Translate

الجمعة، 20 مايو 2022

ج 1. الروض الأنف للسهيلي {السيرة النبوية}

 

ج 1.  الروض الأنف
مُقَدّمَةُ الرّوْضِ الْأُنُفِ
[ ص 15 ] الْمُقَدّمِ عَلَى كُلّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ وَذِكْرُهُ - سُبْحَانَهُ - حَرِيّ أَلّا يُفَارِقَ الْخَلَدَ وَالْبَالَ كَمَا بَدَأَنَا - جَلّ وَعَلَا - بِجَمِيلِ عَوَارِفِهِ قَبْلَ الضّرَاعَةِ إلَيْهِ وَالِابْتِهَالِ فَلَهُ الْحَمْدُ - تَعَالَى - حَمْدًا لَا يَزَالُ دَائِمَ الِاقْتِبَالِ . ضَافِيَ السّرْبَالِ جَدِيدًا عَلَى مَرّ الْجَدِيدَيْنِ غَيْرَ بَالٍ . عَلَى أَنّ حَمْدَهُ - سُبْحَانَهُ - وَشُكْرَهُ عَلَى نِعَمِهِ وَجَمِيلِ بَلَائِهِ مِنّةٌ مِنْ مِنَنِهِ . وَآلَاءٌ مِنْ آلَائِهِ . فَسُبْحَانَ مَنْ لَا غَايَةَ لِجُودِهِ وَنَعْمَائِهِ وَلَا حَدّ لِجَلَالِهِ وَلَا حَصْرَ لِأَسْمَائِهِ وَالْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي أَلْحَقَنَا بِعِصَابَةِ الْمُوَحّدِينَ وَوَفّقَنَا لِلِاعْتِصَامِ بِعُرْوَةِ هَذَا الْأَمْرِ الْمَتِينِ [ ص 16 ] وَخَلَقَنَا فِي إبّانِ الْإِمَامَةِ الْمَوْعُودِ بِبَرَكَتِهَا عَلَى لِسَانِ الصّادِقِ الْأَمِينِ إمَامَةِ سَيّدِنَا الْخَلِيفَةِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ابْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ابْنِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ السّاطِعَةِ أَنْوَارُهَا فِي جَمِيعِ الْآفَاقِ . الْمُطْفِئَةِ بِصَوْبِ سَحَائِبِهَا ، وَجَوْبِ كَتَائِبِهَا جَمَرَاتِ الْكُفْرِ وَالنّفَاقِ
فِي دَوْلَةٍ لَحَظَ الزّمَانُ شُعَاعًا ... فَارْتَدّ مُنْتَكِصًا بِعَيْنَيْ أَرْمَدِ
مَنْ كَانَ مَوْلِدُهُ تَقَدّمَ قَبْلَهَا ... أَوْ بَعْدَهَا ، فَكَأَنّهُ لَمْ يُولَدْ
فَلَهُ الْحَمْدُ - تَعَالَى - عَلَى ذَلِكَ كُلّهِ حَمْدًا لَا يَزَالُ يَتَجَدّدُ وَيَتَوَالَى ، وَهُوَ الْمَسْئُولُ - سُبْحَانَهُ - أَنْ يَخُصّ بِأَشْرَفِ صَلَوَاتِهِ وَأَكْثَفِ بَرَكَاتِهِ الْمُجْتَبَى مِنْ خَلِيقَتِهِ وَالْمَهْدِيّ بِطَرِيقَتِهِ الْمُؤَدّيَ إلَى اللّقَمِ الْأَفْيَحِ وَالْهَادِيَ إلَى مَعَالِمِ دِينِ اللّهِ مَنْ أَفْلَحَ نَبِيّهُ مُحَمّدًا - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ - كَمَا قَدْ أَقَامَ بِهِ الْمِلّةَ الْعَوْجَاءَ ، وَأَوْضَحَ بِهَدْيِهِ الطّرِيقَةَ الْبَلْجَاءَ وَفَتَحَ بِهِ آذَانًا صُمّا وَعُيُونًا عُمْيًا ، وَقُلُوبًا غُلْفًا . فَصَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ صَلَاةً تُحِلّهُ أَعْلَى مَنَازِلِ الزّلْفَى .
الْغَايَةُ مِنْ تَأْلِيفِ الْكِتَابِ
( وَبَعْدُ ) فَإِنّي قَدْ انْتَحَيْت فِي هَذَا الْإِمْلَاءِ بَعْدَ اسْتِخَارَةِ ذِي الطّوْلِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِمَنْ لَهُ الْقُدْرَةُ وَالْحَوْلُ . إلَى إيضَاحِ مَا وَقَعَ فِي سِيرَةِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الّتِي سَبَقَ إلَى تَأْلِيفِهَا أَبُو بَكْرِ مُحَمّدُ بْنُ إسْحَاقَ الْمُطّلِبِيّ ، وَلَخَصّهَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ الْمَعَافِرِيّ الْمِصْرِيّ النّسّابَةُ النّحْوِيّ مِمّا بَلَغَنِي عِلْمُهُ وَيُسّرَ لِي فَهْمُهُ مِنْ لَفْظٍ غَرِيبٍ أَوْ إعْرَابٍ غَامِضٍ أَوْ كَلَامٍ مُسْتَغْلِقٍ أَوْ نَسَبٍ عَوِيصٍ أَوْ مَوْضِعِ فِقْهٍ يَنْبَغِي التّنْبِيهُ عَلَيْهِ أَوْ خَبَرٍ نَاقِصٍ يُوجَدُ السّبِيلُ إلَى تَتِمّتِهِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِكُلُولِ الْحَدّ عَنْ مَبْلَغِ ذَلِكَ [ ص 17 ] يُدَعّ الْجَحْشُ مَنْ بَذّهُ الْأَعْيَارُ وَمَنْ سَافَرَتْ فِي الْعِلْمِ هِمّتُهُ فَلَا يُلْقِ عَصَا التّسْيَارِ وَقَدْ قَالَ الْأَوّلُ
افْعَلْ الْخَيْرَ مَا اسْتَطَعْت ، وَإِنْ كَا ... نَ قَلِيلًا فَلَنْ تُحِيطَ بِكُلّهْ
وَمَتَى تَبْلُغُ الْكَثِيرَ مِنْ الْفَضْلِ ... إذَا كُنْت تَارِكًا لِأَقَلّهْ ؟
نَسْأَلُ اللّه َ التّوْفِيقَ لِمَا يُرْضِيهِ وَشُكْرًا يَسْتَجْلِبُ الْمَزِيدَ مِنْ فَضْلِهِ وَيَقْتَضِيهِ .
لِمَاذَا أَتْقَنَ التّأْلِيفَ
قَالَ الْمُؤَلّفُ أَبُو الْقَاسِمِ قُلْت هَذَا ؛ لِأَنّي كُنْت حِينَ شَرَعْت فِي إمْلَاءِ هَذَا الْكِتَابِ خُيّلَ إلَيّ أَنّ الْمَرَامَ عَسِيرٌ فَجَعَلْت أَخْطُو خَطْوَ الْحَسِيرِ . وَأَنْهَضُ نَهْضَ الْبَرْقِ الْكَسِيرِ وَقُلْت : كَيْفَ أَرِدُ مَشْرَعًا لَمْ يَسْبِقْنِي إلَيْهِ فَارِطٌ . وَأَسْأَلُك سَبِيلًا لَمْ تُوطَأْ قَبْلِي بِخُفّ وَلَا حَافِرٍ فَبَيْنَا أَنَا أَتَرَدّدُ تَرَدّدَ الْحَائِرِ إذْ سَفَعَ لِي هُنَالِكَ خَاطِرٌ أَنّ هَذَا الْكِتَابَ سَيَرِدُ الْحَضْرَةَ الْعَلِيّةَ الْمُقَدّسَةَ الْإِمَامِيّةَ . وَأَنّ الْإِمَامَةَ سَتَلْحَظُهُ بِعَيْنِ الْقَبُولِ وَأَنّهُ سَيُكْتَتَبُ لِلْخِزَانَةِ الْمُبَارَكَةِ - عَمّرَهَا اللّهُ - بِحِفْظِهِ وَكِلَاءَتِهِ وَأَمَدّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِتَأْيِيدِهِ وَرِعَايَتِهِ فَيَنْتَظِمُ الْكِتَابُ بِسَلْكِ أَعْلَاقِهَا ، وَيَتّسِقُ مَعَ تِلْكَ الْأَنْوَارِ فِي مَطَالِعِ إشْرَافِهَا ، فَعِنْدَ ذَلِكَ امْتَطَيْت صَهْوَةَ الْجِدّ وَهَزَزْت نَبْعَةَ الْعَزْمِ . وَمَرَيْت أَخْلَافَ الْحِفْظِ وَاجْتَهَرْتُ يَنَابِيعَ الْفِكْرِ وَعَصَرْت بَلَالَةَ الطّبْعِ فَأَلْفَيْت - بِحَمْدِ اللّهِ - الْبَابَ فُتُحًا وَسَلَكْت سُبُلَ رَبّي ذُلُلًا ، فَتَبَجّسَتْ لِي - بِمَنّ اللّهِ تَعَالَى - مِنْ الْمَعَانِي الْغَرِيبَةِ عُيُونُهَا ، وَانْثَالَتْ عَلَيّ مِنْ الْفَوَائِدِ اللّطِيفَةِ أَبْكَارُهَا وَعُونُهَا ، وَطَفِقَتْ عَقَائِلُ الْكَلِمِ يَزْدَلِفْنَ إلَيّ بِأَيّتِهِنّ أَبْدَأُ فَأَعْرَضْت عَنْ بَعْضِهَا إيثَارًا لِلْإِيجَازِ وَدَفَعْت فِي صُدُورِ أَكْثَرِهَا خَشْيَةَ الْإِطَالَةِ وَالْإِمْلَالِ لَكِنْ تَحَصّلَ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ فَوَائِدِ الْعُلُومِ وَالْآدَابِ وَأَسْمَاءِ الرّجَالِ [ ص 18 ] صَدْرِي ، وَنَفَحَهُ فِكْرِي . وَنَتَجَهُ نَظَرِي ، وَلَقِنْته عَنْ مَشْيَخَتِي ، مِنْ نُكَتٍ عِلْمِيّةٍ لَمْ أُسْبَقْ إلَيْهَا ، وَلَمْ أُزْحَمْ عَلَيْهَا ، كُلّ ذَلِكَ بِيُمْنِ اللّهِ وَبَرَكَةِ هَذَا الْأَمْرِ الْمُحْيِي لِخَوَاطِرِ الطّالِبِينَ وَالْمُوقِظِ لِهِمَمِ الْمُسْتَرْشِدِينَ وَالْمُحَرّكِ لِلْقُلُوبِ الْغَافِلَةِ إلَى الِاطّلَاعِ عَلَى مَعَالِمِ الدّينِ مَعَ أَنّي قَلّلْت الْفُضُولَ وَشَذّبْت أَطْرَافَ الْفُصُولِ وَلَمْ أَتَتَبّعْ شُجُونَ الْأَحَادِيثِ وَلِلْحَدِيثِ شُجُونٌ وَلَا جَمَحَتْ بِي خَيْلُ الْكَلَامِ إلَى غَايَةٍ لَمْ أُرِدْهَا ، وَقَدْ عَنَتْ لِي مِنْهُ فُنُونٌ فَجَاءَ الْكِتَابُ مِنْ أَصْغَرِ الدّوَاوِينِ حَجْمًا . وَلَكِنّهُ كُنَيْفٌ مَلِيءٌ عِلْمًا ، وَلَوْ أَلّفَهُ غَيْرِي لَقُلْت فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ قَوْلِي هَذَا . وَكَانَ بَدْءُ إمْلَائِي هَذَا الْكِتَابِ فِي شَهْرِ الْمُحَرّمِ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ وَسِتّينَ وَخَمْسِمِائَةٍ وَكَانَ الْفَرَاغُ مِنْهُ فِي جُمَادَى الْأُولَى مِنْ ذَلِكَ الْعَامِ . سَنَدُهُ فَالْكِتَابُ الّذِي تَصَدّيْنَا لَهُ مِنْ السّيَرِ هُوَ مَا حَدّثَنَا بِهِ الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْعَرَبِيّ سَمَاعًا عَلَيْهِ قَالَ ثِنَا أَبُو الْحَسَنِ الْقَرَافِيّ الشّافِعِيّ ، قَالَ ثِنَا أَبُو مُحَمّدِ بْنُ النّحّاسِ قَالَ ثِنَا أَبُو مُحَمّدِ عَبْدُ اللّهِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الْوَرْدِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَبْدِ الرّحِيمِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ الرّحِيمِ بْنِ أَبِي زُرْعَةَ الزّهْرِيّ الْبَرْقِيّ عَنْ أَبِي مُحَمّدِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ هِشَامٍ وَحَدّثَنَا بِهِ أَيْضًا - سَمَاعًا عَلَيْهِ - أَبُو مَرْوَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ بُونُهْ الْقُرَشِيّ الْعَبْدَرِيّ عَنْ أَبِي بَحْرٍ سُفْيَانَ بْنِ الْعَاصِ الْأَسَدِيّ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ هِشَامِ بْنِ أَحْمَدَ الْكِنَانِيّ . وَحَدّثَنِي بِهِ أَيْضًا أَبُو مَرْوَانَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ بِزَالٍ عَنْ أَبِي عُمَرَ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمّدٍ الْمُقْرِي الطّلَمَنْكِيّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ أَحْمَدَ بْنِ عَوْنِ اللّهِ بْنِ حُدَيْرٍ عَنْ أَبِي مُحَمّدِ بْنِ الْوَرْدِ عَنْ الْبَرْقِيّ عَنْ ابْنِ هِشَامٍ . وَحَدّثَنِي بِهِ أَيْضًا - سَمَاعًا وَإِجَازَةً - أَبُو بَكْرِ مُحَمّدُ بْنُ طَاهِرٍ الْإِشْبِيلِيّ عَنْ أَبِي عَلِيّ الْغَسّانِيّ عَنْ أَبِي عُمَرَ النّمَرِيّ وَغَيْرِهِ عَنْ أَشْيَاخِهِ عَنْ الطّلَمَنْكِيّ بِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدّمِ .

تَرْجَمَةُ ابْنِ إسْحَاقَ
[ ص 19 ] أَبُو بَكْرمُحَمّدُ بْنُ إسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ الْمُطّلِبِيّ بِالْوَلَاءِ لِأَنّ وَلَاءَهُ لِقَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ ، وَكَانَ جَدّهُ يَسَارٌ مِنْ سَبْيِ عَيْنِ التّمْرِ ، سَبَاهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ . وَمُحَمّدُ بْنُ إسْحَاق هَذَا - رَحِمَهُ اللّهُ - ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ عِنْدَ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَأَمّا فِي الْمَغَازِي وَالسّيَرِ فَلَا تُجْهَلُ إمَامَتُهُ فِيهَا . قَالَ ابْنُ شِهَابٍ الزّهْرِيّ : مَنْ أَرَادَ الْمَغَازِيَ فَعَلَيْهِ بِابْنِ إسْحَاقَ . ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ فِي التّارِيخِ ، وَذَكَرَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ أَنّهُ قَالَ مَا أَدْرَكْت أَحَدًا يَتّهِمُ ابْنَ إسْحَاقَ فِي حَدِيثِهِ وَذَكَرَ أَيْضًا عَنْ شُعْبَةَ بْنِ الْحَجّاجِ أَنّهُ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يَعْنِي : فِي الْحَدِيثِ وَذَكَرَ أَبُو يَحْيَى السّاجِيّ - رَحِمَهُ اللّهُ - بِإِسْنَادِ لَهُ عَنْ الزّهْرِيّ أَنّهُ قَالَ خَرَجَ إلَى قَرْيَتِهِ بَاذَامَ فَخَرَجَ إلَيْهِ طُلّابُ الْحَدِيثِ فَقَالَ لَهُمْ أَيْنَ أَنْتُمْ مِنْ الْغُلَامِ الْأَحْوَلِ أوَ قَدْ خَلّفْت فِيكُمْ الْغُلَامَ الْأَحْوَلَ يَعْنِي : ابْنَ إسْحَاقَ ، وَذَكَرَ السّاجِيّ أَيْضًا قَالَ كَانَ أَصْحَابُ الزّهْرِيّ يَلْجَئُونَ إلَى مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ فِيمَا شَكّوا فِيهِ مِنْ حَدِيثِ الزّهْرِيّ ، ثِقَةً مِنْهُمْ بِحِفْظِهِ هَذَا مَعْنَى كَلَامِ السّاجِيّ نَقَلْته مِنْ حِفْظِي ، لَا مِنْ كِتَابٍ . وَذَكَرَ عَنْ يَحْيَى بْنِ مَعِينٍ ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ، وَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْقَطّانِ أَنّهُمْ [ ص 20 ] ابْنَ إسْحَاقَ ، وَاحْتَجّوا بِحَدِيثِهِ وَذَكَرَ عَلِيّ بْنُ عُمَرَ الدّارَقُطْنِيّ فِي السّنَنِ حَدِيثَ الْقُلّتَيْنِ مِنْ جَمِيعِ طُرُقِهِ وَمَا فِيهِ مِنْ الِاضْطِرَابِ ثُمّ قَالَ فِي حَدِيثٍ جَرَى : وَهَذَا يَدُلّ عَلَى حِفْظِ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ وَشِدّةِ إتْقَانِهِ . قَالَ الْمُؤَلّفُ وَإِنّمَا لَمْ يُخْرِجْ الْبُخَارِيّ عَنْهُ وَقَدْ وَثّقَهُ وَكَذَلِكَ وَثّقَهُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجّاجِ ، وَلَمْ يُخْرِجْ عَنْهُ أَيْضًا إلّا حَدِيثًا وَاحِدًا فِي الرّجْمِ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيّ عَنْ أَبِيهِ مِنْ أَجْلِ طَعْنِ مَالِكٍ فِيهِ وَإِنّمَا طَعَنَ فِيهِ مَالِكٌ - فِيمَا ذَكَرَ أَبُو عُمَرَ رَحِمَهُ اللّهُ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ إدْرِيسَ الْأَوْدِيّ - لِأَنّهُ بَلَغَهُ أَنّ ابْنَ إسْحَاقَ قَالَ هَاتُوا حَدِيثَ مَالِكٍ فَأَنَا طَبِيبٌ بِعِلَلِهِ فَقَالَ مَالِكٌ وَمَا ابْنُ إسْحَاقَ ؟ إنّمَا هُوَ دَجّالٌ مِنْ الدّجَاجِلَةِ نَحْنُ أَخْرَجْنَاهُ مِنْ الْمَدِينَةِ ، يُشِيرُ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - إلَى أَنّ الدّجّالَ لَا يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ . قَالَ ابْنُ إدْرِيسَ وَمَا عَرَفْت أَنّ دَجّالًا يُجْمَعُ عَلَى دَجَاجِلَةٍ حَتّى سَمِعْتهَا عَنْ مَالِكٍ وَذَكَرَ أَنّ ابْنَ إسْحَاقَ مَاتَ بِبَغْدَادَ سَنَةَ إحْدَى وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ وَقَدْ أَدْرَكَ مَنْ لَمْ يُدْرِكْهُ مَالِكٌ رَوَى حَدِيثًا كَثِيرًا عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التّيْمِيّ ، وَمَالِكٌ إنّمَا يُرْوَى عَنْ رَجُلٍ عَنْهُ وَذَكَرَ الْخَطِيبُ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيّ بْنِ ثَابِتٍ فِي تَارِيخِهِ - فِيمَا ذَكَرَ لِي عَنْهُ - أَنّهُ - يَعْنِي ابْنَ إسْحَاقَ - رَأَى أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ ، وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ وَالصّبْيَانُ خَلْفَهُ يَشْتَدّونَ وَيَقُولُونَ هَذَا صَاحِبُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَا يَمُوتُ حَتّى يَلْقَى الدّجّالَ وَذَكَرَ الْخَطِيبُ أَيْضًا أَنّهُ رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ ، وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمّدٍ ، وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ . وَذَكَرَ أَنّ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيّ شَيْخَ مَالِكٍ رَوَى عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ قَالَ وَرَوَى عَنْهُ سُفْيَانُ الثّوْرِيّ ، وَالْحَمّادَانِ حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ دِينَارٍ ، وَحَمّادُ بْنُ زَيْدِ بْنِ دِرْهَمٍ ، وَشُعْبَةُ . وَذَكَرَ عَنْ الشّافِعِيّ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - أَنّهُ قَالَ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَبَحّرَ فِي الْمَغَازِي ، فَهُوَ عِيَالٌ عَلَى مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ فَهَذَا مَا بَلَغَنَا عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ - رَحِمَهُ اللّهُ .

رُوَاةُ الْكِتَابِ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ
[ ص 21 ] يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ الشّيْبَانِيّ وَمُحَمّدُ بْنُ فُلَيْحٍ وَالْبَكّائِيّ ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ إدْرِيسَ وَسَلَمَةُ بْنُ الْفَضْلِ الْأَسَدِيّ وَغَيْرُهُمْ . وَنَذْكُرُ الْبَكّائِيّ لِأَنّهُ شَيْخُ ابْنِ هِشَامٍ ، وَهُوَ أَبُو مُحَمّدٍ زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ طُفَيْلِ بْنِ عَامِرٍ الْقَيْسِيّ الْعَامِرِيّ ، مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ ثُمّ مِنْ بَنِي الْبَكّاءِ وَاسْمُ الْبَكّاءِ رَبِيعَةُ ، وَسُمّيَ الْبُكَاءَ لِخَبَرِ يَسْمُجُ ذِكْرُهُ كَذَلِكَ ذَكَرَ بَعْضُ النّسّابِينَ . وَالْبَكّائِيّ هَذَا ثِقَةٌ خَرّجَ عَنْهُ الْبُخَارِيّ فِي كِتَابِ الْجِهَادِ وَخَرّجَ عَنْهُ مُسْلِمٌ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ وَحَسْبُك بِهَذَا تَزْكِيَةً . وَقَدْ رَوَى زِيَادٌ عَنْ حُمَيْدٍ الطّوِيلِ وَذَكَرَ الْبُخَارِيّ فِي التّارِيخِ عَنْ وَكِيعٍ قَالَ زِيَادٌ [ ص 22 ] فَقَالَ فِي كِتَابِهِ عَنْ الْبُخَارِيّ : قَالَ قَالَ وَكِيعٌ : زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ - عَلَى شَرَفِهِ - يَكْذِبُ فِي الْحَدِيثِ وَهَذَا وَهْمٌ وَلَمْ يَقُلْ وَكِيعٌ فِيهِ إلّا مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ فِي تَارِيخِهِ وَلَوْ رَمَاهُ وَكِيعٌ بِالْكَذِبِ مَا خَرّجَ الْبُخَارِيّ عَنْهُ حَدِيثًا ، وَلَا مُسْلِمٌ كَمَا لَمْ يُخَرّجَا عَنْ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ لَمّا رَمَاهُ الشّعْبِيّ بِالْكَذِبِ وَلَا عَنْ أَبَانِ بْنِ أَبِي عَيّاشٍ لَمّا رَمَاهُ شُعْبَةُ بِالْكَذِبِ وَهُوَ كُوفِيّ تُوُفّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَةٍ .

تَرْجَمَةُ ابْنِ هِشَامٍ
وَأَمّا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ ، فَمَشْهُورٌ بِحَمْلِ الْعِلْمِ مُتَقَدّمٌ فِي عِلْمِ النّسَبِ وَالنّحْوِ وَهُوَ حِمْيَرِيّ مَعَافِرِيّ مِنْ مِصْرَ ، وَأَصْلُهُ مِنْ الْبَصْرَةِ ، وَتُوُفّيَ بِمِصْرِ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ وَمِائَتَيْنِ وَلَهُ كِتَابٌ فِي أَنْسَابِ حِمْيَرَ وَمُلُوكِهَا ، وَكِتَابٌ فِي شَرْحِ مَا وَقَعَ فِي أَشْعَارِ السّيَرِ مِنْ الْغَرِيبِ - فِيمَا ذُكِرَ لِي - وَالْحَمْدُ لِلّهِ كَثِيرًا ، وَصَلَوَاتُهُ عَلَى نَبِيّهِ مُحَمّدٍ وَسَلَامُهُ .

بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
وَبِهِ نَسْتَعِينُ
[ ص 23 ] رَبّ الْعَالَمِينَ وَصَلَوَاتُهُ عَلَى سَيّدِنَا مُحَمّدٍ وَآلِهِ أَجْمَعِينَ .
ذِكْرُ سَرْدِ النّسَبِ الزّكِيّ
" مِنْ مُحَمّد ٍ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ - إلَى آدَمَ عَلَيْهِ السّلَامُ " قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ : هَذَا كِتَابُ سِيرَةِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ - مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَاسْمُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ : شَيْبَةُ بْنُ هَاشِمٍ وَاسْمُ هَاشِمٍ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ .
Sتَفْسِيرُ نَسَبِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
[ ص 23 ] أُبْهِمَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْأَعْلَامِ مَعَانِيَ بَدِيعَةً وَحِكْمَةً مِنْ اللّهِ بَالِغَةً فِي تَخْصِيصِ نَبِيّهِ مُحَمّدٍ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ مُحَمّدٍ وَأَحْمَدَ فَلْتَنْظُرْ هُنَاكَ وَلَعَلّنَا أَنْ نَعُودَ إلَيْهِ فِي بَابِ مَوْلِدِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ - إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى .
عَبْدُ الْمُطّلِبِ
وَأَمّا جَدّهُ عَبْدُ الْمُطّلِبِ ، فَاسْمُهُ عَامِرٌ فِي قَوْلِ ابْنِ قُتَيْبَةَ ، وَشَيْبَةُ فِي قَوْلِ ابْنِ إسْحَاقَ وَغَيْرِهِ وَهُوَ الصّحِيحُ . وَقِيلَ سُمّيَ شَيْبَةُ لِأَنّهُ وُلِدَ وَفِي رَأْسِهِ شَيْبَةٌ وَأَمّا غَيْرُهُ مِنْ الْعَرَبِ مِمّنْ اسْمُهُ شَيْبَةُ فَإِنّمَا قُصِدَ فِي تَسْمِيَتِهِمْ بِهَذَا الِاسْمِ التّفَاؤُلُ لَهُمْ بِبُلُوغِ سِنّ الْحُنْكَةِ [ ص 24 ] سُمّوا بِهَرِمِ وَكَبِيرٍ وَعَاشَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَكَانَ لِدَةَ عُبَيْدِ بْنِ الْأَبْرَصِ الشّاعِرِ غَيْرَ أَنّ عُبَيْدًا مَاتَ قَبْلَهُ بِعِشْرِينَ سَنَةً قَتَلَهُ الْمُنْذِرُ أَبُو النّعْمَانِ بْنُ الْمُنْذِرِ ، وَيُقَالُ إنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ أَوّلُ مَنْ خَضّبَ بِالسّوَادِ مِنْ الْعَرَبِ ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ سَبَبَ تَلْقِيبِهِ بِعَبْدِ الْمُطّلِبِ . وَالْمُطّلِبُ مُفْتَعِلٌ مِنْ الطّلَبِ . وَأَمّا هَاشِمٌ فَعَمْرٌ - كَمَا ذُكِرَ - وَهُوَ اسْمٌ مَنْقُولٌ مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ مِنْ الْعَمْرِ الّذِي هُوَ الْعُمْرُ أَوْ الْعَمْرِ الّذِي هُوَ مِنْ عُمُورِ الْأَسْنَانِ وَقَالَهُ الْقُتَبِيّ : أَوْ الْعَمَرِ الّذِي هُوَ طَرَفُ الْكُمّ يُقَالُ سَجَدَ عَلَى عَمَرَيْهِ أَيْ عَلَى كُمّيْهِ أَوْ الْعَمْرِ الّذِي هُوَ الْقُرْطُ كَمَا قَالَ التّنّوخِيّ :
وَعَمْرُو هِنْدٍ كَأَنّ اللّهَ صَوّرَهُ ... عَمْرَو بْنَ هِنْدٍ يَسُومُ النّاسَ تَعْنِيتَا
وَزَادَ أَبُو حَنِيفَةَ وَجْهًا خَامِسًا ، فَقَالَ فِي الْعُمْرِ الّذِي هُوَ اسْمٌ لِنَخْلِ السّكّرِ وَيُقَالُ فِيهِ عَمْرٌ أَيْضًا ، قَالَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدَ الْوُجُوهِ الّتِي بِهَا سُمّيَ الرّجُلُ عَمْرًا وَقَالَ كَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَسْتَاكُ بِعَسِيبِ الْعُمْرِ .

[ ص 24 ] [ ص 25 ] وَاسْمُ عَبْدِ مَنَافٍ : الْمُغِيرَةُ بْنُ قُصَيّ ، بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ عَبْدُ مَنَافSوَعَبْدُ مَنَافٍ اسْمُهُ الْمُغِيرَةُ - كَمَا ذُكِرَ - وَهُوَ مَنْقُولٌ مِنْ الْوَصْفِ وَالْهَاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ أَيْ إنّهُ مُغِيرٌ عَلَى الْأَعْدَاءِ أَوْ مُغِيرٌ مِنْ أَغَارَ الْحَبْلَ إذَا أَحْكَمَهُ وَدَخَلَتْهُ الْهَاءُ كَمَا دَخَلَتْ فِي عَلّامَةٍ وَنَسّابَةٍ لِأَنّهُمْ قَصَدُوا قَصْدَ الْغَايَةِ وَأَجْرَوْهُ مَجْرَى الطّامّةِ وَالدّاهِيَةِ وَكَانَتْ الْهَاءُ أَوْلَى بِهَذَا الْمَعْنَى لِأَنّ مَخْرَجَهَا غَايَةُ الصّوْتِ وَمُنْتَهَاهُ وَمِنْ ثَمّ لَمْ يُكَسّرْ مَا كَانَتْ فِيهِ هَذِهِ الْهَاءُ فَيُقَالُ فِي عَلّامَةٍ عَلَالِيمُ وَفِي نَسّابَةٍ نَسَاسِيبُ كَيْ لَا يَذْهَبَ اللّفْظُ الدّالّ عَلَى الْمُبَالَغَةِ كَمَا لَمْ يُكَسّرْ الِاسْمُ الْمُصَغّرُ كَيْ لَا تَذْهَبَ بِنْيَةُ التّصْغِيرِ وَعَلَامَتُهُ . [ ص 25 ] تَكُونَ الْهَاءُ فِي مُغِيرَةَ لِلتّأْنِيثِ وَيَكُونُ مَنْقُولًا مِنْ وَصْفِ كَتِيبَةٍ أَوْ خَيْلٍ مُغِيرَةٍ ، كَمَا سُمّوا بِعَسْكَرِ . وَعَبْدُ مَنَافٍ هَذَا كَانَ يُلَقّبُ قَمَرَ الْبَطْحَاءِ - فِيمَا ذَكَرَ الطّبَرِيّ - وَكَانَتْ أُمّهُ حُبّى قَدْ أَخْدَمَتْهُ مَنَاةَ وَكَانَ صَنَمًا عَظِيمًا لَهُمْ وَكَانَ سُمّيَ بِهِ عَبْدُ مَنَاةَ ثُمّ نَظَرَ قُصَيّ فَرَآهُ يُوَافِقُ عَبْدَ مَنَاةَ بْنَ كِنَانَةَ فَحَوّلَهُ عَبْدَ مَنَافٍ . ذَكَرَهُ الْبَرْقِيّ وَالزّبَيْرُ أَيْضًا ، وَفِي الْمُعَيْطِيّ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ قَالَ قُلْت لِمَالِكِ مَا كَانَ اسْمُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ؟ قَالَ شَيْبَةُ . قُلْت : فَهَاشِمٌ ؟ قَالَ عَمْرٌو ، قُلْت : فَعَبْدُ مَنَافٍ ؟ قَالَ لَا أَدْرِي .
وَقُصَيّ
اسْمُهُ زَيْدٌ وَهُوَ تَصْغِيرُ قَصِيّ أَيْ بَعِيدٌ لِأَنّهُ بَعُدَ عَنْ عَشِيرَتِهِ فِي بِلَادِ قُضَاعَةَ حِينَ احْتَمَلَتْهُ أُمّهُ فَاطِمَةُ مَعَ رَابّهِ رَبِيعَةَ بْنِ حَرَامٍ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْكِتَابِ - إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى - وَصُغّرَ عَلَى فُعَيْلٍ وَهُوَ تَصْغِيرُ فَعِيلٍ لِأَنّهُمْ كَرِهُوا اجْتِمَاعَ ثَلَاثِ يَاءَاتٍ فَحَذَفُوا إحْدَاهُنّ وَهِيَ الْيَاءُ الزّائِدَةُ الثّانِيَةُ الّتِي تَكُونُ فِي فَعِيلٍ نَحْوَ قَضِيبٍ فَبَقِيَ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ لَامَ الْفِعْلِ فَيَكُونُ وَزْنُهُ فُعَيّا ، وَتَكُونُ يَاءُ التّصْغِيرِ هِيَ الْبَاقِيَةَ مَعَ الزّائِدَةِ فَقَدْ جَاءَ مَا هُوَ أَبْلَغُ فِي الْحَذْفِ مِنْ هَذَا ، وَهِيَ قِرَاءَةُ قُنْبُلٍ يَا بُنَيْ بِبَقَاءِ يَاءِ التّصْغِيرِ وَحْدَهَا ، وَأَمّا قِرَاءَةُ حَفْصٍ يَا بُنَيّ فَإِنّمَا هِيَ يَاءُ التّصْغِيرِ مَعَ يَاءِ الْمُتَكَلّمِ وَلَامُ الْفِعْلِ مَحْذُوفَةٌ فَكَانَ وَزْنُهُ فُعَيّ وَمَنْ كَسَرَ الْيَاءَ قَالَ يَا بُنَيّ فَوَزْنُهُ يَا فُعَيْل ، وَيَاءُ الْمُتَكَلّمِ هِيَ الْمَحْذُوفَةُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ .
كِلَابٌ
وَأَمّا كِلَابٌ فَهُوَ مَنْقُولٌ إمّا مِنْ الْمَصْدَرِ الّذِي هُوَ مَعْنَى الْمُكَالَبَةِ نَحْوَ كَالَبْت الْعَدُوّ مُكَالَبَةً وَكِلَابًا ، وَإِمّا مِنْ الْكِلَابِ جَمْعُ كَلْبٍ ، لِأَنّهُمْ يُرِيدُونَ الْكَثْرَةَ كَمَا سَمّوْا بِسِبَاعِ [ ص 26 ] وَأَنْمَارٍ . وَقِيلَ لِأَبِي الرّقَيْشِ الْكِلَابِيّ الْأَعْرَابِيّ لِمَ تُسَمّونَ أَبْنَاءَكُمْ بِشَرّ الْأَسْمَاءِ نَحْوَ كَلْبٍ وَذِئْبٍ وَعَبِيدَكُمْ بِأَحْسَنِ الْأَسْمَاءِ نَحْوَ مَرْزُوقٍ وَرَبَاحٍ ؟ فَقَالَ إنّمَا نُسَمّي أَبْنَاءَنَا لِأَعْدَائِنَا ، وَعَبِيدَنَا لِأَنْفُسِنَا ، يُرِيدُ أَنّ الْأَبْنَاءَ عُدّةُ الْأَعْدَاءِ وَسِهَامٌ فِي نُحُورِهِمْ فَاخْتَارُوا لَهُمْ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ . وَمُرّةُ مَنْقُولٌ مِنْ وَصْفِ الْحَنْظَلَةِ وَالْعَلْقَمَةِ وَكَثِيرًا مَا يُسَمّونَ بِحَنْظَلَةَ وَعَلْقَمَةَ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ لِلْمُبَالَغَةِ فَيَكُونُ مَنْقُولًا مِنْ وَصْفِ الرّجُلِ بِالْمَرَارَةِ وَيُقَوّي هَذَا قَوْلُهُمْ تَمِيمُ بْنُ مُرّ ، وَأَحْسَبُهُ مِنْ الْمُسَمّيْنَ بِالنّبَاتِ لِأَنّ أَبَا حَنِيفَةَ ذَكَرَ أَنّ الْمُرّةَ بَقْلَةٌ تُقْلَعُ فَتُؤْكَلُ بِالْخَلّ وَالزّيْتِ يُشْبِهُ وَرَقُهَا وَرَقَ الْهِنْدِبَاءِ .

كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ [ ص 26 ] [ ص 27 ]Sكَعْبٌ
وَأَمّا كَعْبٌ فَمَنْقُولٌ إمّا مِنْ الْكَعْبِ الّذِي هُوَ قِطْعَةٌ مِنْ السّمْنِ أَوْ مِنْ كَعْبِ الْقَدَمِ وَهُوَ عِنْدِي أَشْبَهُ لِقَوْلِهِمْ ثَبَتَ ثُبُوتَ الْكَعْبِ وَجَاءَ فِي خَبَرِ ابْنِ الزّبَيْرِ أَنّهُ كَانَ يُصَلّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ يَوْمَ قُتِلَ وَحِجَارَةُ الْمَنْجَنِيقِ تَمُرّ بِأُذُنَيْهِ وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ كَأَنّهُ كَعْبٌ رَاتِبٌ . وَكَعْبُ بْنُ لُؤَيّ هَذَا أَوّلُ مَنْ جَمَعَ يَوْمَ الْعَرُوبَةِ وَلَمْ تُسَمّ الْعَرُوبَةُ . الْجُمُعَةَ إلّا مُنْذُ جَاءَ الْإِسْلَامُ فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ وَقِيلَ هُوَ أَوّلُ مَنْ سَمّاهَا الْجُمُعَةَ فَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَجْتَمِعُ إلَيْهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَيَخْطُبُهُمْ وَيُذَكّرُهُمْ بِمَبْعَثِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَيُعْلِمُهُمْ أَنّهُ مِنْ وَلَدِهِ وَيَأْمُرُهُمْ بِاتّبَاعِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ وَيَنْشُدُ فِي هَذَا أَبْيَاتًا مِنْهَا قَوْلُهُ
يَا لَيْتَنِي شَاهِدٌ فَحْوَاءَ دَعْوَتِهِ ... إذَا قُرَيْشٌ تُبَغّي الْحَقّ خِذْلَانًا
[ ص 27 ] ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيّ هَذَا الْخَبَرَ عَنْ كَعْبٍ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ لَهُ
لُؤَيّ
وَأَمّا لُؤَيّ ، فَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيّ هُوَ تَصْغِيرُ اللّأْيِ وَهُوَ الثّوْرُ الْوَحْشِيّ وَأَنْشَدَ
يَعْتَادُ أَدِحْيَةً بَقَيْنَ بِقَفْرَةِ ... مَيْثَاءَ يَسْكُنُهَا اللّأْيُ وَالْفَرْقَدُ
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ اللّأْيُ هِيَ الْبَقَرَةُ قَالَ وَسَمِعْت أَعْرَابِيّا يَقُولُ بِكَمْ لَاءَكَ هَذِهِ وَأَنْشَدَ فِي وَصْفِ فَلَاةٍ
كَظَهْرِ اللّأْيِ لَوْ يَبْتَغِي رِيّةً بِهَا ... نَهَارًا لَأَعْيَتْ فِي بُطُونِ الشّوَاجِنِ
الشّوَاجِنُ شُعَبُ الْجِبَالِ وَالرّيّةُ مَقْلُوبٌ مِنْ وَرَى الزّنْدُ وَأَصْلُهُ وِرْيَةٌ وَهُوَ الْحُرَاقُ الّذِي يُشْعَلُ بِهِ الشّرَرَةُ مِنْ الزّنْدِ وَهُوَ عِنْدِي تَصْغِيرُ لَأْيٍ وَاللّأْيُ الْبُطْءُ كَأَنّهُمْ يُرِيدُونَ مَعْنَى الْأَنَاةِ وَتَرْكِ الْعَجَلَةِ وَذَلِكَ أَنّي أَلْفَيْته فِي أَشْعَارِ بَدْرٍ مُكَبّرًا عَلَى هَذَا اللّفْظِ فِي شِعْرِ أَبِي أُسَامَةَ حَيْثُ يَقُولُ
فَدُونَكُمْ بَنِي لَأْيٍ أَخَاكُمْ ... وَدُونَكِ مَالِكًا يَا أُمّ عَمْرِو
مَعَ مَا جَاءَ فِي بَيْتِ الْحُطَيْئَةِ فِي غَيْرِهِ
أَتَتْ آلَ شَمّاسِ بْنِ لَأْيٍ وَإِنّمَا ... أَتَاهُمْ بِهَا الْأَحْلَامُ وَالْحَسَبُ الْعِدّ
وَقَوْلُهُ أَيْضًا :
فَمَاتَتْ أُمّ جَارَةِ آلِ لَأْيٍ ... وَلَكِنْ يَضْمَنُونَ لَهَا قَرَاهَا
وَفِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ . وَالرّاوِيَةُ يَوْمَئِذٍ يُسْتَقَى عَلَيْهَا أَحَبّ إلَيّ مِنْ شَاءٍ وَلَاءٍ فَاللّاءُ هَهُنَا جَمْعُ اللّائِي ، وَهُوَ الثّوْرُ مِثْلُ الْبَاقِرِ وَالْجَامِلِ وَتَوَهّمَ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنّ قَوْلَهُ لَاءٍ مِثْلُ مَاءٍ فَخَطّأَ الرّوَايَةَ وَقَالَ إنّمَا [ ص 28 ] أَلْعَاعٍ جَمْعُ لَأْيٍ وَلَيْسَ الصّوَابُ إلّا مَا تَقَدّمَ وَأَنّهُ لَاءٍ مِثْلُ جَاءٍ .

[ ص 28 ] فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ وَاسْمُ مُدْرِكَةَ عَامِرُ بْنُ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ [ ص 29 ] [ ص 30 ]Sفِهْرٌوَغَيْرُهُ
وَأَمّا فِهْرٌ فَقَدْ قِيلَ إنّهُ لَقَبٌ وَالْفِهْرُ مِنْ الْحِجَارَةِ الطّوِيلُ وَاسْمُهُ قُرَيْشٌ وَقِيلَ بَلْ اسْمُهُ فِهْرٌ وَقُرَيْشٌ لَقَبٌ لَهُ عَلَى مَا سَيَأْتِي الِاخْتِلَافُ فِيهِ - إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى - وَمَالِكٌ وَالنّضْرُ وَكِنَانَةُ لَا إشْكَالَ فِيهَا
خُزَيْمَةُ
وَخُزَيْمَةُ وَالِدُ كِنَانَةَ تَصْغِيرُ خَزَمَةَ وَهِيَ وَاحِدَةُ الْخَزَمِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَصْغِيرَ خَزْمَةَ وَكِلَاهُمَا مَوْجُودٌ فِي أَسْمَاءِ الْأَنْصَارِ وَغَيْرِهِمْ وَهِيَ الْمَرّةُ الْوَاحِدَةُ مِنْ الْخَزْمِ وَهُوَ شَدّ الشّيْءِ وَإِصْلَاحُهُ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْخَزَمُ مِثْلُ الدّوْمِ تُتّخَذُ مِنْ سَعَفِهِ الْحِبَالُ وَيُصْنَعُ مِنْ أَسَافِلِهِ خَلَايَا لِلنّحْلِ وَلَهُ ثَمَرٌ لَا يَأْكُلُهُ النّاسُ وَلَكِنْ تَأْلَفَهُ الْغِرْبَانُ وَتَسْتَطِيبُهُ .
مُدْرِكَةُ وَإِلْيَاسُ
وَأَمّا مُدْرِكَةُ فَمَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ وَإِلْيَاسُ أَبُوهُ قَالَ فِيهِ ابْنُ الْأَنْبَارِيّ إلْيَاسُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَجَعَلَهُ مُوَافِقًا لِاسْمِ إلْيَاسَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَقَالَ فِي اشْتِقَاقِهِ أَقْوَالًا مِنْهَا : أَنْ يَكُونَ فِعْيَالًا مِنْ الْأَلْسِ وَهِيَ الْخَدِيعَةُ وَأَنْشَدَ مِنْ فَهّةِ الْجَهْلِ وَالْأَلْسَةِ . وَمِنْهَا أَنّ الْأَلْسَ اخْتِلَاطُ الْعَقْلِ وَأَنْشَدُوا : إنّي إذًا لَضَعِيفُ الْعَقْلِ مَأْلُوسُ [ ص 29 ] أَلْيَسُ وَهُوَ الشّجَاعُ الّذِي لَا يَفِرّ . قَالَ الْعَجّاجُ أَلْيَسُ عَنْ حَوْبَائِهِ سَخِيّ وَقَالَ آخَرُ أَلْيَسُ كَالنّشْوَانِ وَهُوَ صَاحٍ وَفِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ لِلْقُتَبِيّ أَنّ فُلَانًا : أَلْيَسُ أَهْيَسُ أَلَدّ مِلْحَسُ . إنْ سُئِلَ أَزَزَ وَإِنْ دُعِيَ انْتَهَزَ . وَقَدْ فَسّرَهُ وَزَعَمَ أَنّ أَهْيَسَ مَقْلُوبُ الْوَاوِ وَأَنّهُ مَرّةً مِنْ الْهَوَسِ وَجُعِلَتْ وَاوُهُ يَاءً لِازْدِوَاجِ الْكَلَامِ فَالْأَلْيَسُ الثّابِتُ الّذِي لَا يَبْرَحُ وَاَلّذِي قَالَهُ غَيْرُ ابْنِ الْأَنْبَارِيّ أَصَحّ ، وَهُوَ أَنّهُ الْيَاسُ سُمّيَ بِضَدّ الرّجَاءِ وَاللّامُ فِيهِ لِلتّعْرِيفِ وَالْهَمْزَةُ هَمْزَةُ وَصْلٍ وَقَالَهُ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الدّلَائِلِ وَأَنْشَدَ أَبْيَاتًا شَوَاهِدَ مِنْهَا قَوْلُ قُصَيّ :
إنّي لَدَى الْحَرْبِ رَخِيّ اللّبَبِ ... أُمّهَتِي خِنْدِفُ وَالْيَاسُ أَبِي
وَيُقَالُ إنّمَا سُمّيَ السّلّ دَاءَ يَاسٍ وَدَاءَ إلْيَاسَ لِأَنّ إلْيَاسَ بْنَ مُضَرَ مَاتَ مِنْهُ . قَالَ ابْنُ هَرْمَةَ
يَقُولُ الْعَاذِلُونَ إذَا رَأَوْنِي ... أُصِبْت بِدَاءِ يَاسٍ فَهُوَ مُودِي
وَقَالَ ابْنُ أَبِي عَاصِيَةَ
فَلَوْ كَانَ دَاءُ إلْيَاسَ بِي ، وَأَعَانَنِي ... طَبِيبٌ بِأَرْوَاحِ الْعَقِيقِ شَفَانِيَا
وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ حِزَامٍ
بِي إلْيَاسُ أَوْ دَاءُ الْهُيَامِ أَصَابَنِي ... فَإِيّاكَ عَنّي لَا يَكُنْ بِك مَا بِيَا
[ ص 30 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ لَا تَسُبّوا إلْيَاسَ فَإِنّهُ كَانَ مُؤْمِنًا وَذَكَرَ أَنّهُ كَانَ يَسْمَعُ فِي صُلْبِهِ تَلْبِيَةَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِالْحَجّ . يَنْظُرُ فِي كِتَابِ الْمَوْلِدِ لِلْوَاقِدِيّ . وَإِلْيَاسُ أَوّلُ مَنْ أَهْدَى الْبُدْنَ لِلْبَيْتِ . قَالَهُ الزّبَيْرُ . وَأُمّ إلْيَاسَ الرّبَابُ بِنْتُ حُمَيْرَةَ بْنِ مَعَدّ بْنِ عَدْنَانَ قَالَهُ الطّبَرِيّ ، وَهُوَ خِلَافُ مَا قَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي هَذَا الْكِتَابِ . وَأَمّا مُضَرُ ، فَقَدْ قَالَ الْقُتَبِيّ هُوَ مِنْ الْمَضِيرَةِ أَوْ مِنْ اللّبَنِ الْمَاضِرِ وَالْمَضِيرَةُ شَيْءٌ يُصْنَعُ مِنْ اللّبَنِ فَسُمّيَ مُضَرَ لِبَيَاضِهِ وَالْعَرَبُ تُسَمّي الْأَبْيَضَ أَحْمَرَ فَلِذَلِكَ قِيلَ مُضَرُ الْحَمْرَاءُ وَقِيلَ بَلْ أَوْصَى لَهُ أَبُوهُ بِقُبّةِ حَمْرَاءَ ، وَأَوْصَى لِأَخِيهِ رَبِيعَةَ بِفَرَسِ فَقِيلَ مُضَرُ الْحَمْرَاءُ وَرَبِيعَةُ الْفَرَسِ . وَمُضَرُ أَوّلُ مَنْ سَنّ لِلْعَرَبِ حِدَاءَ الْإِبِلِ وَكَانَ أَحْسَنَ النّاسِ صَوْنًا فِيمَا زَعَمُوا - وَسَنَذْكُرُ سَبَبَ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدُ - إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى - وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيّ " لَا تَسُبّوا مُضَرَ وَلَا رَبِيعَةَ ، فَإِنّهُمَا كَانَا مُؤْمِنَيْنِ " ذَكَرَهُ الزّبَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ .

نِزَارِ بْنِ مَعَدّ بْنِSنِزَارٌ وَمَعَدّ
وَأَمّا نِزَارُ فَمِنْ النّزْرِ وَهُوَ الْقَلِيلُ وَكَانَ أَبُوهُ حِينَ وُلِدَ لَهُ وَنَظَرَ إلَى النّورِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَهُوَ نُورُ النّبُوّةِ الّذِي كَانَ يَنْتَقِلُ فِي الْأَصْلَابِ إلَى مُحَمّدٍ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَرِحَ فَرَحًا شَدِيدًا بِهِ [ ص 31 ] وَأَطْعَمَ وَقَالَ إنّ هَذَا كُلّهُ نَزْرٌ لِحَقّ هَذَا الْمَوْلُودِ فَسُمّيَ نِزَارًا لِذَلِكَ . وَأَمّا مَعَدّ أَبُوهُ فَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا ، أَنْ يَكُونَ مَفْعَلًا مِنْ الْعَدّ وَالثّانِي أَنْ يَكُونَ فَعَلّا مِنْ مَعَدَ فِي الْأَرْضِ أَيْ أَفْسَدَ كَمَا قَالَ
وَخَارِبَيْنِ خَرَبَا فَمَعَدَا ... مَا يَحْسِبَانِ اللّهَ إلّا رَقَدَا
وَإِنْ كَانَ لَيْسَ فِي الْأَسْمَاءِ مَا هُوَ عَلَى وَزْنِ فَعَلٍ بِفَتْحِ الْفَاءِ إلّا مَعَ التّضْعِيفِ فَإِنّ التّضْعِيفَ يُدْخِلُ فِي الْأَوْزَانِ مَا لَيْسَ فِيهَا كَمَا قَالُوا . شَمّرَ وَقُشَعْرِيرَةَ وَلَوْلَا التّضْعِيفُ مَا وُجِدَ مِثْلُ هَذَا ، وَنَحْوُ ذَلِكَ الثّالِثِ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمَعَدّيْنِ وَهُمَا مَوْضِعُ عَقِبَيْ الْفَارِسِ مِنْ الْفَرَسِ وَأَصْلُهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ مِنْ الْمَعْدِ بِسُكُونِ الْعَيْنِ وَهُوَ الْقُوّةُ وَمِنْهُ اشْتِقَاقُ الْمَعِدَةِ .

عَدْنَانَ بْنِ أُدّ وَيُقَالُ أُدَدَ بْنِSعَدْنَانُ
وَأَمّا عَدْنَان ُ فَفَعْلَانُ مِنْ عَدَنَ إذَا أَقَامَ وَلِعَدْنَانَ أَخَوَانِ نَبْتٌ وَعَمْرٌو فِيمَا ذَكَرَ الطّبَرِيّ .
النّسَبُ قَبْلَ عَدْنَانَ
وَأُدَدٌ مَصْرُوفٌ . قَالَ ابْنُ السّرَاجِ . هُوَ مِنْ الْوُدّ وَانْصَرَفَ لِأَنّهُ مِثْلُ ثُقَبٍ وَلَيْسَ مَعْدُولًا كَعُمَرِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ . [ ص 32 ] قِيلَ فِي عَدْنَانَ هُوَ ابْنُ مَيْدَعَةَ وَقِيلَ ابْنُ يَحْثُمَ قَالَهُ الْقُتَبِيّ وَمَا بَعْدَ عَدْنَانَ مِنْ الْأَسْمَاءِ مُضْطَرَبٌ فِيهِ فَاَلّذِي صَحّ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنّهُ انْتَسَبَ إلَى عَدْنَانَ لَمْ يَتَجَاوَزْهُ بَلْ قَدْ رُوِيَ عَنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ لَمّا بَلَغَ عَدْنَانَ . قَالَ " كَذَبَ النّسّابُونَ مَرّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا " ، وَالْأَصَحّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنّهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - أَنّهُ قَالَ إنّمَا نَنْتَسِبُ إلَى عَدْنَانَ وَمَا فَوْقَ ذَلِكَ لَا نَدْرِي مَا هُو وَأَصَحّ شَيْءٍ رُوِيَ فِيمَا بَعْدَ عَدْنَانَ مَا ذَكَرَهُ الدّوْلَابِيّ أَبُو بِشْرٍ مِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ يَعْقُوبَ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ وَهْبِ بْنِ زَمَعَةَ الزّمَعِيّ عَنْ عَمّتِهِ عَنْ أُمّ سَلَمَةَ عَنْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنّهُ قَالَ مَعَدّ بْنُ عَدْنَانَ بْنِ أُدَدِ بْنِ زَنْدٍ - بِالنّونِ - بْنِ الْيَرَى بْنِ أَعْرَاقِ الثّرَى " قَالَتْ أُمّ سَلَمَةَ . فَزَنْدٌ هُوَ الْهَمَيْسَعُ وَالْيَرَى هُوَ نَبْتٌ وَأَعْرَاقُ الثّرَى هُوَ إسْمَاعِيلُ لِأَنّهُ ابْنُ إبْرَاهِيمَ وَإِبْرَاهِيمُ لَمْ تَأْكُلْهُ النّارُ كَمَا أَنّ النّارَ لَا تَأْكُلُ الثّرَى وَقَدْ قَالَ الدّارَقُطْنِيّ : لَا نَعْرِفُ زَنْدًا إلّا فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَزَنْدُ بْنُ الْجَوْنِ وَهُوَ أَبُو دُلَامَةَ الشّاعِرُ . قَالَ الْمُؤَلّفُ وَهَذَا الْحَدِيثُ عِنْدِي لَيْسَ بِمُعَارِضِ لِمَا تَقَدّمَ مِنْ قَوْلِهِ كَذَبَ النّسّابُون وَلَا لِقَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - لِأَنّهُ حَدِيثٌ مُتَأَوّلٌ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ " [ ص 33 ] ابْنِ الْيَرَى ، ابْنِ أَعْرَاقِ الثّرَى " كَمَا قَالَ " كُلّكُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ " لَا يُرِيدُ أَنّ الْهَمَيْسَعَ وَمَنْ دُونَهُ ابْنٌ لِإِسْمَاعِيلَ لِصُلْبِهِ وَلَا بُدّ مِنْ هَذَا التّأْوِيلِ أَوْ غَيْرِهِ لِأَنّ أَصْحَابَ الْأَخْبَارِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي بُعْدِ الْمُدّةِ مَا بَيْنَ عَدْنَانَ وَإِبْرَاهِيمَ وَيَسْتَحِيلُ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا أَرْبَعَةُ آبَاءٍ أَوْ سَبْعَةٌ كَمَا ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ ، أَوْ عَشْرَةٌ أَوْ عِشْرُونَ فَإِنّ الْمُدّةَ أَطْوَلُ مِنْ ذَلِكَ كُلّهِ وَذَلِكَ . أَنّ مَعَدّ بْنَ عَدْنَانَ كَانَ فِي مُدّةِ بُخْتَنَصّرَ ابْنِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً . قَالَ الطّبَرِيّ : وَذُكِرَ أَنّ اللّهَ تَعَالَى أَوْحَى فِي ذَلِكَ الزّمَانِ إلَى إرْمِيَاءَ بْنِ حَلْقِيَا أَنْ اذْهَبْ إلَى بُخْتَنَصّرَ فَأَعْلِمْهُ أَنّي قَدْ سَلّطْته عَلَى الْعَرَبِ ، وَاحْمِلْ مَعَدّا عَلَى الْبُرَاقِ كَيْلَا تُصِيبُهُ النّقْمَةُ فِيهِمْ فَإِنّي مُسْتَخْرِجٌ مِنْ صُلْبِهِ نَبِيّا كَرِيمًا أَخْتِمُ بِهِ الرّسُلَ فَاحْتَمَلَ مَعَدّا عَلَى الْبُرَاقِ إلَى أَرْضِ الشّامِ ، فَنَشَأَ مَعَ بَنِي إسْرَائِيلَ وَتَزَوّجَ هُنَاكَ امْرَأَةً اسْمُهَا : مُعَانَةُ بِنْتُ جَوْشَنَ مِنْ بَنِي دُبّ بْنِ جُرْهُمٍ ، وَيُقَالُ فِي اسْمِهَا : نَاعِمَةٌ . قَالَهُ الزّبَيْرُ وَمِنْ ثَمّ وَقَعَ فِي كِتَابِ الإسرائيليين نَسَبُ مَعَدّ ثَبّتَهُ فِي كُتُبِهِ رَخِيَا ، وَهُوَ يُورَخ كَاتِبُ إرْمِيَاءَ . كَذَلِكَ ذَكَرَ أَبُو عُمَرَ النّمَرِيّ حُدّثْت بِذَلِكَ عَنْ الْغَسّانِيّ عَنْهُ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ إبْرَاهِيمَ فِي ذَلِكَ النّسَبِ نَحْوٌ مِنْ أَرْبَعِينَ جَدّا ، وَقَدْ ذَكَرَهُمْ كُلّهُمْ أَبُو الْحَسَنِ الْمَسْعُودِيّ عَلَى اضْطِرَابٍ فِي الْأَسْمَاءِ وَلِذَلِكَ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - أَعْرَضَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَنْ رَفْعِ نَسَبِ عَدْنَانَ إلَى إسْمَاعِيلَ لِمَا فِيهِ مِنْ التّخْلِيطِ وَتَغْيِيرٍ فِي الْأَلْفَاظِ وَعَوَاصَةِ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ مَعَ قِلّةِ الْفَائِدَةِ فِي تَحْصِيلِهَا . وَقَدْ ذَكَرَ الطّبَرِيّ نَسَبَ عَدْنَانَ إلَى إسْمَاعِيلَ مِنْ وُجُوهٍ ذَكَرَ فِي أَكْثَرِهَا نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ أَبًا ، وَلَكِنْ بِاخْتِلَافِ فِي الْأَلْفَاظِ لِأَنّهَا نُقِلَتْ مِنْ كُتُبٍ عِبْرَانِيّةٍ وَذُكِرَ مِنْ وَجْهٍ قَوِيّ فِي الرّوَايَةِ عَنْ نُسّابِ الْعَرَبِ ، أَنّ نَسَبَ عَدْنَانَ يَرْجِعُ إلَى قَيْذَرَ بْنَ إسْمَاعِيلَ وَأَنّ قَيْذَرَ كَانَ الْمَلِكَ فِي زَمَانِهِ وَأَنّ مَعْنَى قَيْذَرَ الْمَلِكُ إذَا فُسّرَ وَذَكَرَ الطّبَرِيّ فِي عَمُودِ هَذَا النّسَبِ بُوّرَا بْنَ شُوحَا ، وَهُوَ أَوّلُ مَنْ عَتَرَ الْعَتِيرَةَ وَأَنّ شُوحَا هُوَ سَعْدُ رَجَبٍ وَأَنّهُ أَوّلُ مَنْ سَنّ رَجَبًا لِلْعَرَبِ . وَالْعَتِيرَةُ هِيَ الرّجَبِيّةُ . [ ص 34 ] وَذَكَرَ فِي هَذَا النّسَبِ عُبَيْدَ بْنَ ذِي يَزَنَ بْنِ هَمَاذَا ، وَهُوَ الطّعّانُ وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الرّمَاحُ الْيَزَنِيّةُ وَذَكَرَ فِيهِمْ أَيْضًا دَوْسَ الْعُتُقَ وَكَانَ مِنْ أَحْسَنِ النّاسِ وَجْهًا ، وَكَانَ يُقَالُ فِي الْمَثَلِ أَعْتَقُ مِنْ دَوْسٍ ، وَهُوَ الّذِي هَزَمَ جَيْشَ قَطُورَا بْنِ جُرْهُمٍ . وَذَكَرَ فِيهِمْ إسْمَاعِيلَ ذَا الْأَعْوَجِ وَهُوَ فَرَسُهُ وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الْخَيْلُ الْأَعْوَجِيّةُ وَهَذَا هُوَ الّذِي يُشْبِهُ فَإِنْ بُخْتَنَصّرَ كَانَ بَعْدَ سُلَيْمَانَ بِمِئَتَيْنِ مِنْ السّنِينَ لِأَنّهُ كَانَ عَامِلًا عَلَى الْعِرَاقِ " لَكَيْ لهراسب " ثُمّ لِابْنِهِ " كَيْ بستاسب " إلَى مُدّةِ بهمن قَبْلَ غَلَبَةِ الْإِسْكَنْدَرِ عَلَى دَارَا بْنِ دَارَا بهمن ، وَذَلِكَ قَرِيبٌ مِنْ مُدّةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فَأَيْنَ هَذِهِ الْمُدّةُ مِنْ مُدّةِ إسْمَاعِيلَ ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ بَيْنَ مَعَدّ وَبَنِيهِ مَعَ هَذَا سَبْعَةُ آبَاءٍ فَكَيْفَ أَرْبَعَةٌ وَاَللّهُ أَعْلَمُ ؟ . وَكَانَ رُجُوعُ مَعَدّ إلَى أَرْضِ الْحِجَازِ بَعْدَ مَا رَفَعَ اللّهُ بَأْسَهُ عَنْ الْعَرَبِ وَرَجَعَتْ بَقَايَاهُمْ الّتِي كَانَتْ فِي الشّوَاهِقِ إلَى مَحَالّهِمْ وَمِيَاهِهِمْ بَعْدَ أَنْ دَوّخَ بِلَادَهُمْ بُخْتَنَصّرُ وَخَرّبَ الْمَعْمُورَ وَاسْتَأْصَلَ أَهْلَ حَضُورَ وَهُمْ الّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ { وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ } الْأَنْبِيَاءَ الْآيَةُ وَذَلِكَ لِقَتْلِهِمْ شُعَيْبَ بْنَ ذِي مَهْدَمٍ نَبِيّا أَرْسَلَهُ اللّهُ إلَيْهِمْ وَقَبْرُهُ بِصِنّينَ جَبَلٌ بِالْيَمَنِ وَلَيْسَ بِشُعَيْبِ الْأَوّلِ صَاحِبِ مَدْيَنَ . ذَلِكَ شُعَيْبُ بْنُ عَيْفِي ، وَيُقَالُ فِيهِ ابْنَ صَيْفُونٍ وَكَذَلِكَ أَهْلُ عَدَنٍ ، قَتَلُوا نَبِيّا أُرْسِلَ إلَيْهِمْ اسْمُهُ حَنْظَلَةُ بْنُ صَفْوَانَ فَكَانَتْ سَطْوَةُ اللّهِ بِالْعَرَبِ لِذَلِكَ نَعُوذُ بِاَللّهِ مِنْ غَضَبِهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ .

مُقَوّمِ بْنِ نَاحُورِ بْنِ تَيْرَحَ بْنِ [ ص 31 ] [ ص 32 ] [ ص 33 ] [ ص 34 ] نَابِتِ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ - خَلِيلِ الرّحْمَنِ - بْنِ تارِح وَهُوَ آزَرُ بْنُ نَاحُورِ بْنِ ساروغ بْنِ رَاعُو بْنِ فَالَخ بْنِ عَيْبَرَ بْنِ شالَخ بْن أرْفَخْشَذ بْنِ سَامِ بْنِSعَوْدٌ إلَى النّسَبِ
ثُمّ نَعُودُ إلَى النّسَبِ . فَأَمّا مُقَوّمٌ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَأَبُو أُدَدٍ فَمَفْهُومُ الْمَعْنَى ، وَتَيْرَحُ فَيْعَلٌ مِنْ التّرِحَةِ إنْ كَانَ عَرَبِيّا . وَكَذَلِكَ نَاحُورُ مِنْ النّحْرِ وَيَشْجُبُ مِنْ الشّجْبِ وَإِنْ كَانَ الْمَعْرُوفُ أَنْ يُقَالَ شَجِبَ بِكَسْرِ الْجِيمِ يَشْجَبُ بِفَتْحِهَا ، وَلَكِنْ قَدْ يُقَالُ فِي الْمُغَالَبَةِ شَاجَبْتُهُ [ ص 35 ] الْمَاضِي ؛ كَمَا يُقَالُ مِنْ الْعِلْمِ عَالَمْته فَعَلَمْته بِفَتْحِ اللّامِ أُعْلِمُهُ بِضَمّهَا . وَقَدْ ذَكَرَهُمْ أَبُو الْعَبّاسِ النّاشِئُ فِي قَصِيدَتِهِ الْمَنْظُومَةِ فِي نَسَبِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى آدَمَ كَمَا ذَكَرَهُمْ ابْنُ إسْحَاقَ . وَإِبْرَاهِيمُ مَعْنَاهُ أَبٌ رَاحِمٌ وَآزَرُ قِيلَ مَعْنَاهُ يَا أَعْوَجُ وَقِيلَ هُوَ اسْمُ صَنَمٍ وَانْتُصِبَ عَلَى إضْمَارِ الْفِعْلِ فِي التّلَاوَةِ وَقِيلَ هُوَ اسْمٌ لِأَبِيهِ كَانَ يُسَمّى تارِح وَآزَرُ وَهَذَا هُوَ الصّحِيحُ لِمَجِيئِهِ فِي الْحَدِيثِ مَنْسُوبًا إلَى آزَرَ وَأُمّهِ نُونًا ، وَيُقَالُ فِي اسْمِهَا . لُيُوثِي ، أَوْ نَحْوِ هَذَا وَمَا بَعْدَ إبْرَاهِيمَ أَسْمَاءٌ سُرْيَانِيّةٌ فَسّرَ أَكْثَرَهَا بِالْعَرَبِيّةِ ابْنُ هِشَامٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ وَذَكَرَ أَنّ فَالَع مَعْنَاهَا : الْقَسّامُ وَشَالَخ مَعْنَاهَا : الرّسُولُ أَوْ الْوَكِيلُ وَذَكَرَ أَنّ إسْمَاعِيلَ تَفْسِيرُهُ مُطِيعُ اللّهِ وَذَكَرَ الطّبَرِيّ أَنّ بَيْنَ فَالَع وَعَابِرِ أَبًا اسْمُهُ قَيّنَن أُسْقِطَ اسْمُهُ فِي التّوْرَاةِ ، لِأَنّهُ كَانَ سَاحِرًا ، وأرفخشذ تَفْسِيرُهُ مِصْبَاحٌ مُضِيءٌ وَشَاذّ مُخَفّفٌ بالسريانية " الضّيَاءُ وَمِنْهُ حم شَاذّ " بالسريانية وَهُوَ رَابِعُ الْمُلُوكِ بَعْدَ " جيومرث " ، وَهُوَ الّذِي قَتَلَهُ الضّحّاكُ ، وَاسْمُهُ " بيوراسب بْنِ إندراسب " وَالضّحّاكُ مُغَيّرٌ مِنْ ازدهاق . قَالَ حَبِيبٌ
وَكَأَنّهُ الضّحّاكُ فِي فَتَكَاتِهِ ... بِالْعَالَمِينَ وَأَنْتَ أفريدون
لِأَنّ أفريدون هُوَ الّذِي قَتَلَ الضّحّاكَ ، بَعْدَ أَنْ عَاشَ أَلْفَ سَنَةٍ فِي جَوْرٍ وَعُتُوّ وَطُغْيَانٍ عَظِيمٍ وَذَلِكَ مَذْكُورٌ عَلَى التّفْصِيلِ فِي تَارِيخِ الطّبَرِيّ وَغَيْرِهِ .

نُوحِ بْنِ لَمْكِ بْنِ مَتّوشَلَخ بْنِ أخنوخ ، وَهُوَ إدْرِيسُ النّبِيّ - فِيمَا يَزْعُمُونَ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ وَكَانَ أَوّلَ بَنِي آدَمَ أُعْطِيَ النّبُوّةَ وَخَطّ بِالْقَلَمِ - ابْنِ يَرْدِ بْنِ مهْلَيِل بْنِ قَيّنَن بْنِ يانِشَ بْنِ شيثَ بْنِ آدَمَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . [ ص 35 ] [ ص 36 ] قَالَ أَبُو مُحَمّدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ حَدّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَكّائِيّ ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ الْمُطّلِبِيّ بِهَذَا الّذِي ذَكَرْت مِنْ نَسَبِ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ وَآلِهِ وَسَلّمَ إلَى آدَمَ عَلَيْهِ السّلَامُ وَمَا فِيهِ مِنْ حَدِيثِ إدْرِيسَ وَغَيْرِهِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي خَلّادُ بْنُ قُرّةَ بْنِ خَالِدٍ السّدُوسِيّ ، عَنْ شَيْبَانَ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ شَقِيقِ بْنِ ثَوْرٍ عَنْ قَتَادَةَ بْنِ دِعَامَةَ أَنّهُ قَالَ [ ص 37 ] تارِح - وَهُوَ آزَرُ - بْنُ نَاحُورِ بْنِ أسرغ بْنِ أَرْغُو بْنِ فَالَخ بْنِ عَابِرِ بْنِ شالَخ بْنِ أرْفَخْشَذ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحِ بْنِ لَمْكِ بْنِ مَتّوشَلَخ بْنِ أخنوخ بْنِ يُرِدْ بْنِ مهْلائِيل بْنِ قاين بْنِ أَنُوشِ بْنِ شِيثِ بْنِ آدَمَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
عَمَلُ ابْنِ هِشَامٍ فِي سِيرَةِ ابْنِ إسْحَاقَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَأَنَا إنْ شَاءَ اللّهُ مُبْتَدِئٌ هَذَا الْكِتَابَ بِذِكْرِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ وَمَنْ - 38 - وَلَدَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ - مِنْ وَلَدِهِ وَأَوْلَادِهِمْ لِأَصْلَابِهِمْ الْأَوّلَ فَالْأَوّلَ مِنْ إسْمَاعِيلَ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ - وَمَا يَعْرِضُ مِنْ حَدِيثِهِمْ وَتَارِكٌ ذِكْرَ غَيْرِهِمْ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ لِلِاخْتِصَارِ إلَى حَدِيثِ سِيرَةِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ - وَتَارِكٌ بَعْضَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِمّا لَيْسَ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ - فِيهِ ذِكْرٌ وَلَا نَزَلَ فِيهِ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ وَلَيْسَ سَبَبًا لِشَيْءِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَلَا تَفْسِيرًا لَهُ وَلَا شَاهِدًا عَلَيْهِ لِمَا ذَكَرْت مِنْ الِاخْتِصَارِ وَأَشْعَارًا ذَكَرَهَا لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ يَعْرِفُهَا ، وَأَشْيَاءَ بَعْضُهَا يَشْنُعُ الْحَدِيثُ بِهِ وَبَعْضٌ يَسُوءُ بَعْضَ النّاسِ ذِكْرُهُ وَبَعْضٌ لَمْ يُقِرّ لَنَا الْبَكّائِيّ بِرِوَايَتِهِ وَمُسْتَقْصٍ - إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى - مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْهُ بِمَبْلَغِ الرّوَايَةِ لَهُ وَالْعِلْمِ بِهِ .
Sنُوحٌ وَمَنْ قَبْلَهُ
وَذَكَرَ نُوحًا - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَاسْمُهُ عَبْدُ الْغَفّارِ وَسُمّيَ نُوحًا لِنَوْحِهِ عَلَى ذَنْبِهِ وَأَخُوهُ صَابِئُ بْنُ لَامَك ، إلَيْهِ يُنْسَبُ دِينُ الصّابِئِينَ فِيمَا ذَكَرُوا وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَذُكِرَ أَنّ لَامَك وَالِدُ نُوحٍ عَلَيْهِ السّلَامُ . وَلَامَك أَوّلُ مَنْ اتّخَذَ الْعُودَ لِلْغِنَاءِ بِسَبَبِ يَطُولُ ذِكْرُهُ وَاِتّخَذَ مَصَانِعَ الْمَاءِ . وَأَبُوهُ مَتّوشَلَخ . وَذَكَرَهُ النّاشِئُ فِي قَصِيدَتِهِ فَقَالَ مَتّوشَلَخ ، وَتَفْسِيرُهُ مَاتَ الرّسُولُ لِأَنّ أَبَاهُ كَانَ رَسُولًا وَهُوَ خنوخ ؟ وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ وَغَيْرُهُ هُوَ [ ص 36 ] ابْنُ إسْحَاقَ فِي الْكِتَابِ الْكَبِيرِ عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ عَنْ أَبِي ذَرّ عَنْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنّهُ قَالَ أَوّلُ مَنْ كَتَبَ بِالْقَلَمِ إدْرِيسُ " وَعَنْهُ - عَلَيْهِ الصّلَاةُ وَالسّلَامُ - أَنّهُ قَالَ أَوّلُ مَنْ كَتَبَ بِالْعَرَبِيّةِ إسْمَاعِيلُ وَقَالَ أَبُو عُمَرَ وَهَذِهِ الرّوَايَةُ أَصَحّ مِنْ رِوَايَةِ مَنْ رَوَى : أَنّ أَوّلَ مَنْ تَكَلّمَ بِالْعَرَبِيّةِ إسْمَاعِيلُ وَالْخِلَافُ كَثِيرٌ فِي أَوّلِ مَنْ تَكَلّمَ بِالْعَرَبِيّةِ . وَفِي أَوّلِ مَنْ أَدْخَلَ الْكِتَابَ الْعَرَبِيّ أَرْضَ الْحِجَازِ . فَقِيلَ حَرْبُ بْنُ أُمَيّةَ . قَالَهُ الشّعْبِيّ . وَقِيلَ هُوَ شَعْبَانُ بْنُ أُمَيّةَ . وَقِيلَ عَبْدُ بْنُ قُصَيّ تَعَلّمَهُ بِالْحِيرَةِ أَهْلُ الْحِيرَةِ مِنْ أَهْلِ الْأَنْبَارِ .
إدْرِيسُ
قَالَ الْمُؤَلّفُ ثُمّ نَرْجِعُ الْآنَ إلَى مَا كُنّا بِصَدَدِهِ . فَنَقُولُ إنّ إدْرِيسَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - قَدْ قِيلَ إنّهُ إلْيَاسُ وَإِنّهُ لَيْسَ بِجَدّ لِنُوحِ . وَلَا هُوَ فِي عَمُودِ هَذَا النّسَبِ . وَكَذَلِكَ سَمِعْت شَيْخَنَا الْحَافِظَ أَبَا بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللّهُ - يَقُولُ - وَيَسْتَشْهِدُ بِحَدِيثِ الْإِسْرَاءِ - فَإِنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كُلّمَا لَقِيَ نَبِيّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ الّذِينَ لَقِيَهُمْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ قَالَ مَرْحَبًا بِالنّبِيّ الصّالِحِ وَالْأَخِ الصّالِحِ . وَقَالَ لَهُ آدَمُ مَرْحَبًا بِالنّبِيّ الصّالِحِ وَالِابْنِ الصّالِحِ . كَذَلِكَ قَالَ لَهُ إبْرَاهِيمُ . وَقَالَ لَهُ إدْرِيسُ وَالْأَخُ الصّالِحُ . فَلَوْ كَانَ فِي عَمُودِ نَسَبِهِ لَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ لَهُ أَبُوهُ إبْرَاهِيمُ وَأَبُوهُ آدَمُ وَلِخَاطِبِهِ بِالْبُنُوّةِ وَلَمْ يُخَاطِبْهُ بِالْأُخُوّةِ . وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي أَنْبَلُ وَالنّفْسُ إلَيْهِ أَمْيَلُ لَمّا عَضّدَهُ مِنْ هَذَا الدّلِيلِ . وَقَالَ إدْرِيسُ بْنُ يُرِدْ وَتَفْسِيرُهُ الضّابِطُ . ابْنُ مهْلائِيل ، وَتَفْسِيرُهُ الْمُمَدّحُ وَفِي زَمَنِهِ كَانَ بَدْءُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ . [ ص 37 ] ابْنِ قَيْنَانَ " وَتَفْسِيرُهُ الْمُسْتَوَى . " ابْنِ أَنُوشِ " وَتَفْسِيرُهُ الصّادِقُ وَهُوَ بِالْعَرَبِيّةِ أَنَشّ وَهُوَ أَوّلُ مَنْ غَرَسَ النّخْلَةَ وَبَوّبَ الْكَعْبَةَ وَبَذَرَ الْحَبّةَ فِيمَا ذَكَرُوا ، " ابْنِ شيث " وَهُوَ بالسريانية : شاث . وبالعبرانية : شيث . وَتَفْسِيرُهُ عَطِيّةُ اللّهِ " ابْنُ آدَمَ " .
آدَمُ
وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ قِيلَ هُوَ اسْمٌ سُرْيَانِيّ وَقِيلَ هُوَ أَفْعَلُ مِنْ الْأُدْمَةِ . وَقِيلَ أُخِذَ مِنْ لَفْظِ الْأَدِيمِ . لِأَنّهُ خُلِقَ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ . وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ . وَذَكَرَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الدّلَائِلِ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ الْمُسْتَنِيرِ . وَهُوَ قُطْرُبٌ أَنّهُ قَالَ لَوْ كَانَ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ لَكَانَ عَلَى وَزْنِ فَاعِلٍ وَكَانَتْ الْهَمْزَةُ أَصْلِيّةً فَلَمْ يَكُنْ يَمْنَعُهُ مِنْ الصّرْفِ مَانِعٌ وَإِنّمَا هُوَ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ مِنْ الْأُدْمَةِ . وَلِذَلِكَ جَاءَ غَيْرَ مُجْرًى . قَالَ الْمُؤَلّفُ وَهَذَا الْقَوْلُ لَيْسَ بِشَيْءِ ؛ لِأَنّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَدِيمِ وَيَكُونَ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ . تَدْخُلُ الْهَمْزَةُ الزّائِدَةُ عَلَى الْهَمْزَةِ الْأَصْلِيّةِ كَمَا تَدْخُلُ عَلَى هَمْزَةِ الْأُدْمَةِ . فَأَوّلُ الْأُدْمَةِ هَمْزَةٌ أَصْلِيّةٌ . فَكَذَلِكَ أَوّلُ الْأَدِيمِ هَمْزَةٌ أَصْلِيّةٌ . فَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُبْنَى مِنْهَا أَفْعَلُ . فَيَكُونُ غَيْرَ مُجْرًى . كَمَا يُقَالُ رَجُلٌ أَعْيَنُ وَأَرْأَسُ مِنْ الْعَيْنِ وَالرّأْسِ . وَأَسْوَقُ وَأَعْنَقُ مِنْ السّاقِ وَالْعُنُقِ . مَعَ مَا فِي هَذَا الْقَوْلِ مِنْ الْمُخَالَفَةِ لِقَوْلِ السّلَفِ الّذِينَ هُمْ أَعْلَمُ مِنْهُ لِسَانًا ، وَأَذْكَى جِنَانًا .
حُكْمُ التّكَلّمِ فِي الْأَنْسَابِ
قَالَ الْمُؤَلّفُ وَإِنّمَا تَكَلّمْنَا فِي رَفْعِ هَذَا النّسَبِ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ رَأَى ذَلِكَ مِنْ الْعُلَمَاءِ . [ ص 38 ] وَالطّبَرِيّ وَالْبُخَارِيّ والزبيريين ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ . وَأَمّا مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللّهُ - فَقَدْ سُئِلَ عَنْ الرّجُلِ يَرْفَعُ نَسَبَهُ إلَى آدَمَ فَكَرِهَ ذَلِكَ . قِيلَ لَهُ فَإِلَى إسْمَاعِيلَ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَيْضًا . وَقَالَ وَمَنْ يُخْبِرْهُ بِهِ ؟ وَكَرِهَ أَيْضًا أَنْ يَرْفَعَ فِي نَسَبِ الْأَنْبِيَاءِ مِثْلَ أَنْ يُقَالَ إبْرَاهِيمُ بْنُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ . قَالَ وَمَنْ يُخْبِرْهُ بِهِ ؟ وَقَعَ هَذَا الْكَلَامُ لِمَالِكِ فِي الْكِتَابِ الْكَبِيرِ الْمَنْسُوبِ إلَى الْمُعَيْطِيّ وَإِنّمَا أَصْلُهُ لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ حُنَيْنٍ . وَتَمّمَهُ الْمُعَيْطِيّ ، فَنَسَبَ إلَيْهِ . وَقَوْلُ مَالِكٍ هَذَا نَحْوُ مِمّا رُوِيَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ أَنّهُ قَالَ مَا وَجَدْنَا أَحَدًا يَعْرِفُ مَا بَيْنَ عَدْنَانَ وَإِسْمَاعِيلَ وَعَنْ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - قَالَ بَيْنَ عَدْنَانَ وَإِسْمَاعِيلَ ثَلَاثُونَ أَبًا لَا يُعْرَفُونَ .

