تفسير سورة المؤمنون
رقم23/ المؤمنون مكية 118-342.
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)
المؤمنون - تفسير ابن كثير
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
تفسير سورة المؤمنون (1)
مكية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) } .
قال الإمام أحمد: حدثنا عبد الرزاق، أخبرني يونس بن سُلَيْم قال: أملى عليَّ يونس بن يزيد (2) الأيلي، عن ابن شهاب، عن عُرْوَة بن الزبير، عن عبد الرحمن بن عَبْدٍ القاريّ قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحيُ، يسمع عند وجهه كدَوِيّ النحل فَمَكثنا ساعة، فاستقبل القبلة ورفع يديه، فقال:"اللهم، زدنا ولا تَنْقُصْنا، وأكرمنا ولا تُهِنَّا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثِرْنا ولا تؤثر [علينا، وارض عنا] (3) وأرضِنا" ، ثم قال: "لقد أنزلت علي عشر آيات، من أقامهن دخل الجنة"، ثم قرأ: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } حتى ختم العَشْر.
وكذا روى (4) الترمذي في تفسيره، والنسائي في الصلاة، من حديث عبد الرزاق، به (5) .
وقال الترمذي: منكر، لا نعرف أحدا رواه غير يونس بن سليم، ويونس لا نعرفه.
وقال النسائي في تفسيره: أنبأنا قُتَيْبَةَ بن سعيد، حدثنا جعفر، عن أبي عمران عن يزيد بن بابَنُوس قال: قلنا لعائشة: يا أم المؤمنين، كيف كان (6) خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فقرأت: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } حتى انتهت إلى: { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } ، قالت: هكذا كان خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم . (7)
وقد رُوي عن كعب الأحبار، ومجاهد، وأبي العالية، وغيرهم: لَمَّا خلق الله جنة عدن،
__________
(1) في ف: "المؤمنين".
(2) في أ: "زيد".
(3) زيادة من ف، أ، والمسند.
(4) في أ: "رواه".
(5) المسند (1/34) وسنن الترمذي برقم (3173) وسنن النسائي الكبرى برقم (1439) .
(6) في أ: "حال".
(7) سنن النسائي الكبرى برقم (11350) .
(5/359)
وغرسها بيده، نظر إليها وقال لها. تكلمي. فقالت: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } ، قال كعب الأحبار: لِمَا أعدَّ لهم فيها من الكرامة. وقال أبو العالية: فأنزل الله ذلك في كتابه.
وقد رُوي ذلك عن أبي سعيد الخدري مرفوعا، فقال أبو بكر البزار: حدثنا محمد بن المُثَنَّى، حدثنا المغيرة بن سلمة، حدثنا وُهَيْب، عن الجُرَيْري، عن أبي نَضْرَة، عن أبي سعيد قال: خلق الله الجنة، لَبِنَةً من ذهب ولبنة من فضة، وغرسها، وقال لها: تكلمي. فقالت: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } ، فدخلتها الملائكة فقالت: طوبى لك، منزلَ الملوك! . (1)
ثم قال (2) : وحدثنا بِشْر بن آدم، وحدثنا يونس بن عبيد الله العُمَري، حدثنا عَدِي بن الفضل، حدثنا الجُرَيْرِي، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خلق الله الجنة، لَبِنَةً من ذهب ولبنة من فضة، وملاطها (3) المسك" . قال أبو بكر: ورأيت في موضع آخر في (4) هذا الحديث: "حائط الجنة، لبنة ذهب ولبنة فضة، ومِلاطُها المسك. فقال لها: تكلمي. فقالت: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } فقالت الملائكة: طوبى لك، منزل الملوك!".
ثم قال البزار: لا نعلم أحدًا رفعه إلا عَدِيّ بن الفضل، وليس هو بالحافظ، وهو شيخ متقدم الموت (5) .
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني: حدثنا أحمد بن علي، حدثنا هشام بن خالد، حدثنا بَقِيَّة، عن ابن جُرَيْج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لمّا خلق الله جنة عَدْن، خلق فيها ما لا عين رأت، [ولا أذن سمعت] (6) ، ولا خطر على قلب بشر. ثم قال لها: تكلمي. فقالت: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } (7) .
بَقِيًّة: عن الحجازيين ضعيف.
وقال الطبراني: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا مِنْجَابُ بن الحارث، حدثنا حماد ابن عيسى العبسي، عن إسماعيل السُّدِّيّ، عن أبي صالح، عن ابن عباس -يرفعه-: "لما خلق الله جنة عَدْن بيده، ودَلَّى فيها ثمارها، وشق فيها أنهارها، ثم نظر إليها فقال: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } . قال: وعزتي (8) لا يجاورني فيك بخيل" (9) .
__________
(1) مسند البزار برقم (3507) "كشف الأستار". تنبيه: وقع في مسند البزار سنده هكذا: "حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا حجاج بن المنهال، حدثنا حماد بن سلمة عن الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد.
(2) في أ: "وقال".
(3) في أ: "بلاطها".
(4) في أ: "من".
(5) مسند البزار برقم (3508) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (10/397): "رجال الموقوف رجال الصحيح".
(6) زيادة من ف، أ.
(7) المعجم الكبير (11/184).
(8) في أ: "وعزتي وجلالي".
(9) المعجم الأوسط برقم (4861) "مجمع البحرين" ، وأبي صالح ضعيف.
(5/460)
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا: حدثنا محمد بن المثنى البَزَّار، حدثنا محمد بن زياد الكلبي، حدثنا يعيش بن حسين، عن سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قَتادة، عن أنس، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلق الله جنة عدن بيده، لبنة من دُرَّة بيضاء، ولبنة من ياقوتة حمراء، ولبنة من زَبَرْجَدَةَ خضراء، ملاطُها المسك، وحَصْباؤها اللؤلؤ، وحَشِيشها الزعفران، ثم قال لها: انطقي. قالت: (1) { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } فقال الله: وعزتي، وجلالي لا يجاورني فيك بخيل". ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: { وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } (2) [الحشر: 9] فقوله تعالى: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } أي: قد فازوا وسُعِدُوا وحَصَلوا على الفلاح، وهم المؤمنون المتصفون بهذه الأوصاف.
{ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ } " قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: { خَاشِعُونَ } : خائفون ساكنون. وكذا روي عن مجاهد، والحسن، وقتادة، والزهري (3) .
وعن علي بن أبي طالب، رَضِي الله عنه: الخشوعُ: خشوعُ القلبِ. وكذا قال إبراهيم النخعي.
وقال الحسن البصري: كان خشوعهم في قلوبهم، فغضوا بذلك أبصارهم، وخفضوا الجناح.
وقال محمد بن سيرين: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة، فلما نزلت هذه الآية: { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ . الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ } خفضوا أبصارهم إلى موضع سجودهم.
[و] (4) قال ابن سيرين: وكانوا يقولون: لا يجاوز بصره مُصَلاه، فإن كان قد اعتاد النظر فَلْيُغْمِضْ. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
ثم رَوَى (5) ابن جرير عنه، وعن عطاء بن أبي رَبَاح أيضًا مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، حتى نزلت هذه الآية.
والخشوع في الصلاة إنما يحصل بمن فَرَّغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، وحينئذ تكون راحة له وقُرَّة عين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي، عن أنس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "حُبِّبَ إليَّ الطِّيب والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة" (6) .
وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، حدثنا مِسْعَر، عن عمرو بن مُرَّة، عن سالم بن أبي الجَعْد،
__________
(1) في أ: "فقالت" .
(2) صفة الجنة لابن أبي الدنيا برقم (20) وفي إسناده محمد بن زياد الكلبي، قال ابن معين: لا شيء.
تنبيه: وقع في صفة الجنة : "حدثنا محمد بن زياد الكلبي حدثنا بشر بن الحسين" وفي النهاية في الفتن والملاحم لابن كثير (2/279) "نفيس بن ضين ".
(3) في ف، أ: "والزهري وقتادة".
(4) زيادة من أ.
(5) في أ: "ورواه".
(6) المسند (3/128) وسنن النسائي (6117).
(5/461)
عن رجل من أسلَم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا بلال، أرحنا بالصلاة" (1) .
وقال الإمام أحمد أيضًا؛ حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي، حدثنا إسرائيل، عن عثمان بن المغيرة، عن سالم ابن أبي الجعد، أن محمد بن الحنفية قال: دخلت مع أبي على صهر لنا من الأنصار، فحَضَرت الصلاة، فقال: يا جارية، ائتني بوَضُوء لعلي أصلي فأستريح. فرآنا (2) أنكرنا عليه ذلك (3) ، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قم يا بلال، فأرحنا بالصلاة" (4) .
وقال (5) : { وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } أي: عن الباطل، وهو يشمل: الشرك -كما قاله بعضهم-والمعاصي -كما قاله آخرون -وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال، كما قال تعالى: { وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا } [الفرقان: 72] .
قال قتادة: أتاهم والله من أمر الله ما وقَذَهم عن ذلك.
وقوله: { وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ } : الأكثرون على أن المراد بالزكاة هاهنا زكاة الأموال، مع أن هذه [الآية] (6) مكية، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة في سنة اثنتين من الهجرة. والظاهر أن التي فرضت بالمدينة إنما هي ذات النَّصَب والمقادير الخاصة، وإلا فالظاهر أن أصل الزكاة كان واجبًا بمكة، كما قال تعالى في سورة الأنعام، وهي مكية: { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } [الأنعام: 141] .
وقد يحتمل أن يكون المراد بالزكاة هاهنا: زكاة النفس من الشرك والدنس، كقوله: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا } [الشمس: 9، 10] ، وكقوله: { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ . الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } [فصلت: 6، 7] ، على أحد القولين في تفسيرها.
وقد يحتمل أن يكون كلا الأمرين مرادا، وهو زكاة النفوس وزكاة الأموال؛ فإنه من جملة زكاة النفوس، والمؤمن الكامل هو الذي يتعاطى هذا وهذا، والله أعلم.
وقوله: { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ . إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } أي: والذين قد حفظوا فروجهم من الحرام، فلا يقعون فيما نهاهم الله عنه من زنا أو لواط، ولا يقربون سوى أزواجهم التي أحلها الله لهم، وما ملكت أيمانهم من السراري، ومن تعاطى ما أحله الله له فلا لوم عليه ولا حرج؛ ولهذا (7) قال: { فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ } أي: غير الأزواج والإماء، { فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } أي: المعتدون.
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بَشَّار، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد، عن قتادة، أن امرأة
__________
(1) المسند (5/364).
(2) في ف، أ: "فرأى أنا".
(3) في ف: "ذلك عليه".
(4) المسند (5/371).
(5) في أ : "وقوله".
(6) زيادة من ف، أ.
(7) في ف: "فلهذا".
(5/462)
اتخذت مملوكها، وقالت: تأَوّلْت آية من كتاب الله: { أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } [قال] (1) : فأُتي بها عمر ابن الخطاب، فقال له ناس من أصحاب النبي (2) صلى الله عليه وسلم: تأولت آية من كتاب الله على غير وجهها. قال: فَغرب (3) العبد وجزّ رأسه: وقال: أنت بعده حرام على كل مسلم. هذا أثر غريب منقطع، ذكره (4) ابن جرير في أول تفسير سورة المائدة (5) ، وهو هاهنا أليق، وإنما حرمها على الرجال معاملة لها بنقيض قصدها، والله أعلم.
وقد استدل الإمام الشافعي، رحمه الله، ومن وافقه على تحريم الاستمناء باليد بهذه الآية الكريمة { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ . إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } قال: فهذا الصنيع خارج عن هذين القسمين، وقد قال: { فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ } وقد استأنسوا بحديث رواه الإمام الحسن بن عَرَفَةَ في جزئه المشهور حيث قال:
حدثني علي بن ثابت الجَزَريّ، عن مسلمة بن جعفر، عن حسان بن حميد (6) ، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا يجمعهم مع العاملين، ويدخلهم النار أول الداخلين، إلا أن يتوبوا، فمن تاب تاب الله عليه: ناكح يده (7) ، والفاعل، والمفعول به، ومدمن (8) الخمر، والضارب والديه حتى يستغيثا، والمؤذي جيرانه حتى يلعنوه، والناكح حليلة جاره" (9) .
هذا حديث غريب، وإسناده فيه من لا يعرف؛ لجهالته، والله أعلم.
وقوله: { وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } أي: إذا اؤتمنوا لم يخونوا، بل يؤدونها إلى أهلها، وإذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا بذلك، لا كصفات المنافقين الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق ثلاث: إذا حَدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان".
وقوله: { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } أي: يواظبون عليها في مواقيتها، كما قال ابن مسعود: سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، أيّ العمل أحب إلى الله؟ قال: "الصلاة على وقتها" . قلت: ثم أيّ؟ قال: "بِرُّ الوالدين" . قلت: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله".
أخرجاه في الصحيحين (10) . وفي مستدرك الحاكم قال: "الصلاة في أول وقتها" (11) .
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ: "رسول الله".
(3) في ف، أ: "فضرب" وهو الصحيح.
(4) في أ: "ذكرها".
(5) تفسير الطبري (9/586) ط - المعارف.
(6) في ف، أ: "أحمد".
(7) في ف، أ: "الناكح يده".
(8) في ف، أ: "المدمن".
(9) جزء الحسن بن عرفة برقم (41).
(10) صحيح البخاري برقم (5970) وصحيح مسلم برقم (85).
(11) المستدرك (1/188) وقال الحاكم: "فقد صحت هذه اللفظة باتفاق الثقتين بندار بن بشار، والحسن بن مكرم على روايتهما عن عثمان بن عمرو، وهو صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه".
(5/463)
وقال ابن مسعود، ومسروق في قوله: { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } يعني: مواقيت الصلاة. وكذا قال أبو الضُّحَى، وعلقمة بن قيس، وسعيد بن جبير، وعكرمة.
وقال قتادة: على مواقيتها وركوعها وسجودها.
وقد افتتح الله ذكر هذه الصفات الحميدة بالصلاة، واختتمها بالصلاة، فدل على أفضليتها، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن" (1) .
