْظَلَةُ
بْنُ الرّبِيعِ وَفِيهِ يَقُولُ الشّاعِرُ بَعْدَ مَوْتِهِ
إنّ سَوَادَ الْعَيْنِ أَوْدَى بِهِ ... حُزْنٌ عَلَى حَنْظَلَةَ الْكَاتِبِ
وَالْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيّ ، ذَكَرَهُمْ عُمَرُ بْنُ شَبّةَ فِي كِتَابِ
الْكُتّابِ لَهُ .
بِاسْمِك اللّهُمّ
وَأَمّا قَوْلُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو لَهُ وَلَكِنْ اُكْتُبْ بِاسْمِك اللّهُمّ
فَإِنّهَا كَلِمَةٌ كَانَتْ قُرَيْشٌ تَقُولُهَا وَلِقَوْلِهِمْ لَهَا سَبَبٌ قَدْ
ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ التّعْرِيفِ وَالْإِعْلَامِ وَأَوّلُ مَنْ قَالَهَا
أُمَيّةُ بْنُ أَبِي الصّلْتِ ، وَمِنْهُ تَعَلّمُوهَا وَتَعَلّمَهَا هُوَ مِنْ
رَجُلٍ مِنْ الْجِنّ فِي خَبَرٍ طَوِيلٍ ذَكَرَهُ الْمَسْعُودِيّ وَهُوَ الْخَبَرُ
الّذِي لَخّصْنَاهُ فِي الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ .
عَيْبَةٌ مَكْفُوفَةٌ
فَصْلٌ وَذَكَرَ فِي الْكِتَابِ وَأَنّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ عَيْبَةً
مَكْفُوفَةً أَيْ صُدُورٌ مُنْطَوِيَةٌ عَلَى مَا فِيهَا لَا تُبْدِي عَدَاوَةً
وَضَرَبَ الْعَيْبَةَ مَثَلًا ، وَقَالَ الشّاعِرُ
وَكَادَتْ عِيَابُ الْوُدّ مِنّا وَمِنْهُمْ ... وَإِنْ قِيلَ أَبْنَاءُ
الْعُمُومَةِ تَصْفَرُ
وَقَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْأَنْصَارُ كَرِشِي وَعَيْبَتِي
فَضَرَبَ الْعَيْبَةَ مَثَلًا لِمَوْضِعِ السّرّ ، وَمَا يُعْتَدّ بِهِ مِنْ
وُدّهِمْ . وَالْكَرِشُ وِعَاءٌ يُصْنَعُ مِنْ كَرِشِ الْبَعِيرِ يُجْعَلُ فِيهِ
مَا يُطْبَخُ مِنْ اللّحْمِ يُقَالُ مَا [ ص 52 ] فَاكَرِشٍ أَيْ إنّ الْكَرِشَ
قَدْ امْتَلَأَ فَلَمْ يَسَعْهَا فَمُهُ . وَيُضْرَبُ أَيْضًا هَذَا مَثَلًا ، كَمَا
قَالَ الْحَجّاجُ مَا وَجَدْت إلَى دَمِ فُلَانٍ فَاكَرِشٍ . وَقَوْلُهُ وَلَا
إغْلَالَ هِيَ الْخِيَانَةُ يُقَالُ فُلَانٌ مُغِلّ الْأُصْبُعِ أَيْ خَائِنُ
الْيَدِ . قَالَ الشّاعِرُ
حَدّثْت نَفْسَك بِالْوَفَاءِ وَلَمْ تَكُنْ ... بِالْغَدْرِ خَائِنَةً مِثْلَ الْأُصْبُعِ
وَالْإِسْلَالُ السّرِقَةُ وَالْخُلْسَةُ وَنَحْوُهَا ، وَهِيَ السّلّةُ . قَالُوا
فِي الْمَثَلِ الْخَلّةُ تَدْعُو إلَى السّنّةِ .
جَنْدَلُ بْنُ سُهَيْلٍ
فَبَيْنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ
هُوَ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو ، إذْ جَاءَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ
عَمْرٍو يَرْسُفُ فِي الْحَدِيدِ قَدْ انْفَلَتَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ خَرَجُوا وَهُمْ لَا يَشُكّونَ فِي الْفَتْحِ لِرُؤْيَا رَآهَا رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا رَأَوْا مَا رَأَوْا مِنْ الصّلْحِ
وَالرّجُوعِ وَمَا تَحَمّلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فِي نَفْسِهِ دَخَلَ عَلَى النّاسِ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ حَتّى
كَادُوا يَهْلِكُونَ فَلَمّا رَأَى سُهَيْلٌ أَبَا جَنْدَلٍ قَامَ إلَيْهِ
فَضَرَبَ وَجْهَهُ وَأَخَذَ بِتَلْبِيبِهِ ثُمّ قَالَ يَا مُحَمّدُ قَدْ لَجّتْ
الْقَضِيّةُ بَيْنِي وَبَيْنَك قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَك هَذَا ؛ قَالَ [ ص 53 ]
فَجَعَلَ يَنْتُرُهُ بِتَلْبِيبِهِ وَيَجُرّهُ لِيَرُدّهُ إلَى قُرَيْشٍ ،
وَجَعَلَ أَبُو جَنْدَلٍ يَصْرُخُ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ
أَأُرَدّ إلَى الْمُشْرِكِينَ يَفْتِنُونِي فِي دِينِي ؟ فَزَادَ ذَلِكَ النّاسَ
إلَى مَا بِهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا أَبَا
جَنْدَلٍ اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ فَإِنّ اللّهَ جَاعِلٌ لَك وَلِمَنْ مَعَك مِنْ
الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا ، إنّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ
الْقَوْمِ صُلْحًا ، وَأَعْطَيْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَعْطَوْنَا عَهْدَ اللّهِ
وَإِنّا لَا نَغْدِرُ بِهِمْ قَالَ فَوَثَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ مَعَ أَبِي
جَنْدَلٍ يَمْشِي إلَى جَنْبِهِ وَيَقُولُ اصْبِرْ يَا أَبَا جَنْدَلٍ فَإِنّمَا
هُمْ الْمُشْرِكُونَ وَإِنّمَا دَمُ أَحَدِهِمْ دَمُ كَلْبٍ . قَالَ وَبُدْنِي
قَائِمَ السّيْفِ مِنْهُ . قَالَ يَقُولُ عُمَرُ رَجَوْت أَنْ يَأْخُذَ السّيْفَ
فَيَضْرِبَ بِهِ أَبَاهُ قَالَ فَضَنّ الرّجُلُ بِأَبِيهِ وَنَفَذَتْ الْقَضِيّةُ
.Sأَبُو
جَنْدَلٍ وَصَاحِبُهُ فِي الْخَمْرِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ خُرُوجَ أَبِي جَنْدَلٍ يَرْسُفُ فِي الْحَدِيدِ . أَبُو جَنْدَلٍ
هُوَ الْعَاصِ بْنُ سُهَيْلٍ وَأَمّا أَخُوهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ سُهَيْلٍ ،
فَكَانَ قَدْ فَرّ يَوْمَ بَدْرٍ إلَى الْمُسْلِمِينَ فَلَحِقَ بِهِمْ وَشَهِدَ
بَدْرًا ، وَالْمَشَاهِدَ كُلّهَا ، وَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شَهِيدًا ،