سِيَاقَةُ النّسَبِ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ
أَبْنَاءُ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : [ ص 39 ] زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَكّائِيّ ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ الْمُطّلِبِيّ قَالَ وَلَدَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِمْ السّلَامُ - اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا : نَابِتًا - وَكَانَ أَكْبَرَهُمْ - وقيدر ، وَأَذْبُلَ وَمَنَشّا ، وَمِسْمَعًا ، وَمَاشَى ، وَدَمًا ، وَأَذَر ، وطيما ، وَيُطَوّرَا ، وَنُبِشَ وقيذما . وَأُمّهُمْ بِنْتُ مُضَاضِ بْنِ عَمْرٍو الْجُرْهُمِيّ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ مُضَاضٌ . وَجُرْهُمُ بْنُ قَحْطَانَ - وَقَحْطَانُ أَبُو الْيَمَنِ كُلّهَا ، وَإِلَيْهِ يَجْتَمِعُ نَسَبُهَا - ابْنُ عَابِرِ بْنِ شالَخ بْنِ أرْفَخْشَذ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : جُرْهُمُ بْنُ يَقْطُنَ بْنِ عَيْبَرَ بْنِ شالَخ ، وَيَقْطُنُ هُوَ قَحْطَانُ بْنُ عَيْبَرَ بْنِ شالَخ . [ ص 40 ]
وَفَاةُ إسْمَاعِيلَ وَمَوْطِنُ أُمّهِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ عُمْرُ إسْمَاعِيلَ - فِيمَا يَذْكُرُونَ - مِائَةَ سَنَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً ثُمّ مَاتَ - رَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْهِ - وَدُفِنَ فِي الْحِجْرِ مَعَ أُمّهِ هَاجَرَ ، رَحِمَهُمْ اللّهُ تَعَالَى . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : تَقُولُ الْعَرَبُ : هَاجَرُ وَآجَرُ فَيُبْدِلُونَ الْأَلِفَ مِنْ الْهَاءِ كَمَا قَالُوا : هَرَاقَ الْمَاءَ وَأَرَاقَ الْمَاءَ وَغَيْرَهُ وَهَاجَرُ مِنْ أَهْلِ مِصْرَ .
S[ ص 39 ]
ذِكْرُ إسْمَاعِيلَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَبَنِيهِ
وَقَدْ كَانَ لِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - بَنُونَ سِوَى إسْحَاقَ وَإِسْمَاعِيلَ مِنْهُمْ سِتّةٌ مِنْ قَطُورَا بِنْتِ يَقْطُرَ وَهُمْ مَدْيَانُ وَزَمِرَانِ وَسُرُج بِالْجِيمِ وَنَقْشَانِ - وَمِنْ وَلَدِ نَقْشَانِ الْبَرْبَرُ فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ - وَأُمّهُمْ رِغْوَةُ . وَمِنْهُمْ نُشِقّ وَلَهُ بَنُونَ آخَرُونَ مِنْ حَجّونِ بِنْتِ أَهَيّن ، وَهُمْ كَيْسَانُ وسورج وَأُمَيْمُ وَلَوّطَانِ وَنَافِسُ . هَؤُلَاءِ بَنُو إبْرَاهِيمَ . [ ص 40 ] ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ أَسْمَاءَ بَنِي إسْمَاعِيلَ وَلَمْ يَذْكُرْ بِنْتَه ، وَهِيَ نَسْمَةُ بِنْتُ إسْمَاعِيلَ وَهِيَ امْرَأَةُ عيصو بْنِ إسْحَاقَ وَوَلَدَتْ لَهُ الرّومَ وَفَارِسَ - فِيمَا ذَكَرَ الطّبَرِيّ - وَقَالَ أَشُكّ فِي الْأَشْبَانِ هَلْ هِيَ أُمّهُمْ أَمْ لَا ؟ وَهُمْ مِنْ وَلَدِ عيصو ، وَيُقَالُ فِيهِ أَيْضًا : عِيصَا ، وَذَكَرَ فِي وَلَدِ إسْمَاعِيلَ طيما ، وَقَيّدَهُ الدّارَقُطْنِيّ : ظُمْيًا بِظَاءِ مَنْقُوطَةٍ بَعْدَهَا مِيمٌ كَأَنّهَا تَأْنِيثُ أَظْمَى ، وَالظّمَى مَقْصُورٌ سُمْرَةٌ فِي الشّفَتَيْنِ . وَذَكَرَ دَمًا ، وَرَأَيْت لِلْبَكْرِيّ أَنّ دَوْمَةَ الْجَنْدَلِ عُرِفَتْ بدوما بْنِ إسْمَاعِيلَ وَكَانَ نَزَلَهَا ، فَلَعَلّ دَمًا مُغَيّرٌ مِنْهُ وَذُكِرَ أَنّ الطّورَ سُمّيَ بيطور بْنِ إسْمَاعِيلَ فَلَعَلّهُ مَحْذُوفُ الْيَاءِ أَيْضًا - إنْ كَانَ صَحّ مَا قَالَهُ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَأَمّا الّذِي قَالَهُ أَهْلُ التّفْسِيرِ فِي الطّورِ ، فَهُوَ كُلّ جَبَلٍ يُنْبِتُ الشّجَرَ فَإِنْ لَمْ يُنْبِتْ شَيْئًا فَلَيْسَ بِطُورِ وَأَمّا قيدر فَتَفْسِيرُهُ عِنْدَهُمْ صَاحِبُ الْإِبِلِ وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ صَاحِبَ إبِلِ إسْمَاعِيلَ . قَالَ وَأُمّهُ هَاجَرُ . وَيُقَالُ فِيهَا : آجَرُ وَكَانَتْ سُرّيّةً لِإِبْرَاهِيمَ وَهَبَتْهَا لَهُ سَارّةُ بِنْتُ عَمّهِ وَهِيَ سَارّةُ بِنْتُ توبيل بْنِ نَاحُورٍ وَقِيلَ بِنْتُ هَارَانِ بْن نَاحُورٍ وَقِيلَ هَارَانِ بِنْتُ تارِح . وَهِيَ بِنْتُ أَخِيهِ عَلَى هَذَا ، وَأُخْتُ لُوطٍ . قَالَهُ الْقُتَبِيّ فِي الْمَعَارِفِ وَقَالَهُ النّقّاشُ فِي التّفْسِيرِ وَذَلِكَ أَنّ نِكَاحَ بِنْتِ الْأَخِ كَانَ حَلّالَا إذْ ذَاكَ فِيمَا ذُكِرَ ثُمّ نَقَضَ النّقّاشُ هَذَا الْقَوْلَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدّينِ مَا وَصّى بِهِ نُوحًا } [ الشّورَى : 13 ] . إنّ هَذَا يَدُلّ عَلَى تَحْرِيمِ بِنْتِ الْأَخِ عَلَى لِسَانِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَهَذَا هُوَ الْحَقّ ، وَإِنّمَا تَوَهّمُوا [ ص 41 ] أَخِيهِ لِأَنّ هَارَانِ أَخُوهُ وَهُوَ هَارَانِ الْأَصْغَرُ وَكَانَتْ هِيَ بِنْتُ هَارَانِ الْأَكْبَرِ وَهُوَ عَمّهُ وَبَهَارَانِ سُمّيَتْ مَدِينَةُ حَرّانَ لِأَنّ الْحَاءَ هَاءٌ بِلِسَانِهِمْ وَهُوَ سُرْيَانِيّ وَذَكَرَ الطّبَرِيّ أَنّ إبْرَاهِيمَ إنّمَا نَطَقَ بالعبرانية حِينَ عَبَرَ النّهْرَ فَارّا مِنْ النمروذ ، وَكَانَ النمروذ قَدْ قَالَ لِلطّلَبِ الّذِينَ أَرْسَلَهُمْ فِي طَلَبِهِ إذَا وَجَدْتُمْ فَتًى يَتَكَلّمُ بالسريانية ، فَرُدّوهُ فَلَمّا أَدْرَكُوهُ اسْتَنْطَقُوهُ فَحَوّلَ اللّهُ لِسَانَهُ عِبْرَانِيّا ، وَذَلِكَ حِينَ عَبَرَ النّهْرَ فَسُمّيَتْ الْعِبْرَانِيّةُ بِذَلِكَ وَأَمّا السّرْيَانِيّةُ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ سَلَامٍ - فَسُمّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنّ اللّهَ - سُبْحَانَهُ - لَمّا عَلّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلّهَا ، عَلّمَهُ سِرّا مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَأَنْطَقَهُ بِهَا حِينَئِذٍ وَكَانَتْ هَاجَرُ قَبْلَ ذَلِكَ لِمَلِكِ الْأُرْدُنّ ، وَاسْمُهُ صَادُوقٌ - فِيمَا ذَكَرَ الْقُتَبِيّ - دَفَعَهَا إلَى سَارّةَ حِينَ أَخَذَهَا مِنْ إبْرَاهِيمَ عَجَبًا مِنْهُ بِجَمَالِهَا ، فَصُرِعَ مَكَانَهُ فَقَالَ اُدْعِي اللّهَ أَنْ يُطْلِقَنِي . الْحَدِيثَ وَهُوَ مَشْهُورٌ فِي الصّحَاحِ ، فَأَرْسَلَهَا ، وَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ ، وَكَانَتْ هَاجَرُ قَبْلَ ذَلِكَ الْمَلِكِ بِنْتِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكٍ الْقِبْطِ بِمِصْرِ ذَكَرَهُ الطّبَرِيّ مِنْ حَدِيثِ سَيْفِ بْنِ عُمَرَ أَوْ غَيْرِهِ أَنّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ حِينَ حَاصَرَ مِصْرَ ، قَالَ لِأَهْلِهَا : إنّ نَبِيّنَا عَلَيْهِ السّلَامُ قَدْ وَعَدَنَا بِفَتْحِهَا ، وَقَدْ أَمَرَنَا أَنْ نَسْتَوْصِيَ بِأَهْلِهَا خَيْرًا ، فَإِنّ لَهُمْ نَسَبًا وَصِهْرًا ، فَقَالُوا لَهُ هَذَا نَسَبٌ لَا يَحْفَظُ حَقّهُ إلّا نَبِيّ ، لِأَنّهُ نَسَبٌ بَعِيدٌ . وَصَدَقَ كَانَتْ أُمّكُمْ امْرَأَةً لِمَلِكِ مِنْ مُلُوكِنَا ، فَحَارَبْنَا أَهْلَ عَيْنِ شَمْسٍ فَكَانَتْ لَهُمْ عَلَيْنَا دَوْلَةٌ فَقَتَلُوا الْمَلِكَ وَاحْتَمَلُوهَا ، فَمِنْ هُنَاكَ تَصَيّرَتْ إلَى أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ - أَوْ كَمَا قَالُوا - وَذَكَرَ الطّبَرِيّ أَنّ الْمَلِكَ الّذِي أَرَادَ سَارّةَ هُوَ سِنَانُ بْنُ عِلْوَانَ وَأَنّهُ أَخُو الضّحّاكِ الّذِي تَقَدّمَ ذِكْرُهُ وَفِي كِتَابِ التّيجَانِ لِابْنِ هِشَامٍ أَنّهُ عَمْرُو بْنُ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ بَابِلْيُونَ بْنِ سَبَأٍ ، وَكَانَ عَلَى مِصْرَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَهَاجَرُ أَوّلُ امْرَأَةٍ ثَقَبَتْ أُذُنَاهَا ، وَأَوّلُ مَنْ خُفِضَ مِنْ النّسَاءِ وَأَوّلُ مَنْ جَرّتْ ذَيْلَهَا ، وَذَلِكَ أَنّ سَارّةَ غَضِبَتْ عَلَيْهَا ، فَحَلَفَتْ أَنْ تَقْطَعَ ثَلَاثَةَ أَعْضَاءٍ مِنْ أَعْضَائِهَا ، فَأَمَرَهَا إبْرَاهِيمُ [ ص 42 ] تَبَرّ قَسَمَهَا بِثَقْبِ أُذُنَيْهَا وَخِفَاضِهَا ، فَصَارَتْ سُنّةً فِي النّسَاءِ وَمِمّنْ ذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي نَوَادِرِهِ . وَإِسْمَاعِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ نَبِيّ مُرْسَلٌ أَرْسَلَهُ اللّهُ تَعَالَى إلَى أَخْوَالِهِ مِنْ جُرْهُمٍ وَإِلَى الْعَمَالِيقِ الّذِينَ كَانُوا بِأَرْضِ الْحِجَازِ ، فَآمَنَ بَعْضٌ وَكَفَرَ بَعْضٌ . وَقَوْلُهُ وَأُمّهُمْ بِنْتُ مُضَاضٍ وَلَمْ يَذْكُرْ اسْمَهَا . وَاسْمُهَا : السّيّدَةُ ذَكَرَهُ الدّارَقُطْنِيّ . وَقَدْ كَانَ لَهُ امْرَأَةٌ سِوَاهَا مِنْ جُرْهُمٍ ، وَهِيَ الّتِي أَمَرَهُ أَبُوهُ بِتَطْلِيقِهَا حِينَ قَالَ لَهَا إبْرَاهِيمُ قُولِي لِزَوْجِك : فَلْيُغَيّرْ عَتَبَتَهُ يُقَالُ اسْمُهَا : جِدَاءُ بِنْتُ سَعْدٍ ثُمّ تَزَوّجَ أُخْرَى ، وَهِيَ الّتِي قَالَ لَهَا إبْرَاهِيمُ فِي الزّوْرَةِ الثّانِيَةِ قُولِي لِزَوْجِك : فَلْيُثَبّتْ عَتَبَةَ بَيْتِهِ الْحَدِيثَ وَهُوَ مَشْهُورٌ فِي الصّحَاحِ أَيْضًا يُقَالُ اسْمُ هَذِهِ الْآخِرَةِ سَامَةُ بِنْتُ مُهَلْهِلٍ ذَكَرَهُمَا ، وَذَكَرَ الّتِي قَبْلَهَا الْوَاقِدِيّ فِي كِتَابِ " انْتِقَالِ النّورِ " وَذَكَرَهَا الْمَسْعُودِيّ أَيْضًا وَقَدْ قِيلَ فِي الثّانِيَةِ عَاتِكَةُ .

حَدِيثٌ فِي الْوَصَاةِ بِأَهْلِ مِصْرَ
[ ص 41 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ لَهِيعَةَ ، عَنْ عُمَرَ مَوْلَى غُفْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ - قَالَ اللّهَ اللّهَ فِي أَهْلِ الذّمّةِ ، أَهْلِ الْمَدَرَةِ السّوْدَاءِ السّحْمِ الْجِعَادِ فَإِنّ لَهُمْ نَسَبًا وَصِهْرًا [ ص 42 ] قَالَ عُمَرُ مَوْلَى غُفْرَةَ : نَسَبُهُمْ أَنّ أُمّ إسْمَاعِيلَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْهُمْ . وَصِهْرُهُمْ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ - تَسَرّرَ فِيهِمْ . قَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ أُمّ إسْمَاعِيلَ هَاجَرُ ، مِنْ " أُمّ الْعَرَبِ " قَرْيَةٍ كَانَتْ أَمَامَ الفَرَما مِنْ مِصْرَ وَأُمّ إبْرَاهِيمَ : مَارِيَةُ سُرّيّةُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ - الّتِي أَهْدَاهَا لَهُ الْمُقَوْقِسُ مِنْ حَفْنٍ ، مِنْ كُورَةِ أَنَصّنَا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ : أَنّ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيّ ثُمّ السّلَمِيّ حَدّثَهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ - قَالَ إذَا افْتَتَحْتُمْ مِصْرَ ، فَاسْتَوْصُوا بِأَهْلِهَا خَيْرًا ، فَإِنّ لَهُمْ ذِمّةً وَرَحِمًا " فَقُلْت لِمُحَمّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزّهْرِيّ : مَا الرّحِمُ الّتِي ذَكَرَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ - لَهُمْ ؟ فَقَالَ كَانَتْ هَاجَرُ أُمّ إسْمَاعِيلَ مِنْهُمْ [ ص 43 ]
Sهَدَايَا الْمُقَوْقِسِ
وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عُمَرَ مَوْلَى غُفْرَةَ ، وَغُفْرَةُ هَذِهِ هِيَ أُخْتُ بِلَالِ بْنِ رَبَاحٍ . وَقَوْلُ مَوْلَى غُفْرَةَ هَذَا : إنّ صِهْرَهُمْ لِكَوْنِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - تَسَرّرَ مِنْهُمْ يَعْنِي : مَارِيَةَ بِنْتَ شمعون الّتِي أَهْدَاهَا إلَيْهِ الْمُقَوْقِسُ ، وَاسْمُهُ جُرَيْجُ بْنُ مِينَاءٍ ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَدْ أَرْسَلَ إلَيْهِ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ وَجَبْرًا مَوْلَى أَبِي رُهْمٍ الْغِفَارِيّ فَقَارَبَ الْإِسْلَامَ وَأَهْدَى مَعَهُمَا إلَى النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بَغْلَتَهُ الّتِي يُقَالُ لَهَا دُلْدُلُ وَالدّلْدُلُ الْقُنْفُذُ الْعَظِيمُ وَأَهْدَى إلَيْهِ مَارِيَةَ بِنْتَ شمعون ، وَالْمَارِيَةُ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ الْبَقَرَةُ الْفَتِيّةُ بِخَطّ ابْنِ سِرَاجٍ يَذْكُرُهُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الْمُطَرّزِ . وَأَمّا الْمَارِيّةُ بِالتّشْدِيدِ فَيُقَالُ قَطَاةٌ مَارِيّةٌ أَيْ مَلْسَاءُ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْغَرِيبِ الْمُصَنّفِ . وَأَهْدَى إلَيْهِ أَيْضًا قَدَحًا مِنْ قَوَارِيرَ فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَشْرَبُ فِيهِ . رَوَاهُ ابْنُ عَبّاسٍ ، فَيُقَالُ أَنّ هِرْقِلَ عَزَلَهُ لَمّا رَأَى مِنْ مَيْلِهِ إلَى الْإِسْلَامِ . وَمَعْنَى الْمُقَوْقِسِ : الْمُطَوّلُ لِلْبِنَاءِ وَالْقُوسُ الصّوْمَعَةُ الْعَالِيَةُ ، يُقَالُ فِي مَثَلٍ أَنَا فِي الْقُوسِ وَأَنْتَ فِي الْقَرَقوُسِ مَتَى نَجْتَمِعُ ؟ وَقَوْلُ ابْنِ لَهِيعَةَ بِالْفَرَمَا مِنْ مِصْرَ . الفَرَما : مَدِينَةٌ كَانَتْ تُنْسَبُ إلَى صَاحِبِهَا الّذِي بَنَاهَا ، وَهُوَ الفَرَما بْنُ قيلقوس ، وَيُقَالُ فِيهِ ابْنُ قَلِيس ، وَمَعْنَاهُ مُحِبّ الْغَرْسِ وَيُقَالُ فِيهِ ابْنُ بِلِيسِ . ذَكَرَهُ الْمَسْعُودِيّ . وَالْأَوّلُ قَوْلُ الطّبَرِيّ ، وَهُوَ أَخُو الْإِسْكَنْدَرِ بْنِ قَلِيس الْيُونَانِيّ وَذَكَرَ الطّبَرِيّ أَنّ الْإِسْكَنْدَرَ حِينَ بَنَى مَدِينَةَ الإسكندرية قَالَ أَبْنِي مَدِينَةً فَقِيرَةً إلَى اللّهِ غَنِيّةً [ ص 44 ] وَقَالَ الْفَرْمَا : أُبْنَى مَدِينَةٌ فَقِيرَةٌ إلَى النّاسِ غَنِيّةٌ عَنْ اللّهِ فَسَلّطَ اللّهُ عَلَى مَدِينَةِ الْفَرْمَا الْخَرَابَ سَرِيعًا ، فَذَهَبَ رَسْمُهَا ، وَعَفَا أَثَرُهَا ، وَبَقِيَتْ مَدِينَةُ الْإِسْكَنْدَرِ إلَى الْآنَ وَذَكَرَ الطّبَرِيّ أَنّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ حِينَ افْتَتَحَ مِصْرَ ، وَقَفَ عَلَى آثَارِ مَدِينَةِ الْفَرْمَا ، فَسَأَلَ عَنْهَا ، فَحَدّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ وَاَللّهُ أَعِلْمُ .
مِصْرُ وَحَفّنِ
وَأَمّا مِصْرُ فَسُمّيَتْ بِمِصْرِ بْنِ النّبَيْطِ وَيُقَالُ ابْنُ قِبْطِ بْنُ النّبَيْطِ مِنْ وَلَدِ كُوشِ بْنِ كَنْعَانَ . وَأَمّا حَفّنِ الّتِي ذَكَرَ أَنّهَا قَرْيَةُ أُمّ إبْرَاهِيمَ بْنِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَرْيَةٌ بِالصّعِيدِ مَعْرُوفَةٌ وَهِيَ الّتِي كَلّمَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيّ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا - مُعَاوِيَةَ أَنْ يَضَعَ الْخَرَاجَ عَنْ أَهْلِهَا ، فَفَعَلَ مُعَاوِيَةُ ذَلِكَ حِفْظًا لِوَصِيّةِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِهِمْ وَرِعَايَةً لِحُرْمَةِ الصّهْرِ ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ وَذَكَرَ " أَنَصّنَا " وَهِيَ قَرْيَةٌ بِالصّعِيدِ يُقَالُ إنّهَا كَانَتْ مَدِينَةَ السّحَرَةِ . قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَلَا يَنْبُتُ اللّبْخُ إلّا بأنصنا ، وَهُوَ عُودٌ تُنْشَرُ مِنْهُ أَلْوَاحٌ لِلسّفُنِ وَرُبّمَا ، رَعَفَ نَاشِرُهَا ، وَيُبَاعُ اللّوْحُ مِنْهَا بِخَمْسِينَ دِينَارًا ، أَوْ نَحْوِهَا ، وَإِذَا شُدّ لَوْحٌ مِنْهَا بِلَوْحِ وَطُرِحَ فِي الْمَاءِ سَنَةً الْتَأَمَا ، وَصَارَا لَوْحًا وَاحِدًا .

أَصْلُ الْعَرَبِ وَأَوْلَادُ عَدْنَانَ وَمَعَدّ وَقُضَاعَةَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ [ ص 43 ] أَهْلِ الْيَمَنِ يَقُولُ قَحْطَانُ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ وَيَقُولُ إسْمَاعِيلُ أَبُو الْعَرَبِ كُلّهَا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : عَادُ بْنُ عَوْصِ بْنِ إرَمِ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ وَثَمُودُ وجديس ابْنَا عَابِرِ بْنِ إرَمِ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ وَطسم وَعِمْلَاق وَأُمَيْمُ بَنُو لَاوِذْ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ . عَرَبٌ كُلّهُمْ فَوَلَدُ نَابِتِ بْنِ إسْمَاعِيلَ : يَشْجُبُ بْنُ نَابِتٍ فَوَلَدَ يَشْجُبُ يَعْرُبَ بْنَ يَشْجُبَ فَوَلَدُ يَعْرُبَ تَيْرَح بْنُ يَعْرُبَ فَوَلَدَ تَيْرَح : ناحورَ بْنِ تَيْرَح ، فَوَلَدَ ناحورَ مُقَوّمَ بْنَ نَاحُورٍ : فَوَلَدَ مُقَوّمٌ أُدَدَ بْنَ مُقَوّمٍ فَوَلَدَ أُدَدُ عَدْنَانَ بْنَ أُدَدٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ عَدْنَانَ بْنَ أُدّ . [ ص 44 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَمِنْ عَدْنَانَ تَفَرّقَتْ الْقَبَائِلُ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِمَا السّلَامُ - فَوَلَدَ عَدْنَانُ رَجُلَيْنِ مَعَدّ بْنَ عَدْنَانَ ، وَعَكّ بْنَ عَدْنَانَ . [ ص 45 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَصَارَتْ عَكّ فِي دَارِ الْيَمَنِ ، وَذَلِكَ أَنّ عَكّا تَزَوّجَ فِي الْأَشْعَرِيّينَ فَأَقَامَ فِيهِمْ فَصَارَتْ الدّارُ وَاللّغَةُ وَاحِدَةً والأشعريون : بَنُو أَشْعَرِ بْنِ نَبْتِ بْنِ أُدَدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ همَيْسَع بْنِ عَمْرِو بْنِ عَرِيبِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانِ بْنِ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ وَيُقَالُ أَشْعَرُ نَبْتُ بْنُ أُدَدٍ وَيُقَالُ أَشْعَرُ بْنُ مَالِكٍ وَمَالِكٌ مُذْحِجُ بْنُ أُدَدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ همَيْسَع . وَيُقَالُ أَشْعَرُ بْنُ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ . [ ص 46 ] أَبُو مُحْرِزٍ خَلَفٌ الْأَحْمَرُ ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ لِعَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ أَحَدِ بَنِي سُلَيْمِ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصَفَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدّ بْنِ عَدْنَانَ ، يَفْخَرُ بِعَكّ
وَعَكّ بْنُ عَدْنَانَ الّذِينَ تَلَقّبُوا ... بِغَسّانِ حَتّى طُرّدُوا كُلّ مَطْرَدِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَغَسّانُ : مَاءٌ بِسَدّ مَأْرَبٍ بِالْيَمَنِ كَانَ شِرْبًا لِوَلَدِ مَازِنِ بْنِ الْأَسَدِ بْنِ الْغَوْثِ ، فَسُمّوا بِهِ وَيُقَالُ غَسّانُ : مَاءٌ بِالْمُشَلّلِ قَرِيبٌ مِنْ الْجُحْفَةِ ، وَاَلّذِينَ شَرِبُوا مِنْهُ تَحَزّبُوا ، فَسُمّوا بِهِ قَبَائِلَ مِنْ وَلَدِ مَازِنِ بْنِ الْأَشَدّ بْنِ الْغَوْثِ بْنِ نَبْتِ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ ، بْنِ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ . [ ص 47 ]
Sعِكْ
فَصْلٌ وَذَكَرَ عِكْ بْنَ عَدْنَانَ ، وَأَنّ بَعْضَ أَهْلِ الْيَمَنِ يَقُولُ فِيهِ عِكْ بْنُ عَدْنَانَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ، بْنِ الْأَزْدِ ، وَذَكَرَ الدّارَقُطْنِيّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَنْ ابْنِ الْحُبَابِ أَنّهُ قَالَ فِيهِ عَكّ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُدْثَانَ بِالثّاءِ الْمُثَلّثَةِ وَلَا خِلَافَ فِي الْأَوّلِ أَنّهُ بِنُونَيْنِ كَمَا لَمْ يَخْتَلِفْ فِي دَوْسِ بْنِ عُدْثَانَ أَنّهُ بِالثّاءِ وَهِيَ قَبِيلَةٌ مِنْ الْأَزْدِ أَيْضًا ، وَاسْمُ عَكّ عَامِرٌ . وَالدّيْثُ الّذِي ذَكَرَهُ هُوَ بِالثّاءِ وَقَالَهُ الزّبَيْرُ الذّيْبُ بِالذّالِ وَالْيَاءِ وَلِعَدْنَانَ أَيْضًا ابْنٌ اسْمُهُ الْحَارِثُ وَآخَرُ يُقَالُ لَهُ الْمُذَهّبُ وَلِذَلِكَ قِيلَ فِي الْمَثَلِ أَجْمَل من الْمُذَهّبِ وَقَدْ ذَكَرَ أَيْضًا فِي بَنِيهِ الضّحّاكَ وَقِيلَ فِي الضّحّاكِ إنّهُ ابْنُ مَعَدّ لَا ابْنَ عَدْنَانَ وَقِيلَ إنّ عَدَنَ الّذِي تُعْرَفُ بِهِ مَدِينَةُ [ ص 45 ] عَدَنٍ ، وَكَذَلِكَ أَبْيَنُ هُمَا : ابْنَا عَدْنَانَ قَالَهُ الطّبَرِيّ . وَلِعَدْنَانَ بْنِ أُدَدٍ أَخَوَانِ نَبْتُ بْنُ أُدَدٍ وَعَمْرُو بْنُ أُدَدٍ . قَالَهُ الطّبَرِيّ أَيْضًا .
ذِكْرُ قَحْطَانَ وَالْعَرَبِ الْعَارِبَةِ
أَمّا قَحْطَانُ فَاسْمُهُ مِهْزَمٌ - فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ مَاكُولَا - وَكَانُوا أَرْبَعَةَ إخْوَةٍ فِيمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مُنَبّهٍ قَحْطَانُ وَقَاحِطٌ وَمِقْحَطٌ وَفَالِغٌ . وَقَحْطَانُ أَوّلُ مَنْ قِيلَ لَهُ أَبَيْت اللّعْنَ وَأَوّلُ مَنْ قِيلَ لَهُ عِمْ صَبَاحًا ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ فَقِيلَ هُوَ ابْنُ عَابِرِ بْنِ شالَخ ، وَقِيلَ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللّهِ أَخُو هُودٍ ، وَقِيلَ هُوَ هُودٌ نَفْسُهُ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْ إرَمِ بْنِ سَامٍ وَمَنْ جَعَلَ الْعَرَبَ كُلّهَا مِنْ إسْمَاعِيلَ قَالُوا فِيهِ هُوَ ابْنُ تَيْمَنَ بْنِ قَيْذَرَ بْنِ إسْمَاعِيلَ . وَيُقَالُ هُوَ ابْنُ الْهَمَيْسَعِ بْنِ يَمَنِ وَبِيَمَنِ سُمّيَتْ الْيَمَنُ فِي قَوْلٍ وَقِيلَ بَلْ سُمّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنّهَا عَنْ يَمِينِ الْكَعْبَةِ . وَتَفْسِيرُ الْهَمَيْسَعِ الصّرّاعُ . وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ : يَمَنُ هُوَ . يَعْرُبُ بْنُ قَحْطَانَ سُمّيَ بِذَلِكَ لِأَنّ هُودًا عَلَيْهِ السّلَامُ قَالَ لَهُ أَنْتَ أَيْمَنُ وَلَدَيْ نَقِيبَةَ فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ . قَالَ وَهُوَ أَوّلُ مَنْ قَالَ الْقَرِيضَ وَالرّجَزَ وَهُوَ الّذِي أَجْلَى بَنِي حَام ٍ إلَى بِلَادِ الْمَغْرِبِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا يَأْخُذُونَ الْجِزْيَةَ مِنْ وَلَدِ قُوطَةَ بْنِ يَافِثٍ . قَالَ وَهِيَ أَوّلُ جِزْيَةٍ وَخَرَاجٍ أُخِذَتْ فِي بَنِي آدَمَ . وَقَدْ احْتَجّوا لِهَذَا الْقَوْلِ أَعْنِي : أَنّ قَحْطَانَ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ يَقُولُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ارْمُوا يَا بَنِي إسْمَاعِيلَ فَإِنّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا قَالَ هَذَا الْقَوْلَ لِقَوْمِ مِنْ أَسْلَمَ بْنِ أَفْصَى ، وَأَسْلَمُ أَخُو خُزَاعَةَ وَهُمْ بَنُو حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ، وَهُمْ مِنْ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ ، وَلَا حُجّةَ عِنْدِي فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِأَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ لِأَنّ الْيَمَنَ لَوْ كَانَتْ مِنْ إسْمَاعِيلَ - مَعَ أَنّ عَدْنَانَ كُلّهَا مِنْ إسْمَاعِيلَ بِلَا شَكّ - لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ بِالنّسَبِ إلَى إسْمَاعِيلَ مَعْنًى ، لِأَنّ غَيْرَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ أَيْضًا أَبُوهُمْ إسْمَاعِيلُ وَلَكِنْ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ [ ص 46 ] أَعْلَمُ - عَلَى أَنّ خُزَاعَةَ مِنْ بَنِي قَمَعَةَ أَخِي مُدْرِكَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ ، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ عِنْدَ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ لُحَيّ - إنْ شَاءَ اللّهُ - وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - هِيَ أُمّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السّمَاءِ يَعْنِي : هَاجَرَ ، يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ تَأَوّلَ فِي قَحْطَانَ مَا تَأَوّلَهُ غَيْرُهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَسَبُهُمْ إلَى " مَاءِ السّمَاءِ عَلَى زَعْمِهِمْ " فَإِنّهُمْ يَنْتَسِبُونَ إلَيْهِ كَمَا يَنْتَسِبُ كَثِيرٌ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ إلَى حَاضِنَتِهِمْ وَإِلَى رَابّهِمْ أَيْ زَوْجِ أُمّهِمْ - كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي بَابِ قُضَاعَةَ إنْ شَاءَ اللّهُ .
سَبَأُ وَأُمَيْمٌ وَوِبَارٌ
وَسَبَأٌ اسْمُهُ عَبْدُ شَمْسٍ - كَمَا ذُكِرَ - وَكَانَ أَوّلَ مَنْ تَتَوّجَ مِنْ مُلُوكِ الْعَرَبِ ، وَأَوّلَ مَنْ سَبَى فَسُمّيَ سَبَأً ، وَلَسْت مِنْ هَذَا الِاشْتِقَاقِ عَلَى يَقِينٍ لِأَنّ سَبَأَ مَهْمُوزٌ وَالسّبْيُ غَيْرُ مَهْمُوزٍ . وَذَكَرَ أُمَيْمًا ، وَيُقَالُ فِيهِ أَمِيمٌ وَوَجَدْت بِخَطّ أَشْيَاخٍ مَشَاهِيرَ أَمّيمٌ وَأَمّيمٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ مَكْسُورَةً وَلَا نَظِيرَ لَهُ فِي الْكَلَامِ وَالْعَرَبُ تَضْطَرِبُ فِي هَذِهِ الْأَسْمَاءِ الْقَدِيمَةِ قَالَ الْمَعْرِيّ :
يَرَاهُ بَنُو الدّهْرِ الْأَخِيرِ بِحَالِهِ ... كَمَا قَدْ رَأَتْهُ جُرْهُمٌ وَأَمِيمُ
فَجَاءَ بِهِ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ وَهُوَ الْأَكْثَرُ وَأُمَيْمٌ - فِيمَا ذَكَرُوا - أَوّلُ مَنْ سَقّفَ الْبُيُوتَ بِالْخَشْبِ الْمَنْشُورِ وَكَانَ مَلِكًا ، وَكَانَ يُسَمّى : آدَمَ وَهُوَ عِنْدَ الْفُرْسِ : آدَمُ الصّغِيرُ وَوَلَدُهُ [ ص 47 ] هَالَتْ الرّيَاحُ الرّمْلَ عَلَى فِجَاجِهِمْ وَمَنَاهِلِهِمْ فَهَلَكُوا . قَالَ الشّاعِرُ
وَكَرّ دَهْرٌ عَلَى وَبَارٍ ... فَأُهْلِكَتْ عَنْوَةً وَبَارُ
وَالنّسَبُ إلَيْهِ أَبَارِيّ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ وَمِنْ الْعَمَالِيقِ مُلُوكُ مِصْرَ الْفَرَاعِنَةُ مِنْهُمْ الْوَلِيدُ بْنُ مُصْعَبٍ صَاحِبُ مُوسَى وَقَابُوسُ بْنُ مُصْعَبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ إرَاشَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ عِمْليق أَخُو الْأَوّلِ وَمِنْهُمْ الرّيّانُ بْنُ الْوَلِيدِ صَاحِبُ يُوسُفَ عَلَيْهِ السّلَامُ وَيُقَالُ فِيهِ ابْنُ دومع فِيمَا ذَكَرَ الْمَسْعُودِيّ . وَأَمّا طَسْمٌ وَجَدِيسٌ فَأَفْنَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا قَتَلَتْ طَسْمٌ جَدِيسًا لِسُوءِ مَلَكَتِهِمْ إيّاهُمْ وَجَوْرِهِمْ فِيهِمْ فَأَفْلَتْ مَعَهُمْ رَجُلٌ اسْمُهُ رَبَاحُ بْنُ مُرّةَ فَاسْتَصْرَخَ بِتُبّعِ وَهُوَ حَسّانُ بْنُ تُبّانَ أَسْعَدَ وَكَانَتْ أُخْتُهُ الْيَمَامَةُ ، وَاسْمُهَا عَنَزُ نَاكِحًا فِي طَسْمٍ وَكَانَ هَوَاهَا مَعَهُمْ فَأَنْذَرَتْهُمْ فَلَمْ يَقْبَلُوا ، فَصَبّحَتْهُمْ جُنُودُ تُبّعٍ فَأَفَنُوهُمْ قَتْلًا ، وَصَلَبُوا الْيَمَامَةَ الزّرْقَاءَ بِبَابِ جَوّ وَهِيَ الْمَدِينَةُ ، فَسُمّيَتْ جَوّ بِالْيَمَامَةِ مِنْ هُنَالِكَ إلَى الْيَوْمِ وَذَلِكَ فِي أَيّامِ مُلُوكِ الطّوَائِفِ وَبَقِيَتْ بَعْدَ طَسْمٍ يَبَابًا لَا يَأْكُلُ ثَمَرَهَا إلّا عَوَافِي الطّيْرِ وَالسّبَاعِ حَتّى وَقَعَ عَلَيْهَا عُبَيْدُ بْنُ ثَعْلَبَةَ الْحَنَفِيّ ، وَكَانَ رَائِدًا لِقَوْمِهِ فِي الْبِلَادِ فَلَمّا أَكَلَ الثّمَرَ قَالَ إنّ هَذَا لَطَعَامٌ وَحَجّرَ بِعَصَاهُ عَلَى مَوْضِعِ قَصَبَةِ الْيَمَامَةِ ، فَسُمّيَتْ حِجْرًا ، وَهِيَ مَنَازِلُ حَنِيفَةَ إلَى الْيَوْمِ وَخَبَرُ طَسْمٍ وَجَدِيسٍ مَشْهُورٌ اقْتَصَرْنَا مَعَهُ عَلَى هَذِهِ النّبْذَةِ لِشُهْرَتِهِ عِنْدَ الْإِخْبَارِيّينَ .

نَسَبُ الْأَنْصَارِ
قَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيّ [ ص 48 ] وَالْأَنْصَارُ بَنُو الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ، ابْنَيْ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو ، بْنِ عَامِرِ ، بْنِ حَارِثَةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ الْأَسَدِ بْنِ الْغَوْثِ :
إمّا سَأَلْتِ فَإِنّا مَعْشَرٌ نُجُبٌ ... الْأَسْدُ نِسْبَتُنَا وَالْمَاءُ غَسّانُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ . [ ص 49 ]
Sذِكْرُ نَسَبِ الْأَنْصَارِ
[ ص 48 ] الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ ، وَالْأَوْسُ : الذّئْبُ وَالْعَطِيّةُ أَيْضًا ، وَالْخَزْرَجُ : الرّيحُ الْبَارِدَةُ وَلَا أَحْسَبُ الْأَوْسَ فِي اللّغَةِ إلّا الْعَطِيّةَ خَاصّةً وَهِيَ مَصْدَرُ أُسْته وَأَمّا أَوْسٌ الّذِي هُوَ الذّئْبُ فَعَلَمٌ كَاسْمِ الرّجُلِ وَهُوَ كَقَوْلِك : أُسَامَةَ فِي اسْمِ الْأَسَدِ . وَلَيْسَ أَوْسٌ إذَا أَرَدْت الذّئْبَ كَقَوْلِك : ذِئْبٌ وَأَسَدٌ ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَجُمِعَ وَعُرّفَ - قَالَ - كَمَا يُفْعَلُ بِأَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ وَلَقِيلَ فِي الْأُنْثَى : أَوْسَةٌ كَمَا يُقَالُ ذِئْبَةٌ وَفِي الْحَدِيثِ مَا يُقَوّي هَذَا ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ " هَذَا أُوَيْسٌ يَسْأَلُكُمْ مِنْ أَمْوَالِكُمْ " فَقَالُوا : " لَا تَطِيبُ لَهُ أَنْفُسُنَا بِشَيْءِ " وَلَمْ يَقُلْ هَذَا الْأَوْسُ فَتَأَمّلْهُ وَلَيْسَ أَوْسٌ عَلَى هَذَا مِنْ الْمُسَمّيْنَ بِالسّبَاعِ وَلَا مَنْقُولًا مِنْ الْأَجْنَاسِ إلّا مِنْ الْعَطِيّةِ خَاصّةً [ ص 49 ] مُزَيْقِيَاءُ لِأَنّهُ - فِيمَا ذَكَرُوا - كَانَ يُمَزّقُ كُلّ يَوْمٍ حُلّةً . ابْنُ عَامِرٍ وَهُوَ مَاءُ السّمَاءِ . ابْنُ حَارِثَةَ الْغِطْرِيفُ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ وَهُوَ الْبُهْلُولُ بْنُ ثَعْلَبَةَ الصّنَمُ بْنِ مَازِنِ السّرَاجِ ابْنِ الْأَسَدِ وَيُقَالُ لِثَعْلَبَةَ أَبِيهِ الصّنَمُ وَكَانَ يُقَالُ لِثَعْلَبَةَ ابْنُ عَمْرٍو جَدّ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ : ثَعْلَبَةُ الْعَنْقَاءُ وَكَأَنّهُمْ مُلُوكٌ مُتَوَجّونَ وَمَاتَ حَارِثَةُ بْنُ ثَعْلَبَةَ الْعَنْقَاءُ وَالِدُ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ ظُهُورِهِمْ عَلَى الرّومِ بِالشّامِ وَمُصَالَحَةِ غَسّانَ لِمَلِكِ الرّومِ ، وَكَانَ مَوْتُ حَارِثَةَ وَجِذْعِ بْنِ سِنَانٍ مِنْ صَيْحَةٍ كَانَتْ بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ سَمِعَ فِيهِ صَهِيلَ الْخَيْلِ وَبَعْدَ مَوْتِ حَارِثَةَ كَانَ مَا كَانَ مِنْ نَكْثِ يَهُودِ الْعُهُودِ حَتّى ظَهَرَتْ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ عَلَيْهِمْ بِمَنْ اسْتَنْصَرُوا بِهِ مِنْ مُلُوكِ جَفْنَةَ وَيُقَالُ فِي الْأَسْدِ الْأَزْدُ بِالسّينِ وَالزّايِ وَاسْمُهُ الِازْدِرَاءُ بْنُ الْغَوْثِ . قَالَهُ وَثِيمَةُ بْنُ مُوسَى بْنِ الْفُرَاتِ . وَقَالَ غَيْرُهُ سُمّيَ أَسْدًا لِكَثْرَةِ مَا أَسْدَى إلَى النّاسِ مِنْ الْأَيَادِي . وَرُفِعَ فِي النّسَبِ إلَى كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ ، وَكَهْلَانُ كَانَ مَلِكًا بَعْدَ حِمْيَرَ ، وَعَاشَ - فِيمَا ذَكَرُوا - ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ ثُمّ تَحَوّلَ الْمُلْكُ إلَى أَخِيهِ حِمْيَرَ ، ثُمّ فِي بَنِيهِمْ وَهُمْ وَائِلٌ وَمَالِكٌ وَعَمْرٌو وَعَامِرٌ وَسَعْدٌ وَعَوْفٌ . وَذَكَرَ لَطْمَةَ وَلَدِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ لِأَبِيهِ وَأَنّهُ كَانَ أَصْغَرَ وَلَدِهِ . قَالَ الْمَسْعُودِيّ : وَاسْمُهُ مَالِكٌ وَقَالَ غَيْرُهُ ثَعْلَبَةُ . وَقَالَ وَيُقَالُ إنّهُ كَانَ يَتِيمًا فِي حِجْرِهِ . وَقَوْلُ حَسّانَ
مّا سَأَلْتِ فَإِنّا مَعْشَرٌ أُنُفٌ ... الْأَسْدُ نِسْبَتُنَا ، وَالْمَاءُ غَسّانُ
يَا أُخْتَ آلِ فِرَاسٍ إنّنِي رَجُلٌ ... مِنْ مَعْشَرٍ لَهُمْ فِي الْمَجْدِ بُنْيَانُ
وَاشْتِقَاقُ غَسّانَ اسْمُ ذَلِكَ الْمَاءِ مِنْ الْغَسّ وَهُوَ الضّعِيفُ كَمَا قَالَ غُسّ الْأَمَانَةِ صُنْبُورٌ فَصُنْبُورُ
[ ص 50 ] وَيُقَالُ لِلْهِرّ إذَا زُجِرَ غِسْ بِتَخْفِيفِ السّينِ قَالَهُ صَاحِبُ الْعَيْنِ . وَالْغَسِيسَةُ مِنْ الرّطْبِ الّتِي يَبْدَؤُهَا الْإِرْطَابُ مِنْ قِبَلِ مِغْلَاقِهَا ، وَلَا تَكُونُ إلّا ضَعِيفَةً سَاقِطَةً . سَبَأٌ وَسَيْلُ الْعَرِمِ :

فَقَالَتْ الْيَمَنُ [ ص 50 ] عَدْنَانَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْأَسْدِ بْنِ الْغَوْثِ ، وَيُقَالُ عُدْثَانُ بْنِ الدّيثِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْأَسْدِ بْنِ الْغَوْثِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَوَلَدَ مَعَدّ بْنُ عَدْنَانَ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ نِزَارُ بْنُ مَعَدّ وَقُضَاعَةُ بْنُ مَعَدّ وَكَانَ قُضَاعَةُ بِكْرَ مَعَدّ الّذِي بِهِ يُكَنّى - فِيمَا يَزْعُمُونَ - وَقُنُصُ بْنُ مَعَدّ وَإِيَادُ بْنُ مَعَدّ . فَأَمّا قُضَاعَةُ فَتَيَامَنَتْ إلَى حِمْيَرَ بْنِ سَبَأٍ - وَكَانَ اسْمُ سَبَأٍ : عَبْدُ شَمْسٍ ، وَإِنّمَا سُمّيَ سَبَأً ؟ لِأَنّهُ أَوّلُ مَنْ سَبَى فِي الْعَرَبِ - ابْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَقَالَتْ الْيَمَنُ وَقُضَاعَةُ : قُضَاعَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ حِمْيَرَ . وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مُرّةَ الْجُهَنِيّ ، وَجُهَيْنَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ لَيْثِ بْنِ سَوْدِ بْنِ أَسْلَمَ ، بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ :
نَحْنُ بَنُو الشّيْخِ الْهِجَانِ الْأَزْهَرِ ... قُضَاعَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ حِمْيَرِ
النّسَبُ الْمَعْرُوفُ غَيْرُ الْمُنْكَرِ ... فِي الْحَجَرِ الْمَنْقُوشِ تَحْتَ الْمِنْبَرِ
Sفَصْلٌ وَذَكَرَ تَفَرّقَ سَبَأٍ . وَالْعَرَبُ تَقُولُ تَفَرّقُوا أَيْدِي سَبَأً وَأَيَادِي سَبَأً نَصْبًا عَلَى الْحَالِ وَإِنْ كَانَ مَعْرِفَةً فِي الظّاهِرِ لِأَنّ مَعْنَاهُ مِثْلَ أَيْدِي سَبَأٍ وَالْيَاءُ سَاكِنَةٌ فِيهِ فِي مَوْضِعِ النّصْبِ لِأَنّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ اسْمَيْنِ جُعِلَا اسْمًا وَاحِدًا مِثْلَ مَعْدِي كَرِبَ وَلَمْ يُسَكّنُوهَا فِي ثَمَانِي عَشْرَةَ لِأَنّهَا مُتَحَرّكَةٌ فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ . فَصْلٌ وَذَكَرَ سَيْلَ الْعَرِمِ ، وَفِي الْعَرِمِ أَقْوَالٌ قِيلَ هُوَ الْمُسَنّاةُ أَيْ السّدّ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ ، وَقِيلَ هُوَ اسْمٌ لِلْوَادِي ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَقِيلَ هُوَ الْجُرَذُ الّذِي خَرّبَ السّدّ وَقِيلَ هُوَ صِفَةٌ لِلسّيْلِ مِنْ الْعَرَامَةِ وَهُوَ مَعْنَى رِوَايَةِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، وَقَالَ الْبُخَارِيّ : الْعَرِمُ : مَاءٌ أَحْمَرُ حُفِرَ فِي الْأَرْضِ حَتّى ارْتَفَعَتْ عَنْهُ الْجَنّتَانِ فَلَمْ يَسْقِهِمَا ، حَتّى يَبِسَتْ وَلَيْسَ الْمَاءُ الْأَحْمَرُ مِنْ السّدّ وَلَكِنّهُ كَانَ عَذَابًا أُرْسِلَ عَلَيْهِمْ . انْتَهَى كَلَامُ الْبُخَارِيّ . [ ص 51 ] وَالْعَرَبُ تُضِيفُ الِاسْمَ إلَى وَصْفِهِ لِأَنّهُمَا اسْمَانِ فَتُعَرّفُ أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ . وَحَقِيقَةُ إضَافَةِ الْمُسَمّى إلَى الِاسْمِ الثّانِي ، أَيْ صَاحِبُ هَذَا الِاسْمِ كَمَا تَقُولُ ذُو زَيْدٍ أَيْ . الْمُسَمّى بِزَيْدِ وَمِنْهُ سَعْدُ نَاشِرَةٍ وَعَمْرُو بَطّةَ . وَقَوْلُ الْأَعْشَى : وَمَأْرِبٌ عَفّى عَلَيْهَا الْعَرِمْ
يَقْوَى أَنّهُ السّيْلُ . وَمَأْرِبٌ بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ اسْمٌ لِقَصْرِ كَانَ لَهُمْ وَقِيلَ هُوَ اسْمٌ لِكُلّ مَلِكٍ كَانَ يَلِي سَبَأَ ، كَمَا أَنّ تُبّعًا اسْمٌ لِكُلّ مَنْ وَلِيَ الْيَمَنَ ، وَحَضْرَمَوْتَ وَالشّجَرَ . قَالَهُ الْمَسْعُودِيّ . وَكَانَ هَذَا السّدّ مِنْ بِنَاءِ سَبَأِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ وَكَانَ سَاقَ إلَيْهِ سَبْعِينَ وَادِيًا ، وَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَتِمّهُ فَأَتَمّتْهُ مُلُوكُ حِمْيَرَ بَعْدَهُ . وَقَالَ الْمَسْعُودِيّ : بَنَاهُ لُقْمَانُ بْنُ عَادٍ ، وَجَعَلَهُ فَرْسَخًا ، وَجَعَلَ لَهُ ثَلَاثِينَ مَثْقَبًا . وَقَوْلُ الْأَعْشَى : إذَا جَاءَ مَوّارُهُ لَمْ يَرِمْ
مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : { يَوْمَ تَمُورُ السّمَاءُ مَوْرًا } فَهُوَ مَفْتُوحُ الْمِيمِ وَبَعْضُهُمْ يَرْوِيهِ مَضْمُومَ الْمِيمِ وَالْفَتْحُ أَصَحّ . وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ دَمٌ مَائِرٌ أَيْ سَائِلٌ . وَفِي الْحَدِيثِ " أَمِرّ الدّمَ بِمَا شِئْت " أَيْ أَرْسِلْهُ وَرَوَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ أَمْرِ بِسُكُونِ الْمِيمِ جَعَلَهُ مِنْ مَرَيْت الضّرْعَ . وَالنّفْسُ إلَى الرّوَايَةِ الْأُولَى أَمْيَلُ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ النّقّاشُ وَفَسّرَهُ . وَقَوْلُهُ لَمْ يَرِمْ أَيْ لَمْ يُمْسِكْهُ السّدّ حَتّى يَأْخُذُوا مِنْهُ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ . وَقَوْلُهُ فَأَرْوِي الزّرُوعَ وَأَعْنَابَهَا أَيْ أَعْنَابَ تِلْكَ الْبِلَادِ لِأَنّ الزّرُوعَ لَا عِنَبَ لَهَا . وَأَنْشَدَ لِأُمَيّةِ بْنِ أَبِي الصّلْتِ
مِنْ سَبَأِ الْحَاضِرِينَ مَأْرِب إذْ ... يَبْنُونَ مِنْ سَيْلِهِ الْعَرِمَا
[ ص 52 ] الْعَرِمَ هُوَ السّدّ ، وَاسْمُ أَبِي الصّلْتِ رَبِيعَةُ بْنُ وَهْبِ بْنِ عِلَاجٍ الثّقَفِيّ وَأُمّهُ رُقَيّةُ بِنْتُ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ .
ذَكَرَ مَعَدّ وَوَلَدِهِ
قَوْلُهُ وَوَلَدَ مَعَدّ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ أَمّا نِزَازٌ فَمُتّفَقٌ عَلَى أَنّهُ ابْنُ مَعَدّ وَسَائِرُ وَلَدِ مَعَدّ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ فَمِنْهُمْ جُشَمُ بْنُ مَعَدّ وَسِلْهِمُ بْنُ مَعَدّ وَجُنَادَةُ بْنُ مَعَدّ وَقُنَاصَةُ بْنُ مَعَدّ وَقُنُصُ بْنُ مَعَدّ وَسَنَامُ بْنُ مَعَدّ وَعَوْفٌ - وَقَدْ انْقَرَضَ عَقِبُهُ - وَحَيْدَانُ وَهُمْ الْآنَ فِي قُضَاعَةَ ، وَأَوْدٌ وَهُمْ فِي مُذْحِجٍ يَنْسُبُونَ بَنِي أَوْدِ بْنِ عَمْرٍو ، وَمِنْهُمْ عُبَيْدٌ الرّمّاحُ وَحَيْدَةُ وَحَيَادَةُ وَجُنَيْدٌ وَقَحْمٌ فَأَمّا قُضَاعَةَ فَأَكْثَرُ النّسّابِينَ يَذْهَبُونَ إلَى أَنّ قُضَاعَةَ هُوَ ابْنُ مَعَدّ وَهُوَ مَذْهَبُ الزّبَيْرِيّينَ وَابْنِ هِشَامٍ ، وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنّهُ سُئِلَ عَنْ قُضَاعَةَ ، فَقَالَ هُوَ ابْنُ مَعَدّ وَكَانَ بِكْرَهُ . قَالَ أَبُو عُمَرَ وَلَيْسَ دُونَ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ مَنْ يُحْتَجّ بِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَقَدْ عَارَضَهُ حَدِيثٌ آخَرُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيّ . وَجُهَيْنَةُ : [ ص 53 ] ابْنُ زَيْدِ بْنِ لَيْثِ بْنِ سَوْدِ بْنِ أَسْلُمِ - بِضَمّ اللّامِ - ابْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ أَنّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ لِمَنْ نَحْنُ ؟ فَقَالَ " أَنْتُمْ بَنُو مَالِكِ بْنِ حِمْيَرَ وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مُرّةَ - وَهُوَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَيُكَنّى أَبَا مَرْيَمَ :
يَأَيّهَا الدّاعِي اُدْعُنَا وَأَبْشِرْ ... وَكُنْ قُضَاعِيّا وَلَا تَنَزّرْ
نَحْنُ بَنُو الشّيْخِ الْهِجَانِ الْأَزْهَرِ ... قُضَاعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِمْيَرِ
قَالَ ذُو الْحَسَبَيْنِ قَالَ الزّبَيْرُ الشّعْرُ لِأَفْلَحَ بْنِ الْيَعْبُوبِ . وَعَمْرُو بْنُ مُرّةَ هَذَا لَهُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حَدِيثَانِ أَحَدُهُمَا : فِي أَعْلَامِ النّبُوّةِ وَالْآخَرُ مَنْ وَلِيَ أَمْرَ النّاسِ فَسَدّ بَابَهُ دُونَ ذَوِي الْحَاجَةِ وَالْخَلّةِ وَالْمَسْكَنَةِ سَدّ اللّهُ بَابَهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلّتِهِ وَمَسْكَنَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ . وَمِمّا احْتَجّ بِهِ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الْأَوّلِ أَيْضًا قَوْلُ زُهَيْرٍ
قُضَاعِيّةٌ أَوْ أُخْتُهَا مُضَرِيّةٌ ... يُحَرّقُ فِي حَافّاتِهَا الْحَطَبُ الْجَزْلُ
فَجَعَلَ قُضَاعَةَ وَمُضَرَ أَخَوَيْنِ وَأَشْعَارٌ كَثِيرَةٌ لِلَبِيدٍ وَغَيْرِهِ وَقَدْ قَالَ الْكُمَيْتُ يُعَاتِبُ قُضَاعَةَ فِي انْتِسَابِهِمْ إلَى الْيَمَنِ :
عَلَامَ نَزَلْتُمْ مِنْ غَيْرِ فَقْرٍ ... وَلَا ضَرّاءَ مَنْزِلَةَ الْحَمِيلِ
وَالْحَمِيلُ الْمَسْبِيّ لِأَنّهُ يَحْمِلُ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ . قَالَ الْأَعْمَشُ : كَانَ أَبِي حَمِيلًا فَوَرّثَهُ مَسْرُوقٌ . أَرَادَ أَنّ مَسْرُوقًا كَانَ يَرَى التّوَارُثَ بِوِلَادَةِ الْأَعَاجِمِ . وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ كَانَ أَبِي وَمَالِكٌ وَابْنُ دِينَارٍ وَالْمُغِيرَةُ يَقُولُونَ فِي الْحَمِيلِ - وَهُوَ الْمَسْبِيّ - يَقُولُ ابْنُ هُرْمُزَ ثُمّ رَجَعَ مَالِكٌ قَبْلَ مَوْتِهِ بِيَسِيرِ إلَى قَوْلِ ابْنِ شِهَابٍ ، وَأَنّهُمْ يَتَوَارَثُونَ بِشَهَادَةِ الْعُدُولِ وَلَمّا تَعَارَضَ الْقَوْلَانِ فِي قُضَاعَةَ ، وَتَكَافَأَتْ الْحِجَاجُ نَظَرْنَا فَإِذَا بَعْضُ النّسّابِينَ - وَهُوَ الزّبَيْرُ - قَدْ ذَكَرَ مَا يَدُلّ عَلَى صِدْقِ الْفَرِيقَيْنِ وَذَكَرَ عَنْ ابْنِ الْكَلْبِيّ أَوْ غَيْرِهِ أَنّ امْرَأَةَ مَالِكِ بْنِ حِمْيَرَ ، [ ص 54 ] اسْمُهَا : عُكْبُرَةُ آمَتْ مِنْهُ وَهِيَ تُرْضِعُ قُضَاعَةَ ، فَتَزَوّجَهَا مَعَدّ ، فَهُوَ رَابّهُ فَتَبَنّاهُ وَتُكَنّى بِهِ وَيُقَالُ بَلْ وَلَدَتْهُ عَلَى فِرَاشِهِ فَنُسِبَ إلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُ الزّبَيْرِ كَمَا نُسِبَ بَنُو عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ إلَى عَلِيّ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مَازِنِ بْنِ الذّئْبِ الْأَسَدِيّ لِأَنّهُ كَانَ حَاضِنَ أَبِيهِمْ وَزَوْجَ أُمّهِمْ فَيُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَلِيّ إلَى الْآنِ وَكَذَلِكَ عُكْلٌ ، وَهُوَ حَاضِنُ بَنِي عَوْفِ بْنِ وُدّ بْنِ طَابِخَةَ وَلَكِنْ لَا يُعْرَفُونَ إلّا بِعُكْلِ وَكَذَلِكَ سَعْدُ بْنُ هُذَيْمٍ إنّمَا هُمْ بَنُو سَعْدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ قُضَاعَةَ ، وَهُذَيْمٌ كَانَ حَاضِنَ سَعْدٍ فَنُسِبَ إلَيْهِ وَهَذَا كَثِيرٌ فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ ، وَسَيَأْتِي مِنْهُ فِي الْكِتَابِ زِيَادَةٌ - إنْ شَاءَ اللّهُ - وَتَفْسِيرُ قُضَاعَةَ فِيمَا ذَكَرَ صَاحِبُ الْعَيْنِ كَلْبُ الْمَاءِ فَهُوَ اسْمٌ مَنْقُولٌ مِنْهُ وَهُوَ لَقَبٌ لَهُ وَاسْمُهُ عَمْرٌو ، وَيُكَنّى أَبَا حَسَنٍ وَكُنْيَتُهُ أَبَا حُكْمٍ فِيمَا ذَكَرُوا . وَقَوْلُ ابْنِ إسْحَاقَ : كَانَ بِكْرَ مَعَدّ فَالْبِكْرُ أَوّلُ وَلَدِ الرّجُلِ وَأَبُوهُ بِكْرٌ وَالثّنْيُ وَلَدُهُ الثّانِي ، وَأَبُوهُ ثَنْيٌ وَالثّلْثُ وَلَدُهُ الثّالِثُ وَلَا يُقَالُ لِلْأَبِ ثِلْثٌ وَلَا يُقَالُ فِيمَا بَعْدَ الثّالِثِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا ، قَالَهُ الْخَطّابُ . وَمِمّا عُوتِبَتْ بِهِ قُضَاعَةُ فِي انْتِسَابِهِمْ إلَى الْيَمَنِ قَوْلُ أَعْشَى بَنِي تَغْلِبَ ، وَقِيلَ هِيَ لِرَجُلِ مِنْ كَلْبٍ ، وَكَلْبٌ مِنْ قُضَاعَةَ :
أَزَنّيْتُمْ عَجُوزَكُمْ وَكَانَتْ ... قَدِيمًا لَا يُشَمّ لَهَا خِمَارُ
عَجُوزٌ لَوْ دَنَا مِنْهَا يَمَانٌ ... لَلَاقَى مِثْلَ مَا لَاقَى يَسَارُ
يُرِيدُ يَسَارَ الْكَوَاعِبِ الّذِي هَمّ بِهِنّ فَخَصَيْنَهُ وَقَالَ بَعْضُ شُعَرَاءِ حِمْيَرَ فِي قُضَاعَةَ :
مَرَرْنَا عَلَى حَيّيْ قُضَاعَةَ غَدْوَةً ... وَقَدْ أَخَذُوا فِي الزّفْنِ وَالزّفَنَانِ
فَقُلْت لَهُمْ مَا بَالُ زَفْنِكُمْ كَذَا ... لِعُرْسِ نَرَى ذَا الزّفْنَ أَوْ لِخِتَانِ
فَقَالُوا : أَلَا إنّا وَجَدْنَا لَنَا أَبًا ... فَقُلْت : لِيَهْنِئْكُمْ بِأَيّ مَكَانِ ؟
فَقَالُوا : وَجَدْنَاهُ بِجَرْعَاءِ مَالِكٍ ... فَقُلْت : إذَا مَا أُمّكُمْ بِحَصَانِ
فَمَا مَسّ خُصْيَا مَالِكٍ فَرْجَ أُمّكُمْ ... وَلَا بَاتَ مِنْهُ الْفَرْجُ بِالْمُتَدَانِي
فَقَالُوا : بَلَى وَاَللّهِ حَتّى كَأَنّمَا ... خُصْيَاهُ فِي بَابِ اسْتِهَا جُعَلَانِ
ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ - رَحِمَهُ اللّهُ - فِي كِتَابِ الْإِنْبَاهِ لَهُ وَقَالَ جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ وَهُوَ مِنْ بَنِي حُنّ بْنِ رَبِيعَةَ مِنْ قُضَاعَةَ يَصِفُ بُثَيْنَةَ وَهِيَ مِنْ حُنّ أَيْضًا :
رَبَتْ فِي الرّوَابِي مِنْ مَعَدّ وَفُضّلَتْ ... عَلَى الْمُحْصَنَاتِ الْبِيضِ وَهْيَ وَلِيدُ
وَقَالَ جَمِيلٌ أَيْضًا وَهُوَ يَحْدُو بِالْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ
أَنَا جَمِيلٌ فِي السّنَامِ مِنْ مَعَدّ ... الضّارِبِينَ النّاسَ فِي الرّكْنِ الْأَشَدْ

قُنُصُ بْنُ مَعَدّ وَنَسَبُ النّعْمَانِ
[ ص 52 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَمّا قُنُصُ بْنُ مَعَدّ فَهَلَكَتْ بَقِيّتُهُمْ - فِيمَا يَزْعُمُ نَسّابُ مَعَدّ - وَكَانَ مِنْهُمْ النّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ مَلِكُ الْحِيرَةِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ : أَنّ النّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ كَانَ مِنْ وَلَدِ قُنُصِ بْنِ مَعَدّ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ قُنُصٌ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ ، عَنْ شَيْخٍ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ أَنّهُ حَدّثَهُ أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - حِينَ أَتَى بِسَيْفِ النّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ ، دَعَا جُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمِ بْنِ عَدِيّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ - وَكَانَ جُبَيْرٌ مِنْ أَنْسَبِ قُرَيْشٍ لِقُرَيْشِ وَلِلْعَرَبِ قَاطِبَةً وَكَانَ يَقُولُ إنّمَا أَخَذْت النّسَبَ مِنْ أَبِي بَكْرِ الصّدّيقِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَكَانَ أَبُو بَكْرِ الصّدّيقُ أَنْسَبَ الْعَرَبِ - فَسَلّحَهُ إيّاهُ ثُمّ قَالَ مِمّنْ كَانَ يَا جُبَيْرٌ النّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ ؟ فَقَالَ كَانَ مِنْ أَشْلَاءِ قُنُصِ بْنِ مَعَدّ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَمّا سَائِرُ الْعَرَبِ فَيَزْعُمُونَ أَنّهُ كَانَ رَجُلًا مِنْ لَخْمٍ ، مِنْ وَلَدِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ ، فَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ . [ ص 53 ] [ ص 54 ] [ ص 54 ] [ ص 56 ]
لَخْمُ بْنُ عَدِيّ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : لَخْمُ بْنُ عَدِيّ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُرّةَ بْنِ أُدَدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ همَيْسَع بْنِ عَمْرِو بْنِ عَرِيبِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ ، وَيُقَالُ لَخْمُ بْنُ عَدِيّ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَبَأٍ ، وَيُقَالُ رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرِ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ، وَكَانَ تَخَلّفَ بِالْيَمَنِ بَعْدَ خُرُوجِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ مِنْ الْيَمَنِ .
أَمْرُ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ فِي خُرُوجِهِ مِنْ الْيَمَنِ وَقِصّةُ سَدّ مَأْرِبٍ
وَكَانَ سَبَبُ خُرُوجِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ مِنْ الْيَمَنِ - فِيمَا حَدّثَنِي أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيّ أَنّهُ رَأَى جُرَذًا يَحْفِرُ فِي سَدّ مَأْرِبٍ الّذِي كَانَ يَحْبِسُ عَلَيْهِمْ الْمَاءَ فَيَصْرِفُونَهُ حَيْثُ شَاءُوا مِنْ أَرْضِهِمْ فَعَلِمَ أَنّهُ لَا بَقَاءَ لِلسّدّ عَلَى ذَلِكَ فَاعْتَزَمَ عَلَى النّقْلَةِ مِنْ الْيَمَنِ ، فَكَادَ قَوْمَهُ فَأَمَرَ أَصْغَرَ وَلَدِهِ إذَا أَغْلَظَ لَهُ وَلَطَمَهُ أَنْ يَقُومَ إلَيْهِ فَيَلْطِمَهُ فَفَعَلَ ابْنُهُ مَا أَمَرَهُ بِهِ فَقَالَ [ ص 57 ] لَا أُقِيمُ بِبَلَدِ لَطَمَ وَجْهِي فِيهِ أَصْغَرُ وَلَدِي ، وَعَرَضَ أَمْوَالَهُ فَقَالَ أَشْرَافٌ مِنْ أَشْرَافِ الْيَمَنِ : اغْتَنِمُوا غَضْبَةَ عَمْرٍو فَاشْتَرُوا مِنْهُ أَمْوَالَهُ . وَانْتَقَلَ فِي وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ . وَقَالَتْ الْأَزْدُ : لَا نَتَخَلّفُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ، فَبَاعُوا أَمْوَالَهُمْ وَخَرَجُوا مَعَهُ فَسَارُوا حَتّى نَزَلُوا بِلَادَ عَكّ مُجْتَازِينَ يَرْتَادُونَ الْبُلْدَانَ . فَحَارَبَتْهُمْ عَكّ ، فَكَانَتْ حَرْبُهُمْ سِجَالًا . فَفِي ذَلِكَ قَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ الْبَيْتَ الّذِي كَتَبْنَا ، ثُمّ ارْتَحَلُوا عَنْهُمْ فَتَفَرّقُوا فِي الْبُلْدَانِ فَنَزَلَ آلُ جَفْنَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الشّامَ ، وَنَزَلَتْ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ يَثْرِبَ ، وَنَزَلَتْ خُزَاعَةُ مَرّا ، وَنَزَلَتْ أَزْدُ السّرَاةِ السّرَاةَ . وَنَزَلَتْ أَزْدُ عُمَانَ عُمَانَ . ثُمّ أَرْسَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَى السّدّ السّيْلَ فَهَدَمَهُ فَفِيهِ أَنْزَلَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ مُحَمّدٍ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدّلْنَاهُمْ بِجَنّتَيْهِمْ جَنّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ } [ سَبَأِ : 15ْ 16 ] . وَالْعَرِمُ : السّدّ ، وَاحِدَتُهُ عَرِمَةٌ فِيمَا حَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ . قَالَ الْأَعْشَى : أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُكَابَةَ بْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلِ بْنِ هِنْبِ بْنِ أَفْصَى بْنِ جَدِيلَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدّ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ أَفْصَى بْنِ دُعْمِيّ بْنِ جَدِيلَةَ وَاسْمُ الْأَعْشَى : مَيْمُونُ بْنُ قَيْسِ بْنِ جَنْدَلِ بْنِ شَرَاحيل بْنِ عَوْفِ بْنِ سَعْدِ بْنِ ضُبَيْعَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ
وَفِي ذَاكَ لِلْمُؤْتَسِي أُسْوَةٌ ... وَمَأْرِبُ عَفّى عَلَيْهَا الْعَرِمْ
رُخَامٌ بَنَتْهُ لَهُمْ حِمْيَرٌ ... إذَا جَاءَ مَوّارُهُ لَمْ يَرِمْ
فَأَرْوَى الزّرُوعَ وَأَعْنَابَهَا ... عَلَى سِعَةٍ مَاؤُهُمْ إذْ قُسِمْ
فَصَارُوا أَيَادِي مَا يَقْدِرُو ... نَ مِنْهُ عَلَى شُرْبِ طِفْلٍ فُطِمْ
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَقَالَ أُمَيّةُ بْنُ أَبِي الصّلْتِ الثّقَفِيّ - وَاسْمُ ثَقِيفٍ : قَسِيّ بْنُ مُنَبّهِ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصَفَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدّ بْنِ عَدْنَانَ .
مِنْ سَبَأِ الْحَاضِرِينَ مَأْرِبَ إذْ ... يَبْنُونَ مِنْ دُونِ سَيْلِهِ الْعَرِمَا
[ ص 58 ] قَصِيدَةٍ لَهُ . وَتُرْوَى لِلنّابِغَةِ الْجَعْدِيّ وَاسْمُهُ قَيْسُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ أَحَدُ بَنِي جَعْدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ . وَهُوَ حَدِيثٌ طَوِيلٌ مَنَعَنِي مِنْ اسْتِقْصَائِهِ مَا ذَكَرْت مِنْ الِاخْتِصَارِ .
Sذِكْرُ قُنُصِ بْنِ مَعَدّ
وَكَانَ قُنُصُ بْنُ مَعَدّ قَدْ انْتَشَرَ وَلَدُهُ بِالْحِجَازِ فَوَقَعَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَبِيهِمْ حَرْبٌ وَتَضَايَقُوا فِي الْبِلَادِ وَأَجْدَبَتْ لَهُمْ الْأَرْضُ فَسَارُوا نَحْوَ سَوَادِ الْعِرَاقِ ، وَذَلِكَ أَيّامَ مُلُوكِ الطّوَائِفِ فَقَاتَلَهُمْ الْأَرْدَانِيّونَ وَبَعْضُ مُلُوكِ الطّوَائِفِ وَأَجْلَوْهُمْ عَنْ السّوَادِ وَقَتَلُوهُمْ إلّا أَشْلَاءَ لَحِقَتْ بِقَبَائِلِ الْعَرَبِ ، وَدَخَلُوا فِيهِمْ وَانْتَسَبُوا إلَيْهِمْ . فَصْلٌ وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ حَدِيثَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمً حِينَ أُتِيَ عُمَرُ بِسَيْفِ النّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ ، وَكَانَ جُبَيْرٌ أَنْسَبَ النّاسِ - الْحَدِيثُ . وَذَكَرَ الطّبَرِيّ أَنّ سَيْفَ النّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ إنّمَا [ ص 56 ] أُتِيَ بِهِ عُمَرَ حِينَ اُفْتُتِحَتْ الْمَدَائِنُ - وَكَانَتْ بِهَا خَرَائِبُ كِسْرَى وَذَخَائِرُهُ فَلَمّا غُلِبَ عَلَيْهَا فَرّ إلَى إصْطَخْرَ فَأَخَذَتْ أَمْوَالَهُ وَنَفَائِسَ عُدَدِهِ وَأَخَذَ لَهُ خَمْسَةَ أَسْيَافٍ لَمْ يُرَ مِثْلُهَا . أَحَدُهَا : سَيْفُ كِسْرَى أبرويز ، وَسَيْفُ كِسْرَى أَنُوشِرْوَانَ وَسَيْفُ النّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ الّذِي كَانَ اسْتَلَبَهُ مِنْهُ حِينَ قَتَلَهُ غَضَبًا عَلَيْهِ وَأَلْقَاهُ إلَى الْفِيَلَةِ فَخَبَطَتْهُ بِأَيْدِيهَا ، حَتّى مَاتَ . وَقَالَ الطّبَرِيّ : إنّمَا مَاتَ فِي سِجْنِهِ فِي الطّاعُونِ الّذِي كَانَ فِي الْفُرْسِ ، وَسَيْفُ خَاقَانَ مَلِكِ التّرْكِ ، وَسَيْفِ هِرَقْلَ ، وَكَانَ تَصَيّرَ إلَى كِسْرَى أَيّامَ غَلَبَتِهِ عَلَى الرّومِ فِي الْمُدّةِ الّتِي ذَكَرَهَا اللّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ { الم غُلِبَتِ الرّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ } الْآيَةَ . فَهَذَا كَانَ سَبَبُ تَصَيّرِ سَيْفِ النّعْمَانِ إلَى كِسْرَى أبرويز ، ثُمّ إلَى كِسْرَى يَزْدَجْرِدْ ثُمّ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - وَكَانَ الّذِي قَتَلَ النّعْمَانَ مِنْهُمْ أبرويز بْنُ هُرْمُزَ بْنِ أَنُوشِرْوَانَ وَكَانَ لأبرويز فِيمَا ذُكِرَ أَلْفُ فِيلٍ وَخَمْسُونَ أَلْفَ فَرَسٍ وَثَلَاثَةُ آلَافِ امْرَأَةٍ - فِيمَا ذَكَرَ الطّبَرِيّ - وَتَفْسِيرُ أَنُوشِرْوَانَ بِالْعَرَبِيّةِ مُجَدّدُ الْمُلْكِ - فِيمَا ذَكَرُوا وَاَللّهُ أَعْلَمُ - وَكَذَلِكَ تَفْسِيرُ أبرويز : الْمُظَفّرُ . قَالَهُ الْمَسْعُودِيّ وَالطّبَرِيّ أَيْضًا ، وَزَادَ الطّبَرِيّ فِي حَدِيثِ جُبَيْرٍ حِينَ سَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ نَسَبِ النّعْمَانِ قَالَ كَانَتْ الْعَرَبُ تَقُولُ إنّهُ مِنْ أَشْلَاءِ قُنُصِ بْنِ مَعَدّ وَهُوَ وَلَدُ عَجْمِ بْنِ قُنُصٍ إلّا أَنّ النّاسَ لَمْ يَدْرُوا مَا عَجْمٌ فَجَعَلُوا مَكَانَهُ لَخْمًا : فَقَالُوا : هُوَ مِنْ لَخْمٍ ، وَنَسَبُوا إلَيْهِ . وأبرويز هُوَ الّذِي كَتَبَ إلَيْهِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَمَزّقَ كِتَابَهُ فَدَعَا عَلَيْهِمْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنْ يُمَزّقُوا كُلّ مُمَزّقٍ . [ ص 57 ]