ولَما وَصَفَهم [الله] (2) تعالى بالقيام بهذه الصفات الحميدة والأفعال الرشيدة قال: { أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمن" (3) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سِنَان، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة ومنزل في النار، فإن مات فدخل النار وَرثَ أهل الجنة منزله، فذلك قوله: { أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ } (4) .
وقال ابن جُرَيْج، عن لَيْث، عن مجاهد: { أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ } قال: ما من عبد إلا وله منزلان: منزل في الجنة، ومنزل في النار، فأما المؤمن فيُبنَى بيته الذي في الجنة، ويُهدّم بيته الذي في النار (5) ، وأما الكافر فيُهْدَم بيته الذي في الجنة، ويُبنى بيته الذي في النار. وروي عن سعيد بن جُبَيْر نحو ذلك.
فالمؤمنون يرثون منازل الكفار؛ لأنهم [كلهم] (6) خلقوا لعبادة الله تعالى (7) ، فلما قام هؤلاء المؤمنون بما وجب عليهم من العبادة، وترَكَ أولئك ما أمرُوا به مما خُلقوا له -أحرزَ هؤلاء نصيب
__________
(1) جاء من حديث ثوبان: رواه ابن ماجه في السنن برقم (277) من طريق سفيان عن منصور عن ابن أبي الجعد عنه به وفيه انقطاع. ومن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: رواه ابن ماجه في السنن برقم (278) من طريق المعتمر عن ليث عن مجاهد عنه به، وليث بن أبي سليم ضعيف. ومن حديث أبي أمامة: رواه ابن ماجه في السنن برقم (279) من طريق إسحاق بن أسيد عن أبي حفص الدمشقي عنه به، وضعفه البوصيري في الزوائد.
(2) زيادة من ف، أ.
(3) البخاري في صحيحه برقم (2790) ، (7423) عن أبي هريرة، ولم يعزه صاحب التحفة إلى غير البخاري.
(4) ورواه ابن ماجه في السنن برقم (4341) عن أبي بكر بن أبي شيبة وأحمد بن سنان، كلاهما عن أبي معاوية به. وقال البوصيري في الزوائد (3/327) : "هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين".
(5) في ف، أ: "فيهدم بيته الذي في النار، ويبنى بيته الذي في الجنة".
(6) زيادة من أ.
(7) في ف، أ: "وحده لا شريك له".
(5/464)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
أولئك لو كانوا أطاعوا ربهم عز وجل، بل أبلغ من هذا أيضًا، وهو ما ثبت في صحيح مسلم، عن أبي بُردَةَ (1) ، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال، فيغفرها الله لهم، ويضَعُها على اليهود والنصارى" (2) .
وفي لفظ له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة دَفَعَ الله لكل مسلم يهوديًّا أو نصرانيًّا، فيقال (3) : هذا فَكَاكُكَ من النار". فاستحلف عُمر بن عبد العزيز أبا بُردَةَ بالله الذي لا إله إلا هو، ثلاث مرات، أن أباه حَدَّثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فحلف له (4) . قلت: وهذه الآية كقوله تعالى: { تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا } [مريم: 63] ، وكقوله: { وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [الزخرف: 73] . وقد قال مجاهد، وسعيد بن جُبَيْر: الجنة بالرومية هي الفردوس.
وقال بعض السلف: لا يسمى البستان فردوسًا إلا إذا كان فيه عنب، فالله أعلم (5) .
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) } .
يقول تعالى مخبرًا عن ابتداء خلق الإنسان من سلالة من طين، وهو آدم، عليه السلام، خلقه الله من صلصال من حمأ مسنون.
وقال الأعمش، عن المِنْهال بن عمرو، عن أبي يحيى، عن ابن عباس: { مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ } قال: صَفوةُ الماء.
وقال مجاهد: { مِنْ سُلالَةٍ } أي: من منيّ آدم.
قال ابن جرير: وإنما سمي آدم طينًا لأنه مخلوق منه.
وقال قتادة: استُلّ آدمُ من الطين. وهذا أظهر في المعنى، وأقرب إلى السياق، فإن آدم، عليه السلام، خلق من طين لازب، وهو الصلصال من الحمأ المسنون، وذلك مخلوق من التراب، كما قال تعالى: { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ } [الروم: 20] .
__________
(1) في ف، أ: "بردة بن أبي موسى".
(2) صحيح مسلم برقم (2767).
(3) في ف، أ: "فيقول".
(4) صحيح مسلم برقم (2767).
(5) في ف، أ: "والله أعلم.
(5/465)
وقال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا عَوْف، حدثنا قَسَامة بن زُهَيْر، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قَدْر الأرض، جاء منهم الأحمر والأسود والأبيض، وبين ذلك، والخبيث والطيب، وبين ذلك".
وقد رواه أبو داود والترمذي، من طرق، عن عوف الأعرابي، به نحوه (1) . وقال الترمذي: حسن صحيح.
{ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً } : هذا الضمير عائد على جنس الإنسان، كما قال في الآية الأخرى: { وَبَدَأَ خَلْقَ الإنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ } [السجدة: 7، 8] أي: ضعيف، كما قال: { أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ . فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ } (2) ، يعني: الرحمُ مُعَد لذلك مهيأ له، { إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ } [المرسلات: 22، 23] ، أي: [إلى] (3) مدة معلومة وأجل معين حتى استحكم وتنَقَّل من حال إلى حال، وصفة إلى صفة؛ ولهذا قال هاهنا: { ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً } أي: ثم صَيَّرنا النطفة، وهي الماء الدافق الذي يخرج من صلب الرجل -وهو ظهره-وترائب المرأة-وهي عظام صدرها ما بين الترقوة إلى الثندوة-فصارت علقة حمراء على شكل العلقة مستطيلة. قال عكرمة: وهي دم.
{ فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً } : وهي قطعة كالبَضعة من اللحم، لا شكل فيها ولا تخطيط، { فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا } يعني: شكلناها ذات رأس ويدين ورجلين بعظامها وعصبها وعروقها.
وقرأ آخرون: { فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا (4) } .
قال ابن عباس: وهو عظم الصلب.
وفي الصحيح، من حديث أبي الزِّنَاد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل جسد ابن آدم يبلى إلا عَجْبُ الذَّنَب، منه خلق ومنه (5) يركب" (6) .
{ فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا } أي: وجعلنا على ذلك ما يستره ويشده ويقويه، { ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ } أي: ثم نفخنا فيه الروح، فتحرك وصار { خَلْقًا آخَرَ } ذا سمع وبصر وإدراك وحركة واضطراب { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، حدثنا جعفر بن مُسافر، حدثنا يحيى بن حسان، حدثنا النضر -يعني: ابن كثير، مولى بني هاشم-حدثنا زيد بن علي، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال: إذا أتمت النطفة أربعة أشهر، بُعِث إليها مَلك فنفخ فيها الروح في
__________
(1) المسند (4/400) وسنن أبي داود برقم (4693) وسنن الترمذي برقم (2955).
(2) في أ: "فجعلناه نطفة" وهو خطأ.
(3) زيادة من ف، أ.
(4) في ف، أ: "النطفة عظاما".
(5) في أ: "وفيه".
(6) صحيح البخاري برقم (4935) وصحيح مسلم برقم (2955) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5/466)
الظلمات الثلاث، فذلك قوله: { ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ } يعني: نفخنا فيه الروح (1) .
ورُوي عن أبي سعيد الخدري أنه نَفْخُ الروح.
قال ابن عباس: { ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ } يعني به: الروح (2) . وكذا قال مجاهد، وعكرمة، والشعبي، والحسن، وأبو العالية، والضحاك، والربيع بن أنس، والسدي، وابنُ زيد، واختاره ابنُ جرير (3) .
وقال العَوْفِيّ، عن ابن عباس: { ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ } يعني: ننقله من حال إلى حال، إلى أن خرج طفلا ثم نشأ صغيرًا، ثم احتلم، ثم صار شابًّا، ثم كهلا ثم شيخًا، ثم هرما.
وعن قتادة، والضحاك نحو ذلك. ولا منافاة، فإنه من ابتداء (4) نفخ الروح [فيه] (5) شَرَع في هذه التنقلات والأحوال. والله أعلم.
قال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن زيد بن وهب، عن عبد الله -هو ابن مسعود-قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم ليُجمع خَلقُه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: رزقه، وأجله، وعمله، وهل هو شقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيختم له بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل (6) ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيختم له بعمل أهل الجنة فيدخلها".
أخرجاه من حديث سليمانَ بن مِهْرَان الأعمش (7) .
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سِنَان، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن خَيْثَمَة قال: قال عبد الله (8) -يعني: ابن مسعود-إن النطفة إذا وقعت في الرحم، طارت في كل شعر وظفر، فتمكث أربعين يوما، ثم تتحدّر (9) في الرحم فتكون علقة.
وقال الإمام أحمد أيضًا: حدثنا حسين بن الحسن، حدثنا أبو كُدَيْنة، عن عطاء بن السائب، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن عبد الله قال: مَرَّ يهوديّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث أصحابه، فقالت قريش: يا يهودي، إن هذا يَزعمُ أنه نبي. فقال: لأسألنه عن شيء لا يعلمه إلا نبي. قال: فجاءه حتى جلس، فقال: يا محمد، مِمَّ يخلق الإنسان؟ فقال: "يا يهودي، من كلٍّ
__________
(1) في ف: "يعني به الروح".
(2) في ف: "يعني نفخنا فيه الروح".
(3) تفسير الطبري (8-81).
(4) في ف: "ابتدأ".
(5) زيادة من ف، أ.
(6) في ف: "أحدكم".
(7) المسند (1/382) وصحيح البخاري برقم (6594) وصحيح مسلم برقم (2643) .
(8) في ف: "عن خيثمة عن عبد الله قال: قال".
(9) في ف، أ: "تنحدر".
(5/467)
يُخْلَقُ، من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة، فأما نطفة الرجل فنطفة غليظة منها العظم والعَصَب، وأما نطفة المرأة فنطفة رقيقة منها اللحم والدم" فقام اليهودي فقال: هكذا كان يقول من قبلك . (1)
وقال الإمام أحمد: حدثنا سفيان عن عمرو، عن أبي الطُّفَيْل، حُذَيْفَة بن أُسَيْد الغفاري قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يدخل المَلك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين ليلة، فيقول: يا رب، ماذا؟ أشقي أم سعيد؟ أذكر أم أنثى؟ فيقول الله، فيكتبان (2) . فيقولان: ماذا؟ أذكر أم أنثى؟ فيقول الله عز وجل، فيكتبان ويُكْتَبُ عمله، وأثره، ومصيبته، ورزقه، ثم تطوى الصحيفة، فلا يُزاد على ما فيها ولا ينقص".
وقد رواه مسلم في صحيحه، من حديث سفيان بن عيينة، عن عمرو -وهو ابن دينار-به (3) نحوه. ومن طُرَق أخرَى، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، عن حذيفة بن أسيد أبي سريحة (4) الغفاري بنحوه، والله أعلم (5) .
وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا أحمد بن عبدة، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا عبيد الله بن أبي بكر، عن أنس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله وكّل بالرحم مَلكًا فيقول: أي رب، نطفة. أيْ رب، علقة (6) أي رب، مضغة. فإذا أراد الله خلقها قال: يا رب، ذكر أو أنثى؟ شقي أو سعيد؟ فما الرزق والأجل؟" قال: "فذلك يكتب في بطن أمه".
أخرجاه في الصحيحين من حديث حماد بن زيد به (7) .
وقوله: { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } يعني: حين ذكر قدرته ولطفه في خلق هذه النطفة من حال إلى حال، وشكل إلى شكل، حتى تصورت إلى ما صارت إليه من الإنسان السَّوِيّ الكامل الخلق، قال: { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }
قال ابن أبي حاتم: حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا علي بن زيد، عن أنس، قال: قال عمر -يعني: ابن الخطاب رضي الله عنه-: وافقت ربي ووافقني في أربع: نزلت هذه الآية: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ } الآية، قلت (8) أنا: فتبارك الله أحسن الخالقين. فنزلت: { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ }
__________
(1) المسند (1/465).
(2) في ف: "ويكتبان".
(3) المسند (4/6) وصحيح مسلم برقم (2644).
(4) في أ: "سريح".
(5) صحيح مسلم برقم (2645).
(6) في ف: "فحلقه".
(7) صحيح البخاري برقم (318) وصحيح مسلم برقم (2646).
(8) في ف، أ: "الآية، فلما نزلت قلت".
(5/468)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)
وقال أيضًا: حدثنا أبي، حدثنا آدم بن أبي إياس، حدثنا شَيْبَان، عن جابر الجُعْفِي، عن عامر الشعبي، عن زيد بن ثابت الأنصاري قال: أملى عليَّ رسولُ الله هذه الآية: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ } إلى قوله: { خَلْقًا آخَرَ } ، فقال معاذ: { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له معاذ: مم ضحكت يا رسول الله؟ قال: "بها ختمت { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } (1) .
جابر بن يزيد الجُعْفِي ضعيف جدًّا، وفي خبره هذا نَكَارة شَديدة، وذلك أن هذه السورة مكية، وزيد بن ثابت إنما كتب الوحي بالمدينة، وكذلك (2) إسلام معاذ بن جبل إنما كان بالمدينة أيضًا، فالله أعلم (3) .
وقوله: { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ } يعني: بعد هذه النشأة الأولى من العدم تَصيرون إلى الموت، { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ } يعني: النشأة الآخرة، { ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ } [العنكبوت:20] يعني: يوم المعاد، وقيام الأرواح والأجساد، فيحاسب الخلائق، ويوفي كل عامل عمله، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) } .
لما ذكر تعالى خَلْق الإنسان، عطف بذكر خلق السموات السبع، وكثيرًا ما يذكر تعالى خلق السموات والأرض (4) مع خلق الإنسان، كما قال تعالى: { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } [غافر:57] . وهكذا في أول { الم } السجدة، التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها [في] (5) صبيحة يوم الجمعة، في أولها خَلْقُ السموات والأرض، ثم بيان خلق الإنسان من سلالة من طين، وفيها أمر المعاد والجزاء، وغير ذلك من المقاصد.