وَأَمّا أَبُو جَنْدَلٍ فَاسْتُشْهِدَ مَعَ أَبِيهِ بِالشّامِ فِي خِلَافَةِ
عُمَرَ وَهُوَ الّذِي شَرِبَ الْخَمْرَ مُتَأَوّلًا لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى : { لَيْسَ عَلَى الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ جُنَاحٌ
فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ ثُمّ
اتّقَوْا وَآمَنُوا ثُمّ اتّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللّهُ يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ }
[ الْمَائِدَةُ 93 ] فَجَلَدَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَمْرِ عُمَرَ وَجَلَدَ
صَاحِبَهُ وَهُوَ ضِرَارٌ ، ثُمّ إنّ أَبَا جَنْدَلٍ أَشْفَقَ مِنْ الذّنْبِ حَتّى
قَالَ لَقَدْ هَلَكْت ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ رَضِيَ [ ص 53 ] { حم تَنْزِيلُ
الْكِتَابِ مِنَ اللّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذّنْبِ وَقَابِلِ
التّوْبِ } [ غَافِرٌ 1 وَمَا بَعْدَهَا ] الْآيَةُ . وَكَانَ شَرِبَهَا مَعَهُ
ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ ، وَأَبُو الْأَزْوَرِ فَلَمّا أَمَرَ عُمَرُ أَنْ
يُجْلَدُوا ، قَالُوا : دَعْنَا نَلْقَى الْعَدُوّ فَإِنْ قُتِلْنَا فَذَاكَ
وَإِلّا حَدَدْتُمُونَا ، فَقُتِلَ أَبُو الْأَزْوَرِ وَحُدّ الْآخَرَانِ .
الّذِينَ شَهِدُوا عَلَى
الصّلْحِ
فَلَمّا فَرَغَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْكِتَابِ
أَشْهَدَ عَلَى الصّلْحِ رِجَالًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَرِجَالًا مِنْ
الْمُشْرِكِينَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ ، وَعُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ ، وَعَبْدَ
الرّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ ، وَعَبْدَ اللّهِ بْنَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو ، وَسَعْدَ
بْنَ أَبِي وَقّاصٍ ، وَمَحْمُودَ بْنَ مَسْلَمَةَ ، وَمِكْرَزَ بْنَ حَفْصٍ ،
وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ وَعَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَكَتَبَ وَكَانَ هُوَ
كَاتِبَ الصّحِيفَةِ .
فَصْلٌ
وَذَكَرَ قَوْلَ عُمَرَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - فَعَلَامَ نُعْطَى الدّنِيّةَ
فِي دِينِنَا ، هِيَ فَعِيلَةٌ مِنْ الدّنَاءَةِ وَأَصْلُهَا الْهَمْزُ وَفِي
غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَالَ لِعُمَرِ إنّي عَبْدُ اللّهِ وَلَسْت أَعْصِيهِ وَهُوَ نَاصِرِي وَأَنّهُ
أَتَى أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ
لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَجَاوَبَهُ أَبُو بَكْرٍ بِمِثْلِ مَا
جَاوَبَهُ بِهِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَرْفًا بِحَرْفِ ثُمّ
قَالَ لَهُ يَا عُمَرُ الْزَمْ غَرْزَهُ فَإِنّي أَشْهَدُ أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ
قَالَ عُمَرُ وَمَا شَكَكْت مُنْذُ أَسْلَمْت إلّا تِلْكَ السّاعَةَ وَفِي هَذَا
أَنّ الْمُؤْمِنَ قَدْ يَشُكّ ، ثُمّ يُجَدّدُ النّظَرَ فِي دَلَائِلِ الْحَقّ
فَيَذْهَبُ شَكّهُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ قَالَ هُوَ شَيْءٌ لَا
يَسْلَمُ مِنْهُ أَحَدٌ ، ثُمّ ذَكَرَ ابْنُ عَبّاسٍ قَوْلَ إبْرَاهِيمَ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - { وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي } [ الْبَقَرَةُ 260
] وَلَوْلَا الْخُرُوجُ عَمّا صَمَدْنَا إلَيْهِ فِي هَذَا الْكِتَابِ لَذَكَرْنَا
مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِ [ ص 54 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ { وَلَكِنْ
لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي } وَذَكَرْنَا النّكْتَةَ الْعُظْمَى فِي ذَلِكَ وَلَعَلّنَا
أَنْ نَلْقَى لَهَا مَوْضِعًا ، فَنَذْكُرَهَا . وَالشّكّ الّذِي ذَكَرَهُ عُمَرُ
وَابْنُ عَبّاسٍ مَا لَا يُصِرّ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وَإِنّمَا هُوَ مِنْ بَابِ
الْوَسْوَسَةِ الّتِي قَالَ فِيهَا عَلَيْهِ السّلَامُ مُخْبِرًا عَنْ إبْلِيسَ
الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي رَدّ كَيْدَهُ إلَى الْوَسْوَسَةِ
الْإِحْلَالُ
[ ص 54 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مُضْطَرِبًا فِي الْحِلّ وَكَانَ يُصَلّي فِي الْحَرَمِ ، فَلَمّا فَرَغَ
مِنْ الصّلْحِ قَدِمَ إلَى هَدْيِهِ فَنَحَرَهُ ثُمّ جَلَسَ فَحَلَقَ رَأْسَهُ
وَكَانَ الّذِي حَلَقَهُ فِيمَا بَلَغَنِي ، فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ خِرَاشَ بْنَ أُمَيّةَ
بْنِ الْفَضْلِ الْخُزَاعِيّ فَلَمّا رَأَى النّاسُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ نَحَرَ وَحَلَقَ تَوَاثَبُوا يَنْحَرُونَ
وَيَحْلِقُونَ .Sمَوْقِفُ
أُمّ سَلَمَةَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ
وَفِي غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ مِنْ الصّحِيحِ أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ
دَخَلَ عَلَى أُمّ سَلَمَةَ وَشَكَا إلَيْهَا مَا لَقِيَ مِنْ النّاسِ حِينَ
أَمَرَهُمْ أَنْ يَحْلِقُوا وَيَنْحَرُوا ، فَلَمْ يَفْعَلُوا لِمَا بِهِمْ مِنْ
الْغَيْظِ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ اُخْرُجْ إلَيْهِمْ فَلَا تُكَلّمْهُمْ
حَتّى تَحْلِقَ وَتَنْحَرَ فَإِنّهُمْ إذَا رَأَوْك قَدْ فَعَلْت ذَلِكَ لَمْ
يُخَالِفُوك . فَفَعَلَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَفَعَلَ النّاسُ وَكَانَ
الّذِي حَلَقَ رَأْسَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي
ذَلِكَ الْيَوْمِ خِرَاشَ بْنَ أُمَيّةَ [ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ
مُنْقِذِ بْنِ عَفِيفِ بْنِ كُلَيْبِ بْنِ حُبْشِيّةَ ابْنُ سَلُولَ ]
الْخُزَاعِيّ [ ثُمّ الْكَلْبِيّ ] وَهُوَ الّذِي كَانَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَئِذٍ إلى مَكّةَ فَعَقَرُوا جَمَلَهُ
وَأَرَادُوا قَتْلَهُ فَحِينَئِذٍ بَعَثَ إلَيْهِمْ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُ فَفِي تَرْكِهِمْ لِلْبِدَارِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّ الْأَمْرَ لَيْسَ
عَلَى الْفَوْرِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الْأُصُولِيّينَ وَفِيهِ أَنّهُمْ حَمَلُوا
الْأَمْرَ عَلَى غَيْرِ الْوُجُوبِ لِقَرِينَةِ وَهِيَ أَنّهُمْ رَأَوْهُ لَمْ
يَحْلِقْ وَلَمْ يَنْحَرْ وَلَمْ يُقَصّرْ فَلَمّا رَأَوْهُ قَدْ فَعَلَ
اعْتَقَدُوا وُجُوبَ الْأَمْرِ وَامْتَثَلُوهُ . وَفِيهِ أَيْضًا إبَاحَةُ
مُشَاوَرَةِ النّسَاءِ وَذَلِكَ أَنّ النّهْيَ عَنْ مُشَاوَرَتِهِنّ إنّمَا هُوَ
عِنْدَهُمْ فِي أَمْرِ الْوِلَايَةِ خَاصّةً كَذَلِكَ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ
النّحّاسُ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ .
الْمُحَلّقُونَ
وَالْمُقَصّرُونَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ
مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ [ ص 55 ] حَلَقَ رِجَالٌ يَوْمَ
الْحُدَيْبِيَةِ ، وَقَصّرَ آخَرُونَ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه
عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَرْحَمُ اللّهُ الْمُحَلّقِينَ " ، قَالُوا :
وَالْمُقَصّرِينَ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ يَرْحَمُ اللّهُ الْمُحَلّقِينَ
" ، قَالُوا : وَالْمُقَصّرِينَ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ " يَرْحَمُ
اللّهُ الْمُحَلّقِينَ " ، قَالُوا : وَالْمُقَصّرِينَ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟
قَالَ " وَالْمُقَصّرِينَ " ، فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ فَلِمَ
ظَاهَرْت التّرْحِيمَ لِلْمُحَلّقِينَ دُونَ الْمُقَصّرِينَ ؟ قَالَ " لَمْ
يَشُكّوا . وَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ : حَدّثَنِي مُجَاهِدٌ ،
عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَهْدَى
عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي هَدْيَاه جَمَلًا لِأَبِي جَهْلٍ فِي رَأْسِهِ بُرّةٌ
مِنْ فِضّةٍ يَغِيطُ بِذَلِكَ الْمُشْرِكِينَSالْمُقَصّرُونَ
فَصْلٌ وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ اسْتِغْفَارَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - لِلْمُحَلّقِينَ ثَلَاثًا وَلِلْمُقَصّرِينَ مَرّةً وَاحِدَةً . [ ص 55
] عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ ، وَالْآخَرُ أَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيّ ، كَذَلِكَ
جَاءَ فِي مُسْنَدِ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ . [ ص
56 ]
نُزُولُ سُورَةِ الْفَتْحِ
قَالَ الزّهْرِيّ فِي حَدِيثِهِ ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ وَجْهِهِ ذَلِكَ قَافِلًا ، حَتّى إذَا كَانَ بَيْنَ
مَكّةَ وَالْمَدِينَةِ ، نَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ { إِنّا فَتَحْنَا لَكَ
فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ مَا تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا
تَأَخّرَ وَيُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } .
ذِكْرُ الْبَيْعَةِ
ثُمّ كَانَتْ الْقِصّةُ فِيهِ وَفِي أَصْحَابِهِ حَتّى انْتَهَى إلَى ذِكْرِ
الْبَيْعَةِ فَقَالَ جَلّ ثَنَاؤُهُ { إِنّ الّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنّمَا
يُبَايِعُونَ اللّهَ يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنّمَا
يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللّهَ
فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } .
ذِكْرُ مَنْ تَخَلّفَ
ثُمّ ذَكَرَ مَنْ تَخَلّفَ عَنْهُ مِنْ الْأَعْرَابِ ، ثُمّ قَالَ حِينَ
اسْتَفَزّهُمْ لِلْخُرُوجِ مَعَهُ فَأَبْطَئُوا عَلَيْهِ سَيَقُولُ لَك
الْمُخَلّفُونَ مِنْ الْأَعْرَابِ { شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا } .
ثُمّ الْقِصّةَ عَنْ خَبَرِهِمْ حَتّى انْتَهَى إلَى قَوْلِهِ { سَيَقُولُ
الْمُخَلّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا
نَتّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدّلُوا كَلَامَ اللّهِ قُلْ لَنْ تَتّبِعُونَا
كَذَلِكُمْ قَالَ اللّهُ مِنْ قَبْلُ } . . ثُمّ الْقِصّةَ عَنْ خَبَرِهِمْ وَمَا
عَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ جِهَادِ الْقَوْمِ أُولِي الْبَأْسِ الشّدِيدِ . قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ
أَبِي رَبَاحٍ ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ فَارِسٌ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ الزّهْرِيّ أَنّهُ قَالَ أُولُو الْبَأْسِ
الشّدِيدِ حَنِيفَةُ مَعَ الْكَذّابِ . [ ص 56 ] قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ رَضِيَ
اللّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا
فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا
قَرِيبًا وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا
وعدكم الله مغانم كثيرة تَأْخُذُونَهَا فَعَجّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفّ أَيْدِيَ
النّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا
مُسْتَقِيمًا وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللّهُ بِهَا
وَكَانَ اللّهُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرًا } .
ذَكَرَ كَفّ الرّسُولِ عَنْ الْقِتَالِ
ثُمّ ذَكَرَ مَحْبِسَهُ وَكَفّهُ إيّاهُ عَنْ الْقِتَالِ بَعْدَ الظّفَرِ مِنْهُ
بِهِمْ يَعْنِي النّفَرَ الّذِينَ أَصَابَ مِنْهُمْ وَكَفّهُمْ عَنْهُ ثُمّ قَالَ
تَعَالَى : { وَهُوَ الّذِي كَفّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ
بِبَطْنِ مَكّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرًا } ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { هُمُ الّذِينَ كَفَرُوا
وَصَدّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ
مَحِلّهُ } .
تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لِبَعْضِ الْغَرِيبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْمَعْكُوفُ الْمَحْبُوسُ قَالَ أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ
ثَعْلَبَةَ
وَكَأَنّ السّمُوطَ عَكّفَهُ السّلْ ... كُ بِعِطْفَيْ جَيْدَاءَ أُمّ غَزَالِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : { وَلَوْلَا
رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ
فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ } وَالْمَعَرّةُ الْغُرْمُ أَيْ
أَنْ تُصِيبُوا مِنْهُمْ ( مَعَرّةً ) بِغَيْرِ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوا دِيَتَهُ
فَأَمّا إثْمٌ فَلَمْ يَخْشَهُ عَلَيْهِمْ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : بَلَغَنِي عَنْ
مُجَاهِدٍ أَنّهُ قَالَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ
بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَسَلَمَةَ بْنِ هِشَامٍ ، وَعَيّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ ،
وَأَبِي جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلٍ . وَأَشْبَاهِهِمْ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ
قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { إِذْ جَعَلَ الّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ
الْحَمِيّةَ حَمِيّةَ الْجَاهِلِيّةِ } يَعْنِي سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو حِينَ حَمِيَ
أَنْ يَكْتُبَ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ وَأَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ
اللّهِ ثُمّ قَالَ تَعَالَى : { فَأَنْزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ
وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التّقْوَى وَكَانُوا أَحَقّ بِهَا
وَأَهْلَهَا } أَيْ التّوْحِيدَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّ
مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ . [ ص 57 ] قَالَ تَعَالَى : { لَقَدْ صَدَقَ
اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيَا بِالْحَقّ لَتَدْخُلُنّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ
شَاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ لَا تَخَافُونَ
فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا } أَيْ لِرُؤْيَا رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّتِي رَأَى ، أَنّهُ سَيَدْخُلُ مَكّةَ آمِنًا لَا يَخَافُ
يَقُولُ { مُحَلّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ } مَعَهُ { لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ
} مِنْ ذَلِكَ { مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا
} صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ . يَقُولُ الزّهْرِيّ : فَمَا فُتِحَ فِي الْإِسْلَامِ
فَتْحٌ قَبْلَهُ كَانَ أَعْظَمَ مِنْهُ إنّمَا كَانَ الْقِتَالُ حَيْثُ الْتَقَى
النّاسُ فَلَمّا كَانَتْ الْهُدْنَةُ وَوَضَعَتْ الْحَرْبُ وَأَمِنَ النّاسُ
بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، وَالْتَقَوْا ، فَتَفَاوَضُوا فِي الْحَدِيثِ
وَالْمُنَازَعَةِ فَلَمْ يُكَلّمْ أَحَدٌ بِالْإِسْلَامِ يَعْقِلُ شَيْئًا إلّا
دَخَلَ فِيهِ وَلَقَدْ دَخَلَ فِي تَيْنِك السّنَتَيْنِ مِثْلُ مَنْ كَانَ فِي
الْإِسْلَامِ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَالدّلِيلُ
عَلَى قَوْلِ الزّهْرِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
خَرَجَ إلَى الْحُدَيْبِيَةِ فِي أَلْفٍ وَأَرْبَعِ مِائَةٍ ، فِي قَوْلِ جَابِرِ
بْنِ عَبْدِ اللّهِ ، ثُمّ خَرَجَ عَامَ فَتْحِ مَكّةَ بَعْدَ ذَلِكَ بِسَنَتَيْنِ
فِي عَشْرَةِ آلَافٍ . [ ص 57 ]
مَا جَرَى عَلَيْهِ أَمْرُ
قَوْمٍ مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ بَعْدَ الصّلْحِ
مَجِيءُ أَبِي بَصِيرٍ إلَى الْمَدِينَةِ وَطَلَبُ قُرَيْشٍ لَهُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ أَتَاهُ أَبُو بَصِيرٍ عُتْبَةُ بْنُ أَسِيدِ بْنِ
جَارِيَةَ ، وَكَانَ مِمّنْ حُبِسَ بِمَكّةَ فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَتَبَ فِيهِ أَزْهَرُ بْنُ عَبْدِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ
بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ وَالْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
وَهْبٍ الثّقَفِيّ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَعَثَا
رَجُلًا مِنْ بَنِي لُؤَيّ وَمَعَهُ مَوْلًى لَهُمْ فَقَدِمَا رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِكِتَابِ الْأَزْهَرِ وَالْأَخْنَسِ فَقَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا أَبَا بَصِيرٍ إنّا قَدْ
أَعْطَيْنَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ مَا قَدْ عَلِمْت ، وَلَا يَصْلُحُ لَنَا فِي
دِينِنَا الْغَدْرُ وَإِنّ اللّهَ جَاعِلٌ لَك وَلِمَنْ مَعَك مِنْ
الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا ، فَانْطَلِقْ إلَى قَوْمِك ، قَالَ يَا
رَسُولَ اللّهِ أَتَرُدّنِي إلَى الْمُشْرِكِينَ يَفْتِنُونَنِي فِي دِينِي ؟
قَالَ يَا أَبَا بَصِيرٍ انْطَلِقْ فَإِنّ اللّهَ تَعَالَى سَيَجْعَلُ لَك
وَلِمَنْ مَعَك مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا
قَتْلُ أَبِي بَصِيرٍ لِلْعَامِرِيّ وَمَقَالَةُ الرّسُولِ فِي ذَلِكَ
فَانْطَلَقَ مَعَهُمَا ، حَتّى إذَا كَانَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ جَلَسَ إلَى
جِدَارٍ وَجَلَسَ مَعَهُ صَاحِبَاهُ فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ : أَصَارِمٌ سَيْفُك
هَذَا يَا أَخَا بَنِي عَامِرٍ ؟ فَقَالَ نَعَمْ قَالَ أَنْظُرُ إلَيْهِ ؟ قَالَ
اُنْظُرْ إنْ شِئْت . قَالَ فَاسْتَلّهُ أَبُو بَصِيرٍ ، ثُمّ عَلَاهُ بِهِ حَتّى
قَتَلَهُ وَخَرَجَ الْمَوْلَى سَرِيعًا حَتّى أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ طَالِعًا ، قَالَ إنّ هَذَا الرّجُلَ قَدْ رَأَى
فَزَعًا ، فَلَمّا انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَالَ وَيْحَك مَا لَك ؟ " قَالَ قَتَلَ صَاحِبُكُمْ صَاحِبِي . فَوَاَللّهِ
مَا بَرِحَ حَتّى طَلَعَ أَبُو بَصِيرٍ مُتَوَشّحًا بِالسّيْفِ حَتّى وَقَفَ عَلَى
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ وَفّتْ
ذِمّتُك ، وَأَدّى اللّهُ عَنْك ، أَسْلَمْتنِي بِيَدِ الْقَوْمِ وَقَدْ
امْتَنَعْت بِدِينِي أَنْ أُفْتَنَ بِهِ أَوْ يُعْبَثَ بِي . قَالَ فَقَالَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " وَيْلُ أُمّهِ مَحَشّ
حَرْبٍ لَوْ كَانَ مَعَهُ رِجَالٌ .
أَبُو بَصِيرٍ وَزُمَلَاؤُهُ فِي الْعِيصِ
ثُمّ خَرَجَ أَبُو بَصِيرٍ حَتّى نَزَلَ الْعِيصَ ، مِنْ نَاحِيَةِ ذِي
الْمَرْوَةِ ، عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ بِطَرِيقِ قُرَيْشٍ الّتِي كَانُوا
يَأْخُذُونَ عَلَيْهَا إلَى الشّامِ ، وَبَلَغَ الْمُسْلِمِينَ الّذِينَ كَانُوا
احْتَبَسُوا بِمَكّةَ قَوْلُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
لِأَبِي بَصِيرٍ وَيْلُ أُمّهِ مَحَشّ حَرْبٍ لَوْ كَانَ مَعَهُ رِجَال فَخَرَجُوا
إلَى أَبِي بَصِيرٍ بِالْعِيصِ فَاجْتَمَعَ إلَيْهِ مِنْهُمْ قَرِيبٌ مِنْ
سَبْعِينَ رَجُلًا ، وَكَانُوا قَدْ ضَيّقُوا عَلَى قُرَيْشٍ ، لَا يَظْفَرُونَ
بِأَحَدِ مِنْهُمْ إلّا قَتَلُوهُ وَلَا تَمُرّ بِهِمْ عِيرٌ إلّا اقْتَطَعُوهَا ،