حَدِيثُ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ وَرُؤْيَاهُ
رُؤْيَا رَبِيعَةَ : قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرٍ مَلِكُ الْيَمَنِ بَيْنَ أَضْعَافِ مُلُوكِ التّبَابِعَةِ ، فَرَأَى رُؤْيَا هَالَتْهُ وَفَظِعَ بِهَا ، فَلَمْ يَدَعْ كَاهِنًا ، وَلَا سَاحِرًا ، وَلَا عَائِفًا ، وَلَا مُنَجّمًا مِنْ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ إلّا جَمَعَهُ إلَيْهِ فَقَالَ لَهُمْ إنّي قَدْ رَأَيْت رُؤْيَا هَالَتْنِي ، وَفَظِعْت بِهَا ، فَأَخْبِرُونِي بِهَا وَبِتَأْوِيلِهَا ، قَالُوا لَهُ اُقْصُصْهَا عَلَيْنَا نُخْبِرْك بِتَأْوِيلِهَا ، قَالَ إنّي إنْ أَخْبَرْتُكُمْ بِهَا لَمْ أَطْمَئِنّ إلَى خَبَرِكُمْ عَنْ تَأْوِيلِهَا ، فَإِنّهُ لَا يَعْرِفُ تَأْوِيلَهَا إلّا مَنْ عَرَفَهَا قَبْلَ أَنْ أُخْبِرَهُ بِهَا ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَإِنْ كَانَ الْمَلِكُ يُرِيدُ هَذَا فَلْيَبْعَثْ إلَى سَطِيحٍ وَشِقّ فَإِنّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَعْلَمَ مِنْهُمَا ، فَهُمَا يُخْبِرَانِهِ بِمَا سَأَلَ عَنْهُ . وَاسْمُ سَطِيحٍ رَبِيعُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مَازِنِ بْنِ ذِئْبِ بْنِ عَدِيّ بْنِ مَازِنِ غَسّانَ . [ ص 59 ] رُهْمِ بْنِ أَفْرَكَ بْنِ قَسْرِ بْنِ عَبْقَرَ بْنِ أَنْمَارِ بْنِ نِزَارٍ ، وَأَنْمَارُ أَبُو بَجِيلَةَ وَخَثْعَمَ .
نَسَبُ بَجِيلَةَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَتْ الْيَمَنُ : وَبَجِيلَةُ : بَنُو أَنْمَارِ ، بْنِ إرَاشِ بْنِ لِحْيَانَ ، بْنِ عَمْرِو ، بْنِ الْغَوْثِ ، بْنِ نَبْتِ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ ، وَيُقَالُ إرَاشُ بْنُ عَمْرِو بْنِ لِحْيَانَ بْنِ الْغَوْثِ . وَدَارُ بَجِيلَةَ وَخَثْعَمَ يَمَانِيّةٌ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَبَعَثَ إلَيْهِمَا ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ سَطِيحٌ قَبْلَ شِقّ فَقَالَ لَهُ إنّي رَأَيْت رُؤْيَا هَالَتْنِي ، وَفَظِعْت بِهَا ، فَأَخْبِرْنِي بِهَا ، فَإِنّك إنْ أَصَبْتهَا أَصَبْت تَأْوِيلَهَا . قَالَ أَفْعَلُ . رَأَيْت حُمَمَهُ خَرَجَتْ مِنْ ظُلُمَهْ فَوَقَعَتْ بِأَرْضِ تَهَمَهْ فَأَكَلَتْ مِنْهَا كُلّ ذَاتِ جُمْجُمَهْ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا أَخْطَأْت مِنْهَا شَيْئًا يَا سَطِيحٌ ، مَا عِنْدَك فِي تَأْوِيلِهَا ، فَقَالَ احْلِفْ بِمَا [ ص 60 ] أَرْضَكُمْ الْحَبَشُ فَلَيَمْلِكُنّ مَا بَيْنَ أَبْيَنَ إلَى جُرَشَ ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ وَأَبِيك يَا سَطِيحٌ إنّ هَذَا لَنَا لَغَائِظٌ مُوجِعٌ فَمَتَى هُوَ كَائِنٌ ؟ أَفِي زَمَانِي هَذَا ، أَمْ بَعْدَهُ ؟ قَالَ لَا ، بَعْدَهُ بِحِينِ أَكْثَرَ مِنْ سِتّينَ أَوْ سَبْعِينَ يَمْضِينَ مِنْ السّنِينَ قَالَ أَفَيَدُومُ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِهِمْ أَمْ يَنْقَطِعُ ؟ قَالَ لَا ، بَلْ يَنْقَطِعُ لِبِضْعِ وَسَبْعِينَ مِنْ السّنِينَ ثُمّ يُقْتَلُونَ وَيَخْرُجُونَ مِنْهَا هَارِبِينَ قَالَ وَمَنْ يَلِي ذَلِكَ مِنْ قَتْلِهِمْ وَإِخْرَاجِهِمْ ؟ . [ ص 61 ] قَالَ يَلِيهِ إرَمُ ذِي يَزَنَ ، يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ مِنْ عَدَنٍ ، فَلَا يَتْرُكُ أَحَدًا مِنْهُمْ بِالْيَمَنِ . قَالَ أَفَيَدُوم ذَلِكَ مِنْ سُلْطَانِهِ أَمْ يَنْقَطِعُ ؟ قَالَ لَا ، بَلْ يَنْقَطِعُ . قَالَ وَمَنْ يَقْطَعُهُ ؟ قَالَ نَبِيّ زَكِيّ ، يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنْ قِبَلِ الْعَلِيّ قَالَ وَمِمّنْ هَذَا النّبِيّ ؟ . قَالَ رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّضْرِ ، يَكُونُ الْمُلْكُ فِي قَوْمِهِ إلَى آخِرِ الدّهْرِ . [ ص 62 ] قَالَ وَهَلْ لِلدّهْرِ مِنْ آخِرٍ ؟ قَالَ نَعَمْ يَوْمٌ يُجْمَعُ فِيهِ الْأَوّلُونَ وَالْآخَرُونَ يَسْعَدُ فِيهِ الْمُحْسِنُونَ وَيَشْقَى فِيهِ الْمُسِيئُونَ قَالَ أَحَقّ مَا تُخْبِرُنِي ؟ قَالَ نَعَمْ . وَالشّفَقِ وَالْغَسَقِ وَالْفَلَقِ إذَا اتّسَقَ إنّ مَا أَنْبَأْتُك بِهِ لَحَقّ . ثُمّ قَدِمَ عَلَيْهِ شِقّ ، فَقَالَ لَهُ كَقَوْلِهِ لِسَطِيحِ وَكَتَمَهُ مَا قَالَ سَطِيحٌ لِيَنْظُرَ أَيَتّفِقَانِ أَمْ يَخْتَلِفَانِ فَقَالَ نَعَمْ رَأَيْت حُمَمَةً خَرَجَتْ مِنْ ظُلْمَةٍ فَوَقَعَتْ بَيْنَ رَوْضَةٍ وَأَكَمَةٍ فَأَكَلَتْ مِنْهَا كُلّ ذَاتِ نَسَمَةٍ . قَالَ فَلَمّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ عَرَفَ أَنّهُمَا قَدْ اتّفَقَا ، وَأَنّ قَوْلَهُمَا وَاحِدٌ إلّا أَنّ سَطِيحًا قَالَ " وَقَعَتْ بِأَرْضِ تَهَمَهْ فَأَكَلَتْ مِنْهَا كُلّ ذَاتِ جُمْجُمَهْ " . [ ص 63 ] وَقَالَ شِقّ : " وَقَعَتْ بَيْنَ رَوْضَةٍ وَأَكَمَةٍ فَأَكَلَتْ مِنْهَا كُلّ ذَاتِ نَسَمَةٍ . فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا أَخْطَأْت يَا شِقّ مِنْهَا شَيْئًا ، فَمَا عِنْدَك فِي تَأْوِيلِهَا ؟ . قَالَ أَحْلِفُ بِمَا بَيْنَ الْحَرّتَيْنِ مِنْ إنْسَانٍ لَيَنْزِلَن أَرْضَكُمْ السّودَانُ ، فَلَيَغْلِبُنّ عَلَى كُلّ طَفْلَةِ الْبَنَانِ وَلَيَمْلِكُنّ مَا بَيْنَ أَبْيَنَ إلَى نَجْرَانَ . [ ص 64 ] فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ وَأَبِيك يَا شِقّ ، إنّ هَذَا لَنَا لَغَائِظٌ مُوجِعٌ فَمَتَى هُوَ كَائِنٌ ؟ أَفِي زَمَانِي ، أَمْ بَعْدَهُ ؟ قَالَ لَا ، بَلْ بَعْدَهُ بِزَمَانِ ثُمّ يَسْتَنْقِذُكُمْ مِنْهُمْ عَظِيمٌ ذُو شَأْنٍ وَيُذِيقُهُمْ أَشَدّ الْهَوَانِ . [ ص 65 ] قَالَ وَمَنْ هَذَا الْعَظِيمُ الشّأْنُ ؟ قَالَ غُلَامٌ لَيْسَ بَدَنِيّ وَلَا مُدَنّ يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْتِ ذِي يَزَنَ فَلَا يَتْرُكُ أَحَدًا مِنْهُمْ بِالْيَمَنِ . [ ص 66 ] قَالَ أَفَيَدُومُ سُلْطَانُهُ أَمْ يَنْقَطِعُ ؟ قَالَ بَلْ يَنْقَطِعُ بِرَسُولِ مُرْسَلٍ يَأْتِي بِالْحَقّ وَالْعَدْلِ بَيْنَ أَهْلِ الدّينِ وَالْفَضْلِ يَكُونُ الْمُلْكُ فِي قَوْمِهِ إلَى يَوْمِ الْفَصْلِ قَالَ وَمَا يَوْمُ الْفَصْلِ ؟ قَالَ يَوْمٌ تُجْزَى فِيهِ الْوُلَاةْ وَيُدْعَى فِيهِ مِنْ السّمَاءِ بِدَعَوَاتْ يَسْمَعُ مِنْهَا الْأَحْيَاءُ وَالْأَمْوَاتْ وَيُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ النّاسِ لِلْمِيقَاتْ يَكُونُ فِيهِ لِمَنْ اتّقَى الْفَوْزُ وَالْخَيْرَاتْ . [ ص 67 ] قَالَ أَحَقّ مَا تَقُولُ ؟ قَالَ إي وَرَبّ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ رَفْعٍ وَخَفْضٍ إنّ مَا أَنْبَأْتُك بِهِ لَحَقّ مَا فِيهِ أَمْضٌ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَمْضٌ . يَعْنِي : شَكّا ، هَذَا بِلُغَةِ حِمْيَرَ ، وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو . أَمْضٌ أَيْ بَاطِلٌ .
S[ ص 58 ]
حَدِيثُ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ وَرُؤْيَاهُ
وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ فِيهِ نَصْرُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَهُوَ فِي قَوْلِ نُسّابِ الْيَمَنِ : رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نُمَارَةَ بْنِ لَخْمٍ . وَقَالَ الزّبَيْرُ فِي هَذَا النّسَبِ نَصْرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ شَعْوَذِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَجْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُمَارَةَ بْنِ لَخْمٍ وَلَخْمٌ أَخُو جُذَامٍ ، وَسُمّيَ لَخْمًا لِأَنّهُ لَخَمَ أَخَاهُ أَيْ لَطَمَهُ فَعَضّهُ الْآخَرُ فِي يَدِهِ فَجَذَمَهَا ، فَسُمّيَ جُذَامًا ، وَقَالَ قُطْرُبٌ اللّخْمُ سَمَكَةٌ فِي الْبَحْرِ بِهَا سُمّيَ الرّجُلُ لَخْمًا وَأَكْثَرُ الْمُؤَرّخِينَ يَقُولُونَ فِيهِ نَصْرُ بْنُ رَبِيعَةَ وَقَدْ تَقَدّمَ مَا قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فِي نَسَبِ النّعْمَانِ وَهُوَ مِنْ وَلَدِ رَبِيعَةَ ، وَأَنّ لَخْمًا فِي نَسَبِهِ تَصْحِيفٌ مِنْ عَجْمِ بْنِ قُنُصٍ . وَذَكَرَ رُؤْيَاهُ وَسَطِيحًا الْكَاهِنَ وَنَسَبَهُ وَقَدْ خَالَفَهُ مُحَمّدُ بْنُ حَبِيبٍ النّسّابَةُ فِي شَيْءٍ [ ص 59 ] وَكَانَ سَطِيحٌ جَسَدًا مُلْقًى لَا جَوَارِحَ لَهُ - فِيمَا يَذْكُرُونَ - وَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْجُلُوسِ إلّا إذَا غَضِبَ انْتَفَخَ فَجَلَسَ وَكَانَ شِقّ شِقّ إنْسَانٍ - فِيمَا يَذْكُرُونَ - إنّمَا لَهُ يَدٌ وَاحِدَةٌ وَرِجْلٌ وَاحِدَةٌ وَعَيْنٌ وَاحِدَةٌ وَيُذْكَرُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبّهٍ أَنّهُ قَالَ قِيلَ لِسَطِيحِ أَنّى لَك هَذَا الْعِلْمُ ؟ فَقَالَ لِي صَاحِبٌ مِنْ الْجِنّ اسْتَمَعَ أَخْبَارَ السّمَاءِ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ حِينَ كَلّمَ اللّهُ تَعَالَى مِنْهُ مُوسَى - عَلَيْهِ السّلَامُ - فَهُوَ يُؤَدّي إلَيّ مِنْ ذَلِكَ مَا يُؤَدّيهِ . وَوُلِدَ سَطِيحٌ وَشِقّ فِي الْيَوْمِ الّذِي مَاتَتْ فِيهِ طَرِيفَةُ الْكَاهِنَةُ امْرَأَةُ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ، وَهِيَ بِنْتُ الْخَيْرِ الْحِمْيَرِيّةُ وَدَعَتْ بِسَطِيحِ قَبْلَ أَنْ تَمُوتَ فَأَتَيْت بِهِ فَتَفَلَتْ فِي فِيهِ وَأَخْبَرَتْ أَنّهُ سَيَخْلُفُهَا فِي عِلْمِهَا ، وَكَهَانَتِهَا ، وَكَانَ وَجْهُهُ فِي صَدْرِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْسٌ وَلَا عُنُقٌ وَدَعَتْ بِشِقّ فَفَعَلَتْ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَتْ بِسَطِيحِ ثُمّ مَاتَتْ وَقَبْرُهَا " الْجُحْفَةُ " ، وَذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ أَنّ خَالِدَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ الْقَسْرِيّ كَانَ مِنْ وَلَدِ شِقّ هَذَا ، فَهُوَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَسَدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ كُرْزٍ وَذَكَرَ أَنّ كُرْزًا كَانَ دَعِيّا ، وَأَنّهُ كَانَ مِنْ الْيَهُودِ ، فَجَنَى جِنَايَةً فَهَرَبَ إلَى بَجِيلَةَ ، فَانْتَسَبَ فِيهِمْ وَيُقَالُ كَانَ عَبْدًا لِعَبْدِ الْقَيْسِ وَهُوَ ابْنُ عَامِرٍ ذِي الرّقْعَةِ ، وَسُمّيَ بِذِي الرّقْعَةِ ؛ لِأَنّهُ كَانَ أَعْوَرَ يُغَطّي عَيْنَهُ بِرُقْعَةِ . ابْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ جُوَيْنِ بْنِ شِقّ الْكَاهِنِ بْنِ صَعْبٍ . [ ص 60 ] أَكَلَتْ مِنْهَا كُلّ ذَاتِ جُمْجُمَهْ وَكُلّ ذَاتِ نَسَمَهْ . نَصْبُ كُلّ أَصَحّ فِي الرّوَايَةِ وَفِي الْمَعْنَى ؛ لِأَنّ الْحُمَمَةَ نَارٌ فَهِيَ تَأْكُلُ وَلَا تُؤْكَلُ عَلَى أَنّ فِي رِوَايَةِ الشّيْخِ بِرَفْعِ كُلّ وَلَهَا وَجْهٌ لَكِنْ فِي حَاشِيَةِ كِتَابِهِ أَنّ فِي نُسْخَةِ الْبَرْقِيّ الّتِي قَرَأَهَا عَلَى ابْنِ هِشَامٍ : كُلّ ذَاتِ بِنَصْبِ اللّامِ . وَقَوْلُهُ " خَرَجَتْ مِنْ ظُلُمَهْ " أَيْ مِنْ ظُلْمَةٍ وَذَلِكَ أَنّ الْحُمَمَةَ قِطْعَةٌ مِنْ نَارٍ وَخُرُوجُهَا مِنْ ظُلْمَةٍ يُشْبِهُ خُرُوجَ عَسْكَرِ الْحَبَشَةِ مِنْ أَرْضِ السّودَانِ ، وَالْحُمَمَةُ الْفَحْمَةُ وَقَدْ تَكُونُ جَمْرَةً مُحْرِقَةً كَمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَيَكُونُ لَفْظُهَا مِنْ الْحَمِيمِ وَمِنْ الْحُمّى أَيْضًا لِحَرَارَتِهَا ، وَقَدْ تَكُونُ مُنْطَفِئَةً فَيَكُونُ لَفْظُهَا مِنْ الْحُمّةِ وَهِيَ السّوَادُ يُقَالُ حَمّمْت وَجْهَهُ إذَا سَوّدْته ، وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ حَاصِلٌ فِي لَفْظِ الْحُمَمَةِ هَهُنَا . وَقَوْلُهُ بَيْنَ رَوْضَةٍ وَأَكَمَةٍ لِأَنّهَا وَقَعَتْ بَيْنَ صَنْعَاءَ وَأَحْوَازِهَا . وَقَوْلُهُ فِي أَرْضِ تَهَمَهْ أَيْ مُنْخَفِضَةً وَمِنْهُ سُمّيَتْ تِهَامَةٌ . وَقَوْلُهُ أَكَلَتْ مِنْهَا كُلّ ذَاتِ جُمْجُمَهْ وَلَمْ يَقُلْ كُلّ ذِي جُمْجُمَةٍ وَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ تَعَالَى سُبْحَانَهُ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلُ مِنْهُ شَيْءٌ [ فَاطِرِ 18 ] . لِأَنّ الْقَصْدَ إلَى النّفْسِ وَالنّسَمَةِ فَهُوَ أَعَمّ ، وَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ ذَوَاتِ الْأَرْوَاحِ وَلَوْ جَاءَ بِالتّذْكِيرِ لَكَانَ إمّا خَاصّا بِالْإِنْسَانِ أَوْ عَامّا فِي كُلّ شَيْءٍ حَيّ أَوْ جَمَادٍ وَمِنْهُ قَوْلُهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - " [ تَنَحّ عَنّي ، فَإِنّ ] كُلّ بَائِلَةٍ تَفْيُخُ " ، أَيْ يَكُونُ مِنْهَا إفَاخَةٌ وَهِيَ الْحَدَثُ وَقَالَ النّحّاسُ هُوَ تَأْنِيثُ الصّفَةِ وَالْخِلْقَةِ . وَقَوْلُهُ لَيَهْبِطَن أَرْضَكُمْ الْحَبَشُ هُمْ بَنُو حَبَشِ بْنِ كُوشِ بْنِ حَامِ بْنِ نُوحٍ وَبِهِ سُمّيَتْ الْحَبَشَةُ . [ ص 61 ] أَبْيَنَ إلَى جُرَشَ ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى مِثْلِ إصْبَعٍ وَجَوّزَ فِيهِ الْفَتْحَ وَكَذَلِكَ تَقَيّدَ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَفَالَ ابْنُ مَاكُولَا : هُوَ أَبْيَنُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَيْمَنَ بْنِ الْهَمَيْسَعِ مِنْ حِمْيَرَ ، أَوْ مِنْ ابْنِ حِمْيَرَ سُمّيَتْ بِهِ الْبَلْدَةُ وَقَدْ تَقَدّمَ قَوْلُ الطّبَرِيّ أَنّ أَبْيَنَ وَعَدَنَ ابْنَا عَدَنٍ ، سُمّيَتْ بِهِمَا الْبَلْدَتَانِ . وَقَوْلُهُ بِغُلَامِ لَا دَنِيّ وَلَا مُدَنّ . الدّنِيّ مَعْرُوفٌ وَالْمُدَنّ الّذِي جَمَعَ الضّعْفَ مَعَ الدّنَاءَةِ . قَالَهُ صَاحِبُ الْعَيْنِ . وَقَوْلُهُ لَحَقّ مَا فِيهِ أَمْضٌ أَيْ مَا فِيهِ شَكّ وَلَا مُسْتَرَابٌ وَقَدْ عَمّرَ سَطِيحٌ زَمَانًا طَوِيلًا بَعْدَ هَذَا الْحَدِيثِ حَتّى أَدْرَكَ مَوْلِدَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَرَأَى كِسْرَى أَنُوشِرْوَانَ بْنَ قَبَاذِ بْنِ فَيْرُوزَ مَا رَأَى مِنْ ارْتِجَاسِ الْإِيوَانِ وَخُمُودِ النّيرَانِ وَلَمْ تَكُنْ خَمَدَتْ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَلْفِ عَامٍ وَسَقَطَتْ مِنْ قَصْرِهِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ شُرْفَةٌ وَأَخْبَرَهُ الْمُوبَذَانُ وَمَعْنَاهُ الْقَاضِي ، أَوْ الْمُفْتِي بِلُغَتِهِمْ أَنّهُ رَأَى إبِلًا صِعَابًا ، تَقُودُ خَيْلًا عِرَابًا ، فَانْتَشَرَتْ فِي بِلَادِهِمْ وَغَارَتْ بُحَيْرَةُ سَاوَةَ فَأَرْسَلَ كِسْرَى عَبْدَ الْمَسِيحِ بْنَ عَمْرِو بْنِ حَيّانَ بْنِ نُفَيْلَةَ الْغَسّانِيّ إلَى سَطِيحٍ وَكَانَ سَطِيحٌ مِنْ أَخْوَالِ عَبْدِ الْمَسِيحِ وَلِذَلِكَ أَرْسَلَهُ كِسْرَى فِيمَا ذَكَرَ الطّبَرِيّ إلَى سَطِيحٍ يَسْتَخْبِرُهُ عِلْمَ ذَلِكَ وَيَسْتَعْبِرُهُ رُؤْيَا الْمُوبَذَانِ فَقَدِمَ عَلَيْهِ وَقَدْ أَشْفَى عَلَى الْمَوْتِ فَسَلّمَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَحُرْ إلَيْهِ سَطِيحٌ جَوَابًا فَأَنْشَأَ عَبْدُ الْمَسِيحِ يَقُولُ
أَصَمّ أَمْ يَسْمَعُ غِطْرِيفُ الْيَمَنْ ... أَمْ فَادَ فَازْلَمّ بِهِ شَأْوُ الْعَنَنْ
يَا فَاصِلَ الْخُطّةِ أَعْيَتْ مَنْ وَمَنْ ... أَتَاك شَيْخُ الْحَيّ مِنْ آلِ سَنَنْ
وَأُمّهُ مِنْ آلِ ذِئْبِ بْنِ حَجَنْ ... أَبْيَضُ فَضْفَاضُ الرّدَاءِ وَالْبَدَنْ
رَسُولُ قَيْلِ الْعُجْمِ يَسْرِي لِلْوَسَنْ ... لَا يَرْهَبْ الرّعْدَ وَلَا رَيْبَ الزّمَنْ
تَجُوبُ بِي الْأَرْضُ عَلَنْدَاةٌ شَزَنْ ... تَرْفَعُنِي وَجْنًا وَتَهْوِي بِي وَجَنْ
حَتّى أَتَى عَارِيَ الجآجي وَالْقَطَنْ ... تَلُفّهُ فِي الرّيحِ بَوْغَاءُ الدّمَنْ
كَأَنّمَا حُثْحِثَ مِنْ حِضْنَيْ ثَكَنْ
ثَكَنٌ اسْمُ جَبَلٍ فَلَمّا سَمِعَ سَطِيحٌ شِعْرَهُ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ عَبْدُ الْمَسِيحِ عَلَى جَمَلٍ مُشِيحٍ جَاءَ إلَى سَطِيحٍ حِينَ أَوْفَى عَلَى الضّرِيحِ بَعَثَك مَلِكُ بَنِي سَاسَانَ لِارْتِجَاسِ الْإِيوَانِ وَخُمُودِ النّيرَانِ وَرُؤْيَا الْمُوبَذَانِ . رَأَى إبِلًا صِعَابًا ، تَقُودُ خَيْلًا عِرَابًا ، قَدْ قَطَعَتْ دِجْلَةَ ، وَانْتَشَرَتْ فِي بِلَادِهَا . يَا عَبْدَ الْمَسِيحِ إذَا كَثُرَتْ التّلَاوَةُ وَظَهَرَ صَاحِبُ الْهِرَاوَةِ وَخَمَدَتْ نَارُ فَارِسَ ، وَغَارَتْ بُحَيْرَةُ سَاوَةَ وَفَاضَ وَادِي السّمَاوَةِ فَلَيْسَتْ الشّامُ لِسَطِيحِ شَامًا ، يَمْلِكُ مِنْهُمْ مُلُوكٌ وَمَلِكَاتٌ عَلَى عَدَدِ الشّرُفَاتِ وَكُلّ مَا هُوَ آتٍ آتٍ ثُمّ قَضَى سَطِيحٌ مَكَانَهُ . وَقَوْلُهُ فَازْلَمّ بِهِ مَعْنَاهُ قُبِضَ قَالَهُ ثَعْلَبٌ ، وَقَوْلُهُ شَأْوُ الْعَنَنْ . يُرِيدُ الْمَوْتَ وَمَا عَنّ مِنْهُ قَالَهُ الْخَطّابِيّ . وَفَادَ مَاتَ . يُقَالُ مِنْهُ فَادَ يَفُودُ وَأَمّا يَفِيدُ فَمَعْنَاهُ يَتَبَخْتَرُ .

فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ مَا قَالَا ، فَجَهّزَ بَنِيهِ وَأَهْلَ بَيْتِهِ إلَى الْعِرَاقِ بِمَا يُصْلِحُهُمْ وَكَتَبَ لَهُمْ إلَى مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ فَارِسَ يُقَالُ لَهُ سَابُورُ بْنُ خُرّزاذ فَأَسْكَنَهُمْ الْحِيرَةَ .
نَسَبُ النّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ
فَمِنْ بَقِيّةِ وَلَدِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ النّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ ، فَهُوَ فِي نَسَبِ الْيَمَنِ وَعِلْمِهِمْ النّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ النّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَدِيّ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ ، ذَلِكَ الْمَلِكُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : النّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ الْمُنْذِرِ فِيمَا أَخْبَرَنِي خَلَفٌ الْأَحْمَرُ .
Sوَقَوْلُ ابْنِ إسْحَاقَ فِي خَبَرِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ ، فَجَهّزَ أَهْلَهُ وَبَنِيهِ إلَى الْحِيرَةِ ، وَكَتَبَ لَهُمْ إلَى مَلِكٍ يُقَالُ لَهُ سَابُورُ بْنُ خُرّزاذ . [ ص 63 ]
مِنْ تَارِيخِ مُلُوكِ الْفُرْسِ
قَالَ الْمُؤَلّفُ الشّيْخُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ - عَفَا اللّهُ عَنْهُ - وَلَا يُعْرَفُ خُرّزاذ فِي مُلُوكِ بَنِي سَاسَانَ مِنْ الْفُرْسِ ، وَهُمْ مِنْ عَهْدِ أَزْدَشِيرِ بْنِ بَابِك إلَى يَزْدَجْرِدْ الّذِي قُتِلَ فِي أَوّلِ خِلَافَةِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - مَعْرُوفُونَ مُسَمّوْنَ بِأَسْمَائِهِمْ وَبِمَقَادِيرِ مُدَدِهِمْ . مَشْهُورٌ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِخْبَارِيّينَ وَالْمُؤَرّخِينَ وَلَكِنّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ خُرّزاذ هَذَا مَلِكًا دُونَ الْمَلِكِ الْأَعْظَمِ مِنْهُمْ أَوْ يَكُونُ أَحَدَ مُلُوكِ الطّوَائِفِ وَهُوَ الظّاهِرُ فِي مُدّةِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ لِأَنّهُ جَدّ عَمْرِو بْنِ عَدِيّ وَابْنُ أُخْتِ جَذِيمَةَ الْأَبْرَشِ وَكَانَ مُلْكُ جَذِيمَةَ أَوّلَهُ فِيمَا أَحْسَبُ فِي مُدّةِ مُلُوكِ الطّوَائِفِ وَآخِرُهُ فِي مُدّةِ السّاسَانِيّينَ وَأَوّلُ مَنْ مَلَكَ الْحِيرَةَ مِنْ السّاسَانِيّةِ سَابُورُ بْنُ أَزْدَشِيرِ وَهُوَ الّذِي خَرّبَ الْحَضَرَ وَكَانَتْ مُلُوكُ الطّوَائِفِ مُتَعَادّينَ يُغِيرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ قَدْ تَحَصّنَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي حِصْنٍ وَتَحَوّزَ إلَى حَيّزٍ مِنْهُمْ عَرَبٌ . وَمِنْهُمْ أشغانيون عَلَى دِينِ الْفُرْسِ ، وَأَكْثَرُهُمْ يَنْتَسِبُونَ إلَى الْفُرْسِ مِنْ ذُرّيّةِ دَارَا بْنِ دَارَا ، وَكَانَ الّذِي فَرّقَهُمْ وَشَتّتْ شَمْلَهُمْ وَأَدْخَلَ بَعْضَهُمْ بَيْنَ بَعْضٍ لِئَلّا يَسْتَوْثِقَ لَهُمْ مُلْكٌ وَلَا يَقُومُ لَهُمْ سُلْطَانٌ الْإِسْكَنْدَرُ بْنُ فيلبش الْيُونَانِيّ ، حِينَ ظَهَرَ عَلَى دَارَا ، وَاسْتَوْلَى عَلَى بِلَادِ مَمْلَكَتِهِ وَتَزَوّجَ بِنْتَه رَوْشَنك . بِوَصِيّةِ أَبِيهَا دَارَا لَهُ بِذَلِكَ حِينَ وَجَدَهُ مُثْخَنًا فِي الْمَعْرَكَةِ وَلَمْ يَكُنْ الْإِسْكَنْدَرُ أَرَادَ قَتْلَهُ لِأَنّهُ كَانَ أَخَاهُ لِأُمّهِ فِيمَا زَعَمُوا ، فَوَضَعَ الْإِسْكَنْدَرُ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِهِ - فِيمَا ذَكَرُوا - وَقَالَ يَا سَيّدَ النّاسِ لَمْ أُرِدْ قَتْلَك ، وَلَا رَضِيته ، فَهَلْ لَك مِنْ حَاجَةٍ ؟ قَالَ نَعَمْ . تَزَوّجْ ابْنَتِي رَوْشَنك ، وَتَقْتُلُ مَنْ قَتَلَنِي ، ثُمّ قَضَى دَارَا ، فَفَعَلَ ذَلِكَ الْإِسْكَنْدَرُ وَفَرّقَ الْفُرْسَ ، وَأَدْخَلَ بَيْنَهُمْ الْعَرَبَ . فَتَحَاجَزُوا ، وَسُمّوا : مُلُوكَ الطّوَائِفِ لِأَنّ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَانَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ الْأَرْضِ ثُمّ دَامَ أَمْرُهُمْ كَذَلِكَ أَرْبَعمِائَةِ وَثَمَانِينَ سَنَةً فِي قَوْلِ الطّبَرِيّ ، وَقَدْ قِيلَ أَقَلّ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ الْمَسْعُودِيّ : خَمْسمِائَةِ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَفِي أَيّامِهِمْ بُعِثَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الْإِسْكَنْدَرِ بِثَلَاثِمِائَةِ سَنَةٍ . فَابْنُ خُرّزاذ هَذَا - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - مِنْ أُولَئِكَ . وَبَنُو سَاسَانَ الْقَائِمُونَ بَعْدَ مُلُوكِ الطّوَائِفِ وَبَعْدَ مُلُوكِ الأشغانيين : هُمْ بَنُو [ ص 64 ] سَاسَانَ بْنِ بهمن . وَهُوَ مِنْ الْكِينِيّةِ وَإِنّمَا قِيلَ لَهُمْ الْكِينِيّةُ لِأَنّ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُضَافُ إلَى كَيْ وَهُوَ الْبَهَاءُ . وَيُقَالُ مَعْنَاهُ إدْرَاكُ الثّأْرِ . وَأَوّلُ مَنْ تَسَمّى بِكَيْ أَفْرِيذُونُ بْنُ أَثَفَيَانِ قَاتِلُ الضّحّاكِ بِثَأْرِ جَدّهِ جَمّ ثُمّ صَارَ الْمُلْكُ فِي عَقِبِهِ إلَى منوشهر الّذِي بُعِثَ مُوسَى - عَلَيْهِ السّلَامُ - فِي زَمَانِهِ إلَى كَيْ قاووس . وَكَانَ فِي زَمَنِ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَسَيَأْتِي طَرَفٌ مِنْ ذِكْرِهِ فِي الْكِتَابِ إلَى كَيْ يستاسب الّذِي وَلِيَ بُخْتَنَصّرَ وَمَلّكَهُ . وَبُخْتُنَصّرَ هُوَ الّذِي حَيّرَ الْحِيرَةَ حِينَ جَعَلَ فِيهَا سَبَايَا الْعَرَبِ ، فَتَحَيّرُوا هُنَاكَ فَسُمّيَتْ الْحِيرَةُ ، وَأَخَذَ اسْمَهُ مِنْ بوخت وَهِيَ النّخْلَةُ لِأَنّهُ وُلِدَ فِي أَصْلِ نَخْلَةٍ . ثُمّ كَانَ بَعْدَ كَيْ يستاسب بهمن بْنِ إسبندياذ بْن يستاسب . وَكَانَ لَهُ ابْنَانِ دَارَا وَسَاسَانَ وَكَانَ سَاسَانُ هُوَ الْأَكْبَرُ فَكَانَ قَدْ طَمِعَ فِي الْمُلْكِ بَعْدَ أَبِيهِ فَصَرَفَ بهمن الْأَمْرَ عَنْهُ إلَى دَارَا لِخَبَرِ يَطُولُ ذِكْرُهُ حَمَلَتْهُ عَلَى ذَلِكَ " خُمّانَا أُمّ دَارَا " ، فَخَرَجَ " سَاسَانُ " سَائِحًا فِي الْجِبَالِ وَرَفَضَ الدّنْيَا ، وَهَانَتْ عَلَيْهِ وَعَهِدَ إلَى بَنِيهِ مَتَى كَانَ لَهُمْ الْأَمْرُ أَنْ يَقْتُلُوا كُلّ أَشْغَانِي وَهُمْ نَسْلُ " داراء " فَلَمّا قَامَ " أَزْدَشِيرُ بْنُ بَابِك " وَقَيّدَهُ الدّارَقُطْنِيّ " أردشير " بِالرّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَدَعَا مُلُوكَ الطّوَائِفِ إلَى الْقِيَامِ مَعَهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ حَتّى يَنْتَظِمَ لَهُ مُلْكُ فَارِسَ ، وَأَجَابَهُ إلَى ذَلِكَ أَكْثَرُهُمْ وَكَانُوا يَدًا عَلَى الْأَقَلّ حَتّى أَزَالُوهُ وَجَعَلَ " أَزْدَشِيرُ " يَقْتُلُ كُلّ مَنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنْ أُولَئِكَ الأشغانيين ، فَقَتَلَ مَلِكًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ الْأَرْدَوَانُ وَاسْتَوْلَى عَلَى قَصْرِهِ فَأَلْقَى فِيهِ امْرَأَةً جَمِيلَةً رَائِعَةَ الْحَسَنِ فَقَالَ لَهَا : مَا أَنْتِ ؟ فَقَالَتْ أَمَةٌ مِنْ إمَاءِ الْمَلِكِ وَكَانَتْ بِنْتُ الْمَلِكِ الْأَرْدَوَانِ لَاذَتْ بِهَذِهِ الْحِيلَةِ مِنْ الْقَتْلِ لِأَنّهُ كَانَ لَا يُبْقِي مِنْهُمْ ذَكَرًا وَلَا أُنْثَى ، فَصَدّقَ قَوْلَهَا ، وَاسْتَسَرّهَا فَحَمَلَتْ مِنْهُ فَلَمّا أَثْقَلَتْ اسْتَبْشَرَتْ بِالْأَمَانِ مِنْهُ فَأَقَرّتْ أَنّهَا بِنْتُ الأشغاني الّذِي قُتِلَ وَاسْمُهُ أردوان - فِيمَا ذَكَرُوا - فَدَعَا وَزِيرًا لَهُ نَاصِحًا - وَقَدْ سَمّاهُ الطّبَرِيّ فِي التّارِيخِ - فَقَالَ اسْتَوْدِعْ هَذِهِ بَطْنَ الْأَرْضِ فَكَرِهَ الْوَزِيرُ أَنْ يَقْتُلَهَا ، وَفِي بَطْنِهَا ابْنٌ لِلْمَلِكِ وَكَرِهَ أَنْ يَعْصِيَ أَمْرَهُ فَاِتّخَذَ لَهَا قَصْرًا تَحْتَ الْأَرْضِ ثُمّ خَصَى نَفْسَهُ وَصَبّرَ مَذَاكِيرَهُ وَجَعَلَهَا فِي حَرِيرَةٍ وَوَضَعَ الْحَرِيرَةَ فِي حُقّ وَخَتَمَ عَلَيْهِ ثُمّ جَاءَ بِهِ الْمَلِكُ فَاسْتَوْدَعَهُ إيّاهُ وَجَعَلَ لَا يَدْخُلُ إلَى الْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ الْقَصْرِ سِوَاهُ وَلَا تَرَاهَا إلّا عَيْنُهُ [ ص 65 ] أَبِيهِ فَسَمّاهُ شاهَبُور ، وَمَعْنَاهُ ابْنُ الْمَلِكِ فَكَانَ الصّبِيّ يُدْعَى بِهَذَا ، وَلَا يَعْرِفُ لِنَفْسِهِ اسْمًا غَيْرَهُ فَلَمّا قَبِلَ التّعْلِيمَ نَظَرَ فِي تَعْلِيمِهِ وَتَقْوِيمِ أَوَدِهِ . وَاجْتَهَدَ فِي كُلّ مَا يُصْلِحُهُ إلَى أَنْ تَرَعْرَعَ الْغُلَامُ . فَدَخَلَ الْوَزِيرُ يَوْمًا عَلَى أَزْدَشِيرِ وَهُوَ وَاجِمٌ فَقَالَ لَا يَسُوءُك اللّهُ أَيّهَا الْمَلِكُ فَقَدْ سَاءَنِي إطْرَاقُك وَوُجُومُك ، فَقَالَ كَبِرَتْ سِنّي ، وَلَيْسَ لِي وَلَدٌ أُقَلّدُهُ الْأَمْرَ بَعْدِي ، وَأَخَافُ انْتِثَارَ الْأَمْرِ بَعْدَ انْتِظَامِهِ وَافْتِرَاقَ الْكَلِمَةِ بَعْدَ اجْتِمَاعِهَا ، فَقَالَ لَهُ إنّ لِي عِنْدَك وَدِيعَةً أَيّهَا الْمَلِكُ وَقَدْ احْتَجْت إلَيْهَا ، فَأَخْرَجَ إلَيْهِ الْحُقّةَ بِخَاتَمِهَا ، فَفَضّ الْخَاتَمَ وَأَخْرَجَ الْمَذَاكِيرَ مِنْهَا ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ مَا هَذَا ؟ فَقَالَ كَرِهْت أَنْ أَعْصِيَ الْمَلِكَ حِينَ أَمَرَنِي فِي الْجَارِيَةِ بِمَا أَمَرَ فَاسْتَوْدَعْتهَا بَطْنَ الْأَرْضِ حَيّةً حَتّى أَخْرَجَ اللّهُ مِنْهَا سَلِيلَ الْمَلِكِ حَيّا ، وَأَرْضَعَتْهُ وَحَضَنَتْهُ وَهَا هُوَ ذَا عِنْدِي ، فَإِنْ أَمَرَ الْمَلِكُ جِئْته بِهِ فَأَمَرَهُ أَزْدَشِيرُ بِإِحْضَارِهِ فِي مِائَةِ غُلَامٍ مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ ، بِأَيْدِيهِمْ الصّوَالِجُ يَلْعَبُونَ الْكُرَةَ فَلَعِبُوا فِي الْقَصْرِ فَكَانَتْ الْكُرَةُ تَقَعُ فِي إيوَانِ الْمَلِكِ فَيَتَهَيّبُونَ أَخْذَهَا حَتّى طَارَتْ لِلْغُلَامِ فَوَقَعَتْ فِي سَرِيرِ الْمَلِكِ فَتَقَدّمَ حَتّى أَخَذَهَا ، وَلَمْ يَهَبْ ذَلِكَ فَقَالَ الْمَلِكُ ابْنِي وَالشّمْسِ مُتَعَجّبًا مِنْ عِزّةِ نَفْسِهِ وَصَرَامَتِهِ ثُمّ قَالَ لَهُ مَا اسْمُك يَا غُلَامُ ؟ فَقَالَ لَهُ شاهَبُور ، فَقَالَ لَهُ صَدَقْت أَنْتَ ابْنِي . وَقَدْ سَمّيْتُك بِهَذَا الِاسْمِ وَبُورُ هُوَ الِابْنُ وَشَاهَ هُوَ الْمَلِكُ بِلِسَانِهِمْ وَإِضَافَتُهُمْ مَقْلُوبَةٌ يُقَدّمُونَ الْمُضَافَ إلَيْهِ عَلَى الْمُضَافِ كَمَا تَقَدّمَ فِي " الْكَيّ " الْكَلِمَةُ الّتِي كَانَتْ فِي أَوَائِلِ أَسْمَاءِ الْمُلُوكِ الْكِينِيّةِ فَكَانُوا يُضَافُونَ إلَى الْكَيّ ثُمّ إنّ أَزْدَشِيرَ عَهِدَ إلَى ابْنِهِ شاهَبُور ، وَسَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ فِي قَوْلِ الْأَعْشَى :
أَقَامَ بِهِ شاهَبُور الْجُنُودَ ... حَوْلَيْنِ يَضْرِبُ فِيهِ الْقُدُم
ثُمّ غَيّرَتْ الْعَرَبُ هَذَا الِاسْمَ فَقَالُوا : سَابُورُ وَتَسَمّى بِهِ مُلُوكُ بَنِي سَاسَانَ مِنْهُمْ سَابُورُ ذُو الْأَكْتَافِ الّذِي وَطِئَ أَرْضَ الْعَرَبِ ، وَكَانَ يَخْلَعُ أَكْتَافَهُمْ حَتّى مَرّ بِأَرْضِ بَنِي تَمِيمٍ فَفَرّوا مِنْهُ وَتَرَكُوا عَمْرَو بْنَ تَمِيمٍ . وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثمِائَةِ سَنَةٍ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْفِرَارِ وَكَانَ فِي قُفّةٍ مُعَلّقًا مِنْ عَمُودِ الْخَيْمَةِ مِنْ الْكِبَرِ فَأُخِذَ وَجِيءَ بِهِ الْمَلِكُ فَاسْتَنْطَقَهُ سَابُورُ فَوَجَدَ عِنْدَهُ رَأْيًا وَدَهَاءً فَقَالَ لَهُ أَيّهَا الْمَلِكُ لِمَ تَفْعَلُ هَذَا بِالْعَرَبِ ؟ فَقَالَ يَزْعُمُونَ أَنّ مُلْكَنَا يَصِلُ إلَيْهِمْ عَلَى يَدِ نَبِيّ يُبْعَثُ فِي آخِرِ الزّمَانِ فَقَالَ عَمْرٌو : فَأَيْنَ حِلْمُ الْمُلُوكِ وَعَقْلُهُمْ ؟ إنْ يَكُنْ هَذَا الْأَمْرُ بَاطِلًا فَلَا يَضُرّك ، وَإِنْ يَكُنْ حَقّا أَلْفَاك ، وَقَدْ اتّخَذْت عِنْدَهُمْ يَدًا ، يُكَافِئُونَك عَلَيْهَا ، [ ص 66 ] فَيُقَالُ إنّ سَابُورَ انْصَرَفَ عَنْهُمْ وَاسْتَبْقَى بَقِيّتَهُمْ وَأَحْسَنَ إلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَأَمّا أبرويز بْنُ هُرْمُزَ - وَتَفْسِيرُهُ بِالْعَرَبِيّةِ مُظَفّرٌ - فَهُوَ الّذِي كَتَبَ إلَيْهِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَسَيَأْتِي طَرَفٌ مِنْ ذِكْرِهِ وَهُوَ الّذِي عُرِضَ عَلَى اللّهِ تَعَالَى فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ لَهُ سَلّمْ مَا فِي يَدَيْك إلَى صَاحِبِ الْهِرَاوَةِ فَلَمْ يَزَلْ مَذْعُورًا مِنْ ذَلِكَ حَتّى كَتَبَ إلَيْهِ النّعْمَانُ بِظُهُورِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِتِهَامَةَ فَعَلِمَ أَنّ الْأَمْرَ سَيَصِيرُ إلَيْهِ حَتّى كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ وَهُوَ الّذِي سُئِلَ عَنْهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَا حُجّةُ اللّهِ عَلَى كِسْرَى ؟ فَقَالَ إنّ اللّهَ تَعَالَى أَرْسَلَ إلَيْهِ مَلَكًا ، فَسَلَكَ يَدَهُ فِي جِدَارِ مَجْلِسِهِ حَتّى أُخْرِجهَا إلَيْهِ وَهِيَ تَتَلَأْلَأُ نُورًا ، فَارْتَاعَ كِسْرَى ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ لِمَ تَرْعَ يَا كِسْرَى . إنّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ رَسُولَهُ فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ [ دُنْيَاك وَآخِرَتَك ] ، فَقَالَ سَأَنْظُرُ ذَكَرَهُ الطّبَرِيّ ، فِي أَعْلَامٍ كَثِيرَةٍ مِنْ النّبُوّةِ عُرِضَتْ عَلَى أبرويز أَضْرَبْنَا عَنْ الْإِطَالَةِ بِهَا ، فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَتَسَمّى أَيْضًا سَابُورُ بَعْدَ هَذَا سَابُورُ بْنِ أبرويز أَخُو شِيرَوَيْه ، وَقَدْ مَلَكَ نَحْوًا مِنْ شَهْرَيْنِ فِي مُدّةِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَمَلَكَ أَخُوهُ شِيرَوَيْه نَحْوًا مِنْ سِتّةِ أَشْهُرٍ ثُمّ مَلَكَتْ بُورَانُ أُخْتُهُمَا ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ لَا يُفْلِحُ قَوْمٌ مَلَكَتْهُمْ امْرَأَةٌ فَمَلَكَتْ سَنَةً وَهَلَكَتْ وَتَشَتّتَ أَمْرُهُمْ كُلّ الشّتَاتِ . ثُمّ اجْتَمَعُوا عَلَى يَزْدَجْرِدْ بْنِ شَهْرَيَارَ وَالْمُسْلِمُونَ قَدْ غَلَبُوا عَلَى أَطْرَافِ أَرْضِهِمْ ثُمّ كَانَتْ حُرُوبُ الْقَادِسِيّةِ مَعَهُمْ إلَى أَنْ قَهَرَهُمْ الْإِسْلَامُ وَفُتِحَتْ بِلَادُهُمْ عَلَى يَدَيْ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - وَاسْتُؤْصِلَ أَمْرُهُمْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ . وَسَابُورُ تُنْسَبُ إلَيْهِ الثّيَابُ السّابِرِيّةُ قَالَهُ الْخَطّابِيّ ، وَزَعَمَ أَنّهُ مِنْ النّسَبِ الّذِي غُيّرَ فَإِذَا نَسَبُوا إلَى نَيْسَابُورَ الْمَدِينَةِ ، قَالُوا : نَيْسَابُورِيّ عَلَى الْقِيَاسِ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنّ نِيّ هِيَ الْقَصَبُ وَكَانَتْ مَقْصَبَةً فَبَنَاهَا سَابُورُ مَدِينَة ، فَنُسِبَتْ إلَيْهِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . [ ص 67 ]
رُجُوعُهُ إلَى حَدِيثِ سَطِيحٍ وَذِي يَزَنَ
فَصْلٌ وَقَوْلُ سَطِيحٍ فِي حَدِيثِ رَبِيعَةَ : إرَمَ ذِي يَزَنَ ، الْمَعْرُوفُ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ ، وَلَكِنْ جَعَلَهُ إرَمًا ، إمّا لِأَنّ الْإِرَمَ هُوَ الْعَلَمُ فَمَدَحَهُ بِذَلِكَ وَإِمّا شَبّهَهُ بِعَادِ إرَمَ فِي عِظَمِ الْخَلْقِ وَالْقُوّةِ قَالَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبّكَ بِعَادٍ إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } وَرَبِيعَةُ بْنُ نَصْرٍ هَذَا هُوَ أَحَدُ مُلُوكِ الْحِيرَةِ ، وَهُمْ آلُ الْمُنْذِرِ وَالْمُنْذِرُ هُوَ ابْنُ مَاءِ السّمَاءِ وَهِيَ أُمّهُ عُرِفَ بِهَا ، وَهِيَ مِنْ النّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ وَابْنُهُ عَمْرُو بْنُ هِنْدٍ عُرِفَ بِأُمّهِ أَيْضًا ، وَهِيَ بِنْتُ الْحَارِثِ آكِلِ الْمِرَارِ جَدّ امْرِئِ الْقَيْسِ الشّاعِرِ وَيُعْرَفُ عَمْرٌو بِمُحَرّقِ لِأَنّهُ حَرّقَ مَدِينَة ، يُقَالُ لَهَا : مَلْهَمٌ وَهِيَ عِنْدَ الْيَمَامَةِ ، وَقَالَ الْمُبَرّدُ وَالْقُتَبِيّ سُمّيَ مُحَرّقًا ، لِأَنّهُ حَرّقَ مِائَةً مِنْ بَنِي تَمِيمٍ وَذَكَرَ خَبَرَهُمْ . وَوَلَدُ نَصْرِ بْنِ رَبِيعَةَ هُوَ عَدِيّ ، وَكَانَ كَاتِبًا لِجَذِيمَةَ الْأَبْرَشِ وَابْنُهُ عَمْرٌو ، وَهُوَ ابْنُ أُخْتِ جَذِيمَةَ وَيُكَنّى جَذِيمَةُ أَبَا مَالِكٍ فِي قَوْلِ الْمَسْعُودِيّ ، وَهُوَ مُنَادِمُ الْفَرْقَدَيْنِ وَاسْمُ أُخْتِ جَذِيمَةَ رَقَاشُ بِنْتُ مَالِكِ بْنِ فَهْمِ بْنِ غَنْمِ بْنِ دَوْسٍ ، وَهُوَ الّذِي اخْتَطَفَتْهُ الْجِنّ ، وَفِيهِ [ ص 68 ] شَبّ عَمْرٌو عَنْ الطّوْقِ . وَهُوَ قَاتِلُ الزّبّاءِ بِنْتِ عَمْرٍو وَاسْمُهَا : نَائِلَةُ فِي قَوْلِ الطّبَرِيّ وَيَعْقُوبَ بْنِ السّكّيتِ وَمَيْسُونُ فِي قَوْلِ دُرَيْدٍ وَاسْتَشْهَدَ الطّبَرِيّ بِقَوْلِ الشّاعِرِ
أَتَعْرِفُ مَنْزِلًا بَيْنَ الْمُنَقّى
وَبَيْنَ مَجَرّ نَائِلَةَ الْقَدِيم
وَقَدْ أَمْلَيْنَا فِي غَيْرِ هَذَاالْمَوْضِعِ ذِكْرَ نَسَبِهَا وَطَرَفًا مِنْ أَخْبَارِهَا . وَأَخُو عَمْرُو بْنُ هِنْدٍ : النّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ ، وَهُوَ ابْنُ مَامَةَ وَكَانَ مُلْكُهُ بَعْدَ عَمْرٍو ، وَفِي مُلْكُ عَمْرٍو وُلِدَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَفِي زَمَنِ كِسْرَى أَنُوشِرْوَانَ بْنِ قَبَاذٍ . وَأَسْقَطَ ابْنُ إسْحَاقَ مِنْ هَذَا النّسَبِ رَجُلَيْنِ وَهُمَا : النّعْمَانُ بْنُ امْرِئِ الْقَيْسِ وَأَبُوهُ امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَدِيّ . وَقَدْ قِيلَ إنّ النّعْمَانَ هَذَا هُوَ أَخُو امْرِئِ الْقَيْسِ وَمَلَكَ بَعْدَهُ وَسَيَأْتِي ذِكْرُ النّعْمَانِ بَعْدَ هَذَا عِنْدَ ذِكْرِ صَاحِبِ الْحَضْرِ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى ، وَأَنّهُ الّذِي بَنَى الْخَوَرْنَقَ وَالسّدِيرَ .

اسْتِيلَاءُ أَبِي كَرِبَ تُبّانَ أَسْعَدَ عَلَى مُلْكِ الْيَمَنِ وَغَزْوُهُ إلَى يَثْرِبَ
[ ص 68 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا هَلَكَ رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرٍ رَجَعَ مُلْكُ الْيَمَنِ كُلّهُ إلَى حَسّانِ بْنِ تُبّانَ أَسْعَدَ أَبِي كَرِبَ - وَتُبّانُ أَسْعَدُ هُوَ تُبّعٌ الْآخِرُ - ابْنُ كُلْكِي كَرِبَ بْنِ زَيْدٍ وَزَيْدٌ هُوَ تُبّعٌ [ ص 69 ] الْأَذْعَارِ بْنِ أَبْرَهَةَ ذِي الْمَنَارِ بْنِ الرّيشِ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ الرّائِشِ - قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : بْنِ عَدِيّ بْنِ صَيْفِيّ بْنِ سَبَأٍ الْأَصْغَرِ بْنِ كَعْبِ كَهْفِ الظّلْمِ بْنِ زَيْدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ عَمْرِو بْنِ قَيْسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ جُشَمَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ وَائِلِ بْنِ الْغَوْثِ ، بْنِ قَطَنِ ، بْنِ عَرِيبِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَيْمَنَ بْنِ الْهَمَيْسَعِ بْنِ العَرَنجَج ، والعَرَنْجَج : حِمْيَرُ بْنُ سَبَأٍ الْأَكْبَرِ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ قَحْطَانَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : يَشْجُبُ بْنُ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَتُبّانُ أَسْعَدَ أَبُو كَرِبَ الّذِي قَدِمَ الْمَدِينَةَ ، وَسَاقَ الْحَبْرَيْنِ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ إلَى الْيَمَنِ ، وَعَمّرَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ وَكَسَاهُ وَكَانَ مُلْكُهُ قَبْلَ مُلْكِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ . [ ص 70 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهُوَ الّذِي يُقَالُ لَهُ
لَيْتَ حَظّي مِنْ أَبِي كَرِبَ ... أَنْ يَسُدّ خَيْرُهُ خَبَلَهُ
Sقَوْمُ تُبّعٍ
فَصْلٌ وَقَوْلُهُ فِي نَسَبِ حَسّانِ بْنِ تُبّانَ أَسْعَدَ : هُوَ تُبّانُ أَسْعَدَ . اسْمَانِ جُعِلَا اسْمًا وَاحِدًا ، وَإِنْ شِئْت أَضَفْت كَمَا تُضِيفُ مَعْدِي كَرِبَ وَإِنْ شِئْت جَعَلْت الْإِعْرَابَ فِي الِاسْمِ الْآخِرِ وَتُبّانُ مِنْ التّبَانَةِ وَهِيَ الذّكَاءُ وَالْفِطْنَةُ . يُقَالُ رَجُلٌ تَبِنٌ وَطَبِنٌ . وَكُلْكِي كَرِبَ اسْمٌ مُرَكّبٌ أَيْضًا وَسَيَأْتِي مَعْنَى الْكَرِبِ فِي لُغَةِ حِمْيَرَ عِنْدَ ذِكْرِ مَعْدِي كَرِبَ - إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى - وَكَانَ مُلْكُ كُلْكِي كَرِبَ خَمْسًا وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَكَانَ مُضْعِفًا سَاقِطَ الْهِمّةِ لَمْ يَغْزُ قَطّ . وَقَوْلُهُ فِي نَسَبِ حَسّانِ ابْنِ تُبّانَ أَسْعَدَ وَتُبّانُ الْأَسْعَدُ [ هُوَ ] تُبّعٌ [ الْآخِرُ ] نَقّصَ مِنْ النّسَبِ أَسْمَاءَ كَثِيرَةً وَمُلُوكًا ؛ فَإِنّ عَمْرًا ذَا الْأَذْعَارِ كَانَ بَعْدَهُ نَاشِرُ بْنُ عَمْرٍو ، وَيُقَالُ لَهُ [ ص 69 ] يَعْفُرَ ] وَإِنّمَا قِيلَ لَهُ نَاشِرٌ لِأَنّهُ نَشَرَ الْمُلْكَ وَاسْمُهُ مَالِكٌ . مَلَكَ بَعْدَ قَتْلِ رجعيم بْنِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السّلَامُ بِالشّامِ ، وَهُوَ الّذِي انْتَهَى إلَى وَادِي الرّمْلِ ، وَمَاتَتْ فِيهِ طَائِفَةٌ مِنْ جُنْدِهِ جَرَتْ عَلَيْهِمْ الرّمَالُ وَبَعْدَهُ تُبّعٌ الْأَقْرَنُ وأفريقيس بْنُ قَيْسٍ الّذِي بَنَى إفْرِيقِيّةَ وَبِهِ سُمّيَتْ وَسَاقَ إلَيْهَا الْبَرْبَرَ مِنْ أَرْضِ كَنْعَانَ وَتُبّعُ بْنُ الْأَقْرَنِ وَهُوَ التّبّعُ الْأَوْسَطُ وَشِمْرُ بْنُ مَالِكٍ الّذِي سُمّيَتْ بِهِ مَدِينَة سَمَرْقَنْدَ ، وَمَالِكٌ هُوَ الْأُمْلُوكُ وَفِي بَنِي الْأُمْلُوكِ يَقُولُ الشّاعِرُ
فَنَقّبْ عَنْ الْأُمْلُوكِ وَاهْتِفْ بِيَعْفُرٍ ... وَعِشْ جَارَ عِزّ لَا يُغَالِبُهُ الدّهْرُ
وَقَدْ قِيلَ إنّ الْأُمْلُوكَ كَانَ عَلَى عَهْدِ منوشهر ، وَذَلِكَ فِي زَمَنِ مُوسَى - عَلَيْهِ السّلَامُ - كُلّ هَؤُلَاءِ مَذْكُورُونَ بِأَخْبَارِهِمْ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ . وَعَمْرُو ذُو الْأَذْعَارِ كَانَ عَلَى عَهْدِ سُلَيْمَانَ ، أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلِ وَكَانَ أَوْغَلَ فِي دِيَارِ الْمَغْرِبِ وَسَبَى أُمّةً وُجُوهُهَا فِي صُدُورِهَا ، فَذُعِرَ النّاسُ مِنْهُمْ فَسُمّيَ ذَا الْأَذْعَارِ وَبَعْدَهُ مَلَكَتْ بِنْتُ بِلْقِيسَ هَدَاهِدُ بْنُ شُرَحْبِيلَ صَاحِبَةُ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَاسْمُ أُمّهَا يَلْمُقهُ بِنْتُ جِنّي ، وَقِيلَ رَوَاحَةُ بِنْتُ سُكَين . قَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ . وَزَعَمَ أَيْضًا أَنّهَا قَتَلَتْ عَمْرًا ذَا الْأَذْعَارِ بِحِيلَةِ ذَكَرَهَا ، وَأَنّهُ سُمّيَ ذَا الْأَذْعَارِ لِكَثْرَةِ مَا ذُعِرَ النّاسُ مِنْهُ لِجَوْرِهِ وَأَنّهُ ابْنُ أَبْرَهَةَ ذِي الْمَنَارِ بْنِ الصّعْبِ وَهُوَ ذُو الْقَرْنَيْنِ بْنُ ذِي مَرَاثِلَ الْحِمْيَرِيّ ، وَأَبُوهُ أَبْرَهَةُ ذُو الْمَنَارِ سُمّيَ [ ص 70 ] نِيرَانًا فِي جِبَالٍ لِيَهْتَدِيَ بِهَا . وَأَمّا حَسّانُ الّذِي ذُكِرَ فَهُوَ الّذِي اسْتَبَاحَ طَسْمًا ، وَصَلَبَ الْيَمَامَةَ الزّرْقَاءَ وَذَلِكَ حِينَ اسْتَصْرَخَهُ عَلَيْهِمْ رَبَاحُ بْنُ مُرّةَ أَخُو الزّرْقَاءِ ، وَهُوَ مِنْ فَلّ جَدِيسٍ وَقَدْ تَقَدّمَ الْإِيمَاءُ إلَى خَبَرِهِمْ . وَمَعْنَى تُبّعٍ فِي لُغَةِ الْيَمَنِ : الْمَلِكُ الْمَتْبُوعُ وَقَالَ الْمَسْعُودِيّ : لَا يُقَالُ لِلْمَلَكِ تُبّعٌ حَتّى يَغْلِبَ الْيَمَنَ وَالشّحْرَ وَحَضْرَمَوْتَ . وَأَوّلُ التّبَابِعَةِ : الْحَارِثُ الرّائِشُ وَهُوَ ابْنُ هَمّالِ بْنِ ذِي شَدَدٍ وَسُمّيَ الرّائِشَ لِأَنّهُ رَاشَ النّاسَ بِمَا أَوْسَعَهُمْ مِنْ الْعَطَاءِ وَقَسَمَ فِيهِمْ مِنْ الْغَنَائِمِ وَكَانَ أَوّلَ مَنْ غَنِمَ فِيمَا ذَكَرُوا . وَأَمّا الْعَرَنْجَجُ الّذِي ذَكَرَ أَنّهُ حِمْيَرُ بْنُ سَبَأٍ ، فَمَعْنَاهُ بِالْحِمْيَرِيّةِ الْعَتِيقُ . قَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ ، وَفِي عَهْدِ زَمَنِ تُبّعِ الْأَوْسَطِ - وَهُوَ حَسّانُ بْنُ تُبّان أَسَعْدُ - كَانَ خُرُوجُ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ مِنْ الْيَمَنِ مِنْ أَجْلِ سَيْلِ الْعَرِمِ ، فِيمَا ذَكَرَ الْقُتَبِيّ . وَأَمّا عَمْرٌو أَخُو حَسّانَ الّذِي ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ قِصّتَهُ وَقَتَلَهُ لِأَخِيهِ . فَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِمَوْثَبَانَ . سُمّيَ بِذَلِكَ لِلُزُومِهِ الْوِثَابِ وَهُوَ [ السّرِيرُ ] الْفِرَاشُ وَقِلّةُ غَزْوِهِ . قَالَهُ الْقُتَبِيّ .

سَبَبُ غَضَبِ تُبّانٍ عَلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ قَدْ جَعَلَ طَرِيقَهُ - حِينَ أَقْبَلَ مِنْ الْمَشْرِقِ - عَلَى الْمَدِينَةِ ، وَكَانَ قَدْ مَرّ بِهِ فِي بَدْأَتِهِ فَلَمْ يَهِجْ أَهْلَهَا ، وَخَلّفَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ ابْنًا لَهُ فَقُتِلَ غِيلَةً فَقَدِمَهَا وَهُوَ مُجْمِعٌ لِإِخْرَابِهَا ، وَاسْتِئْصَالِ أَهْلِهَا ، وَقَطْعِ نَخْلِهَا ، فَجُمِعَ لَهُ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ ، وَرَئِيسُهُمْ عَمْرُو بْنُ طَلّةَ أَخُو بَنِي النّجّارِ ، ثُمّ أَحَدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ مَبْذُولٍ ، وَاسْمُ مَبْذُولٍ عَامِرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ ، وَاسْم النّجّارِ تَيْمُ اللّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ ، بْنِ عَمْرِو ، بْنِ الْخَزْرَجِ ، بْنِ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو ، بْنِ عَامِرٍ . [ ص 71 ] طَلّةَ وَنَسَبُهُ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : عَمْرُو ابْنُ طَلّةَ عَمْرُو بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ ، وَطَلّةُ أُمّهُ وَهِيَ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقِ ، بْنِ عَامِرِ بْنِ زُرَيْقِ بْنِ عَبْدِ حَارِثَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ غَضْب بْنِ جُشَمَ بْنِ الْخَزْرَجِ .
Sوَأَمّا مَا ذَكَرَهُ مِنْ غَزْوِ تُبّعٍ الْمَدِينَةِ ، فَقَدْ ذَكَرَ الْقُتَبِيّ أَنّهُ لَمْ يَقْصِدْ غَزَوْهَا ، وَإِنّمَا قَصَدَ قَتْلَ الْيَهُودِ الّذِينَ كَانُوا فِيهَا ، وَذَلِكَ أَنّ الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ كَانُوا نَزَلُوهَا مَعَهُمْ حِينَ خَرَجُوا مِنْ الْيَمَنِ عَلَى شُرُوطٍ وَعُهُودٍ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فَلَمْ يَفِ لَهُمْ بِذَلِكَ يَهُودُ وَاسْتَضَامُوهُمْ فَاسْتَغَاثُوا [ ص 71 ] قِيلَ بَلْ كَانَ هَذَا الْخَبَرُ لِأَبِي جُبَيْلَة الْغَسّانِيّ وَهُوَ الّذِي اسْتَصْرَخَتْهُ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ عَلَى يَهُودَ فَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَالرّجُلُ الّذِي عَدَا عَلَى عَذْقِ الْمَلِكِ وَجَدّهُ مِنْ بَنِي النّجّارِ هُوَ مَالِكُ بْنُ الْعَجْلَانِ فِيمَا قَالَ الْقُتَبِيّ ، وَلَا يَصِحّ هَذَا عِنْدِي فِي الْقِيَاسِ لِبُعْدِ عَهْدِ تُبّعٍ مِنْ مُدّةِ مَلِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ . وَخَبَرُ مَلِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ إنّمَا هُوَ مَعَ أَبِي جُبَيْلَة الْغَسّانِيّ حِينَ اسْتَصْرَخَتْ بِهِ الْأَنْصَارُ عَلَى الْيَهُودِ ، فَجَاءَ حَتّى قَتَلَ وُجُوهًا مِنْ يَهُودَ . وَأَمّا تُبّعٌ فَحَدِيثُهُ أَقْدَمُ مِنْ ذَلِكَ . يُقَالُ كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِسَبْعِمِائَةِ عَامٍ وَالصّحِيحُ فِي اسْمِ أَبِي جُبَيْلَة : جُبَيْلَة غَيْرُ مُكَنّى ، ابْنُ عَمْرِو بْنِ جَبَلة بْنِ جَفْنَةَ وَجَفْنَةُ هُوَ غَلَبَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ مَاءِ السّمَاءِ . وَجُبَيْلَةُ هُوَ جَدّ جَبَلة بْنِ الْأَيْهَمِ آخِرُ مُلُوكِ بَنِي جَفْنَةَ وَمَاتَ جُبَيْلَة الْغَسّانِيّ مِنْ عَلَقَةٍ شَرِبَهَا فِي مَاءٍ وَهُوَ مُنْصَرَفٍ عَنْ الْمَدِينَةِ . وَذَكَرَ أَنّ تُبّعًا أَرَادَ تَخْرِيبَ الْمَدِينَةِ ، وَاسْتِئْصَالَ الْيَهُودِ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ لَهُ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ سَنَةً الْمَلِكُ أَجَلّ مِنْ أَنْ يَطِيرَ بِهِ نَزَقٌ . أَوْ يَسْتَخْفِهِ غَضَبٌ وَأَمْرُهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَضِيقَ عَنّا حِلْمُهُ أَوْ نُحْرَمُ صَفْحَهُ مَعَ أَنّ هَذِهِ الْبَلْدَةَ مُهَاجَرُ نَبِيّ يُبْعَثُ بِدِينِ إبْرَاهِيمَ . وَهَذَا الْيَهُودِيّ هُوَ أَحَدُ الْحَبْرَيْنِ اللّذَيْنِ ذَكَرَ ابْن إسْحَاقَ ، قَالَ وَاسْمُ الْحَبْرَيْنِ سُحَيْتٌ وَالْآخَرُ مُنَبّهٌ . ذَكَرَ ذَلِكَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الدّلَائِلِ وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، قَالَ وَاسْمُ الْحَبْرِ الّذِي كَلّمَ الْمَلِكَ بليامين ، وَذَكَرَ أَنّ امْرَأَةً اسْمُهَا : فُكَيْهَةُ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ كَانَتْ تَحْمِلُ لَهُ الْمَاءَ مِنْ بِئْرِ رُومَةَ بَعْدَمَا قَالَ لَهُ الْحَبْرَانِ مَا قَالَا ، وَكَفّ عَنْ قِتَالِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَدَخَلُوا عَسْكَرَهُ فَأَعْطَى فُكَيْهَةَ حَتّى أَغْنَاهَا ، فَلَمْ تَزَلْ هِيَ وَعَشِيرَتُهَا مِنْ أَغْنَى الْأَنْصَارِ حَتّى [ ص 72 ] آمَنَ الْمَلِكُ بِمُحَمّدِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأُعْلِمَ بِخَبَرِهِ قَالَ
شَهِدْت عَلَى أَحْمَدَ أَنّهُ ... نَبِيّ مِنْ اللّهِ بَارِي النّسَمْ
فَلَوْ مُدّ عُمْرِي إلَى عُمْرِهِ ... لَكُنْت وَزِيرًا لَهُ وَابْنُ عَمْ
وَجَاهَدْت بِالسّيْفِ أَعْدَاءَهُ ... وَفَرّجْت عَنْ صَدْرِهِ كُلّ هَمْ
وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدّنْيَا فِي كِتَابِ الْقُبُورِ وَذَكَرَهُ أَيْضًا أَبُو إسْحَاقَ الزّجّاجُ فِي كِتَابِ الْمَغَازِي لَهُ أَنّ قَبْرًا حُفِرَ بِصَنْعَاءَ فَوُجِدَ فِيهِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا لَوْحٌ مِنْ فِضّةٍ مَكْتُوبٌ بِالذّهَبِ وَفِيهِ هَذَا قَبْرُ لَمِيسَ وَحُبّى ابْنَتَيْ تُبّعٍ مَاتَا ، وَهُمَا تَشْهَدَانِ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيك لَهُ وَعَلَى ذَلِكَ مَاتَ الصّالِحُونَ قَبْلَهُمَا ، وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَا أَدْرِي أَتُبّعٌ لَعِينٌ أَمْ لَا وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنّهُ قَالَ لَا تَسُبّوا تُبّعًا ؛ فَإِنّهُ كَانَ مُؤْمِنًا فَإِنْ صَحّ هَذَا الْحَدِيثُ الْأَخِيرُ فَإِنّمَا هُوَ بَعْدَمَا أُعْلِمَ بِحَالِهِ وَلَا نَدْرِي : أَيّ التّبَايِعَةِ أَرَادَ غَيْرَ أَنّ فِي حَدِيثِ مَعْمَرٍ عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لَا تَسُبّوا أَسْعَدَ الْحِمْيَرِيّ ، فَإِنّهُ أَوّلُ مَنْ كَسَا الْكَعْبَةَ فَهَذَا أَصَحّ مِنْ الْحَدِيثِ الْأَوّلِ وَأَبْيَنُ حَيْثُ ذَكَرَ فِيهِ أَسَعْدَ . وَتُبّانُ أَسْعَدُ الّذِي تَقَدّمَ ذِكْرُهُ وَقَدْ كَانَ تُبّعٌ الْأَوّلُ مُؤْمِنًا أَيْضًا بِالنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ الرّائِشُ وَقَدْ قَالَ شِعْرًا يُنْبِئُ فِيهِ بِمَبْعَثِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَقُولُ فِيهِ
وَيَأْتِي بَعْدَهُمْ رَجُلٌ عَظِيمٌ ... نَبِيءٌ لَا يُرَخّصُ فِي الْحَرَامِ
وَقَدْ قِيلَ أَنّهُ الْقَائِلُ
مَنَعَ الْبَقَاءَ تَصَرّفُ الشّمْسِ ... وَطُلُوعُهَا مِنْ حَيْثُ لَا تُمْسِي
الْيَوْمَ أَعْلَمُ مَا يَجِيءُ بِهِ ... وَمَضَى بِفَصْلِ قَضَائِهِ أَمْسِ
وَطُلُوعُهَا بَيْضَاءُ مُشْرِقَةٌ ... وَغُرُوبُهَا صَفْرَاءُ كَالْوَرْسِ
تَجْرِي عَلَى كَبِدِ السّمَاءِ كَمَا ... يَجْرِي حِمَامُ الْمَوْتِ فِي النّفْسِ
[ ص 73 ] قِيلَ إنّ هَذَا الشّعْرَ لِتُبّعِ الْآخَرُ [ وَقِيلَ لِأُسْقُفِ نَجْرَانَ ] ، فَاَللّهُ أَعْلَمُ وَمِنْ هَذَا أَخَذَ أَبُو تَمَامٍ قَوْلَهُ
أَلْقَى إلَى كَعْبَةِ الرّحْمَنِ أَرْحُلَهُ ... وَالشّمْسُ قَدْ نَفَضَتْ وَرْسًا عَلَى الْأُصُلِ