فقوله: { سَبْعَ طَرَائِقَ } : قال مجاهد: يعني السموات السبع، وهذه كقوله تعالى: { تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ } [الإسراء: 44] ، { أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا } [نوح:15] ، { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنزلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا } [الطلاق:12] . وهكذا قال هاهنا: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ } أي: ويعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها،
__________
(1) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (3367) "مجمع البحرين" عن أبي زرعة عن آدم بن إياس به وجابر الجعفي ضعيف.
(2) في ف، أ: "وكذا".
(3) في ف، أ: "والله أعلم".
(4) في أ: "السبع".
(5) زيادة من ف، أ.
(5/469)
وما ينزل من السماء وما يعرُج فيها، وهو معكم أينما كنتم، والله بما تعملون بصير. وهو -سبحانه-لا يَحجبُ عنه سماء سماء، ولا أرض أرضًا، ولا جبل إلا يعلم ما في وَعْره، ولا بحر إلا يعلم ما في قَعْره، يعلم عدد ما في الجبال والتلال والرمال، والبحار والقفار والأشجار، { وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [الأنعام: 59] .
===
المؤمنون - تفسير القرطبي
تفسير سورة المؤمنون
...
سورة المؤمنون
الآيات: 1 - 11 {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
فيه تسع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} روى البيهقي من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لما خلق الله جنة عدن وغرس أشجارها بيده قال لها تكلمي فقالت قد أفلح المؤمنون". وروى النسائي عن عبد الله بن السائب قال: حضرت رسول الله صلى يوم الفتح فصلى في قبل الكعبة، فخلع نعليه فوضعهما عن يسره فافتتح سورة المؤمنين، فلما جاء ذكر موسى أو عيسى عليهما السلام أخذته سعلة فركع. خرجه مسلم بمعناه. وفي الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أنزل علي الوحي سمع عند وجهه كدوي النحل؛ وأنزل عليه يوما فمكثنا عنده ساعة فسري عنه فاستقبل القبلة فرفع يديه وقال: "اللهم زدنا ولا تنقصنا وارضنا وأرض عنا - ثم قال -
(12/102)
أنزل علي عشر آيات من أقامهن دخل الجنة - ثم قرأ - قد أفلح المؤمنون" حتى ختم عشر آيات؛ صححه ابن العربي. وقال النحاس: معنى "من أقامهن" من أقام عليهن ولم يخالف ما فيهن؛ كما تقول: فلان يقوم بعمله. ثم نزل بعد هذه الآيات فرض الوضوء والحج فدخل معهن. وقرأ طلحة بن مصرف {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} بضم الألف على الفعل المجهول؛ أي أبقوا في الثواب والخير. وقد مضى في أول "البقرة" معنى الفلاح لغة ومعنى، والحمد لله وحده.
الثانية: قوله تعالى: {خَاشِعُونَ} روى المعتمر عن خالد عن محمد بن سيرين قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى السماء في الصلاة؛ فأنزل الله عز وجل هذه الآية {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر حيث يسجد. وفي رواية هشيم: كان المسلمون يلتفتون في الصلاة وينظرون حتى أنزل الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} ؛ فأقبلوا على صلاتهم وجعلوا ينظرون أمامهم. وقد تقدم ما للعلماء في حكم المصلي إلى حيث ينظر في "البقرة" عند قول {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144]. وتقدم أيضا معنى الخشوع لغة ومعنى في البقرة أيضا عند قوله تعالى: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة: 45]. والخشوع محله القلب؛ فإذا خشع خشعت الجوارح كلها لخشوعه؛ إذ هو ملكها، حسبما بيناه أول البقرة. وكان الرجل من العلماء إذا أقام الصلاة وقام إليها يهاب الرحمن أن يمد بصره إلى شيء وأن يحدث نفسه بشيء من الدنيا. وقال عطاء: هو ألا يعبث بشيء من جسده في الصلاة. وأبصر صلى الله عليه وسلم صلى رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال: "لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه". وقال أبو ذر قال النبي صلى الله عليه وسلم. "إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الرحمة تواجهه فلا يحركن الحصى". رواه الترمذي. وقال الشاعر:
(12/103)
ألا الصلاة الخير والفضل أجمع ... لأن بها الآراب لله تخضع
وأول فرض من شريعة ديننا ... وآخر ما يبقى إذا الدين يرفع
فمن قام للتكبير لاقته رحمة ... وكان كعبد باب مولاه يقرع
وصار لرب العرش حين صلاته ... نجيا فيا طوباه لو كان يخشع
وروى أبو عمر أن الجوني قال: قيل لعائشة ما كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: أتقرؤون سورة المؤمنين؟ قيل نعم. قالت: اقرؤوا؛ فقرئ عليها {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ - حتى بلغ – يُحَافِظُونَ}. وروى النسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلحظ في صلاته يمينا وشمالا، ولا يلوي عنقه خلف ظهره. وقال كعب بن مالك في حديثه الطويل: ثم أصلي قريبا منه - يعني من النبي صلى الله عليه وسلم - وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني... الحديث؛ ولم يأمره بإعادة.
الثالثة: اختلف الناس في الخشوع، هل هو من فرائض الصلاة أو من فضائلها ومكملاتها على قولين. والصحيح الأول، ومحله القلب، وهو أول علم يرفع من الناس؛ قاله عبادة بن الصامت، رواه الترمذي من حديث جبير بن نفير عن أبي الدرداء، وقال: هذا حديث حسن غريب. وقد خرجه النسائي من حديث جبير بن نفير أيضا عن عوف بن مالك الأشجعي من طريق صحيحة. قال أبو عيسى: ومعاوية بن صالح ثقة عند أهل الحديث، ولا نعلم أحدا تكلم فيه غير يحيى بن سعيد القطان.
قلت: معاوية بن صالح أبو عمرو ويقال أبو عمر الحضرمي الحمصي قاضي الأندلس، سئل عنه أبو حاتم الرازي فقال: صالح الحديث، كتب حديثه ولا يحتج به. واختلف فيه قول يحيى بن معين، ووثقه عبد الرحمن بن مهدي أحمد بن حنبل وأبو زرعة الرازي، واحتج به مسلم في صحيحه. وتقدم في "البقرة" معنى اللغو والزكاة فلا معنى للإعادة. وقال
(12/104)
الضحاك: إن اللغو هنا الشرك. وقال الحسن: إنه المعاصي كلها. فهذا قول جامع يدخل فيه قول من قال: هو الشرك؛ وقول من قال هو الغناء؛ كما روى مالك بن أنس عن محمد بن المنكدر، على ما يأتي في {لُقمان} بيانه. ومعنى {فَاعِلُونَ} أي مؤدون؛ وهي فصيحة، وقد جاءت في كلام العرب. قال أمية ابن أبي الصلت:
المطعمون الطعام في السنة الأز ... مة والفاعلون للزكوات
الرابعة: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} قال ابن العربي: "من غريب القرآن أن هذه الآيات العشر عامة في الرجال والنساء، كسائر ألفاظ القرآن التي هي محتملة لهم فإنها عامة فيهم، إلا قول {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} فإنما خاطب بها الرجال خاصة دون الزوجات، {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} وإنما عرف حفظ المرأة فرجها من أدلة أخرى كآيات الإحصان عموما وخصوصا وغير ذلك من الأدلة.
قلت: وعلى هذا التأويل في الآية فلا يحل لامرأة أن يطأها من تملكه إجماعا من العلماء؛ لأنها غير داخلة في الآية، ولكنها لو أعتقته بعد ملكها له جاز له أن يتزوجها كما يجوز لغيره عند الجمهور. وروي عن عبيدالله بن عبد الله بن عتبة والشعبي والنخعي أنها لو أعتقته حين ملكته كانا على نكاحهما. قال أبو عمر: ولا يقل هذا أحد من فقهاء الأمصار؛ لأن تملكها عندهم يبطل النكاح بينهما، وليس ذلك بطلاق وإنا هو فسخ للنكاح؛ وأنها لو أعتقته بعد ملكها له لم يراجعها إلا بنكاح جديد ولو كانت في عدة منه.
الخامسة: قال محمد بن الحكم: سمعت حرملة بن عبد العزيز قال: سألت مالكا عن الرجل يجلد عميرة، فتلا هذه الآية {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} - إلى قوله – {الْعَادُونَ}. وهذا لأنهم يكنون عن الذكر بعميرة؛ وفيه يقول الشاعر:
إذا حللت بواد لا أنيس به ... فاجلد عميرة لا داء ولا حرج
ويسميه أهل العراق الاستمناء، وهو استفعال من المني. وأحمد بن حنبل على ورعه يجوزه، ويحتج بأنه إخراج فضلة من البدن فجاز عند الحاجة؛ أصله القصد والحجامة. وعامة
(12/105)
العلماء على تحريمه. وقال بعض العلماء: إنه كالفاعل بنفسه، وهي معصية أحدثها الشيطان وأجراها بين الناس حتى صارت قيلة، ويا ليتها لم تقل؛ ولو قام الدليل على جوازها لكان ذو المروءة يعرض عنها لدناءتها. فإن قيل: إنها خير من نكاح الأمة؛ قلنا: نكاح الأمة ولو كانت كافرة على مذهب بعض العلماء خير من هذا، وإن كان قد قال به قائل أيضا، ولكن الاستمناء ضعيف في الدليل أو بالرجل الدنيء فكيف بالرجل الكبير.
السادسة: قوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} قال الفراء: أي من أزواجهم اللاتي أحل الله لهم لا يجاوزون. {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} في موضع خفض معطوفة على {أَزْوَاجِهِمْ} و {مَا} مصدرية. وهذا يقتضي تحريم الزنى وما قلناه من الاستنماء ونكاح المتعة؛ لأن المتمتع بها لا تجري مجرى الزوجات، لا ترث ولا تورث، ولا يلحق به ولدها، ولا يخرج من نكاحها بطلاق يستأنف لها، وإنما يخرج بانقضاء المدة التي عقدت عليها وصارت كالمستأجرة. ابن العربي: إن قلنا إن نكاح المتعة جائز فهي زوجة إلى أجل ينطلق عليها اسم الزوجية. وإن قلنا بالحق الذي أجمعت عليه الأمة من تحريم نكاح المتعة لما كانت زوجة فلم تدخل في الآية.
قلت: وفائدة هذا الخلاف هل يجب الحد ولا يلحق الولد كالزنى الصريح أو يدفع الحد للشبهة ويلحق الولد، قولان لأصحابنا. وقد كان للمتعة في التحليل والتحريم أحوال؛ فمن ذلك أنها كانت مباحة ثم حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن خيبر، ثم حللها في غزاة الفتح؛ ثم حرمها بعد؛ قاله ابن خويز منداد من أصحابنا وغيره، وإليه أشار ابن العربي. وقد مضى في "النساء" القول فيها مستوفى.
السابعة: قوله تعالى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} فسمى من نكح ما لا يحل عاديا وأوجب عليه الحد لعدوانه، واللائط عاد قرآنا ولغة، بدليل قوله تعالى: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء: 166] وكما تقدم في "الأعراف"؛ فوجب أن يقام الحد عليهم، وهذا ظاهر لا غبار عليه.
(12/106)
قلت: فيه نظر، ما لم يكن جاهلا أو متأولا، وإن كان الإجماع منعقدا على أن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} خص به الرجال دون النساء؛ فقد روى معمر عن قتادة قال: تسررت امرأة غلامها؛ فذكر ذلك لعمر فسألها: ما حملك على ذلك؟ قالت: كنت أراه يحل لي ملك يميني كما يحل للرجل المرأة بملك اليمين؛ فاستشار عمر في رجمها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: تأولت كتاب الله عز وجل على غير تأويله، لا رجم عليها. فقال عمر: لا جرم! والله لا أحلك لحر بعده أبدا. عاقبها بذلك ودرأ الحد عنها، وأمر العبد ألا يقربها. وعن أبي بكر بن عبد الله أنه سمع أباه يقول: أنا حضرت عمر ابن عبد العزيز جاءته امرأة بغلام لها وضيء فقالت: إني استسررته فمنعني بنو عمي عن ذلك، وإنما أنا بمنزلة الرجل تكون له الوليدة فيطؤها؛ فإنه عني بني عمي؛ فقال عمر: أتزوجت قبله؟ قالت نعم؛ قال: أما والله لولا منزلتك من الجهالة لرجمتك بالحجارة؛ ولكن اذهبوا به فبيعوه إلى من يخرج به إلى غير بلدها. و {وَرَاءَ} بمعنى سوى، وهو مفعول بـ {ابْتَغَى} أي من طلب سوى الأزواج والولائد المملوكة له. وقال الزجاج: أي فمن ابتغى ما بعد ذلك؛ فمفعول الابتغاء محذوف، و {وَرَاءَ} ظرف. و {ذَلِكَ} يشار به إلى كل مذكور مؤنثا كان أو مذكرا. {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} أي المجاوزون الحد؛ من عدا أي جاوز الحد وجازه.
الثامنة: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} قرأ الجمهور {لِأَمَانَاتِهِمْ} بالجمع. وابن كثير بالإفراد. والأمانة والعهد يجمع كل ما يحمله الإنسان من أمر دينه ودنياه قولا فعلا. وهذا يعم معاشرة الناس والمواعيد وغير ذلك؛ وغاية ذلك حفظه والقيام به. والأمانة أعم من العهد، وكل عهد فهو أمانة فيما تقدم فيه قول أو فعل أو معتقد.