حَتّى كَتَبَتْ قُرَيْشٌ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
تَسْأَلُ بِأَرْحَامِهَا إلّا آوَاهُمْ فَلَا حَاجَةَ لَهُمْ بِهِمْ . فَآوَاهُمْ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَدِمُوا عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ
. [ ص 59 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَلَمّا بَلَغَ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو قَتْلُ
أَبِي بَصِيرٍ صَاحِبهمْ الْعَامِرِيّ أَسْنَدَ [ ص 60 ] الْكَعْبَةِ ، ثُمّ قَالَ
وَاَللّهِ لَا أُؤَخّرُ ظَهْرِي عَنْ الْكَعْبَةِ حَتّى يُودَى هَذَا الرّجُلُ
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَاَللّهِ إنّ هَذَا لَهُوَ السفه وَاَللّهِ
لَا يُودَى ثَلَاثًا ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ مَوْهِبُ بْنُ رَبَاحٍ أَبُو أُنَيْسٍ
حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ [ ص 61 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَبُو أُنَيْسٍ أَشْعَرِيّ
. شِعْرُ مَوْهِبٍ فِي وَدْيِ أَبِي بَصِيرٍ
أَتَانِي عَنْ سُهَيْلٍ ذَرْءُ قَوْلٍ ... فَأَيْقَظَنِي وَمَا بِي مِنْ رُقَادِ
فَإِنْ تَكُنْ الْعِتَابَ تُرِيدُ مِنّي ... فَعَاتِبْنِي فَمَا بِك مِنْ بِعَادِي
أَتُوعِدُنِي وَعَبْدُ مَنَافَ حَوْلِي ... بِمَخْزُومِ أَلَهَفًا مَنْ تَعَادِي
فَإِنْ تَغْمِزْ قَنَاتِي لَا تَجِدْنِي ... ضَعِيفَ الْعُودِ فِي الْكُرَبِ
الشّدَادِ
أُسَامِي الْأَكْرَمِينَ أَبًا بِقَوْمِي ... إذَا وَطِئَ الضّعِيفُ بِهِمْ
أُرَادِي
هُمْ مَنَعُوا الظّوَاهِرَ غَيْرَ شَكّ ... إلَى حَيْثُ الْبَوَاطِنِ
فَالْعَوَادِي
بِكُلّ طِمِرّةٍ وَبِكُلّ نَهْدٍ ... سِوَاهُمْ قَدْ طُوِينَ مِنْ الطّرَادِ
لَهُمْ بِالْخَيْفِ قَدْ عَلِمَتْ مَعَدّ ... رِوَاقُ الْمَجْدِ رُفّعُ
بِالْعِمَادِ
ابْنُ الزّبَعْرَى يَرُدّ عَلَى مَوْهِبٍ فَأَجَابَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ
الزّبَعْرَى ، فَقَالَ [ ص 62 ]
وَأَمْسَى مَوْهِبٌ كَحِمَارِ سُوءٍ ... أَجَازَ بِبَلْدَةِ فِيهَا يُنَادِي
فَإِنّ الْعَبْدَ مِثْلُك لَا يُنَاوِي ... سُهَيْلًا ضَلّ سَعْيُك مَنْ تُعَادِي
فَأَقْصِرْ يَا ابْنَ قَيْنِ السّوءِ عَنْهُ ... وَعُدْ عَنْ الْمَقَالَةِ فِي
الْبِلَادِ
وَلَا تَذْكُرْ عِتَابَ أَبِي يَزِيدَ ... فَهَيْهَاتَ الْبُحُورُ مِنْ الثّمَادِSأَبُو
بَصِيرٍ
وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي بَصِيرٍ وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ فَقِيلَ عُبَيْدُ بْنُ
أَسِيدِ بْنِ جَارِيَةَ وَقِيلَ عتبة . وَذَكَرَ قَوْلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهُ حِينَ قَتَلَ أَحَدَ الرّجُلَيْنِ وَيْلُ أُمّهِ مَحَشّ
حَرْبٍ وَفِي الصّحِيحِ وَيْلُ أُمّهِ مُسَعّرُ حَرْب يُقَالُ حَشَشْت النّارَ
وَأَرّثْتُهَا ، وَأَذْكَيْتهَا ، وَأَثْقَبْتُهَا وَسَعّرْتهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ
وَسُمّيَ الْأَسْعَرُ الْجُعْفِيّ أَسْعَرَ بِقَوْلِهِ
فَلَا يَدْعُنِي قَوْمِي لِسَعْدِ بْنِ مَالِكٍ ... لَئِنْ لَمْ أُسْعِرْ
عَلَيْهِمْ وَأُثْقِبِ
[ ص 59 ] وَكَانَ اسْمُهُ مَرْثَدَ بْنَ حُمْرَانَ وَمَالِكٌ فِي هَذَا الْبَيْتِ
هُوَ مَذْحِجُ ، وَأَمّا لُحُوقُ أَبِي بَصِيرٍ بِسَيْفِ الْبَحْرِ فَفِي
رِوَايَةِ مَعْمَرٍ عَنْ الزّهْرِيّ ، أَنّهُ كَانَ يُصَلّي بِأَصْحَابِهِ
هُنَالِكَ حَتّى لَحِقَ بِهِمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ فَقَدّمُوهُ لِأَنّهُ
قُرَشِيّ ، فَلَمْ يَزَلْ أَصْحَابُهُ يَكْثُرُونَ حَتّى بَلَغُوا ثَلَاثَمِائَةٍ
وَكَانَ أَبُو بَصِيرٍ كَثِيرًا مَا يَقُولُ هُنَالِكَ اللّهُ الْعَلِيّ
الْأَكْبَرُ مَنْ يَنْصُرُ اللّهَ فَسَوْفَ يُنْصَرْ فَلَمّا جَاءَهُمْ الْفَرَجُ
مِنْ اللّهِ تَعَالَى ، وَكَلّمَتْ قُرَيْشٌ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أَنْ يُؤْرِبَهُمْ إلَيْهِ لَمّا ضَيّقُوا عَلَيْهِمْ وَرَدَ كِتَابُ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَبُو بَصِيرٍ فِي الْمَوْتِ يَجُودُ
بِنَفْسِهِ فَأُعْطِي الْكِتَابَ فَجَعَلَ يَقْرَؤُهُ وَيُسَرّ بِهِ حَتّى قُبِضَ
وَالْكِتَابُ عَلَى صَدْرِهِ فَبُنِيَ عَلَيْهِ هُنَاكَ مَسْجِدٌ يَرْحَمُهُ
اللّهُ . [ ص 60 ]
عُمْرَةٌ
وَفِي الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ السّيرَةِ أَنّ الْمُسْلِمِينَ حِينَ حَلَقُوا فِي
ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُمْ بِالْحِلّ قَدْ مُنِعُوا أَنْ يَدْخُلُوا الْحَرَمَ
جَاءَتْ الرّيحُ فَاحْتَمَلَتْ شُعُورَهُمْ حَتّى أَلْقَتْهَا فِي الْحَرَمِ ،
فَاسْتَبْشَرُوا بِقَبُولِ اللّهِ عُمْرَتَهُمْ . ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ .
وَالْعُمْرَةُ مُشْتَقّةٌ مِنْ عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَبُنِيَتْ عَلَى
فُعْلَةٍ لِأَنّهَا فِي مَعْنَى قُرْبَةٍ وَوُصْلَةٍ إلَى اللّهِ تَعَالَى ،
وَلَيْسَ قَوْلُ مَنْ قَالَ إنّهَا الزّيَارَةُ فِي اللّغَةِ بِبَيّنِ وَلَا فِي
قَوْلِ الْأَعْشَى حُجّةٌ لَهُمْ لِأَنّهُ مُحْتَمَلُ التّأْوِيلِ وَهُوَ قَوْلُهُ
وَجَاشَتْ النّفْسُ لَمّا جَاءَ فَلّهُمْ ... وَرَاكِبٌ جَاءَ مِنْ تَثْلِيثَ
مُعْتَمِرُ
قَتْلُ أَبِي بَصِيرٍ لِلْكَافِرِ
فَصْلٌ وَمِمّا يُسْأَلُ عَنْهُ فِي حَدِيثِ أَبِي بَصِيرٍ قَتْلُهُ الرّجُلَ
الْكَافِرَ وَهُوَ فِي الْعَهْدِ أَكَانَ ذَلِكَ حَرَامًا أَمْ مُبَاحًا لَهُ
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ رَفْعُ الْحَرَجِ عَنْهُ لِأَنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَمْ يُثَرّبْ ، بَلْ مَدَحَهُ وَقَالَ وَيْلُ أُمّهِ مِحَشّ
حَرْبٍ . فَإِنْ قِيلَ وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ جَائِزًا لَهُ وَقَدْ حَقَنَ
الصّلْحُ الدّمَاءَ ؟ قُلْنَا : إنّمَا ذَلِكَ فِي حَقّ أَبِي بَصِيرٍ عَلَى
الْخُصُوصِ لِأَنّهُ دَافَعَ عَنْ نَفْسِهِ وَدِينِهِ وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ
فَهُوَ شَهِيدٌ وَإِنّمَا لَمْ يُطَالِبْهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - بِدِيَةِ . وَلِأَنّ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ لَمْ يُطَالِبُوهُ إمّا
لِأَنّهُمْ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا ، وَإِمّا لِأَنّ اللّهَ شَغَلَهُمْ عَنْ
ذَلِكَ حَتّى انْتَكَثَ الْعَهْدُ وَجَاءَ الْفَتْحُ . فَإِنْ قِيلَ فَإِنّ
النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَ يَدِي مَنْ قُتِلَ خَطَأً مِنْ
أَهْلِ الصّلْحِ كَمَا وَدَى الْعَامِرِيّيْنِ وَغَيْرَهُمَا قُلْنَا : عَنْ هَذَا
جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا : أَنّ أَبَا بَصِيرٍ كَانَ قَدْ رَدّهُ إلَى
الْمُشْرِكِينَ فَصَارَ فِي حُكْمِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ فِي فِئَةِ الْمُسْلِمِينَ
وَحِزْبِهِمْ فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِمَا يُحْكَمُ عَلَيْهِمْ . وَالْجَوَابُ
الثّانِي : أَنّهُ إنْ كَانَ قَتَلَ عَمْدًا ، وَلَمْ يَكُنْ قَتَلَ خَطَأً كَمَا
كَانَ قَتَلَ الْعَامِرِيّيْنِ ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ : لَا
تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا [ وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا ]
.
أَمْرُ الْمُهَاجِرَاتِ
بَعْدَ الْهُدْنَةِ
الرّسُولُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَأْبَى رَدّ أُمّ كُلْثُومٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَهَاجَرَتْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ أُمّ كُلْثُومٍ بِنْت عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ فِي تِلْكَ الْمُدّةِ
فَخَرَجَ أَخَوَاهَا عُمَارَةُ وَالْوَلِيدُ ابْنَا عُقْبَةَ حَتّى قَدِمَا عَلَى
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَسْأَلَانِهِ أَنْ يَرُدّهَا
عَلَيْهِمَا بِالْعَهْدِ الّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ فِي الْحُدَيْبِيَةِ ،
فَلَمْ يَفْعَلْ أَبَى اللّهُ ذَلِكَ .
حَوْلَ آيَةِ الْمُهَاجِرَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي الزّهْرِيّ ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ،
قَالَ دَخَلْت عَلَيْهِ وَهُوَ يَكْتُبُ كِتَابًا إلَى ابْنِ أَبِي هُنَيْدَةَ ،
صَاحِبِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَكَتَبَ إلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنْ
قَوْلِ اللّهِ تَعَالَى : { يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ
الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنّ اللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنّ
فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنّ إِلَى الْكُفّارِ لَا
هُنّ حِلّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلّونَ لَهُنّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنّ أُجُورَهُنّ وَلَا
تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } [ ص 63 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاحِدَةُ
الْعَصْمِ عِصْمَةٌ وَهِيَ الْحَبْلُ وَالسّبَبُ . قَالَ عَشِيّ بَنِي قَيْسِ بْنِ
ثَعْلَبَةَ
إلَى الْمَرْءِ قَيْسٍ نُطِيلُ السّرَى ... وَنَأْخُذُ مِنْ كُلّ حَيّ عِصَمْ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . { وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ
وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ
وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } قَالَ فَكَتَبَ إلَيْهِ عُرْوَةُ بْنُ الزّبَيْرِ :
إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
كَانَ صَالَحَ قُرَيْشًا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ يَرُدّ عَلَيْهِمْ
مَنْ جَاءَ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيّهِ فَلَمّا هَاجَرَ النّسَاءُ إلَى رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَإِلَى الْإِسْلَامِ أَبَى اللّهُ أَنْ
يُرْدَدْنَ إلَى الْمُشْرِكِينَ إذَا هُنّ اُمْتُحِنّ بِمِحْنَةِ الْإِسْلَامِ
فَعُرِفُوا أَنّهُنّ إنّمَا جِئْنَ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ وَأَمَرَ بِرَدّ
صَدَقَاتِهِنّ إلَيْهِمْ إنْ احْتَبَسْنَ عَنْهُمْ إنْ هُمْ رَدّوا عَلَى
الْمُسْلِمِينَ صَدَاقَ مِنْ حَبَسُوا عَنْهُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ { ذَلِكُمْ
حُكْمُ اللّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } فَأَمْسَكَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّسَاءَ وَرَدّ الرّجَالَ وَسَأَلَ