قِصّةُ مُقَاتَلَةِ تُبّانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 73 ] كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ النّجّارِ ، يُقَالُ لَهُ أَحْمَرُ عَدَا عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ تُبّعٍ حِينَ نَزَلَ بِهِمْ فَقَتَلَهُ وَذَلِكَ أَنّهُ وَجَدَهُ فِي عَذْقٍ لَهُ يَجُدّهُ فَضَرَبَهُ بِمِنْجَلِهِ فَقَتَلَهُ وَقَالَ إنّمَا التّمْرُ لِمَنْ أَبَرّهُ ، فَزَادَ ذَلِكَ تُبّعًا حَنَقًا عَلَيْهِمْ فَاقْتَتَلُوا ، فَتُزْعِمُ الْأَنْصَارُ أَنّهُمْ كَانُوا يُقَاتِلُونَهُ بِالنّهَارِ وَيُقِرّونَهُ بِاللّيْلِ فَيُعْجِبُهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَيَقُولُ وَاَللّهِ إنّ قَوْمَنَا لَكِرَامٌ . فَبَيْنَا تُبّعٌ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قِتَالِهِمْ إذْ جَاءَهُ حَبْرَانِ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ ، مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ - وَقُرَيْظَةُ وَالنّضِيرُ وَالنّجّامُ وَعَمْرٌو - وَهُوَ هَدْلٌ - بَنُو الْخَزْرَجِ بْنِ الصّرِيحِ بْنِ التّوْمَانِ بْنِ السّبْطِ بْنِ الْيَسَعَ بْنِ سَعْدِ بْنِ لَاوِيّ بْنِ خَيْرِ بْنِ النّجّامِ ، بْنِ تَنْحوم ، بْنِ عازَر ، بْنِ [ ص 74 ] عِزْرَى ، بْنُ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ ، بْنِ يَصْهَرُ بْنِ قَاهِث ، بْنِ لَاوِيّ بْنِ يَعْقُوبَ - وَهُوَ إسْرَائِيلُ - بْنُ إسْحَاق بْنِ إبْرَاهِيمَ خَلِيلُ الرّحْمَنِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِمْ - عَالِمَانِ رَاسِخَانِ فِي الْعِلْمِ حِينَ سَمِعَا بِمَا يُرِيدُ مِنْ إهْلَاكِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِهَا ، فَقَالَا لَهُ أَيّهَا الْمَلِكُ لَا تَفْعَلْ فَإِنّك إنْ أَبَيْت إلّا مَا تُرِيدُ حِيلَ بَيْنَك وَبَيْنَهَا ، وَلَمْ نَأْمَنْ عَلَيْك عَاجِلَ الْعُقُوبَةِ فَقَالَ لَهُمَا : وَلِمَ ذَلِكَ ؟ فَقَالَا : هِيَ مُهَاجَرُ نَبِيّ يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْحَرَمِ مِنْ قُرَيْشٍ فِي آخِرِ الزّمَانِ تَكُونُ دَارَهُ وَقَرَارَهُ فَتَنَاهَى عَنْ ذَلِكَ وَرَأَى أَنّ لَهُمَا عِلْمًا ، وَأَعْجَبَهُ مَا سَمِعَ مِنْهُمَا ، فَانْصَرَفَ عَنْ الْمَدِينَةِ ، وَأَتْبَعَهُمَا عَلَى دِينِهِمَا ، فَقَالَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ غَزِيّة بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ غَنْمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّجّارِ يَفْخَرُ بِعَمْرِو بْنِ طَلّةَ [ ص 75 ]
أَصَحَا أَمْ قَدْ نَهَى ذُكَرَه ... أَمْ قَضَى مِنْ لَذّةٍ وَطَرَهْ
أَمْ تَذَكّرْت الشّبَابَ وَمَا ... ذِكْرُك الشّبَابَ أَوْ عُصُرَهْ
إنّهَا حَرْبٌ رَبَاعِيَةٌ ... مِثْلُهَا آتَى الْفَتَى عِبَرَهْ
فَاسْأَلَا عِمْرَانَ أَوْ أَسَدًا ... إذْ أَتَتْ عَدْوًا مَعَ الزّهَرَهْ
فَيْلَقٌ فِيهَا أَبُو كَرِب ... سُبّغ أَبْدَانُهَا ذَفِرَهْ
ثُمّ قَالُوا : مِنْ نَؤُمّ بِهَا ... ابْنَيْ عَوْفٍ أُمّ النّجَره ؟
بَلْ بَنِي النّجّارُ إنّ لَنَا ... فِيهِمْ قَتْلَى ، وَإِنّ تِرَه
فَتَلَقّتْهُمْ مُسَايَفَةٌ ... مُدّهَا كالغَبْية النّثِره
فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ طَلّةَ م ... لّى الْإِلَهُ قَوْمَهُ عُمُرَهْ
سَيّدٌ سَامَى الْمُلُوكَ وَمَنْ ... رَامَ عَمْرًا لَا يَكُنْ قَدَرَهْ
[ ص 76 ] الْأَنْصَارِ يَزْعُمُونَ أَنّهُ إنّمَا كَانَ حَنَقَ تُبّعٍ عَلَى هَذَا الْحَيّ مِنْ يَهُودَ [ ص 77 ] كَانُوا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ وَإِنّمَا أَرَادَ هَلَاكَهُمْ فَمَنَعُوهُمْ مِنْهُ حَتّى انْصَرَفَ عَنْهُمْ وَلِذَلِكَ قَالَ فِي شِعْرِهِ
حَنَقًا عَلَى سِبْطَيْنِ حَلّا يَثْرِبَا ... أَوْلَى لَهُمْ بِعِقَابِ يَوْمٍ مُفْسِدِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الشّعْرُ الّذِي فِيهِ هَذَا الْبَيْتُ مَصْنُوعٌ فَذَلِكَ الّذِي مَنَعَنَا مِنْ إثْبَاتِهِ .
Sغَرِيبُ حَدِيثِ تُبّعٍ
ذَكَرَ فِيهِ فَجَدّ عَذْق الْمَلِكِ . الْعَذْقُ النّخْلَةُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَالْعِذْق بِالْكَسْرَةِ الْكِبَاسَةُ بِمَا عَلَيْهَا مِنْ التّمْرِ وَذَكَرَ فِي نَسَبِ قُرَيْظَةَ وَالنّضِيرِ عَمْرًا ، وَهُوَ هَدَلٌ بِفَتْحِ الدّالّ وَالْهَاءُ كَأَنّهُ مَصْدَرُ هَدَلَ هَدْلًا إذَا اسْتَرْخَتْ شَفَتُهُ وَذَكَرَهُ الْأَمِيرُ ابْنُ مَاكُولَا عَنْ أَبِي عَبْدَةَ النّسّابَةِ فَقَالَ فِيهِ هَدْلٌ بِسُكُونِ الدّالِ . وَذَكَرَ فِيهِ ابْنُ التّوْمَانِ عَلَى وَزْنِ فَعَلَانِ كَأَنّهُ مِنْ لَفْظِ التّوَمِ وَهُوَ الدّرّ أَوْ نَحْوُهُ . وَفِيهِ ابْنُ السّبْطِ بِكَسْرِ السّينِ وَفِيهِ ابْنُ تَنْحوم بِفَتْحِ التّاءِ وَسُكُونِ النّونِ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ عِبْرَانِيّ ، وَكَذَلِكَ عازَر ، وَعِزْرَى بِكَسْرِ الْعَيْنِ مِنْ عِزْري . وقاهث ، وَبِالتّاءِ الْمَنْقُوطَةِ بِاثْنَتَيْنِ . وَهَكَذَا وَقَعَ فِي نُسْخَةِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ . وَفِي غَيْرِهَا بِالثّاءِ الْمُثَلّثَةِ وَكُلّهَا عِبْرَانِيّةٌ . وَكَذَلِكَ إسْرَائِيلُ وَتَفْصِيلُهُ بِالْعَرَبِيّةِ سَرِيّ اللّهِ . [ ص 74 ] عَبْدِ الْعُزّى : أَصَحَا أَمْ قَدْ نَهَى ذُكَرَه . الذّكَرُ جَمْعُ ذِكْرَةٍ . كَمَا تَقُولُ بُكْرَةٌ وَبُكَر ، وَالْمُسْتَعْمَلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى ذِكْرَى بِالْأَلْفِ وَقَلّمَا يُجْمَعُ فِعْلى عَلَى فُعَل ، وَإِنّمَا يُجْمَعُ عَلَى فِعَالٍ فَإِنْ كَانَ أَرَادَ فِي هَذَا الْبَيْتِ جَمْعَ : ذِكْرَى ، وَشَبّهَ أَلِفَ التّأْنِيثِ بِهَاءِ التّأْنِيثِ فَلَهُ وَجْهٌ قَدْ يَحْمِلُونَ الشّيْءَ عَلَى الشّيْءِ إذَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ . وَقَوْلُهُ ذِكْرُك الشّبَابَ أَوْ عُصُرَهْ أَرَادَ أَوْ عُصُرَهْ . وَالْعَصْرُ وَالْعُصُر لُغَتَانِ . وَحُرّكَ الصّادَ بِالضّمّ قَالَ ابْنُ جِنّي : لَيْسَ شَيْءٌ عَلَى وَزْنِ فِعْلٍ بِسُكُونِ الْعَيْنِ يَمْتَنِعُ فِيهِ فُعُل . وَقَوْلُهُ إنّهَا حَرْبٌ رَبَاعِيَةٌ . مَثَلٌ . أَيْ لَيْسَتْ بِصَغِيرَةِ وَلَا جَذَعَةٍ . بَلْ هِيَ فَوْقَ ذَلِكَ وَضُرِبَ سِنّ الرّبَاعِيَةِ مَثَلًا ، كَمَا يُقَالُ حَرْبٌ عَوَانٌ . لِأَنّ الْعَوَانَ أَقْوَى مِنْ الْفِتْيَةِ وَأَدْرَبُ . وَقَوْلُهُ عَدْوًا مَعَ الزّهَرَهْ . يُرِيدُ صَبّحَهُمْ بِغَلَسِ قَبْلَ مَغِيبِ الزّهَرَةِ وَقَوْلُهُ أَبْدَانُهَا ذَفِرَهْ [ ص 75 ] الرّائِحَةِ طَيّبَةً كَانَتْ أَوْ كَرِيهَةً . وَأَمّا الدّفْرُ بِالدّالِ الْمُهْمَلَةِ فَإِنّمَا هُوَ فِيمَا كَرِهَ مِنْ الرّوَائِحِ وَمِنْهُ قِيلَ لِلدّنْيَا : أُمّ دَفْرٍ وَذَكَرَهُ الْقَالِيّ فِي الْأَمَالِي بِتَحْرِيكِ الْفَاءِ وَغَلِطَ فِي ذَلِكَ وَالدّفْرُ بِالسّكُونِ أَيْضًا : الدّفْعُ . وَقَوْلُهُ أَمّ النّجِرَةِ . جَمْعُ نَاجِرٍ وَالنّاجِرُ وَالنّجّارُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ وَهَذَا كَمَا قِيلَ الْمَنَاذِرَة فِي بَنِي الْمُنْذِرِ وَالنّجّارُ وَهُمْ تَيْمُ اللّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْخَزْرَجِ ، وَسُمّيَ النّجّارَ لِأَنّهُ نَجَرَ وَجْهَ رَجُلٌ بِقَدّومِ فِيمَا ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ النّسَبِ . وَقَوْلُهُ فِيهِمْ قَتْلَى وَإِنّ تِرَه . أَظَهَرَ إنّ بَعْدَ الْوَاوِ . أَرَادَ إنّ لَنَا قَتْلَى وَتِرَةٌ وَالتّرَةُ الْوِتْرُ فَأَظْهَرَ الْمُضْمَرَ وَهَذَا الْبَيْتُ شَاهِدٌ عَلَى أَنّ حُرُوفَ الْعَطْفَ يُضْمَرُ بَعْدَهَا الْعَامِلُ الْمُتَقَدّمُ نَحْوُ قَوْلِك : إنّ زَيْدًا وَعَمْرًا فِي الدّارِ فَالتّقْدِيرُ إنّ زَيْدًا ، وَإِنّ عَمْرًا فِي الدّارِ وَدَلّتْ الْوَاوُ عَلَى مَا أَرَدْت ، وَإِنْ احْتَجْت إلَى الْإِظْهَارِ أُظْهِرَتْ كَمَا فِي هَذَا الْبَيْتِ إلّا أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ الْجَامِعَةُ فِي نَحْوِ اخْتَصَمَ زَيْدٌ وَعَمْرٌو ، فَلَيْسَ ثَمّ إضْمَارٌ لِقِيَامِ الْوَاوِ مَقَامَ صِيغَةِ التّثْنِيَةِ كَأَنّك قُلْت : اخْتَصَمَ هَذَانِ وَعَلَى هَذَا تَقُولُ طَلَعَ الشّمْسُ وَالْقَمَرُ فَتُغَلّبُ الْمُذَكّرَ كَأَنّك قُلْت : طَلَعَ هَذَانِ النّيرَانِ فَإِنْ جَعَلْت الْوَاوَ هِيَ الّتِي تُضْمَرُ بَعْدَهَا الْفِعْلُ قُلْت : طَلَعَتْ الشّمْسُ وَالْقَمَرُ وَتَقُولُ فِي نَفْيِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى : مَا طَلَعَ الشّمْسُ وَالْقَمَرُ وَنَفْيِ الْمَسْأَلَةِ الثّانِيَةِ مَا طَلَعَتْ الشّمْسُ وَلَا الْقَمَرُ تُعِيدُ حَرْفَ النّفْيِ . لِيَنْتَفِيَ بِهِ الْفِعْلُ الْمُضْمَرُ . وَيَتَفَرّعُ مِنْ هَذَا الْأَصْلِ فِي النّحْوِ مَسَائِلُ كَثِيرَةٌ لَا نُطَوّلُ بِذِكْرِهَا . وَقَوْلُهُ فَتَلَقّتْهُمْ مُسَايِفَةٌ بِكَسْرِ الْيَاءِ أَيْ كَتِيبَةٌ مُسَايِفَةٌ . وَلَوْ فَتَحْت الْيَاءَ فَقُلْت : مُسَايَفَةٌ لَكَانَ حَالًا مِنْ الْمَصْدَرِ الّتِي تَكُونُ أَحْوَالًا مِثْلَ كَلّمْته مُشَافَهَةً وَلَعَلّ هَذِهِ الْحَالُ أَنْ يَكُونَ لَهَا ذِكْرٌ فِي الْكِتَابِ فَنَكْشِفُ عَنْ سِرّهَا ، وَنُبَيّنُ مَا خَفِيَ عَلَى النّاسِ مِنْ أَمْرِهَا ، وَفِي غَيْرِ نُسْخَةٍ الشّيْخُ فَتَلَقّتْهُمْ مُسَابَقَةً بِالْبَاءِ وَالْقَافِ . وَالْغَبْيَةُ الدّفْعَةُ مِنْ الْمَطَرِ . وَقَوْلُهُ النّثِرَةِ أَيْ الْمُنْتَثِرَةِ وَهِيَ الّتِي لَا تُمْسِكُ مَاءً . وَقَوْلُهُ [ مَلّى ] الْإِلَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ [ ص 76 ] قَالَ ابْنُ أَحْمَرَ
أَلَا يَا دِيَارَ الْحَيّ بِالسّبُعَانِ ... أَمَلّ عَلَيْهَا بِالْبِلَى الْمَلَوَانِ
أَلَا يَا دِيَارَ الْحَيّ لَا هَجْرَ بَيْنَنَا ... وَلَا كُنّ رَوْعَاتٍ مِنْ الْحَدَثَانِ
نَهَارٌ وَلَيْلٌ دَائِبٌ مَلَوَاهُمَا ... عَلَى كُلّ حَالِ النّاسِ يَخْتَلِفَانِ
مَعْنَى قَوْلِ الشّاعِرِ دَائِبٌ مَلَوَاهُمَا . وَالْمَلَوَانِ اللّيْلُ وَالنّهَارُ . وَهُوَ مُشْكِلٌ لِأَنّ الشّيْءَ لَا يُضَافُ إلَى نَفْسِهِ . لَكِنّهُ جَازَ هَهُنَا لِأَنّ الْمَلَا هُوَ الْمُتّسَعُ مِنْ الزّمَانِ وَالْمَكَانِ وَسُمّيَ اللّيْلُ وَالنّهَارُ مَلَوَيْنِ لِانْفِسَاحِهِمَا ، فَكَأَنّهُ وَصْفٌ لَهُمَا ، لَا عِبَارَةَ عَنْ ذَاتَيْهِمَا ؛ وَلِذَلِكَ جَازَتْ إضَافَتُهُ إلَيْهَا ، فَقَالَ دَائِبٌ مَلَوَاهُمَا أَيْ مُدّاهُمَا وَانْفِسَاحُهُمَا . وَقَدْ رَأَيْت مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَيْتِ بِعَيْنِهِ لِأَبِي عَلِيّ الفسوري فِي بَعْضِ مَسَائِلِهِ الشّيرَازِيّةِ . وَقَوْلُهُ لَا يَكُنْ قَدَرُهُ . دُعَاءُ عَلَيْهِ وَالْهَاءُ عَائِدَةٌ عَلَى عَمْرٍو . أَرَادَ لَا يَكُنْ قَدَرٌ عَلَيْهِ . وَحُذِفَ حَرْفُ الْجَرّ فَتَعَدّى الْفِعْلُ فَنَصَبَ وَلَا يَجُوزُ حَذْفُ حَرْفِ الْجَرّ فِي كُلّ فِعْلٍ وَإِنّمَا جَازَ فِي هَذَا ، لِأَنّهُ فِي مَعْنَى : اسْتَطَاعَهُ أَوْ أَطَاعَهُ فَحَمَلَ عَلَى مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ وَنَظَائِرُهُ كَثِيرَةٌ وَالْبَيْتُ الّذِي أَنْشَدَهُ
لَيْتَ حَظّي مِنْ أَبِي كَرِب ... أَنْ يَسُدّ خَيْرُهُ خَبَلَهْ
قَالَ الْبَرْقِيّ : نُسِبَ هَذَا الْبَيْتُ إلَى الْأَعْشَى ، وَلَمْ يَصِحّ قَالَ وَإِنّمَا هُوَ لِعَجُوزِ مِنْ بَنِي سَالِمٍ . أَحَبّهُ قَالَ فِي اسْمِهَا : جَمِيلَةُ قَالَتْهُ حِينَ جَاءَ مَالِكُ بْنُ الْعَجْلَانِ بِخَبَرِ تُبّعٍ ، فَدَخَلَ سِرّا ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ قَدْ جَاءَ تُبّعٌ ، فَقَالَتْ الْعَجُوزُ الْبَيْتَ . وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ تُبّعٍ : وَقَوْمٌ يَزْعُمُونَ أَنّ حَنَقَهُ إنّمَا كَانَ عَلَى هَذَيْنِ السّبْطَيْنِ مِنْ يَهُودَ يُقَوّي مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلَ هَذَا عَنْهُ . [ ص 77 ] زَعَمَ ابْنُ هِشَامٍ أَنّهُ مَصْنُوعٌ قَدْ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ التّيجَانِ وَهُوَ قَصِيدٌ مُطَوّلٌ أَوّلُهُ
مَا بَالُ عَيْنِك لَا تَنَامُ كَأَنّمَا ... كُحِلَتْ مَآقِيُهَا بِسُمّ الْأَسْوَدِ
حَنَقًا عَلَى سِبْطَيْنِ حَلّا يَثْرِبَا ... أَوْلَى لَهُمْ بِعِقَابِ يَوْمٍ مُفْسِدِ
وَذَكَرَ فِي الْقَصِيدَةِ ذَا الْقَرْنَيْنِ وَهُوَ الصّعْبُ بْنُ ذِي مَرَاثِدَ فَقَالَ فِيهِ
وَلَقَدْ أَذَلّ الصّعْبُ صَعْبَ زَمَانِهِ ... وَأَنَاطَ عُرْوَةَ عِزّهُ بِالْفَرْقَدِ
لَمْ يَدْفَعْ الْمَقْدُورَ عَنْهُ قُوّةً ... عِنْدَ الْمَنُونِ وَلَا سُمُوّ الْمَحْتِدِ
وَالصّنْعَةُ بَادِيَةٌ فِي هَذَا الْبَيْتِ وَفِي أَكْثَرِ شِعْرِهِ وَفِيهِ يَقُولُ
فَأَتَى مَغَارَ الشّمْسِ عِنْدَ غُرُوبِهَا ... فِي عَيْنِ ذِي خُلُبٍ وَثَأْطَ حَرْمَدِ
وَالْخُلُبُ الطّينُ وَالثّأَطُ الْحَرْمَدُ وَهُوَ الْحَمَأُ الْأَسْوَدُ وَرَوَى نَقَلَةُ الْأَخْبَارِ أَنّ تُبّعًا لَمّا عَمِدَ إلَى الْبَيْتِ يُرِيدُ إخْرَابَهُ رُمِيَ بِدَاءِ تَمَخّضَ مِنْهُ رَأْسُهُ قَيْحًا وَصَدِيدًا يَثُجّ ثَجّا ، وَأَنْتَنَ حَتّى لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَدْنُوَ مِنْهُ قَيْدَ الرّمْحِ وَقِيلَ بَلْ أُرْسِلَتْ عَلَيْهِ رِيحٌ كَتّعَتْ مِنْهُ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَأَصَابَتْهُمْ ظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ حَتّى دَفّتْ خَيْلُهُمْ فَسُمّيَ ذَلِكَ الْمَكَانُ الدّفّ فَدَعَا بِالْحُزَاةِ وَالْأَطِبّاءِ فَسَأَلَهُمْ عَنْ دَائِهِ فَهَالَهُمْ مَا رَأَوْا مِنْهُ وَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُمْ فَرَجًا . فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالَ لَهُ الْحَبْرَانِ : لَعَلّك هَمَمْت بِشَيْءِ فِي أَمْرِ هَذَا الْبَيْتِ فَقَالَ نَعَمْ أَرَدْت هَدْمَهُ . فَقَالَا لَهُ تُبْ إلَى اللّهِ مِمّا نَوَيْت فَإِنّهُ بَيْتُ اللّهِ وَحَرَمُهُ وَأَمَرَاهُ بِتَعْظِيمِ حُرْمَتِهِ فَفَعَلَ فَبَرِئَ مِنْ دَائِهِ وَصَحّ مِنْ وَجَعِهِ . وَأَخْلِقْ بِهَذَا الْخَبَرِ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا فَإِنّ اللّهَ - سُبْحَانَهُ - يَقُولُ { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الْحَجّ : 25 ] . أَيْ وَمَنْ يُسْهِمُ فِيهِ بِظُلْمِ . وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِظُلْمِ تَدُلّ عَلَى صِحّةِ الْمَعْنَى ، وَأَنّ مَنْ هَمّ فِيهِ بِالظّلْمِ - وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ - عُذّبَ تَشْدِيدًا فِي حَقّهِ وَتَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهِ وَكَمَا فَعَلَ اللّهُ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَهْلَكَهُمْ قَبْلَ الْوُصُولِ إلَيْهِ .

تُبّعٌ يَعْتَنِقُ النّصْرَانِيّةَ وَيَدْعُو قَوْمَهُ إلَيْهَا
[ ص 78 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ تُبّعٌ وَقَوْمُهُ أَصْحَابُ أَوْثَانٍ يَعْبُدُونَهَا ، فَتَوَجّهَ إلَى مَكّةَ ، وَهِيَ طَرِيقُهُ إلَى الْيَمَنِ ، حَتّى إذَا كَانَ بَيْنَ عُسْفان ، وَأَمَجَ ، أَتَاهُ نَفَرٌ مِنْ هُذَيل بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدّ ، فَقَالُوا لَهُ أَيّهَا الْمَلِكُ أَلَا نَدُلّك عَلَى بَيْتِ مَالٍ دَائِرٍ أَغَفَلَتْهُ الْمُلُوكُ قَبْلَك ، فِيهِ اللّؤْلُؤُ وَالزّبَرْجَدُ وَالْيَاقُوتُ وَالذّهَبُ وَالْفِضّةُ ؟ قَالَ بَلَى ، قَالُوا : بَيْتُ بِمَكّةَ يَعْبُدُهُ أَهْلُهُ وَيُصَلّونَ عِنْدَهُ . وَإِنّمَا أَرَادَ الُهُذَلِيّونَ هَلَاكَهُ بِذَلِكَ لَمّا عَرَفُوا مِنْ هَلَاكِ مَنْ أَرَادَهُ مِنْ الْمُلُوكِ وَبَغَى عِنْدَهُ . فَلِمَا أَجْمَعَ لِمَا قَالُوا ، أَرْسَلَ إلَى الْحَبْرَيْنِ فَسَأَلَهُمَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَا لَهُ مَا أَرَادَ الْقَوْمُ إلّا هَلَاكَك وَهَلَاكَ جُنْدَك . مَا نَعْلَمُ بَيْتًا لِلّهِ اتّخَذَهُ فِي الْأَرْضِ لِنَفْسِهِ غَيْرَهُ وَلَئِنْ فَعَلْت مَا دَعَوْك إلَيْهِ لَتَهْلِكَنّ وَلَيَهْلِكَنّ مَنْ مَعَك جَمِيعًا ، قَالَ فَمَاذَا تَأْمُرَانِنِي أَنْ أَصْنَعَ إذَا أَنَا قَدِمْت عَلَيْهِ ؟ قَالَا : تَصْنَعُ عِنْدَهُ مَا يَصْنَعُ أَهْلُهُ تَطُوفُ بِهِ وَتُعَظّمُهُ وَتُكْرِمُهُ وَتَحْلِقُ رَأْسَك عِنْدَهُ وَتَذِلّ لَهُ حَتّى تَخْرَجَ مِنْ عِنْدِهِ قَالَ فَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْتُمَا مِنْ ذَلِكَ ؟ قَالَا : أَمَا وَاَللّهِ إنّهُ لَبَيْتُ أَبِينَا إبْرَاهِيمَ وَإِنّهُ لَكُمَا أَخْبَرْنَاك ، وَلَكِنْ أَهْلُهُ حَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ بِالْأَوْثَانِ الّتِي نَصَبُوهَا حَوْلَهُ وَبِالدّمَاءِ الّتِي يُهْرِيقُونَ عِنْدَهُ وَهُمْ نَجَسٌ أَهْلُ شِرْكٍ - أَوْ كَمَا قَالَا لَهُ - فَعَرَفَ نُصْحَهُمَا وَصَدّقَ حَدِيثَهُمَا فَقَرّبَ النّفَرَ مِنْ هُذَيل ، فَقَطّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ ثُمّ مَضَى حَتّى قَدِمَ مَكّةَ ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَنَحَرَ عِنْدَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ وَأَقَامَ بِمَكّةَ سِتّةَ أَيّامٍ - فِيمَا يَذْكُرُونَ - يَنْحَرُ بِهَا لِلنّاسِ وَيُطْعِمُ أَهْلَهَا ، وَيَسْقِيهِمْ الْعَسَلَ وَأُرِيَ فِي الْمَنَامِ أَنْ يَكْسُوَ الْبَيْتَ فَكَسَاهُ الْخَصَفَ ثُمّ أُرِي أَنْ يَكْسُوهُ أَحْسَنَ مِنْ ذَلِكَ فَكَسَاهُ الْمَعَافِرَ ثُمّ أُرِي أَنْ يَكْسُوَهُ أَحْسَنَ مِنْ ذَلِكَ فَكَسَاهُ الْمُلَاءَ وَالْوَصَائِلَ فَكَانَ تُبّعٌ - فِيمَا يَزْعُمُونَ - أَوّلَ مَنْ كَسَا الْبَيْتَ وَأَوْصَى بِهِ وُلَاتُهُ مِنْ جُرْهُمٍ ، وَأَمَرَهُمْ بِتَطْهِيرِهِ وَأَلّا يُقَرّبُوهُ دَمًا ، وَلَا مَيْتَةً وَلَا [ ص 79 ] مِئْلَاتٍ وَهِيَ الْمَحَايِضُ وَجَعَلَ لَهُ بَابًا وَمِفْتَاحًا ، وَقَالَتْ سُبَيعة بِنْتُ الْأَحَبّ بْنِ زَبِينة ، بْنِ جَذِيمَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ ، بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصَفَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ وَكَانَتْ عِنْدَ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ كَعْبِ ، بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّضْرِ ، بْنِ كِنَانَةَ لِابْنِ لَهَا مِنْهُ يُقَالُ لَهُ خَالِدٌ تُعُظّمَ عَلَيْهِ حُرْمَةُ مَكّةَ ، وَتَنْهَاهُ عَنْ الْبَغْيِ فِيهَا ، وَتَذْكُرُ تُبّعًا وَتُذَلّلُهُ لَهَا ، وَمَا صَنَعَ بِهَا :
أَبُنَيّ لَا تَظْلِمْ بِمَكّةَ لَاالصّغِيرَ وَلَا الْكَبِيرَ ... وَاحْفَظْ مَحَارِمَهَا بُنَيّ وَلَا يَغُرّنّكَ الْغَرُورْ
أَبُنَيّ مَنْ يَظْلِمْ بِمَكّةَ يَلْقَ أَطْرَافَ الشّرُورْ ... أَبُنَيّ يُضْرَبْ وَجْهُهُ وَيَلُحْ بِخَدّيْهِ السّعيرْ
أَبُنَيّ قَدْ جَرّبْتهَا فَوَجَدْت ظَالِمَهَا يَبُورْ ... اللّهُ أَمّنَهَا ، وَمَا بُنِيَتْ بِعَرْصَتِهَا قُصورْ
وَلَقَدْ غَزَاهَا تُبّعٌ فَكَسَا بَنِيّتَهَا الْحَبِيرْ ... وَأَذَلّ رَبّي مُلْكَهُ فِيهَا فَأَوْفَى بالنّذُورْ
يَمْشِي إلَيْهَا - حَافِيًا بِفِنَائِهَا - أَلْفَا بَعِيرْ ... يَسْقِيهِمْ الْعَسَلَ الْمُصَفّى وَالرّحِيضَ مِنْ الشّعِيرْ
وَالْفِيلُ أَهْلَكَ جَيْشَهُ يُرْمُونَ فِيهَا بِالصّخُورْ ... وَالْمُلْكُ فِي أَقْصَى الْبِلَادِ وَفِي الْأَعَاجِمِ وَالْخَزِيرْ
فَاسْمَعْ إذَا حُدّثْت ، وَافْهَمْ كَيْفَ عَاقِبَةُ الْأُمُورْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : يُوقَفُ عَلَى قَوَافِيهَا لَا تُعْرَبُ .
S[ ص 78 ] فَكَسَا الْبَيْتَ الْخَصَفَ . جَمَعَ : خَصَفَةً وَهِيَ شَيْءٌ يُنْسَجُ مِنْ الْخَوْصِ وَاللّيفِ وَالْخَصَفُ أَيْضًا : ثِيَابٌ غُلَاظٌ . وَالْخَصَفُ لُغَةٌ فِي الْخَزَفِ فِي كِتَابِ الْعَيْنِ . وَالْخُصْفُ بِضَمّ الْخَاءِ وَسُكُونِ الصّاد هُوَ الْجَوْزُ . وَيُرْوَى أَنّ تُبّعًا لَمّا كَسَا الْبَيْتَ الْمُسُوحَ وَالْأَنْطَاعَ . انْتَفَضَ الْبَيْتَ فَزَالَ ذَلِكَ عَنْهُ وَفَعَلَ ذَلِكَ حِينَ كَسَاهُ الْخَصَفَ فَلَمّا كَسَاهُ الْمُلَاءَ وَالْوَصَائِلَ قَبْلَهَا . وَمِمّنْ ذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ : قَاسِمٌ فِي الدّلَائِلِ . وَأَمّا الْوَصَائِلُ فَثِيَابٌ مُوَصّلَةٌ مِنْ ثِيَابِ الْيَمَنِ . وَاحِدَتُهَا : وَصِيلَةٌ . وَقَوْلُهُ وَلَا تَقْرَبُوهُ بِمِئْلَاتٍ وَهِيَ الْمَحَائِضُ . لَمْ يُرِدْ النّسَاءَ الْحُيّضَ لِأَنّ حَائِضًا لَا [ ص 79 ] مَحَائِضٍ وَإِنّمَا هِيَ جَمْعُ مَحِيضَة ، وَهِيَ خِرْقَةُ الْمَحِيضِ وَيُقَالُ لِلْخِرْقَةِ أَيْضًا : مِئْلَاةٌ وَجَمْعُهَا : الْمَآلِي قَالَ الشّاعِرُ
كَأَنّ مُصَفّحَاتٍ فِي ذُرَاهُ ... وَأَنْوَاحًا عَلَيْهِنّ الْمَآلِي
[ ص 80 ] النّوّاحَاتُ بِأَيْدِيهِنّ فَكَانَ الْمِئْلَاتُ كُلّ خِرْقَةٍ دَنِسَةٍ لِحَيْضِ كَانَتْ أَوْ لِغَيْرِهِ وَزْنُهَا مِفْعَلَة مِنْ أَلَوْت : إذَا قَصّرْت وَضَيّعْت ، وَجَعَلَهَا صَاحِبُ الْعَيْنِ فِي بَابِ الْإِلْيَةِ وَالْأَلِيّةِ فَلَامُ الْفِعْلِ عِنْدَهُ يَاءٌ عَلَى هَذَا ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ وَيُرْوَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مِئْلَاثًا بِثَاءِ مُثَلّثَةٍ وَمِنْ قَوْلِهِ حِينَ كَسَا الْبَيْتَ
وَكَسَوْنَا الْبَيْتَ الّذِي حَرّمَ اللّهُ ... مُلَاءً مُعَضّدًا وَبُرُودَا
فَأَقَمْنَا بِهِ مِنْ الشّهْرِ عَشْرًا ... وَجَعَلْنَا لُبَابَهُ إقْلِيدًا
وَنَحَرْنَا بِالشّعْبِ سِتّةَ أَلْفٍ ... فَتَرَى النّاسَ نَحْوَهُنّ وُرُودَا
ثُمّ سِرْنَا عَنْهُ نَؤُمّ سُهَيْلًا ... فَرَفَعْنَا لِوَاءَنَا مَعْقُودَا
وَقَالَ الْقُتَبِيّ ، كَانَتْ قِصّةُ تُبّعٍ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِسَبْعِمِائَةِ عَامٍ . وَقَوْلُهُ بِنْت الْأَحَبّ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ابْنُ زَبِينَةَ بِالزّايِ وَالْبَاءِ وَالنّونِ فَعِيلَة مِنْ [ ص 81 ] زَبَانِيّ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ . وَلَوْ سُمّيَ بِهِ رَجُلٌ لَقِيلَ فِي النّسَبِ إلَيْهِ . زَبْنِيّ عَلَى الْقِيَاسِ . قَالَ سِيبَوَيْهِ : الْأَحَبّ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ . يَقُولُهُ أَهْلُ النّسَبِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ يَقُولُهُ بِالْجِيمِ وَإِنّمَا قَالَتْ بِنْتُ الْأَحَبّ هَذَا الشّعْرَ فِي حَرْبٍ كَانَتْ بَيْنَ بَنِي السّبّاقِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ ، وَبَيْنَ بَنِي عَلِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَمِيمٍ حَتّى تَفَانَوْا . وَلَحِقَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي السّبّاقِ بِعَكّ . فَهُمْ فِيهِمْ . قَالَ وَهُوَ أَوّلُ بَغْيٍ كَانَ فِي قُرَيْشٍ . وَقَدْ قِيلَ أَوّلُ بَغْيٍ كَانَ فِي قُرَيْشٍ بَغْيُ الْأَقَايِشِ وَهُمْ بَنُو أُقَيْشٍ مِنْ بَنِي سَهْمٍ بَغَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَلَمّا كَثُرَ بَغْيُهُمْ عَلَى النّاسِ أَرْسَلَ اللّهُ عَلَيْهِمْ فَأْرَةً تَحْمِلُ فَتِيلَةً فَأَخْرَقَتْ الدّارَ الّتِي كَانَتْ فِيهَا مَسَاكِنُهُمْ فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ عَقِبٌ .
كِسْوَةُ الْكَعْبَةِ
وَقَوْلُهَا : وَكَسَا بَنِيّتَهَا الْحَبِيرُ . تُرِيدُ الْحَبِرَاتِ وَالرّحِيضُ مِنْ الشّعِيرِ أَيْ الْمُنَقّى وَالْمُصَفّى مِنْهُ وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَوّلُ مَنْ كَسَا الْكَعْبَةَ الدّيبَاجَ الْحَجّاجُ وَذَكَرَ جَمَاعَةً سِوَاهُ مِنْهُمْ الدّارَقُطْنِيّ . فُتَيْلَةُ بِنْتُ جَنَابٍ أُمّ الْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ . كَانَتْ قَدْ أَضَلّتْ الْعَبّاسَ صَغِيرًا ، فَنَزَرَتْ إنْ وَجَدَتْهُ أَنْ تَكْسُو الْكَعْبَةَ الدّيبَاجَ فَفَعَلَتْ ذَلِكَ حِينَ وَجَدَتْهُ . وَكَانَتْ مِنْ بَيْتِ مَمْلَكَةٍ وَسَيَأْتِي ذِكْرُ نَسَبِهَا فِيمَا بَعْدُ - إنْ شَاءَ اللّهُ . وَقَالَ الزّبَيْرُ النّسّابَةُ بَلْ أَوّلُ مَنْ كَسَاهَا الدّيبَاجَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الزّبَيْرِ .

أَصْلُ الْيَهُودِيّةِ بِالْيَمَنِ
[ ص 80 ] خَرَجَ مِنْهَا مُتَوَجّهًا إلَى الْيَمَنِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ جُنُودِهِ وَبِالْحَبْرَيْنِ حَتّى إذَا دَخَلَ الْيَمَنَ دَعَا قَوْمَهُ إلَى الدّخُولِ فِيمَا دَخَلَ فِيهِ فَأَبَوْا عَلَيْهِ حَتّى يُحَاكِمُوهُ إلَى النّارِ الّتِي كَانَتْ بِالْيَمَنِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي أَبُو مَالِكِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ أَبِي مَالِكٍ القُرظِيّ قَالَ سَمِعْت إبْرَاهِيمَ بْنَ مُحَمّدِ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ يُحَدّثُ أَنّ تُبّعًا لَمّا دَنَا مِنْ الْيَمَنِ لِيَدْخُلَهَا حَالَتْ حِمْيَرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ وَقَالُوا : لَا تَدْخُلْهَا عَلَيْنَا ، وَقَدْ فَارَقْت دِينَنَا ، فَدَعَاهُمْ إلَى دِينِهِ وَقَالَ إنّهُ خَيْرٌ مِنْ دِينِكُمْ فَقَالُوا : فَحَاكَمَنَا إلَى النّارِ . قَالَ نَعَمْ . قَالَ وَكَانَتْ بِالْيَمَنِ - فِيمَا يَزْعُمُ أَهْلُ الْيَمَنِ - نَارٌ تَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ تَأْكُلُ الظّالِمَ وَلَا تَضُرّ الْمَظْلُومَ فَخَرَجَ قَوْمُهُ بِأَوْثَانِهِمْ وَمَا يَتَقَرّبُونَ بِهِ فِي دِينِهِمْ وَخَرَجَ الْحَبْرَانِ بِمَصَاحِفِهِمَا فِي أَعْنَاقِهِمَا مُتَقَلّدِيهَا ، حَتّى قَعَدُوا لِلنّارِ عِنْدَ مَخْرَجِهَا الّذِي تَخْرَجُ مِنْهُ فَخَرَجَتْ النّارُ إلَيْهِمْ فَلَمّا أَقْبَلَتْ نَحْوَهُمْ حَادُوا عَنْهَا وَهَابُوهَا ، فذَمَرهم مَنْ حَضَرَهُمْ مِنْ النّاسِ وَأَمَرُوهُمْ بِالصّبْرِ لَهَا ، فَصَبَرُوا حَتّى غَشِيَتْهُمْ فَأَكَلَتْ الْأَوْثَانَ وَمَا قَرّبُوا مَعَهَا ، وَمَنْ حَمَلَ ذَلِكَ مِنْ [ ص 81 ] حِمْيَرَ ، وَخَرَجَ الْحَبْرَانِ بِمَصَاحِفِهِمَا فِي أَعْنَاقِهِمَا تَعْرَقُ جِبَاهُهُمَا لَمْ تَضُرّهُمَا ، فَأَصْفَقَتْ عِنْدَ ذَاكَ حِمْيَرُ عَلَى دِينِهِ فَمِنْ هُنَالِكَ وَعَنْ ذَلِكَ كَانَ أَصْلُ الْيَهُودِيّةِ بِالْيَمَنِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ حَدّثَنِي مُحَدّثٌ أَنّ الْحَبْرَيْنِ وَمَنْ خَرَجَ مِنْ حِمْيَرَ ، إنّمَا اتّبَعُوا النّارَ لِيَرُدّوهَا ، وَقَالُوا : مَنْ رَدّهَا فَهُوَ أَوْلَى بِالْحَقّ ، فَدَنَا مِنْهَا رِجَالٌ مِنْ حِمْيَرَ بِأَوْثَانِهِمْ لِيَرُدّوهَا فَدَنَتْ مِنْهُمْ لِتَأْكُلَهُمْ فَحَادُوا عَنْهَا وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا رَدّهَا ، وَدَنَا مِنْهَا الْحَبْرَانِ بَعْدَ ذَلِكَ وَجَعَلَا يَتْلُوَانِ التّوْرَاةَ وَتَنْكُصُ عَنْهُمَا ، حَتّى رَدّاهَا إلَى مَخْرَجِهَا الّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ فَأَصْفَقَتْ عِنْدَ ذَلِكَ حِمْيَرُ عَلَى دِينِهِمَا . وَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كان .

مَصِيرُ رِئَامٍ
[ ص 82 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رِئَامٌ بَيْتًا لَهُمْ يُعَظّمُونَهُ وَيَنْحَرُونَ عِنْدَهُ وَيُكَلّمُونَ مِنْهُ إذْ كَانُوا عَلَى شِرْكِهِمْ فَقَالَ الْحَبْرَانِ لِتُبّعِ إنّمَا هُوَ شَيْطَانٌ يَفْتِنُهُمْ بِذَلِكَ فَخَلّ بَيْننَا وَبَيْنه ، قَالَ فَشَأْنُكُمَا بِهِ فَاسْتَخْرَجَا مِنْهُ - فِيمَا يَزْعُمُ أَهْلُ الْيَمَنِ - كَلْبًا أَسْوَدَ فَذَبَحَاهُ ثُمّ هَدَمَا ذَلِكَ الْبَيْتَ فَبَقَايَاهُ الْيَوْمَ - كَمَا ذُكِرَ لِي - بِهَا آثَارُ الدّمَاءِ الّتِي كَانَتْ تُهْرَاق عَلَيْهِ .
Sرِئَامٌ
[ ص 82 ] وَذَكَرَ الْبَيْتَ الّذِي كَانَ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ رِئَامٌ ، وَهُوَ فِعَالٌ مِنْ رَئِمَتْ الْأُنْثَى وَلَدَهَا تَرْأَمهُ رِئْمًا وَرِئَامًا : إذَا عَطَفَتْ عَلَيْهِ وَرَحِمَتْهُ . فَاشْتَقّوا لِهَذَا الْبَيْتِ اسْمًا لِمَوْضِعِ الرّحْمَةِ الّتِي كَانُوا يَلْتَمِسُونَ فِي عِبَادَتِهِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ رِئَامًا كَانَ فِيهِ شَيْطَانٌ وَكَانُوا يَمْلَئُونَ لَهُ حِيَاضًا مِنْ دِمَاءِ الْقُرْبَانِ فَيَخْرَجُ فَيُصِيبُ مِنْهَا ، وَيُكَلّمُهُمْ وَكَانُوا يَعْبُدُونَهُ فَلَمّا جَاءَ الْحَبْرَانِ مَعَ تُبّعٍ نَشَرَا التّوْرَاةَ عِنْدَهُ وَجَعَلَا يَقْرَآنِهَا ؛ فَطَارَ ذَلِكَ الشّيْطَانُ حَتّى وَقَعَ فِي الْبَحْرِ .

مُلْكُ حَسّانَ بْنِ تُبّانٍ وَقَتْلُ عَمْرٍو أَخِيهِ لَهُ
فَلَمّا مَلَكَ ابْنُهُ حَسّانُ بْنُ تُبّانَ أَسَعْدَ أَبِي كَرِب ، سَارَ بِأَهْلِ الْيَمَنِ ، يُرِيدُ أَنْ يَطَأَ بِهِ أَرْضَ الْعَرَبِ ، وَأَرْضَ الْأَعَاجِمِ ، حَتّى إذَا كَانُوا بِبَعْضِ أَرْضِ الْعِرَاقِ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : بِالْبَحْرَيْنِ ، فِيمَا ذَكَر لِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ - كَرِهَتْ حِمْيَرُ وَقَبَائِلُ الْيَمَنِ الْمَسِيرَ مَعَهُ وَأَرَادُوا الرّجْعَةَ إلَى بِلَادِهِمْ وَأَهْلِهِمْ فَكَلّمُوا أَخًا لَهُ يُقَالُ لَهُ عَمْرٌو ، وَكَانَ مَعَهُ فِي جَيْشِهِ فَقَالُوا لَهُ اُقْتُلْ أَخَاك حَسّانَ وَنُمَلّك عَلَيْنَا ، وَتَرْجِعُ بِنَا إلَى بِلَادِنَا ، فَأَجَابَهُمْ فَاجْتَمَعْت عَلَى ذَلِكَ إلّا ذَا رُعَيْن الْحِمْيَرِيّ ، فَإِنّهُ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَلَمْ يَقْبَل مِنْهُ . فَقَالَ ذُو رَعَيْنَ [ ص 83 ]
أَلَا مَنْ يَشْتَرِي سَهَرًا بِنَوْمِ ... سَعِيدٌ مَنْ يَبِيت قَرِيرَ عَيْنٍ
فَإِمّا حِميَرٌ غَدَرَتْ وَخَانَتْ ... فَمَعْذِرَةُ الْإِلَهِ لِذِي رُعَيْن
ثُمّ كَتَبَهُمَا فِي رُقْعَةٍ وَخَتَمَ عَلَيْهَا ، ثُمّ أَتَى بِهِمَا عَمْرًا ، فَقَالَ لَهُ ضَعْ لِي هَذَا الْكِتَابَ عِنْدَك ، فَفَعَلَ ثُمّ قَتَلَ عَمْرٌو أَخَاهُ حَسّانَ وَرَجَعَ بِمَنْ مَعَهُ إلَى الْيَمَنِ . فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ حِمْيَرَ [ ص 84 ]
لَاهِ عَيْنًا الّذِي رَأَى مِثْلَ حَسّانَ ... قَتِيلًا فِي سَالِفِ الْأَحْقَابِ
قَتَلَتْهُ مَقَاوِلُ خَشْيَةَ الْحَبْسِ ... غَدَاةً قَالُوا : لِبَابِ لِبَابِ
مَيْتُكُمْ خَيْرُنَا وَحَيّكُمْ رَبّ ... عَلَيْنَا ، وَكُلّكُمْ أَرْبَابِي
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَوْلُهُ لِبَابِ لِبَابِ لَا بَأْسَ لَا بَأْسَ بِلُغَةِ حِمْيَرَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُرْوَى : لِبَابِ لِبَابِ .
هَلَاكُ عَمْرٍو
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا نَزَلَ عَمْرُو بْنُ تُبّانَ الْيَمَنَ مُنِعَ مِنْهُ النّوْمِ وَسُلّطَ عَلَيْهِ السّهَرَ فَلَمّا جَهَدَهُ ذَلِكَ سَأَلَ الْأَطِبّاءَ والحُزاة مِنْ الْكُهّانِ وَالْعَرّافِينَ عَمّا بِهِ فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ مِنْهُمْ إنّهُ مَا قَتَلَ رَجُلٌ قَطّ أَخَاهُ أَوْ ذَا رَحِمِهِ بَغْيًا عَلَى مِثْلِ مَا قَتَلْت أَخَاك عَلَيْهِ إلّا ذَهَبَ نَوْمُهُ وَسُلّطَ عَلَيْهِ السّهَرُ فَلَمّا قِيلَ لَهُ ذَلِكَ جَعَلَ يَقْتُلُ كُلّ مَنْ أَمَرَهُ بِقَتْلِ أَخِيهِ حَسّانَ مِنْ أَشْرَافِ الْيَمَنِ ، حَتّى خَلَصَ إلَى ذِي رُعَيْن ، فَقَالَ لَهُ ذُو رُعَيْن : إنّ لِي عِنْدَك بَرَاءَةٌ فَقَالَ وَمَا هِيَ ؟ قَالَ الْكِتَابُ الّذِي دَفَعْت إلَيْك ، فَأَخْرَجَهُ فَإِذَا الْبَيْتَانِ فَتَرَكَهُ وَرَأَى أَنّهُ قَدْ نَصَحَهُ . وَهَلَكَ عَمْرٌو ، فَمَرَجَ أَمْرُ حِمْيَرَ عِنْدَ ذَلِكَ وَتَفَرّقُوا .
Sلُغَةً وَنَحْوُ وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ عَمْرٍو أَخِي حَسّانَ وَهُوَ الّذِي كَانَ يُقَالُ لَهُ مَوْثَبَانُ وَقَدْ تَقَدّمَ لِمَ لُقّبَ بِذَلِكَ . وَقَوْلُ ذِي رُعَيْن لَهُ فِي الْبَيْتَيْنِ
أَلَا مَنْ يَشْتَرِي سَهَرًا بِنَوْمِ ... سَعِيدٌ مِنْ يَبِيتُ قَرِيرَ عَيْنٍ
[ ص 83 ] أَحَارِ تَرَى بَرْقًا أُرِيك وَمِيضَهُ . أَرَادَ أَتَرَى وَفِي الْبَيْتِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ بَلْ مَنْ يَبِيتُ قَرِيرَ عَيْنٍ هُوَ السّعِيدُ . فَحَذَفَ الْخَبَرَ لِدَلَالَةِ أَوّلِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ . وَفِي كِتَابِ ابْنِ دُرَيْدٍ سَعِيدٌ أَمْ يَبِيتُ بِحَذْفِ مَنْ وَهَذَا مِنْ بَابِ حَذْفِ الْمَوْصُوفِ وَإِقَامَةِ الصّفّةِ مَقَامَهُ لِأَنّ مَنْ هَاهُنَا نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ وَمِثْلُهُ قَوْلُ الرّاجِزِ
لَوْ قُلْت مَا فِي قَوْمِهَا لَمْ تَأْثَمْ ... يَفْضُلُهَا فِي حَسَبٍ وَمِيسَمِ
أَيْ مَنْ يَفْضُلُهَا ، وَهَذَا ، إنّمَا يُوجَدُ فِي الْكَلَامِ إذَا كَانَ الْفِعْلُ مُضَارِعًا لَا مَاضِيًا ، قَالَهُ ابْنُ السّرّاجِ وَغَيْرُهُ . وَذُو رُعَيْن تَصْغِيرُ رَعْنٍ وَالرّعْنُ أَنْفُ الْجَبَلِ وَرُعَيْن جَبَلٌ بِالْيَمَنِ قَالَهُ صَاحِبُ الْعَيْنِ وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ ذُو رُعَيْن . وَقَوْلُهُ فِي الْأَبْيَاتِ بَعْدَ هَذَا : لَاهِ مَنْ رَأَى مِثْلَ حَسّانَ أَرَادَ لِلّهِ وَحَذَفَ لَامَ الْجَرّ وَاللّامّ الْأُخْرَى مَعَ أَلِفِ الْوَصْلِ وَهَذَا حَذْفٌ كَثِيرٌ . وَلَكِنّهُ جَازَ فِي هَذَا الِاسْمِ خَاصّةً لِكَثْرَةِ دَوْرِهِ عَلَى الْأَلْسِنَةِ . مِثْلُ قَوْلِ الْفَرّاءِ لِهَنّكَ مِنْ بَرَقٍ عَلَيّ كَرِيمٌ . أَرَادَ وَاَللّهِ إنّك . وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَرَادَ لِأَنّك وَأَبْدَلَ الْهَمْزَةَ هَاءً . وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنّ اللّامّ لَا تُجْمَعُ مَعَ إنّ إلّا أَنْ تُؤَخّرَ اللّامّ إلَى الْخَبَرِ ، لِأَنّهُمَا حَرْفَانِ مُؤَكّدَانِ وَلَيْسَ انْقِلَابُ الْهَمْزَةِ هَاءً بِمُزِيلِ الْعِلّةِ الْمَانِعَةِ مِنْ اجْتِمَاعِهِمَا . [ ص 84 ]
الْمَقَاوِلُ
وَقَوْلُهُ قَتَلَتْهُ الْمَقَاوِلُ يُرِيدُ الْأَقْيَالَ وَهُمْ الّذِينَ دُونَ التّبَابِعَةِ وَاحِدُهُمْ قَيّلٌ مِثْلُ سَيّدٍ ثُمّ خُفّفَ وَاسْتُعْمِلَ بِالْيَاءِ فِي إفْرَادِهِ وَجَمْعِهِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ الْوَاوَ لِأَنّ مَعْنَاهُ الّذِي يَقُولُ وَيَسْمَعُ قَوْلَهُ وَلَكِنّهُمْ كَرِهُوا أَنْ يَقُولُوا : أَقْوَالُ فَيَلْتَبِسُ بِجَمْعِ قَوْلٍ كَمَا قَالُوا : عِيدٌ وَأَعْيَادٌ وَإِنْ كَانَ مِنْ عَادَ يَعُودُ لَكِنْ أَمَاتُوا الْوَاوَ فِيهِ إمَاتَةً كَيْ لَا يُشْبِهُ جَمْعَ الْعَوْدِ وَإِذَا أَرَادُوا إحْيَاءَ الْوَاوِ فِي جَمْعِ قَيّلٌ قَالُوا : مَقَاوِلُ كَأَنّهُ جَمْعُ مِقْوَلٍ أَوْ جَمْعُ : مَقَالٍ وَمَقَالَةٍ فَلَمْ يَبْعُدُوا مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ وَأَمِنُوا اللّبْسَ وَقَدْ قَالُوا : مُحَاسِنُ وَمُذَاكِرُ لَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا ، وَكَأَنّهُمْ ذَهَبُوا أَيْضًا فِي مُقَاوِلٍ مَذْهَبَ الْمَرَازِبِ وَهُمْ مُلُوكُ الْعَجَمِ ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ . عَلَى أَنّهُمْ قَالُوا : أَقْيَالٌ وَأَقْوَالٌ وَلَمْ يَقُولُوا فِي جَمْعِ عِيدٍ إلّا أَعْيَاد ، وَمِثْلُ عِيدٍ وَأَعْيَادٍ . رِيحٌ وَأَرْيَاحٌ فِي لُغَةِ بَنِي أَسَدٍ وَقَدْ صَرّفُوا مِنْ الْقَيّلِ فِعْلًا ، وَقَالُوا : قَالَ عَلَيْنَا فُلَانٌ أَيْ مَلَكَ وَالْقِيَالَةُ الْإِمَارَةُ وَمِنْهُ قَوْلُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي تَسْبِيحِهِ الّذِي رَوَاهُ التّرْمِذِيّ [ ص 85 ] سُبْحَانَ الّذِي لَبِسَ الْعَزّ وَقَالَ بِهِ أَيْ مَلَكَ بِهِ وَقَهَرَ . كَذَا فَسّرَهُ الْهَرَوِيّ فِي الْغَرِيبَيْنِ .

خَبَرٌ لخنيعة وَذِي نُوَاسٍ
[ ص 85 ] حِمْيَرَ لَمْ يَكُنْ مِنْ بُيُوتِ الْمَمْلَكَةِ يُقَالُ لَهُ لخنيعة يَنُوفُ ذُو شَنَاتِرَ فَقَتَلَ خِيَارَهُمْ وَعَبَثَ بِبُيُوتِ أَهْلِ الْمَمْلَكَةِ مِنْهُمْ فَقَالَ قَائِلٌ مِنْ حِمْيَرَ للخنيعة :
تَقْتُلُ أَبْنَاءَهَا وَتَنْفِي سَرَاتَهَا ... وَتَبْنِي بِأَيْدِيهَا لَهَا الذّلّ حِمْيَرُ
تُدَمّرُ دُنْيَاهَا بِطَيْشِ حُلُومُهَا ... وَمَا ضَيّعْت مِنْ دِينِهَا فَهُوَ أَكْثَرُ
كَذَلِكَ الْقُرُونُ قَبْلَ ذَاكَ بِظُلْمِهَا ... وَإِسْرَافِهَا تَأْتِي الشّرُورُ فَتَخْسَرُ
فَسُوقُ لخنيعة
[ ص 86 ] وَكَانَ لخنيعة امْرِئِ فَاسِقًا يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ ، فَكَانَ يُرْسِلُ إلَى الْغُلَامِ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُلُوكِ فَيَقَعُ عَلَيْهِ فِي مَشْرَبَةٍ لَهُ قَدْ صَنَعَهَا لِذَلِكَ لِئَلّا يَمْلِكُ بَعْدَ ذَلِكَ ثُمّ يَطْلُعُ مِنْ مَشْرَبَتِهِ تِلْكَ إلَى حَرَسِهِ وَمَنْ حَضَرَ مِنْ جُنْدِهِ قَدْ أَخَذَ مِسْوَاكًا ، فَجَعَلَهُ فِي فِيهِ أَيْ لِيُعْلِمَهُمْ أَنّهُ قَدْ فَرَغَ مِنْهُ حَتّى بَعَثَ إلَى زُرْعَةَ ذِي نُوَاسِ بْنِ تُبّانَ أَسَعْد أَخِي حَسّانَ وَكَانَ صَبِيّا صَغِيرًا حِينَ قُتِلَ حَسّانُ ثُمّ شَبّ غُلَامًا جَمِيلًا وَسِيمًا ، ذَا هَيْئَةٍ وَعَقْلٍ فَلَمّا أَتَاهُ رَسُولُهُ عَرَفَ مَا يُرِيدُ مِنْهُ فَأَخَذَ سِكّينًا جَدِيدًا لَطِيفًا ، فَخَبَأَهُ بَيْنَ قَدَمِهِ وَنَعْلِهِ ثُمّ أَتَاهُ فَلَمّا خَلَا مَعَهُ وَثَبَ إلَيْهِ فَوَاثَبَهُ ذُو نُوَاسٍ ، فَوَجْأَهُ حَتّى قَتَلَهُ . ثُمّ حَزّ رَأْسَهُ فَوَضَعَهُ فِي الْكُوّةِ الّتِي كَانَ يُشْرِفُ مِنْهَا ، وَوَضَعَ مِسْوَاكَهُ فِي فِيهِ ثُمّ خَرَجَ عَلَى النّاسِ فَقَالُوا لَهُ ذَا نُوَاسٍ أَرَطْبٌ أَمْ يَبَاسٌ ؟ فَقَالَ سَلْ نَخْمَاس اسْتُرْطُبَان ذُو نُوَاسٍ . اسْتُرْطُبَان لَا بَأْسَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هَذَا كَلَامُ حِمْيَرَ . وَنَخْمَاس : الرّأْسُ . فَنَظَرُوا إلَى الْكُوّةِ فَإِذَا رَأْسُ لخنيعة مَقْطُوعٌ فَخَرَجُوا فِي إثْرِ ذِي نُوَاسٍ حَتّى أَدْرَكُوهُ فَقَالُوا : مَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْلِكُنَا غَيْرُك ، إذْ أَرَحْتنَا مِنْ هَذَا الْخَبِيثِ . [ ص 87 ]
مُلْكُ ذِي نُوَاسٍ
فَمَلّكُوهُ وَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ حِمْيَرُ وَقَبَائِلُ الْيَمَنِ ، فَكَانَ آخِرَ مُلُوكِ حِمْيَرَ . وَهُوَ صَاحِبُ الْأُخْدُودِ ، وَتَسَمّى : يُوسُفَ فَأَقَامَ فِي مُلْكِهِ زَمَانًا .
Sخَبَرُ لخنيعة وَذِي نُوَاسٍ
وَقَالَ فِيهِ ابْنُ دُرَيْدٍ لخنيعة وَقَالَ هُوَ مِنْ اللّخَعِ وَهُوَ اسْتِرْخَاءٌ فِي الْجِسْمِ وَذُو شَنَاتِرَ . الشّنَاتِرُ الْأَصَابِعُ بِلُغَةِ حِمْيَرَ ، وَاحِدُهَا : شَنْتَرَةٍ وَذُو نُوَاسٍ اسْمُهُ زُرْعَةُ وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ لِلْغُلَامِ زَرَعَكَ اللّهُ أَيْ أَنْبَتَكَ وَسَمّوْا بِزَارِعِ كَمَا سَمّوْا بِنَابِتِ وَقَالَ اللّهُ تَعَالَى : { أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزّارِعُونَ } [ الْوَاقِعَةُ 64 ] أَيْ تُنْبِتُونَهُ وَفِي مُسْنَدِ وَكِيعِ بْنِ الْجَرّاحِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرّحْمَنِ الْجَبَلِيّ أَنّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الرّجُلُ زَرَعْت فِي أَرْضِي كَذَا وَكَذَا ، لِأَنّ اللّهَ هُوَ الزّارِعُ وَفِي مُسْنَدِ الْبَزّارِ - مَرْفُوعًا - إلَى النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - النّهْيُ عَنْ ذَلِكَ أَيْضًا ، وَقَدْ تَكَلّمْنَا عَلَى وَجْهِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي غَيْرِ هَذَا الْإِمْلَاءِ فَقَدْ جَاءَ فِي الصّحِيحِ مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا ، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا الْحَدِيثَ . وَفِي كِتَابِ اللّهِ أَيْضًا قَالَ { تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا } [ يُوسُفُ 47 ] ، وَسُمّيَ ذَا نُوَاسٍ بِغَدِيرَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ تَنُوسَانِ أَيْ ضَفِيرَتَانِ مِنْ شَعْرٍ وَالنّوْسُ الْحَرَكَةُ وَالِاضْطِرَابُ فِيمَا كَانَ مُتَعَلّقًا ، قَالَ الرّاجِزُ
لَوْ رَأَتْنِي وَالنّعَاسُ غَالِبِي ... عَلَى الْبَعِيرِ نَائِسًا ذَبَاذِبِي
[ ص 86 ] وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ : أَرَادَ بِالذّبَاذِبِ مَذَاكِيرَهُ وَالْأَوّلُ أَشْبَهُ بِالْمَعْنَى . وَذَكَرَ قَوْلَ ذِي نُوَاسٍ لِلْحَرَسِ حِينَ قَالُوا لَهُ أَرَطْبٌ أَمْ يَبَاسٌ وَالْيَبَاسُ وَالْيَبِيسُ مِثْلُ الْكِبَارِ وَالْكَبِيرِ فَقَالَ لَهُمْ سَلْ نَخْمَاس ، وَالنّخْمَاس فِي لُغَتِهِمْ هُوَ الرّأْسُ كَمَا ذَكَرَ وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ أَبِي بَحْرٍ الّتِي قَيّدَهَا عَلِيّ أَبُو الْوَلِيدِ الْوَقْشِي : نَخْمَاس بِنُونِ وَخَاءٍ مَنْقُوطَةٍ وَلَعَلّ هَذَا هُوَ الصّحِيحُ إذْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ النّخْمَاس فِي لُغَتِهِمْ هُوَ الرّأْسُ ثُمّ صُحّفَ وَقَيّدَهُ كُرَاعٌ بِالتّاءِ الْمَنْقُوطَةِ بِاثْنَتَيْنِ مِنْ فَوْقٍ وَالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ - فِيمَا ذَكَرَ لِي - وَقَوْلُهُ اسْتُرْطُبَان إلَى آخِرِ الْكَلَامِ مُشْكِلٌ يُفَسّرُهُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو الْفَرْجِ فِي الْأَغَانِي قَالَ كَانَ الْغُلَامُ إذَا خَرَجَ مِنْ عِنْدَ لخنيعة ، وَقَدْ لَاطَ بِهِ قَطَعُوا مَشَافِرَ نَاقَتِهِ وَذَنَبَهَا : وَصَاحُوا بِهِ أَرَطْبٌ أَمْ يَبَاسٌ فَلَمّا خَرَجَ ذُو نُوَاسٍ مِنْ عِنْدِهِ وَرَكِبَ نَاقَةً لَهُ يُقَالُ لَهَا : السّرَابُ قَالُوا : ذَا نُوَاسٍ أَرَطْبٌ أَمْ يَبَاسٌ فَقَالَ " سَتَعْلَمُ الْأَحْرَاسُ اسْت ذِي نُوَاسٍ اسْتَ رَطْبَانِ أَمْ يَبَاسٍ " فَهَذَا اللّفْظُ مَفْهُومٌ . وَاَلّذِي وَقَعَ فِي الْأَصْلِ هَذَا مَعْنَاهُ وَلَفْظُهُ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا ، وَلَعَلّهُ تَغْيِيرٌ فِي اللّفْظِ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - وَكَانَ مُلْك لخنيعة سَبْعًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَمُلْكُ ذُو نُوَاسٍ بَعْدَهُ ثَمَانِيّا وَسِتّينَ سَنَةً . قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ .

بَقَايَا مِنْ أَهْلِ دِينِ عِيسَى بِنَجْرَانَ
وَبِنَجْرَانَ بَقَايَا مِنْ أَهْلِ دِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السّلَامُ عَلَى الْإِنْجِيلِ . أَهْلُ فَضْلٍ وَاسْتِقَامَةٍ مِنْ أَهْلِ دِينهمْ لَهُمْ رَأْسٌ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الثّامِرِ . وَكَانَ مَوْقِعَ أَصْلِ ذَلِكَ الدّينِ بِنَجْرَانَ وَهِيَ بِأَوْسَطِ أَرْضِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ الزّمَانِ وَأَهْلُهَا وَسَائِرُ الْعَرَبِ كُلّهَا أَهْلُ أَوْثَانٍ يَعْبُدُونَهَا ، وَذَلِكَ أَنّ رَجُلًا مِنْ بَقَايَا أَهْلِ ذَلِكَ الدّينِ يُقَالُ لَهُ فَيْمِيون ، وَقَعَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَحَمَلَهُمْ عَلَيْهِ . فَدَانُوا بِهِ .
[ ابْتِدَاءُ وُقُوعِ النّصْرَانِيّةِ بِنَجْرَانَ ]
حَدِيثُ فَيْمِيون
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي الْمُغِيرَةُ بْنُ أَبِي لَبِيَدِ مَوْلَى الْأَخْنَسِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبّهٍ الْيَمَانِيّ أَنّهُ حَدّثَهُمْ أَنّ مَوْقِعَ ذَلِكَ الدّينِ بِنَجْرَانَ كَانَ أَنّ رَجُلًا مِنْ بَقَايَا أَهْلِ دِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ يُقَالُ لَهُ فَيْمِيون ، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا مُجْتَهِدًا زَاهِدًا فِي الدّنْيَا ، مُجَابَ الدّعْوَةِ [ ص 88 ] وَكَانَ سَائِحًا يَنْزِلُ بَيْنَ الْقُرَى ، لَا يُعْرَفُ بَقَرِيّةٍ إلّا خَرَجَ مِنْهَا إلَى قَرْيَةٍ لَا يُعْرَفُ بِهَا ، وَكَانَ لَا يَأْكُلُ إلّا مِنْ كَسْبِ يَدَيْهِ . وَكَانَ بَنّاءً يَعْمَلُ الطّينَ وَكَانَ يُعَظّمُ الْأَحَدَ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْأَحَدِ لَمْ يَعْمَلْ فِيهِ شَيْئًا ، وَخَرَجَ إلَى فَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ يُصَلّي بِهَا حَتّى يُمْسِيَ . قَالَ وَكَانَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الشّامِ يَعْمَلُ عَمَلَهُ ذَلِكَ مُسْتَخْفِيًا ، فَفَطِنَ لِشَأْنِهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِهَا يُقَالُ لَهُ صَالِحٌ فَأَحَبّهُ صَالِحٌ حُبّا لَمْ يُحِبّهُ شَيْئًا كَانَ قَبْلَهُ . فَكَانَ يَتْبَعُهُ حَيْثُ ذَهَبَ . وَلَا يَفْطِنُ لَهُ فَيْمِيون ، حَتّى خَرَجَ مَرّةً فِي يَوْمِ الْأَحَدِ إلَى فَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ . كَمَا كَانَ يَصْنَعُ وَقَدْ اتّبَعَهُ صَالِحٌ وفَيْمِيون لَا يَدْرِي - فَجَلَسَ صَالِحٌ مِنْهُ مَنْظَرَ الْعَيْنِ مُسْتَخْفِيًا مِنْهُ . لَا يُحِبّ أَنْ يَعْلَمَ بِمَكَانِهِ وَقَامَ فَيْمِيون يُصَلّي ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُصَلّي إذْ أَقْبَلَ نَحْوَهُ التّنّينُ - الْحَيّةُ ذَاتُ الرّءُوسِ السّبْعَةِ - فَلَمّا رَآهَا فَيْمِيون دَعَا عَلَيْهَا فَمَاتَتْ وَرَآهَا صَالِحٌ وَلَمْ يَدْرِ مَا أَصَابَهَا ، فَخَافَهَا عَلَيْهِ . فَعِيلَ عَوْلُهُ . فَصَرَخَ يا فَيْمِيون التّنّينُ قَدْ أَقْبَلَ نَحْوَك ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ وَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ حَتّى فَرَغَ مِنْهَا وَأَمْسَى ، فَانْصَرَفَ وَعَرَفَ أَنّهُ قَدْ عَرَفَ وَعَرَفَ صَالِحٌ أَنّهُ قَدْ رَأَى مَكَانَهُ . فَقَالَ لَهُ يَا فَيْمِيون تَعْلَمُ وَاَللّهِ أَنّي مَا أَحْبَبْت شَيْئًا قَطّ حُبّك ، وَقَدْ أَرَدْت صُحْبَتَك ، وَالْكَيْنُونَةَ مَعَك حَيْثُ كُنْت ، فَقَالَ مَا شِئْت . أَمْرِي كَمَا تَرَى ، فَإِنْ عَلِمْت أَنّك تَقْوَى عَلَيْهِ فَنَعَمْ فَلَزِمَهُ صَالِحٌ وَقَدْ كَادَ أَهْلُ الْقَرْيَةِ يَفْطِنُونَ لِشَأْنِهِ وَكَانَ إذَا فَاجَأَهُ الْعَبْدَ بِهِ الضّرّ دَعَا لَهُ فَشُفِيَ وَإِذَا دُعِيَ إلَى أَحَدٍ بِهِ ضُرّ لَمْ يَأْتِهِ وَكَانَ لِرَجُلِ مِنْ أَهْلِ الْقَرْيَةِ ابْنٌ ضَرِيرٌ فَسَأَلَ عَنْ شَأْنِ فَيْمِيون ، فَقِيلَ لَهُ إنّهُ لَا يَأْتِي أَحَدًا دَعَاهُ وَلَكِنّهُ رَجُلٌ يَعْمَلُ لِلنّاسِ الْبُنْيَانَ بِالْأَجْرِ فَعَمِدَ الرّجُلُ إلَى ابْنِهِ ذَلِكَ فَوَضَعَهُ فِي حُجْرَتِهِ وَأَلْقَى عَلَيْهِ ثَوْبًا ، ثُمّ جَاءَهُ فَقَالَ لَهُ يَا فَيْمِيون ، إنّي قَدْ أَرَدْت أَنْ أَعْمَلَ فِي بَيْتِي عَمَلًا ، فَانْطَلِقْ مَعِي إلَيْهِ حَتّى تَنْظُرَ إلَيْهِ فأُشارِطك عَلَيْهِ فَانْطَلَقَ مَعَهُ حَتّى دَخَلَ حُجْرَتَهُ ثُمّ قَالَ لَهُ مَا تُرِيدُ أَنْ تَعْمَلَ فِي بَيْتِك هَذَا ؟ قَالَ كَذَا وَكَذَا ، ثُمّ انْتَشَطَ الرّجُلُ الثّوْبَ عَنْ الصّبِيّ ثُمّ قَالَ لَهُ يَا فَيْمِيون ، عَبْدٌ مِنْ عِبَادِ اللّهِ أَصَابَهُ مَا تَرَى ، فَادْعُ اللّهَ لَهُ فَدَعَا لَهُ فَيْمِيون ، فَقَامَ الصّبِيّ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ وَعَرَفَ فَيْمِيون أَنّهُ قَدْ عَرَفَ فَخَرَجَ مِنْ الْقَرْيَةِ وَاتّبَعَهُ صَالِحٌ فَبَيْنَمَا هُوَ يَمْشِي فِي بَعْضِ [ ص 89 ] الشّامِ ، إذْ مَرّ بِشَجَرَةِ عَظِيمَةٍ فَنَادَاهُ مِنْهَا رَجُلٌ فَقَالَ يَا فَيْمِيون . قَالَ نَعَمْ . قَالَ مَا زِلْت أَنْظُرُك ، وَأَقُولُ مَتَى هُوَ جَاءَ ؟ حَتّى سَمِعْت صَوْتَك ، فَعَرَفَتْ أَنّك هُوَ . لَا تَبْرَحْ حَتّى تَقُومَ عَلَيّ فَإِنّي مَيّتٌ الْآنَ . قَالَ فَمَاتَ وَقَامَ عَلَيْهِ حَتّى وَارَاهُ ثُمّ انْصَرَفَ وَتَبِعَهُ صَالِحٌ حَتّى وَطِئَا بَعْضَ أَرْضِ الْعَرَبِ ، فَعَدَوْا عَلَيْهِمَا ، فَاخْتَطَفَتْهُمَا سَيّارَةٌ مِنْ بَعْضِ الْعَرَبِ ، فَخَرَجُوا بِهِمَا ، حَتّى بَاعُوهُمَا بِنَجْرَانَ وَأَهْلُ نَجْرَانَ يَوْمئِذٍ عَلَى دِينِ الْعَرَبِ ، يَعْبُدُونَ نَخْلَةً طَوِيلَةً بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ لَهَا عِيدٌ فِي كُلّ سَنَةٍ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْعِيدُ عَلّقُوا عَلَيْهَا كُلّ ثَوْبٍ حَسَنٍ وَجَدُوهُ وَحُلِيّ النّسَاءِ ثُمّ خَرَجُوا إلَيْهَا ، فَعَكَفُوا عَلَيْهَا يَوْمًا . فَابْتَاعَ فَيْمِيون رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ وَابْتَاعَ صَالِحًا آخَرُ فَكَانَ فَيْمِيون إذَا قَامَ مِنْ اللّيْلِ - يَتَهَجّدُ فِي بَيْتٍ لَهُ أَسْكَنَهُ إيّاهُ سَيّدُهُ - يُصَلّي ، اسْتَسْرَجَ لَهُ الْبَيْتَ نُورًا ، حَتّى يُصْبِحَ مِنْ غَيْرِ مِصْبَاحٍ فَرَأَى ذَلِكَ سَيّدُهُ فَأَعْجَبَهُ مَا يَرَى مِنْهُ فَسَأَلَهُ عَنْ دِينِهِ فَأَخْبَرَهُ بِهِ وَقَالَ لَهُ فَيْمِيون : إنّمَا أَنْتُمْ فِي بَاطِلٍ . إنّ هَذِهِ النّخْلَةَ لَا تَضُرّ وَلَا تَنْفَعُ وَلَوْ دَعَوْت عَلَيْهَا إلَهِي الّذِي أَعْبُدُهُ لَأَهْلَكَهَا ، وَهُوَ اللّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ قَالَ فَقَالَ لَهُ سَيّدُهُ فَافْعَلْ فَإِنّك إنْ فَعَلْت دَخَلْنَا فِي دِينِك ، وَتَرَكْنَا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ . قَالَ فَقَامَ فَيْمِيون ، فَتَطَهّرَ وَصَلّى رَكْعَتَيْنِ ثُمّ دَعَا اللّهَ عَلَيْهَا ، فَأَرْسَلَ اللّهُ عَلَيْهَا رِيحًا فَجَعَفَتْهَا مِنْ أَصْلِهَا فَأَلْقَتْهَا فَاتّبَعَهُ عِنْدَ ذَلِكَ أَهْلُ نَجْرَانَ عَلَى دِينِهِ فَحَمَلَهُمْ عَلَى الشّرِيعَةِ مِنْ دِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السّلَامُ ثُمّ دَخَلَتْ عَلَيْهِمْ الْأَحْدَاثُ الّتِي دَخَلَتْ عَلَى أَهْلِ دِينَهُمْ بِكُلّ أَرْضٍ فَمِنْ هُنَالِكَ كَانَتْ النّصْرَانِيّةُ بِنَجْرَانَ فِي أَرْضِ الْعَرَبِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَهَذَا حَدِيثُ وَهْبِ بْنِ مُنَبّهٍ عَنْ أَهْلِ نَجْرَانَ .
Sحَدِيثُ فَيُمْؤُنّ
[ ص 87 ] الطّبَرِيّ أَنّهُ قَالَ فِيهِ قيمؤن بِالْقَافِ وَشَكّ فِيهِ وَقَالَ الْقُتَبِيّ فِيهِ رَجُلٌ مِنْ آلِ جَفْنَةَ مِنْ غَسّانَ جَاءَهُمْ مِنْ الشّامِ ، فَحَمَلَهُمْ عَلَى دِينِ عِيسَى - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَلَمْ يُسَمّهِ وَقَالَ فِيهِ النّقّاشُ اسْمُهُ يَحْيَى ، وَكَانَ أَبُوهُ مَلِكًا فَتُوُفّيَ وَأَرَادَ قَوْمَهُ أَنْ يُمَلّكُوهُ بَعْدَ أَبِيهِ فَفَرّ مِنْ الْمُلْكِ وَلَزِمَ السّيَاحَةَ وَذَكَرَ الطّبَرِيّ قِصّةَ الرّجُلِ الّذِي دَعَا لِابْنِهِ فَشُفِيَ بِأَتَمّ مِمّا ذَكَرَهَا ابْنُ إسْحَاقَ ، قَالَ فَيُمْؤُنّ حِينَ دَخَلَ مَعَ الرّجُلِ وَكَشَفَ لَهُ عَنْ ابْنِهِ " اللّهُمّ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِك دَخَلَ عَلَيْهِ عَدُوّك فِي نِعْمَتِك ، لِيُفْسِدَهَا عَلَيْهِ فَاشْفِهِ وَعَافِهِ وَامْنَعْهُ مِنْهُ " ، فَقَامَ الصّبِيّ : لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ فَتَبَيّنَ مِنْ هَذَا أَنّ الصّبِيّ كَانَ مَجْنُونًا لِقَوْلِهِ دَخَلَ عَلَيْهِ عَدُوّك ، يَعْنِي : الشّيْطَانَ وَلَيْسَ هَذَا فِي حَدِيثِ ابْنِ إسْحَاقَ . [ ص 88 ] وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي الرّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرظِيّ ، وَعَنْ بَعْضِ أَهْلِ نَجْرَانَ ، وَمَا ذَكَرُوهُ مِنْ خَبَرِ فَيُمْؤُنّ قَالَ وَلَمْ يُسَمّوهُ لِي بِالِاسْمِ الّذِي سَمّاهُ ابْنُ مُنَبّهٍ . قَالَ الْمُؤَلّفُ رَحِمَهُ اللّهُ يَحْتَمِلُ أَنّهُمْ سَمّوْهُ يَحْيَى ، وَهُوَ الِاسْمُ الّذِي تَقَدّمَ ذِكْرُهُ وَمَا قَالَهُ النّقّاشُ وَالْقُتَبِيّ . وَفِيهِ ذِكْرُ قَرْيَةِ نَجْرَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَنَجْرَانُ اسْمُ رَجُلٍ كَانَ أَوّلَ مَنْ نَزَلَهَا ، فَسُمّيَتْ بِهِ وَهُوَ نَجْرَانُ بْنُ زَيْدِ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ . قَالَهُ الْبَكْرِيّ . [ ص 89 ] وَذَكَرَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ، وَمَا أَنَزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِمْ وَقَدْ رَوَى ابْنُ سَنْجَرٍ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ قَالَ الّذِينَ خَدّدُوا الْأُخْدُودَ ثَلَاثَةٌ تُبّعٌ صَاحِبُ الْيَمَنِ ، وَقُسْطَنْطِين ابْنُ هِلَانِي - وَهِيَ أُمّهُ حِينَ صَرَفَ النّصَارَى عَنْ التّوْحِيدِ وَدِينِ الْمَسِيحِ إلَى عِبَادَةِ الصّلِيبِ وَبُخْتُنَصّرَ مِنْ أَهْلِ بَابِلَ حِينَ أَمَرَ النّاسَ أَنْ يَسْجُدُوا إلَيْهِ فَامْتَنَعَ دَانْيَالُ وَأَصْحَابُهُ فَأَلْقَاهُمْ فِي النّارِ فَكَانَتْ بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَيْهِمْ وَحَرَقَ الّذِينَ بَغَوْا عَلَيْهِمْ .

أَمْرُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الثّامِرِ وَقِصّةُ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ
فَيْمِيون وَالسّاحِرُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 90 ] يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرظِيّ ، وَحَدّثَنِي أَيْضًا بَعْضُ أَهْلِ نَجْرَانَ عَنْ أَهْلِهَا : أَنّ أَهْلَ نَجْرَانَ كَانُوا أَهْلَ شِرْكٍ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ وَكَانَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهَا قَرِيبًا مِنْ نَجْرَانَ - وَنَجْرَانُ : الْقَرْيَةُ الْعُظْمَى الّتِي إلَيْهَا جِمَاعُ أَهْلِ تِلْكَ الْبِلَادِ - سَاحِرٌ يُعَلّمُ غِلْمَانَ أَهْلِ نَجْرَانَ السّحْرَ فَلَمّا نَزَلَهَا فَيْمِيون - وَلَمْ يُسَمّوهُ لِي بِاسْمِهِ الّذِي سَمّاهُ بِهِ وَهْبُ بْنُ مُنَبّهٍ ، قَالُوا : رَجُلٌ نَزَلَهَا - ابْتَنَى خَيْمَةً بَيْنَ نَجْرَانَ ، وَبَيْنَ تِلْكَ الْقَرْيَةِ الّتِي بِهَا السّاحِرُ فَجَعَلَ أَهْلُ نَجْرَانَ يُرْسِلُونَ غِلْمَانَهُمْ إلَى ذَلِكَ السّاحِرِ يُعَلّمُهُمْ السّحْرَ فَبَعَثَ إلَيْهِ الثّامِرُ ابْنَهُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ الثّامِرِ مَعَ غِلْمَانِ أَهْلِ نَجْرَانَ ، فَكَانَ إذَا مَرّ بِصَاحِبِ الْخَيْمَةِ أَعْجَبَهُ مَا يَرَى مِنْهُ مِنْ صَلَاتِهِ وَعِبَادَتِهِ فَجَعَلَ يَجْلِسُ إلَيْهِ وَيَسْمَعُ مِنْهُ حَتّى أَسْلَمَ ، فَوَحّدَ اللّهَ وَعَبَدَهُ وَجَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ حَتّى إذَا فَقِهَ فِيهِ جَعَلَ يَسْأَلُهُ عَنْ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ - وَكَانَ يُعَلّمُهُ - فَكَتَمَهُ إيّاهُ وَقَالَ لَهُ يَا بْنَ أَخِي إنّك لَنْ تَحْمِلَهُ [ ص 91 ] أَخْشَى عَلَيْك ضَعْفَك عَنْهُ - وَالثّامِرُ أَبُو عَبْدِ اللّهِ لَا يَظُنّ إلّا أَنّ ابْنَهُ يَخْتَلِفُ إلَى السّاحِرِ كَمَا يَخْتَلِفُ الْغِلْمَانُ فَلَمّا رَأَى عَبْدُ اللّهِ أَنّ صَاحِبَهُ قَدْ ضَنّ بِهِ عَنْهُ وَتَخَوّفَ ضَعْفَهُ فِيهِ عَمِدَ إلَى قِدَاحٍ فَجَمَعَهَا ، ثُمّ لَمْ يُبْقِ لِلّهِ اسْمًا يَعْلَمُهُ إلّا كَتَبَهُ فِي قِدْحٍ لِكُلّ اسْمٍ قِدْحٌ حَتّى إذَا أَحْصَاهَا أَوْقَدَ لَهَا نَارًا ، ثُمّ جَعَلَ يَقْذِفُهَا فِيهَا قِدْحًا قِدْحًا ، حَتّى إذَا مَرّ بِالِاسْمِ الْأَعْظَمِ قَذَفَ فِيهَا بِقِدْحِهِ فَوَثَبَ الْقِدْحُ حَتّى خَرَجَ مِنْهَا لَمْ تَضُرّهُ شَيْئًا فَأَخَذَهُ ثُمّ أَتَى صَاحِبَهُ [ ص 92 ] فَأَخْبَرَهُ بِأَنّهُ قَدْ عَلِمَ الِاسْمَ الّذِي كَتَمَهُ فَقَالَ وَمَا هُوَ ؟ قَالَ هُوَ كَذَا وَكَذَا ، قَالَ وَكَيْفَ عَلِمْته ؟ فَأَخْبَرَهُ بِمَا صَنَعَ قَالَ أَيْ ابْنَ أَخِي ، قَدْ أَصَبْته فَأَمْسِكْ عَلَى نَفْسِك ، وَمَا أَظُنّ أَنْ تَفْعَلَ .
Sخَبَرُ ابْنِ الثّامِرِ
التّفَاضُلُ بَيْنَ الْأَسْمَاءِ الْإِلَهِيّةِ
[ ص 90 ] وَذَكَرَ فِيهِ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ وَقَوْلُ الرّاهِبِ لَهُ إنّك لَنْ تُطِيقَهُ . أَيْ لَنْ تُطِيقَ شُرُوطَهُ وَالِانْتِهَاضَ بِمَا يَجِبُ مِنْ حَقّهِ وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِ اللّهِ تَعَالَى : { قَالَ الّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ } [ النّمْلُ 40 ] إنّهُ أُوتِيَ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ الّذِي إذَا دُعِيَ اللّهُ بِهِ أَجَابَ وَهُوَ آصَفُ بْنُ برخيا فِي قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ . وَأَعْجَبُ مَا قِيلَ فِيهِ إنّهُ ضَبّةُ بْنُ أُدّ بْنِ طَابِخٍ قَالَهُ النّقّاشُ وَلَا يَصِحّ ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إلَى تَرْكِ التّفْضِيلِ بَيْنَ أَسْمَاءِ اللّهِ تَعَالَى ، وَقَالُوا : لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَائِهِ أَعْظَمَ مِنْ الِاسْمِ الْآخَرِ وَقَالُوا : إذَا أَمَرَ فِي خَبَرٍ أَوْ أَثَرَ ذِكْرَ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ فَمَعْنَاهُ الْعَظِيمُ كَمَا قَالُوا : إنّي لَأُوجِلَ أَيْ وَجِلًا ، وَكَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ فِي أَكْبَرِ مِنْ قَوْلِك : اللّهُ أَكْبَرُ إنّ أَكْبَرَ بِمَعْنَى كَبِيرٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ ، وَذَكَرُوا أَنّ أَهْوَنَ بِمَعْنَى : هَيّنٍ مِنْ قَوْلِهِ عَزّ وَجَلّ { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الرّومُ : 27 ] وَأَكْثَرُوا الِاسْتِشْهَادَ عَلَى هَذَا وَنَسَبَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بَطّالٍ هَذَا الْقَوْلَ إلَى جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ ، وَالْقَابِسِيّ وَغَيْرُهُمَا ، وَمِمّا احْتَجّوا بِهِ أَيْضًا : أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَمْ يَكُنْ لِيُحَرّمَ الْعِلْمَ بِهَذَا الِاسْمِ وَقَدْ عَلِمَهُ مَنْ هُوَ دُونَهُ مَنْ لَيْسَ بِنَبِيّ وَلَمْ يَكُنْ لِيَدْعُوَ حِينَ اجْتَهَدَ فِي الدّعَاءِ لِأُمّتِهِ أَلّا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ وَهُوَ رَءُوفٌ بِهِمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ عَنَتُهُمْ إلّا بِالِاسْمِ الْأَعْظَمِ لِيُسْتَجَابَ لَهُ فِيهِ فَلَمّا مُنِعَ ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنّهُ لَيْسَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللّهِ إلّا وَهُوَ [ ص 91 ] كَسَائِرِ الْأَسْمَاءِ فِي الْحُكْمِ وَالْفَضِيلَةِ يَسْتَجِيبُ اللّهُ إذَا دُعِيَ بِبَعْضِهَا إنْ شَاءَ وَيَمْنَعُ إذَا شَاءَ وَقَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ { قُلِ ادْعُوا اللّهَ أَوِ ادْعُوا الرّحْمَنَ أَيّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [ الْإِسْرَاءُ 115 ] ، وَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ التّسْوِيَةُ بَيْنَ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى ، وَكَذَلِكَ ذَهَبَ هَؤُلَاءِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ إلَى أَنّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ كَلَامِ اللّهِ تَعَالَى أَفَضْلَ مِنْ شَيْءٍ لِأَنّهُ كَلَامٌ وَاحِدٌ مِنْ رَبّ وَاحِدٍ فَيَسْتَحِيلُ التّفَاضُلُ فِيهِ . قَالَ الشّيْخُ الْفَقِيهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ - عَفَا اللّهُ عَنْهُ وَجْهُ اسْتِفْتَاحِ الْكَلَامِ مَعَهُمْ أَنْ يُقَالَ هَلْ يَسْتَحِيلُ هَذَا عَقْلًا ، أَمْ يَسْتَحِيلُ شَرْعًا ؟ وَلَا يَسْتَحِيلُ عَقْلًا أَنْ يُفَضّلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ عَمَلًا مِنْ الْبِرّ عَلَى عَمَلٍ وَكَلِمَةً مِنْ الذّكْرِ عَلَى كَلِمَةٍ فَإِنّ التّفْضِيلَ رَاجِعٌ إلَى زِيَادَةِ الثّوَابِ وَنُقْصَانِهِ وَقَدْ فُضّلَتْ الْفَرَائِضُ عَلَى النّوَافِلِ بِإِجْمَاعِ وَفُضّلَتْ الصّلَاةُ وَالْجِهَادُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْأَعْمَالِ وَالدّعَاءِ وَالذّكْرُ عَمَلٌ مِنْ الْأَعْمَالِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ أَقْرَبَ إلَى الْإِجَابَةِ مِنْ بَعْضٍ وَأَجْزَلَ ثَوَابًا فِي الْآخِرَةِ مِنْ بَعْضٍ وَالْأَسْمَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُسَمّى ، وَهِيَ مِنْ كَلَامِ اللّهِ سُبْحَانَهُ الْقَدِيمِ وَلَا نَقُولُ فِي كَلَامِ اللّهِ هُوَ هُوَ وَلَا هُوَ غَيْرُهُ كَذَلِكَ لَا نَقُولُ فِي أَسْمَائِهِ الّتِي تَضَمّنَهَا كَلَامُهُ إنّهَا هُوَ وَلَا هِيَ غَيْرُهُ فَإِنْ تَكَلّمْنَا نَحْنُ بِهَا بِأَلْسِنَتِنَا الْمَخْلُوقَةِ وَأَلْفَاظِنَا الْمُحْدَثَةِ فَكَلَامُنَا عَمَلٌ مِنْ أَعْمَالِنَا ، وَاَللّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - يَقُولُ { وَاللّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [ الصّافّاتُ 3 ] ، وَقُبْحًا لِلْمُعْتَزِلَةِ ؛ فَإِنّهُمْ زَعَمُوا أَنّ كَلَامَهُ مَخْلُوقٌ فَأَسْمَاؤُهُ عَلَى أَصْلِهِمْ الْفَاسِدِ مُحْدَثَةٌ غَيْرُ الْمُسَمّى بِهَا ، وَسَوّوْا بَيْنَ كَلَامِ الْخَالِقِ وَكَلَامِ الْمَخْلُوقِ فِي [ ص 92 ] ثَبَتَ هَذَا ، وَصَحّ جَوَازُ التّفْضِيلِ بَيْنَ الْأَسْمَاءِ إذَا دَعَوْنَا بِهَا ، فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تَفْضِيلِ السّوَرِ وَالْآيِ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فَإِنّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إلَى التّلَاوَةِ الّتِي هِيَ عَمَلُنَا ، لَا إلَى الْمَتْلُوّ الّذِي هُوَ كَلَامُ رَبّنَا ، وَصِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ الْقَدِيمَةِ وَقَدْ قَالَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِأُبَيّ أَيّ آيَةٍ مَعَك فِي كِتَابِ اللّهِ أَعْظَمُ ؟ فَقَالَ اللّهُ لَا إلَهَ إلّا هُوَ الْحَيّ الْقَيّومُ فَقَالَ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْمُنْذِرِ وَمُحَالٌ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ أَعْظَمُ مَعْنًى عَظِيمٌ لِأَنّ الْقُرْآنَ كُلّهُ عَظِيمٌ فَكَيْفَ يَقُولُ لَهُ أَيّ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ عَظِيمَةٌ وَكُلّ آيَةٍ فِيهِ عَظِيمَةٌ كَذَلِكَ ؟ وَكُلّ مَا اسْتَشْهَدُوا بِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ أَكْبَرُ بِمَعْنَى كَبِيرٍ وَأَهْوَنُ بِمَعْنَى هَيّنٍ بَاطِلٍ عِنْدَ حُذّاقِ النّحَاةِ وَلَوْلَا أَنْ نَخْرُجَ عَمّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ لَأَوْضَحْنَا بُطْلَانَهُ بِمَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا فِي الْعَرَبِيّةِ مَا جَازَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ " أَيّ آيَةٍ مَعَك فِي كِتَابِ اللّهِ أَعْظَمُ " ، لِأَنّ الْقُرْآنَ كُلّهُ عَظِيمٌ وَإِنّمَا سَأَلَهُ عَنْ الْأَعْظَمِ مِنْهُ وَالْأَفْضَلِ فِي ثَوَابِ التّلَاوَةِ وَقُرْبِ الْإِجَابَةِ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى ثُبُوتِ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ وَأَنّ لِلّهِ اسْمًا هُوَ أَعْظَمُ أَسْمَائِهِ وَمُحَالٌ أَنْ يَخْلُو الْقُرْآنُ عَنْ ذَلِكَ الِاسْمِ وَاَللّهُ تَعَالَى يَقُولُ { مَا فَرّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } [ الْأَنْعَامُ 38 ] ، فَهُوَ فِي الْقُرْآنِ لَا مُحَالَةَ . وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُحَرّمَهُ مُحَمّدًا ، وَأُمّتَهُ وَقَدْ فَضّلَهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَفَضّلَهُمْ عَلَى الْأُمَمِ فَإِنْ قُلْت : فَأَيْنَ هُوَ فِي الْقُرْآنِ ؟ فَقَدْ قِيلَ إنّهُ أُخْفِيَ فِيهِ كَمَا أُخْفِيَتْ السّاعَةُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ لِيَجْتَهِدَ النّاسُ وَلَا يَتّكِلُوا . قَالَ الْفَقِيهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - فِي قَوْلِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِأُبَيّ أَيّ آيَةٍ مَعَك فِي كِتَابِ اللّهِ أَعْظَمُ وَلَمْ يَقُلْ أَفَضْلُ إشَارَةً إلَى الِاسْمِ الْأَعْظَمِ أَنّهُ فِيهَا ، إذْ لَا يُتَصَوّرُ أَنْ تَكُونَ هِيَ أَعْظَمُ آيَةً وَيَكُونُ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ فِي أُخْرَى دُونَهَا . بَلْ إنّمَا صَارَتْ أَعْظَمَ الْآيَاتِ لِأَنّ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ فِيهَا . أَلَا تَرَى كَيْفَ هَنّأَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أُبَيّا ، بِمَا أَعْطَاهُ اللّهُ تَعَالَى مِنْ الْعِلْمِ وَمَا هَنّأَهُ إلّا بِعَظِيمِ بِأَنْ عَرَفَ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ وَالْآيَةُ الْعُظْمَى الّتِي كَانَتْ الْأُمَمُ قَبْلَنَا لَا يَعْلَمُهُ مِنْهُمْ إلّا الْأَفْرَادُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الثّامِرِ ، وآصف صَاحِبُ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السّلَامُ وَبُلْعُوم قَبْلَ أَنْ يَتّبِعَهُ الشّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ وَقَدْ جَاءَ مَنْصُوصًا فِي حَدِيثِ أُمّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - الّذِي خَرّجَهُ التّرْمِذِيّ وَأَبُو دَاوُدَ ، وَيُرْوَى أَيْضًا عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ - وَكُنْيَتُهَا : أُمّ سَلَمَةَ [ ص 93 ] سَأَلَتْ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَنْ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَفِي هَاتِينَ الْآيَتَيْنِ { اللّهُ لَا إِلَهَ إِلّا هُوَ الْحَيّ الْقَيّومُ } و { الم اللّهُ لَا إِلَهَ إِلّا هُوَ الْحَيّ الْقَيّومُ } وَقَالَ سُبْحَانَهُ { هُوَ الْحَيّ لَا إِلَهَ إِلّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ } الْآيَةَ أَيْ فَادْعُوهُ بِهَذَا الِاسْمِ ثُمّ قَالَ { الْحَمْدُ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ } تَنْبِيهًا لَنَا عَلَى حَمْدِهِ وَشُكْرِهِ إذْ عَلِمْنَا مِنْ هَذَا الِاسْمِ الْعَظِيمِ مَا لَمْ نَكُنْ نَعْلَمُ فَإِنْ قُلْت : فَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالتّرْمِذِيّ أَيْضًا أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - سَمِعَ رَجُلًا - وَهُوَ زَيْدٌ أَبُو عَيّاشٍ الزّرَقِيّ - ذَكَرَ اسْمَهُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ - يَقُولُ " اللّهُمّ إنّي أَسْأَلُك ، بِأَنّ لَك الْحَمْدُ لَا إلَهَ إلّا أَنْتَ الْمَنّانُ بَدِيعُ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ فَقَالَ لَقَدْ دَعَا اللّهَ بِاسْمِهِ الْأَعْظَمِ . وَيُرْوَى أَنّهُ قَالَ لَهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ غَفَرَ اللّهُ لَهُ غَفَرَ اللّهُ لَهُ . وَرَوَى التّرْمِذِيّ نَحْوَ هَذَا فِيمَنْ قَالَ اللّهُمّ إنّي أَسْأَلُك ؛ فَإِنّك اللّهُ الّذِي لَا إلَهَ إلّا أَنْتَ الْأَحَدُ الصّمَدُ الّذِي لَمْ تَلِدْ وَلَمْ تُولَدْ وَهَذَا مُعَارِضٌ لِحَدِيثِ أُمّ سَلَمَةَ قُلْنَا : لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ هَذَا ، وَبَيْنَ مَا تَقَدّمَ فَإِنّا لَمْ نَقُلْ إنّ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ هُوَ الْحَيّ الْقَيّومُ بَلْ الْحَيّ الْقَيّومُ صِفَتَانِ تَابِعَتَانِ لِلِاسْمِ الْأَعْظَمِ . وَتَتْمِيمٌ لِذِكْرِهِ وَكَذَلِكَ الْمَنّانُ . وَذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ وَقَدْ خَرّجَهُ التّرْمِذِيّ أَيْضًا فِي الدّعَوَاتِ وَكَذَلِكَ الْأَحَدُ الصّمَدُ فِي حَدِيثِ التّرْمِذِيّ . وَقَوْلُك : اللّهُ لَا إلَهَ إلّا هُوَ هُوَ الِاسْمُ لِأَنّهُ لَا سَمِيّ لَهُ وَلَمْ يَتّسِمْ بِهِ غَيْرُهُ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي التّسْعَةِ وَالتّسْعِينَ اسْمًا : إنّهَا كُلّهَا تَابِعَةٌ لِلِاسْمِ الّذِي هُوَ اللّهُ وَهُوَ تَمَامُ الْمِائَةِ فَهِيَ مِائَةٌ عَلَى عَدَدِ دَرَجِ الْجَنّةِ إذْ قَدْ ثَبَتَ فِي الصّحِيحِ أَنّهَا مِائَةُ دَرَجَةٍ بَيْنَ كُلّ دَرَجَتَيْنِ مَسِيرَةُ مِائَةِ عَامٍ وَقَالَ فِي الْأَسْمَاءِ " مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنّةَ " فَهِيَ عَلَى عَدَد دَرَجِ الْجَنّةِ وَأَسْمَاؤُهُ تَعَالَى [ ص 94 ] تُحْصَى ، وَإِنّمَا هَذِهِ الْأَسْمَاءُ هِيَ الْمُفَضّلَةُ عَلَى غَيْرِهَا ، وَالْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ . يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الصّحِيحِ أَسْأَلُك بِأَسْمَائِك الْحُسْنَى مَا عَلِمْت مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ وَوَقَعَ فِي جَامِعِ ابْنِ وَهْبٍ : سُبْحَانَك لَا أُحْصِي أَسَمَاءَك وَمِمّا يَدُلّ عَلَى أَنّهُ الِاسْمُ الْأَعْظَمُ أَنّك تُضِيفُ جَمِيعَ الْأَسْمَاءِ إلَيْهِ وَلَا تُضِيفُهُ إلَيْهَا . تَقُولُ الْعَزِيزُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللّهِ وَلَا تَقُلْ اللّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْعَزِيزِ وَفُخّمَتْ اللّامّ مِنْ اسْمِهِ - وَإِنْ كَانَتْ لَا تُفَخّمُ لَامٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ إلّا مَعَ حُرُوفِ الْإِطْبَاقِ نَحْوُ الطّلَاقِ وَلَا تُفَخّمُ لَامٌ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْمَائِهِ وَلَا شَيْءٌ مِنْ الْحُرُوفِ الْوَاقِعَةِ فِي أَسْمَائِهِ الّتِي لَيْسَتْ بِمُسْتَعْلِيَةِ إلّا فِي هَذَا الِاسْمِ الْعَظِيمِ الْمُنْتَظَمِ مِنْ أَلِفٍ وَلَامَيْنِ وَهَاءٍ . فَالْأَلِفُ مِنْ مَبْدَأِ الصّوْتِ وَالْهَاءُ رَاجِعَةٌ إلَى مَخْرَجِ الْأَلِفِ فَشَاكَلَ اللّفْظ الْمَعْنَى ، وَطَابَقَهُ لِأَنّ الْمُسَمّى بِهَذَا الِاسْمِ مِنْهُ الْمَبْدَأُ وَإِلَيْهِ الْمَعَادُ . وَالْإِعَادَةُ أَهْوَنُ مِنْ الِابْتِدَاءِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ فَكَذَلِكَ الْهَاءُ أَخَفّ وَأَلْيَنُ فِي اللّفْظِ مِنْ الْهَمْزَةِ الّتِي هِيَ مَبْدَأُ الِاسْمِ . أُخْبِرْت بِهَذَا الْكَلَامِ أَوْ نَحْوِهِ فِي الِاسْمِ وَحُرُوفِهِ عَنْ ابْنِ فَوْرَكٍ رَحِمَهُ اللّهُ . ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ شَيْخُنَا فِي كِتَابِ شَرْحِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى لَهُ . فَإِنْ قِيلَ فَأَيْنَ مَا ذَكَرُوهُ عَنْ الِاسْمِ الْأَعْظَمِ وَأَنّهُ لَا يُدْعَى اللّهُ بِهِ إلّا أَجَابَ وَلَا يُسْأَلُ بِهِ شَيْئًا إلّا أَعْطَاهُ . قُلْنَا : عَنْ ذَلِكَ جَوَابَانِ أَحَدُهُمَا : أَنّ هَذَا الِاسْمَ كَانَ عِنْدَ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا - إذَا عَلِمَهُ - مَصُونًا غَيْر مُبْتَذَلٍ مُعَظّمًا لَا يَمَسّهُ إلّا طَاهِرٌ وَلَا يَلْفِظُ بِهِ إلّا طَاهِرٌ وَيَكُونُ الّذِي يَعْرِفُهُ عَامِلًا بِمُقْتَضَاهُ مُتَأَلّهًا مُخْبِتًا ، قَدْ امْتَلَأَ قَلْبُهُ بِعَظَمَةِ الْمُسَمّى بِهِ لَا يَلْتَفِتُ إلَى غَيْرِهِ وَلَا يَخَافُ سِوَاهُ فَلَمّا اُبْتُذِلَ وَتُكُلّمَ بِهِ فِي مَعْرِضِ الْبَطَالَاتِ وَالْهَزْلِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمُقْتَضَاهُ ذَهَبَتْ مِنْ الْقُلُوبِ هَيْبَتُهُ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مِنْ سُرْعَةِ الْإِجَابَةِ وَتَعْجِيلِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ لِلدّاعِي مَا كَانَ قَبْلُ . أَلَا تَرَى قَوْلَ أَيّوبَ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي بَلَائِهِ " قَدْ كُنْت أَمُرّ بِالرّجُلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ فَيَذْكُرَانِ اللّهَ - يَعْنِي فِي تَنَازُعِهِمَا ، أَيْ تَخَاصُمِهِمَا - فَأَرْجِعُ إلَى بَيْتِي ، فَأُكَفّرُ عَنْهُمَا كَرَاهَةَ أَنْ يُذْكَرَ اللّهُ إلّا فِي حَقّ وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَرِهْت أَنْ أَذْكُرَ اللّهَ إلّا عَلَى طُهْرٍ فَقَدْ لَاحَ لَك تَعْظِيمُ الْأَنْبِيَاءِ لَهُ . [ ص 95 ] الثّانِي : أَنّ الدّعَاءَ بِهِ إذَا كَانَ مِنْ الْقَلْبِ وَلَمْ يَكُنْ بِمُجَرّدِ اللّسَانِ اُسْتُجِيبَ لِلْعَبْدِ غَيْرَ أَنّ الِاسْتِجَابَةَ تَنْقَسِمُ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - إمّا أَنْ يُعَجّلَ لَهُ مَا سَأَلَ وَإِمّا أَنْ يَدّخِرَ لَهُ وَذَلِكَ خَيْرٌ مِمّا طَلَبَ وَإِمّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنْ الْبَلَاءِ بِقَدْرِ مَا سَأَلَ مِنْ الْخَيْرِ وَأَمّا دُعَاءُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِأُمّتِهِ أَلّا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعَهَا ، فَقَدْ أُعْطِيَ عِوَضًا لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ الشّفَاعَةِ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَقَدْ قَالَ أُمّتِي هَذِهِ أُمّةٌ مَرْحُومَةٌ لَيْسَ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَذَابُهَا فِي الدّنْيَا : الزّلَازِلُ وَالْفِتَنُ خَرّجَهُ أَبُو دَاوُدَ ، فَإِذَا كَانَتْ الْفِتَنُ سَبَبًا لِصَرْفِ عَذَابِ الْآخِرَةِ عَنْ الْأُمّةِ فَمَا خَابَ دُعَاؤُهُ لَهُمْ . عَلَى أَنّنِي تَأَمّلْت هَذَا الْحَدِيثَ وَتَأَمّلْت حَدِيثَهُ الْآخَرَ حِينَ نَزَلَتْ { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } [ الْأَنْعَامُ 65 ] . فَقَالَ أَعُوذُ بِوَجْهِك . فَلَمّا سَمِعَ { أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قَالَ أَعُوذُ بِوَجْهِك ، فَلَمّا سَمِعَ { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } قَالَ هَذِهِ أَهْوَنُ فَمِنْ هَاهُنَا - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - أُعِيذَتْ أُمّتُهُ مِنْ الْأُولَى وَالثّانِيَةِ وَمُنِعَ الثّالِثَةُ حِينَ سَأَلَهَا بَعْدُ . وَقَدْ عَرَضْت هَذَا الْكَلَامَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ فُقَهَاءِ زَمَانِنَا ، فَقَالَ هَذَا حَسَنٌ جِدّا ، غَيْرَ أَنّا لَا [ ص 96 ] أَكَانَتْ مَسْأَلَتُهُ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ فَأَخْلِقْ بِهَذَا النّظَرِ أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا . قُلْت لَهُ أَلَيْسَ فِي الْمُوَطّأِ أَنّهُ دَعَا بِهَا فِي مَسْجِدِ بَنِي مُعَاوِيَةَ وَهُوَ فِي الْمَدِينَةِ ، وَلَا خِلَافَ أَنّ سُورَةَ الْأَنْعَامِ مَكّيّةٌ ؟ فَقَالَ نَعَمْ وَسَلّمَ وَأَذْعَنَ لِلْحَقّ وَأَقَرّ بِهِ . رَحِمَهُ اللّهُ .
هَلْ الشّهَدَاءُ أَحْيَاءٌ فِي قُبُورِهِمْ ؟
فَصْلٌ وَذَكَرَ مِنْ وَجْدَانِ عَبْدِ اللّهِ فِي خَرِبَةٍ مِنْ خِرَبِ نَجْرَانَ . يُصَدّقُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَا تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ } [ آلُ عِمْرَانَ : 169 ] الْآيَةَ وَمَا وُجِدَ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ شُهَدَاءِ أُحُدٍ ، وَغَيْرِهِمْ عَلَى هَذِهِ الصّورَةِ لَمْ يَتَغَيّرُوا بَعْدَ الدّهُورِ الطّوِيلَةِ كَحَمْزَةِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - فَإِنّهُ وُجِدَ حِينَ حَفَرَ مُعَاوِيَةُ الْعَيْنَ صَحِيحًا لَمْ يَتَغَيّرْ وَأَصَابَتْ الْفَأْسُ أُصْبُعَهُ فَدَمِيَتْ وَكَذَلِكَ أَبُو جَابِرٍ عَبْدُ اللّهِ بْنُ حَرَامٍ وَعَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ ، وَطَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ - اسْتَخْرَجَتْهُ بِنْتُهُ عَائِشَةُ مِنْ قَبْرِهِ حِينَ رَأَتْهُ فِي الْمَنَامِ فَأَمَرَهَا أَنْ تَنْقُلَهُ مِنْ مَوْضِعِهِ فَاسْتَخْرَجَتْهُ مِنْ مَوْضِعِهِ بَعْدَ ثَلَاثِينَ سَنَةً لَمْ يَتَغَيّرْ . ذَكَرَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ . وَالْأَخْبَارُ بِذَلِكَ صَحِيحَةٌ . وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الْأَنْبِيَاءُ أَحْيَاءٌ يُصَلّونَ فِي قُبُورِهِمْ . انْفَرَدَ بِهِ ثَابِتٌ الْبُنَانِيّ عَنْ أَنَسٍ وَقَدْ رُوِيَ أَنّ ثَابِتًا اُلْتُمِسَ فِي قَبْرِهِ بَعْدَمَا دُفِنَ فَلَمْ يُوجَدْ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَبِنْتِهِ . فَقَالَتْ كَانَ يُصَلّي فَلَمْ تَرَوْهُ لِأَنّي كُنْت أَسْمَعُهُ إذَا تَهَجّدَ بِاللّيْلِ يَقُولُ " اللّهُمّ اجْعَلْنِي مِمّنْ يُصَلّي فِي قَبْرِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ " . وَفِي الصّحِيحِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ مَرَرْت بِمُوسَى - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَهُوَ يُصَلّي فِي قَبْرِهِ .

ابْنُ الثّامِرِ يَدْعُو إلَى الْإِسْلَامِ
[ ص 93 ] فَجَعَلَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الثّامِرِ إذَا دَخَلَ نَجْرَانَ لَمْ يَلْقَ أَحَدًا بِهِ ضُرّ إلّا قَالَ يَا عَبْدَ اللّهِ أَتُوَحّدُ اللّهَ وَتَدْخُلُ فِي دِينِي ، وَادَعْو اللّهَ فَيُعَافِيَك مِمّا أَنْتَ فِيهِ مِنْ الْبَلَاءِ ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ فَيُوَحّدُ اللّهَ وَيُسْلِمُ وَيَدْعُو لَهُ فَيُشْفَى ، حَتّى لَمْ يَبْقَ بِنَجْرَانَ أَحَدٌ بِهِ ضُرّ إلّا أَتَاهُ فَاتّبَعَهُ عَلَى أَمْرِهِ وَدَعَا لَهُ فَعُوفِيَ حَتّى رُفِعَ شَأْنُهُ إلَى مَلِكِ نَجْرَانَ ، فَدَعَاهُ فَقَالَ لَهُ أَفْسَدْت عَلَيّ [ ص 94 ] دِينِي وَدِينَ آبَائِي ، لَأُمَثّلَنّ بِك ، قَالَ لَا تَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ . قَالَ فَجَعَلَ يُرْسِلُ بِهِ إلَى الْجَبَلِ الطّوِيلِ فَيُطْرَحُ عَلَى رَأْسِهِ فَيَقَعُ إلَى الْأَرْضِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ وَجَعَلَ يَبْعَثُ بِهِ إلَى مِيَاهٍ بِنَجْرَانَ بُحُورٍ لَا يَقَعُ فِيهَا شَيْءٌ إلّا هَلَكَ فَيُلْقَى فِيهَا ، فَيَخْرَجُ [ ص 95 ] غَلَبَهُ قَالَ لَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الثّامِرِ : إنّك وَاَللّهِ لَنْ تَقْدِرَ عَلَى قَتْلِي حَتّى تُوَحّدَ اللّهَ فَتُؤْمِنَ بِمَا آمَنْت بِهِ فَإِنّك إنْ فَعَلْت ذَلِكَ سُلّطْت عَلَيّ فَقَتَلَتْنِي . قَالَ فَوَحّدَ اللّهَ تَعَالَى ذَلِكَ الْمَلِكُ وَشَهِدَ شَهَادَةَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الثّامِرِ ، ثُمّ ضَرَبَهُ بِعَصَا فِي يَدِهِ فَشَجّهُ شَجّةً غَيْرَ كَبِيرَةٍ فَقَتَلَهُ ثُمّ هَلَكَ الْمَلِكُ مَكَانَهُ وَاسْتَجْمَعَ أَهْلُ نَجْرَانَ عَلَى دِينِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الثّامِرِ - وَكَانَ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مِنْ الْإِنْجِيلِ وَحُكْمِهِ - ثُمّ أَصَابَهُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ أَهْلَ دِينِهِمْ مِنْ الْأَحْدَاثِ فَمِنْ هُنَالِكَ كَانَ أَصْلُ النّصْرَانِيّةِ بِنَجْرَانَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَهَذَا حَدِيثُ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرظِيّ وَبَعْضِ أَهْلِ نَجْرَانَ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الثّامِرِ ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ .
أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ وَمَعْنَاهُ
[ ص 96 ] [ ص 97 ] فَسَارَ إلَيْهِمْ ذُو نُوَاسٍ بِجُنُودِهِ فَدَعَاهُمْ إلَى الْيَهُودِيّةِ وَخَيّرَهُمْ بَيْنَ ذَلِكَ وَالْقَتْلِ فَاخْتَارُوا الْقَتْلَ فَخَدّ لَهُمْ الْأُخْدُودَ ، فَحَرَقَ مَنْ حَرَقَ بِالنّارِ وَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ بِالسّيْفِ وَمَثّلَ بِهِمْ حَتّى قَتَلَ مِنْهُمْ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا ، فَفِي ذِي نُوَاسٍ وَجُنْدِهِ تِلْكَ أَنَزَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ سَيّدِنَا مُحَمّدٍ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ { قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [ الْبُرُوجُ ] . [ ص 100 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْأُخْدُودُ : الْحَفْرُ الْمُسْتَطِيلُ فِي الْأَرْضِ كَالْخَنْدَقِ وَالْجَدْوَلِ وَنَحْوِهِ وَجَمْعُهُ أَخَادِيدُ . قَالَ ذُو الرّمّةِ - وَاسْمُهُ غَيْلَانُ بْنُ عُقْبَةَ أَحَدُ بَنِي عَدِيّ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ أُدّ بْنِ طَابِخَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ . مِنْ الْعِرَاقِيّةِ اللّاتِي يُحِيلُ لَهَا بَيْنَ الْغَلَاةِ وَبَيْنَ النّخْلِ أَخُدُودُ
[ ص 101 ]
مَصِيرُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الثّامِرِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَيُقَالُ كَانَ فِيمَنْ قَتَلَ ذُو نُوَاسٍ ، عَبْدُ اللّهِ بْنُ الثّامِرِ رَأْسُهُمْ وَإِمَامُهُمْ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنّهُ حَدّثَ أَنّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ كَانَ فِي زَمَانِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - حَفَرَ خَرِبَةً مِنْ خَرِبِ نَجْرَانَ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ فَوَجَدُوا عَبْدَ اللّهِ بْنَ الثّامِرِ تَحْتَ دَفْنٍ مِنْهَا قَاعِدًا ، وَاضِعًا يَدَهُ عَلَى ضَرْبَةٍ فِي رَأْسِهِ مُمْسِكًا عَلَيْهَا بِيَدِهِ فَإِذَا أَخّرْت يَدَهُ عَنْهَا تَنْبَعِثُ دما ، وإذا أَرْسَلْت يَدَهُ رَدّهَا عَلَيْهَا ، فَأَمْسَكَتْ دَمَهَا ، وَفِي يَدِهِ خَاتَمٌ مَكْتُوبٌ فِيهِ " رَبّي اللّهُ " فَكَتَبَ فِيهِ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ يُخْبِرُ بِأَمْرِهِ فَكَتَبَ إلَيْهِمْ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنْ أَقِرّوهُ عَلَى حَالِهِ وَرُدّوا عَلَيْهِ الدّفْنَ الّذِي كَانَ عَلَيْهِ فَفَعَلُوا
Sأَصْحَابُ الْأُخْدُودِ
[ ص 97 ] عَبْدِ اللّهِ بْنِ الثّامِرِ إنّمَا رَوَاهُ ابْنُ إسْحَاقَ مَوْقُوفًا عَلَى مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرظِيّ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ نَجْرَانَ ، لِيَصِلَ بِهِ حَدِيثَ فَيُمْؤُنّ وَهُوَ حَدِيثُ ثَابِتٍ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ طَرِيقِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ صُهَيب عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يُعْتَمَدَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُخَالِفُ حَدِيثَ ابْنِ إسْحَاقَ فِي أَلْفَاظٍ كَثِيرَةٍ . قَالَ كَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إذَا حَدّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ يَعْنِي حَدِيثًا تَقَدّمَ قَبْلَ هَذَا الْحَدِيثِ يُحَدّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ الْآخَرِ . قَالَ كَانَ مَلِكٌ مِنْ الْمُلُوكِ وَكَانَ لِذَلِكَ الْمَلِكِ كَاهِنٌ يَكْهُنُ لَهُ فَقَالَ الْكَاهِنُ اُنْظُرُوا لِي غُلَامًا فَهُمَا أَوْ قَالَ فَطِنًا لَقِنًا ؛ فَأَعْلَمَهُ عِلْمِي هَذَا ، فَإِنّي أَخَافُ أَنْ أَمَوْتَ فَيَنْقَطِعُ مِنْكُمْ هَذَا الْعِلْمُ وَلَا يَكُونُ فِيكُمْ مَنْ يَعْلَمُهُ قَالَ فَنَظَرُوا لَهُ غُلَامًا عَلَى مَا وَصَفَ فَأَمَرُوهُ أَنْ يَحْضُرَ ذَلِكَ الْكَاهِنُ وَأَنْ يَخْتَلِفَ إلَيْهِ فَجَعَلَ يَخْتَلِفُ إلَيْهِ وَكَانَ عَلَى طَرِيقِ الْغُلَامِ رَاهِبٌ فِي صَوْمَعَةٍ قَالَ مَعْمَرٌ أَحْسَبُ أَنّ أَصْحَابَ الصّوَامِعِ يَوْمئِذٍ كَانُوا مُسْلِمِينَ . قَالَ فَجَعَلَ الْغُلَامُ يَسْأَلُ الرّاهِبَ كُلّمَا مَرّ بِهِ فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتّى أَخْبَرَهُ فَقَالَ إنّمَا أَعْبُدُ اللّهَ قَالَ فَجَعَلَ الْغُلَامُ يَمْكُثُ عِنْدَ الرّاهِبِ وَيُبْطِئُ عَلَى الْكَاهِنِ فَأَرْسَلَ الْكَاهِنُ إلَى أَهْلِ الْغُلَامِ أَنّهُ لَا يَكَادُ يَحْضُرُنِي ، فَأَخْبَرَ الْغُلَامُ الرّاهِبَ بِذَلِكَ فَقَالَ لَهُ الرّاهِبُ إذَا قَالَ لَك الْكَاهِنُ أَيْنَ كُنْت ، فَقُلْ كُنْت عِنْدَ أَهْلِي ، فَإِذَا قَالَ لَك أَهْلُك : أَيْنَ كُنْت ؟ فَأَخْبَرَهُمْ أَنّك كُنْت عِنْدَ الْكَاهِنِ قَالَ فَبَيْنَمَا الْغُلَامُ عَلَى ذَلِكَ إذْ مَرّ بِجَمَاعَةِ مِنْ النّاسِ كَثِيرٍ قَدْ حَبَسَتْهُمْ دَابّةٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ إنّ تِلْكَ الدّابّةَ كَانَتْ أَسَدًا ، فَأَخَذَ الْغُلَامُ حَجَرًا ، فَقَالَ اللّهُمّ إنْ كَانَ مَا يَقُولُ الرّاهِبُ حَقّا فَأَسْأَلُك أَنْ تَقْتُلَهُ قَالَ ثُمّ رَمَى ، فَقَتَلَ الدّابّةَ فَقَالَ النّاسُ مَنْ قَتَلَهَا ؟ فَقَالُوا : الْغُلَامُ فَفَزِعَ النّاسُ وَقَالُوا : لَقَدْ عَلِمَ هَذَا الْغُلَامُ عِلْمًا لَمْ يَعْلَمْهُ أَحَدٌ . قَالَ فَسَمِعَ بِهِ أَعْمَى ، فَقَالَ لَهُ إنْ أَنْتَ رَدَدْت بَصَرِي فَلَك كَذَا وَكَذَا ، فَقَالَ لَهُ لَا أُرِيدُ مِنْك هَذَا ، وَلَكِنْ أَرَأَيْت إنْ رَجَعَ إلَيْك بَصَرُك أَتُؤْمِنُ بِاَلّذِي رَدّهُ ؟ [ ص 98 ] قَالَ نَعَمْ . قَالَ فَدَعَا اللّهَ فَرَدّ عَلَيْهِ بَصَرَهُ فَآمَنَ الْأَعْمَى ، فَبَلَغَ الْمَلِكَ أَمْرُهُمْ فَبَعَثَ إلَيْهِمْ فَأَتَى بِهِمْ فَقَالَ لَأَقْتُلَنّ كُلّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ قِتْلَةً لَا أَقْتُلُ بِهَا صَاحِبَهُ فَأَمَرَ بِالرّاهِبِ وَبِالرّجُلِ الّذِي كَانَ أَعْمَى ، فَوَضَعَ الْمِنْشَارَ عَلَى مَفْرِقِ أَحَدِهِمَا فَقَتَلَهُ ثُمّ قَتَلَ الْآخَرَ بِقِتْلَةِ أُخْرَى ، ثُمّ أَمَرَ بِالْغُلَامِ فَقَالَ انْطَلِقُوا بِهِ إلَى جَبَلِ كَذَا وَكَذَا ، فَأَلْقُوهُ مِنْ رَأْسِهِ فَانْطَلَقُوا بِهِ إلَى ذَلِكَ الْجَبَلِ فَلَمّا انْتَهَوْا إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ الّذِي أَرَادُوا أَنْ يَلْقَوْهُ مِنْهُ جَعَلُوا يَتَهَافَتُونَ مِنْ ذَلِكَ الْجَبَلِ وَيَتَرَدّوْنَ مِنْهُ حَتّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إلّا الْغُلَامُ قَالَ ثُمّ رَجَعَ فَأَمَرَ بِهِ الْمَلِكَ أَنْ يَنْطَلِقُوا بِهِ إلَى الْبَحْرِ فَيَلْقَوْنَهُ فِيهِ فَانْطَلَقَ بِهِ إلَى الْبَحْرِ فَغَرّقَ اللّهُ الّذِينَ كَانُوا مَعَهُ وَأَنْجَاهُ فَقَالَ الْغُلَامُ لِلْمَلِكِ إنّك لَا تَقْتُلُنِي حَتّى تَصْلُبَنِي وَتَرْمِيَنِي ، وَتَقُولَ إذَا رَمَيْتنِي : " بِاسْمِ اللّهِ رَبّ هَذَا الْغُلَامِ " . قَالَ فَأَمَرَ بِهِ فَصُلِبَ ثُمّ رَمَاهُ فَقَالَ بِاسْمِ اللّهِ رَبّ هَذَا الْغُلَامِ فَوَضَعَ الْغُلَامُ يَدَهُ عَلَى صُدْغِهِ حِينَ رُمِيَ ثُمّ مَاتَ فَقَالَ النّاسُ لَقَدْ عَلِمَ هَذَا الْغُلَامُ عِلْمًا مَا عَلِمَهُ أَحَدٌ ، فَإِنّا نُؤْمِنُ بِرَبّ هَذَا الْغُلَامِ قَالَ فَقِيلَ لِلْمَلِكِ أَجَزِعْت أَنّ خَالَفَك ثَلَاثَةً فَهَذَا الْعَالَمُ كُلّهمْ قَدْ خَالَفُوك ، قَالَ فَخَدّ أَخُدُودًا ، ثُمّ أَلْقَى فِيهِ الْحَطَبَ وَالنّارَ ثُمّ جَمَعَ النّاسَ فَقَالَ مَنْ رَجَعَ عَنْ ذَنْبِهِ تَرَكْنَاهُ وَمَنْ لَمْ يَرْجِعْ أَلْقَيْنَاهُ فِي هَذِهِ النّارِ فَجَعَلَ يُلْقِيهِمْ فِي ذَلِكَ الْأُخْدُودِ . قَالَ يَقُولُ اللّهُ سُبْحَانَهُ - { قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ } حَتّى بَلَغَ { الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [ الْبُرُوجُ ] . قَالَ فَأَمّا الْغُلَامُ فَإِنّهُ دُفِنَ . قَالَ فَيُذْكَرُ أَنّهُ أُخْرِجَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - وَأُصْبُعُهُ عَلَى صُدْغِهِ كَمَا وَضَعَهَا حِينَ قُتِلَ . رَوَاهُ التّرْمِذِيّ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ عَنْ عَبْدِ الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ هَدّابِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ حَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ ، ثُمّ اتّفَقَا عَنْ ثَابِتٍ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ صُهَيب غَيْرَ أَنّ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ أَنّ الْأَعْمَى الّذِي شُفِيَ كَانَ جَلِيسًا لِلْمَلِكِ وَأَنّهُ جَاءَهُ بَعْدَ مَا شُفِيَ فَجَلَسَ مِنْ الْمَلِكِ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ فَقَالَ مَنْ رَدّ عَلَيْك بَصَرَك ، قَالَ رَبّي ، قَالَ وَهَلْ لَك رَبّ غَيْرِي ؟ فَقَالَ اللّهُ رَبّي وَرَبّك ، فَأَمَرَ بِالْمِنْشَارِ فَجُعِلَ عَلَى رَأْسِهِ حَتّى وَقَعَ شِقّاهُ وَأَمَرَ بِالرّاهِبِ فَفُعِلَ بِهِ مِثْلُ ذَلِكَ وَزَادَ مُسْلِمٌ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ . قَالَ فَأُتِيَ بِامْرَأَةِ لِتُلْقَى فِي النّارِ وَمَعَهَا صَبِيّ يَرْضَعُ فَقَالَ لَهَا الْغُلَامُ يَا أُمّهْ لَا تَجْزَعِي ، فَإِنّك عَلَى الْحَقّ وَذَكَرَ ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنّ الْغُلَامَ الرّضِيعَ كَانَ مِنْ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ .

أَمْرُ دَوْسٍ ذِي ثُعْلُبَانٍ وَابْتِدَاءُ مُلْكِ الْحَبَشَةِ
وَذِكْرُ أَرْيَاطٍ الْمُسْتَوْلِي عَلَى الْيَمَنِ
دَوْسٌ يَسْتَنْصِرُ بِقَيْصَرَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَفْلَتَ مِنْهُمْ رَجُلٌ مِنْ سَبَأٍ ، يُقَالُ لَهُ دَوْسٌ ذُو ثُعْلُبَانٍ عَلَى فَرَسٍ لَهُ فَسَلَكَ الرّمْلَ فَأَعْجَزَهُمْ فَمَضَى عَلَى وَجْهِهِ ذَلِكَ حَتّى أَتَى قَيْصَرَ مَلِكَ الرّومِ ، فَاسْتَنْصَرَهُ عَلَى ذِي نُوَاسٍ وَجُنُودِهِ وَأَخْبَرَهُ بِمَا بَلَغَ مِنْهُمْ فَقَالَ لَهُ بَعُدَتْ بِلَادُك مِنّا ، وَلَكِنْ سَأَكْتُبُ لَك إلَى مَلِكِ الْحَبَشَةِ فَإِنّهُ عَلَى هَذَا الدّينِ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى بِلَادِك ، وَكَتَبَ إلَيْهِ يَأْمُرُهُ بِنَصْرِهِ وَالطّلَبِ بِثَأْرِهِ .
هَزِيمَةُ ذِي نُوَاسٍ وَانْتِحَارُهُ
فَقَدِمَ دَوْسٌ عَلَى النّجَاشِيّ بِكِتَابِ قَيْصَرَ فَبَعَثَ مَعَهُ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنْ الْحَبَشَةِ ، وَأَمّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أَرْيَاطٌ - وَمَعَهُ فِي جُنْدِهِ أَبْرَهَةُ الْأَشْرَمُ - فَرَكِبَ أَرْيَاطٌ الْبَحْرَ حَتّى نَزَلَ بِسَاحِلِ الْيَمَنِ ، وَمَعَهُ دَوْسٌ ذُو ثُعْلُبَانٍ وَسَارَ إلَيْهِ ذُو نُوَاسٍ فِي حِمْيَرَ ، وَمَنْ أَطَاعَهُ مِنْ قَبَائِلِ الْيَمَنِ ، فَلَمّا الْتَقَوْا انْهَزَمَ ذُو نُوَاسٍ وَأَصْحَابُهُ فَلَمّا رَأَى ذُو نُوَاسٍ مَا نَزَلَ [ ص 102 ] فَرَسَهُ فِي الْبَحْرِ ثُمّ ضَرَبَهُ فَدَخَلَ بِهِ فَخَاضَ بَهْ ضَحْضَاحَ الْبَحْرِ حَتّى أَفْضَى بِهِ إلَى غَمْرِهِ فَأَدْخَلَهُ فِيهِ وَكَانَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ . وَدَخَلَ أَرْيَاطٌ الْيَمَنِ ، فَمَلَكَهَا .
Sحَدِيثُ الْحَبَشَةِ
وَذَكَرَ فِيهِ دَوْسًا ذَا ثَعْلَبَانِ الّذِي أَتَى قَيْصَرَ . وَدَوْسٌ : هُوَ ابْنُ تُبّعٍ الّذِي قَتَلَهُ أَخُوهُ قَالَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ . [ ص 99 ] وَذَكَرَ فِيهِ قَيْصَرَ وَكِتَابَهُ لَلنّجَاشِيّ . وَقَيْصَرُ اسْمُ عَلَمٍ لِكُلّ مَنْ وَلِيَ الرّومَ وَتَفْسِيرُهُ بِلِسَانِهِمْ الْبُقَيْرُ الّذِي بُقِرَ بَطْنُ أُمّهِ عَنْهُ وَكَانَ أَوّلُ مَنْ تَسَمّى بِهِ بُقَيْرًا ، فَلَمّا مُلّكَ وَعُرِفَ بِهِ تَسَمّى بِهِ كُلّ مَنْ مُلّكَ بَعْدَهُ . قَالَهُ الْمَسْعُودِيّ . وَإِنّمَا كَتَبَ بِذَلِكَ إلَى النّجَاشِيّ ، لِأَنّهُ عَلَى دِينِهِ وَكَانَ أَقْرَبَ إلَى الْيَمَنِ مِنْهُ وَذَكَرَ غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ ذَا نُوَاسٍ أُدْخِلَ الْحَبَشَةَ صَنْعَاءَ الْيَمَنِ ، حِينَ رَأَى أَنْ لَا قِبَلَ لَهُ بِهِمْ بَعْدَ أَنْ اسْتَنْفَرَ جَمِيعَ الْمَقَاوِلِ لِيَكُونُوا مَعَهُ يَدًا وَاحِدَةً عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا إلّا أَنْ يُحْمَى كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَوْزَتَهُ عَلَى حِدَتِهِ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ وَمَعَهُ مَفَاتِيحُ خَزَائِنِهِ وَأَمْوَالُهُ عَلَى أَنْ يُسَالِمُوهُ وَمَنْ مَعَهُ وَلَا يَقْتُلُوا أَحَدًا فَكَتَبُوا إلَى النّجَاشِيّ بِذَلِكَ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقْبَلُوا ذَلِكَ مِنْهُمْ فَدَخَلُوا صَنْعَاءَ وَدَفَعَ إلَيْهِمْ الْمَفَاتِيحَ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقْبِضُوا مَا فِي بِلَادِهِ مِنْ خَزَائِنِ أَمْوَالِهِ ثُمّ كَتَبَ هُوَ إلَى كُلّ مَوْضِعٍ مِنْ أَرْضِهِ أَنْ اُقْتُلُوا كُلّ ثَوْرٍ أَسْوَدَ فَقُتِلَ أَكْثَرُ الْحَبَشَةِ ، فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ النّجَاشِيّ وَجّهَ جَيْشًا إلَى أَبْرَهَةَ وَعَلَيْهِمْ أَرِيَاطٌ وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْتُلَ ذَا نُوَاسٍ وَيُخَرّبَ ثُلُثَ بِلَادِهِ وَيَقْتُلُ ثُلُثَ الرّجَالِ وَيَسْبِي ثُلُثَ النّسَاءِ وَالذّرّيّةِ فَفَعَلَ ذَلِكَ أَبْرَهَةُ . وَأَبْرَهَةُ بِالْحَبَشَةِ هُوَ الْأَبْيَضُ الْوَجْهِ وَفِي هَذَا قُوّةٌ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ إنّ أَبْرَهَةَ هَذَا هُوَ أَبْرَهَةُ بْنُ الصّبَاحِ الْحِمْيَرِيّ وَلَيْسَ بِأَبِي يكْسوم الْحَبَشِيّ وَإِنّ الْحَبَشَةَ كَانُوا قَدْ أَمّرُوا أَبْرَهَةَ بْنَ الصّبَاحِ عَلَى الْيَمَنِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ ذَكَرَهُ ابْنُ سَلّام فِي تَفْسِيرِهِ وَاقْتَحَمَ ذُو نُوَاسٍ الْبَحْرَ فَهَلَكَ وَقَامَ بِأَمْرِهِ مِنْ بَعْدَهُ ذُو جَدَن ، وَاسْمُهُ عَلَسُ بْنُ الْحَارِثِ أَخُو سُبَيْع بْنِ الْحَارِثِ ، وَالْجَدَنُ حُسْنُ الصّوْتِ يُقَالُ إنّهُ أَوّلُ مَنْ أَظَهَرَ الْغِنَاءَ بِالْيَمَنِ فَسُمّيَ بِهِ وَجَدَنُ أَيْضًا : مَفَازَةٌ بِالْيَمَنِ زَعَمَ الْبَكْرِيّ أَنّ ذَا جَدَن إلَيْهَا يُنْسَبُ فَحَارَبَ الْحَبَشَةَ بَعْدَ ذِي نُوَاسٍ فَكَسَرُوا جُنْدَهُ وَغَلَبُوهُ عَلَى أَمْرِهِ فَفَرّ إلَى الْبَحْرِ كَمَا فَعَلَ ذُو نُوَاسٍ ، فَهَلَكَ فِيهِ وَذَكَرُوا سَبَبَ مُنَازَعَةِ أَبْرَهَةَ لِأَرْيَاطٍ وَأَنّ ذَلِكَ إنّمَا كَانَ لِأَنّ أَبْرَهَةَ بَلّغَ النّجَاشِيّ أَنّهُ اسْتَبَدّ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يُرْسِلْ إلَيْهِ مِنْ جِبَايَةِ الْيَمَنِ شَيْئًا ، فَوَجّهَ أَرْيَاطًا إلَى خَلْعِهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ دَعَاهُ أَبْرَهَةُ إلَى الْمُبَارَزَةِ - كَمَا ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ - وَذَكَرَ الطّبَرِيّ أَنّ عَتْوَدة الْغُلَامَ الّذِي قَتَلَ أَرْيَاطًا . وَالْعَتْوَدَةُ الشّدّةُ وَقَدْ قِيلَ فِي اسْمِهِ أَرْيَجْدَةُ . قَالَ لَهُ أَبْرَهَةُ احْتَكِمْ عَلَيّ قَالَ أَحْتَكِمُ أَنْ لَا تَزِفّ امْرَأَةً إلَى بَعْلِهَا ، حَتّى أَكُونَ أَنَا الّذِي أَبَدَأَ بِهَا قَبْلَهُ فَفَعَلَ ذَلِكَ أَبْرَهَةُ وَغَبَرَ الْعَبْدُ زَمَانًا يَفْعَلُ ذَلِكَ فَلَمّا اشْتَدّ الْغَيْظُ بِأَهْلِ الْيَمَنِ ، قَتَلُوا عَتْوَدة غِيلَةً فَقَالَ لَهُمْ الْمَلِكُ قَدْ أَنّى لَكُمْ يَأْهَلَ الْيَمَنِ أَنْ تَفْعَلُوا فِعْلَ الْأَحْرَارِ وَأَنْ تَغْضَبُوا لَحَرَمَكُمْ وَلَوْ عَلِمْت أَنّ هَذَا الْعَبْدَ يَسْأَلُنِي هَذَا الّذِي سَأَلَ مَا حَكّمْته ، وَلَكِنْ وَاَللّهِ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِيهِ دِيَةٌ وَلَا تُطْلَبُونَ بِذَخْلٍ [ ص 100 ] وَقَعَ اسْمُ أرْياط فِي رِوَايَةِ يُونُسَ لَمْ يُسَمّهِ بِهَذَا الِاسْمِ إنّمَا سَمّاهُ رَوْزَنَةً أَوْ نَحْوُ هَذَا . وَذَكَرَ الطّبَرِيّ أَنّ سَيْفَ بْنَ ذِي يَزَنَ لَمّا فَعَلَ ذُو نُوَاسٍ بِالْحَبَشَةِ مَا فَعَلَ ثُمّ ظَفَرُوا بِهِ بَعَثَ عَظِيمُهُمْ " إلَى أَبِي مُرّةَ سَيْفِ بْنِ ذِي يَزَنَ ، فَانْتَزَعَ مِنْهُ رَيْحَانَةَ بِنْتَ عَلْقَمَةَ بْنِ مَالِكٍ وَكَانَتْ قَدْ وَلَدَتْ لَهُ مَعْدِي كَرِب . فَمَلَكَهَا أَبْرَهَةُ . وَأَوْلَدَهَا مَسْرُوقَ بْنَ أَبْرَهَةَ وَعِنْدَ ذَلِكَ تَوَجّهَ سَيْفٌ إلَى كِسْرَى أَنُوشِرْوَانَ يَطْلُبُ مِنْهُ الْغَوْثَ عَلَى الْحَبَشَةِ ، فَوَعَدَهُ بِذَلِكَ وَأَقَامَ عِنْدَهُ سِنِينَ ثُمّ مَاتَ وَخَلّفَهُ ابْنه مَعْدِي كَرِب فِي طَلَبِ الثّأْرِ فَأَدْخَلَ عَلَى كِسْرَى ، فَقَالَ لَهُ مَنْ أَنْتَ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ يَطْلُبُ إرْثَ أَبِيهِ وَهُوَ وَعْدُ الْمَلِكِ الّذِي وَعَدَ بِهِ فَسَأَلَ عَنْهُ كِسْرَى : أَهُوَ مِنْ بَيْتِ مَمْلَكَةٍ أَمْ لَا ؟ فَأُخْبِرَ أَنّهُ مِنْ بَيْتِ مُلْكٍ فَوَجّهَ مَعَهُ وَهْرَزَ الْفَارِسَ فِي سَبْعَةِ آلَافٍ وَخَمْسِمِائَةِ مِنْ الْفُرْسِ ، وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فِي ثَمَانِمِائَةِ غَرِقَ مِنْهُمْ مِائَتَانِ وَسَلِمَ سِتّمِائَةٍ وَالْقَوْلُ الْأَوّلُ قَوْلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ وَهُوَ أَشْبَهُ بِالصّوَابِ إذْ يَبْعُدُ مُقَاوَمَةُ الْحَبَشَةِ بِسِتّمِائَةِ وَإِنْ كَانَ قَدْ جَمَعَ إلَيْهِمْ مِنْ الْعَرَبِ - كَمَا ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ - مَا جَمَعَ . ثُمّ إنّ مَعْدِ يَكْرُبَ بْنِ سَيْفٍ لَمّا قَتَلَ الْحَبَشَةَ وَمَلَكَ هُوَ وَوَهْرَزَ الْيَمَنَ أَقَامَ فِي ذَلِكَ نَحْوَ أَرْبَعِ سِنِينَ . ثُمّ قَتَلَتْهُ عَبِيدٌ لَهُ كَانَ قَدْ اتّخَذَهُمْ مِنْ أُولَئِكَ الْحَبَشَةِ ، خَرَجَ بِهِمْ إلَى الصّيْدِ فَزَرَقُوهُ بِحِرَابِهِمْ ثُمّ هَرَبُوا فَأُتْبِعُوا فَقُتِلُوا . وَتَفَرّقَ أَمْرُ الْيَمَنِ بَعْدَهُ إلَى مَخَالِف عَلَيْهَا مُقَاوِلٌ كَمُلُوكِ الطّوَائِفِ لَا يَدِينُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ إلّا مَا كَانَ مِنْ صَنْعَاءَ ، وَكَوْنُ الْأَبْنَاءِ فِيهَا ، حَتّى جَاءَ الْإِسْلَامُ .
فَصْلٌ
وَاسْتَشْهَدَ ابْنُ هِشَامٍ فِي هَذَا الْخَبَرِ عَلَى الْأُخْدُودِ بِبَيْتِ ذِي الرّمّةِ وَهُوَ غَيْلَانُ بْنُ عُقْبَةُ بْنِ بُهَيْش بِضَمّ الْبَاءِ وَالشّينِ وَسُمّيَ ذَا الرّمّةِ بِبَيْتِ قَالَهُ فِي الْوَتَدِ أَشْعَثَ بَاقِي رُمّةِ التّقْلِيدِ . وَقِيلَ إنّ مَيّةَ سَمّتْهُ بِذَلِكَ وَكَانَ قَدْ قَالَ لَهَا : اُصْلُحِي لِي هَذَا الدّلْوَ فَقَالَتْ لَهُ إنّي خَرْقَاءُ فَوَلّى وَهِيَ عَلَى عُنُقِهِ بِرُمّتِهَا ، فَنَادَتْهُ يَا ذَا الرّمّةِ إنْ كُنْت خَرْقَاءَ فَإِنّ لِي أُمّةٌ صُنّاعًا ؛ فَلِذَلِكَ سَمّاهَا بِخَرْقَاءَ كَمَا سَمّتْهُ بِذِي الرّمّةِ . [ ص 101 ] [ ص 102 ]
فَصْلٌ
وَقَوْلُهُ فَخَاضَ ضَحْضَاحَ الْبَحْرِ إلَى غِمْرِهِ . الضّحْضَاحُ مِنْ الْمَاءِ الّذِي يَظْهَرُ مَعَهُ الْقَعْرُ وَكَانَ أَصْلُهُ مِنْ الضّحّ وَهُوَ حَرّ الشّمْسِ كَأَنّ الشّمْسَ تُدَاخِلُهُ لِقِلّتِهِ فَقُلِبَتْ فِيهِ إحْدَى الْحَاءَيْنِ ضَادًا ، كَمَا قَالُوا فِي ثَرّةٍ ثَرْثَارَةٌ وَفِي تَمَلّلَ تَمَلْمَلٌ وَهُوَ قَوْلُ الْكُوفِيّينَ مِنْ النّحْوِيّينَ وَلَسْت أَعْرِفُ أَصْلًا يَدْفَعُهُ وَلَا دَلِيلًا يَرُدّهُ وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا : الرّقْرَاقُ وَالضّهْلُ وَقَدْ يُسْتَعَارُ فِي غَيْرِ الْمَاءِ كَقَوْلِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ حِينَ سُئِلَ عَنْهُ فَقَالَ هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ النّارِ وَلَوْلَا مَكَانِي لَكَانَ فِي الطّمْطَامِ وَفِي الْبُخَارِيّ : وَجَدْته فِي غَمْرَةٍ مِنْ النّارِ فَأَخْرَجْته إلَى الضّحْضَاحِ وَالْغَمْرُ هُوَ الطّمْطَامُ