قرأ الجمهور {صَلَوَاتِهِمْ} وحمزة والكسائي {صَلاَتِهِمْ} بالإفراد؛ وهذا الإفراد اسم جنس فهو في معنى الجميع. والمحافظة على الصلاة إقامتها والمبادرة إليها أوائل
(12/107)
أوقاتها، وإتمام ركوعها وسجودها. وقد تقدم في "البقرة" مستوفى. ثم قال: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} أي من عمل بما ذكر في هذه الآيات فهم الوارثون؛ أي يرثون منازل أهل النار من الجنة. وفي الخبر عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى جعل لكل إنسان مسكنا في الجنة ومسكنا في النار فأما المؤمنون فيأخذون منازلهم ويرثون منازل الكفار ويجعل الكفار في منازلهم في النار". خرجه ابن ماجة بمعناه. عن أبي هريرة أيضا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله فذلك قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ} " . إسناده صحيح. ويحتمل أن يسمى الحصول على الجنة وراثة من حيث حصولها دون غيرهم، فهو اسم مستعار على الوجهين. والفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها. خرجه الترمذي من حديث الربيع بن النضر أم حارثة، وقال: حديث حسن صحيح. وفي حديث مسلم "فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ومنه تفجر أنهار الجنة". قال أبو حاتم محمد بن حبان: قوله صلى الله عليه وسلم "فإنه أوسط الجنة" يريد أن الفردوس في وسط الجنان في العرض وهو أعلى الجنة، يريد في الارتفاع. وهذا كله يصحح قول أبي هريرة: إن الفردوس جبل الجنة التي تتفجر منه أنهار الجنة. واللفظة فيما قال مجاهد: رومية عربت. وقيل: هي فارسية عربت. وقيل: حبشية؛ وإن ثبت ذلك فهو وفاق بين اللغات. وقال الضحاك: هو عربي وهو الكرم؛ والعرب تقول للكروم فراديس. {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} فأنث على معنى الجنة.
الآيات: 12 - 14 {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}
(12/108)
فيه خمس مسائل:-
الأولى: قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ} الإنسان هنا آدم عليه الصلاة والسلام؛ قاله قتادة وغيره، لأنه استل من الطين. ويجيء الضمير في قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ} عائدا على ابن آدم، وإن كان لم يذكر لشهرة الأمر؛ فإن المعنى لا يصلح إلا له. نظير ذلك {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32]. وقيل: المراد بالسلالة ابن آدم؛ قاله ابن عباس وغيره. والسلالة على هذا صفوة الماء، يعني المني. والسلالة فعالة من السل وهو استخراج الشيء من الشيء؛ يقال: سللت الشعر من العجين، والسيف من الغمد فانسل؛ ومنه قوله:
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
فالنطفة سلالة، والولد سليل وسلالة؛ عنى به الماء يسل من الظهر سلا. قال الشاعر:
فجاءت به عضب الأديم غضنفرا ... سلالة فرج كان غير حصين
وقال آخر:
وما هند إلا مهرة عربية ... سليلة أفراس تجللها بغل
وقوله: {مِنْ طِينٍ} أي أن الأصل آدم وهو من طين. قلت: أي من طين خالص؛ فأما ولده فهو من طين ومني، حسبما بيناه في أول سورة الأنعام. وقال الكلبي: السلالة الطين إذا عصرته انسل من بين أصابعك؛ فالذي يخرج هو السلالة.
الثانية: {نُطْفَةً} قد مضى القول في النطفة والعلقة والمضغة وما في ذلك من الأحكام في أول الحج، والحمد لله على ذلك.
الثالثة: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} اختلف الناس في الخلق الآخر؛ فقال ابن عباس والشعبي وأبو العالية والضحاك وابن زيد: هو نفخ الروح فيه بعد أن كان
(12/109)
جمادا. وعن ابن عباس: خروج إلى الدنيا. وقال قتادة عن فرقة: نبات شعره. الضحاك: خروج الأسنان ونبات الشعر. مجاهد: كمال شبابه؛ وروي عن ابن عمر: والصحيح أنه عام في هذا وفي غيره من النطق والإدراك وحسن المحاولة وتحصيل المعقولات إلى أن يموت.
الرابعة: قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} يروى أن عمر بن الخطاب لما سمع صدر الآية إلى قوله {خَلْقاً آخَرَ} قال فتبارك الله أحسن الخالقين؛ فقال رسو الله صلى الله عليه وسلم: "هكذا أنزلت". وفي مسند الطيالسي: ونزلت {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} الآية؛ فلما نزلت قلت أنا: تبارك الله أحسن الخالقين؛ فنزلت {تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}. ويروى أن قائل ذلك معاذ ابن جبل. وروي أن قائل ذلك عبد الله بن أبي سرح، وبهذا السبب ارتد وقال: أتي بمثل ما يأتي محمد؛ وفيه نزل {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الأنعام: 93] على ما تقدم بيانه في "الأنعام". وقوله تعالى: {فَتَبَارَكَ} تفاعل من البركة. {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} أتقن الصانعين. يقال لمن صنع شيئا خلقه؛ ومنه قول الشاعر:
ولأنت تقري ما خلقت وبعـ ... ـض القوم يخلق ثم لا يفري
وذهب بعض الناس إلى نفي هذه اللفظة عن الناس وإنما يضاف الخلق إلى الله تعالى. وقال ابن جريج: إنما قال: {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} لأنه تعالى قد أذن لعيسى عليه السلام أن يخلق؛ واضطرب بعضهم في ذلك. ولا تنفى اللفظة عن البشر في معنى الصنع؛ وإنما هي منفية بمعنى الاختراع وإيجاد من العدم.
الخامسة: من هذه الآية قال ابن عباس لعمر حين سأل مشيخة الصحابة عن ليلة القدر فقالوا: الله أعلم؛ فقال عمر: ما تقول يا ابن عباس؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن الله تعالى خلق السموات سبعا والأرضين سبعا، وخلق ابن آدم من سبع وجعل رزقه في سبع، فأراها
(12/110)
في ليلة سبع وعشرين. فقال عمر رضي الله عنه: أعجزكم أن تأتوا بمثل ما أتى هذا الغلام الذي لم تجتمع شؤون رأسه. وهذا الحديث بطول في مسند ابن أبي شيبة. فأراد ابن عباس "خلق ابن آدم من سبع" بهذه الآية، وبقوله: "وجعل رزقه في سبع" قوله: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً. وَعِنَباً وَقَضْباً. وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً. وَحَدَائِقَ غُلْباً. وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} [عبس: 27 - 31] الآية. السبع منها لابن آدم، والأب للأنعام. والقضب يأكله ابن آدم ويسمن منه النساء؛ هذا قول. وقيل: القضب البقول لأنها تقضب؛ فهي رزق ابن آدم. وقيل: القضب والأب للأنعام، والست الباقية لابن آدم، والسابعة هي للأنعام؛ إذ هي من أعظم رزق ابن آدم.
الآيتان: 15 - 16 {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ}
قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ}أ ي بعد الخلق والحياة. والنحاس: ويقال في هذا المعنى لمائتون.ثم أخبر بالبعث بعد الموت فقال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ}.
الآية: 17 {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} قال أبو عبيدة: أي سبع سموات. وحكى عنه أنه يقال: طارقت الشيء، أي جعل بعضه فوق بعض؛ فقيل للسموات طرائق لأن بعضها فوق بعض. والعرب تسمي كل شيء فوق شيء طريقة. وقيل: لأنها طرائق الملائكة. {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} قال بعض العلماء: عن خلق السماء. وقال أكثر المفسرين: أي عن الخلق كلهم من أن تسقط عليهم فتهلكهم.
قلت: ويحتمل أن يكون المعنن {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} أي في القيام بمصالحه وحفظه؛ وهو معنى الحي القيوم؛ على ما تقدم.
=======
المؤمنون - تفسير الطبري
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3)
تفسير سورة المؤمنون
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله جل ثناؤه : { قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) }
قال أبو جعفر: يعني جلّ ثناؤه بقوله:( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) قد أدرك الذين صدّقوا الله ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم ، وأقرّوا بما جاءهم به من عند الله، وعملوا بما دعاهم إليه مما سمى في هذه الآيات، الخلود في جنَّات ربهم وفازوا بطلبتهم لديه.
كما حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزاق، عن معمر، عن قتادة، في قوله:( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) ثم قال: قال كعب: لم يخلق الله بيده إلا ثلاثة: خلق آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس جنة عدن بيده، ثم قال لها: تكلمي! فقالت:( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) لما علمت فيها من الكرامة.
حدثنا سهل بن موسى الرازيّ، قال: ثنا يحيى بن الضريس، عن عمرو بن أبي قيس، عن عبد العزيز بن رفيع، عن مجاهد، قال: لما غرس الله تبارك وتعالى الجنة، نظر إليها فقال:( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ).
قال: ثنا حفص بن عمر، عن أبي خلدة، عن أبي العالية، قال: لما خلق الله الجنة قال:( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) فأنزل به قرآنا.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جبير، عن عطاء، عن ميسرة، قال: "لم يخلق الله شيئا بيده غير أربعة أشياء: خلق آدم بيده، وكتب الألواح بيده، والتوراة بيده، وغرس عدنًا بيده، ثم قال:( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ )".
وقوله:( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) يقول تعالى ذكره: الذين هم في صَلاتهم إذا قاموا فيها خاشعون، وخشوعهم فيها تذللهم لله فيها بطاعته، وقيامهم فيها بما أمرهم بالقيام به فيها. وقيل إنها نزلت من أجل أن القوم كانوا يرفعون أبصارهم فيها إلى السماء قبل نزولها، فنُهُوا بهذه الآية عن ذلك.
(19/694)
*ذكر الرواية بذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت خالدًا، عن محمد بن سيرين، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى نظر إلى السماء، فأنزلت هذه الآية:( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) قال: فجعل بعد ذلك وجهه حيث يسجد".
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون بن المغيرة عن أبي جعفر، عن الحجاج الصّواف، عن ابن سيرين، قال: "كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أبصارهم في الصلاة إلى السماء، حتى نزلت:( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) فقالوا: بعد ذلك برءوسهم هكذا".
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب، عن محمد، قال: "نبئت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء، فنزلت آية، إن لم تكن( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) فلا أدري أية آية هي، قال: فطأطأ. قال: وقال محمد: وكانوا يقولون: لا يجاوز بصره مصلاه، فإن كان قد استعاد النظر فليغْمِض.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، عن ابن عون، عن محمد نحوه.
واختلف أهل التأويل في الذي عنى به في هذا الموضع من الخشوع، فقال بعضهم: عنى به سكون الأطراف في الصلاة.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد:( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) قال: السكون فيها.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الزهريّ:( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) قال: سكون المرء في صلاته.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهريّ، مثله.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن الثوري، عن أبي سفيان الشيباني، عن رجل، عن عليّ، قال: سئل عن قوله:( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) قال: لا تلتفت في صلاتك.
حدثنا عبد الجبار بن يحيى الرملي، قال: قال ضمرة بن ربيعة، عن أبي شَوْذب، عن الحسن، في قوله:( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) قال: كان خشوعهم في قلوبهم،
(19/8)
فغضوا بذلك البصر وخفضوا به الجناح.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم، في قوله:( خَاشِعُونَ ) قال: الخشوع في القلب، وقال: ساكنون.
قال: ثنا الحسن، قال: ثني خالد بن عبد الله، عن المسعوديّ، عن أبي سنان، عن رجل من قومه، عن عليّ رضي الله عنه قال: الخشوع في القلب، وأن تُلِينَ للمرء المسلم كَنَفَك، ولا تلتفت.
قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال عطاء بن أبي رباح، في قوله:( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) قال: التخشع في الصلاة. وقال لي غير عطاء: كان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة نظر عن يمينه ويساره ووُجاهه، حتى نزلت:( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) فما رُئي بعد ذلك ينظر إلا إلى الأرض.
وقال آخرون: عنى به الخوف في هذا الموضع.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن:( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) قال: خائفون.
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، في قوله:( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) قال الحسن: خائفون. وقال قتادة: الخشوع في القلب.
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس في قوله:( الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ) يقول: خائفون ساكنون.
وقد بينا فيما مضى قبل من كتابنا أن الخشوع التذلل والخضوع بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. وإذ كان ذلك كذلك، ولم يكن الله تعالى ذكره دلّ على أن مراده من ذلك معنى دون معنى في عقل ولا خبر، كان معلوما أن معنى مراده من ذلك العموم. وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام ما وصفت من قبل، من أنه: والذين هم في صلاتهم متذللون لله بإدامة ما ألزمهم من فرضه وعبادته، وإذا تذلل لله فيها العبد رُؤيت ذلة خضوعه في سكون أطرافه وشغله بفرضه وتركه ما أُمر بتركه فيها.
وقوله :( وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ) يقول تعالى ذكره: والذين هم عن
(19/9)
وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)
الباطل وما يكرهه الله من خلقه معرضون.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني عليّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله:( وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ) يقول: الباطل.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الحسن:( عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ) قال: عن المعاصي.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الحسن، مثله.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ) قال: النبي صلى الله عليه وسلم، ومن معه من صحابته، ممن آمن به واتبعه وصدقه كانوا "عن اللغو معرضون".
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) }
يقول تعالى ذكره: والذين هم لزكاة أموالهم التي فرضها الله عليهم فيها مؤدّون، وفعلهم الذي وصفوا به هو أداؤهموها. وقوله:( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ ) يقول: والذين هم لفروج أنفسهم وعنى بالفروج في هذا الموضع: فروج الرجال، وذلك أقبالهم.( حافظون ) يحفظونها من أعمالها في شيء من الفروج.( إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ ) يقول: إلا من أزواجهم اللاتي أحلهنّ الله للرجال بالنكاح.( أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ) يعني بذلك: إماءهم. و "ما" التي في قوله:( أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ) محل خفض، عطفا على الأزواج.( فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) يقول: فإن من لم يحفظ فرجه عن زوجه، وملك يمينه، وحفظه عن غيره من الخلق، فإنه غير مُوَبَّخٍ على ذلك، ولا مذمومٍ، ولا هو بفعله ذلك راكب ذنبا يلام عليه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
(19/10)
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10)
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) يقول: رضي الله لهم إتيانهم أزواجهم، وما ملكت أيمانهم.
وقوله:( فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ ) يقول: فمن التمس لفرجه مَنكَحًا سوى زوجته، وملك يمينه،( فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ) يقول: فهم العادون حدود الله، المجاوزون ما أحل الله لهم إلى ما حَرّم عليهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: نهاهم الله نهيا شديدا، فقال:( فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ) فسمى الزاني من العادين.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ) قال: الذين يتعدّون الحلال إلى الحرام.
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن عطاء، عن أبي عبد الرحمن، في قوله :( فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ ) قال: من زنى فهو عاد.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) }
يقول تعالى ذكره:( وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ ) التي ائتمنوا عليها( وَعَهْدِهِمْ ) وهو عقودهم التي عاقدوا الناس( رَاعُونَ ) يقول: حافظون لا يضيعون، ولكنهم يوفون بذلك كله.
واختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار إلا ابن كثير:( وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ ) على الجمع. وقرأ ذلك ابن كثير: "لأمانَتِهِم" على الواحدة.
والصواب من القراءة في ذلك عندنا:( لأمَانَاتِهِمْ ) لإجماع الحجة من القراء عليها.
وقوله:( وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ) يقول: والذين هم على أوقات صلاتهم
(19/11)
يحافظون، فلا يضيعونها ولا يشتغلون عنها حتى تفوتهم، ولكنهم يراعونها حتى يؤدوها فيها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق:( وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ) قال: على وقتها.
حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق( وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ) على ميقاتها.
حدثنا ابن عبد الرحمن البرقي، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا يحيى بن أيوب، قال: أخبرنا ابن زَحر، عن الأعمش، عن مسلم بن صبيح. قال:( وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ) قال : أقام الصلاة لوقتها.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: على صلواتهم دائمون.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم:( عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ) قال: دائمون، قال: يعني بها المكتوبة.
وقوله:( أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ) يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين هذه صفتهم في الدنيا، هم الوارثون يوم القيامة منازل أهل النار من الجنة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، روي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتأوله أهل التأويل.
*ذكر الرواية بذلك:
حدثني أبو السائب، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش. عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلا وَلَهُ مَنزلانِ: مَنزل فِي الجَنَّةِ، ومَنزلٌ فِي النَّارِ، وَإنْ ماتَ وَدَخَل النَّارَ وَرِثَ أهْلُ الجَنَّةِ مَنزلَهُ" فذلك قوله:( أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ).
حدثنا الحسن بن يحيى، قال: ثنا عبد الرّزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، في قوله،( أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ) قال: يرثون مساكنهم، ومساكن إخوانهم التي أعدّت لهم لو أطاعوا الله.
(19/12)
الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
حدثني ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر. عن الأعمش، عن أبي هريرة،( أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ ) قال: يرثون مساكنهم، ومساكن إخوانهم الذين أعدت لهم لو أطاعوا الله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: الوارثون الجنة أورثتموها، والجنة التي نورث من عبادنا هن سواء، قال ابن جريج: قال مجاهد: يرث الذي من أهل الجنة أهله وأهل غيره، ومنزل الذين من أهل النار، هم يرثون أهل النار، فلهم منزلان في الجنة وأهلان، وذلك أنه منزل في الجنة، ومنزل في النار، فأما المؤمن فَيَبْنِي منزله الذي في الجنة، ويهدم منزله في النار. وأما الكافر فيهدم منزله الذي في الجنة. ويبني منزله الذي في النار. قال ابن جريج: عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد، أنه قال مثل ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى : { الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) }
يقول تعالى ذكره:( الَّذِينَ يَرِثُونَ ) البستان ذا الكرم، وهو الفردوس عند العرب. وكان مجاهد يقول: هو بالرومية. حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، في قوله:( الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ ) قال: الفردوس: بستان بالرومية.
قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قال: عدن حديقة في الجنة، قصرها فيها عدنها، خلقها بيده، تفتح كل فجر فينظر فيها، ثم يقول:( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) ، قال: هي الفردوس أيضا تلك الحديقة، قال مجاهد: غرسها الله بيده، فلما بلغت قال:( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) ثم أمر بها تغلق، فلا ينظر فيها خلق ولا ملك مقرب، ثم تفتح كل سحر، فينظر فيها فيقول:( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) ثم تغلق إلى مثلها.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، قال: قتل حارثة بن سُراقة يوم بدر، فقالت أمه: يا رسول الله، إن كان ابني من أهل الجنة؛ لم أبك عليه، وإن كان من أهل النار؛ بالغت في البكاء. قال: "يا أُمَّ حارِثَةَ، إنَّها جَنَّتان في جَنَّةٍ، وإنَّ ابْنَكِ قَدْ أصابَ الْفِردوْس الأعلى من الجَنَّةِ".
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة، عن كعب قال: خلق الله بيده جنة الفردوس، غرسها بيده. ثم قال: تكلمي، قالت:( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ).
(19/13)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12)
قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن حسام بن مصك، عن قتادة أيضا، مثله. غير أنه قال: تكلمي، قالت: طوبى للمتَّقين.
قال: ثنا الحسين، قال: ثنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي داود نفيع، قال: لما خلقها الله، قال لها: تزيني؛ فتزينت، ثم قال لها: تكلمي؛ فقالت: طوبى لمن رضيتَ عنه.
وقوله:( هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) يعني ماكثون فيها، يقول: هؤلاء الذين يرثون الفردوس خالدون، يعني ماكثون فيها أبدًا، لا يتحوّلون عنها.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) }
يقول تعالى ذكره:( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ) أسللناه منه، فالسلالة: هي المستلة من كلّ تربة، ولذلك كان آدم خلق من تربة أخذت من أديم الأرض.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل على اختلاف منهم في المعني بالإنسان في هذا الموضع، فقال بعضهم: عنى به آدم.
* ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قَتَادة:( مِنْ طِينٍ ) قال: استلّ آدم من الطين.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، في قوله:( مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ) قال: استلّ آدم من طين، وخُلقت ذرّيته من ماء مهين.
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولقد خلقنا ولد آدم، وهو الإنسان الذي ذكر في هذا الموضع، من سلالة، وهي النطفة التي استلَّت من ظهر الفحل من طين، وهو آدم الذي خُلق من طين.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن أبي يحيى، عن ابن عباس:( مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ) قال: صفوة الماء.
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:( مِنْ
(19/14)
سُلالَةٍ ) من منيّ آدم.
حدثنا القاسم. قال: ثنا الحسين. قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، مثله.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معناه: ولقد خلقنا ابن آدم من سُلالة آدم، وهي صفة مائه، وآدم هو الطين؛ لأنه خُلق منه.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية؛ لدلالة قوله:( ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ) على أن ذلك كذلك؛ لأنه معلوم أنه لم يصر في قرار مكين إلا بعد خلقه في صلب الفحل، ومن بعد تحوّله من صلبه صار في قرار مكين؛ والعرب تسمي ولد الرجل ونطفته: سليله وسلالته. لأنهما مسلولان منه، ومن السُّلالة قول بعضهم:
حَمَلتْ بِهِ عَضْبَ الأدِيمِ غَضَنفرًا... سُلالَةَ فَرجٍ كان غيرَ حَصِين (1)
وقول الآخر:
وَهَلْ كُنْتُ إلا مُهْرَةً عَرَبِيَّةً... سُلالَةَ أفْراسٍ تجَللها بَغْلُ (2)
فمن قال: سلالة جمعها سلالات، وربما جمعوها سلائل، وليس بالكثير. لأن السلائل جمع للسليل، ومنه قول بعضهم:
إذا أُنْتِجَتْ مِنْها المَهارَى تَشابَهَتْ... عَلى القَوْد إلا بالأنُوفِ سَلائلُهْ (3)
__________
(1) البيت لحسان بن ثابت (اللسان: سلل) وفيه: فجاءت في موضع حملت. وهو شاهد على أن السلالة بمعنى نطفة الإنسان، وسلالة الشيء: ما استل من. واستشهد به المؤلف على أن العرب تسمي ولد الرجل ونطفته: سلالة. وفي اللسان: وقال الفراء: السلالة الذي سل من كل تربة. وقال أبو الهيثم: السلالة: ما سل من صلب الرجل وترائب المرأة، كما يسل الشيء سلا. والسليل: الولد حين يخرج من بطن أمه، لأنه خلق من السلالة. وعن عكرمة أنه قال في السلالة: إنه الماء يسل من الظهر سلا. وعضب الأديم: غليظ الجلد، ولعله يريد وصفه بالشدة والقسوة. ولم أجد هذا التعبير في معاجم اللغة، ووجدته في حاشية جانبية على نسخة مصورة من مجاز القران محفوظة بمكتبة جامعة القاهرة، رقمها26059 عند تفسير قوله تعالى: { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين }.
(2) البيت لهند بنت النعمان (اللسان: سلل ). وروايته: "وما هند إلا مهرة". وهو شاهد على أن السليل الولد، والأنثى سليلة، قال أبو عمرو: السليلة بنت الرجل من صلبه. وتجللها: علاها. والمراد بالبغل هنا: الرجل الشبيه بالبغل والبغل مذموم عند العرب. وفي اللسان: سلل: قال ابن بري: وذكر بعضهم أنها تصحيف، وأن صوابه "نغل" بالنون، وهو الخسيس من الناس والدواب، لأن البغل لا ينسل. وقال ابن شميل: يقال للإنسان أول ما تضعه أمه: سليل. والسليل والسليلة: المهر والمهرة.
(3) لم أجد هذا البيت في معاني القرآن للفراء ولا في مجاز القرآن لأبي عبيدة، ولا في شواهد معاجم اللغة. وهو شاهد على أن السلائل جمع سلالة، وقد شرحنا معناها في الشاهدين السابقين بما أغنى عن تكراره هنا.
(19/15)
ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
وقول الراجز:
يَقْذِفْنَ فِي أسْلابِها بالسَّلائِلِ (1)
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) }
يعني تعالى ذكره بقوله:( ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ) ثم جعلنا الإنسان الذي جعلناه من سلالة من طين نطفة في قرار مكين، وهو حيث استقرّت فيه نطفة الرجل من رحم المرأة، ووصفه بأنه مكين؛ لأنه مكن لذلك ، وهيأ له ليستقرّ فيه إلى بلوغ أمره الذي جعله له قرارا. وقوله:( ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً ) يقول: ثم صيرنا النطفة التي جعلناها في قرار مكين علقة، وهي القطعة من الدم،( فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً ) يقول: فجعلنا ذلك الدم مضغة، وهي القطعة من اللحم.
وقوله:( فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا ) يقول: فجعلنا تلك المضغة اللحم عظاما. وقد اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والعراق سوى عاصم:( فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا ) على الجمع، وكان عاصم وعبد الله يقرآن ذلك:( عَظْما ) في الحرفين على التوحيد جميعا.
__________
(1) كذا ورد هذا الشطر في الأصول محرفًا وحسبه المؤلف من الرجز، ويلوح لي أن هذا جزء من بيت للنابغة الذبياني نسخه بعض النساخ في بعض الكتب، ولم يفطن له المؤلف. وبيت النابغة من البحر الطويل، وهو من قصيدة له يصف الخيل في وقعة عمرو بن الحارث الأصغر الغساني ببني مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان، قال فيها: وَقَدْ خِفْتُ حتى مَا تَزِيدُ مَخَافَتِي ... عَلى وَعِلٍ فِي ذِي المَطَارَةِ عَاقِلِ
مَخَافَةَ عَمْرٍو أَنْ تَكُونَ جِيَادُهُ ... يُقَدْنَ إِلَيْنَا بَيْنَ حَافٍ وَنَاعِلِ
إِذَا اسْتَعْجَلُوهَا عَنْ سَجِيَّةِ مَشْيِهَا ... تَتَلَّعُ فِي أَعْنَاقِهَا بِالجَحَافِلِ
وَيَقْذِفْنَ بِالأَوْلادِ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ ... تَشَحَّطُ فِي أسْلائِهَا كَالْوَصَائِلِ
وهذا البيت الأخير هو محل الشاهد في بحثنا وليس فيه شاهد للمؤلف على السلائل جمع السلالة، لأنها لم تذكر في البيت ولا في القصيدة كلها. وأصل تشحط: تتشحط، أي تضطرب يريد أولاد الخيل. والسلى: الجلدة التي يكون فيها الولد من الإنسان أو الحيوان إذا ولد. الوصائل الثياب الحمر المخططة. والمراد أن الأسلاب كانت موشحة بالدم، وانظر البيت في (اللسان: شحط) وفي المخصص. لابن سيده ( 1 : 17) ومختار الشعر الجاهلي بشرح مصطفى السقا (طبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بالقاهرة ص 211).
(19/16)
والقراءة التي نختار في ذلك الجمع؛ لإجماع الحجة من القراء عليه.
وقوله:( فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ) يقول: فألبسنا العظام لحما. وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله:( ثُمَّ خَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عَظْما ) وعصبا، فكسوناه لحما. وقوله:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ) يقول: ثم أنشأنا هذا الإنسان خلقا آخر. وهذه الهاء التي في:( أَنْشَأْنَاهُ ) عائدة على الإنسان في قوله:( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ ) قد يجوز أن تكون من ذكر العظم والنطفة والمضغة، جعل ذلك كله كالشيء الواحد. فقيل: ثم أنشأنا ذلك خلقا آخر.
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ) فقال بعضهم: إنشاؤه إياه خلقا آخر: نفخه الروح فيه؛ فيصير حينئذ إنسانا، وكان قبل ذلك صورة.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس في قوله:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ) قال: نفخ فيه الروح .
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا هشيم عن الحجاج بن أرطأة، عن عطاء، عن ابن عباس، بمثله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال ابن عباس:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ) قال: الروح.
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، عن عكرمة، في قوله:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ) قال: نفخ فيه الروح .
حدثنا ابن بشار وابن المثنى، قالا ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سلمة، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ) قال: نفخ فيه الروح.
قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، بمثله.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ) قال: نفخ فيه الروح، فهو الخلق الآخر الذي ذكر.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول، في قوله:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا ) يعني الروح تنفخ فيه بعد الخلق.
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ
(19/17)
خَلْقًا آخَرَ ) قال: الروح الذي جعله فيه. وقال آخرون: إنشاؤه خلقا آخر، تصريفه إياه في الأحوال بعد الولادة في الطفولة والكهولة، والاغتذاء، ونبات الشعر والسنّ، ونحو ذلك من أحوال الأحياء في الدنيا.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن سعد، قال: ثنا أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) يقول: خرج من بطن أمه بعد ما خلق، فكان من بدء خلقه الآخر أن استهل، ثم كان من خلقه أن دُلّ على ثدي أمه، ثم كان من خلقه أن علم كيف يبسط رجليه إلى أن قعد، إلى أن حبا، إلى أن قام على رجليه، إلى أن مشى، إلى أن فطم، فعلم كيف يشرب ويأكل من الطعام، إلى أن بلغ الحلم، إلى أن بلغ أن يتقلب في البلاد.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ) قال: يقول بعضهم: هو نبات الشعر، وبعضهم يقول: هو نفخ الروح.
حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله.
حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ) قال: يقال الخلق الآخر بعد خروجه من بطن أمه بسنه وشعره.
وقال آخرون: بل عنى بإنشائه خلقا آخر: سوَّى شبابه.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله:( ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ) قال: حين استوى شبابه.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال مجاهد: حين استوى به الشباب.
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عنى بذلك نفخ الروح فيه، وذلك أنه بنفخ الروح فيه يتحول خلقا آخر إنسانا، وكان قبل ذلك بالأحوال التي وصفه الله أنه كان بها، من نطفة وعلقة ومضغة وعظم وبنفخ الروح فيه، يتحوّل عن تلك المعاني كلها إلى معنى الإنسانية، كما تحوّل أبوه آدم بنفخ الروح في الطينة التي خلق منها إنسانا، وخلقا آخر غير الطين الذي خلق منه.
وقوله:( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال
(19/18)
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
بعضهم: معناه فتبارك الله أحسن الصانعين.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، عن مجاهد:( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) قال: يصنعون ويصنع الله، والله خير الصانعين.
وقال آخرون: إنما قيل:( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) لأن عيسى ابن مريم كان يخلق، فأخبر جل ثناؤه عن نفسه أنه يخلق أحسن مما كان يخلق.
*ذكر من قال ذلك:
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، قال: قال ابن جُرَيج، في قوله:( فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) قال: عيسى ابن مريم يخلق.
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول مجاهد؛ لأن العرب تسمي كل صانع خالقا، ومنه قول زهير:
وَلأنْتَ تَفْرِي ما خَلَقْتَ وَبَعْ... ضُ القَوْمِ يخْلُقُ ثمَّ لا يَفْرِي (1)
ويروى:
ولأنْت تخْلُقُ ما فَريت وَبَعْ... ضُ القَوْمِ يخْلُقُ ثُمَّ لا يَفْرِي
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) }
يقول تعالى ذكره: ثم إنكم أيها الناس من بعد إنشائكم خلقا آخر وتصييرناكم إنسانا سويا ميتون وعائدون ترابا كما كنتم، ثم إنكم بعد موتكم وعودكم رفاتا باليا، مبعوثون من التراب خلقا جديدا، كما بدأناكم أوّل مرّة. وإنما قيل:( ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ ) ؛ لأنه خبر عن حال لهم يحدث لم يكن. وكذلك تقول العرب لمن لم يمت: هو مائت وميت عن قليل، ولا يقولون لمن قد مات مائت، وكذلك هو طمع فيما عندك إذا وصف
__________
(1) البيت لزهير بن أبي سلمى يمدح رجلا (اللسان: خلق) يقول: أنت إذا قدرت أمرا قطعته وأمضيته، وغيرك يقدر ما لا يقطعه، لأنه ليس بماض العزم وأنت مضاء على ما عزمت عليه. والخلق: التقدير، يقال: خلق الأديم يخلقه خلقًا: قدره لما يريد قبل القطع، وقاسه ليقطع منه مزادة أو قربة أو خفا. ولذلك سمت العرب كل صانع كالنجار والخياط ونحوهما خالقًا، لأنه يقيس الخشب ويقدره على ما يريده له. والفري: القطع بعد التقدير، وقد يكون قبله، بأن يقطع قطعة من جلد أو ثوب قطعًا مقاربًا، ثم يصلحها ويسويها بالحساب والتقدير، على ما يريده ولذلك جاءت رواية أخرى في البيت: ولأنت تخلق ما فريت... إلخ.
(19/19)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)
بالطمع، فإذا أخبر عنه أنه سيفعل ولم يفعل قيل: هو طامع فيما عندك غدا، وكذلك ذلك في كلّ ما كان نظيرا لما ذكرناه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) }
يقول تعالى ذكره: ولقد خلقنا فوقكم أيها الناس سبع سموات، بعضهن فوق بعض، والعرب تسمي كل شيء فوق شيء طريقة. وإنما قيل للسموات السبع سبع طرائق؛ لأن بعضهنّ فوق بعض، فكلّ سماء منهنّ طريقة.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله:( وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ ) قال: الطرائق: السموات.
وقوله:( وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ) يقول: وما كنا في خلقنا السموات السبع فوقكم، عن خلقنا الذي تحتها غافلين، بل كنا لهم حافظين من أن تسقط عليهم فتهلكهم.
======
المؤمنون - تفسير أضواء البيان
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة المؤمنون
قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} .
ذكر جل وعلا في هذه الآيات التي ابتدأ بها أول هذه السورة علامات المؤمنين المفلحين فقال {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] أي فازوا وظفروا بخير الدنيا والآخرة.
وفلاح المؤمنين مذكور ذكراً كثيراً في القرآن كقوله {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً} [الأحزاب:47] وقوله: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2] أصل الخشوع: السكون، والطمأنينة، والانخفاض ومنه قول نابغة ذبيان:
رماد ككحل العين لأياً أبينه ... ونؤى كجذم الحوض أثلم خاشع
وهو في الشرع: خشية من الله تكون في القلب، فتظهر آثارها على الجوارح.
وقد عد الله الخشوع من صفات الذين أعد لهم مغفرة وأجراً عظيماً في قوله في الأحزاب {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} إلى قوله: {عَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:25].
وقد عد الخشوع في الصلاة هنا من صفات المؤمنين المفلحين، الذين يرثون الفردوس، وبين أن من لم يتصف بهذا الخشوع تصعب عليه الصلاة في قوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] وقد استدل جماعة من أهل العلم بقوله: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} على أن من خشوع المصلي: أن يكون نظره في صلاته إلى موضع سجوده، قالوا: كان النَّبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى السماء في الصلاة، فأنزل الله {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر حيث يسجد.
وقال صاحب الدر المنثور: وأخرج ابن مردويه، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى
(5/305)
السماء فنزلت {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} فطأطأ رأسه" اهـ منه.
وأكثر أهل العلم على أن المصلي ينظر إلى موضع سجوده، ولا يرفع بصره. وخالف المالكية الجمهور، فقالوا: إن المصلي ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده، واستدلوا لذلك بقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144] قالوا: فلو نظر إلى موضع سجوده لاحتاج أن يتكلف ذلك بنوع من الانحناء، وذلك ينافي كمال القيام. وظاهر قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ السْجِدِ الْحَرَامِ} لأن المنحني بوجهه إلى موضع سجوده، ليس بمول وجهه شطر المسجد الحرام، والجمهور على خلافهم كما ذكرنا.
واعلم أن معنى أفلح: نال الفلاح، والفلاح يطلق في لغة العرب على معنيين:
الأول: الفوز بالمطلوب الأكبر، ومنه قول لبيد:
فاعقلي إن كنت لما تعقلي ... ولقد أفلح من كان عقل
أي فاز من رزق العقل بالمطلوب الأكبر.
والثاني: هو إطلاق الفلاح على البقاء السرمدي في النعيم، ومنه قول لبيد أيضاً في رجز له:
لو أن حياً مدرك الفلاح ... لناله ملاعب الرماح
يعني مدرك البقاء، ومنه بهذا المعنى قول كعب بن زهير، أو الأضبط بن قريع:
لكل هم من الهموم سعه ... والمسى والصبح لا فلاح معه
أي لا بقاء معه، ولا شك أن من اتصف بهذه الصفات التي ذكرها الله في أول هذه السورة الكريمة دخل الجنة كما هو مصرح به في الآيات المذكورة، وأن من دخل الجنة نال الفلاح بمعنييه المذكورين، والمعنيان اللذان ذكرنا للفلاح بكل واحد منهما، فسر بعض العلماء حديث الأذان والإقامة في لفظة: حي على الفلاح.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من صفات المؤمنين المفلحين: إعراضهم عن اللغو. وأصل اللغو ما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال، فيدخل فيه اللعب واللهو والهزل، وما توجب المروءة تركه.
وقال ابن كثير {عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3] أي عن الباطل، وهو يشمل
(5/306)
الشرك كما قال بعضهم، والمعاصي كما قاله آخرون، وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال اهـ منه.
وما أثنى الله به على المؤمنين المفلحين في هذه الآية. أشار له في غير هذا الموضع كقوله: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً} [الفرقان:72] ومن مرورهم به كراماً إعراضهم عنه، وعدم مشاركتهم أصابه فيه وقوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص:55].
قوله تعالى: {والَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} .
في المراد بالزكاة هنا وجهان من التفسير معروفان عند أهل العلم.
أحدهما : أن المراد بها زكاة الأموال، وعزاه ابن كثير للأكثرين.
الثاني : أن المراد بالزكاة هنا: زكاة النفس أي تطهيرها من الشرك، والمعاصي بالإيمان بالله، وطاعته وطاعة رسله عليهم الصلاة والسلام، وعلى هذا فالمراد بالزكاة كالمراد بها في قوله { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس:9-10] وقوله {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} [الأعلى:14]. وقوله {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} [النور:21] وقوله {خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً} [الكهف:81] وقوله {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:6-7] على أحد التفسيرين. وقد يستدل لهذا القول الأخير بثلاث قرائن:
الأولى : أن هذه السورة مكية، بلا خلاف، والزكاة إنما فرضت بالمدينة كما هو معلوم. فدل على أن قوله {والَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} نزل قبل فرض زكاة الأموال المعروفة، فدل على أن المراد به غيرها.
القرينة الثانية : هي أن المعروف في زكاة الأموال: أن يعبر عن أدائها بالإيتاء كقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} وقوله {وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} ونحو ذلك. وهذه الزكاة المذكورة هنا، لم يعبر عنها بالإيتاء، بل قال تعالى فيها {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} فدل على أن هذه الزكاة: أفعال المؤمنين المفلحين، وذلك أولى بفعل الطاعات، وترك المعاصي من أداء مال.
الثالثة : أن زكاة الأموال تكون في القرآن عادة مقرونة بالصلاة، من غير فصل
(5/307)
بينهما كقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:110] وقوله: {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [البقرة:277] وقوله: {وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} [الأنبياء:72] وهذه الزكاة المذكورة هنا فصل بين ذكرها، وبين ذكر الصلاة بجملة {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ} .
والذين قالوا المراد بها زكاة الأموال قالوا: إن أصل الزكاة فرض بمكة قبل الهجرة، وأن الزكاة التي فرضت بالمدينة سنة اثنتين هي ذات النصب، والمقادير الخاصة.
وقد أوضحنا هذا القول في الأنعام في الكلام على قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] وقد يستدل، لأن المراد بالزكاة في هذه الآية غير الأعمال التي تزكى بها النفوس من دنس الشرك والمعاصي، بأنا لو حملنا معنى الزكاة على ذلك، كان شاملاً لجميع صفات المؤمنين المذكورة في أول هذه السورة، فيكون كالتكرار معها، والحمل على التأسيس والاستقلال أولى من غيره، كما تقرر في الأصول. وقد أوضحناه في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [الأنعام:97] والذين قالوا: هي زكاة الأموال قالوا: فاعلون أي مؤدون، قالوا: وهي لغة معروفة فصيحة، ومنها قول أمية بن أبي الصلت:
المطعمون الطعام في السنة الأز ... مة والفاعلون للزكوات
وهو واضح، بحمل الزكاة على المعنى المصدري بمعنى التزكية للمال، لأنها فعل المزكي كما هو واضح. ولا شك أن تطهير النفس بأعمال البر، ودفع زكاة المال كلاهما من صفات المؤمنين المفلحين الوارثين الجنة.
وقد قال ابن كثير رحمه الله: وقد يحتمل أن المراد بالزكاة ها هنا: زكاة النفس من الشرك، والدنس إلى أن قال ويحتمل أن يكون كلا الأمرين مراداً وهو زكاة النفوس، وزكاة الأموال فإنه من جملة زكاة النفوس، والمؤمن الكامل هو الذي يفعل هذا وهذا والله أعلم. اهـ منه.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} .
ذكر جل وعلا في هذه الآيات الكريمة: أن من صفات المؤمنين المفلحين الذين يرثون الفردوس ويخلدون فيها حفظهم لفروجهم: أي من اللواط والزنى، ونحو ذلك، وبين أن
(5/308)
حفظهم فروجهم، لا يلزمهم عن نسائهم الذين ملكوا الاستمتاع بهن بعقد الزواج أو بملك اليمين، والمراد به التمتع بالسراري، وبين أن من لم يحفظ فرجه عن زوجه أو سريته لا لوم عليه، وأن من ابتغى تمتعاً بفرجه، ورواء ذلك غير الأزواج والمملوكات فهو من العادين: أي المعتدين المتعدين حدود الله، المجاوزين ما أحله الله إلى ما حرمه.
وبين معنى العادين في هذه الآية قوله تعالى في قوم لوط: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء:25] وهذا الذي ذكره هنا ذكره أيضاً في سورة سأل سائل لأنه قال فيها في الثناء على المؤمنين {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المعارج:29].
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى : اعلم أن ما في قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:6] من صيغ العموم، والمراد بها من وهي من صيغ العموم. فآية {قَدْ أَفْلَحَ المؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] وآية {سَأَلَ سَائِلٌ} [المعارج:1] تدل بعمومها المدلول عليه بلفظة ما، في قوله {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} في الموضعين على جواز جمع الأختين بملك اليمين في التسري بهما معاً لدخولهما في عموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} وبهذا قال داود الظاهري، ومن تبعه: ولكن قوله تعالى: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأخْتَيْنِ} [النساء:23] يدل بعمومه على منع جمع الأختين، بملك اليمين، لأن الألف واللام في الأختين صيغة عموم، تشمل كل أختين. سواء كانتا بعقد أو ملك يمين ولذا قال عثمان رضي الله عنه، لما سئل عن جمع الأختين بملك اليمين: أحلتهما آية، وحرمتهما أخرى يعني بالآية المحللة {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} وبالمحرمة {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ لأخْتَيْنِ} .
وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب وسنذكر هنا إن شاء الله المهم مما ذكرنا فيه ونزيد ما تدعو الحاجة إلى زيادته.