الّذِي أَمَرَهُ اللّهُ بِهِ أَنْ يَسْأَلَ مِنْ صَدَقَاتِ نِسَاءِ مَنْ حَبَسُوا
مِنْهُنّ وَأَنْ يَرُدّوا عَلَيْهِمْ مِثْلَ الّذِي يَرُدّونَ عَلَيْهِمْ إنْ هُمْ
فَعَلُوا ، وَلَوْلَا الّذِي حَكَمَ اللّهُ بِهِ مِنْ هَذَا الْحُكْمِ لَرَدّ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّسَاءَ كَمَا رَدّ الرّجَالَ
وَلَوْلَا الْهُدْنَةُ وَالْعَهْدُ الّذِي كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ
يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ لَأَمْسَكَ النّسَاءَ وَلَمْ يَرْدُدْ لَهُنّ صَدَاقًا ،
وَكَذَلِكَ كَانَ يَصْنَعُ بِمَنْ جَاءَهُ مِنْ الْمُسْلِمَاتِ قَبْلَ الْعَهْدِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَسَأَلْت الزّهْرِيّ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ وَقَوْلِ
اللّهِ عَزّ وَجَلّ فِيهَا : { وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى
الْكُفّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا
أَنْفَقُوا وَاتّقُوا اللّهَ الّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } فَقَالَ يَقُولُ
إنْ فَاتَ أَحَدًا مِنْكُمْ أَهْلُهُ إلَى الْكُفّارِ وَلَمْ تَأْتِكُمْ امْرَأَةٌ
تَأْخُذُونَ بِهَا مِثْلَ الّذِي يَأْخُذُونَ مَعَكُمْ فَعَرَضُوهُمْ فِي فَيْءٍ
إنْ أَصَبْتُمُوهُ فَلَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ { يَا أَيّهَا الّذِينَ
آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ } . . . إلَى قَوْلِ اللّهِ
عَزّ وَجَلّ { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } كَانَ مِمّنْ طَلّقَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ ، طَلّقَ امْرَأَتَهُ [ ص 64 ] قُرَيْبَةَ بِنْتِ أَبِي
أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَتَزَوّجَهَا بَعْدَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي
سُفْيَانَ وَهُمَا عَلَى شِرْكِهِمَا بِمَكّةَ وَأُمّ كُلْثُومٍ بِنْتَ جَرْوَلَ
أُمّ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ الْخُزَاعِيّةَ فَتَزَوّجَهَا أَبُو جَهْمِ بْنُ
حُذَيْفَةَ بْنِ غَانِمٍ ، رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ وَهُمَا عَلَى شِرْكِهِمَا .
بُشْرَى فَتْحِ مَكّةَ
وَتَعْجِيلُ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ أَنّ بَعْضَ مَنْ كَانَ مَعَ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَهُ لَمّا قَدِمَ
الْمَدِينَةَ : أَلَمْ تَقُلْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّك تَدْخُلُ مَكّةَ آمِنًا ؟
قَالَ " بَلَى ، أَفَقُلْت لَكُمْ مِنْ عَامِي هَذَا ؟ " قَالُوا : لَا
، قَالَ فَهُوَ كَمَا قَالَ لِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُSمِنْ
مَوَاقِفِ عُمَرَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ
فَصْلٌ
[ ص 61 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلَمْ تَعِدْنَا أَنّا تَأْتِي
الْبَيْتَ وَنَطُوفُ بِهِ ؟ فَقَالَ " نَعَمْ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ . كَانَ
النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَدْ أُرِيَ ذَلِكَ فِي مَنَامِهِ
وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ ثُمّ أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : { لَقَدْ صَدَقَ
اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيَا بِالْحَقّ } [ الْفَتْحُ 27 ] الْآيَةُ وَيُسْأَلُ
عَنْ قَوْلِهِ { إِنْ شَاءَ اللّهُ آمِنِينَ } مَا فَائِدَةُ هَذَا
الِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ خَبَرٌ وَاجِبٌ ؟ وَفِي الْجَوَابِ أَقْوَالٌ أَحَدُهَا :
أَنّهُ رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ آمِنِينَ لَا إلَى نَفْسِ الدّخُولِ وَهَذَا ضَعِيفٌ
لِأَنّ الْوَعْدَ بِالْأَمَانِ قَدْ انْدَرَجَ فِي الْوَعْدِ بِالدّخُولِ .
الثّانِي : أَنّهُ وَعْدٌ عَلَى الْجُمْلَةِ وَالِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ إلَى
التّفْصِيلِ إذْ لَا يَدْرِي كُلّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ هَلْ يَعِيشُ إلَى ذَلِكَ
أَمْ لَا ، فَرَجَعَ الشّكّ إلَى هَذَا الْمَعْنَى ، لَا إلَى الْأَمْرِ
الْمَوْعُودِ بِهِ وَقَدْ قِيلَ إنّمَا هُوَ تَعْلِيمٌ لِلْعِبَادِ أَنْ يَقُولُوا
هَذِهِ الْكَلِمَةَ ويستعملونها فِي كُلّ فِعْلٍ مُسْتَقْبَلٍ أَعْنِي : إنْ شَاءَ
اللّهُ .
بَيْعَةُ الشّجَرَةِ وَأَوّلُ مَنْ بَايَعَ
فَصْلٌ
[ ص 62 ] وَذَكَرَ بَيْعَةَ الشّجَرَةِ ، وَسَبَبَهَا ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَوّلَ
مَنْ بَايَعَ وَذَكَرَ الْوَاقِدِيّ أَنّ أَوّلَ مَنْ بَايَعَ بَيْعَةَ
الرّضْوَانِ سِنَانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ الْأَسَدِيّ . وَقَالَ مُوسَى بْنُ
عُقْبَةَ : أَوّلُ مَنْ بَايَعَ أَبُو سِنَانٍ وَاسْمُهُ وَهْبُ بْنُ مِحْصَنٍ
أَخُو عُكّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ الْأَسَدِيّ ، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ : كَانَ أَبُو
سِنَانٍ أَسَنّ مِنْ أَخِيهِ عُكّاشَةَ بِعَشْرِ سِنِينَ شَهِدَ بَدْرًا ،
وَتُوُفّيَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَيُرْوَى أَنّهُ حِينَ قَالَ لِلنّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اُبْسُطْ يَدَك أُبَايِعْك ، قَالَ عَلَامَ تُبَايِعُنِي
؟ قَالَ عَلَى مَا فِي نَفْسِك يَا رَسُولَ اللّهِ وَأَمّا سِنَانٌ ابْنُهُ فَهُوَ
أَيْضًا بَدْرِيّ ، مَاتَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ وَأَمّا مُبَايَعَتُهُمْ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَحْتَ الشّجَرَةِ ، وَكَانُوا
أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ ف¡