مَا قِيلَ مِنْ شِعْرٍ فِي دَوْسٍ
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ - وَهُوَ يَذْكُرُ مَا سَاقَ إلَيْهِمْ دَوْسٌ مِنْ أَمْرِ الْحَبَشَةِ : لَا كَدَوْسِ وَلَا كَأَعْلَاقِ رَحْلِهِ
فَهِيَ مَثَلٌ بِالْيَمَنِ إلَى هَذَا الْيَوْمِ . وَقَالَ ذُو جَدَنٍ الْحِمْيَرِيّ :
هَوْنُك لَيْسَ يَرُدّ الدّمْعَ مَا فَاتَا ... لَا تُهْلِكِي أَسَفًا فِي إثْرِ مَنْ مَاتَا
أَبَعْدَ بَيْنَونَ لَا عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ ... وَبَعْدَ سَلْحِينَ يَبْنِي النّاسُ أَبْيَاتًا
[ ص 103 ] بَيْنُونُ وَسَلْحِينُ وَغُمْدَانُ : مِنْ حُصُونِ الْيَمَنِ الّتِي هَدَمَهَا أَرْيَاطٌ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي النّاسِ [ ص 104 ] وَقَالَ ذُو جَدَنٍ أَيْضًا :
دَعِينِي - لَا أَبَا لَك - لَنْ تُطِيقِي ... لِحَاك اللّهُ قَدْ أَنْزَفْتِ رِيقِي
لَدَى عَزْفِ الْقِيَانِ إذْ انْتَشَيْنَا ... وَإِذْ نُسْقَى مِنْ الْخَمْرِالرّحِيقُ
وَشُرْبُ الْخَمْرِ لَيْسَ عَلَيّ عَارًا ... إذَا لَمْ يَشْكُنِي فِيهَا رَفِيقِي
فَإِنّ الْمَوْتَ لَا يَنْهَاهُ نَاهٍ ... وَلَوْ شَرِبَ الشّفَاءَ مَعَ النّشُوقِ
وَلَا مُتَرَهّبٌ فِي أُسْطُوَانٍ ... يُنَاطِحُ جُدُرَهُ بَيْضِ الْأَنُوقِ
وَغُمْدَانُ الّذِي حُدّثْت عَنْهُ ... بَنَوْهُ مُسَمّكًا فِي رَأْسِ نِيقِ
بِمَنْهَمَةِ وَأَسْفَلَهُ جُرُونُ ... وَحُرّ الْمَوْحَلِ اللّثِقِ الزّلِيقِ
مَصَابِيحُ السّلِيطِ تَلُوحُ فِيهِ ... إذَا يُمْسِي كَتَوْمَاضِ الْبُرُوقِ
وَنَخْلَتُهُ الّتِي غُرِسَتْ إلَيْهِ ... يَكَادُ الْبُسْرُ يَهْصِرُ بِالْعُذُوقِ
فَأَصْبَحَ بَعْدَ جِدّتِهِ رَمَادًا ... وَغَيّرَ حُسْنَهُ لَهَبُ الْحَرِيقِ
وَأَسْلَمَ ذُو نُوَاسٍ مُسْتَكِينًا ... وَحَذّرَ قَوْمَهُ ضَنْكَ الْمَضِيقِ
S[ ص 105 ] [ ص 106 ] جَدَنٍ هَوْنك لَسْنَ يَرُدّ الدّمْعَ مَا فَاتَا
وَهَكَذَا رُوِيَ هَذَا الْقَسِيمُ نَاقِصًا قَالَهُ الْبَرْقِيّ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ : هَوْنُكُمَا لَسْنَ يَرُدّ . قَالَ وَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِ الْعَرَبِ لِلْوَاحِدِ افْعَلَا ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَالْكَلَامِ . وَفِيهِ
أَبَعْدَ بَيْنَونَ لَا عَيْنٌ وَلَا أَثَرٌ ... وَبَعْدَ سَلْحِينَ يَبْنِي النّاسُ أَبْيَاتًا
[ ص 103 ] فَبَيْنُونُ وَسَلْحِينُ مَدِينَتَانِ خَرّبَهُمَا أَرْيَاطٌ كَمَا ذَكَرَ . قَالَ الْبَكْرِيّ فِي كِتَابِ " مُعْجَمِ مَا اسْتَعْجَمَ " : سُمّيَتْ بَيْنُونَ لِأَنّهَا كَانَتْ بَيْنَ عُمَانَ وَالْبَحْرَيْنِ ، فَهِيَ إذًا عَلَى قَوْلِهِ فَعْلُونَ مِنْ الْبَيْنِ وَالْيَاءُ أَصْلِيّةٌ وَقِيَاسُ النّحْوِيّينَ يَمْنَعُ مِنْ هَذَا ، لِأَنّ الْإِعْرَابَ إذَا كَانَ فِي النّونِ لَزِمَتْ الِاسْمَ الْيَاءُ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ كَقِنّسْرِينَ وَفِلَسْطِينَ أَلَا تَرَى كَيْفَ قَالَ فِي آخِرِ الْبَيْتِ وَبَعْدَ سَلْحِينَ ، فَكَذَلِكَ كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَقُولَ عَلَى هَذَا : أَبَعْدَ بَيْنِينَ وَعَلَى مَذْهَبِ مَنْ جَعَلَهُ مِنْ الْعَرَبِ بِالْوَاوِ فِي الرّفْعِ وَبِالْيَاءِ فِي الْخَفْضِ وَالنّصْبِ . يَقُولُ أَيْضًا : أَبَعْدَ بَيْنِينَ وَلَيْسَ لِلْعَرَبِ فِيهِ مَذْهَبٌ ثَالِثٌ فَثَبَتَ أَنّهُ لَيْسَ مِنْ الْبَيْنِ إنّمَا هُوَ فَيْعُولٌ وَالْوَاوُ زَائِدَةٌ مِنْ أَبَنّ بِالْمَكَانِ وَبَنّ إذَا أَقَامَ فِيهِ لَكِنّهُ لَا يَنْصَرِفُ لِلتّعْرِيفِ وَالتّأْنِيثِ غَيْرَ أَنّ أَبَا سَعِيدٍ السّيْرَافِيّ ذَكَرَ وَجْهًا ثَالِثًا لِلْعَرَبِ فِي تَسْمِيَةِ الِاسْمِ بِالْجَمْعِ الْمُسْلِمِ فَأَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْإِعْرَابُ فِي النّونِ وَتَثْبُتُ الْوَاوُ وَقَالَ فِي زَيْتُونٍ إنّهُ فَعْلُونٌ مِنْ الزّيْتِ وَأَجَازَ أَبُو الْفَتْحِ بْنُ جِنّيّ أَنْ يَكُونَ الزّيْتُونُ فَيْعُولًا مِنْ الزّيْتِ وَلَكِنْ مِنْ قَوْلِهِمْ زَتَنَ الْمَكَانُ إذَا أَنْبَتَ الزّيْتُونُ فَإِنْ صَحّتْ هَذِهِ الْحِكَايَةُ عَنْ الْعَرَبِ ، وَإِلّا فَالظّاهِرُ أَنّهُ مِنْ الزّيْتِ وَأَنّهُ فَعْلُونٌ وَقَدْ كَثُرَ هَذَا فِي كَلَامِ النّاسِ غَيْرَ أَنّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْقُدَمَاءِ فَفِي الْمَعْرُوفِينَ مِنْ أَسْمَاءِ النّاسِ سُحْنُونٌ وَعَبْدُونٌ قَالَ الشّاعِرُ - وَهُوَ ابْنُ الْمُعْتَزّ
سَقَى الْجَزِيرَةَ ذَاتَ الظّلّ وَالشّجَرِ ... وَدَيْرَ عَبْدُونَ هَطّالٌ مِنْ الْمَطَرِ
وَدَيْرُ عَبْدُونَ مَعْرُوفٌ بِالشّامِ وَكَذَلِك دَيْرُ فَيْنُونَ غَيْرَ أَنّ فَيْنُونَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فَيْعُولًا ، فَلَا يَكُونُ مِنْ هَذَا الْبَابِ كَمَا قُلْنَا فِي بَيْنُونَ ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ . وَأَمّا حَلَزُونٌ - وَهُوَ دُودٌ يَكُونُ بِالْعُشْبِ وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ فِي الرّمَثِ - فَلَيْسَ مِنْ بَابِ فِلَسْطِينَ وَقِنّسْرِينَ وَلَكِنّ النّونَ فِيهِ أَصْلِيّةٌ كَزَرَجُونَ وَلِذَلِكَ أَدْخَلَهُ أَبُو عُبَيْدٍ فِي بَابِ فَعْلُونٍ وَكَذَلِكَ فَعَلَ صَاحِبُ كِتَابِ الْعَيْنِ أَدْخَلَهُ فِي بَابِ الرّبَاعِيّ فَدَلّ عَلَى أَنّ النّونَ عِنْدَهُ فِيهِ أَصْلِيّةٌ وَأَنّهُ فَعَلُولٌ بِلَامَيْنِ . وَقَوْلُ ذِي جَدَنٍ وَبَعْدَ سَلْحِينَ يُقْطَعُ عَلَى أَنّ بَيْنُونَ : فَيْعُولٌ عَلَى كُلّ حَالٍ لِأَنّ الّذِي ذَكَرَهُ السّيْرَافِيّ مِنْ الْمَذْهَبِ الثّالِثِ إنْ صَحّ فَإِنّمَا هِيَ لُغَةٌ أُخْرَى غَيْرُ لُغَةِ ذِي جَدَنٍ الْحِمْيَرِيّ ، إذْ لَوْ كَانَ مِنْ لُغَتِهِ لَقَالَ سَلْحُونٌ وَأَعْرَبَ النّونَ مَعَ بَقَاءِ الْوَاوِ فَلَمّا لَمْ [ ص 104 ] بَيْنُونَ : زِيَادَةُ الْيَاءِ وَأَنّ النّونَيْنِ أَصْلِيّتَانِ كَمَا تَقَدّمَ . وَقَوْلُهُ دَعِينِي - لَا أَبَا لَك - لَنْ تُطِيقِي
أَيْ لَنْ تُطِيقِي صَرْفِي بِالْعَذْلِ عَنْ شَأْنِي ، وَحَذَفَ النّونَ مِنْ تُطِيقِينَ لِلنّصْبِ أَوْ لِلْجَزْمِ عَلَى لُغَةِ مَنْ جَزَمَ بِلَنْ إنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ لُغَتِهِ وَالْيَاءُ الّتِي بَعْدَ الْقَافِ اسْمٌ مُضْمَرٌ فِي قَوْلِ سِيبَوَيْهِ ، وَحَرْفُ عَلَامَةِ تَأْنِيثٍ فِي قَوْلِ الْأَخْفَشِ وَلِلْحُجّةِ لَهُمَا ، وَعَلَيْهِمَا مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا . وَقَوْلُهُ قَدْ أَنْزَفْتِ رِيقِي . أَيْ أَكْثَرْت عَلَيّ مِنْ الْعَذْلِ حَتّى أَيْبَسْتِ رِيقِي فِي فَمِي ، وَقِلّةُ الرّيقِ مِنْ الْحَصَرِ ، وَكَثْرَتُهُ مِنْ قُوّةِ النّفْسِ وَثَبَاتِ الْجَأْشِ قَالَ الرّاجِزُ
إنّي إذَا زَبّبَتْ الْأَشْدَاقُ ... وَكَثُرَ اللّجَاجُ وَاللّقْلَاقُ
ثَبْتُ الْجَنَانِ مِرْجَمٌ وَدّاقُ
[ ص 105 ] كَثْرَةِ الْكَلَامِ وَقَوْلُهُ وَدّاقُ أَيْ يَسِيلُ كَالْوَدْقِ . يُرِيدُ سَيَلَانَ الرّيقِ وَكَثْرَةَ الْقَوْلِ كَمَا قَالَ أَبُو الْمُخَشّ فِي ابْنِهِ كَانَ أَشْدَقَ خُرْطُمَانِيّا إذَا تَكَلّمَ سَالَ لُعَابُهُ . وَقَوْلُهُ وَلَوْ شَرِبَ الشّفَاءَ مَعَ النّشُوقِ
أَيْ لَوْ شَرِبَ كُلّ دَوَاءٍ يُسْتَشْفَى بِهِ وَتَنَشّقَ كُلّ نَشُوقٍ يُجْعَلُ فِي الْأَنْفِ لِلتّدَاوِي بِهِ مَا نَهَى ذَلِكَ الْمَوْتُ عَنْهُ . وَقَوْلُهُ وَلَا مُتَرَهّبٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَفَعَهُ عَطْفًا عَلَى نَاهٍ أَيْ لَا يَرُدّ الْمَوْتَ نَاهٍ وَلَا مُتَرَهّبٌ . أَيْ دُعَاءُ مُتَرَهّبٍ يَدْعُو لَك ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَرَهّبٌ رَفْعًا عَلَى مَعْنَى : وَلَا يَنْجُو مِنْهُ مُتَرَهّبٌ . كَمَا قَالَ تَاللّهِ يَبْقَى عَلَى الْأَيّامِ ذُو حِيَدٍ . الْبَيْتُ . وَالْأُسْطُوَانُ أُفْعُوَالٌ . النّونُ أَصْلِيّةٌ لِأَنّ جَمْعَهُ أَسَاطِينُ وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ أَفَاعِينُ . وَقَوْلُهُ يُنَاطِحُ جُدْرَهُ بَيْضُ الْأَنُوقِ
جُدْرُهُ جَمْعُ جِدَارٍ وَهُوَ مُخَفّفٌ مِنْ جُدُورٍ وَفِي التّنْزِيلِ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ تُقَيّدُ بِضَمّ الْجِيمِ وَالْجَدْرُ أَيْضًا بِفَتْحِ الْجِيمِ الْحَائِطُ ، وَلَكِنّ الرّوَايَةَ فِي الْكِتَابِ هَكَذَا كَمَا ذَكَرْنَا . وَالْأَنُوقُ الْأُنْثَى مِنْ الرّخَمِ يُقَالُ فِي الْمَثَلِ أَعَزّ مِنْ بَيْضِ الْأَنُوقِ إذَا أَرَادَ مَا لَا يُوجَدُ لِأَنّهَا تَبْيَضّ حَيْثُ لَا يُدْرَكُ بِيضُهَا مِنْ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ . هَذَا قَوْلُ الْمُبَرّدِ فِي الْكَامِلِ وَلَا يُوَافَقُ عَلَيْهِ فَقَدْ قَالَ الْخَلِيلُ الْأَنُوقُ الذّكَرُ مِنْ الرّخَمِ وَهَذَا أَشْبَهُ بِالْمَعْنَى ، لِأَنّ الذّكَرَ لَا يَبْيَضّ ، فَمَنْ أَرَادَ بَيْضَ الْأَنُوقِ فَقَدْ أَرَادَ الْمُحَالَ كَمَنْ أَرَادَ الْأَبْلَقَ الْعَقُوقَ وَقَدْ قَالَ الْقَالِي فِي الْأَمَالِي : الْأَنُوقُ يَقَعُ عَلَى الذّكَرِ وَالْأُنْثَى مِنْ الرّخَمِ . وَقَوْلُهُ وَغُمْدَانُ الّذِي حُدّثْت عَنْهُ
هُوَ الْحِصْنُ الّذِي كَانَ لِهَوْذَةَ بْنِ عَلِيّ مَلِكِ الْيَمَامَةَ ، وَسَيَأْتِي طَرَفٌ مِنْ ذِكْرِهِ . وَمُسَمّكًا : مُرَفّعًا مِنْ قَوْلِهِ سَمَكَ السّمَاءَ وَالنّيقُ أَعْلَى الْجَبَلِ . وَقَوْلُهُ بِمَنْهَمَةِ هُوَ مَوْضِعُ الرّهْبَانِ . وَالرّاهِبُ يُقَالُ لَهُ النّهَامِيّ وَيُقَالُ لِلنّجّارِ أَيْضًا : نِهَامِيّ ، فَتَكُونُ الْمَنْهَمَةُ أَيْضًا عَلَى هَذَا مَوْضِعَ نَجْرٍ . [ ص 106 ] وَأَسْفَلَهُ جُرُونٌ . جَمْعُ جُرْنٍ وَهُوَ النّقِيرُ مِنْ جَرَنَ الثّوْبُ إذَا لَانَ [ وَانْسَحَقَ ] . وَرِوَايَةُ أَبِي الْوَلِيدِ الْوَقْشِيّ جُرُوبٌ بِالْبَاءِ . وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ الطّبَرِيّ بِالْبَاءِ أَيْضًا . وَفِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الْوَقْشِيّ الْجُرُوبُ حِجَارَةٌ سُودٌ . كَذَا نَقَلَ أَبُو بَحْرٍ عَنْهُ فِي نُسْخَةِ كِتَابِهِ فَإِنْ صَحّ هَذَا فِي اللّغَةِ وَإِلّا فَالْجُرُوبُ جَمْعُ جَرِيبٍ عَلَى حَذْفِ الْيَاءِ مِنْ جَرِيبٍ فَقَدْ يُجْمَعُ الِاسْمُ عَلَى حَذْفِ الزّوَائِدِ كَمَا جَمَعُوا صَاحِبًا عَلَى أَصْحَابٍ . وَقَالُوا : طَوِيّ وَأَطْوَاءٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ . وَالْجَرِيبُ وَالْجِرْبَةُ الْمَزْرَعَةُ . وَقَوْلُهُ وَحُرّ الْمَوْحَلِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنّهُ مِنْ وَحِلَ يَوْحَلُ . وَلَوْ كَانَ الْفِعْلُ مِنْهُ وَحَلَ عَلَى مِثْلِ وَعَدَ لَكَانَ الْقِيَاسُ فِي الْمَوْحِلِ الْكَسْرُ لَا غَيْرُ وَقَدْ ذَكَرَ الْقُتَبِيّ فِيهِ اللّغَتَيْنِ الْكَسْرَ وَالْفَتْحَ وَالْأَصْلُ مَا قَدّمْنَاهُ . وَقَوْلُهُ وَحُرّ بِضَمّ الْحَاءِ وَهُوَ خَالِصُ كُلّ شَيْءٍ وَفِي كِتَابِ أَبِي بَحْرٍ عَنْ الْوَقْشِيّ وَحَرّ الْمَوْحَلِ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَالْجِيمُ مِنْ الْمَوْجَلِ مَفْتُوحَةٌ وَفَسّرَ الْمَوْجَلَ فَقَالَ حِجَارَةٌ مُلْسٌ لَيّنَةٌ وَاَلّذِي أَذْهَبُ إلَيْهِ أَنّ الْمَوْجَلَ هَهُنَا وَاحِدُ الْمَوَاجِلِ وَهِيَ مَنَاهِلُ الْمَاءِ وَفُتِحَتْ الْجِيمُ لِأَنّ الْأَصْلَ مَأْجَلٌ كَذَلِكَ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ : هِيَ الْمَآجِلُ وَوَاحِدُهَا : مَأْجَلٌ . وَفِي آثَارِ الْمُدَوّنَةِ سُئِلَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللّهُ - عَنْ مَوَاجِلِ بُرْقَةَ يَعْنِي : الْمَنَاهِلَ فَلَوْ كَانَتْ الْوَاوُ فِي الْكَلِمَةِ أَصْلًا لَقِيلَ فِي الْوَاحِدِ مَوْجِلٌ مِثْلُ مَوْضِعٍ إلّا أَنْ يُرَادَ بِهِ مَعْنَى الْوَجَلِ فَيَكُونُ الْمَاضِي مِنْ الْفِعْلِ مَكْسُورَ الْجِيمِ وَالْمُسْتَقْبَلُ مَفْتُوحًا ، فَيُفْتَحُ الْمَوْجَلُ حِينَئِذٍ وَلَا مَعْنَى لَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ . وَقَوْلُهُ اللّثِقُ الزّلِيقُ . اللّثِقُ مِنْ اللّثَقِ وَهُوَ أَنْ يُخْلَطَ الْمَاءُ بِالتّرَابِ فَيَكْثُرُ مِنْهُ الزّلَقُ قَالَ بَعْضُ الْفُصَحَاءِ غَابَ الشّفَقُ وَطَالَ الْأَرَقُ وَكَثُرَ اللّثَقُ فَلِيَنْطِقْ مَنْ نَطَقَ . وَفِي حَاشِيَةِ كِتَابِ أَبِي بَحْرٍ اللّبِقُ بِالْبَاءِ الْمَنْقُوطَةِ بِوَاحِدَةِ وَذَكَرَ أَنّهُ هَكَذَا وُجِدَ فِي أَصْلِ ابْنِ هِشَامٍ ، وَلَا مَعْنَى لِلّبِقِ هَهُنَا ، وَأَظُنّهُ تَصْحِيفًا مِنْ الرّاوِي - وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَقَوْلُهُ فِي الشّعْرِ يَكَادُ الْبُسْرُ يَهْصِرُ بِالْعُذُوقِ . أَيْ تَمِيلُ بِهَا ، وَهُوَ جَمْعُ عِذْقٍ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَهِيَ الْكِبَاسَةُ أَوْ جَمْعُ عَذْقٍ بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَهِيَ النّخْلَةُ وَهُوَ أَبْلَغُ فِي وَصْفِهَا بِالْإِيقَارِ أَنْ يَكُونَ جَمْعُ عَذْقٍ بِالْفَتْحِ . وَقَوْلُهُ وَأَسْلَمَ ذُو نُوَاسٍ مُسْتَكِينًا . أَيْ خَاضِعًا ذَلِيلًا ، وَفِي التّنْزِيلِ { فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبّهِمْ } [ الْمُؤْمِنُونَ 76 ] ، قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيّ فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مِنْ السّكُونِ ، وَيَكُونُ الْأَصْلُ اسْتَكَنّ عَلَى [ ص 107 ] فَصَارَتْ أَلِفًا كَمَا قَالَ الشّاعِرُ
وَإِنّنِي حَيْثُمَا يَثْنِي الْهَوَى بَصَرِي ... مِنْ حَيْثُ مَا سَلَكُوا أَدْنَوْ فَأَنْظُورُ
وَقَالَ آخَرُ يَا لَيْتَهَا جَرَتْ عَلَى الْكَلْكَالِ . أَرَادَ الْكَلْكَلَ . وَالْقَوْلُ الْآخَرُ أَنْ يَكُونَ اسْتَفْعَلَ مِنْ كَانَ يَكُونُ مِثْلُ اسْتَقَامَ مِنْ قَامَ يَقُومُ . قَالَ الْمُؤَلّفُ رَحِمَهُ اللّهُ هَذَا الْقَوْلُ الْأَخِيرُ جَيّدٌ فِي التّصْرِيفِ مُسْتَقِيمٌ فِي الْقِيَاسِ لَكِنّهُ بَعِيدٌ فِي الْمَعْنَى عَنْ بَابِ الْخُضُوعِ وَالذّلّةِ وَالْقَوْلُ الْأَوّلُ قَرِيبٌ فِي الْمَعْنَى ، لَكِنّهُ بَعِيدٌ عَنْ قِيَاسِ التّصْرِيفِ إذْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ فِعْلٌ عَلَى وَزْنِ افْتِعَالٍ بِأَلِفِ وَلَكِنْ وَجَدْت لِغَيْرِ ابْنِ الْأَنْبَارِيّ قَوْلًا ثَالِثًا : إنّهُ اسْتَفْعَلَ مِنْ الْكَيْنِ وَكَيْنُ الْإِنْسَانِ عَجُزُهُ وَمُؤَخّرُهُ وَكَأَنّ الْمُسْتَكِينَ قَدْ حَنَا ذَلِكَ مِنْهُ كَمَا يُقَالُ صَلّى ، أَيْ حَنَا صَلَاهُ وَالصّلَا : أَسْفَلُ الظّهْرِ وَهَذَا الْقَوْلُ جَيّدٌ فِي التّصْرِيفِ قَرِيبُ الْمَعْنَى مِنْ الْخُضُوعِ .

[ ص 107 ] وَقَالَ ابْنُ الذّئْبَةِ الثّقَفِيّ فِي ذَلِكَ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الذّئْبَةُ أُمّهُ وَاسْمُهُ رَبِيعَةُ بْنُ عَبْدِ يالَيْل بْنِ سَالِمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حُطَيْطِ بْنِ جُشَمِ بْنِ قَسِيّ [ ص 108 ]
لَعَمْرُك مَا لِلْفَتَى مِنْ مَفَرّ ... مَعَ الْمَوْتِ يَلْحَقُهُ وَالْكِبَرُ
لَعَمْرُك مَا لِلْفَتَى صُحُرَةٌ ... لَعَمْرُك مَا إنْ لَهُ مِنْ وَزَرْ
أَبَعْدَ قَبَائِلَ مِنْ حِمْيَرَ ... أُبِيدُوا صَبَاحًا بِذَاتِ الْعَبَرْ
بِأَلْفِ أُلُوفٍ وَحَرّابَةٍ ... كَمِثْلِ السّمَاءِ قُبَيْلَ الْمَطَرْ
يُصِمّ صِيَاحَهُمْ الْمُقْرَبَاتِ ... وَيَنْفُونَ مَنْ قَاتَلُوا بِالذّفَرْ
سَعَالِيَ مِثْلُ عَدِيدِ التر ... اب تَيْبَسُ مِنْهُمْ رِطَابُ الشّجَرِ
Sوَذَكَرَ قَوْلَ ابْنِ الذّئْبَةِ وَاسْمُهُ وَهُوَ رَبِيعَةُ بْنُ عَبْدِ يالَيْل ، وَقَالَ فِيهِ لَعَمْرُك مَا لِلْفَتَى صُحُرَةٌ وَهُوَ الْمُتّسَعُ أُخِذَ مِنْ لَفْظِ الصّحْرَاءِ وَالْوِزْرُ الْمَلْجَأُ وَمِنْهُ اُشْتُقّ الْوَزِيرُ لِأَنّ الْمَلِكَ يَلْجَأُ إلَى رَأْيِهِ وَقَدْ قِيلَ مِنْ الْوِزْرِ لِأَنّهُ يَحْمِلُ عَنْ الْمَلِكِ أَثْقَالًا ، وَالْوِزْرُ الثّقْلُ وَلَا يَصِحّ قَوْلُ مَنْ قَالَ هُوَ مِنْ أَزَرَهُ إذَا أَعَانَهُ لِأَنّ فَاءَ الْفِعْلِ فِي الْوَزِيرِ وَاوٌ وَفِي الْأُزُرِ الّذِي هُوَ الْعَوْنُ هَمْزَةٌ . وَذَاتُ الْعَبَرِ أَيْ ذَاتُ الْحُزْنِ يُقَالُ عَبَرَ الرّجُلُ إذَا حَزِنَ وَيُقَالُ لِأُمّهِ الْعُبْرُ ، كَمَا يُقَالُ لِأُمّهِ الثّكْلُ . وَالْمُقَرّبَاتُ الْخَيْلُ الْعِتَاقُ الّتِي لَا تَسْرَحُ فِي الْمَرْعَى ، وَلَكِنْ تُحْبَسُ قُرْبَ الْبُيُوتِ مُعَدّةً لِلْعَدُوّ . وَقَوْلُهُ وَيَنْفُونَ مَنْ قَاتَلُوا بِالذّفَرِ . أَيْ بِرِيحِهِمْ وَأَنْفَاسِهِمْ يَنْفُونَ مَنْ قَاتَلُوا ، وَهَذَا إفْرَاطٌ فِي وَصْفِهِمْ بِالْكَثْرَةِ قَالَ الْبَرْقِيّ : أَرَادَ يَنْفُونَ مَنْ قَاتَلُوا بِذَفَرِ آبَاطِهِمْ أَيْ [ ص 108 ] قَالَ الْمُؤَلّفُ - رَحِمَهُ اللّهُ - فَإِنْ كَانَ أَرَادَ هَذَا فَإِنّمَا قَصَدَهُ لِأَنّ السّودَانَ أَنْتَنُ النّاسِ آبَاطًا وَأَعْرَاقًا . وَقَوْلُهُ سَعَالِيَ شَبّهَهُمْ بِالسّعَالِيِ مِنْ الْجِنّ جَمْعُ سِعْلَاةٍ [ أَوْ سِعْلَاءٍ ] . وَيُقَالُ بَلْ هِيَ السّاحِرَةُ مِنْ الْجِنّ ، وَقَوْلُهُ كَمِثْلِ السّمَاءِ أَيْ كَمِثْلِ السّحَابِ لِاسْوِدَادِ السّحَابِ وَظُلْمَتِهِ قُبَيْلَ الْمَطَرِ .

وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِي كَرِبَ الزّبَيْدِيّ فِي شَيْءٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَيْسِ بْنِ مَكْشُوحٍ الْمُرَادِيّ فَبَلَغَهُ أَنّهُ يَتَوَعّدُهُ فَقَالَ يَذْكُرُ حِمْيَرَ وَعِزّهَا ، وَمَا زَالَ مِنْ مُلْكِهَا عَنْهَا :
أَتُوعِدُنِي كَأَنّك ذُو رُعَيْنٍ ... بِأَفْضَلِ عِيشَةٍ أَوْ ذُو نُوَاسٍ
وَكَائِنٌ كَانَ قَبْلَك مِنْ نَعِيمٍ ... وَمُلْكٍ ثَابِتٍ فِي النّاسِ رَاسِي
قَدِيمٍ عَهْدُهُ مِنْ عَهْدِ عَادٍ ... عَظِيمٍ قَاهِرِ الْجَبَرُوتِ قَاسِي
فَأَمْسَى أَهْلُهُ بَادُوا ، وَأَمْسَى ... يَحُولُ مِنْ أُنَاسٍ فِي أُنَاسٍ
نَسَبُ زُبَيْدٍ
[ ص 109 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : زُبَيْدُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ مُنَبّهِ بْنِ صَعْبِ بْنِ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ بْنِ مَذْحِجَ ، وَيُقَالُ زُبَيْدُ بْنُ مُنَبّهِ بْنِ صَعْبِ بْنِ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ وَيُقَالُ زُبَيْدُ بْنُ صَعْبٍ . وَمُرَادٌ يُحَابِرُ بْنُ مَذْحِجَ .
عَوْدٌ إلَى شِعْرِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ قَالَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - إلَى سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيّ ، وَبَاهِلَةُ بْنُ يَعْصُرَ بْنِ سَعْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ . وَهُوَ إرْمِينِيّةُ يَأْمُرُهُ أَنْ يُفَضّلَ أَصْحَابَ الْخَيْلِ الْعِرَابِ عَلَى أَصْحَابِ الْخَيْلِ الْمَقَارِفِ فِي الْعَطَاءِ فَعَرَضَ الْخَيْلَ فَمَرّ بِهِ فَرَسُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ ، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ فَرَسُك هَذَا مُقْرِفٌ فَغَضِبَ عَمْرٌو ، وَقَالَ هَجِينٌ عَرَفَ هَجِينًا مِثْلَهُ فَوَثَبَ إلَيْهِ قَيْسٌ فَتَوَعّدَهُ فَقَالَ عَمْرٌو هَذِهِ الْأَبْيَاتِ . [ ص 110 ]
عَوْدٌ إلَى شِقّ وَسَطِيحٍ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَهَذَا الّذِي عَنَى سَطِيحٌ الْكَاهِنُ بِقَوْلِهِ لَيَهْبِطَن أَرْضَكُمْ الْحَبَشُ ، فَلَيَمْلِكُنّ مَا بَيْنَ أَبْيَنَ إلَى جُرَشٍ وَاَلّذِي عَنَى شِقّ الْكَاهِنِ بِقَوْلِهِ " لَيَنْزِلَن أَرْضَكُمْ السّودَانُ ، فَلَيَغْلِبُنّ عَلَى كُلّ طَفْلَةٍ الْبَنَانَ وَلْيَمْلِكُنّ مَا بَيْنَ أَبْيَنَ إلَى نَجْرَانَ " .
Sفَصْلٌ
وَقَوْلُهُ عَمْرُو بْنُ مَعْدِي كَرِبَ ، وَمَعْدِي كَرِبَ بِالْحِمْيَرِيّةِ وَجْهُ الْفَلّاحِ . الْمَعْدِي هُوَ الْوَجْهُ بِلُغَتِهِمْ وَالْكَرِبُ هُوَ الْفَلّاحُ وَقَدْ تَقَدّمَ أَبُو كَرِبَ فَمَعْنَاهُ عَلَى هَذَا : أَبُو الْفَلّاحِ . قَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ . وَكَذَلِكَ تَقَدّمَ كَلْكِي كَرِبَ وَلَا أَدْرِي مَا كَلْكِي . وَقَوْلُهُ قَيْسُ بْنُ مَكْشُوحٍ الْمُرَادِيّ ، إنّمَا هُوَ حَلِيفٌ لِمُرَادِ وَاسْمُ مُرَادٍ يُحَابِرُ بْنُ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ بْنِ مَذْحِجَ ، وَنَسَبُهُ فِي بَجِيلَةَ ، ثُمّ فِي بَنِي أَحْمَسَ وَأَبُوهُ مَكْشُوحٌ اسْمُهُ هُبَيْرَةُ بْنُ هِلَالٍ وَيُقَالُ عَبْدُ يَغُوثَ بْنُ هُبَيْرَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَسْلَمَ بْنِ أَحْمَسَ بْنِ الْغَوْثِ بْنِ أَنْمَارٍ ، وَأَنْمَارٌ : هُوَ وَالِدُ بَجِيلَةَ وَخَثْعَمَ ، وَسُمّيَ أَبُوهُ مَكْشُوحًا ، لِأَنّهُ ضُرِبَ بِسَيْفِ عَلَى كَشْحِهِ وَيُكَنّى قَيْسَ : أَبَا شَدّادٍ وَهُوَ قَاتِلُ الْأَسْوَدِ الْعَنْسِيّ الْكَذّابِ هُوَ وَذَادَوَيْهِ وَفَيْرُوزُ وَكَانَ قَيْسٌ بَطَلًا بَئِيسًا قُتِلَ مَعَ عَلِيّ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - يَوْمَ صَفّينَ وَلَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَوَاقِفُ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا عَنْ بُهْمَةٍ مِنْ الْبُهْمِ وَكَذَلِكَ لَهُ فِي حُرُوبِ الشّامِ مَعَ الرّومِ وَقَائِعُ وَمَوَاقِفُ لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا ، عَنْ أَحَدٍ بَعْدَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ . [ ص 109 ] وَعَمْرُو بْنُ مَعْدِي كَرِبَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - يُكَنّى : أَبَا ثَوْرٍ تُضْرَبُ الْأَمْثَالُ بِفُرُوسِيّتِهِ وَبَسَالَتِهِ وَفِيهِ يَقُولُ الشّاعِرُ حِينَ مَاتَ
فَقُلْ لِزُبَيْدِ بَلْ لِمَذْحِجَ كُلّهَا ... رُزِيتُمْ أَبَا ثَوْرٍ قَرِيعَكُمْ عَمْرًا
وَصَمْصَامَتُهُ الْمَشْهُورَةُ كَانَتْ مِنْ حَدِيدَةٍ وُجِدَتْ عِنْدَ الْكَعْبَةِ مَدْفُونَةً فِي الْجَاهِلِيّةِ فَصُنِعَ مِنْهَا ذُو الْفَقَارِ وَالصّمْصَامَةُ ثُمّ تَصَيّرَتْ إلَى خَالِدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِي . يُقَالُ إنّ عَمْرًا وَهَبَهَا لَهُ لِيَدِ كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَنّ رَيْحَانَةَ أُخْت عَمْرٍو الّتِي يَقُولُ فِيهَا عَمْرٌو :
أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدّاعِي السّمِيعُ ... يُؤَرّقُنِي وَأَصْحَابِي هُجُوعٌ
كَانَ أَصَابَهَا خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ فِي سَبْيٍ سَبَاهُ فَمَنّ عَلَيْهَا ، وَخَلّى سَبِيلَهَا ، فَشَكَرَ ذَلِكَ لَهُ عَمْرٌو أَخُوهَا ، وَفِي آخِرِ الْكِتَابِ مِنْ خَبَرِ قَيْسِ بْنِ مَكْشُوحٍ وَعَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ أَكْثَرُ مِمّا وَقَعَ هَهُنَا ، وَالشّعْرُ السّينِيّ الّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ وَأَوّلُهُ أَتُوعِدُنِي كَأَنّك ذُو رُعَيْنٍ . ذَكَرَ الْمَسْعُودِيّ أَنّ عَمْرًا قَالَهُ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطّابِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - حِينَ أَرَادَ ضَرْبَهُ بِالدّرّةِ فِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ وَفِي الشّعْرِ زِيَادَةٌ لَمْ تَقَعْ فِي السّيرَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ
فَلَا يَغْرُرْك مُلْكُك ، كُلّ مُلْكٍ ... يَصِيرُ لِذِلّةِ بَعْدَ الشّمَاسِ
[ ص 110 ] وَذَكَرَ سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ حِينَ هَجَنَ فَرَسَ عَمْرٍو ، وَنَسَبَهُ إلَى بَاهِلَةَ بْنِ أَعْصُرَ وَكَذَلِكَ هُوَ عِنْدَ أَهْلِ النّسَبِ بَاهِلِيّ ، ثُمّ أَحَدُ بَنِي قُتَيْبَةَ بْنِ مَعْنٍ وَبَاهِلَةُ : أُمّهُمْ وَهِيَ بِنْتُ صَعْبِ بْنِ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ بْنِ مَذْحِجَ ، وَأَبُوهُمْ يَعْصُرُ وَهُوَ مُنَبّهُ بْنُ سَعْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ وَسُمّيَ يَعْصُرَ لِقَوْلِهِ
أَعُمَيْرٌ إنّ أَبَاك غَيّرَ لَوْنَهُ ... مَرّ اللّيَالِي وَاخْتِلَافُ الْأَعْصُرِ
فَيُقَالُ لَهُ أَعْصُرُ وَيَعْصُرُ وَكَانَ سَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ قَاضِيًا لِعُمَرِ بْنِ الْخَطّابِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - عَلَى الْكُوفَةِ ، وَيُقَالُ سَلْمَانُ الْخَيْلِ لِأَنّهُ كَانَ يَتَوَلّى النّظَرَ فِيهَا ، قَالَ أَبُو وَائِلٍ : اخْتَلَفْت إلَى سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا ، وَهُوَ قَاضٍ فَمَا وَجَدْت عِنْدَهُ أَحَدًا يَخْتَصِمُ إلَيْهِ وَاسْتُشْهِدَ سَلْمَانُ بِأَرْمِينِيّةَ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ .

غَلَبُ أَبْرَهَةَ الْأَشْرَمِ عَلَى أَمْرِ الْيَمَنِ وَقَتْلُ أَرْيَاطٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَقَامَ أَرْيَاطٌ بِأَرْضِ الْيَمَنِ سِنِينَ فِي سُلْطَانِهِ ذَلِكَ ثُمّ نَازَعَهُ فِي أَمْرِ الْحَبَشَةِ بِالْيَمَنِ أَبْرَهَةُ الْحَبَشِيّ ، حَتّى تَفَرّقَتْ الْحَبَشَةُ عَلَيْهِمَا ، فَانْحَازَ إلَى كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفَةٌ مِنْهُمْ ثُمّ سَارَ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فَلَمّا تَقَارَبَ النّاسُ أَرْسَلَ أَبْرَهَةُ إلَى أَرْيَاطٍ : إنّك لَا تَصْنَعُ بِأَنْ تَلْقَى الْحَبَشَةُ بَعْضُهَا بِبَعْضِ حَتّى تُفْنِيهَا شَيْئًا ، فَابْرُزْ إلَيّ وَأَبْرُزُ إلَيْك ، فَأَيّنَا أَصَابَ صَاحِبَهُ انْصَرَفَ إلَيْهِ جُنْدُهُ فَأَرْسَلَ إلَيْهِ أَرْيَاطٌ : أَنْصَفْت فَخَرَجَ إلَيْهِ أَبْرَهَةُ - وَكَانَ رَجُلًا قَصِيرًا لَحِيمًا ، وَكَانَ ذَا دِينٍ فِي النّصْرَانِيّةِ - وَخَرَجَ إلَيْهِ أَرْيَاطٌ وَكَانَ رَجُلًا جَمِيلًا عَظِيمًا طَوِيلًا ، وَفِي يَدِهِ حَرْبَةٌ لَهُ وَخَلْفَ أَبْرَهَةَ غُلَامٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ عَتْوَدَةُ يَمْنَعُ ظَهْرَهُ فَرَفَعَ أَرْيَاطٌ الْحَرْبَةَ فَضَرَبَ أَبْرَهَةَ يُرِيدُ يَافُوخَهُ فَوَقَعَتْ الْحَرْبَةُ عَلَى جَبْهَةِ أَبْرَهَةَ فَشَرَمَتْ [ ص 111 ] وَأَنْفَهُ وَعَيْنَهُ وَشَفَتَهُ فَبِذَلِكَ سُمّيَ أَبْرَهَةَ الْأَشْرَمَ ، وَحَمَلَ عَتْوَدَةُ عَلَى أَرْيَاطٍ مِنْ خَلْفِ أَبْرَهَةَ فَقَتَلَهُ وَانْصَرَفَ جُنْدُ أَرْيَاطٍ إلَى أَبْرَهَةَ فَاجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْحَبَشَةُ بِالْيَمَنِ وَوَدَى أَبْرَهَةُ أَرِيَاطًا .
مَوْقِفُ النّجَاشِيّ
مِنْ أَبْرَهَةَ فَلَمّا بَلَغَ النّجَاشِيّ غَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا وَقَالَ عَدَا عَلَى أَمِيرِي ، فَقَتَلَهُ بِغَيْرِ أَمْرِي ، ثُمّ حَلَفَ لَا يَدَعُ أَبْرَهَةَ حَتّى يَطَأَ بِلَادَهُ وَيَجُزّ نَاصِيَتَهُ فَحَلَقَ أَبْرَهَةُ رَأْسَهُ وَمَلَأَ جِرَابًا مِنْ تُرَابِ الْيَمَنِ ، ثُمّ بَعَثَ إلَى النّجَاشِيّ ، ثُمّ كَتَبَ إلَيْهِ " أَيّهَا الْمَلِكُ إنّمَا كَانَ أَرْيَاطٌ عَبْدَك ، وَأَنَا عَبْدُك ، فَاخْتَلَفْنَا فِي أَمْرِك ، وَكُلّ طَاعَتُهُ لَك ، إلّا أَنّي كُنْت أَقْوَى عَلَى أَمْرِ الْحَبَشَةِ ، وَأَضْبَطَ لَهَا ، وَأَسْوَسَ مِنْهُ وَقَدْ حَلَقْت رَأْسِي كُلّهُ حِينَ بَلَغَنِي قَسَمُ الْمَلِكِ وَبَعَثْت إلَيْهِ بِجِرَابِ تُرَابٍ مِنْ أَرْضِي ؛ لِيَضَعَهُ تَحْتَ قَدَمَيْهِ فَيَبَرّ قَسَمَهُ فِيّ " . فَلَمّا انْتَهَى ذَلِكَ إلَى النّجَاشِيّ رَضِيَ عَنْهُ وَكَتَبَ إلَيْهِ أَنْ اُثْبُتْ بِأَرْضِ الْيَمَنِ حَتّى يَأْتِيَك أَمْرِي ، فَأَقَامَ أَبْرَهَةُ بِالْيَمَنِ .
Sوَذَكَرَ خَبَرَ عَتْوَدَةَ غُلَامَ أَبْرَهَةَ وَقَدْ فَرَغْنَا مِنْ حَدِيثِهِ فِيمَا مَضَى ، وَمَا زَادَ فِيهِ الطّبَرِيّ وَغَيْرُهُ وَأَنّ الْعَتْوَدَةَ الشّدّةُ فِي الْحَرْبِ . وَذَكَرَ أَنّ أَرْيَاطًا عَلَا بِالْحَرْبَةِ أَبْرَهَةَ فأخطأ يَافُوخَهُ . وَالْيَافُوخُ وَسَطُ الرّأْسِ . وَيُقَالُ لَهُ [ ص 111 ] سُمّيَ يَأْفُوخًا بِالْهَمْزِ عَلَى وَزْنِ يَفْعُولٍ وَجَمْعُهُ يَآفِيخٌ قَالَ الْعَجّاجُ ضَرِبٌ إذَا صَابَ الْيَآفِيخَ حَفَرَ
وَقَوْلُهُ شَرَمَ أَنْفَهُ وَشَفَتَهُ أَيْ شَقّهُمَا .

أَمْرُ الْفِيلِ وَقِصّةُ النّسْأَةِ
كَنِيسَةُ أَبْرَهَةَ
ثُمّ إنّ أَبْرَهَةَ بَنَى الْقُلّيْسَ بِصَنْعَاءَ فَبَنَى كَنِيسَةً لَمْ يُرَ مِثْلُهَا فِي زَمَانِهَا بِشَيْءِ مِنْ [ ص 112 ] كَتَبَ إلَى النّجَاشِيّ : إنّي قَدْ بَنَيْت لَك أَيّهَا الْمَلِكُ كَنِيسَةً لَمْ يُبْنَ مِثْلُهَا لِمَلِكِ كَانَ قَبْلَك ، وَلَسْت بِمُنْتَهٍ حَتّى أَصْرِفَ إلَيْهَا حَجّ الْعَرَبِ ، فَلَمّا تَحَدّثَتْ الْعَرَبُ بِكِتَابِ أَبْرَهَةَ ذَلِكَ إلَى النّجَاشِيّ ، غَضِبَ رَجُلٌ مِنْ النّسْأَةِ ، أَحَدُ بَنِي فُقَيْمِ بْنِ عَدِيّ بْنِ عَامِرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ .
Sخَبَرُ الْقُلّيْسِ مَعَ الْفِيلِ وَذِكْرُ بُنْيَانِ أَبْرَهَةَ لِلْقُلّيْسِ
وَهِيَ الْكَنِيسَةُ الّتِي أَرَادَ أَنْ يَصْرِفَ إلَيْهَا حَجّ الْعَرَبِ ، وَسُمّيَتْ هَذِهِ الْكَنِيسَةُ الْقُلّيْسَ لِارْتِفَاعِ بِنَائِهَا وَعُلْوِهَا ، وَمِنْهُ الْقَلَانِسُ لِأَنّهَا فِي أَعْلَى الرّءُوسِ وَيُقَالُ تَقَلْنَسَ الرّجُلُ وَتَقَلّسَ [ ص 112 ] وَكَانَ أَبْرَهَةُ قَدْ اسْتَذَلّ أَهْلَ الْيَمَنِ فِي بُنْيَانِ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ وَجَشّمَهُمْ فِيهَا أَنْوَاعًا مِنْ السّخْرِ وَكَانَ يَنْقُلُ إلَيْهَا الْعَدَدَ مِنْ الرّخَامِ الْمُجَزّعِ وَالْحِجَارَةُ الْمَنْقُوشَةُ بِالذّهَبِ مِنْ قَصْرِ بِلْقِيسَ صَاحِبَةِ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَكَانَ فِي مَوْضِعِ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ عَلَى فَرَاسِخَ وَكَانَ فِيهِ بَقَايَا مِنْ آثَارِ مُلْكِهَا ، فَاسْتَعَانَ بِذَلِكَ عَلَى مَا أَرَادَهُ فِي هَذِهِ الْكَنِيسَةِ مِنْ بَهْجَتِهَا وَبِهَائِهَا ، وَنَصَبَ فِيهَا صُلْبَانًا مِنْ الذّهَبِ وَالْفِضّةِ وَمَنَابِرَ مِنْ الْعَاجِ وَالْآبُنُسِ وَكَانَ أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَ فِي بِنَائِهَا حَتّى يُشْرِفَ مِنْهَا عَلَى عَدَنَ ، وَكَانَ حُكْمُهُ فِي الْعَامِلِ إذَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشّمْسُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ فِي عَمَلِهِ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ ذَاتَ يَوْمٍ حَتّى طَلَعَتْ الشّمْسُ فَجَاءَتْ مَعَهُ أُمّهُ وَهِيَ امْرَأَةٌ عَجُوزٌ فَتَضَرّعَتْ إلَيْهِ تَسْتَشْفِعُ لِابْنِهَا ، فَأَبَى إلّا أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ فَقَالَتْ اضْرِبْ بِمِعْوَلِك الْيَوْمَ فَالْيَوْمُ لَك ، وَغَدًا لِغَيْرِك ، فَقَالَ وَيْحَك مَا قُلْت ؟ فَقَالَتْ نَعَمْ كَمَا صَارَ هَذَا الْمُلْكُ مِنْ غَيْرِك إلَيْك ، فَكَذَلِكَ يَصِيرُ مِنْك إلَى غَيْرِك ، فَأَخَذَتْهُ مَوْعِظَتُهَا ، وَأَعْفَى النّاسَ مِنْ الْعَمَلِ فِيهَا بَعْدُ . فَلَمّا هَلَكَ وَمُزّقَتْ الْحَبَشَةُ كُلّ مُمَزّقٍ وَأُقْفِرَ مَا حَوْلَ هَذِهِ الْكَنِيسَةِ فَلَمْ يَعْمُرْهَا أَحَدٌ ، وَكَثُرَتْ حَوْلَهَا السّبَاعُ وَالْحَيّاتُ وَكَانَ كُلّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْهَا أَصَابَتْهُ الْجِنّ ، فَبَقِيَتْ مِنْ ذَلِكَ الْعَهْدِ بِمَا فِيهَا مِنْ الْعُدَدِ وَالْخَشَبِ الْمُرَصّعِ بِالذّهَبِ وَالْآلَاتِ الْمُفَضّضَةِ الّتِي تُسَاوِي قَنَاطِيرَ مِنْ الْمَالِ لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا إلَى زَمَنِ أَبِي الْعَبّاسِ فَذُكِرَ لَهُ أَمْرُهَا ، وَمَا يُتَهَيّبُ مِنْ جِنّهَا وَحَيّاتِهَا ، فَلَمْ يَرُعْهُ ذَلِكَ . وَبَعَثَ إلَيْهَا بِابْنِ الرّبِيعِ عَامِلِهِ عَلَى الْيَمَنِ مَعَهُ أَهْلُ الْحَزْمِ وَالْجَلَادَةِ فَخَرّبَهَا ، وَحَصَلُوا مِنْهَا مَالًا كَثِيرًا بِبَيْعِ مَا أَمْكَنَ بَيْعُهُ مِنْ رُخَامِهَا وَآلَاتِهَا ، فَعَفَا بَعْدَ ذَلِكَ رَسْمُهَا ، وَانْقَطَعَ خَبَرُهَا ، وَدُرِسَتْ آثَارُهَا ، وَكَانَ الّذِي يُصِيبُهُمْ مِنْ الْجِنّ يَنْسُبُونَهُ إلَى كُعَيْبٍ وَامْرَأَتِهِ صَنَمَيْنِ كَانَتْ الْكَنِيسَةُ عَلَيْهِمَا ، فَلَمّا كُسِرَ كُعَيْبٌ وَامْرَأَتُهُ أُصِيبَ الّذِي كَسَرَهُ بِجُذَامِ فَافْتُتِنَ بِذَلِكَ رَعَاعُ الْيَمَنِ وَطَغَامُهُمْ وَقَالُوا : أَصَابَهُ كُعَيْبٌ وَذَكَرَ أَبُو الْوَلِيدِ الْأَزْرَقِيّ أَنّ كُعَيْبًا كَانَ مِنْ خَشَبٍ طُولُهُ سِتّونَ ذِرَاعًا .

النّسِيءُ وَالنّسَأَةُ
الّذِينَ كَانُوا [ ص 113 ] الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيّةِ فَيُحِلّونَ الشّهْرَ مِنْ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ، وَيُحَرّمُونَ مَكَانَهُ الشّهْرَ مِنْ أَشْهُرِ الْحِلّ وَيُؤَخّرُونَ ذَلِكَ الشّهْرَ فَفِيهِ أَنَزَلَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { إِنّمَا النّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلّ بِهِ الّذِينَ كَفَرُوا يُحِلّونَهُ عَامًا وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدّةَ مَا حَرّمَ اللّهُ } [ التّوْبَةُ 37 ] . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : لِيُوَاطِئُوا : لِيُوَافِقُوا ، وَالْمُوَاطَأَةُ الْمُوَافَقَةُ تَقُولُ الْعَرَبُ : وَاطَأْتُك عَلَى هَذَا الْأَمْرِ أَيْ وَافَقْتُك عَلَيْهِ وَالْإِيطَاءُ فِي الشّعْرِ الْمُوَافَقَةُ وَهُوَ اتّفَاقُ الْقَافِيَتَيْنِ مِنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ وَجَنْسٍ وَاحِدٍ نَحْوَ قَوْلِ الْعَجّاجِ - وَاسْمُ الْعَجّاجِ عَبْدُ اللّهِ بْنُ رُؤْبَةَ أَحَدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمِ بْنِ مُرّ بْنِ أُدّ بْنِ طَابِخَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارٍ : فِي أُثْعُبَانِ الْمَنْجَنُونِ الْمُرْسَلِ
ثُمّ قَالَ مُدّ الْخَلِيجَ فِي الْخَلِيجِ الْمُرْسَلِ
" وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ " : قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ أَوّلَ مَنْ نَسَأَ الشّهُورَ عَلَى الْعَرَبِ ، حَلّتْ مِنْهَا مَا أَحَلّ وَحَرّمَتْ مِنْهَا مَا حَرّمَ الْقَلَمّسُ وَهُوَ حُذَيْفَةُ بْنُ عَبْدِ بْنِ فُقَيْمِ بْنِ عَدِيّ بْنِ عَامِرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ ، ثُمّ قَامَ بَعْدَهُ عَلَى ذَلِكَ ابْنُهُ عَبّادُ بْنُ حُذَيْفَةَ ثُمّ قَامَ بَعْدَ عَبّادٍ قَلَعُ بْنُ عَبّادٍ ثُمّ قَامَ بَعْدَ قَلَعٍ أُمَيّةُ بْنُ قَلَعٍ ثُمّ قَامَ بَعْدَ أُمَيّةَ [ ص 114 ] جُنَادَةُ بْنُ عَوْفٍ . وَكَانَ آخِرَهُمْ وَعَلَيْهِ قَامَ [ ص 115 ] وَكَانَتْ الْعَرَبُ إذَا فَرَغَتْ مِنْ حَجّهَا اجْتَمَعَتْ إلَيْهِ فَحَرّمَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ الْأَرْبَعَةَ رَجَبًا ، وَذَا الْقَعْدَةِ وَذَا الْحَجّةِ وَالْمُحَرّمَ . فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُحِلّ شَيْئًا أَحَلّ الْمُحَرّمَ فَأَحَلّوهُ [ ص 116 ] مَكَانَهُ صَفَرًا فَحَرّمُوهُ لِيُوَاطِئُوا عِدّةَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ . فَإِذَا أَرَادُوا الصّدْرَ قَامَ فِيهِمْ فَقَالَ " اللّهُمّ إنّي قَدْ أَحَلَلْت لَك أَحَدَ الصّفَرَيْنِ الصّفَرَ الْأَوّلَ وَنَسَأْت الْآخَرَ لِلْعَامِ الْمُقْبِلِ " . فَقَالَ فِي ذَلِكَ عُمَيْرُ بْنُ قَيْسٍ " جِذْلُ الطّعَانِ " أَحَدُ بَنِي فِرَاسِ بْنِ غَنَمِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ ، يَفْخَرُ بِالنّسَأَةِ عَلَى الْعَرَبِ :
لَقَدْ عَلِمَتْ مَعَدّ أَنّ قَوْمِي ... كِرَامُ النّاسِ أَنّ لَهُمْ كِرَامَا
فَأَيّ النّاسِ فَاتُونَا بِوِتْرِ ... وَأَيّ النّاسِ لَمْ نُعْلِك لِجَامَا
أَلَسْنَا النّاسِئِينَ عَلَى مَعَدّ ... شُهُورَ الْحِلّ نَجْعَلُهَا حَرَامَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَوّلُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ : الْمُحَرّمُ .
Sالنّسِيءُ وَالنّسَأَةُ
[ ص 113 ] وَذَكَرَ النّسَأَةَ وَالنّسِيءَ مِنْ الْأَشْهُرِ . فَأَمّا النّسَأَةُ فَأَوّلُهُمْ الْقَلَمّسُ وَاسْمُهُ حُذَيْفَةُ بْنُ عَبْدِ بْنِ فُقَيْمٍ وَقِيلَ لَهُ الْقَلَمّسُ لِجُودِهِ إذْ الْقَلَمّسُ مِنْ أَسْمَاءِ الْبَخْرِ وَأَنْشَدَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ
إلَى نَضَدٍ مِنْ عَبْدِ شَمْسٍ كَأَنّهُمْ ... هِضَابُ أَجَا أَرْكَانُهُ لَمْ تَقَصّفْ
قَلَامِسَةٌ سَاسُوا الْأُمُورَ فَأُحْكِمَتْ ... سِيَاسَتُهَا حَتّى أَقَرّتْ لِمُرْدِفِ
[ ص 114 ] وَذَكَرَ أَبُو عَلِيّ الْقَالِي فِي الْأَمَالِي أَنّ الّذِي نَسَأَ الشّهُورَ مِنْهُمْ نُعَيْمُ بْنُ ثَعْلَبَةَ وَلَيْسَ هَذَا بِمَعْرُوفِ وَأَمّا نَسَؤُهُمْ لِلشّهْرِ فَكَانَ عَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا : مَا ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ مِنْ تَأْخِيرِ شَهْرِ الْمُحَرّمِ إلَى صَفَرٍ لِحَاجَتِهِمْ إلَى شَنّ الْغَارَاتِ وَطَلَبِ الثّارّاتِ وَالثّانِي : تَأْخِيرُهُمْ الْحَجّ عَنْ وَقْتِهِ تَحَرّيًا مِنْهُمْ لِلسّنَةِ الشّمْسِيّةِ فَكَانُوا يُؤَخّرُونَهُ فِي كُلّ عَامٍ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا ، أَوْ أَكْثَرَ قَلِيلًا ، حَتّى يَدُورَ الدّوْرُ إلَى ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً فَيَعُودُ إلَى وَقْتِهِ وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ : إنّ الزّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَكَانَتْ حَجّةُ الْوَدَاعِ فِي السّنَةِ الّتِي عَادَ فِيهَا الْحَجّ إلَى وَقْتِهِ وَلَمْ يَحُجّ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى مَكّةَ غَيْرَ تِلْكَ الْحَجّةِ وَذَلِكَ لِإِخْرَاجِ الْكُفّارِ الْحَجّ عَنْ وَقْتِهِ وَلِطَوَافِهِمْ بِالْبَيْتِ عُرَاةً - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - إذْ كَانَتْ مَكّةُ بِحُكْمِهِمْ حَتّى فَتَحَهَا اللّهُ عَلَى نَبِيّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ شَيْخُنَا أَبُو بَكْرٍ نَرَى أَنّ قَوْلَ اللّهِ سُبْحَانَهُ { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنّاسِ وَالْحَجّ } [ الْبَقَرَةُ 189 ] . وَخَصّ الْحَجّ بِالذّكْرِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْمُؤَقّتَةِ بِالْأَوْقَاتِ تَأْكِيدًا لِاعْتِبَارِهِ بِالْأَهِلّةِ دُونَ حِسَابِ الْأَعَاجِمِ مِنْ أَجْلِ مَا كَانُوا أَحْدَثُوا فِي الْحَجّ مِنْ الِاعْتِبَارِ بِالشّهُورِ الْعَجَمِيّةِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ قَوْلَ الْعَجّاجِ فِي أُثْعُبَانِ الْمَنْجَنُونِ الْمُرْسَلِ . الْأُثْعُبَانُ مَا يَنْدَفِعُ مِنْ الْمَاءِ مِنْ شُعَبِهِ . وَالْمَنْجَنُونُ أَدَاةُ السّانِيَةِ وَالْمِيمُ فِي الْمَنْجَنُونِ أَصْلِيّةٌ فِي قَوْلِ سِيبَوَيْهِ ، وَكَذَلِكَ النّونُ لِأَنّهُ يُقَالُ فِيهِ مَنْجَنِينُ مِثْلُ عَرْطَلِيلٍ وَقَدْ ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ أَيْضًا فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ أَنّ النّونَ زَائِدَةٌ إلّا أَنّ بَعْضَ رُوَاةِ الْكِتَابِ قَالَ فِيهِ مُنْحَنُونَ بِالْحَاءِ فَعَلَى هَذَا لَمْ يَتَنَاقَضْ كَلَامُهُ - رَحِمَهُ اللّهُ - وَفِي أَدَاةِ السّانِيَةِ الدّولَابُ بِضَمّ الدّالِ وَفَتْحِهَا ، وَالشّهْرَقُ وَهُوَ الّذِي يُلْقَى عَلَيْهِ حَبْلُ الْأَقْدَاسِ وَاحِدُهَا : قُدْسٌ وَالْعَامّةُ تَقُولُ قَادُوسٌ وَالْعَصَامِيرُ عِيدَانُ السّانِيَةِ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ : وَقَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ الْعُصْمُورُ عُودُ السّانِيَةِ . وَقَوْلُهُ مَدّ الْخَلِيجُ . الْخَلِيجُ : الْجَبَلُ وَالْخَلِيجُ أَيْضًا : خَلِيجُ الْمَاءِ . وَذَكَرَ اسْمَ الْعَجّاجِ وَلَمْ يُكَنّهِ وَكُنْيَتُهُ أَبُو الشّعْثَاءِ ، وَسُمّيَ الْعَجّاجُ بِقَوْلِهِ حَتّى يَعِجّ عِنْدَهَا مَنْ عَجّجَا . [ ص 115 ] وَقَالَ عُمَيْرُ بْنُ قَيْسٍ : كِرَامُ النّاسِ أَنّ لَهُمْ كِرَامًا . أَيْ آبَاءً كِرَامًا ، وَأَخْلَاقًا كِرَامًا . وَقَوْلُهُ وَأَيّ النّاسِ لَمْ نُعْلِك لِجَامًا . أَيْ لَمْ نَقْدَعْهُمْ وَنَكْفِهِمْ كَمَا يُقْدَعُ الْفَرَسُ بِاللّجَامِ . تَقُولُ أَعْلَكْت الْفَرَسَ لِجَامَهُ إذَا رَدَدْته عَنْ تَنَزّعِهِ فَمَضَغَ اللّجَامَ كَالْعِلْكِ مِنْ نَشَاطِهِ فَهُوَ مَقْدُوعٌ قَالَ الشّاعِرُ
وَإِذَا احْتَبَى قَرَبُوسَهُ بِعِنَانِهِ ... عَلَكَ اللّجَامُ إلَى انْصِرَافِ الزّائِرِ
وَكَانَ عُمَيْرٌ هَذَا مِنْ أَطْوَلِ النّاسِ وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي مُقْبِلِي الظّعُنِ وَسُمّيَ جِذْلَ الطّعّانِ لِثَبَاتِهِ فِي الْحَرْبِ كَأَنّهُ جِذْلُ شَجَرَةٍ وَاقِفٍ وَقِيلَ لِأَنّهُ كَانَ يُسْتَشْفَى بِرَأْيِهِ وَيُسْتَرَاحُ إلَيْهِ كَمَا تَسْتَرِيحُ الْبَهِيمَةُ الْجَرْبَاءُ إلَى الْجَذِلِ تَحْتَكّ بِهِ وَنَحْوٌ مِنْهُ قَوْلُ الْحُبَابِ [ ابْنِ الْمُنْذِرِ ] : أَنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكّكُ وَعُذَيْقُهَا الْمُرْجِبُ وَقَوْلُ الْأَعْرَابِيّ يَصِفُ ابْنَهُ إنّهُ لِجَذْلُ حِكَاكٍ وَمِدْرَهُ لِكَاكٍ . وَاللّكَاكُ الزّحَامُ .
فَصْلٌ
وَذَكَرَ جُنَادَةُ بْنُ عَوْفٍ مِنْ النّسَأَةِ ، وَعَلَيْهِ قَامَ الْإِسْلَامُ وَلَمْ يَذْكُرْ هَلْ أَسْلَمَ أَمْ لَا ، وَقَدْ وَجَدْت لَهُ خَبَرًا يَدُلّ عَلَى إسْلَامِهِ حَضَرَ الْحَجّ فِي زَمَنِ عُمَرَ فَرَأَى النّاسَ يَزْدَحِمُونَ عَلَى الْحَجّ فَنَادَى : أَيّهَا النّاسُ إنّي قَدْ أَجَرْته مِنْكُمْ فَخَفَقَهُ عُمَرُ بِالدّرّةِ وَقَالَ وَيْحَك : إنّ اللّهَ قَدْ أَبْطَلَ أَمْرَ الْجَاهِلِيّةِ . وَذَكَرَ الْبَرْقِيّ عَنْ ابْنِ الْكَلْبِيّ قَالَ فَنَسَأَ قَلَعُ بْنُ عَبّادٍ سَبْعَ سِنِينَ وَنَسَأَ بَعْدَهُ أُمَيّةُ بْنُ قَلَعٍ إحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً ثُمّ نَسَأَ مِنْ بَعْدِهِ جُنَادَةُ وَهُوَ أَبُو أُمَامَةَ وَهُوَ الْقَلَمّسُ أَرْبَعِينَ سَنَةً .
الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ
وَقَوْلُ ابْنِ هِشَامٍ : أَوّلُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ : الْمُحَرّمُ قَوْلٌ وَقَدْ قِيلَ أَوّلُهَا ذُو الْقَعْدَةِ لِأَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بَدَأَ بِهِ حِينَ ذَكَرَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ ، وَمَنْ قَالَ الْمُحَرّمُ أَوّلُهَا ، احْتَجّ بِأَنّهُ أَوّلُ السّنَةِ وَفِقْهُ هَذَا الْخِلَافِ أَنّ مَنْ نَذَرَ صِيَامَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ، فَيُقَالُ لَهُ عَلَى الْأَوّلِ ابْدَأْ بِالْمُحَرّمِ ثُمّ بِرَجَبِ ثُمّ بِذِي الْقَعْدَةِ وَذِي الْحَجّةِ وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يُقَالُ لَهُ ابْدَأْ بِذِي الْقَعْدَةِ حَتّى يَكُونَ آخِرُ صِيَامِك فِي رَجَبٍ مِنْ الْعَامِ الثّانِي .

سَبَبُ حَمْلَةِ أَبْرَهَةَ عَلَى الْكَعْبَةِ
[ ص 117 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَخَرَجَ الْكِنَانِيّ حَتّى أَتَى الْقُلّيْسَ فَقَعَدَ فِيهَا - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : يَعْنِي أَحْدَثَ فِيهَا - قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ خَرَجَ فَلَحِقَ بِأَرْضِهِ فَأُخْبِرَ بِذَلِكَ أَبْرَهَةُ فَقَالَ مَنْ صَنَعَ هَذَا ؟ فَقِيلَ لَهُ صَنَعَ هَذَا رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ الّذِي تَحُجّ الْعَرَبُ إلَيْهِ بِمَكّةَ لَمّا سَمِعَ قَوْلَك : " أَصْرِفُ إلَيْهَا حَجّ الْعَرَبِ " غَضِبَ فَجَاءَ فَقَعَدَ فِيهَا ، أَيْ أَنّهَا لَيْسَتْ لِذَلِكَ بِأَهْلِ . فَغَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ أَبْرَهَةُ وَحَلَفَ لَيَسِيرَن إلَى الْبَيْتِ حَتّى يَهْدِمَهُ ثُمّ أَمَرَ الْحَبَشَةَ فَتَهَيّأَتْ وَتَجَهّزَتْ ثُمّ سَارَ وَخَرَجَ مَعَهُ بِالْفِيلِ وَسَمِعَتْ بِذَلِكَ الْعَرَبُ ، فَأَعْظَمُوهُ وَفَظِعُوا بِهِ وَرَأَوْا جِهَادَهُ حَقّا عَلَيْهِمْ حِينَ سَمِعُوا بِأَنّهُ يُرِيدُ هَدْمَ الْكَعْبَةِ ، بَيْتِ اللّهِ الْحَرَامِ .
Sالْقُعُودُ عَلَى الْمَقَابِرِ
[ ص 116 ] خَرَجَ الْكِنَانِيّ حَتّى قَعَدَ فِي الْقُلّيْسِ أَيْ أَحْدَثَ فِيهَا ، وَفِيهِ شَاهِدٌ لِقَوْلِ مَالِكٍ ، وَغَيْرُهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ فِي تَفْسِيرِ الْقُعُودِ عَلَى الْمَقَابِرِ الْمَنْهِيّ عَنْهُ وَأَنّ ذَلِكَ لِلْمَذَاهِبِ كَمَا قَالَ مَالِكٌ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

ذُو نَفْرٍ وَنُفَيْلٌ يُحَاوِلَانِ حِمَايَةَ الْبَيْتِ
[ ص 118 ] فَخَرَجَ إلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْيَمَنِ وَمُلُوكِهِمْ يُقَالُ لَهُ ذُو نَفْرٍ ، فَدَعَا قَوْمَهُ وَمَنْ أَجَابَهُ مِنْ سَائِرِ الْعَرَبِ إلَى حَرْبِ أَبْرَهَةَ وَجِهَادُهُ عَنْ بَيْتِ اللّهِ الْحَرَامِ وَمَا يُرِيدُ مِنْ هَدْمِهِ وَإِخْرَابِهِ فَأَجَابَهُ إلَى ذَلِكَ مَنْ أَجَابَهُ ثُمّ عَرَضَ لَهُ فَقَاتَلَهُ فَهُزِمَ ذُو نَفْرٍ وَأَصْحَابُهُ وَأَخَذَ لَهُ ذُو نَفْرٍ ، فَأُتِيَ بِهِ أَسِيرًا ، فَلَمّا أَرَادَ قَتْلَهُ قَالَ لَهُ ذُو نَفْرٍ : أَيّهَا الْمَلِكُ لَا تَقْتُلْنِي فَإِنّهُ عَسَى أَنْ يَكُونَ بَقَائِي مَعَك خَيْرًا لَك مِنْ قَتْلِي ، فَتَرَكَهُ مِنْ الْقَتْلِ وَحَبَسَهُ عِنْدَهُ فِي وَثَاقٍ وَكَانَ أَبْرَهَةُ رَجُلًا حَلِيمًا . ثُمّ مَضَى أَبْرَهَةُ عَلَى وَجْهِهِ ذَلِكَ يُرِيدُ مَا خَرَجَ لَهُ حَتّى إذَا كَانَ بِأَرْضِ خَثْعَمَ عَرَضَ لَهُ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ الْخَثْعَمِيّ فِي قَبِيلَيْ خَثْعَمَ شَهْرَانَ وَنَاهِسَ ، وَمَنْ تَبِعَهُ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ ، فَقَاتَلَهُ فَهَزَمَهُ أَبْرَهَةُ وَأَخَذَ لَهُ نُفَيْلٌ أَسِيرًا ، فَأُتِيَ بِهِ فَلَمّا هَمّ بِقَتْلِهِ قَالَ لَهُ نُفَيْلٌ أَيّهَا الْمَلِكُ لَا تَقْتُلْنِي فَإِنّي دَلِيلُك بِأَرْضِ الْعَرَبِ ، وَهَاتَانِ يَدَايَ لَك عَلَى قَبِيلَيْ خَثْعَمَ : شَهْرَانَ وَنَاهِسَ بِالسّمْعِ وَالطّاعَةِ فَخَلّى سَبِيلَهُ .
Sأَنْسَابٌ
وَذَكَرَ قَوْلَ نُفَيْلٍ الْخَثْعَمِيّ وَهَاتَانِ يَدَايَ لَك عَلَى شَهْرَانَ وَنَاهِسَ ، وَهُمَا قَبِيلَا خَثْعَمَ ، أَمَا خَثْعَمُ : فَاسْمُ جَبَلٍ سُمّيَ بِهِ بَنُو عِفْرِسِ بْنِ خُلْفِ بْنِ أَفْتَلَ بْنِ أَنْمَارٍ ، لِأَنّهُمْ نَزَلُوا عِنْدَهُ وَقِيلَ إنّهُمْ تَخَثْعَمُوا بِالدّمِ عِنْدَ حِلْفٍ عَقَدُوهُ بَيْنَهُمْ أَيْ تَلَطّخُوا ، وَقِيلَ بَلْ خَثْعَمُ ثَلَاثٌ شَهْرَانُ وَنَاهِسُ وَأَكْلُبُ غَيْرَ أَنّ أَكْلُبَ عِنْدَ أَهْلِ النّسَبِ هُوَ ابْنُ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ وَلَكِنّهُمْ دَخَلُوا فِي خَثْعَمَ ، وَانْتَسَبُوا إلَيْهِمْ فَاَللّهُ أَعْلَمُ . قَالَ رَجُلٌ مِنْ خَثْعَمَ :
مَا أَكْلُبُ مِنّا ، وَلَا نَحْنُ مِنْهُمْ ... وَمَا خَثْعَمُ يَوْمَ الْفَخَارِ وَأَكْلُبُ
قَبِيلَةُ سُوءٍ مِنْ رَبِيعَةَ أَصْلُهَا ... فَلَيْسَ لَهَا عَمّ لَدَيْنَا ، وَلَا أَبٌ
فَأَجَابَهُ الْأَكْلَبِيّ فَقَالَ
إنّي مِنْ الْقَوْمِ الّذِينَ نَسَبْتنِي ... إلَيْهِمْ كَرِيمُ الْجَدّ وَالْعَمّ وَالْأَبِ
فَلَوْ كُنْت ذَا عِلْمٍ بِهِمْ مَا نَفَيْتنِي ... إلَيْهِمْ تَرَى أَنّي بِذَلِكَ أُثْلَبُ
فَإِنْ لَا يَكُنْ عَمّايَ خُلْفًا وَنَاهِسًا ... فَإِنّي امْرِئِ عَمّايَ بَكْرٌ وَتَغْلِبُ
أَبُونَا الّذِي لَمْ تُرْكَبُ الْخَيْلُ قَبْلَهُ ... وَلَمْ يَدْرِ مَرْءٌ قَبْلَهُ كَيْفَ يَرْكَبُ
[ ص 117 ] رَبِيعَةَ ، وَرَبِيعَةُ كَانَ يُقَالُ لَهُ رَبِيعَةُ الْفَرَسِ . وَأَمّا ثَقِيفٌ وَمَا ذُكِرَ مِنْ اخْتِلَافِ النّسّابِينَ فِيهِمْ فَبَعْضُهُمْ يَنْسُبُهُمْ إلَى إيَادٍ ، وَبَعْضُهُمْ يَنْسُبُهُمْ إلَى قَيْسٍ ، وَقَدْ نُسِبُوا إلَى ثَمُودَ أَيْضًا . وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ عَنْهُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - رَوَاهُ مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ فِي جَامِعِهِ وَكَذَلِكَ أَيْضًا رُوِيَ فِي الْجَامِعِ أَنّ أَبَا رِغَالٍ مِنْ ثَمُودَ ، وَأَنّهُ كَانَ بِالْحَرَمِ حِينَ أَصَابَ قَوْمَهُ الصّيْحَةُ فَلَمّا خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ أَصَابَهُ مِنْ الْهَلَاكِ مَا أَصَابَ قَوْمَهُ فَدُفِنَ هُنَاكَ وَدُفِنَ مَعَهُ غُصْنَانِ مِنْ ذَهَبٍ وَذُكِرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَرّ بِالْقَبْرِ وَأَمَرَ بِاسْتِخْرَاجِ الْغُصْنَيْنِ مِنْهُ فَاسْتَخْرَجَا . وَقَالَ جَرِيرٌ أَوْ غَيْرُهُ
إذَا مَاتَ الْفَرَزْدَقُ فَارْجُمُوهُ ... كَرَجْمِكُمْ لِقَبْرِ أَبِي رِغَالِ
وَوَقَعَ فِي هَذِهِ النّسْخَةِ فِي نَسَبِ ثَقِيفٍ الْأَوّلِ ابْنُ إيَادِ بْنِ مَعَدّ . وَفِي الْحَاشِيَةِ أَنّ الْقَاضِيَ أَبَا الْوَلِيدِ غَيّرَهُ فَجَعَلَ مَكَانَ ابْنِ مَعَدّ مِنْ مَعَدّ وَذَلِكَ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - لِأَنّ إيَادَ هَذَا هُوَ ابْنُ نِزَارٍ وَلَيْسَ بِابْنِ مَعَدّ لِصُلْبِهِ وَلِمَعَدّ ابْنٌ اسْمُهُ إيَادٌ ، وَهُوَ ابْنُهُ لِصُلْبِهِ وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ ، وَقَدْ قَدّمْنَا ذِكْرَهُ مَعَ بَنِي مَعَدّ فِي أَوّلِ الْكِتَابِ وَهُوَ عَمّ إيَادٍ ، وَالْإِيَادُ فِي اللّغَةِ التّرَابُ الّذِي يُضَمّ إلَى الْخِبَاءِ لِيَقِيَهُ مِنْ السّيْلِ وَنَحْوِهِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْأَيْدِ وَهِيَ الْقُوّةُ لِأَنّ فِيهِ قُوّةً لِلْخِبَاءِ وَهُوَ بَيْنَ النّؤْيِ وَالْخِبَاءِ وَالنّؤْيُ يُشْتَقّ مِنْ النّائِي ، لِأَنّهُ حَفِيرٌ يَنْأَى بِهِ الْمَطَرُ أَيْ يَبْعُدُ عَنْ الْخِبَاءِ . وَأَنْشَدَ لِأُمَيّةِ بْنِ أَبِي الصّلْتِ وَاسْمُ أَبِي الصّلْتِ رَبِيعَةُ بْنُ وَهْبٍ فِي قَوْلِ الزّبَيْرِ
قَوْمِي إيَادٌ لَوْ أَنّهُمْ أُمَمٌ ... أَوَلَوْ أَقَامُوا ، فَتُهْزَلَ النّعَمُ
[ ص 118 ] أَقَامُوا بِالْحِجَازِ وَإِنْ هَزَلَتْ نَعَمُهُمْ لِأَنّهُمْ انْتَقَلُوا عَنْهَا ، لِأَنّهَا ضَاقَتْ عَنْ مَسَارِحِهِمْ فَصَارُوا إلَى رِيفِ الْعِرَاقِ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ وَالْقِطّ وَالْقَلَمُ وَالْقِطّ : مَا قُطّ مِنْ الْكَاغَدِ وَالرّقّ وَنَحْوِهِ وَذَلِكَ أَنّ الْكِتَابَةَ كَانَتْ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ الّتِي سَارُوا إلَيْهَا ، وَقَدْ قِيلَ لِقُرَيْشِ مِمّنْ تَعَلّمْتُمْ الْقِطّ ؟ فَقَالُوا : تَعَلّمْنَاهُ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ ، وَتَعَلّمَهُ أَهْلُ الْحِيرَةِ مِنْ أَهْلِ الْأَنْبَارِ [ ص 119 ] وَنَصَبَ قَوْلَهُ فَتُهْزَلَ النّعَمُ بِالْفَاءِ عَلَى جَوَابِ التّمَنّي الْمُضَمّنِ فِي لَوْ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى : { فَلَوْ أَنّ لَنَا كَرّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ الشّعَرَاءُ 102 ] وَأَمّا تَسْمِيَةُ قَسِيّ بِثَقِيفِ فَسَيَأْتِي سَبَبُ ذَلِكَ فِي غَزْوَةِ الطّائِفِ - إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى .

بَيْنَ ثَقِيفٍ وَأَبْرَهَةَ
وَخَرَجَ بِهِ مَعَهُ يَدُلّهُ حَتّى إذَا مَرّ بِالطّائِفِ خَرَجَ إلَيْهِ مَسْعُودُ بْنُ مُعَتّبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ ثَقِيفٍ فِي رِجَالِ ثَقِيفٍ . وَاسْمُ ثَقِيفٍ : قَسِيّ بْنُ النّبِيتِ بْنِ مُنَبّهِ بْنِ مَنْصُور ِ بْنِ يَقْدُمَ بْنِ أَفْصَى بْنِ دُعْمِيّ بْنِ إيَادِ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدّ بْنِ عَدْنَانَ . قَالَ أُمَيّةُ بْنُ أَبِي الصّلْتِ الثّقَفِيّ :
قَوْمِي إيَادٌ لَوْ أَنّهُمْ أُمَمُ ... أَوْ لَوْ أَقَامُوا فَتُهْزَلَ النّعَمُ
قَوْمٌ لَهُمْ سَاحَةُ الْعِرَاقِ إذَا ... سَارُوا جَمِيعًا وَالْقِطّ وَالْقَلَمُ
[ ص 119 ] وَقَالَ أُمَيّةُ بْنُ أَبِي الصّلْتِ أَيْضًا :
فَإِمّا تَسْأَلِي عَنّي - لُبَيْنَى ... وَعَنْ نَسَبِي - أُخَبّرْك الْيَقِينَا
فَإِنّا لِلنّبِيتِ أَبِي قَسِيّ ... لِمَنْصُورِ بْنِ يَقْدُمَ الْأَقْدَمِينَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : ثَقِيفٌ : قَسِيّ بْنُ مُنَبّهِ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصَفَةَ بْنِ قَيْس ِ بْنِ عَيْلَانَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدّ بْنِ عَدْنَان َ ، وَالْبَيْتَانِ الْأَوّلَانِ وَالْآخَرَانِ فِي قَصِيدَتَيْنِ لِأُمَيّةِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَقَالُوا لَهُ أَيّهَا الْمَلِكُ إنّمَا نَحْنُ عَبِيدُك سَامِعُونَ لَك مُطِيعُونَ لَيْسَ عِنْدَنَا لَك خِلَافٌ وَلَيْسَ بَيْتُنَا هَذَا الْبَيْتَ الّذِي تُرِيدُ - يَعْنُونَ اللّاتِي - إنّمَا يُرِيدُ الْبَيْتَ الّذِي بِمَكّةَ ، وَنَحْنُ نَبْعَثُ مَعَك مَنْ يَدُلّك عَلَيْهِ فَتَجَاوَزْ عَنْهُمْ . وَاللّاتِ : بَيْتٌ لَهُمْ بِالطّائِفِ كَانُوا يُعَظّمُونَهُ نَحْوَ تَعْظِيمِ الْكَعْبَةِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ النّحْوِيّ لِضِرَارِ بْنِ الْخَطّابِ الْفِهْرِيّ
وَفَرّتْ ثَقِيفٌ إلَى لَاتِهَا ... بِمُنْقَلَبِ الْخَائِبِ الْخَاسِرِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ .
قِصّةُ أَبِي رِغَالٍ وَقَبْرِهِ الْمَرْجُومِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَبَعَثُوا مَعَهُ أَبَا رِغَالٍ يَدُلّهُ عَلَى الطّرِيقِ إلَى مَكّةَ ، فَخَرَجَ أَبْرَهَةُ وَمَعَهُ أَبُو رِغَالٍ حَتّى أَنَزَلَهُ الْمُغَمّسَ ، فَلَمّا أَنْزَلَهُ بِهِ مَاتَ أَبُو رِغَالٍ هُنَالِكَ فَرَجَمَتْ قَبْرُهُ الْعَرَبَ ، فَهُوَ الْقَبْرُ الّذِي يَرْجُمُ النّاسُ بِالْمُغَمّس ِ .
Sالْمُغَمّسُ : وَقَوْلُهُ فَلَمّا نَزَلَ أَبْرَهَةُ الْمُغَمّسَ هَكَذَا أَلْفَيْته فِي نُسْخَةِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ الْمُقَيّدَةِ عَلَى أَبِي الْوَلِيدِ الْقَاضِي بِفَتْحِ الْمِيمِ الْآخِرَةِ مِنْ الْمُغَمّسِ . وَذَكَرَ الْبَكْرِيّ فِي كِتَابِ الْمُعْجَمِ عَنْ ابْنِ دُرَيْدٍ وَعَنْ غَيْرِهِ مِنْ أَئِمّةِ اللّغَةِ أَنّهُ الْمُغَمّسُ . بِكَسْرِ الْمِيم الْآخِرَةِ وَأَنّهُ أَصَحّ مَا قِيلَ فِيهِ وَذَكَرَ أَيْضًا أَنّهُ يُرْوَى بِالْفَتْحِ فَعَلَى رِوَايَةِ الْكَسْرِ هُوَ مُغَمّسٌ مُفَعّلٌ مِنْ غَمّسْت ، كَأَنّهُ اُشْتُقّ مِنْ الْغَمِيسِ وَهُوَ الْغَمِيرُ ، وَهُوَ النّبَاتُ الْأَخْضَرُ الّذِي يَنْبُتُ فِي الْخَرِيفِ تَحْتَ الْيَابِسِ يُقَالُ [ ص 120 ] الْمَكَانُ وَغَمّرَ إذَا نَبَتَ فِيهِ ذَلِكَ كَمَا يُقَالُ صَوّحَ وَشَجّرَ وَأَمّا عَلَى رِوَايَةِ الْفَتْحِ فَكَأَنّهُ مِنْ غَمَسْت الشّيْءَ إذَا غَطّيْته ، وَذَلِكَ أَنّهُ مَكَانٌ مَسْتُورٌ إمّا بِهِضَابِ وَإِمّا بِعَضَاهٍ وَإِنّمَا قُلْنَا هَذَا ؛ لِأَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إذْ كَانَ بِمَكّةَ كَانَ إذَا أَرَادَ حَاجَةَ الْإِنْسَانِ خَرَجَ إلَى الْمُغَمّسِ ، وَهُوَ عَلَى ثُلُثِ فَرْسَخٍ مِنْهَا ، كَذَلِكَ رَوَاهُ عَلِيّ بْنُ السّكَنِ فِي كِتَابِ السّنَنِ لَهُ وَفِي السّنَنِ لِأَبِي دَاوُدَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَانَ إذَا أَرَادَ الْبَرَازَ أَبْعَد وَلَمْ يُبَيّنْ مِقْدَارَ الْبُعْدِ وَهُوَ مُبَيّنٌ فِي حَدِيثِ ابْنِ السّكَنِ - كَمَا قَدّمْنَا - وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِيَأْتِيَ مَكَانًا لِلْمَذْهَبِ إلّا وَهُوَ مَسْتُورٌ مُنْخَفِضٌ فَاسْتَقَامَ الْمَعْنَى فِيهِ عَلَى الرّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا .

عُدْوَانُ الْأَسْوَدِ عَلَى مَكّةَ
[ ص 120 ] نَزَلَ أَبْرَهَةُ الْمُغَمّسَ ، بَعَثَ رَجُلًا مِنْ الْحَبَشَةِ يُقَالُ لَهُ الْأَسْوَدُ بْنُ مَقْصُودٍ عَلَى خَيْلٍ لَهُ حَتّى انْتَهَى إلَى مَكّةَ ، فَسَاقَ إلَيْهِ أَمْوَالَ تِهَامَةَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ وَأَصَابَ فِيهَا مِئَتَيْ بَعِيرٍ لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيّدُهَا ، فَهَمّتْ قُرَيْشٌ وَكِنَانَةُ وَهُذَيْلٌ ، وَمَنْ كَانَ بِذَلِكَ الْحَرَمِ بِقِتَالِهِ ثُمّ عَرَفُوا أَنّهُمْ لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ فَتَرَكُوا ذَلِكَ .
رَسُولُ أَبْرَهَةَ إلَى عَبْدِ الْمُطّلِبِ
وَبَعَثَ أَبْرَهَةُ حُنَاطَةَ الْحِمْيَرِيّ إلَى مَكّةَ ، وَقَالَ لَهُ سَلْ عَنْ سَيّدِ أَهْلِ هَذَا الْبَلَدِ وَشَرِيفِهَا ، ثُمّ قُلْ لَهُ إنّ الْمَلِكَ يَقُولُ لَك : إنّي لَمْ آتِ لِحَرْبِكُمْ إنّمَا جِئْت لِهَدْمِ هَذَا الْبَيْتِ فَإِنْ لَمْ تَعْرِضُوا دُونَهُ بِحَرْبِ فَلَا حَاجَةَ لِي بِدِمَائِكُمْ فَإِنْ هُوَ لَمْ يُرِدْ حَرْبِي ، فَأْتِنِي بِهِ فَلَمّا دَخَلَ حُنَاطَةُ مَكّةَ ، سَأَلَ عَنْ سَيّدِ قُرَيْشٍ وَشَرِيفِهَا ، فَقِيلَ لَهُ عَبْدُ الْمُطّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ فَجَاءَهُ فَقَالَ لَهُ مَا أَمَرَهُ بِهِ أَبْرَهَةُ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطّلِبِ : وَاَللّهِ مَا نُرِيدُ حَرْبَهُ وَمَا لَنَا بِذَلِكَ مِنْ طَاقَةٍ هَذَا بَيْتُ اللّهِ الْحَرَامِ وَبَيْتُ خَلِيلِهِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ - أَوْ كَمَا قَالَ - فَإِنْ يَمْنَعْهُ مِنْهُ فَهُوَ بَيْتُهُ وَحَرَمُهُ وَإِنْ يُخَلّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَوَاَللّهِ مَا عِنْدَنَا دَفْعٌ عَنْهُ فَقَالَ لَهُ حُنَاطَةُ فَانْطَلِقْ مَعِي إلَيْهِ فَإِنّهُ قَدْ أَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِك .
الشّافِعُونَ عِنْدَ أَبْرَهَةَ لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ
فَانْطَلَقَ مَعَهُ عَبْدُ الْمُطّلِبِ ، وَمَعَهُ بَعْضُ بَنِيهِ حَتّى أَتَى الْعَسْكَرَ فَسَأَلَ عَنْ ذِي نَفْرٍ وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا ، حَتّى دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي مَحْبِسِهِ فَقَالَ لَهُ يَا ذَا نَفْرٍ هَلْ عِنْدَك مِنْ [ ص 121 ] نَزَلَ بِنَا ؟ فَقَالَ لَهُ ذُو نَفْرٍ : وَمَا غَنَاءُ رَجُلٍ أَسِيرٍ بِيَدَيْ مَلِكٍ يَنْتَظِرُ أَنْ يَقْتُلَهُ غُدُوّا أَوْ عَشِيّا ؟ مَا عِنْدَنَا غَنَاءٌ فِي شَيْءٍ مِمّا نَزَلَ بِك إلّا أَنّ أُنَيْسًا سَائِسَ الْفِيلِ صَدِيقٌ لِي ، وَسَأُرْسِلُ إلَيْهِ فَأُوصِيهِ بِك ، وَأُعْظِمُ عَلَيْهِ حَقّك ، وَأَسْأَلُهُ أَنْ يَسْتَأْذِنَ لَك عَلَى الْمَلِكِ فَتُكَلّمُهُ بِمَا بَدَا لَك . وَيَشْفَعُ لَك عِنْدَهُ بِخَيْرِ إنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ حَسْبِي . فَبَعَثَ ذُو نَفْرٍ إلَى أُنَيْسٍ فَقَالَ لَهُ إنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ سَيّدُ قُرَيْشٍ ، وَصَاحِبُ عِيرِ مَكّةَ ، يُطْعِمُ النّاسَ بِالسّهْلِ وَالْوُحُوشَ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ وَقَدْ أَصَابَ لَهُ الْمَلِكُ مِئَتَيْ بَعِيرٍ فَاسْتَأْذِنْ لَهُ عَلَيْهِ وَانْفَعْهُ عِنْدَهُ بِمَا اسْتَطَعْت ، فَقَالَ أَفْعَلُ . فَكَلّمَ أُنَيْسٌ أَبْرَهَةَ فَقَالَ لَهُ أَيّهَا الْمَلِكُ هَذَا سَيّدُ قُرَيْشٍ بِبَابِك يَسْتَأْذِنُ عَلَيْك ، وَهُوَ صَاحِبُ عِيرِ مَكّةَ ، وَهُوَ يُطْعِمُ النّاسَ فِي السّهْلِ وَالْوُحُوشَ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ فَأْذَنْ لَهُ عَلَيْك ، فَيُكَلّمْك فِي حَاجَتِهِ قَالَ فَأَذِنَ لَهُ أَبْرَهَةُ .
عَبْدُ الْمُطّلِبِ وَأَبْرَهَةُ
قَالَ وَكَانَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ أَوْسَمَ النّاسِ وَأَجْمَلَهُمْ وَأَعْظَمَهُمْ فَلَمّا رَآهُ أَبْرَهَةُ أَجَلّهُ وَأَعْظَمَهُ وَأَكْرَمَهُ عَنْ أَنْ يُجْلِسَهُ تَحْتَهُ وَكَرِهَ أَنْ تَرَاهُ الْحَبَشَةُ يَجْلِسُ مَعَهُ عَلَى سَرِيرِ مُلْكِهِ فَنَزَلَ أَبْرَهَةُ عَنْ سَرِيرِهِ فَجَلَسَ عَلَى بِسَاطِهِ وَأَجْلَسَهُ مَعَهُ عَلَيْهِ إلَى جَنْبِهِ ثُمّ قَالَ لِتُرْجُمَانِهِ قُلْ لَهُ حَاجَتُك ؟ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ التّرْجُمَانُ فَقَالَ حَاجَتِي أَنْ يَرُدّ عَلَيّ الْمَلِكُ مِئَتَيْ بَعِيرٍ أَصَابَهَا لِي ، فَلَمّا قَالَ لَهُ ذَلِكَ قَالَ أَبْرَهَةُ لِتُرْجُمَانِهِ قُلْ لَهُ قَدْ كُنْت أَعْجَبْتنِي [ ص 122 ] وَدِينُ آبَائِك قَدْ جِئْت لِهَدْمِهِ لَا تُكَلّمُنِي فِيهِ ؟ قَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطّلِبِ : إنّي أَنَا رَبّ الْإِبِلِ وَإِنّ لِلْبَيْتِ رَبّا سَيَمْنَعُهُ قَالَ مَا كَانَ لِيَمْتَنِعَ مِنّي ، قَالَ أَنْتَ وَذَاكَ . وَكَانَ - فِيمَا يَزْعُمُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ - قَدْ ذَهَبَ مَعَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ إلَى أَبْرَهَةَ حِينَ بَعَثَ إلَيْهِ حُنَاطَةَ يَعْمُرُ بْنُ نُفَاثَةَ بْنِ عَدِيّ بْنِ الدّئْلِ بْنِ بَكْرِ بْنِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيّدُ بَنِي بَكْرٍ - وَخُوَيْلِدُ بْنُ وَاثِلَةَ الْهُذَلِيّ - وَهُوَ يَوْمَئِذٍ سَيّدُ هُذَيْلٍ - فَعَرَضُوا عَلَى أَبْرَهَةَ ثُلُثَ أَمْوَالِ تِهَامَةَ ، عَلَى أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُمْ وَلَا يَهْدِمَ الْبَيْتَ فَأَبَى عَلَيْهِمْ . وَاَللّهُ أَعْلَمُ أَكَانَ ذَلِكَ أَمْ لَا ، فَرَدّ أَبْرَهَةُ عَلَى عَبْدِ الْمُطّلِبِ الْإِبِلَ الّتِي أَصَابَ لَهُ .
Sوَسَامَةُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ
[ ص 121 ] عَبْدِ الْمُطّلِبِ : أَوْسَمُ النّاسِ وَأَجْمَلُهُ . ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ هَذَا الْكَلَامَ مَحْكِيّا عَنْ الْعَرَبِ ، وَوَجْهُهُ عِنْدَهُمْ أَنّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى ، فَكَأَنّك قُلْت : أَحْسَنُ رَجُلٍ وَأَجْمَلُهُ فَأَفْرَدَ الِاسْمَ الْمُضْمَرَ الْتِفَاتًا إلَى هَذَا الْمَعْنَى ، وَهُوَ عِنْدِي مَحْمُولٌ عَلَى الْجِنْسِ كَأَنّهُ حِينَ ذَكَرَ النّاسَ قَالَ هُوَ أَجْمَلُ هَذَا الْجَنْسِ مِنْ الْخَلْقِ وَإِنّمَا عَدَلْنَا عَنْ ذَلِكَ التّقْدِيرِ الْأَوّلِ لِأَنّ فِي الْحَدِيثِ الصّحِيحِ " خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ الْإِبِلَ صَوَالِحُ نِسَاءِ قُرَيْشٍ : أَحْنَاهُ عَلَى وَلَدِهِ فِي صِغَرِهِ وَأَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ " ، وَلَا يَسْتَقِيمُ هَهُنَا حَمْلُهُ عَلَى الْإِفْرَادِ لِأَنّ الْمُفْرَدَ هَهُنَا امْرَأَةٌ فَلَوْ نَظَرَ إلَى وَاحِدِ النّسَاءِ لَقَالَ أَحْنَاهَا عَلَى وَلَدِهِ فَإِذًا التّقْدِيرُ أَحْنَى هَذَا الْجَنْسِ الّذِي هُوَ النّسَاءُ وَهَذَا الصّنْفُ وَنَحْوُ هَذَا .

عَبْدُ الْمُطّلِبِ يَسْتَغِيثُ بِاَللّهِ
فَلَمّا انْصَرَفُوا عَنْهُ انْصَرَفَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ إلَى قُرَيْشٍ ، فَأَخْبَرَهُمْ الْخَبَرَ ، وَأَمَرَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنْ مَكّةَ ، وَالتّحَرّزِ فِي شَعَفِ الْجِبَالِ وَالشّعَابِ تَخَوّفًا عَلَيْهِمْ مِنْ مَعَرّةِ الْجَيْشِ [ ص 123 ] عَبْدُ الْمُطّلِبِ ، فَأَخَذَ بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ ، وَقَامَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ يَدْعُونَ اللّهَ ويستنصرونه عَلَى أَبْرَهَةَ وَجُنْدِهِ فَقَالَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ وَهُوَ آخِذٌ بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ :
لَا هُمّ إنّ الْعَبْدَ يَمْ ... نَعُ رَحْلَهُ فَامْنَعْ حَلَالَك
لَا يَغْلِبَن صَلِيبَهُمْ ... وَمِحَالُهُمْ غَدْوًا مَحَالُك
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هَذَا مَا صَحّ لَهُ مِنْهَا .
شَاعِرٌ يَدْعُو عَلَى الْأَسْوَدِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ عَامِرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ :
لَا هُمّ أَخْزِ الْأَسْوَدَ بْنَ مَقْصُودٍ ... الْآخِذَ الْهَجْمَةِ فِيهَا التّقْلِيدُ
بَيْنَ حِرَاءَ وثَبِيرٍ فَالْبِيدُ ... يَحْبِسُهَا وَهِيَ أُولَاتُ التّطْرِيدِ
فَضَمّهَا إلَى طَمَاطِمٍ سُود ... أَخْفِرْهُ يَا رَبّ وَأَنْتَ مَحْمُودُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هَذَا مَا صَحّ لَهُ مِنْهَا ، وَالطّمَاطِمُ الْأَعْلَاجُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ أَرْسَلَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ حَلْقَةَ بَابِ الْكَعْبَةِ ، وَانْطَلَقَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ قُرَيْشٍ إلَى شَعَفِ الْجِبَالِ فَتَحَرّزُوا فِيهَا يَنْتَظِرُونَ مَا أَبْرَهَةُ فَاعِلٌ بِمَكّةَ إذَا دَخَلَهَا .
S[ ص 122 ] وَذَكَرَ قَوْلَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ :
لَا هُمّ إنّ الْمَرْءَ يَمْ ... نَعُ رَحْلَهُ فَامْنَعْ حِلَالَك
الْعَرَبُ تَحْذِفُ الْأَلِفَ وَاللّامَ مِنْ اللّهُمّ وَتَكْتَفِي بِمَا بَقِيَ وَكَذَلِكَ تَقُولُ لَاهٍ أَبُوك تُرِيدُ لِلّهِ أَبُوك ، وَقَدْ تَقَدّمَ قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي لِهَنّكَ [ أَوْ لَهِنّك ] ، وَأَنّ الْمَعْنَى : وَاَللّهِ إنّك ، وَهَذَا لِكَثْرَةِ دَوْرِ هَذَا الِاسْمِ عَلَى الْأَلْسِنَةِ وَقَدْ قَالُوا فِيمَا هُوَ دُونَهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ أَجِنّك تَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا . أي مِنْ أجل أَنّك تَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا وَالْحَلَالُ فِي هَذَا الْبَيْتِ الْقَوْمُ الْحُلُولُ فِي الْمَكَانِ وَالْحَلَالُ مَرْكَبٌ مِنْ مَرَاكِبِ النّسَاءِ . قَالَ الشّاعِرُ بِغَيْرِ حِلَالٍ غَادَرَتْهُ مُجَحْفَلِ وَالْحِلَالُ أَيْضًا : مَتَاعُ الْبَيْتِ وَجَائِزٌ أَنْ يَسْتَعِيرَهُ هَهُنَا ، وَفِي الرّجَزِ بَيْتٌ ثَالِثٌ لَمْ يَقَعْ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ قَوْلُهُ
وَانَصْر عَلَى آلِ الصّلِيبِ ... وَعَابِدِيهِ الْيَوْمَ آلَك
وَفِيهِ حُجّةٌ عَلَى النّحّاسِ وَالزّبَيْدِيّ حَيْثُ زَعَمَا ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِمَا أَنّهُ لَا يُقَالُ اللّهُمّ صَلّ عَلَى مُحَمّدٍ وَعَلَى آلَهُ لِأَنّ الْمُضْمَرَ يَرُدّ الْمُعْتَلّ إلَى أَصْلِهِ وَأَصْلُهُ أَهْلٌ فَلَا يُقَالُ إلّا : وَعَلَى أَهْلِهِ وَبِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خَتَمَ النّحّاسُ كِتَابَهُ الْكَافِي . وَقَوْلُهُمَا خَطَأٌ مِنْ وُجُوهٍ وَغَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي [ ص 123 ] قِيَاسٍ وَلَا سَمَاعٍ وَمَا وَجَدْنَا قَطّ مُضْمَرًا يَرُدّ مُعْتَلّا إلَى أَصْلِهِ إلّا قَوْلُهُمْ أَعْطَيْتُكُمُوهُ بِرَدّ الْوَاوِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي وِرْدٍ وَلَا صَدَرٍ وَلَا نَقُولُ أَيْضًا : إنّ آلًا أَصْلُهُ أَهْلٌ وَلَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ وَلَا نَقُولُ إنّ أُهَيْلًا تَصْغِيرُ آلٍ كَمَا ظَنّ بَعْضُهُمْ وَلِتَوْجِيهِ الْحِجَاجِ عَلَيْهِمْ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا ، وَفِي الْكَامِلِ مِنْ قَوْلِ الْكِتَابِيّ لِمُعَاوِيَةَ حِينَ ذَكَرَ عَبْدُ الْمَلِكِ مِنْ آلِك ، وَلَيْسَ مِنْك . وَقَوْلُ عِكْرِمَةَ بْنِ عَامِرٍ : الْآخِذُ الْهَجْمَةَ فِيهَا التّقْلِيدُ الْهَجْمَةُ هِيَ مَا بَيْنَ التّسْعِينَ إلَى الْمِائَةِ وَالْمِائَةُ مِنْهَا : هُنَيْدَةٌ وَالْمِائَتَانِ هِنْدٌ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ والثلاثمائة أُمَامَةُ وَأَنْشَدُوا : تَبَيّنْ رُوَيْدًا مَا أُمَامَةُ مِنْ هِنْد ِ وَكَأَنّ اشْتِقَاقَ الْهَجْمَةِ مِنْ الْهَجِيمَةِ وَهُوَ الثّخِينُ مِنْ اللّبَنِ لِأَنّهُ لَمّا كَثُرَ لَبَنُهَا لِكَثْرَتِهَا ، لَمْ يُمْزَجْ بِمَاءِ وَشُرِبَ صِرْفًا ثَخِينًا ، وَيُقَالُ لِلْقَدَحِ الّذِي يُحْلَبُ فِيهِ إذَا كَانَ كَبِيرًا : هَجْمٌ .

أَبْرَهَةُ وَالْفِيلُ وَالْكَعْبَةُ
فَلَمّا [ ص 124 ] أَصْبَحَ أَبْرَهَةُ تَهَيّأَ لِدُخُولِ مَكّةَ ، وَهَيّأَ فِيلَهُ وَعَبّى جَيْشَهُ - وَكَانَ اسْمُ الْفِيلِ مَحْمُودًا - وَأَبْرَهَةُ مُجْمِعٌ لِهَدْمِ الْبَيْتِ ثُمّ الِانْصِرَافِ إلَى الْيَمَنِ . فَلَمّا وَجّهُوا الْفِيلَ إلَى مَكّةَ ، أَقْبَلَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ حَتّى قَامَ إلَى جَنْبِ الْفِيلِ ثُمّ أَخَذَ بِأُذُنِهِ فَقَالَ اُبْرُكْ مَحْمُودُ أَوْ ارْجِعْ رَاشِدًا مِنْ حَيْثُ جِئْت ، فَإِنّك فِي بَلَدِ اللّهِ الْحَرَامِ ثُمّ أَرْسَلَ أُذُنَهُ . فَبَرَكَ الْفِيلُ وَخَرَجَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ يَشْتَدّ حَتّى أُصْعِدَ فِي الْجَبَلِ وَضَرَبُوا الْفِيلَ لِيَقُومَ فَأَبَى ، فَضَرَبُوا فِي رَأْسِهِ بِالطّبَرْزِينِ لِيَقُومَ فَأَبَى ، فَأَدْخَلُوا مَحَاجِنَ لَهُمْ فِي مَرَاقّهِ فَبَزَغُوهُ بِهَا لِيَقُومَ فَأَبَى ، فَوَجّهُوهُ رَاجِعًا إلَى الْيَمَنِ فَقَامَ يُهَرْوِلُ وَوَجّهُوهُ إلَى الشّامِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ وَوَجّهُوهُ إلَى الْمَشْرِقِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ وَوَجّهُوهُ إلَى مَكّةَ فَبَرَكَ فَأَرْسَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ طَيْرًا مِنْ الْبَحْرِ أَمْثَالَ الْخَطَاطِيفِ وَالْبَلَسَانِ مَعَ كُلّ طَائِرٍ مَعَهَا ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ يَحْمِلُهَا : حَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ وَحَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ أَمْثَالُ الْحِمّصِ وَالْعَدَسِ لَا تُصِيبُ مِنْهُمْ أَحَدًا إلّا هَلَكَ وَلَيْسَ كُلّهُمْ أَصَابَتْ وَخَرَجُوا هَارِبِينَ يَبْتَدِرُونَ الطّرِيقَ الّذِي مِنْهُ جَاءُوا ، وَيَسْأَلُونَ عَنْ نُفَيْلِ بْنِ حَبِيبٍ لِيَدُلّهُمْ عَلَى الطّرِيقِ إلَى الْيَمَنِ ، فَقَالَ نُفَيْلٌ حِينَ رَأَى مَا أَنَزَلَ اللّهُ بِهِمْ مِنْ نِقْمَتِهِ
أَيْنَ الْمَفَرّ وَالْإِلَهُ الطّالِبُ ... وَالْأَشْرَمُ الْمَغْلُوبُ لَيْسَ الْغَالِبُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْلُهُ " لَيْسَ الْغَالِبُ " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ نُفَيْلٌ أَيْضًا :
أَلَا حُيّيت عَنّا يَا رُدَيْنَا ... نَعِمْنَاكُمْ مَعَ الْإِصْبَاحِ عَيْنَا
رُدَيْنَةُ لَوْ رَأَيْت - وَلَا تَرَيْهِ ... لَذِي جَنْبِ الْمُحَصّبِ مَا رَأَيْنَا
إذًا لَعَذَرْتنِي وَحَمِدْت أَمْرِي ... وَلَمْ تَأْسَى عَلَى مَا فَاتَ بَيْنَا
حَمِدْت اللّهَ إذْ أَبْصَرْت طَيْرًا ... وَخِفْت حِجَارَةً تُلْقَى عَلَيْنَا
وَكُلّ الْقَوْمِ يَسْأَلُ عَنْ نُفَيْلٍ ... كَأَنّ عَلَيّ لِلْحُبْشَانِ دَيْنَا
[ ص 125 ] مَهْلِك عَلَى كُلّ مَنْهَلٍ وَأُصِيبَ أَبْرَهَةُ فِي جَسَدِهِ وَخَرَجُوا بِهِ مَعَهُمْ يَسْقُطُ أُنْمُلَةً أُنْمُلَةً كَلَمّا سَقَطَتْ أُنْمُلَةٌ أَتّبَعَتْهَا مِنْهُ مِدّةٌ تَمُثّ قَيْحًا وَدَمًا ، حَتّى قَدِمُوا بِهِ صَنْعَاءَ وَهُوَ مِثْلُ فَرْخِ الطّائِرِ فَمَا مَاتَ حَتّى انْصَدَعَ صَدْرُهُ عَنْ قَلْبِهِ فِيمَا يَزْعُمُونَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ أَنّهُ حَدّثَ أَنّ أَوّلَ مَا رُئِيَتْ الْحَصْبَةُ وَالْجُدَرِيّ بِأَرْضِ الْعَرَبِ ذَلِكَ الْعَامَ وَأَنّهُ أَوّلُ مَا رُئِيَ بِهَا مَرَائِرُ الشّجَرِ الْحَرْمَلُ وَالْحَنْظَلُ وَالْعُشَرُ ذَلِكَ الْعَامَ .
Sفِي حَدِيثِ الْفِيلِ
[ ص 124 ] أَخْفِرْهُ يَا رَبّ . أَيْ اُنْقُضْ عَزْمَهُ وَعَهْدَهُ فَلَا تُؤَمّنْهُ يُقَالُ أَخَفَرْت الرّجُلَ إذَا نَقَضْت عَهْدَهُ وَخَفَرْته أَخْفِرُهُ إذَا أَجَرْته ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُضْبَطَ هَذَا إلّا بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِهَا ، لِئَلّا يَصِيرَ الدّعَاءُ عَلَيْهِ دُعَاءً لَهُ . وَقَوْلُهُ إلَى طَمَاطِمِ سُودٍ . يَعْنِي : الْعُلُوجَ . وَيُقَالُ لِكُلّ أَعْجَمِيّ طُمْطُمَانِيّ وَطُمْطُمٌ وَيُذْكَرُ عَنْ الْأَخْفَشِ طَمْطَمُ بِفَتْحِ الطّاءِ . [ ص 125 ] وَقَوْلُهُ عَبّى جَيْشَهُ . يُقَالُ عَبّيْت الْجَيْشَ بِغَيْرِ هَمْزَةٍ وَعَبّأَتْ الْمَتَاعَ بِالْهَمْزِ وَقَدْ حُكِيَ عَبَأْت الْجَيْشَ بِالْهَمْزِ وَهُوَ قَلِيلٌ . [ ص 126 ] وَقَوْلُهُ فَبَرَكَ الْفِيلُ . فِيهِ نَظَرٌ لِأَنّ الْفِيلَ لَا يَبْرُكُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بُرُوكُهُ سُقُوطَهُ إلَى الْأَرْضِ لِمَا جَاءَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ سُبْحَانَهُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ فِعْلَ الْبَارِكِ الّذِي يَلْزَمُ مَوْضِعَهُ وَلَا يَبْرَحُ فَعَبَرَ بِالْبُرُوكِ عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ سَمِعْت مَنْ يَقُولُ إنّ فِي الْفِيَلَةِ صِنْفًا مِنْهَا يَبْرُكُ كَمَا يَبْرُكُ الْجَمَلُ فَإِنْ صَحّ وَإِلّا فَتَأْوِيلُهُ مَا قَدّمْنَاهُ . وَالْأَسْوَدُ بْنُ مَقْصُودٍ صَاحِبُ الْفِيلِ هُوَ الْأَسْوَدُ بْنُ مَقْصُودِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مُنَبّهِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عِلّةَ وَيُقَالُ فِيهِ عُلَهْ عَلَى وَزْنِ عُمَرَ ابْنُ خَالِدِ بْنِ مَذْجِجَ وَكَانَ الْأَسْوَدُ قَدْ بَعَثَهُ النّجَاشِيّ مَعَ الْفِيَلَةِ وَالْجَيْشِ وَكَانَتْ الْفِيَلَةُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ فِيلًا ، فَهَلَكَتْ كُلّهَا إلّا مَحْمُودًا ، وَهُوَ فِيلُ النّجَاشِيّ ؛ مِنْ أَجْلِ أَنّهُ أَبَى مِنْ التّوَجّهِ إلَى الْحَرَمِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَنُفَيْلٌ الّذِي ذَكَرَهُ هُوَ نُفَيْلُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جُزْءِ بْنِ عَامِرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ وَاهِبِ بْنِ جَلِيحَةَ بْنِ أَكْلُبَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عِفْرِسِ بْنِ جِلْفِ بْنِ أَفْتَلَ وَهُوَ خَثْعَمُ . كَذَلِكَ نَسَبَهُ الْبَرْقِيّ . وَفِي الْكِتَابِ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ وَنُفَيْلٌ مِنْ الْمُسَمّينَ بِالنّبَاتِ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ . وَقَالَ هُوَ تَصْغِيرُ نَفَلٍ وَهُوَ نَبْت مُسْلَنْطِحٌ عَلَى الْأَرْضِ . وَذَكَرَ النّقّاشُ أَنّ الطّيْرَ كَانَتْ أَنْيَابُهَا كَأَنْيَابِ السّبُعِ وَأَكُفّهَا كَأَكُفّ الْكِلَابِ وَذَكَرَ الْبَرْقِيّ أَنّ ابْنَ عَبّاسٍ قَالَ أَصْغَرُ الْحِجَارَةِ كَرَأْسِ الْإِنْسَانِ وَكِبَارُهَا كَالْإِبِلِ وَهَذَا الّذِي ذَكَرَهُ الْبَرْقِيّ ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْهُ . وَفِي تَفْسِيرِ النّقّاشِ أَنّ السّيْلَ احْتَمَلَ جُثَثَهُمْ [ ص 127 ] فَأَلْقَاهَا فِي الْبَحْرِ وَكَانَتْ قِصّةُ الْفِيلِ أَوّلَ الْمُحَرّمِ مِنْ سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَثَمَانِمِائَةٍ مِنْ تَارِيخِ ذِي الْقَرْنَيْنِ . وَقَوْلُهُ فَضَرَبُوا رَأْسَهُ بِالطّبْرَزِينِ هَكَذَا تُقَيّدُ فِي نُسْخَةِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ بِسُكُونِ الْبَاءِ وَذَكَرَهُ الْبَكْرِيّ فِي الْمُعْجَمِ وَأَنّ الْأَصْلَ فِيهِ طَبَرْزِينُ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَقَالَ طَبَرٌ هُوَ الْفَأْسُ وَذَكَرَ طَبَرَسْتَانَ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَقَالَ مَعْنَاهُ شَجَرٌ قُطِعَ بِفَأْسِ لِأَنّهَا قَبْلَ أَنْ تُبْنَى كَانَتْ شَجْرَاءَ فَقُطِعَتْ وَلَمْ يَقُلْ فِي طَبَرِيّةَ مِثْلُ هَذَا . قَالَ وَلَكِنّهَا نُسِبَتْ إلَى طَبَارَاءَ وَهُوَ اسْمُ الْمَلِكِ الّذِي بَنَاهَا ، وَقَدْ أَلْفَيْته فِي شِعْرٍ قَدِيمٍ طَبَرْزِينُ - بِفَتْحِ الْبَاءِ - كَمَا قَالَ الْبَكْرِيّ ، وَجَائِزٌ فِي طَبَرْزِينَ - وَإِنْ كَانَ مَا ذُكِرَ أَنْ تُسَكّنَ الْبَاءُ - لِأَنّ الْعَرَبَ تَتَلَاعَبُ بِالْأَسْمَاءِ الْأَعْجَمِيّةِ تَلَاعُبًا لَا يُقِرّهَا عَلَى حَالٍ . قَالَهُ ابْنُ جِنّيّ . وَقَوْلُهُ فَبَزَغُوهُ أَيْ أَدْمَوْهُ وَمِنْهُ سُمّيَ الْمِبْزَغُ وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ الْفِيلَ رَبَضَ فَجَعَلُوا يَقْسِمُونَ بِاَللّهِ أَنّهُمْ رَادّوهُ إلَى الْيَمَنِ ، فَحَرّكَ لَهُمْ أُذُنَيْهِ كَأَنّهُ يَأْخُذُ عَلَيْهِمْ عَهْدًا بِذَلِكَ فَإِذَا أَقْسَمُوا لَهُ قَامَ يُهَرْوِلُ فَيَرُدّونَهُ إلَى مَكّةَ ، فَيَرْبِضُ فَيَحْلِفُونَ لَهُ فَيُحَرّكُ لَهُمْ أُذُنَيْهِ كَالْمُؤَكّدِ عَلَيْهِمْ فَفَعَلُوا ذَلِكَ مِرَارًا . وَقَوْلُهُ أَمْثَالُ الْحِمّصِ وَالْعَدَسِ يُقَالُ حِمّصٌ ، وَحِمّصٌ ، كَمَا يُقَالُ جِلّقٌ وَجِلّقٍ قَالَهُ الزّبَيْدِيّ ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْحِمّصِ إلّا الْفَتْحَ وَلَيْسَ لَهُمَا نَظِيرٌ فِي الْأَبْنِيَةِ إلّا الْحِلّزَةُ وَهُوَ الْقَصِيرُ وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيّ الْحِلّزُ الْبَخِيلُ بِتَشْدِيدِ الزّاي ، وَصَوّبَ الْقَالِي هَذِهِ الرّوَايَةَ فِي الْغَرِيبِ الْمُصَنّفِ لِأَنّ فِعْلًا بِالتّشْدِيدِ لَيْسَ مِنْ الصّفَاتِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ . وَيَعْنِي بِمُمَاثَلَةِ الْحِجَارَةِ لِلْحِمّصِ أَنّهَا عَلَى شَكْلِهَا - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - لِأَنّهُ قَدْ رُوِيَ أَنّهَا كَانَتْ ضِخَامًا تَكْسِرُ الرّءُوسَ وَرُوِيَ أَنّ مَخَالِبَ الطّيْرِ كَانَتْ كَأَكُفّ الْكِلَابِ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ قَالَ جَاءَتْهُمْ طَيْرٌ مِنْ الْبَحْرِ كَرِجَالِ الْهِنْدِ ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ أَنّهُمْ اسْتَشْعَرُوا الْعَذَابَ فِي لَيْلَةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ لِأَنّهُمْ نَظَرُوا إلَى النّجُومِ كَالِحَةً إلَيْهِمْ تَكَادُ تُكَلّمُهُمْ مِنْ اقْتِرَابِهَا مِنْهُمْ فَفَزِعُوا لِذَلِكَ . وَقَوْلُ نُفَيْلٍ وَلَمْ تَأْسَى عَلَى مَا فَاتَ بَيْنَا نَصَبَ بَيْنًا نَصْبَ الْمَصْدَرِ الْمُؤَكّدِ لِمَا قَبْلَهُ إذْ كَانَ فِي مَعْنَاهُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى لَفْظِهِ لِأَنّ فَاتَ مَعْنَى : فَارَقَ وَبَانَ كَأَنّهُ قَالَ عَلَى مَا فَاتَ فَوْتًا ، أَوْ بَانَ بَيْنًا ، وَلَا يَصِحّ لِأَنْ يَكُونَ [ ص 128 ] أَجْلِهِ يَعْمَلُ فِيهِ تَأَسّى ، لِأَنّ الْأَسَى بَاطِنٌ فِي الْقَلْبِ وَالْبَيْنُ ظَاهِرٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ مِنْ أَجْلِهِ إلّا بِعَكْسِ هَذَا . تَقُولُ بَكَى أَسَفًا ، وَخَرَجَ خَوْفًا ، وَانْطَلَقَ حِرْصًا عَلَى كَذَا ، وَلَوْ عَكَسْت الْكَلَامَ كَانَ خَلَفًا مِنْ الْقَوْلِ وَهَذَا أَحَدُ شُرُوطِ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ وَلَعَلّ لَهُ مَوْضِعًا مِنْ الْكِتَابِ فَنَذْكُرُهُ فِيهِ . وَقَوْلُهُ نَعِمْنَاكُمْ مَعَ الْإِصْبَاحِ عَيْنًا : دُعَاءٌ أَيْ نَعِمْنَا بِكُمْ فَعَدّى الْفِعْلَ لَمّا حَذَفَ حَرْفَ الْجَرّ وَهَذَا كَمَا تَقُولُ أَنْعَمَ اللّهُ بِك عَيْنًا . وَقَوْلُهُ فِي أَوّلِ الْبَيْتِ أَلَا حُيّيت عَنّا يَا رُدَيْنَا . هُوَ اسْمُ امْرَأَةٍ كَأَنّهَا سُمّيَتْ بِتَصْغِيرِ رُدْنَةَ وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنْ الرّدَنِ وَهُوَ الْحَرِيرُ . وَيُقَالُ لِمُقَدّمِ الْكُمّ رُدْنٌ وَلَكِنّهُ مُذَكّرٌ وَأَمّا دُرَيْنَةُ بِتَقْدِيمِ الدّالِ عَلَى الرّاءِ فَهُوَ اسْمٌ لِلْأَحْمَقِ قَالَهُ الْخَلِيلُ . وَقَوْلُهُ فِي خَبَرِ أَبْرَهَةَ تَبِعَتْهَا مِدّةٌ تَمُثّ قَيْحًا وَدَمًا . أَلْفَيْته فِي نُسْخَةِ الشّيْخِ تَمُثّ ، وَتَمِثّ بِالضّمّ وَالْكَسْرِ . فَعَلَى رِوَايَةِ الضّمّ يَكُونُ الْفِعْلُ مُتَعَدّيًا ، وَنَصَبَ قَيْحًا عَلَى الْمَفْعُولِ وَعَلَى رِوَايَةِ الْكَسْرِ يَكُونُ غَيْرَ مُتَعَدّ وَنَصَبَ قَيْحًا عَلَى التّمْيِيزِ فِي قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ وَهُوَ عِنْدَنَا عَلَى الْحَالِ وَهُوَ مِنْ بَابِ تَصَبّبَ عَرَقًا ، وَتَفَقّأَ شَحْمًا ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ شَيْخُنَا أَبُو الْحُسَيْنِ فِي مِثْلِ هَذَا ، وَقَدْ أَفْصَحَ سِيبَوَيْهِ فِي لَفْظِ الْحَالِ فِي : ذَهَبْنَ كَلَاكِلًا وَصُدُورًا . وَأَشْرَقَ كَاهِلًا ، وَهَذَا مِثْلُهُ وَلِكَشْفِ الْقِنَاعِ عَنْ حَقِيقَةِ هَذَا مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا وَإِنّمَا قُلْنَا : إنّ مَنْ رَوَاهُ تَمُثّ بِضَمّ الْمِيمِ فَهُوَ مُتَعَدّ كَأَنّهُ مُضَاعَفٌ وَالْمُضَاعَفُ إذَا كَانَ مُتَعَدّيًا كَانَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَضْمُومًا نَحْوَ رَدّهُ يَرُدّهُ إلّا مَا شَذّ مِنْهُ نَحْوَ عَلّ يَعُلّ وَيَعِلّ ، وَهَرّ الْكَأْسُ يَهُرّ وَيَهِرّ ، وَإِذَا كَانَ غَيْرَ مُتَعَدّ كَانَ مَكْسُورًا فِي الْمُسْتَقْبِلِ نَحْوَ خَفّ يَخِفّ ، وَفَرّ يَفِرّ إلّا سِتّةَ أَفْعَالٍ جَاءَتْ فِيهَا اللّغَتَانِ جَمِيعًا ، وَهِيَ فِي أَدَبِ الْكَاتِبِ وَغَيْرِهِ فَغُنِينَا بِذَلِكَ عَنْ ذِكْرِهَا . عَلَى أَنّهُمْ قَدْ أَغْفَلُوا : هَبّ يَهُبّ وَخَبّ يَخُبّ وَأَجّ يَؤُجّ إذَا أَسْرَعَ وَشَكّ فِي الْأَمْرِ يَشُكّ ، وَمَعْنَى تَمُثّ قَيْحًا : أَيْ تَسِيلُ يُقَالُ فُلَانٌ يَمُثّ كَمَا يَمُثّ الزّقّ . وَقَوْلُهُ يَسْقُطُ أُنْمُلَةً أُنْمُلَةً أَيْ يَنْتَثِرُ جِسْمُهُ وَالْأُنْمُلَةُ طَرَفُ الْأُصْبُعِ وَلَكِنْ قَدْ يُعَبّرُ بِهَا عَنْ طَرَفٍ غَيْرِ الْأُصْبُعِ وَالْجُزْءُ الصّغِيرُ . فَفِي مُسْنَدِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إنّ فِي الشّجَرَةِ شَجَرَةً هِيَ مِثْلُ الْمُؤْمِنِ لَا تَسْقُطُ لَهَا أُنْمُلَةٌ . ثُمّ قَالَ هِيَ النّخْلَةُ وَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ لَا تَسْقُطُ لَهُ دَعْوَة [ ص 129 ] وَقَوْلُهُ مَرَائِرُ الشّجَرِ يُقَالُ شَجَرَةٌ مُرّةٌ ثُمّ تُجْمَعُ عَلَى مَرَائِرَ كَمَا تُجْمَعُ حُرّةٌ عَلَى حَرَائِرَ وَلَا تُعْرَفُ فِعْلَةٌ تُجْمَعُ عَلَى فَعَائِلَ إلّا فِي هَذَيْنِ الْحَرْفَيْنِ وَقِيَاسُ جَمْعِهِمَا فُعَلٌ نَحْوَ دُرّةٌ وَدُرَرٌ وَلَكِنّ الْحُرّةَ مِنْ النّسَاءِ فِي مَعْنَى : الْكَرِيمَةِ وَالْعَقِيلَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَأَجْرَوْهَا مَجْرَى مَا هُوَ فِي مَعْنَاهَا مِنْ الْفَعِيلَةِ وَكَذَلِكَ الْمُرّ قِيَاسُهُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ مَرِيرٌ لِأَنّ الْمَرَارَةَ فِي الشّيْءِ طَبِيعَةٌ فَقِيَاسُ فِعْلِهِ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ كَمَا تَقُولُ عَذُبَ الشّيْءُ وَقَبُحَ . وَعَسِرُ إذَا صَارَ عَسِيرًا ، وَإِذَا كَانَ قِيَاسُهُ فَعُلَ فَقِيَاسُ الصّفَةِ مِنْهُ أَنْ تَكُونَ عَلَى فَعِيلٍ وَالْأُنْثَى : فَعَيْلَةٌ وَالشّيْءُ الْمُرّ عَسِيرٌ أَكْلُهُ شَدِيدٌ فَأَجْرَوْا الْجَمْعَ مَجْرَى هَذِهِ الصّفَاتِ الّتِي هِيَ عَلَى فَعِيلٍ لِأَنّهَا طِبَاعٌ وَخِصَالٌ وَأَفْعَالُ الطّبَاعِ وَالْخِصَالِ كُلّهَا تَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى . وَذَكَرَ الْعُشَرَ . وَهُوَ شَجَرٌ مُرّ يَحْمِلُ ثَمَرًا كَالْأُتْرُجّ وَلَيْسَ فِيهِ مُنْتَفَعٌ وَلَبَنُ الْعُشَرِ تُعَالَجُ بِهِ الْجُلُودُ قَبْلَ أَنْ تُجْعَلَ فِي الْمَنِيئَةِ وَهِيَ الْمَدْبَغَةُ كَمَا تُعَالَجُ بِالْغَلْقَةِ وَهِيَ شَجَرَةٌ وَفِي الْعُشَرِ الْخُرْفُعُ وَالْخِرْفِعُ وَهُوَ شَبَهُ الْقُطْنِ وَيُجْنَى مِنْ الْعُشَرِ الْمَغَافِيرُ وَاحِدُهَا : مُغْفُورٌ وَمَغَافِرُ وَوَاحِدُهَا : مِغْفَرٌ وَيُقَالُ لَهَا : سُكّرُ الْعُشَرِ وَلَا تَكُونُ الْمَغَافِيرُ إلّا فِيهِ وَفِي الرّمْثِ وَفِي الثّمَامِ وَالثّمَامُ أَكْثَرُهَا لَثًى ، وَفِي الْمِثْلِ هَذَا الْجَنَى لَا أَنْ يُكَدّ الْمِغْفَرُ مِنْ كِتَابِ أَبِي حَنِيفَةَ .

قِصّةُ الْفِيلِ فِي الْقُرْآنِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا بَعَثَ اللّهُ تَعَالَى مُحَمّدًا - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَانَ مِمّا يَعُدّ اللّهُ عَلَى قُرَيْشٍ مِنْ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ وَفَضْلِهِ مَا رَدّ عَنْهُمْ مِنْ أَمْرِ الْحَبَشَةِ لِبَقَاءِ أَمْرِهِمْ وَمُدّتِهِمْ فَقَالَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ } . وَقَالَ { لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشّتَاءِ وَالصّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبّ هَذَا الْبَيْتِ الّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ } . أَيْ لِئَلّا يُغَيّرَ شَيْئًا مِنْ حَالِهِمْ الّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ، لِمَا أَرَادَ اللّهُ بِهِمْ مِنْ الْخَيْرِ لَوْ قَبِلُوهُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْأَبَابِيلُ الْجَمَاعَاتُ وَلَمْ تَتَكَلّمْ لَهَا الْعَرَبُ بِوَاحِدِ عَلِمْنَاهُ وَأَمّا السّجّيلُ فَأَخْبَرَنِي يُونُسُ النّحْوِيّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ أَنّهُ عِنْدَ الْعَرَبِ : الشّدِيدُ الصّلْبُ قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ :
وَمَسّهُمْ مَا مَسّ أَصْحَابَ الْفِيلِ ... تَرْمِيهِمْ حِجَارٌ مِنْ سِجّيلْ
وَلُعّبَتْ طَيْرٌ بِهِمْ أَبَابِيلْ وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ . ذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسّرِينَ أَنّهُمَا كَلِمَتَانِ بِالْفَارِسِيّةِ جَعَلَتْهُمَا الْعَرَبُ كَلِمَةً وَاحِدَةً وَإِنّمَا هُوَ سِنْجٌ وَجِلّ يَعْنِي بِالسّنْجِ الْحَجَرَ ، وَبِالْجِلّ الطّينَ يَعْنِي : الْحِجَارَةَ مِنْ هَذَيْنِ الْجِنْسَيْنِ الْحَجَرِ وَالطّينِ . وَالْعَصْفُ وَرَقُ الزّرْعِ الّذِي [ ص 126 ] لَمْ يُعْصَفْ وَوَاحِدَتُهُ عَصْفَةٌ . قَالَ وَأَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ النّحْوِيّ أَنّهُ يُقَالُ لَهُ الْعُصَافَةُ وَالْعَصِيفَةُ . وَأَنْشَدَنِي لِعَلْقَمَةَ بْنِ عَبَدَةَ أَحَدِ بَنِي رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ :
تَسْقَى مَذَانِبَ قَدْ مَالَتْ عَصِيفَتُهَا ... جَدُورُهَا مِنْ أَتِيّ الْمَاءِ مَطْمُومُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَقَالَ الرّاجِزُ فَصُيّرُوا مِثْلَ كَعَصْفِ مَأْكُولٍ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَلِهَذَا الْبَيْتِ تَفْسِيرٌ فِي النّحْوِ . [ ص 127 ] [ ص 128 ] [ ص 129 ]
Sوَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ : الْأَبَابِيلَ وَقَالَ لَمْ يُسْمَعْ لَهَا بِوَاحِدِ وَقَالَ غَيْرُهُ وَاحِدُهَا : إبّالُهُ وَإِبّوْلٌ وَزَادَ ابْنُ عَزِيزٍ وَإِبّيلٌ وَأَنْشَدَ ابْنُ هِشَامٍ لِرُؤْبَةَ وَصُيّرُوا مِثْلَ كَعَصْفِ مَأْكُولٍ وَقَالَ وَلِهَذَا الْبَيْتِ تَفْسِيرٌ فِي النّحْوِ وَتَفْسِيرُهُ أَنّ الْكَافَ تَكُونُ حَرْفَ جَرّ وَتَكُونُ اسْمًا بِمَعْنَى : مِثْلُ وَيَدُلّك أَنّهَا حَرْفٌ وُقُوعُهَا صِلَةً لِلّذِي ؛ لِأَنّك تَقُولُ رَأَيْت الّذِي كَزَيْدِ وَلَوْ قُلْت : الّذِي مِثْلُ زَيْدٍ لَمْ يُحْسِنْ وَيَدُلّك أَنّهَا تَكُونُ اسْمًا دُخُولُ حَرْفِ الْجَرّ عَلَيْهَا ، كَقَوْلِهِ وَرُحْنَا بِكَابْنِ الْمَاءِ يَنْفُضُ رَأْسَهُ . وَدُخُولُ الْكَافِ عَلَيْهَا ، وَأَنْشَدُوا : وَصَالِيَاتٍ كَكَمَا يُؤَثْفَيْنِ [ أَوْ يُؤْثَفَيْنِ ] . وَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى مِثْلٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشّورَى : 11 ] فَهِيَ إذًا حَرْفٌ إذْ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يُقَالَ مِثْلُ مِثْلِهِ وَكَذَلِكَ هِيَ حَرْفُ فِي [ ص 130 ] تُعْطِي بِنَفْسِهَا مَعْنَى الْإِضَافَةِ فَلَمْ تُغَيّرْ مَعْنَاهَا ، وَكَذَلِكَ الْكَافُ تُعْطِي مَعْنَى التّشْبِيهِ فَأُقْحِمَتْ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْمُمَاثَلَةِ غَيْرَ أَنّ دُخُولَ مِثْلٍ عَلَيْهَا كَمَا فِي بَيْتِ رُؤْبَةَ قَبِيحٌ وَدُخُولُهَا عَلَى مِثْلٍ كَمَا فِي الْقُرْآنِ أَحْسَنُ شَيْءٍ لِأَنّهَا حَرْفُ جَرّ تَعْمَلُ فِي الِاسْمِ وَالِاسْمُ لَا يَعْمَلُ فِيهَا ، فَلَا يَتَقَدّمُ عَلَيْهَا إلّا أَنْ يُقْحِمَهَا كَمَا أُقْحِمَتْ اللّامُ . وَأَنْشَدَ شَاهِدًا عَلَى الْعَصِيفَةِ قَوْلَ عَلْقَمَةَ وَآخِرَهُ جَدُورُهَا مِنْ أَتِيّ الْمَاءِ مَطْمُومِ . وَهَذَا الْبَيْتُ أَنْشَدَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي النّبَاتِ جُدُورُهَا : هُوَ جَمْعُ جَدْرٍ بِالْجِيمِ وَهِيَ الْحَوَاجِزُ الّتِي تَحْبِسُ الْمَاءَ وَيُقَالُ لِلْجَدْرِ حُبّاسٌ أَيْضًا : وَفِي الْحَدِيثِ " أَمْسِكْ الْمَاءَ حَتّى يَبْلُغَ الْجَدْرَ ثُمّ أَرْسِلْهُ " . وَقَدْ ذَكَرَ غَيْرُهُ رِوَايَةَ الْجِيمِ وَقَالَ إنّمَا قَالَ جُدُورُهَا مِنْ أَتِيّ الْمَاءِ مَطْمُومُ . وَأَفْرَدَ الْخَبَرَ ، لِأَنّهُ رَدّهُ عَلَى كُلّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَدْرِ كَمَا قَالَ الْآخَرُ تَرَى جَوَانِبَهَا بِالشّحْمِ مَفْتُوقَا أَيْ تَرَى كُلّ جَانِبٍ فِيهَا .
فَصْلٌ
وَيُقَالُ لِلْعَصِيفَةِ أَيْضًا : أَذَنَةٌ وَلَمّا تُحِيطُ بِهِ الْجُدُورُ الّتِي تُمْسِكُ الْمَاءَ دَبْرَةَ وَحِبْسَ وَمَشَارَةَ وَلِمَفْتَحِ الْمَاءِ مِنْهَا : آغِيَةٌ بِالتّخْفِيفِ وَالتّثْقِيلِ [ أَوْ أُتِيّ ] .

[ ص 130 ] وَإِيلَافُ قُرَيْشٍ : إيلَافُهُمْ الْخُرُوجُ إلَى الشّامِ فِي تِجَارَتِهِمْ وَكَانَتْ لَهُمْ خَرْجَتَانِ خَرْجَةٌ فِي الشّتَاءِ وَخَرْجَةٌ فِي الصّيْفِ . أَخْبَرَنِي أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيّ : أَنّ الْعَرَبَ تَقُولُ أَلِفْت الشّيْءَ إلْفًا ، وَآلَفْتُهُ إيلَافًا ، فِي مَعْنًى وَاحِدٍ وَأَنْشَدَنِي لِذِي الرّمّةِ
مِنْ الْمُؤْلِفَاتِ الرّمْلَ أَدْمَاءُ حُرّةٍ ... شُعَاعُ الضّحَى فِي لَوْنِهَا يَتَوَضّحُ
[ ص 131 ] قَصِيدَةٍ لَهُ وَقَالَ مَطْرُودُ بْنُ كَعْبٍ الْخُزَاعِيّ :
الْمُنْعِمِينَ إذَا النّجُومُ تَغَيّرَتْ ... وَالظّاعِنِينَ لِرِحْلَةِ الْإِيلَافِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى . وَالْإِيلَافُ أَيْضًا : أَنْ يَكُونَ لِلْإِنْسَانِ أَلْفٌ مِنْ الْإِبِلِ أَوْ الْبَقَرِ أَوْ الْغَنَمِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . يُقَالَ آلَفَ فُلَانٌ إيلَافًا . قَالَ الْكُمَيْتُ بْنُ زَيْدٍ ، أَحَدُ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ مَعَدّ
بِعَامِ يَقُولُ لَهُ الْمُؤْلِفُو ... نَ هَذَا الْمُعِيمَ لَنَا الْمُرْجِلُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَالْإِيلَافُ أَيْضًا : أَنْ يَصِيرَ الْقَوْمُ أَلْفًا ، يُقَالُ آلَفَ الْقَوْمَ إيلَافًا . قَالَ الْكُمَيْتُ بْنُ زَيْدٍ : [ ص 132 ]
وَآلُ مُزَيْقِيَاءَ غَدَاةَ لَاقَوْا ... بَنِي سَعْدِ بْنِ ضَبّةَ مُؤْلِفِينَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَالْإِيلَافُ أَيْضًا : أَنْ تُؤَلّفَ الشّيْءَ إلَى الشّيْءِ فَيَأْلَفَهُ وَيَلْزَمَهُ يُقَالُ آلَفْتُهُ إيّاهُ إيلَافًا . وَالْإِيلَافُ أَيْضًا : أَنْ تَصِيرَ مَا دُونَ الْأَلْفِ أَلْفًا ، يُقَالُ آلَفْتُهُ إيلَافًا .
Sوَذَكَرَ إيلَافَ قُرَيْشٍ لِلرّحْلَتَيْنِ وَقَالَ هُوَ مَصْدَرُ أَلِفْت الشّيْءَ وَآلَفْتُهُ فَجَعَلَهُ مِنْ الْإِلْفِ لِلشّيْءِ وَفِيهِ تَفْسِيرٌ آخَرُ أَلْيَقُ لِأَنّ السّفَرَ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ وَلَا تَأْلَفُهُ النّفْسُ وَإِنّمَا تَأْلَفُ الدّعَةَ وَالْكَيْنُونَةَ مَعَ الْأَهْلِ . قَالَ الْهَرَوِيّ : هِيَ حِبَالٌ أَيْ عُهُودٌ كَانَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مُلُوكِ الْعَجَمِ ، فَكَانَ هَاشِمٌ يُؤَالِفُ إلَى مَلِكِ الشّامِ ، وَكَانَ الْمُطّلِبُ يُؤَالِفُ إلَى كِسْرَى ، وَالْآخَرَانِ يُؤَالِفَانِ أَحَدُهُمَا إلَى مَلِكِ مِصْرَ ، وَالْآخَرُ إلَى مَلِكِ الْحَبَشَةِ ، وَهُمَا : عَبْدُ شَمْسٍ وَنَوْفَلٌ . قَالَ [ ص 131 ] وَمَعْنَى يُؤَالِفُ يُعَاهِدُ وَيُصَالِحُ وَنَحْوُ هَذَا ، فَيَكُونُ الْفِعْلُ مِنْهُ أَيْضًا آلَفَ عَلَى وَزْنِ فَاعَلَ وَالْمَصْدَرُ إلَافًا بِغَيْرِ يَاءٍ مِثْلُ قِتَالًا ، وَيَكُونُ الْفِعْلُ مِنْهُ أَيْضًا آلَفَ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ مِثْلُ آمَنَ وَيَكُونُ الْمَصْدَرُ إيلَافًا بِالْيَاءِ مِثْلُ إيمَانًا ، وَقَدْ قُرِئَ لِإِلَافِ قُرَيْشٍ بِغَيْرِ يَاءٍ وَلَوْ كَانَ مِنْ آلَفْت الشّيْءَ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلْت إذَا أَلِفْته لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ صَحِيحَةً وَقَدْ قَرَأَهَا ابْنُ عَامِرٍ فَدَلّ هَذَا عَلَى صِحّةِ مَا قَالَهُ الْهَرَوِيّ ، وَقَدْ حَكَاهُ عَمّنْ تَقَدّمَهُ . وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ اللّامَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : { لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ } مُتَعَلّقَةٌ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ } وَقَدْ قَالَهُ غَيْرُهُ وَمَذْهَبُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ : أَنّهَا مُتَعَلّقَةٌ بِقَوْلِهِ { فَلْيَعْبُدُوا رَبّ هَذَا الْبَيْتِ } أَيْ فَلْيَعْبُدُوهُ مِنْ أَجْلِ مَا فَعَلَ بِهِمْ . وَقَالَ قَوْمٌ هِيَ لَامُ التّعَجّبِ وَهِيَ مُتَعَلّقَةٌ بِمُضْمَرِ كَأَنّهُ قَالَ اعْجَبْ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ، كَمَا قَالَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - حِينَ دُفِنَ " سُبْحَانَ اللّهِ لَهَذَا الْعَبْدُ الصّالِحُ ضُمّ فِي قَبْرِهِ حَتّى فَرّجَ اللّهُ عَنْهُ " . وَقَالَ فِي عَبْدٍ حَبَشِيّ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ " لَهَذَا الْعَبْدُ الْحَبَشِيّ جَاءَ مِنْ أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ إلَى الْأَرْضِ الّتِي خُلِقَ مِنْهَا " . أَيْ اعْجَبُوا لِهَذَا الْعَبْدِ الصّالِحِ . وَأُنْشِدَ لِلْكُمَيْتِ
بِعَامِ يَقُولُ لَهُ الْمُؤْلِفُو ... نَ أَهَذَا الْمُعِيمُ لَنَا الْمُرْجِلُ
الْمُؤْلِفُ صَاحِبُ الْأَلْفِ مِنْ الْإِبِلِ كَمَا ذُكِرَ وَالْمُعِيمُ بِالْمِيمِ مِنْ الْعَيْمَةِ أَيْ تَجْعَلُ تِلْكَ السّنَةُ صَاحِبَ الْأَلْفِ مِنْ الْإِبِلِ يَعَامُ إلَى اللّبَنِ وَتُرْجِلُهُ فَيَمْشِي رَاجِلًا ، لِعَجِفِ الدّوَابّ [ ص 132 ] وَذَكَرَ قَوْلَ ابْنِ الزّبَعْرَى : تَنَكّلُوا عَنْ بَطْنِ مَكّةَ الْبَيْتُ وَنَسَبَهُ إلَى عَدِيّ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَهْمٍ وَكَرّرَ هَذَا النّسَبَ فِي كِتَابِهِ مِرَارًا وَهُوَ خَطَأٌ وَالصّوَابُ سَعْدُ بْنُ سَهْمٍ وَإِنّمَا سَعِيدٌ أَخُو سَعْدٍ وَهُوَ فِي نَسَبِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ وَقَدْ أَنْشَدَ فِي الْكِتَابِ مَا يَدُلّ عَلَى خِلَافِ قَوْلِهِ وَهُوَ قَوْلُ الْمُبْرِقِ وَهُوَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَدِيّ بْنِ سَعْدٍ
فَإِنْ تَكُ كَانَتْ فِي عَدِيّ أَمَانَةٌ ... عَدِيّ بْنِ سَعْدٍ فِي الْخُطُوبِ الْأَوَائِلِ
فَقَالَ عَدِيّ بْنُ سَعْدٍ وَلَمْ يَقُلْ سُعَيْدٌ وَكَذَلِكَ ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيّ وَالزّبَيْرِيّون وَغَيْرُهُمْ .

مَصِيرُ الْفِيلِ وَسَائِسُهُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ ، عَنْ عَمْرَةَ ابْنَةِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - قَالَتْ " لَقَدْ رَأَيْت قَائِدَ الْفِيلِ وَسَائِسَهُ بِمَكّةَ أَعْمَيَيْنِ مُقْعَدَيْنِ يَسْتَطْعِمَانِ النّاسَ " .
مَا قِيلَ فِي صِفَةِ الْفِيلِ مِنْ الشّعْرِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا رَدّ اللّهُ الْحَبَشَةَ عَنْ مَكّةَ ، وَأَصَابَهُمْ بِمَا أَصَابَهُمْ بِهِ مِنْ النّقْمَةِ أَعْظَمَتْ الْعَرَبُ قُرَيْشًا ، وَقَالُوا : هُمْ أَهْلُ اللّهِ قَاتَلَ اللّهُ عَنْهُمْ وَكَفَاهُمْ مَئُونَةَ عَدُوّهِمْ فَقَالُوا فِي ذَلِكَ أَشْعَارًا يَذْكُرُونَ فِيهَا مَا صَنَعَ اللّهُ بِالْحَبَشَةِ وَمَا رَدّ عَنْ قُرَيْشٍ مِنْ كَيْدِهِمْ . فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الزّبَعْرَى بْنِ عَدِيّ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ [ ص 133 ]
تَنَكّلُوا عَنْ بَطْنِ مَكّةَ إنّهَا ... كَانَتْ قَدِيمًا لَا يُرَامُ حَرِيمُهَا
لَمْ تُخْلَقْ الشّعْرَى لَيَالِيَ حُرّمَتْ ... إذْ لَا عَزِيزَ مِنْ الْأَنَامِ يَرُومُهَا
سَائِلْ أَمِيرَ الْجَيْشِ عَنْهَا مَا رَأَى ... وَلَسَوْفَ يُنْبِي الْجَاهِلِينَ عَلِيمُهَا
سِتّونَ أَلْفًا لَمْ يَئُوبُوا أَرْضَهُمْ ... وَلَمْ يَعِشْ بَعْدَ الْإِيَابِ سَقِيمُهَا
كَانَتْ بِهَا عَادٌ وَجُرْهُمُ قَبْلَهُمْ ... وَاَللّهُ مِنْ فَوْقِ الْعِبَادِ يُقِيمُهَا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : يَعْنِي ابْنُ الزّبَعْرَى بِقَوْلِهِ بَعْدَ الْإِيَابِ سَقِيمُهَا
أَبْرَهَةَ ، إذْ حَمَلُوهُ مَعَهُمْ حِينَ أَصَابَهُ مَا أَصَابَهُ حَتّى مَاتَ بِصَنْعَاءَ . وَقَالَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ الْأَنْصَارِيّ ثُمّ الْخَطْمِيّ ، وَاسْمُهُ صَيْفِيّ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَبُو قَيْسٍ : صَيْفِيّ بْنُ الْأَسْلَتِ بْنِ جُشَمِ بْنِ وَائِلِ بْنِ زَيْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَامِرَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ :
وَمِنْ صُنْعِهِ يَوْمَ فِيلِ الْحَبُو ... شِ إذْ كُلّمَا بَعَثُوهُ رَزَمْ
مَحَاجِنُهُمْ تَحْتَ أَقْرَابِهِ ... وَقَدْ شَرّمُوا أَنْفَهُ فَانْخَرَمْ
وَقَدْ جَعَلُوا سَوْطَهُ مِغْوَلًا ... إذَا يَمّمُوهُ قَفَاهُ كُلِمْ
فَوَلّى وَأَدْبَرَ أَدْرَاجَهُ ... وَقَدْ بَاءَ بِالظّلْمِ مَنْ كَانَ ثَمْ
فَأَرْسَلَ مَنْ فَوْقَهُمْ حَاصِبًا ... فَلَفّهُمْ مِثْلَ لَفّ الْقُزُمْ
تُجَضّ عَلَى الصّبْرِ أَحْبَارُهُمْ ... وَقَدْ ثَأَجُوا كَثُؤَاجِ الْغَنَمْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَالْقَصِيدَةُ أَيْضًا تُرْوَى لِأُمَيّةِ بْنِ أَبِي الصّلْتِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ
فَقُومُوا فَصَلّوا رَبّكُمْ وَتَمَسّحُوا ... بِأَرْكَانِ هَذَا الْبَيْتِ بَيْنَ الْأَخَاشِبِ
فَعِنْدَكُمْ مِنْهُ بَلَاءٌ مُصَدّقٌ ... غَدَاةَ أَبِي يَكْسُومَ هَادِي الْكَتَائِبِ
كَتِيبَتُهُ بِالسّهْلِ تُمْسِي ، وَرَجْلُهُ ... عَلَى الْقَادِفَاتِ فِي رُءُوسِ الْمَنَاقِبِ
فَلَمّا أَتَاكُمْ نَصْرُ ذِي الْعَرْشِ رَدّهُمْ ... جُنُودُ الْمَلِيكِ بَيْنَ سَافَ وَحَاصِبِ
فَوَلّوْا سِرَاعًا هَارِبِينَ وَلَمْ يَؤُبْ ... إلَى أَهْلِهِ مِلْحِبْشِ غَيْرُ عَصَائِبِ
[ ص 134 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيّ قَوْلَهُ عَلَى الْقَاذِفَاتِ فِي رُءُوسِ الْمَنَاقِبِ وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لِأَبِي قَيْسٍ ، سَأَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللّهُ . وَقَوْلُهُ " غَدَاةَ أَبِي يَكْسُومَ " : يَعْنِي : أَبْرَهَةَ كَانَ يُكَنّى أَبَا يَكْسُومَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ طَالِبُ بْنُ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ :
أَلَمْ تَعْلَمُوا مَا كَانَ فِي حَرْبِ دَاحِسٍ ... وَجَيْشِ أَبِي يَكْسُومَ إذْ مَلَئُوا الشّعْبَا
فَلَوْلَا دِفَاعُ اللّهِ لَا شَيْءَ غَيْرُهُ ... لَأَصْبَحْتُمْ لَا تَمْنَعُونَ لَكُمْ سِرْبًا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ فِي يَوْمِ بَدْرٍ سَأَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ أَبُو الصّلْتِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الثّقَفِيّ فِي شَأْنِ الْفِيلِ وَيَذْكُرُ الْحَنِيفِيّةَ دِينَ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : تُرْوَى لِأُمَيّةِ بْنِ أَبِي الصّلْتِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الثّقَفِيّ
إنّ آيَاتِ رَبّنَا ثَاقِبَاتٌ ... لَا يُمَارِي فِيهِنّ إلّا الْكَفُورُ
خُلِقَ اللّيْلُ وَالنّهَارُ فَكُلّ ... مُسْتَبِينٌ حِسَابُهُ مَقْدُورُ
ثُمّ يَجْلُو النّهَارَ رَبّ رَحِيمٌ ... بِمَهَاةِ شُعَاعُهَا مَنْشُورُ
حُبِسَ الْفِيلُ بِالْمُغَمّسِ حَتّى ... ظَلّ يَحْبُو كَأَنّهُ مَعْقُورُ
لَازِمًا حَلْقَةَ الْجِرَانِ كَمَا قُطّ ... رَ مِنْ صَخْرِ كَبْكَبٍ مَحْدُورُ
حَوْلَهُ مِنْ مُلُوكِ كِنْدَةَ أَبْطَا ... لُ مَلَاوِيثٌ فِي الْحُرُوبِ صُقُورُ
خَلّفُوهُ ثُمّ ابْذَعَرّوا جَمِيعًا ... كُلّهُمْ عَظْمُ سَاقِهِ مَكْسُورُ
كُلّ دِينٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ الل ... ه إلّا دِينَ الْحَنِيفَةِ بُورُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ - وَاسْمُهُ هِشَامُ بْنُ غَالِبِ أَحَدُ بَنِي مُجَاشِعِ بْنِ دَارِمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ - يَمْدَحُ سُلَيْمَانَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ ، وَيَهْجُو الْحَجّاجَ بْنَ يُوسُفَ وَيَذْكُرُ الْفِيلَ [ ص 135 ]
فَلَمّا طَغَى الْحَجّاجُ حِينَ طَغَى بِهِ غِنًى ... قَالَ إنّي مُرْتَقٍ فِي السّلَالِمِ
فَكَانَ كَمَا قَالَ ابْنُ نُوحٍ سَأَرْتَقِي ... إلَى جَبَلٍ مِنْ خَشْيَةِ الْمَاءِ عَاصِمِ
رَمَى اللّهُ فِي جُثْمَانِهِ مِثْلَ مَا رَمَى ... عَنْ الْقِبْلَةِ الْبَيْضَاءِ ذَاتِ الْمَحَارِمِ
جُنُودًا تَسُوقُ الْفِيلَ حَتّى أَعَادَهُمْ ... هَبَاءً وَكَانُوا مُطْرَخِمّي الطّرَاخِمِ
نُصِرْت كَنَصْرِ الْبَيْتِ إذْ سَاقَ فِيلَهُ ... إلَيْهِ عَظِيمُ الْمُشْرِكِينَ الْأَعَاجِمِ
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ قَيْسِ الرّقَيّاتِ . أَحَدُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِب ِ يَذْكُرُ أَبْرَهَةَ - وَهُوَ الْأَشْرَمُ - وَالْفِيلُ
كَادَهُ الْأَشْرَمُ الّذِي جَاءَ بِالْفِي ... لِ فَوَلّى وَجَيْشَهُ مَهْزُومُ
وَاسْتَهَلّتْ عَلَيْهِمْ الطّيْرُ بِالْجَ ... نَدْلِ حَتّى كَأَنّهُ مَرْجُومُ
ذَاكَ مَنْ يَغْزُهُ مِنْ النّاسِ يَرْجِعُ وَهُوَ فَلّ مِنْ الْجُيُوشِ ذَمِيمُ وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَلَدَا أَبْرَهَةَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا هَلَكَ أَبْرَهَةُ ، مَلَكَ الْحَبَشَةَ ابْنُهُ يَكْسُومُ بْنُ أَبْرَهَةَ وَبَهْ كَانَ يُكَنّى ، فَلَمّا هَلَكَ يَكْسُومُ بْنُ أَبْرَهَةَ مَلَكَ الْيَمَنَ فِي الْحَبَشَةِ أَخُوهُ مَسْرُوقُ بْنُ أَبْرَهَةَ . [ ص 136 ] [ ص 137 ]
Sحَوْلَ الشّعْرِ الّذِي قِيلَ فِي الْفِيلِ
وَقَوْلُهُ تَنَكّلُوا عَنْ بَطْنِ مَكّةَ إنّهَا . وَهَذَا خَرْمٌ فِي الْكَامِلِ وَقَدْ وُجِدَ فِي غَيْرِ هَذَا الْبَيْتِ [ ص 133 ] [ ص 134 ] [ ص 135 ] فِي أَشْعَارِ هَذَا الْكِتَابِ الْخَرْمُ فِي الْكَامِلِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَدْخُلَ الْخَرْمُ فِي مُتَفَاعَلٍ فَيُحْذَفُ مِنْ السّبَبِ حَرْفٌ كَمَا حُذِفَ مِنْ الْوَتِدِ فِي الطّوِيلِ حَرْفٌ وَإِذَا وُجِدَ حَذْفُ السّبَبِ الثّقِيلِ كُلّهِ فَأَحْرَى أَنْ يَجُوزَ حَذْفُ حَرْفٍ مِنْهُ وَذَلِكَ فِي قَوْلِ ابْنِ مُفَرّغٍ
هَامَةٌ تَدْعُو صَدَى ... بَيْنَ الْمُشَقّرِ وَالْيَمَامَةِ
وَهُوَ مِنْ الْمُرَفّلِ وَالْمُرَفّلُ مِنْ الْكَامِلِ . أَلَا تَرَى أَنّ قَبْلَهُ
وَشَرَيْت بُرْدًا لَيْتَنِي ... مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْت هَامَة
فَالْمَحْذُوفُ مِنْ الطّوِيلِ إذَا خَرُمَ حَرْفٌ مِنْ وَتَدٍ مَجْمُوعٍ وَالْمَحْذُوفُ مِنْ الْكَامِلِ إذَا خَرُمَ حَرْفٌ مِنْ سَبَبٍ ثَقِيلٍ بَعْدَهُ سَبَبٌ خَفِيفٌ وَلَمّا كَانَ الْإِضْمَارُ فِيهِ كَثِيرًا ، وَهُوَ إسْكَانُ التّاءِ مِنْ مُتَفَاعِلُنْ فَمِنْ ثَمّ قَالَ أَبُو عَلِيّ لَا يَجُوزُ فِيهِ الْخَرْمُ لِأَنّ ذَلِكَ يَئُولُ إلَى الِابْتِدَاءِ بِسَاكِنِ وَهَذَا الْكَلَامُ لِمَنْ تَدَبّرَهُ بَارِدٌ غَثّ ؛ لِأَنّ الْكَلِمَةَ الّتِي يَدْخُلُهَا الْخَرْمُ لَمْ يَكُنْ قَطّ فِيهَا إضْمَارٌ نَحْوَ تَنَكّلُوا عَنْ بَطْنِ مَكّةَ ، وَاَلّتِي يَدْخُلُهَا الْإِضْمَارُ لَا يُتَصَوّرُ فِيهَا الْخَرْمَ نَحْوَ لَا [ ص 136 ] يَبْعَدْنَ قَوْمِي ، وَنَحْوَ قَوْلِهِ " لَمْ تُخْلَقْ الشّعْرَى لَيَالِيَ حُرّمَتْ " فَتَعْلِيلُهُ فِي هَذَا الشّعْرِ إذًا لَا يَفِيدُ شَيْئًا ، وَمَا أَبْعَدَ الْعَرَبَ مِنْ الِالْتِفَاتِ إلَى هَذِهِ الْأَغْرَاضِ الّتِي يَسْتَعْمِلُهَا بَعْضُ النّحَاةِ وَهِيَ أَوْهَى مِنْ نَسْجِ الْخَزَرْنَقِ . وَقَوْلُهُ لَمْ تُخْلَقْ الشّعْرَى لَيَالِيَ حُرّمَتْ إنْ كَانَ ابْنُ الزّبَعْرَى قَالَ هَذَا فِي الْإِسْلَامِ فَهُوَ مُنْتَزِعٌ مِنْ قَوْلِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - " إنّ اللّهَ حَرّمَ مَكّةَ ، وَلَمْ يُحَرّمْهَا النّاسُ " . وَمِنْ قَوْلِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ " إنّ اللّهَ حَرّمَهَا يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ " ، وَالتّرْبَةُ خُلِقَتْ قَبْلَ خَلْقِ الْكَوَاكِبِ وَإِنْ كَانَ ابْنُ الزّبَعْرَى ، قَالَ هَذَا فِي الْجَاهِلِيّةِ فَإِنّمَا أَخَذَهُ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - مِنْ الْكِتَابِ الّذِي وَجَدُوهُ فِي الْحَجَرِ بِالْخَطّ الْمُسْنَدِ حِينَ بَنَوْا الْكَعْبَةَ ، وَفِيهِ أَنَا اللّهُ رَبّ مَكّةَ خَلَقْتهَا يَوْمَ خَلَقْت السّمَوَاتِ وَالْأَرْض الْحَدِيثُ . وَقَوْلُهُ " وَلَمْ يَعِشْ بَعْدَ الْإِيَابِ سَقِيمُهَا " هَكَذَا فِي النّسْخَةِ الْمُقَيّدَةِ عَلَى أَبِي الْوَلِيدِ الْمُقَابَلَةِ بِالْأَصْلَيْنِ اللّذَيْنِ كَانَا عِنْدَهُ وَقَابَلَهَا أَبُو بَحْرٍ - رَحِمَهُ اللّهُ - بِهِمَا مَرّتَيْنِ وَحَسِبَ بَعْضُهُمْ أَنّهُ كَسْرٌ فِي الْبَيْتِ فَزَادَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فَقَالَ بَلْ لَمْ يَعِشْ . فَأَفْسَدَ الْمَعْنَى ، وَإِنّمَا هُوَ خَرْمٌ فِي أَوّلِ الْقَسَمِ مِنْ عَجُزِ الْبَيْتِ كَمَا كَانَ فِي الصّدْرِ مِنْ أَوّلِ بَيْتٍ مِنْهَا . وَقَوْلُ قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ مِثْلُ لَفّ الْقُزُمْ . الْقُزُمُ صِغَارُ الْغَنَمِ . وَيُقَالُ رُذَالُ الْمَالِ وَرَزَمٌ ثَبَتَ وَلَزِمَ مَوْضِعُهُ وَأَرْزَمَ مِنْ الرّزِيمِ وَهُوَ صَوْتٌ لَيْسَ بِالْقَوِيّ وَكَذَلِكَ صَوْتُ الْفِيلِ ضَئِيلٌ عَلَى عِظَمِ خِلْقَتِهِ وَيَفْرَقُ مِنْ الْهِرّ وَيَنْفِرُ مِنْهُ وَقَدْ اُحْتِيلَ عَلَى الْفِيَلَةِ فِي بَعْضِ الْحُرُوبِ مَعَ الْهِنْدِ . أُحْضِرَتْ لَهَا الْهِرّةُ فَذَعَرَتْ وَوَلّتْ وَكَانَ سَبَبًا لِهَزِيمَةِ الْقَوْمِ . ذَكَرَهُ الْمَسْعُودِيّ ، وَنَسَبُ هَذِهِ الْحِيلَةِ إلَى هَارُونَ بْنِ مُوسَى حِينَ غَزَا بِلَادَ الْهِنْدِ ، وَأَوّلُ مَنْ ذَلّلَ الْفِيَلَةَ - فِيمَا قَالَ الطّبَرِيّ - أَفْرِيدُونُ بْنُ أَثْفِيَانَ وَمَعْنَى أَثْفِيَانَ صَاحِبُ الْبَقَرِ وَهُوَ أَوّلُ مَنْ نَتَجَ الْبِغَالَ وَاِتّخَذَ لِلْخَيْلِ السّرُوجَ وَالْوُكُفَ - فِيمَا ذَكَرُوا - وَأَمّا أَوّلُ مَنْ سَخّرَ الْخَيْلَ وَرَكِبَهَا " فطمهورث " وَهُوَ الثّالِثُ مِنْ مُلُوكِ الْأَرْضِ - فِيمَا زَعَمُوا - وَثُؤَاجُ الْغَنَمِ صَوْتُهَا ، وَوَقَعَ فِي النّسْخَةِ ثَجّوا ، وَعَلَيْهِ مَكْتُوبٌ الصّوَابُ ثَأَجُوا كَثُؤَاجِ الْغَنَمِ . [ ص 137 ] وَقَوْلُ ابْنِ الْأَسْلَتِ فَقُومُوا ، فَصَلّوْا رَبّكُمْ وَتَمَسّخُوا . سَيَأْتِي شَرْحُ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ فِي الْقَصِيدَةِ حَيْثُ يَذْكُرُهَا ابْنُ إسْحَاقَ بِكَمَالِهَا - إنْ شَاءَ اللّهُ . وَذَكَرَ قَوْلَ طَالِبِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ : " فَأَصْبَحْتُمْ لَا تَمْنَعُونَ لَكُمْ سَرْبًا " وَيُرْوَى سِرْبًا بِالْكَسْرِ وَالسّرْبُ بِالْفَتْحِ الْمَالُ الرّاعِي ، وَالسّرْبُ بِالْكَسْرِ الْقَطِيعُ مِنْ الْبَقَرِ وَالظّبَاءِ وَمِنْ النّسَاءِ أَيْضًا . قَالَ الشّاعِرُ
فَلَمْ تَرَ عَيْنِي مِثْلَ سِرْبٍ رَأَيْته ... خَرَجْنَ عَلَيْنَا مِنْ زُقَاقِ ابْنِ وَاقِفٍ
وَطَالِبُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَانَ أَسَنّ مِنْ عَقِيلٍ بِعَشَرَةِ أَعْوَامٍ وَكَانَ عَقِيلٌ أَسَنّ من جَعْفَرٍ بِعَشَرَةِ أَعْوَامٍ وَجَعْفَرٌ أَسَنّ مِنْ عَلِيّ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - بِمِثْلِ ذَلِكَ وَذَكَرُوا أَنّ طَالِبًا اخْتَطَفَتْهُ الْجِنّ ، فَذَهَبَ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنّهُ أَسْلَمَ . وَذَكَرَ شِعْرَ أَبِي الصّلْتِ وَاسْمُهُ رَبِيعَةُ بْنُ وَهْبِ بْنِ عِلَاجٍ . وَفِيهِ حَبْسُ الْفِيلِ بِالْمُغَمّسِ وَأَنّ كَسْرَ الْمِيمِ الْآخِرَةِ أَشْهَرُ فِيهِ . وَفِيهِ بِمَهَاةِ شُعَاعُهَا مَنْشُورُ . وَالْمَهَاةُ الشّمْسُ سُمّيَتْ بِذَلِكَ لِصَفَائِهَا ، وَالْمَهَامِنُ الْأَجْسَامُ الصّافِي الّذِي يَرَى بَاطِنَهُ مِنْ ظَاهِرِهِ . وَالْمَهَاةُ الْبِلّوْرَةُ وَالْمَهَاةُ الظّبْيَةُ . وَمِنْ أَسْمَاءِ الشّمْسِ الْغَزَالَةُ إذَا ارْتَفَعَتْ فَهَذَا فِي مَعْنَى الْمَهَاةِ . وَمِنْ أَسْمَائِهَا : الْبُتَيْرَاءُ . سُئِلَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ - عَنْ وَقْتِ صَلَاةِ الضّحَى ، فَقَالَ حَتّى تَرْتَفِعَ الْبُتَيْرَاءُ ذَكَرَهُ الْهَرَوِيّ وَالْخَطّابِيّ ، وَمِنْ أَسْمَائِهَا : حَنَاذٍ وَبَرَاحٍ وَالضّحّ وَذُكَاءٍ وَالْجَارِيَةُ وَالْبَيْضَاءُ وَبُوحٌ وَيُقَالُ يُوحٌ بِالْيَاءِ وَهُوَ قَوْلُ الْفَارِسِيّ وَبِالْبَاءِ ذَكَرَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيّ وَالشّرْقُ وَالسّرَاجُ . وَقَوْلُهُ " حَلْقَهُ الْجِرَانُ " الْجِرَانُ الْعُنُقُ يُرِيدُ أَلْقَى بِجِرَانِهِ إلَى الْأَرْضِ وَهَذَا يُقَوّي أَنّهُ بَرَكَ كَمَا تَقَدّمَ أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ كَمَا قُطّرَ مِنْ صَخْرِ كَبْكَبٍ ، وَهُوَ جَبَلٌ . مَحْدُورٌ أَيْ حَجَرٌ حُدِرَ حَتّى بَلَغَ الْأَرْضَ . وَقَوْلُهُ ابْذَعَرّوا : تَفَرّقُوا مِنْ ذُعْرٍ وَهِيَ كَلِمَةٌ مَنْحُوتَةٌ مِنْ أَصْلَيْنِ مِنْ الْبَذْرِ وَالذّعْرِ . وَقَوْلُهُ إلّا دِينَ الْحَنِيفَةِ . يُرِيدُ بِالْحَنِيفَةِ الْأُمّةَ الْحَنِيفَةَ أَيْ الْمُسْلِمَةَ الّتِي عَلَى دِينِ إبْرَاهِيمَ الْحَنِيفِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَذَلِكَ أَنّهُ حَنَفَ عَنْ الْيَهُودِيّةِ والنصرانية ، أَيْ عَدَلَ عَنْهَا ، فَسُمّيَ حَنِيفًا ، أَوْ حَنَفَ عَمّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُهُ وَقَوْمُهُ . [ ص 138 ] وَقَوْلُهُ فِي شِعْرِ الْفَرَزْدَقِ : كَمَا قَالَ ابْنُ نُوحٍ . اسْمُهُ يَام ، وَقِيلَ كَنْعَانُ . وَقَوْله : " مُطْرَخِمّي الطّرَاخِمِ " الْمُطْرَخِمّ : الْمُمْتَلِئُ كِبَرًا أَوْ غَضَبًا . وَالطّرَاخِمُ جَمْعُ مُطَرَخِمّ عَلَى قِيَاسِ الْجَمْعِ فَإِنّ الْمُطَرَخِمّ اسْمٌ مِنْ سِتّةِ أَحْرُفٍ فَيُحْذَفُ مِنْهُ فِي الْجَمْعِ وَالتّصْغِيرِ مَا فِيهِ مِنْ الزّوَائِدِ وَفِيهِ زَائِدَتَانِ الْمِيمُ الْأُولَى ، وَالْمِيمُ الْمُدْغَمَةُ فِي الْمِيمِ الْآخِرَةِ لِأَنّ الْحَرْفَ الْمُضَاعَفَ حَرْفَانِ يُقَالُ فِي تَصْغِيرِ مُطَرَخِمّ طُرَيْخِمٌ وَفِي جَمْعِهِ طَرَاخِمٌ وَفِي مُسْبَطِرّ سَبَاطِرٌ وَذَكَرَهُ يَعْقُوبُ فِي الْأَلْفَاظِ بِالْغَيْنِ فَقَالَ اطْرَغَمّ الرّجُلُ وَلَمْ يَذْكُرْ الْخَاءَ . وَذَكَرَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ قَيْسِ الرّقَيّاتِ . وَاخْتُلِفَ فِي تَلْقِيبِهِ قَيْسَ الرّقَيّاتِ فَقِيلَ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ جَدّاتٍ كُلّهُنّ رُقَيّةُ فَمَنْ قَالَ فِيهِ ابْنَ الرّقَيّاتِ فَإِنّهُ نَسَبَهُ إلَى جَدّاتِهِ وَمَنْ قَالَ قَيْسَ الرّقَيّاتِ دُونَ ذِكْرِ ابْنٍ فَإِنّهُ نِسْبَةٌ وَقِيلَ بَلْ شَبّبَ بِثَلَاثِ نِسْوَةٍ كُلّهُنّ تُسَمّى : رُقَيّةَ وَقِيلَ بَلْ بِبَيْتِ قَالَهُ وَهُوَ " رُقَيّةُ مَا رُقَيّةُ مَا رُقَيّةُ أَيّهَا الرّجُلُ " . وَقَالَ الزّبَيْرُ كَانَ يُشَبّبُ بِرُقَيّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي السّرْحِ مِنْ بَنِي ضِبَابِ بْنِ حُجَيْرِ بْنِ عَبْدِ بْنِ مَعِيصٍ وَبِابْنَةِ عَمّ لَهَا اسْمُهَا رُقَيّةُ وَهُوَ ابْنُ قَيْسِ بْنِ شُرَيْحٍ مِنْ بَنِي حُجَيْرٍ أَيْضًا ، وَحُجَيْرٌ أَخُو حَجَرِ بْنِ عَبْدِ بْنِ مَعِيصِ بْنِ عَامِرٍ رَهْطِ عَمْرِو بْنِ أُمّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى . وَقَوْلُهُ " حَتّى كَأَنّهُ مَرْجُومٌ " وَهُوَ قَدْ رُجِمَ فَكَيْفَ شَبَهُهُ بِالْمَرْجُومِ وَهُوَ مَرْجُومٌ بِالْحِجَارَةِ وَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي مَقْتُولٍ كَأَنّهُ مَقْتُولٌ ؟ فَنَقُولُ لَمّا ذَكَرَ اسْتِهْلَالَ الطّيْرِ وَجَعَلَهَا كَالسّحَابِ يَسْتَهِلّ بِالْمَطَرِ وَالْمَطَرُ لَيْسَ بِرَجْمِ وَإِنّمَا الرّجْمُ بِالْأَكُفّ وَنَحْوِهَا ، شَبَهُهُ بِالْمَرْجُومِ الّذِي يَرْجُمُهُ الْآدَمِيّونَ أَوْ مَنْ يَعْقِلُ وَيَتَعَمّدُ الرّجْمَ مِنْ عَدُوّ وَنَحْوِهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ الْمَقْتُولُ بِالْحِجَارَةِ مَرْجُومًا عَلَى الْحَقِيقَةِ وَلَمّا لَمْ يَكُنْ جَيْشُ الْحَبَشَةِ كَذَلِكَ وَإِنّمَا أُمْطِرُوا حِجَارَةً فَمِنْ ثَمّ قَالَ كَأَنّهُ مَرْجُومٌ .