وحاصل تحرير المقام في ذلك: أن الآيتين المذكورتين بينهما عموم، وخصوص من وجه، يظهر للناظر تعارضهما في الصورة التي يجتمعان فيها كما قال عثمان رضي الله عنهما: أحلتهما آية، وحرمتهما أخرى وإيضاحه أن آية: {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ} تنفرد عن آية {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} في الأختين المجموع بينهما، بعقد نكاح وتنفرد
(5/309)
آية {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} في الأمة الواحدة، أو الأمتين اللتين ليستا بأختين، ويجتمعان في الجمع بين الأختين، فعموم {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأٍخْتَيْنِ} يقتضي تحريمه، وعموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} يقتضي إباحته، وإذا تعارض العامان من وجه في الصورة التي يجتمعان فيها: وجب الترجيح بينهما، والراجح منهما، يقدم ويخصص به عموم الآخر، كما أَشار له في مراقي السعود بقوله:
وإن يك العموم من وجه ظهر ... فالحكم بالترجيح حتما معتبر
وإذا علمت ذلك فاعلم أن عموم {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ} مرجح من خمسة أَوجه على عموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} :
الأول: منها أن عموم {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ} نص في محل المدرك المقصود بالذات، لأن السورة سورة النساء: وهي التي بين الله فيها من تحل منهن، ومن لا تحل وآية {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} في الموضعين لم تذكر من أجل تحريم النساء، ولا تحليلهن بل ذكر الله صفات المؤمنين التي يدخلون بها الجنة. فذكر من جملتها حفظ الفرج، فاستطرد أنه لا يلزم حفظه عن الزوجة والسرية. وقد تقرر في الأصول: أن أخذ الأحكام من مظانها أولى من أخذها، لا من مظانها.
الوجه الثاني: أن آية {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} ليست باقية على عمومها بإجماع المسلمين، لأن الأخت من الرضاع لا تحل بملك اليمين، إجماعاً للإجماع على أن عموم أو ما ملكت أيمانهم يخصصه عموم {وَأَخَواتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء:22] وموطوءة الأب لا تحل بملك اليمين إجماعاً، للإجماع على أن عموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} يخصصه عموم {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:22]. والأصح عند الأصوليين في تعارض العام الذي دخله التخصيص، مع العام الذي لم يدخله التخصيص: هو تقديم الذي لم يدخله التخصيص، وهذا هو قول جمهور أهل الأصول، ولم أعلم أحداً خالف فيه، إلا صفي الدين الهندي، والسبكي.
وحجة الجمهور أن العام المخصص، اختلف في كونه حجة في الباقي، بعد التخصيص، والذين قالوا: هو حجة في الباقي. قال جماعة منهم: هو مجاز في الباقي، وما اتفق على أنه حجة، وأنه حقيقة، وهو الذي لم يدخله التخصيص أولى مما اختلف في حجيته، وهل هو حقيقة، أو مجاز، وإن كان الصحيح: أنه حجة في الباقي، وحقيقة فيه،
(5/310)
لأن مطلق حصول الخلاف فيه يكفي في ترجيح غيره عليه، وأما حجة صفي الدين الهندي والسبكي، على تقديم الذي دخله التخصيص فهي أن الغالب في العام التخصيص، والحمل على الغالب أولى، وأن ما دخله التخصيص يبعد تخصيصه مرة أخرى، بخلاف الباقي على عمومه.
الوجه الثالث: أن عموم {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ} غير وارد في معرض مدح ولا ذم وعموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانهم} وارد في معرض مدح المتقين، والعام الوارد في معرض المدح أو الذم.
اختلف العلماء في اعتبار عمومه، فأكثر العلماء: على أن عمومه معتبر كقوله تعالى: {إِنَّ الأبْرَارَ لَفي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفي جَحِيمٍ} [الإنفطار:13-14] فإنه يعم كل بر مع أنه للمدح، وكل فاجر مع أنه للذم قال في مراقي السعود:
وما أتى للمدح أو للذم ... يعم عند جل أهل العلم
وخالف في ذلك بعض العلماء منهم: الإمام الشافعي رحمه الله، قائلاً: إن العام الوارد في معرض المدح، أو الذم لا عموم له، لأن المقصود منه الحث في المدح والزجر في الذم، ولذا لم يأخذ الإمام الشافعي بعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:34] في الحلي المباح، لأن الآية سيقت الذم، فلا تعم عنده الحلي المباح.
وإذا علمت ذلك، فاعلم أن العام الذي لم يقترن بما يمنع اعتبار عمومه أولى من المقترن بما يمنع اعتبار عمومه، عند بعض العلماء.
الوجه الرابع: أنا لو سلمنا المعارضة بين الآيتين، فالأصل في الفروج التحريم، حتى يدل دليل لا معارض له على الإباحة.
الوجه الخامس: أن العموم المقتضي للتحريم أولى من المقتضي للإباحة، لأن ترك مباح أهو من ارتكاب حرام.
فهذه الأوجه الخمسة يرد بها استدلال داود الظاهري، ومن تبعه على إباحته جمع الأختين بملك اليمين، محتجاً بقوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانهُمْ} ولكن داود يحتج بآية أخرى يعسر التخلص من الاحتجاج بها، بحسب المقرر في أصول الفقه المالكي والشافعي والحنبلي، وإيضاح ذلك أن المقرر في أصول الأئمة الثلاثة المذكورين أنه إن ورد استثناء
(5/311)
بعد جمل متعاطفة، أو مفردات متعاطفة، أن الاستثناء المذكور يرجع لجميعها خلافاً لأبي حنيفة القائل يرجع إلى الجملة الأخيرة فقط، قال في مراقي السعود:
وكل ما يكون فيه العطف ... من قبل الاستثنا فكلا يقفو
دون دليل العقل أو ذي السمع ... ............................... الخ
وإذا علمت أن المقرر في أصول الأئمة الثلاثة المذكورين رجوع الاستثناء لكل المتعاطفات، وأنه لو قال الواقف في صيغة وقفه: هو وقف على بني تميم وبني زهرة والفقراء إلا الفاسق منهم، أنه يخرج من الوقف فاسق الجميع لرجوع الاستثناء إلى الجميع، وأن أبا حنيفة وحده هو القائل برجوعه إلى الجملة الأخيرة فقط. ولذلك لم يقبل شهادة القاذف، ولو تاب وأصلح، وصار أعدل أهل زمانه لأن قوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور:4-5] يرجع عنده الاستثناء فيه للأخيرة فقط وهي {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إلَّا الَّذِينَ تَابُوا} أي فقد زال عنهم اسم الفسق، ولا يقبل رجوعه لقوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} إلا الذين تابوا، فاقبلوا شهادتهم بل يقول: لا تقبلوا لهم شهادة أبداً مطلقاً بلا استثناء لاختصاص الاستثناء عنده بالجملة الأخيرة، ولم يخالف أبو حنيفة أصوله في قوله: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} إلى قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} [الفرقان:68-70]. فإن هذا الاستثناء راجع لجميع الجمل المتعاطفة قبله عند أبي حنيفة، وغيره.
ولكن أبا حنيفة لم يخالف فيه أصله لأن الجمل الثلاث المذكورة جمعت في الجملة الأخيرة، التي هي {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان:68] لأن الإشارة في قوله: ذلك راجعة إلى الشرك، والقتل والزنى في الجمل المتعاطفة قبله فشملت الجملة الأخيرة معاني الجمل قبلها، فصار رجوع الاستثناء لها وحدها، عند أبي حنيفة، على أصله المقرر: مستلزماً لرجوعه للجميع.
وإذا حققت ذلك فاعلم أن داود يحتج لجواز جمع الأختين بملك اليمين أيضاً،
(5/312)
برجوع الاستثناء في قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} لقوله: {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ} فيقول: قوله تعالى: {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ} وقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:24] يرجع لكل منهما استثناء في قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} فيكون المعنى: وحرم عليكم أن تجمعوا بين الأختين، إلا ما ملكت أيمانكم فلا يحرم عليكم فيه الجمع بينهما، وحرمت عليكم المحصنات من النساء، إلا ما ملكت أيمانكم، فلا يحرم عليكم.
وقد أوضحنا معنى الاستثناء من المحصنات في محله من هذا الكتاب المبارك، وبهذا تعلم أن احتجاج داود برجوع الاستثناء في قوله { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} إلى قوله: {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ} جار على أصول المالكية والشافعية والحنابلة، فيصعب عليهم التخلص من احتجاج داود هذا.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي أن الجواب عن استدلال داود المذكور من وجهين:
الأولى منهما : أن في الآية نفسها قرينة مانعة من رجوع الاستثناء، إلى قوله: {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأٍخْتَيْنِ} لما قدمنا من أن قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} أي بالسبي خاصة مع الكفر، وأن المعنى والمحصنات من النساء، إلا ما ملكت أيمانكم: أي وحرمت عليكم المتزوجات من النساء، لأن المتزوجة لا تحل لغير زوجها إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي مع الكفر فإن السبي يرفع حكم الزوجية عن المسبية، وتحل لسابيها بعد الاستبراء كما قال الفرزدق:
وذات حليل أنكحتها رماحنا ... حلال لمن يبنى بها لم تطلق
وإذا كان ملك اليمين في قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} في السبي خاصة كما هو مذهب الجمهور كان ذلك مانعاً من رجوعه إلى قوله: {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ} لأن محل النزاع في ملك اليمين مطلقاً، وقد قدمنا في سورة النساء أن قول من قال: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} مطلقاً، وأن بيع الأمة طلاقها أنه خلاف التحقيق، وأوضحنا الأدلة على ذلك.
الوجه الثاني: هو أن استقراء القرآن يدل على أن الصواب في رجوع الاستثناء لجميع الجمل المتعاطفة قبله أو بعضها، يحتاج إلى دليل منفصل، لأن الدليل قد يدل على
(5/313)
رجوعه للجميع أو لبعضها، دون بعض. وربما دل الدليل على عدم رجوعه للأخيرة التي تليه. وإذا كان الاستثناء ربما كان راجعاً لغير الجملة الأخيرة التي تليه، تبين أنه لا ينبغي الحكم برجوعه إلى الجميع إلا بعد النظر في الأدلة. ومعرفة ذلك منها، وهذا القول الذي هو الوقف عن رجوع الاستثناء إلى الجميع أو بعضها المعين، دون بعض، إلا بدليل مروي عن ابن الحاجب من المالكية، والغزالي من الشافعية، والآمدي من الحنابلة، واستقراء القرآن يدل على أن هذا القول هو الأصح، لأن الله يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] وإذا رددنا هذه المسألة إلى الله، وجدنا القرآن دالاً على صحة هذا القول، وبه يندفع أيضاً استدلال داود.
فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء:92 فالاستثناء راجع للدية، فهي تسقط بتصدق مستحقها بها، ولا يرجع لتحرير الرقبة قولاً واحداً، لأن تصدق مستحق الدية بها لا يسقط كفارة القتل خطأ، ومنها قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} [النور:4-5] فالاستثناء لا يرجع لقول:ه {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} لأن القاذف إذا تاب لا تسقط توبته حد القذف.
وما يروى عن الشعبي من أنها تسقطه، خلاف التحقيق الذي هو مذهب جماهير العلماء ومنها قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء:89-90].
فالاستثناء في قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ} لا يرجع قولاً واحداً، إلى الجملة الأخيرة، التي تليه أعني قوله تعالى: {وَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} [النساء:89] لأنه لا يجوز اتخاذ ولي ولا نصير من الكفار أبداً، ولو وصلوا إلى قوم بينكم، وبينهم ميثاق، بل الاستثناء راجع للأخذ والقتل في قوله: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ} [النساء:89] والمعنى: فخذوهم بالأسر واقتلوهم إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم، وبينهم ميثاق، فليس لكم أخذهم بأسر، ولا قتلهم، لأن الميثاق الكائن لمن وصلوا إليهم يمنع من أسرهم، وقتلهم كما اشترطه هلال بن عويمر الأسلمي في صلحه مع النَّبي صلى الله عليه وسلم كما ذكروا أن هذه الآية:
نزلت فيه وفي سراقة بن مالك المدلجي، وفي بني جذيمة بن عامر وإذا كان الاستثناء ربما لم يرجع لأقرب الحمل إليه في القرآن العظيم: الذي هو في الطرف الأعلى
(5/314)
من الإعجاز تبين أنه ليس نصاً في الرجوع إلى غيرها.
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:83] على ما قاله جماعات من المفسرين، لأنه لولا فضل الله ورحمته لاتبعوا الشيطان، كلا بدون استثناء، قليل أو كثير كما ترى.
واختلفوا في مرجع هذا الاستثناء، فقيل: راجع لقوله: {أَذَاعُوا بِهِ} [النساء:83] وقيل: راجع لقوله {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] وإذا لم يرجع للجملة التي تليه، لم يكن نصاً في رجوعه لغيرها.
وقيل: إن هذا الاستثناء راجع للجملة التي تليه. وأن المعنى: ولولا فضل الله عليكم ورحمته بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم لاتبعتم الشيطان في الاستمرار، على ملة آبائكم من الكفر، وعبادة الأوثان إلا قليلاً كمن كان على ملة إبراهيم في الجاهلية، كزيد بن نفيل وقس بن ساعدة وورقة بن نوفل، وأمثالهم.
وذكر ابن كثير أن عبد الرزاق روى عن معمر عن قتادة في قوله: {لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} معناه: لاتبعتم الشيطان كلا، قال: والعرب تطلق العلة، وتريد بها العدم. واستدل قائل هذا القول بقول الطرماح بن حكيم يمدح يزيد بن المهلب:
أشم ندى كثير النوادي ... قليل المثالب والقادحه
يعني: لا مثلبة فيه، ولا قادحة. وهذا القول ليس بظاهر كل الظهور، وإن كانت العرب تطلق القلة في لغتها، وتريد بها العدم كَقولهم: مررت بأرض قليل بها الكراث والبصل، يعنون لا كراث فيها ولا بصل. ومنه قول ذي الرمة:
أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة ... قليل بها الأصوات إلا بغامها
يريد: أن تلك الفلاة لا صوت فيها غير بغام ناقته. وقول الآخر:
فما بأس لو ردت علينا تحية ... قليلاً لدى من يعرف الحق عابها
يعني لا عاب فيها: أي لا عيب فيها عند من يعرف الحق، وأمثال هذا كثير في كلام العرب، وبالآيات التي ذكرنا تعلم: أن الوقف عن القطع برجوع الاستثناء لجميع الجمل المتعاطفة قبله إلا لدليل، هو الذي دل عليه القرآن في آيات متعددة، وبدلالتها يرد استدلال داود المذكور أيضاً والعلم عند الله تعالى.
(5/315)
المسألة الثانية: اعلم أن أهل العلم أجمعوا على أن حكم هذه الآية الكريمة في التمتع بملك اليمين في قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:5-6] خاص بالرجال دون النساء، فلا يحل للمرأة أن تتسرى عبدها، وتتمتع به بملك اليمين، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، وهو يؤيد قول الأكثرين: أن النساء لا يدخلن في الجموع المذكرة، الصحيحة إلا بدليل منفصل، كما أوضحنا أدلته في سورة الفاتحة، وذكر ابن جرير أن امرأة اتخذت مملوكها، وقالت: تأولت آية من كتاب الله {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} فأتى بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال له ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: تأولت آية من كتاب الله عز وجل على غير وجهها، قال: فضرب العبد، وجز رأسه وقال: أنت بعده حرام على كل مسلم. ثم قال ابن كثير: هذا أثر غريب منقطع، ذكره ابن جرير في تفسير أول سورة المائدة، وهو هو هنا أليق وإنما حرمها عَلَى الرجال، معاملة لها بنقيض قصدها، والله أعلم ا هـ.
وقال أبو عبد الله القرطبي: قد روى معمر عن قتادة قال: تسررت امرأة غلامها، فذكر ذلك لعمر فسألها ما حملك على ذلك؟ قالت: كنت أراه يحل لي بملك يميني، كما تحل للرجل المرأة بملك اليمين، فاستشار عمر في رجمها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: تأولت كتاب الله عز وجل على غير تأويله لا رجم عليها، فقال عمر: لا جرم، والله لا أحلك لحر بعده عاقبها بذلك، ودرأ الحد عنها، وأمر العبد ألا يقربها.
وعن أبي بكر بن عبد الله أنه سمع أباه يقول: أنا حضرت عمر بن عبد العزيز جاءته امرأة بغلام لها وضيء، فقالت: إني استسررته، فمنعنى بنو عمي عن ذلك، وإنما أنا بمنزلة الرجل تكون له الوليدة فيطؤها، فإنه عنى بني عمي فقال عمر: أتزوجت قبله؟ قالت: نعم. قال: أما والله لولا منزلتك من الجهالة لرجمتك بالحجارة، ولكن اذهبوا به فبيعوه إلى من يخرج به إلى غير بلدها ا هـ. من القرطبي.
المسألة الثالثة: اعلم أنه لا شك في أن آية {قَدْ أَفْلَحَ الؤْمِنُونَ} هذه التي هي {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7] تدل بعمومها على منع الاستمناء باليد المعروف، بجلد عميرة، ويقال له الخضخضة، لأن من تلذذ بيده حتى أنزل منيه بذلك، قد ابتغى وراء ما أحله الله، فهو من العادين بنص هذه الآية الكريمة المذكورة هنا، وفي سورة {سَألَ سَائِلٌ} وقد ذكر ابن كثير: أن الشافعي ومن تبعه استدلوا بهذه
(5/316)
الآية، على منع الاستمناء باليد. وقال القرطبي: قال محمد بن عبد الحكم: سمعت حرملة بن عبد العزيز، قال: سألت مالكاً عن الرجل يجلد عميرة فتلا هذه الآية {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} إلى قوله {الْعَادُونَ} [المؤمنون:5-7].
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي أن استدلال مالك، والشافعي وغيرهما من أهل العلم بهذه الآية الكريمة، على منع جلد عميرة الذي هو الاستمناء باليد استدلال صحيح بكتاب الله، يدل عليه ظاهر القرآن، ولم يرد شيء يعارضه من كتاب ولا سنة، وما روي عن الإمام أحمد مع علمه، وجلالته وورعه من إباحة جلد عميرة مستدلاً على ذلك بالقياس قائلاً: هو إخراج فضلة من البدن تدعو الضرورة إلى إخراجها فجاز، قياساً على الفصد والحجامة، كما قال في ذلك بعض الشعراء:
إذا حللت بواد لا أنيس به ... فاجلد عميرة لا عار ولا حرج
فهو خلاف الصواب، وإن كان قائله في المنزلة المعروفة التي هو بها، لأنه قياس يخالف ظاهر عموم القرآن، والقياس إن كان كذلك رد بالقادح المسمى فساد الاعتبار، كما أوضحناه في هذا الكتاب المبارك مراراً وذكرنا فيه قول صاحب مراقي السعود: والخلف للنص أو إجماع دعا فساد الاعتبار كل من وعى
فالله جل وعلا قال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} ولم يستثن من ذلك ألبتة إلا النوعين المذكورين، في قوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} وصرح برفع الملامة في عدم حفظ الفرج، عن الزوجة، والمملوكة فقط ثم جاء بصيغة عامة شاملة لغير النوعين المذكورين، دالة على المنع هي قوله {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7] وهذا العموم لا شك أنه يتناول بظاهره، ناكح يده، وظاهر عموم القرآن، لا يجوز العدول عنه، إلا لدليل من كتاب أو سنة، يجب الرجوع إليه. أما القياس المخالف له فهو فاسد الاعتبار، كما أوضحنا، والعلم عند الله تعالى.
وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية، بعد أن ذكر بعض من حرم جلد عميرة، واستدلالهم بالآية ما نصه: وقد استأنسوا بحديث رواه الإمام الحسن بن عرفة في جزئة المشهور، حيث قال: حدثني علي بن ثابت الجزري، عن مسلمة بن جعفر، عن حسان بن حميد، عن أنس بن مالك، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال "سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولا يجمعهم مع العاملين ويدخلهم النار أول الداخلين إلا أن يتوبوا ومن تاب تاب الله
(5/317)
عليه: الناكح يده، والفاعل والمفعول، ومدمن الخمر، والضارب والديه حتى يستغيثا، والمؤذي جيرانه حتى يلعنوه، والناكح حليلة جاره" ا هـ.
ثم قال ابن كثير: هذا حديث غريب وإسناده فيه من لا يعرف لجهالته والله أعلم. انتهى منه ولكنه على ضعفه يشهد له في نكاح اليد ظاهر القرآن في الجملة، لدلالته على منع ذلك، وإنما قيل للاستمناء باليد: جلد عميرة، لأنهم يكنون بعميرة عن الذكر.
لطيفة: قد ذكر في نوادر المغفلين، أن مغفلا كانت أمه تملك جارية تسمى عميرة فضربتها مرة، فصاحت الجارية، فسمع قوم صياحها، فجاؤوا وقالوا ما هذا الصياح؟ فقال لهم ذلك المغفل: لا بأس تلك أمي كانت تجلد عميرة.
المسألة الرابعة: اعلم أنا قدمنا في سورة النساء، أن هذه الآية التي هي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} تدل بظاهرها على منع نكاح المتعة، لأنه جل وعلا صرح فيها بما يعلم منه، وجوب حفظ الفرج عن غير الزوجة والسرية، ثم صرح بأن المبتغي وراء ذلك من العادين بقوله: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} وأن المرأة المستمتع بها في نكاح المتعة، ليست زوجة، ولا مملوكة. أما كونها غير مملوكة فواضح. وأما الدليل على كونها غير زوجة، فهو انتفاء لوازم الزوجية عنها كالميرث والعدة والطلاق والنفقة، ونحو ذلك، فلو كانت زوجة لورثت واعتدت ووقع عليها الطلاق، ووجبت لها النفقة، فلما انتفت عنها لوازم الزوجية علمنا أنها ليست بزوجة، لأن نفي اللازم يقتضي نفي الملزوم بإجماع العقلاء.
فتبين بذلك أن معنى نكاح المتعة من العادين المجاوزين ما أحل الله إلى ما حرم، وقد أوضحنا ذلك في سورة النساء بأدلة الكتاب والسنة، وأن نكاح المتعة ممنوع إلى يوم القيامة، وقد يخفي على طالب العلم معنى لفظة {عَلَى} في هذه الآية يعني قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} لأن مادة الحفظ، لا تتعدى إلى المعمول الثاني في هذا الموضوع ب {عَلَى} فقيل: إن {عَلَى} بمعنى: عن.
والمعنى: أنهم حافظون فروجهم عن كل شيء، إلا عن أزواجهم، وحفظ عن تتعدى بعن.
وحاول الزمخشري الجواب عن الإتيان ب {عَلَى} هنا فقال ما نصه: {عَلَى
(5/318)
أَزْوَاجِهِمْ} في موضع الحال أي الأولين، على أزواجهم، أو قوامين عليهن من قولك: كان فلان على فلانة، فمات عنها، فخلف عليها فلان، ونظيره: كان زياد على البصرة: أي واليا عليها، ومنه قولهم: فلان تحت فلان، ومن ثمة سميت المرأة فراشا.
والمعنى: أنهم لفروجهم حافظون في كافة الأحوال، إلا في تزوجهم أو تسريهم، أو تعلق {عَلَى} بمحذوف يدل عليه غير ملومين، كأنه قيل: يلامون إلا على أزواجهم أي يلامون على كل مباشرة إلا على ما أطلق لهم، فإنهم غير ملومين عليه، أو تجعله صلة لحافظين من قولك: احفظ على عنان فرسي على تضمينه، معنى النفي كما ضمن قولهم: نشدتك الله إلا فعلت بمعنى: ما طلبت منك إلا فعلك. اهـ منه ولا يخفي ما فيه من عدم الظهور.
قال أبو حيان: وهذه الوجوه التي تكلفها الزمخشري ظاهر فيها العجمة، وهي متكلفة، ثم استظهر أبو حيان أن يكون الكلام من باب التضمين، ضمن حافظون معنى: ممسكون أو قاصرون، وكلاهما يتعدى ب {على} كقوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب:37] والظاهر أن قوله هنا {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} مع أن المملوكات من جملة العقلاء، والعقلاء يعبر عنهم بمن لا بما هو أن الإماء لما كن يتصفن ببعض صفات غير العقلاء كبيعهن وشرائهن، ونحو ذلك. كان ذلك مسوغا لإطلاق لفظة ما عليهن، والعلم عند الله تعالى.
وقال بعض أهل العلم: إن وراء ذلك، هو مفعول ابتغى: أي ابتغى سوى ذلك. وقال بعضهم: إن المفعول به محذوف، ووراء ظرف. أي فمن ابتغى مستمتعا لفرجه، وراء ذلك.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من صفات المؤمنين المفلحين الوارثين الفردوس: أنهم راعون لأماناتهم وعهدهم: أي محافظون على الأمانات، والعهود. والأمانة تشمل: كل ما استودعك الله، وأمرك بحفظه، فيدخل فيها حفظ جوارحك من كل ما لا يرضي الله، وحفظ ما ائتمنت عليه من حقوق الناس، والعهود أيضا تشمل: كل ما أخذ عليك العهد بحفظه، من حقوق الله، وحقوق الناس.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من حفظ الأمانات والعهود جاء مبينا في آيات كثيرة
(5/319)
كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:37] وقوله تعالى في سأل سائل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المعارج:32] وقوله في العهد: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء:34] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]. وقوله: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [الفتح:10] وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل:96] وقد أوضحنا هذا في سورة الأنبياء في الكلام على قوله {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء:78]. وقوله: راعون: جمع تصحيح للراعي، وهو القائم على الشيء، بحفظ أو إصلاح كراعي الغنم وراعي الرعية، وفي الحديث "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" الحديث، وقرأ هذا الحرف ابن كثير وحده: لأمانتهم بغير ألف بعد النون، على صيغة الإفراد والباقون بألف بعد النون، على صيغة الجمع المؤنث السالم.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من صفات المؤمنين المفلحين الوارثين الفردوس: أنهم يحافظون على صلواتهم والمحافظة عليها تشمل إتمام أركانها، وشروطها، وسننها، وفعلها في أوقاتها في الجماعات في المساجد، ولأجل أن ذلك من أسباب نيل الفردوس أمر تعالى بالمحافظة عليها في قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]. وقال تعالى في سورة المعارج {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج:34] وقال فيها أيضا {إِلَّا الْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:22-23] وذم وتوعد من لم يحافظ عليها في قوله {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59].
وقد أوضحنا ذلك في سورة مريم، وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4- 5]. وقال تعالى في ذم المنافقين {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ} [النساء: 142]، وفي الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال "الصلاة على وقتها" ،
(5/320)
الحديث. وقد قدمناه والأحاديث في فضل الصلاة والمحافظة عليها كثيرة جدا، ولكن موضوع كتابنا بيان القرآن بالقرآن، ولا نذكر غالبا البيان من السنة، إلا إذا كان في القرآن بيان غير واف بالمقصود، فنتمم البيان من السنة كما قدمناه مرارا. وذكرناه في ترجمة هذا الكتاب المبارك.
قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ. الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المؤمنين المتصفين بالصفات، التي قدمناهم الوارثون، وحذف مفعول اسم الفاعل الذي هو الوارثون، لدلالة قوله: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} [المؤمنون: 11] عليه. والفردوس: أعلا الجنة، وأوسطها، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمان جل وعلا، وعبر تعالى عن نيل الفردوس هنا باسم الوارثة.
وقد أوضحنا معنى الوارثة والآيات الدالة على ذلك المعنى، كقوله تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً} [مريم:63] وقوله: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43] وقوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} [الزمر: 74] في سورة مريم في الكلام على قوله: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً} [مريم:63] فأغنى ذلك عن إعادته هنا، وقرأ هذا الحرف: حمزة والكسائي: على صلاتهم بغير واو، بصيغة الإفراد وقرأ الباقون: {عَلَى صَلاتِهِمْ} بالواو المفتوحة بصيغة الجمع المؤنث السالم والمعنى واحد، لأن المفرد الذي هو اسم جنس، إذا أضيف إلى معرفة، كان صيغة عموم كما هو معروف في الأصول. وقوله هنا: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي بلا انقطاع أبدا، كما قال تعالى {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108] أي غير مقطوع. وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [صّ:54] وقال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96] كما قدمناه مستوفي.