خُرُوجُ سَيْفِ بْنِ ذِي يَزَنَ وَمَلِكِ وَهْرِزَ عَلَى الْيَمَنِ
[ ص 138 ] لِقَيْصَرَ فَلَمّا طَالَ الْبَلَاءُ عَلَى أَهْلِ الْيَمَنِ ، خَرَجَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ الْحِمْيَرِيّ وَكَانَ يُكَنّى [ ص 139 ] بِأَبِي مُرّةَ حَتّى قَدِمَ عَلَى قَيْصَرَ مَلِكِ الرّومِ ، فَشَكَا إلَيْهِ مَا هُمْ فِيهِ وَسَأَلَهُ أَنْ يُخْرِجَهُمْ عَنْهُ وَيَلِيهِمْ هُوَ وَيَبْعَثُ إلَيْهِمْ مَنْ شَاءَ مِنْ الرّومِ ، فَيَكُونُ لَهُ مَلِكُ الْيَمَنِ ، فَلَمْ يَشْكُهُ .
شَفَاعَةَ النّعْمَانِ لَدَى كِسْرَى
فَخَرَجَ حَتّى أَتَى النّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ - وَهُوَ عَامِلُ كِسْرَى عَلَى الْحِيرَةِ ، وَمَا يَلِيهَا مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ - فَشَكَا إلَيْهِ أَمْرَ الْحَبَشَةِ ، فَقَالَ لَهُ النّعْمَانُ إنّ لِي عَلَى كِسْرَى وِفَادَةً فِي كُلّ عَامٍ فَأَقِمْ حَتّى يَكُونَ ذَلِكَ فَفَعَلَ ثُمّ خَرَجَ مَعَهُ فَأَدْخَلَهُ عَلَى كِسْرَى ، وَكَان َ كِسْرَى يَجْلِسُ فِي إيوَانِ مَجْلِسِهِ الّذِي فِيهِ تَاجُهُ وَكَانَ تَاجُهُ مِثْلَ الْقَنْقَلِ الْعَظِيمِ - فِيمَا يَزْعُمُونَ - يُضْرَبُ فِيهِ الْيَاقُوتُ وَاللّؤْلُؤُ وَالزّبَرْجَدُ بِالذّهَبِ وَالْفِضّةِ مُعَلّقًا بِسَلْسَلَةِ مِنْ ذَهَبٍ فِي رَأْسِ طَاقَةٍ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ وَكَانَتْ عُنُقُهُ لَا تَحْمِلُ تَاجَهُ إنّمَا يُسْتَرُ بِالثّيَابِ حَتّى يَجْلِسَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ ثُمّ يُدْخِلُ رَأْسَهُ فِي تَاجِهِ فَإِذَا اسْتَوَى فِي مَجْلِسِهِ كُشِفَتْ عَنْهُ الثّيَابُ فَلَا يَرَاهُ رَجُلٌ لَمْ يَرَهُ قَبْلَ ذَلِكَ إلّا بَرَكَ هَيْبَةً لَهُ فَلَمّا دَخَلَ عَلَيْهِ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ بَرَكَ .
كِسْرَى يُعَاوِنُ ابْنَ ذِي يَزَنَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ أَنّ سَيْفًا لَمّا دَخَلَ عَلَيْهِ طَأْطَأَ رَأْسَهُ فَقَالَ الْمَلِكُ إنّ هَذَا الْأَحْمَقَ يَدْخُلُ عَلَيّ مِنْ هَذَا الْبَابِ الطّوِيلِ ثُمّ يُطَأْطِئُ رَأْسَهُ ؟ فَقِيلَ ذَلِكَ لِسَيْفِ فَقَالَ إنّمَا فَعَلْت هَذَا لِهَمّي ، لِأَنّهُ يَضِيقُ عَنْهُ كُلّ شَيْءٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ قَالَ لَهُ أَيّهَا الْمَلِكُ غَلَبَتْنَا عَلَى بِلَادِنَا الْأَغْرِبَةُ ، فَقَالَ لَهُ كِسْرَى : أَيّ الْأَغْرِبَةِ : الْحَبَشَةُ أَمْ السّنَدُ ؟ فَقَالَ بَلْ الْحَبَشَةُ ، فَجِئْتُك لِتَنْصُرَنِي ، وَيَكُونُ مُلْكُ بِلَادِي لَك ، قَالَ بَعُدَتْ بِلَادُك مَعَ قِلّةِ خَيْرِهَا ، فَلَمْ أَكُنْ لِأُوَرّطَ جَيْشًا مِنْ فَارِسَ بِأَرْضِ الْعَرَبِ ، لَا حَاجَةَ لِي بِذَلِكَ ثُمّ أَجَازَهُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ وَافٍ وَكَسَاهُ كِسْوَةً حَسَنَةً فَلَمّا قَبَضَ ذَلِكَ مِنْهُ سَيْفٌ خَرَجَ فَجَعَلَ يَنْثُرُ ذَلِكَ الْوَرِقَ لِلنّاسِ فَبَلَغَ ذَلِكَ الْمَلِكَ فَقَالَ إنّ لِهَذَا لَشَأْنًا ، ثُمّ بَعَثَ إلَيْهِ فَقَالَ عَمَدْت إلَى حِبَاءِ الْمَلِكِ تَنْثُرُهُ لِلنّاسِ فَقَالَ وَمَا أَصْنَعُ بِهَذَا ؟ مَا جِبَالُ أَرْضِي الّتِي جُثْتُ مِنْهَا إلّا ذَهَبٌ وَفِضّةٌ - يُرَغّبُهُ فِيهَا [ ص 140 ] فَجَمَعَ كِسْرَى مَرَازِبَتَهُ فَقَالَ لَهُمْ مَاذَا تَرَوْنَ فِي أَمْرِ هَذَا الرّجُلِ وَمَا جَاءَ لَهُ ؟ فَقَالَ قَائِلٌ أَيّهَا الْمَلِكُ إنّ فِي سُجُونِك رِجَالًا قَدْ حَبَسْتهمْ لِلْقَتْلِ فَلَوْ أَنّك بَعَثْتهمْ مَعَهُ فَإِنْ يَهْلِكُوا كَانَ ذَلِكَ الّذِي أَرَدْت بِهِمْ وَإِنْ ظَفِرُوا كَانَ مُلْكًا ازْدَدْته ، فَبَعَثَ مَعَهُ كِسْرَى مَنْ كَانَ فِي سُجُونِهِ وَكَانُوا ثَمَانَمِائَةِ رَجُلٍ .
Sسَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ وَكِسْرَى وَذِكْرُ سَيْفِ بْنِ ذِي يَزَنَ وَخَبَرِهِ مَعَ النّعْمَانِ وَكِسْرَى ، وَقَدْ ذَكَرْنَا قِصّتَهُ فِي أَوّلِ حَدِيثِ الْحَبَشَةِ ، وَأَنّهُ مَاتَ عِنْدَ كِسْرَى ، وَقَامَ ابْنُهُ مَقَامَهُ فِي الطّلَبِ وَهُوَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ بْنِ ذِي أَصْبَحَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ سَهْلِ بْنِ عَمْرِو بْنِ قَيْسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ جُشَمِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ وَائِلِ بْنِ الْغَوْثِ بْنِ قُطْنِ بْنِ عَرِيبِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَيْمَنَ بْنِ الْهَمَيْسَعِ بْنِ الْعَرَنْجَحِ [ ص 139 ] حِمْيَرُ بْنُ سَبَأٍ ، وَكِسْرَى هَذَا هُوَ أَنُوشِرْوَانَ بْنُ قُبَاذٍ وَمَعْنَاهُ مُجَدّدُ الْمُلْكِ لِأَنّهُ جَمَعَ مُلْكَ فَارِسَ بَعْدَ شَتَاتٍ . وَالنّعْمَانُ اسْمٌ مَنْقُولٌ مِنْ النّعْمَانِ الّذِي هُوَ الدّمُ . قَالَهُ صَاحِبُ الْعَيْنِ وَالْقَنْقَلُ الّذِي شَبّهَ بِهِ التّاجَ هُوَ مِكْيَالٌ عَظِيمٌ . قَالَ الرّاجِزُ يَصِفُ الْكَمْأَةَ
مَا لَك لَا تَجْرُفُهَا بِاْلَقَنْقَلِ ... لَا خَيْرَ فِي الْكَمْأَةِ إنْ لَمْ تَفْعَلْ
[ ص 140 ] لِلْهَرَوِيّ الْقَنْقَلُ مِكْيَالٌ يَسَعُ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ مَنًا ، وَلَمْ يَذْكُرْ كَمْ الْمَنَا ، وَأَحْسَبُهُ وَزْنَ رِطْلَيْنِ وَهَذَا التّاجُ قَدْ أَتَى بِهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - حِينَ اسْتَلَبَ مَنْ يَزْدَجِرْدَ بْنِ شَهْرَيَارَ تَصِيرُ إلَيْهِ مِنْ قِبَلِ جَدّهِ أَنُوشِرْوَانَ الْمَذْكُورِ فَلَمّا أَتَى بِهِ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ دَعَا سُرَاقَةَ بْنَ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيّ ، فَحَلّاهُ بِأَسْوِرَةِ كِسْرَى ، وَجَعَلَ التّاجَ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ لَهُ " قُلْ الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي نَزَعَ تَاجَ كِسْرَى ، مَلِكَ الْأَمْلَاكِ مِنْ رَأْسِهِ وَوَضَعَهُ فِي رَأْسِ أَعْرَابِيّ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ وَذَلِكَ بِعِزّ الْإِسْلَامِ وَبَرَكَتِهِ لَا بِقُوّتِنَا " وَإِنّمَا خَصّ عُمَرُ سُرَاقَةَ بِهَذَا ؛ لِأَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَانَ قَالَ لَهُ " يَا سُرَاقُ كَيْفَ بِك إذَا وُضِعَ تَاجُ كِسْرَى عَلَى رَأْسِك وَإِسْوَارُهُ فِي يَدَيْك " أَوْ كَمَا قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .

انْتِصَارُ سَيْفٍ وَقَوْلُ الشّعَرَاءِ فِيهِ
وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْهِمْ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ وَهْرِزُ وَكَانَ ذَا سِنّ فِيهِمْ وَأَفْضَلَهُمْ حَسَبًا وَبَيْتًا ، فَخَرَجُوا فِي ثَمَانِ سَفَائِنَ فَغَرِقَتْ سَفِينَتَانِ وَوَصَلَ إلَى سَاحِلِ عَدَنٍ سِتّ سَفَائِنَ فَجَمَعَ سَيْفٌ إلَى وَهْرِزَ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْ قَوْمِهِ وَقَالَ لَهُ رَجُلِي مَعَ رَجُلِك حَتّى نَمُوتَ جَمِيعًا ، أَوْ نَظْفَرَ جَمِيعًا . قَالَ لَهُ وَهْرِزُ أَنْصَفْت ، وَخَرَجَ إلَيْهِ مَسْرُوقُ بْنُ أَبْرَهَةَ مَلِكُ الْيَمَنِ ، وَجَمَعَ إلَيْهِ جُنْدَهُ فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ وَهْرِزُ ابْنًا لَهُ لِيُقَاتِلَهُمْ فَيَخْتَبِرَ قِتَالَهُمْ فَقُتِلَ ابْنُ وَهْرِزَ فَزَادَهُ ذَلِكَ حَنَقًا عَلَيْهِمْ فَلَمّا تَوَاقَفَ النّاسُ عَلَى مَصَافّهِمْ قَالَ وَهْرِزُ أَرُونِي مُلْكَهُمْ فَقَالُوا لَهُ أَتَرَى رَجُلًا عَلَى الْفِيلِ عَاقِدًا تَاجَهُ عَلَى رَأْسِهِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ ؟ قَالَ نَعَمْ قَالُوا : ذَاكَ مَلِكُهُمْ فَقَالَ اُتْرُكُوهُ قَالَ فَوَقَفُوا طَوِيلًا ، ثُمّ قَالَ عَلَامَ هُوَ ؟ قَالُوا : قَدْ تَحَوّلَ عَلَى الْفَرَسِ ، قَالَ اُتْرُكُوهُ . فَوَقَفُوا طَوِيلًا ، ثُمّ قَالَ عَلَامَ هُوَ ؟ قَالُوا : قَدْ تَحَوّلَ عَلَى الْبَغْلَةِ . قَالَ وَهْرِزُ بِنْتُ الْحِمَارِ ذَلّ وَذَلّ مُلْكُهُ إنّي سَأَرْمِيهِ فَإِنْ رَأَيْتُمْ أَصْحَابَهُ لَمْ يَتَحَرّكُوا ، فَاثْبُتُوا حَتّى أُوذِنَكُمْ فَإِنّي قَدْ أَخْطَأْت الرّجُلَ وَإِنْ رَأَيْتُمْ الْقَوْمَ قَدْ اسْتَدَارُوا وَلَاثُوا بِهِ فَقَدْ أَصَبْت الرّجُلَ فَاحْمِلُوا عَلَيْهِمْ . ثُمّ وَتّرَ قَوْسَهُ وَكَانَتْ فِيمَا يَزْعُمُونَ لَا يُوتِرُهَا غَيْرُهُ مِنْ شِدّتِهَا ، وَأَمَرَ بِحَاجِبَيْهِ فَعُصّبَا لَهُ ثُمّ رَمَاهُ فَصَكّ الْيَاقُوتَةَ الّتِي بَيْنَ عَيْنَيْهِ فَتَغَلْغَلَتْ النّشّابَةُ فِي رَأْسِهِ حَتّى خَرَجَتْ مِنْ قَفَاهُ [ ص 141 ] وَنُكِسَ عَنْ دَابّتِهِ وَاسْتَدَارَتْ الْحَبَشَةُ وَلَاثَتْ بِهِ وَحَمَلَتْ عَلَيْهِمْ الْفُرْس ُ ، وَانْهَزَمُوا ، فَقُتِلُوا وَهَرَبُوا فِي كُلّ وَجْهٍ وَأَقْبَلَ وَهْرِزُ لِيَدْخُلَ صَنْعَاءَ ، حَتّى إذَا أَتَى بَابَهَا ، قَالَ لَا تَدْخُلُ رَايَتِي مُنَكّسَةً أَبَدًا ، اهْدِمُوا الْبَابَ فَهَدَمَ ثُمّ دَخَلَهَا نَاصِبًا رَايَتَهُ فَقَالَ سَيْفُ بْنُ ذِي يَزَنَ الْحِمْيَرِيّ :
يَظُنّ النّاسَ بِالْمَلِكَيْنِ ... أَنّهُمَا قَدْ الْتَأَمَا
وَمَنْ يَسْمَعْ بِلَأْمِهِمَا ... فَإِنّ الْخَطَبَ قَدْ فَقُمَا
قَتَلْنَا الْقَيْلَ مَسْرُوقًا ... وَرَوّيْنَا الْكَثِيبَ دَمَا
وَإِنّ الْقَيْلَ قَيْلُ النّا ... سِ وَهْرِزَ مُقْسِمٌ قَسَمَا
يَذُوقُ مُشَعْشَعًا حَتّى ... يَفِيءَ السّبْيُ وَالنّعَمَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ . وَأَنْشَدَنِي خَلّادُ بْنُ قُرّةَ السّدُوسِيّ آخِرَهَا بَيْتًا لِأَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ يُنْكِرُهَا لَهُ .
Sوَذَكَرَ قُدُومَ سَيْفٍ مَعَ وَهْرِزَ عَلَى صَنْعَاءَ فِي سِتّمِائَةِ وَقَدْ قَدّمْنَا قَوْلَ ابْنِ قُتَيْبَةَ أَنّهُمْ كَانُوا سَبْعَةَ آلَافٍ وَخَمْسَمِائَةٍ وَانْضَافَتْ إلَيْهِمْ قَبَائِلُ مِنْ الْعَرَبِ .
صَنْعَاءُ
وَذَكَرَ دُخُولَ وَهْرِزَ صَنْعَاءَ وَهَدْمَهُ بَابَهَا ، وَإِنّمَا كَانَتْ تُسَمّى قَبْلَ ذَلِكَ أَوَالٍ . قَالَ ابْنُ الْكَلْبِيّ وَسُمّيَتْ صَنْعَاءَ لِقَوْلِ وَهْرِزَ حِينَ دَخَلَهَا : صَنْعَةً صَنْعَةً يُرِيدُ أَنّ الْحَبَشَةَ أَحْكَمَتْ صَنْعَهَا ، قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ يَذْكُرُ أَوَالٍ :
عَمَدَ الْحُدَاةُ بِهَا لِعَارِضِ قَرْيَةٍ ... وَكَأَنّهَا سُفُنٌ بِسَيْفِ أَوَاَلْ
وَقَالَ جَرِيرٌ
وَشَبّهَتْ الْحُدُوجَ غَدَاةَ قَوّ ... سَفِينَ الْهِنْدِ رَوّحَ مَنْ أَوَالَا
وَقَالَ الْأَخْطَلُ
خَوْصٍ كَأَنّ شَكِيمَهُنّ مُعَلّقٌ ... بِقَنَا رُدَيْنَةَ أَوْ جُذُوعٍ أَوَاَلْ
وَقَدْ قِيلَ إنّ صَنْعَاءَ اسْمُ الّذِي بَنَاهَا ، وَهُوَ صَنْعَاءُ بْنُ أَوَاَلْ بْنِ عَبِيرِ بْنِ عَابِرِ بْنِ شَالِخَ فَكَانَتْ تُعْرَفُ تَارَةً بِأَوَالِ وَتَارَةً بِصَنْعَاءَ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 142 ] وَقَالَ أَبُو الصّلْتِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الثّقَفِيّ ، قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَتُرْوَى لِأُمَيّةِ بْنِ أَبِي الصّلْتِ
لِيَطْلُبَ الْوِتْرَ أَمْثَالُ ابْنِ ذِي يَزَنَ ... رَيّمَ فِي الْبَحْرِ لِلْأَعْدَاءِ أَحْوَالَا
يَمّمَ قَيْصَرَ لَمّا حَانَ رِحْلَتُهُ ... فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ بَعْضَ الّذِي سَالَا
ثُمّ انْثَنَى نَحْوَ كِسْرَى بَعْدَ عَاشِرَةٍ ... مِنْ السّنِينَ يُهِينُ النّفْسَ وَالْمَالَا
مَتَى أَتَى بِبَنِي الْأَحْرَارِ يَحْمِلُهُمْ ... إنّك عَمْرِي لَقَدْ أَسْرَعَتْ قِلْقَالَا
لِلّهِ دَرّهُمْ مِنْ عُصْبَةٍ خَرَجُوا ... مَا إنْ أَرَى لَهُمْ فِي النّاسِ أَمْثَالَا
بِيضًا مَرَازِبَةً غُلْبًا أَسَاوِرَةً ... أُسْدًا تُرَبّبُ فِي الْغَيْضَاتِ أَشْبَالَا
يَرْمُونَ عَنْ شُدُفٍ كَأَنّهَا غُبُطٌ ... بِزَمْخَرٍ يُعَجّلُ الْمَرْمِيّ إعْجَالَا
أَرْسَلْت أُسْدًا عَلَى سُودِ الْكِلَابِ فَقَدْ ... أَضْحَى شَرِيدُهُمْ فِي الْأَرْضِ فُلّالَا
فَاشْرَبْ هَنِيئًا عَلَيْك التّاجُ مُرْتَفِقًا ... فِي رَأْسِ غُمْدَانَ دَارًا مِنْك مِحْلَالَا
وَاشْرَبْ هَنِيئًا فَقَدْ شَالَتْ نَعَامَتُهُمْ ... وَأَسْبِلْ الْيَوْمَ فِي بُرْدَيْك إسْبَالَا
تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قُعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ ... شَيْبًا بِمَاءِ فَعَادَا بَعْدَ أَبْوَالَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هَذَا مَا صَحّ لَهُ مِمّا رَوَى ابْنُ إسْحَاقَ مِنْهَا ، إلّا آخِرَهَا بَيْتًا قَوْلُهُ تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ [ ص 143 ] لِلنّابِغَةِ الْجَعْدِيّ . وَاسْمُهُ [ حِبّانُ بْنُ ] عَبْدِ اللّهِ بْنِ قَيْسٍ ، أَحَدُ بَنِي جَعْدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ ، فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . [ ص 144 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ عَدِيّ بْنُ زَيْدٍ الْحِيرِيّ ، وَكَانَ أَحَدَ بَنِي تَمِيمٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : ثُمّ أَحَدُ بَنِي امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ ، وَيُقَالُ عَدِيّ مِنْ الْعِبَادِ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ :
مَا بَعْدَ صَنْعَاءَ كَانَ يَعْمُرُهَا ... وُلَاةُ مُلْكٍ جَزْلٍ مَوَاهِبُهَا
رَفّعَهَا مَنْ بَنَى لَدَى قَزَعِ الْ ... مُزْنِ وَتَنْدَى مِسْكًا مَحَارِبُهَا
مَحْفُوفَةٌ بِالْجِبَالِ دُونَ عُرَى الْ ... كَائِدِ مَا تُرْتَقَى غَوَارِبُهَا
يَأْنِسُ فِيهَا صَوْتُ النّهَامِ إذَا ... جَاوَبَهَا بِالْعَشِيّ قَاصِبُهَا
سَاقَتْ إلَيْهِ الْأَسْبَابُ جُنْدَ بَنِي الْأَحَ ... رَارِ فُرْسَانُهَا مَوَاكِبُهَا
وَفَوّزَتْ بِالْبِغَالِ تُوسَقُ بِالْ ... حَتْفِ وَتَسْعَى بِهَا تَوَالِبُهَا
حَتّى رَآهَا الْأَقْوَالُ مِنْ طَرَفِ الْ ... مَنْقَلِ مُخْضَرّةً كَتَائِبُهَا
يَوْمَ يُنَادُونَ آلَ بَرْبَرَ وَاَلْ ... يَكْسُومَ لَا يُفْلِحَن هَارِبُهَا
وَكَانَ يَوْمَ بَاقِي الْحَدِيثِ وَزَا ... لَتْ إمّةٌ ثَابِتٌ مَرَاتِبُهَا
وَبُدّلَ الْفَيْجُ بِالزّرَافَةِ وَالْأَيَا ... مُ جُونٌ جَمّ عَجَائِبُهَا
بَعْدَ بَنِي تُبّعٍ نَخَاوِرَةٌ ... قَدْ اطْمَأَنّتْ بِهَا مَرَازِبُهَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَأَنْشَدَنِي أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيّ وَرَوَاهُ لِي عَنْ الْمُفَضّلِ الضّبّيّ قَوْلُهُ يَوْمَ يُنَادِنّ آلَ بَرْبَرَ وَالْيَكْسُومَ وَهَذَا الّذِي عَنَى سَطِيحٌ بِقَوْلِهِ " يَلِيهِ إرَمُ ذِي يَزَنَ ، يَخْرَجُ عَلَيْهِمْ مِنْ عَدَنٍ ، فَلَا يَتْرُكُ أَحَدًا مِنْهُمْ بِالْيَمَنِ " . وَاَلّذِي عَنَى شِقّ بِقَوْلِهِ " غُلَامٌ لَيْسَ بِدَنِيّ وَلَا مُدْنٍ يَخْرَجُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْتِ ذِي يَزَنَ " [ ص 145 ]
Sشَرْحٌ لَامِيّةِ ابْنِ أَبِي الصّلْتِ
[ ص 142 ] أُمَيّةَ بْنِ أَبِي الصّلْتِ : رَيّمَ فِي الْبَحْرِ . أَيْ أَقَامَ فِيهِ وَمِنْهُ الرّوَايِمُ وَهِيَ الْأَثَافِي ، كَذَلِكَ وَجَدْته فِي حَاشِيَة الشّيْخِ الّتِي عَارَضَهَا بِكِتَابَيْ " أَبِي الْوَلِيدِ الْوَقْشِيّ " ، وَهُوَ عِنْدِي غَلَطٍ لِأَنّ الرّوَايِمَ مِنْ رَأَمَتْ إذَا عَطَفَتْ وَرَيّمَ لَيْسَ مِنْ رَأَمَ وَإِنّمَا هُوَ مِنْ الرّيْمِ وَهُوَ الدّرَجُ أَوْ مِنْ الرّيْمِ الّذِي هُوَ الزّيَادَةُ وَالْفَضْلُ أَوْ مِنْ رَامَ يَرِيمُ إذَا بَرِحَ كَأَنّهُ يُرِيدُ غَابَ زَمَانًا ، وَأَحْوَالًا ، ثُمّ رَجَعَ لِلْأَعْدَاءِ وَارْتَقَى فِي دَرَجَاتِ الْمَجْدِ أَحْوَالًا إنْ كَانَ مِنْ الرّيْمِ الّذِي هُوَ الدّرْجُ وَوَجَدْته فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ خَيّمَ مَكَانَ رَيّمَ فَهَذَا مَعْنَاهُ أَقَامَ . وَقَوْلُهُ عَمْرِي . أَرَادَ لَعَمْرِي وَقَدْ قَالَ الطّائِيّ :
عَمْرِي لَقَدْ نَصَحَ الزّمَانُ وَإِنّهُ ... لَمِنْ الْعَجَائِبِ نَاصِحٌ لَا يُشْفَقُ
وَقَوْلُهُ أَسْرَعَتْ قِلْقَالًا بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِهَا ، وَكَقَوْلِ الْآخَرِ " وَقَلْقَلَ يَبْغِي الْعِزّ كُلّ مُقَلْقَلٍ " وَهِيَ شِدّةُ الْحَرَكَةِ . [ ص 143 ] شُدُفٍ كَأَنّهَا غُبُطٌ " الشّدَفُ الشّخْصُ وَيُجْمَعُ عَلَى شُدُفٍ وَلَمْ يُرِدْ هَهُنَا إلّا الْقِسِيّ وَلَيْسَ شُدُفٌ جَمْعًا لِشَدَفٍ وَإِنّمَا هُوَ جَمْعُ شَدُوفٌ وَهُوَ النّشِيطُ الْمَرِحُ يُقَالُ شَدِفَ فَهُوَ شَدِفٌ ثُمّ تَقُولُ شَدُوفٌ كَمَا تَقُولُ مَرُوحٌ وَقَدْ يُسْتَعَارُ الْمَرَحُ وَالنّشَاطُ لِلْقِسِيّ لِحُسْنِ تَأَتّيهَا وَجَوْدَةِ رَمْيِهَا وَإِصَابَتِهَا ، وَإِنّمَا احْتَجْنَا إلَى هَذَا التّأْوِيلِ لِأَنّ فَعَلًا لَا يُجْمَعُ عَلَى فُعُلٍ إلّا وَثَنٌ وَوُثُنٌ فَإِنْ قُلْت : فَيُجْمَعُ عَلَى فُعُولٍ مِثْلُ أُسُودٍ فَتَقُولُ شَدُوفٌ ثُمّ تَجْمَعُ الْجَمْعَ فَتَقُولُ شُدُفٌ قُلْنَا : الْجَمْعُ الْكَثِيرُ لَا يُجْمَعُ وَإِنّمَا يُجْمَعُ مِنْهُ أَبْنِيَةُ الْقَلِيلِ . نَحْوَ أَفْعَالٍ وَأَفْعُلٍ وَأَفْعِلَةٍ وَأَشْبَهُ مَا يُقَالُ فِي هَذَا الْبَيْتِ إنّهُ جَمْعٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ هَذَا إنْ كَانَ الشّدُفُ الْقِسِيّ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمَعَ شَدَفًا عَلَى شُدْفٍ مِثْلُ أَسَدٍ وَأُسْدٍ ، ثُمّ حَرّكَ الدّالَ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ الْمَرِحَ مِنْ الْخَيْلِ كَمَا تَقَدّمَ . وَجَعَلَهَا كَالْغُبُطِ لِإِشْرَافِ ظُهُورِهَا وَعُلُوّهَا . وَقَوْلُهُ يَرْمُونَ عَنْ شُدُفٍ أَيْ يَدْفَعُونَ عَنْهَا بِالرّمْيِ وَيَكُونُ الزّمْخَرُ الْقَسِيّ ، أَوْ النّبْلُ . وَالْغُبُطُ الْهَوَادِجُ وَالزّمْخَرُ الْقَصَبُ الْفَارِسِيّ . وَقَوْلُهُ فِي رَأْسِ غُمْدَانَ . ذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ أَنّ غُمْدَانَ أَسّسَهُ يَعْرُبُ بْنُ قَحْطَانَ وَأَكْمَلَهُ بَعْدَهُ وَاحْتَلّهُ وَائِلُ بْنُ حِمْيَرَ بْنِ سَبَأٍ ، وَكَانَ مَلِكًا مُتَوّجًا كَأَبِيهِ وَجَدّهِ . وَقَوْلُهُ شَالَتْ نَعَامَتُهُمْ أَيْ هَلَكُوا ، وَالنّعَامَةُ بَاطِنُ الْقَدَمِ وَشَالَتْ ارْتَفَعَتْ وَمَنْ هَلَكَ ارْتَفَعَتْ رِجْلَاهُ وَانْتَكَسَ رَأْسُهُ فَظَهَرَتْ نَعَامَةُ قَدَمِهِ تَقُولُ الْعَرَبُ : تَنَعّمْت إذَا مَشَيْت حَافِيًا ، قَالَ الشّاعِرُ
تَنَعّمْت لَمّا جَاءَنِي سُوءُ فِعْلِهِمْ ... أَلَا إنّمَا الْبَأْسَاءُ لِلْمُتَنَعّمِ
وَالنّعَامَةُ أَيْضًا : الظّلْمَةُ وَالنّعَامَةُ الدّعَامَةُ الّتِي تَكُونُ عَلَيْهَا الْبَكَرَةُ وَالنّعَامَةُ الْجَمَاعَةُ مِنْ النّاسِ وَابْنُ النّعَامَةِ عِرْقٌ فِي بَاطِنِ الْقَدَمِ .
النّابِغَةُ وَعَدِيّ بْنُ زَيْدٍ
وَذَكَرَ النّابِغَةَ الْجَعْدِيّ وَاسْمُهُ قَيْسُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ وَقِيلَ إنّ اسْمَهُ حِبّانُ بْنُ قَيْسِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ وَحْوَحَ وَالْوَحْوَحُ فِي اللّغَةِ وَسَطُ الْوَادِي ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَهُوَ أَحَدُ [ ص 144 ] ذَكَرَهُمْ الْبَكْرِيّ ، وَذَكَرَ الْأَعَاشِي وَهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ . وَالنّابِغَةُ شَاعِرٌ مُعَمّرٌ عَاشَ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً أَكْثَرُهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ وَقُدُومُهُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَإِنْشَادُهُ إيّاهُ وَدُعَاءُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَلّا يَفُضّ اللّهُ فَاهُ مَشْهُورٌ وَفِي كُتُبِ الْأَدَبِ وَالْخَبَرِ مَسْطُورٌ فَلَا مَعْنَى لِلْإِطَالَةِ بِهِ . [ ص 145 ] وَذَكَرَ شِعْرَ عَدِيّ بْنِ زَيْدٍ الْعِبَادِيّ ، نُسِبَ إلَى الْعِبَادِ وَهُمْ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ بْنِ أَفْصَى بْنِ دُعْمِيّ بْن جَدِيلَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ ، قِيلَ إنّهُمْ انْتَسَلُوا مِنْ أَرْبَعَةٍ عَبْدِ الْمَسِيحِ وَعَبْدِ كُلَالٍ وَعَبْدِ اللّهِ وَعَبْدِ يالَيْل ، وَكَذَلِكَ سَائِرُهُمْ فِي اسْمِ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَبْدٌ وَكَانُوا قَدِمُوا عَلَى مَلِكٍ فَتَسَمّوْا لَهُ فَقَالَ أَنْتُمْ الْعِبَادُ فَسُمّوا بِذَلِكَ وَقَدْ قِيلَ غَيْرُ هَذَا . وَفِي الْحَدِيثِ الْمُسْنَدِ أَبْعَدُ النّاسِ عَنْ الْإِسْلَامِ الرّومُ وَالْعِبَادُ وَأَحْسَبُهُمْ هَؤُلَاءِ لِأَنّهُمْ تَنَصّرُوا ، وَهُمْ مِنْ رَبِيعَةَ ، ثُمّ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْقَيْسِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَاَلّذِي ذَكَرَهُ الطّبَرِيّ فِي نَسَبِ عَدِيّ بْنِ زَيْدٍ أَنّهُ ابْنُ زَيْدِ بْنِ حَمّادِ بْنِ أَيّوبَ بْنِ مَجْرُوفِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عُصَيّةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ . وَقَدْ دَخَلَ بَنُو امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ فِي الْعِبَادِ . فَلِذَلِكَ يُنْسَبُ عَدِيّ إلَيْهِمْ . وَقَوْلُهُ صَوْتُ النّهَامِ يُرِيدُ ذِكْرَ الْيَوْمِ وَقَاصِبُهَا : الّذِي يُزَمّرُ فِي الْقَصَبِ . وَقَوْلُهُ فِيهَا : دُونَ عُرَى الْكَائِدِ يُرِيدُ عُرَى السّمَاءِ وَأَسْبَابُهَا ، وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ الشّيْخِ عَرَى بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَهِيَ النّاحِيَةُ وَأَضَافَهَا إلَى الْكَائِدِ وَهُوَ الّذِي كَادَهُمْ وَالْبَارِي - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - كَيْدُهُ مَتِينٌ . وَقَوْلُهُ فَوّزَتْ بِالْبِغَالِ أَيْ رَكِبَتْ الْمَفَاوِزَ . وَقَوْلُهُ تُوسَقُ بِالْحَتْفِ أَيْ أَوْسَقَ الْبِغَالَ الْحُتُوف ، وَتَوَالِبُهَا : جَمْعُ تَوْلَبٍ وَهُوَ وَلَدُ الْحِمَارِ وَالتّاءُ فِي تَوْلَبٍ بَدَلٌ مِنْ وَاوٍ كَمَا فِي تَوْأَمٌ وَتَوْلَجٌ وَفِي تَوْرَاةٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِأَنّ اشْتِقَاقَ التّوْلَبِ مِنْ الْوَالِبَةِ وَهِيَ مَا يُوَلّدُهُ الزّرْعُ وَجَمْعُهَا : أَوَالِبُ . وَقَوْلُهُ مِنْ طَرَفِ الْمَنْقَلِ أَيْ مِنْ أَعَالِي حُصُونِهَا ، وَالْمِنْقَالُ الْخَرْجُ يُنْقَلُ إلَى الْمُلُوكِ مِنْ قَرْيَةٍ إلَى قَرْيَةٍ فَكَأَنّ الْمَنْقَلَ مِنْ هَذَا ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَقَوْلُهُ مُخْضَرّةٌ كَتَائِبُهَا . يَعْنِي مِنْ الْحَدِيدِ وَمِنْهُ الْكَتِيبَةُ الْخَضْرَاءُ . وَقَوْلُهُ يُنَادَوْنَ آلَ بَرْبَرَ ؛ لِأَنّ الْبَرْبَرَ وَالْحَبَشَةَ مِنْ وَلَدِ حَامٍ . وَقَدْ قِيلَ إنّهُمْ مِنْ وَلَدِ جَالُوتَ مِنْ الْعَمَالِيقِ . [ ص 146 ] قِيلَ فِي جَالُوتَ إنّهُ مِنْ الْخَزَرِ ، وَإِنّ أفريقس لَمّا خَرَجَ مِنْ أَرْضِ كَنْعَانَ سَمِعَ لَهُمْ بَرْبَرَةً وَهِيَ اخْتِلَاطُ الْأَصْوَاتِ فَقَالَ مَا أَكْثَرَ بَرْبَرَتَهُمْ فَسُمّوا بِذَلِكَ وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا . وَقَوْلُهُ وَالْغُرُبُ أَرَادَ الْغُرُبَ بِضَمّ الرّاءِ جَمْعُ : غُرَابٍ وَإِنْ كَانَ الْمَعْرُوفُ أَغْرِبَةً وَغِرْبَانٌ وَلَكِنّ الْقِيَاسَ لَا يَدْفَعُهُ وَعَنَى بِهِمْ السّودَانَ . وَقَوْلُهُ وَبُدّلَ الْفَيْجُ بِالزّرَافَةِ وَهُوَ الْمُنْفَرِدُ فِي مِشْيَتِهِ وَالزّرَافَةُ الْجَمَاعَةُ وَقِيلَ فِي الزّرَافَةِ الّتِي هِيَ حَيَوَانٌ طَوِيلُ الْعُنُقِ إنّهُ اخْتَلَطَ فِيهَا النّسْلُ بَيْنَ الْإِبِلِ الْوَحْشِيّةِ وَالْبَقَرِ الْوَحْشِيّةِ وَالنّعَامِ وَإِنّهَا مُتَوَلّدَةٌ مِنْ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ الثّلَاثَةِ . وَكَذَلِكَ ذَكَرَ الزّبَيْدِيّ وَغَيْرُهُ وَأَنْكَرَ الْجَاحِظُ هَذَا فِي كِتَابِ الْحَيَوَانِ لَهُ وَقَالَ إنّمَا دَخَلَ هَذَا الْغَلَطُ عَلَيْهِمْ مِنْ تَسْمِيَةِ الْفُرْسِ لَهَا " اشْتَرِ - كَاوِ - مَاهَ " . وَالْفُرْسُ إنّمَا سَمّتْهُ بِذَلِكَ لِأَنّ فِي خِلْقَتِهَا شَبَهًا مِنْ جَمَلٍ وَنَعَامَةٍ وَبَقَرَةٍ فَاشْتَرِ هُوَ الْجَمَلُ وَكَاوِ النّعَامَةُ وَمَاهُ الْبَقَرَةُ وَالْفُرْسُ تُرَكّبُ الْأَسْمَاءَ وَتُمْزَجُ الْأَلْفَاظُ إذَا كَانَ فِي الْمُسَمّى شَبَهٌ مِنْ شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ وَيُقَالُ زَرَافّةٌ بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ حَكَاهُ أَبُو عُبَيْدٍ عَنْ الْقَنَانِيّ . وَقَوْلُهُ بَعْدَ بَنِي تُبّعٍ بَجَاوِرَةٌ . هَكَذَا فِي نُسْخَةِ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الْأَسَدِيّ مُصَحّحًا عَلَيْهِ وَقَدْ كَتَبَ فِي الْحَاشِيَةِ نَخَاوَرَةٌ فِي الْأَمِينِ وَفِي الْحَاشِيَةِ النّخَاوِرَةُ الْكِرَامُ وَكَذَلِكَ فِي الْمَسْمُوعَةِ عَلَى ابْنِ هِشَامٍ يَعْنِي نُسْخَتَيْ أَبِي الْوَلِيدِ الْوَقْشِيّ اللّتَيْنِ قَابَلَ بِهِمَا مَرّتَيْنِ وَيَعْنِي بِالْحَاشِيَةِ حَاشِيَة " تِينك الْأَمِين " وَأَنّ فِيهِمَا : نَخَاوَرَةً بِالنّونِ وَالْخَاءِ الْمَنْقُوطَةِ وَهُمْ الْكِرَامُ كَمَا ذُكِرَ .

ذِكْرُ مَا انْتَهَى إلَيْهِ أَمْرُ الْفُرْسِ بِالْيَمَنِ
مُدّةُ مُلْكِ الْحَبَشَةِ بِالْيَمَنِ
[ ص 146 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَقَامَ وَهْرِزُ وَالْفُرْسُ بِالْيَمَنِ ، فَمِنْ بَقِيّةِ ذَلِكَ الْجَيْشِ مِنْ الْفُرْسِ : الْأَبْنَاءُ الّذِينَ بِالْيَمَنِ الْيَوْمَ . وَكَانَ مَلِكُ الْحَبَشَةِ بِالْيَمَنِ ، فِيمَا بَيْنَ أَنْ دَخَلَهَا أَرْيَاطُ إلَى أَنْ قَتَلَتْ الْفُرْسُ مَسْرُوقَ بْنَ أَبْرَهَةَ وَأَخْرَجَتْ الْحَبَشَةَ ، اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ سَنَةً تَوَارَثَ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ أَرْيَاطٌ ، ثُمّ أَبْرَهَةُ ، ثُمّ يَكْسُومُ بْنُ أَبْرَهَةَ ثُمّ مَسْرُوقُ بْنُ أَبْرَهَةَ .
أُمَرَاءُ الْفُرْسِ عَلَى الْيَمَنِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : ثُمّ مَاتَ وَهْرِزُ فَأَمَرَ كِسْرَى ابْنَهُ الْمَرْزُبَانِ بْنِ وَهْرِزَ عَلَى الْيَمَنِ ، ثُمّ [ ص 147 ] فَأَمَرَ كِسْرَى ابْنَهُ التّيْنُجَانَ بْنَ الْمَرْزُبَانِ عَلَى الْيَمَنِ ، ثُمّ مَاتَ التّيْنُجَانُ فَأَمَرَ كِسْرَى ابْنَ التّيْنُجَانِ عَلَى الْيَمَنِ ، ثُمّ عَزَلَهُ وَأَمّرَ بَاذَانَ فَلَمْ يَزَلْ بَاذَانُ عَلَيْهَا حَتّى بَعَثَ اللّهُ مُحَمّدًا النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
حَدِيثٌ يَتَنَبّأُ بِقَتْلِ كِسْرَى
فَبَلَغَنِي عَنْ الزّهْرِيّ أَنّهُ قَالَ كَتَبَ كِسْرَى إلَى بَاذَانَ : أَنّهُ بَلَغَنِي أَنّ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ خَرَجَ بِمَكّةَ ، يَزْعُمُ أَنّهُ نَبِيّ ، فَسِرْ إلَيْهِ فَاسْتَتِبْهُ فَإِنْ تَابَ وَإِلّا فَابْعَثْ إلَيّ بِرَأْسِهِ فَبَعَثَ بَاذَانُ بِكِتَابِ كِسْرَى إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَكَتَبَ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إنّ اللّهَ قَدْ وَعَدَنِي أَنْ يَقْتُلَ كِسْرَى فِي يَوْمِ كَذَا مِنْ شَهْرِ كَذَا فَلَمّا أَتَى بَاذَانَ الْكِتَابُ تَوَقّفَ لِيَنْظُرَ وَقَالَ إنْ كَانَ نَبِيّا ، فَسَيَكُونُ مَا قَالَ فَقَتَلَ اللّهُ كِسْرَى فِي الْيَوْمِ الّذِي قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قُتِلَ عَلَى يَدَيْ ابْنِهِ شِيرَوَيْهِ وَقَالَ خَالِدُ بْنُ حَقّ الشّيْبَانِيّ :
وَكِسْرَى إذْ تَقَسّمَهُ بَنُوهُ ... بِأَسْيَافِ كَمَا اُقْتُسِمَ اللّحَامُ
تَمَخّضَتْ الْمَنُونُ لَهُ بِيَوْمِ ... أَنَى ، وَلِكُلّ حَامِلَةٍ تِمَامُ
بَاذَانُ يُسْلِمُ
قَالَ الزّهْرِيّ : فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ بَاذَانَ بَعَثَ بِإِسْلَامِهِ وَإِسْلَامِ مَنْ مَعَهُ مِنْ الْفُرْسِ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَتْ الرّسُلُ مِنْ الْفُرْسِ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى مَنْ نَحْنُ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ أَنْتُمْ مِنّا وَإِلَيْنَا أَهْلَ الْبَيْتِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَبَلَغَنِي عَنْ الزّهْرِيّ أَنّهُ قَالَ فَمِنْ ثَمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - سَلْمَانُ مِنّا أَهْلَ الْبَيْتِ . [ ص 148 ] [ ص 149 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَهُوَ الّذِي عَنَى سَطِيحٌ بِقَوْلِهِ " نَبِيّ زَكِيّ ، يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنْ قِبَلِ الْعَلِيّ " . وَاَلّذِي عَنَى شِقّ بِقَوْلِهِ " بَلْ يَنْقَطِعُ بِرَسُولِ مُرْسَلٍ يَأْتِي بِالْحَقّ وَالْعَدْلِ مِنْ أَهْلِ الدّينِ وَالْفَضْلِ يَكُونُ الْمَلِكُ فِي قَوْمِهِ إلَى يَوْمِ الْفَصْلِ " .
Sبَاذَانُ وَكِسْرَى
[ ص 147 ] وَذَكَرَ قِصّةَ بَاذَانَ ، وَمَا كَتَبَ بِهِ إلَى كِسْرَى ، وَكِسْرَى هَذَا هُوَ أَبَرْوَيْزُ بْنُ هُرْمُزَ بْنِ أَنُوشِرْوَانَ ، وَمَعْنَى أَبْرَوَيْزَ بِالْعَرَبِيّةِ الْمُظَفّرُ وَهُوَ الّذِي غَلَبَ الرّومَ حِينَ أَنَزَلَ اللّهُ { الم غُلِبَتِ الرّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ } [ أَوّلُ الرّومِ ] وَهُوَ الّذِي عُرِضَ عَلَى اللّهِ فِي الْمَنَامِ فَقَالَ [ ص 148 ] صَاحِبِ الْهِرَاوَةِ فَلَمْ يَزَلْ مَذْعُورًا مِنْ ذَلِكَ حَتّى كَتَبَ إلَيْهِ النّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ بِظُهُورِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِتِهَامَةَ ، فَعَلِمَ أَنّ الْأَمْرَ سَيَصِيرُ إلَيْهِ حَتّى كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ وَهُوَ الّذِي كَتَبَ إلَيْهِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَحَفِيدُهُ يَزْدَجِرْدُ بْنُ شَهْرَيَارَ بْنِ أَبْرَوَيْزَ وَهُوَ آخِرُ مُلُوكِ الْفُرْسِ ، وَكَانَ سُلِبَ مُلْكُهُ وَهُدِمَ سُلْطَانُهُ عَلَى يَدَيْ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ ، ثُمّ قُتِلَ هُوَ فِي أَوّلِ خِلَافَةِ عُثْمَانَ ، وُجِدَ مُسْتَخْفِيًا فِي رَحًى فَقُتِلَ وَطُرِحَ فِي قَنَاةِ الرّحَى ، وَذَلِكَ بِمَرْوَ مِنْ أَرْضِ فَارِسَ . وَذَكَرَ حَدِيثَ بَاذَانَ وَمَقْتَلَ كِسْرَى ، وَكَانَ مَقْتَلُ كِسْرَى حِينَ قَتَلَهُ بَنُوهُ لَيْلَةَ الثّلَاثَاءِ لِعَشْرِ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ سَبْعٍ مِنْ الْهِجْرَةِ وَأَسْلَمَ بَاذَانُ بِالْيَمَنِ فِي سَنَةِ عَشْرٍ وَفِيهَا بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الْأَبْنَاءِ يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَمِنْ الْأَبْنَاءِ وَهْبُ بْنُ مُنَبّهِ بْنِ سَيْجِ بْنِ ذُكْبَارٍ ، وَطَاوُوسٌ وَذَادَوَيْهِ وَفَيْرُوزُ اللّذَانِ قَتَلَا الْأَسْوَدَ الْعَنْسِيّ الْكَذّابَ وَقَدْ قِيلَ فِي طَاوُوسٍ إنّهُ لَيْسَ مِنْ الْأَبْنَاءِ وَإِنّهُ مِنْ حِمْيَرَ ، وَقَدْ قِيلَ مِنْ فَارِسَ ، وَاسْمُهُ ذَكْوَانُ بْنُ كَيْسَانَ وَهُوَ مَوْلَى بُجَيْرِ بْنِ رَيْسَانَ وَقَدْ قِيلَ مَوْلَى الْجَعْدِ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ طَاوُوسٌ الْقَرّاءُ لِجَمَالِهِ . وَقَوْلُ خَالِدِ بْنِ حِقّ
تَمَخّضَتْ الْمَنُونُ لَهُ بِيَوْمِ ... أَنَى ؛ وَلِكُلّ حَامِلَةٍ تِمَامُ
الْمَنُونُ الْمَنِيّةُ وَهُوَ أَيْضًا مِنْ أَسْمَاءِ الدّهْرِ وَهُوَ مِنْ مَنَنْت الْحَبْلَ إذَا قَطَعْته ، وَفَعُولٌ إذَا كَانَ بِمَعْنَى فَاعِلٍ لَمْ تَدْخُلْ التّاءُ فِي مُؤَنّثِهِ لِسِرّ بَدِيعٍ ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ فَيُقَالُ امْرَأَةٌ صَبُورٌ وَشَكُورٌ فَمَعْنَى الْمَنُونِ الْمَقْطُوعُ وَتَمَخّضَتْ أَيْ حَمَلَتْ وَالْمَخَاضُ الْحَمْلُ وَوَزْنُهُ فَعَالٌ وَمَخَاضَةُ الْمَاءِ وَمَخَاضَةُ [ النّهْرِ ] وَزْنُهُ مَفْعَلٌ مِنْ الْخَوْضِ . وَقَوْلُهُ أَنَى ، أَيْ حَانَ وَقَدْ قَلَبُوهُ فقالوا : آنَ يَئِينُ وَالدّلِيلُ عَلَى أَنّ آنَ يَئِينُ مَقْلُوبٌ مِنْ أَنّى يَأْنَى ، قَوْلُهُ آنَاءَ اللّيْلِ وَوَاحِدُهَا : إنًى وَأَنًى وَإِنْيٌ فَالنّونُ مُقَدّمَةٌ عَلَى الْيَاءِ فِي كُلّ هَذَا ، وَفِي كُلّ مَا صُرِفَ مِنْهُ نَحْوَ الْإِنَاءِ وَالْآنِي : الّذِي بَلَغَ أَنَاهٍ أَيْ مُنْتَهَى وَقْتِهِ فِي التّسْخِينِ وَهَذَا الْمَعْنَى كَقَوْلِهِمْ فِي الْمَثَلِ الدّهْرُ حُبْلَى لَا يَدْرِي مَا تَضَعُ إنْ كَانَ أَرَادَ [ ص 149 ] كَانَ أَرَادَ بِالْمَنُونِ الْمَنِيّةَ فَبَعِيدٌ أَنْ يُقَالَ تَمَخّضَتْ الْمَنُونُ لَهُ بِهَذَا الْيَوْمِ الّذِي مَاتَ فِيهِ فَإِنّ مَوْتَهُ مُنْيَتُهُ فَكَيْفَ تَتَمَخّضُ الْمُنْيَةُ بِالْمُنْيَةِ إلّا أَنْ يُرِيدَ أَسِبَابَهَا ، وَمَا مُنِيَ لَهُ أَيْ قُدّرَ مِنْ وَقْتِهَا ، فَتَصِحّ الِاسْتِعَارَةُ حِينَئِذٍ وَيَسْتَقِيمُ التّشْبِيهُ . وَقَوْلُ ابْنِ حِقّ وَكِسْرَى إذْ تَقْسِمُهُ بَنُوهُ . وَإِنّمَا كَانَ قَتْلُهُ عَلَى يَدَيْ ابْنِهِ شِيرَوَيْهِ لَكِنْ ذَكَرَ بَنِيهِ لِأَنّ بَدْءَ الشّرّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَنّ فَرْخَانَ رَأَى فِي النّوْمِ أَنّهُ قَاعِدٌ عَلَى سَرِيرِ الْمُلْكِ فِي مَوْضِعِ أَبِيهِ فَبَلَغَ أَبَاهُ ذَلِكَ فَكَتَبَ إلَى ابْنِهِ شَهْرَيَارَ - وَكَانَ وَالِيًا لَهُ عَلَى بَعْضِ الْبِلَادِ أَنْ اُقْتُلْ أَخَاك فَرْخَانَ فَأَخْفَى شَهْرَيَارُ الْكِتَابَ مِنْ أَخِيهِ فَكَتَبَ إلَيْهِ مَرّةً أُخْرَى ، فَأَبَى مِنْ ذَلِكَ فَعَزَلَهُ وَوَلّى فَرْخَانَ وَأَمَرَهُ بِقَتْلِ شَهْرَيَارَ فَعَزَمَ عَلَى ذَلِكَ فَأَرَاهُ شَهْرَيَارُ الْكِتَابَ الّذِي كَتَبَ لَهُ أَبُوهُ فِيهِ فَتَوَاطَآ عِنْدَ ذَلِكَ عَلَى الْقِيَامِ عَلَى أَبِيهِمَا ، وَأَرْسَلَا إلَى مَلِكِ الرّومِ يَسْتَعِينَانِ بِهِ فِي خَبَرٍ طَوِيلٍ فَكَانَ هَذَا بَدْءَ الشّرّ ثُمّ إنّ الْفُرْسَ خَلَعَتْ كِسْرَى لِأَحْدَاثِ أَحْدَثَهَا ، وَوَلّتْ ابْنَهُ شِيرَوَيْهِ فَكَانَ كِسْرَى أَبْرَوَيْزَ رُبّمَا أَشَارَ بِرَأْيِ مِنْ مَحْبِسِهِ فَقَالَتْ الْمَرَازِبَةُ لِشِيرَوَيْهِ لَا يَسْتَقِيمُ لَك الْمُلْكُ إلّا أَنْ تَقْتُلَ أَبَاك ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ مَنْ يَقْتُلُهُ فَيُقَالُ إنّهُ كَانَ يَضْرِبُ بِالسّيْفِ فَمَا يَعْمَلُ فِيهِ شَيْئًا ، فَفَتّشَ فَوَجَدَ عَلَى عَضُدِهِ حَجَرٌ مُعَلّقٌ كَالْخَرَزَةِ فَنُزِعَ فَعَمِلَتْ فِيهِ السّلَاحُ وَكَانَ قَبْلُ يَقُولُ لَابْنِهِ يَا قَصِيرَ الْعُمْرِ فَلَمْ يَدُمْ أَمْرُهُ بَعْدَهُ إلّا أَقَلّ مِنْ سِتّةِ أَشْهُرٍ - فِيمَا ذَكَرُوا - وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

كِتَابُ الْحَجَرِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ فِي حَجَرٍ بِالْيَمَنِ - فِيمَا يَزْعُمُونَ - كِتَابٌ بِالزّبُورِ كُتِبَ فِي [ ص 150 ] ذِمَارٍ ؟ لِحِمْيَرَ الْأَخْيَارِ لِمَنْ مُلْك ذِمَارَ ؟ لِلْحَبَشَةِ الْأَشْرَارِ لِمَنْ مُلْكُ ذِمَارَ ؟ لِفَارِسَ الْأَحْرَارِ لِمَنْ مُلْكُ ذِمَارَ ؟ لِقُرَيْشِ التّجّارِ " . وَذِمَارُ : الْيَمَنُ أَوْ صَنْعَاءُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : ذَمَارُ : بِالْفَتْحِ فِيمَا أَخْبَرَنِي يُونُسُ .
الْأَعْشَى وَنُبُوءَةُ شِقّ وَسُطَيْحٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ الْأَعْشَى - أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ فِي وُقُوعِ مَا قَالَ سَطِيحٌ وَصَاحِبُهُ
مَا نَظَرَتْ ذَاتُ أَشْفَارٍ كَنَظْرَتِهَا ... حَقّا كَمَا صَدَقَ الذّئْبِيّ إذْ سَجَعَا
وَكَانَتْ الْعَرَبُ تَقُولُ لِسَطِيحِ الذّئْبِيّ ، لِأَنّهُ سَطِيحُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مَازِنَ بْنِ ذِئْبٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ .
Sذِمَارُ وَحِمْيَرُ وَفَارِسُ وَالْحَبَشَةُ
[ ص 151 ] بِالْيَمَنِ : لِمَنْ مُلْكُ ذِمَارَ ؟ وَحَكَى ابْنُ هِشَامٍ عَنْ يُونُسَ ذَمَارَ بِفَتْحِ الذّالِ فَدَلّ عَلَى أَنّ رِوَايَةَ ابْنِ إسْحَاقَ بِالْكَسْرِ [ ص 150 ] كَانَ بِكَسْرِ الذّالِ فَهُوَ غَيْرُ مَصْرُوفٍ لِأَنّهُ اسْمٌ لِمَدِينَةِ وَالْغَالِبُ عَلَيْهِ التّأْنِيثُ وَيَجُوزُ صَرْفُهُ أَيْضًا ؛ لِأَنّهُ اسْمُ بَلَدٍ وَإِذَا فُتِحَتْ الذّالُ فَهُوَ مَبْنِيّ مِثْلُ رَقَاشِ وَحَذَامِ وَبَنُو تَمِيمٍ يُعْرِبُونَ مِثْلَ هَذَا الْبِنَاءِ فَيَقُولُونَ رَقَاشُ [ وَحَذَامُ ] فِي الرّفْعِ وَرَقَاشَ وَحَذَامَ فِي النّصْبِ وَالْخَفْضِ يُعْرِبُونَهُ وَلَا يَصْرِفُونَهُ فَإِذَا كَانَ لَامُ الْفِعْلِ رَاءً اتّفَقُوا مَعَ أَهْلِ الْحِجَازِ عَلَى الْبِنَاءِ وَالْكَسْرِ . وَذَمَارِ : مِنْ ذَمَرْتُ الرّجُلَ إذَا حَرّضْته عَلَى الْحَرْبِ . وَقَوْلُهُ لِحِمْيَرَ الْأَخْيَارُ لِأَنّهُمْ كَانُوا أَهْلَ دِينٍ كَمَا تَقَدّمَ فِي حَدِيثِ فَيْمُونَ وَابْنِ الثّامِرِ . وَقَوْلُهُ لِفَارِسَ الْأَحْرَارُ فَلِأَنّ الْمُلْكَ فِيهِمْ مُتَوَارِثٌ مِنْ أَوّلِ الدّنْيَا مِنْ عَهْدِ جيومرت فِي زَعْمِهِمْ إلَى أَنْ جَاءَ الْإِسْلَامُ لَمْ يَدِينُوا لِمَلِكِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَلَا أَدّوْا الْأَتَاوَةَ لِذِي سُلْطَانٍ مِنْ سِوَاهُمْ فَكَانُوا أَحْرَارًا لِذَلِكَ . وَأَمّا قَوْلُهُ لِلْحَبَشَةِ الْأَشْرَارُ فَلَمّا أَحْدَثُوا فِي الْيَمَنِ مِنْ الْعَيْثِ وَالْفَسَادِ وَإِخْرَابِ الْبِلَادِ حَتّى هَمّوا بِهَدْمِ بَيْتِ اللّهِ الْحَرَامِ ، وَسَيَهْدِمُونَهُ فِي آخِرِ الزّمَانِ إذَا رَفَعَ الْقُرْآنَ وَذَهَبَ مِنْ الصّدُورِ الْإِيمَانُ وَهَذَا الْكَلَامُ الْمُسَجّعُ ذَكَرَهُ الْمَسْعُودِيّ مَنْظُومًا . [ ص 151 ]
حِينَ شِيدَتْ ذِمَارِ قِيلَ لِمَنْ أَنْ ... تَ فَقَالَتْ لِحِمْيَرَ الْأَخْيَارِ
ثُمّ سِيلَتْ مِنْ بَعْدِ ذَاكَ ؟ فَقَالَتْ ... أَنَا لِلْحَبْشِ أَخْبَثِ الْأَشْرَارِ
ثُمّ قَالُوا مِنْ بَعْدِ ذَاكَ لِمَنْ أَنْ ... تَ ؟ فَقَالَتْ لِفَارِسَ الْأَحْرَارِ
ثُمّ قَالُوا مِنْ بَعْدِ ذَاكَ لِمَنْ أَنْ ... تَ فَقَالَتْ إلَى قُرَيْشٍ التّجَارِ
وَهَذَا الْكَلَامُ الّذِي ذَكَرَ أَنّهُ وُجِدَ مَكْتُوبًا بِالْحَجَرِ هُوَ - فِيمَا زَعَمُوا - مِنْ كَلَامِ هُودٍ - عَلَيْهِ السّلَامُ - وُجِدَ مَكْتُوبًا فِي مِنْبَرِهِ وَعِنْدَ قَبْرِهِ حِينَ كَشَفَتْ الرّيحُ الْعَاصِفَةَ عَنْ مِنْبَرِهِ الرّمْلَ حَتّى طَهُرَ وَذَلِكَ قَبْلَ مُلْكِ بِلْقِيسَ بِيَسِيرِ وَكَانَ خَطّهُ بِالْمُسْنَدِ وَيُقَالُ إنّ الّذِي بَنَى ذِمَارِ هُوَ شِمْرُ بْنُ الْأُمْلُوكِ وَالْأُمْلُوكُ هُوَ مَالِكُ بْنُ ذِي الْمَنَارِ وَيُقَالُ ذِمَارِ وَظَفَارِ ، وَمِنْهُ الْمَثَلُ مَنْ دَخَلَ ظَفَارِ حَمّرَ أَيْ تَكَلّمَ بِالْحِمْيَرِيّةِ .
زَرْقَاءُ الْيَمَامَةِ
وَذَكَرَ قَوْلَ الْأَعْشَى : مَا نَظَرْت ذَاتَ أَشْفَارٍ كَنَظْرَتِهَا
الْبَيْتَ . يُرِيدُ زَرْقَاءَ الْيَمَامَةِ ، وَكَانَتْ تُبْصَرُ عَلَى مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيّامٍ وَقَدْ تَقَدّمَ طَرَفٌ مِنْ ذِكْرِهَا فِي خَبَرِ جَدِيسٍ وَطَسْمٍ وَقَبْلَ الْبَيْتِ
قَالَتْ أَرَى رَجُلًا فِي كَفّهِ كَتِفٌ ... أَوْ يَخْصِفُ النّعْلَ لَهْفِي أَيّةً صَنَعَا
فَكَذّبُوهَا بِمَا قَالَتْ فَصَبّحَهُمْ ... ذُو آلِ حَسّانَ يُزْجِي الْمَوْتَ وَالسّلَعَا
وَكَانَ جَيْشُ حَسّانَ هَذَا قَدْ أُمِرُوا أَنْ يُخَيّلُوا عَلَيْهَا بِأَنْ يُمْسِكَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَعْلًا كَأَنّهُ يَخْصِفُهَا ، وَكَتِفًا كَأَنّهُ يَأْكُلُهَا ، وَأَنْ يَجْعَلُوا عَلَى أَكْتَافِهِمْ أَغْصَانَ الشّجَرِ فَلَمّا أَبْصَرَتْهُمْ قَالَتْ لِقَوْمِهَا : قَدْ جَاءَتْكُمْ الشّجَرُ أَوْ قَدْ غَزَتْكُمْ حِمْيَرُ ، فَقَالُوا : قَدْ كَبِرْت وَخَرِفْت ، فَكَذّبُوهَا ، فَاسْتُبِيحَتْ بَيْضَتُهُمْ وَهُوَ الّذِي ذَكَرَ الْأَعْشَى .

قِصّةُ مَلِكِ الْحَضَرِ
[ ص 152 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي خَلّادُ بْنُ قُرّةَ بْنِ خَالِدٍ السّدُوسِيّ عَنْ جَنّادٍ ، أَوْ عَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكُوفَةِ بِالنّسَبِ أَنّهُ يُقَالُ إنّ النّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ مِنْ وَلَدِ سَاطِرُونَ مَلِكِ الْحَضَرِ . وَالْحَضَرُ حِصْنٌ عَظِيمٌ كَالْمَدِينَةِ ، كَانَ عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ ، وَهُوَ الّذِي ذَكَرَ عَدِيّ بْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ
وَأَخُو الْحَضْرِ إذْ بَنَاهُ وَإِذْ دِجْ ... لَةُ يُجْبَى إلَيْهِ وَالْخَابُورُ
شَادّهُ مَرْمَرًا وَجَلّلَهُ كِلْسًا ... فَلِلطّيْرِ فِي ذُرَاهُ وُكُورُ
لَمْ يَهَبْهُ رَيْبُ الْمَنُونِ فَبَانَ الْ ... مُلْكُ عَنْهُ فَبَابُهُ مَهْجُورُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَاَلّذِي ذَكَرَهُ أَبُو دُوَادَ الْإِيَادِيّ فِي قَوْلِهِ
وَأَرَى الْمَوْتَ قَدْ تَدَلّى مِنْ الْحَضْ ... رِ عَلَى رَبّ أَهْلِهِ السّاطِرُونِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَيُقَالُ إنّهَا لِخَلَفِ الْأَحْمَرِ وَيُقَالُ لِحَمّادِ الرّاوِيَةِ .
Sخَبَرُ الْحَضْرِ وَالسّاطِروُنِ
[ ص 152 ] ذَكَرَ فِيهِ قَوْلَ مَنْ قَالَ إنّ النّعْمَانَ مِنْ وَلَدِ السّاطِرُونِ وَهُوَ صَاحِبُ الْحَضْرِ . قَالَ الْمُؤَلّفُ فَنَذْكُرُ شَرْحَ قِصّةِ الْحَضَرِ وَصَاحِبِهِ وَمَا قِيلَ فِي ذَلِكَ مُلَخّصًا بِعَوْنِ اللّهِ . السّاطِرُونُ بالسريانية : هُوَ الْمَلِكُ وَاسْمُ السّاطِرُونِ الضّيْزَنُ بْنُ مُعَاوِيَةَ . قَالَ الطّبَرِيّ : هُوَ جُرْمُقَانِيّ ، [ ص 153 ] وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيّ هُوَ قُضَاعِيّ مِنْ الْعَرَبِ الّذِينَ تَنَخُوا بِالسّوَادِ فَسُمّوا : تَنُوخَ ، أَيْ أَقَامُوا بِهَا ، وَهُمْ قَبَائِلُ شَتّى ، وَنَسَبَهُ ابْنُ الْكَلْبِيّ فَقَالَ هُوَ ابْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عُبَيْدٍ ، وَوَجَدْته بِخَطّ أَبِي بَحْرٍ عُبَيْدٌ بِضَمّ الْعَيْنِ بْنُ أَجْرَمَ مِنْ بَنِي سَلِيحِ بْنِ حُلْوَانَ بْنِ الْحَافّ بْنِ قُضَاعَةَ ، وَأُمّهُ جَيْهَلَةُ وَبِهَا كَانَ يُعْرَفُ وَهِيَ أَيْضًا قُضَاعِيّةٌ مِنْ بَنِي تَزِيدَ الّذِينَ تُنْسَبُ إلَيْهِمْ الثّيَابُ التّزِيدِيّةُ . وَذَكَرَ قَوْلَ أَبِي دُوَاد :
وَأَرَى الْمَوْتَ قَدْ تَدَلّى مِنْ الْحَضْ ـ ... رِ عَلَى رَبّ أَهْلِهِ السّاطِرُونِ
وَاسْمُ أَبِي دُوَاد : جَارِيَةُ بْنُ حَجّاجٍ وَقِيلَ حَنْظَلَةُ بْنُ شَرْقِيّ وَبَعْدَ هَذَا الْبَيْتِ
صَرَعَتْهُ الْأَيّامُ مِنْ بَعْدِ مُلْكٍ ... وَنَعِيمٍ وَجَوْهَرٍ مَكْنُونٍ

كَيْفَ اسْتَوْلَى سَابُورُ عَلَى الْحَضْرِ
وَكَانَ كِسْرَى سَابُورُ ذُو الْأَكْتَافِ غَزَا سَاطِرُونَ مَلِكَ الْحَضْرِ ، فَحَصَرَهُ سَنَتَيْنِ فَأَشْرَفَتْ بِنْتُ سَاطِرُونَ يَوْمًا ، فَنَظَرَتْ إلَى سَابُورَ وَعَلَيْهِ ثِيَابُ دِيبَاجٍ وَعَلَى رَأْسِهِ تَاجٌ مِنْ ذَهَبٍ مُكَلّلٍ بِالزّبَرْجَدِ وَالْيَاقُوتِ وَاللّؤْلُؤِ وَكَانَ جَمِيلًا ، فَدَسّتْ إلَيْهِ أَتَتَزَوّجُنِي إنْ فَتَحْت لَك بَابَ الْحَضَرِ ؟ فَقَالَ نَعَمْ فَلَمّا أَمْسَى سَاطِرُونَ شَرِبَ حَتّى سَكِرَ وَكَانَ لَا يَبِيتُ إلّا سَكْرَانَ فَأَخَذَتْ مَفَاتِيحَ بَابِ الْحَضَرِ مِنْ تَحْتِ رَأْسِهِ فَبَعَثَتْ بِهَا مَعَ مَوْلًى لَهَا فَفَتَحَ الْبَابَ فَدَخَلَ سَابُورُ فَقَتَلَ سَاطِرُونَ وَاسْتَبَاحَ الْحَضْرَ وَخَرّبَهُ وَسَارَ بِهَا فَتَزَوّجَهَا ، فَبَيْنَا هِيَ نَائِمَةٌ عَلَى فِرَاشِهَا لَيْلًا إذْ جَعَلَتْ تَتَمَلْمَلُ لَا تَنَامُ فَدَعَا لَهَا بِشَمْعِ فَفَتّشَ فِرَاشَهَا ، فَوَجَدَ عَلَيْهِ وَرَقَةَ آسٍ فَقَالَ لَهَا سَابُورُ أَهَذَا الّذِي أَسْهَرَك ؟ قَالَتْ نَعَمْ قَالَ فَمَا كَانَ [ ص 153 ] أَبُوك يَصْنَعُ بِك ؟ قَالَتْ كَانَ يَفْرِشُ لِي الدّيبَاجَ وَيُلْبِسُنِي الْحَرِيرَ وَيُطْعِمُنِي الْمُخّ وَيَسْقِينِي الْخَمْرَ قَالَ أَفَكَانَ جَزَاءُ أَبِيك مَا صَنَعْت بِهِ ؟ أَنْتَ إلَيّ بِذَلِكَ أَسْرَعُ ثُمّ أَمَرَ بِهَا ، فَرُبِطَتْ قُرُونُ رَأْسِهَا بِذَنَبِ فَرَسٍ ثُمّ رَكَضَ الْفَرَسُ ، حَتّى قَتَلَهَا ، فَفِيهِ يَقُولُ أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ
أَلَمْ تَرَ لِلْحَضْرِ إذْ أَهْلُهُ ... بِنُعْمَى ، وَهَلْ خَالِدٌ مَنْ نَعِمْ
أَقَامَ بِهِ شَاهَبُورُ الجنو ... د حَوْلَيْنِ تَضْرِبُ فِيهِ الْقُدُمْ
فَلَمّا دَعَا رَبّهُ دَعْوَةً ... أَنَابَ إلَيْهِ فَلَمْ يَنْتَقِمْ
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَقَالَ عَدِيّ بْنُ زَيْدٍ فِي ذَلِكَ
وَالْحَضْرُ صَابَتْ عَلَيْهِ دَاهِيَةٌ ... مِنْ فَوْقِهِ أَيْدٌ مَنَاكِبُهَا
رَبِيّةٌ لَمْ تُوَقّ وَالِدَهَا ... لِحَيْنِهَا إذْ أَضَاعَ رَاقِبُهَا
إذْ غَبَقَتْهُ صَهْبَاءَ صَافِيَةً ... وَالْخَمْرُ وَهْلٌ يَهِيمُ شَارِبُهَا
فَأَسْلَمَتْ أَهْلَهَا بِلَيْلَتِهَا ... تَظُنّ أَنّ الرّئِيسَ خَاطِبُهَا
فَكَانَ حَظّ الْعَرُوسِ إذْ جَشَرَ الصّ ... بْحُ دِمَاءً تَجْرِي سَبَائِبُهَا
وَخُرّبَ الْحَضْرُ وَاسْتُبِيحَ وَقَدْ ... أُحْرِقَ فِي خِدْرِهَا مَشَاجِبُهَا
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . [ ص 154 ] [ ص 155 ] [ ص 156 ] [ ص 157 ] [ ص 158 ] [ ص 159 ] [ ص 154 ]
Sوَكَانَ الضّيْزَنُ مِنْ مُلُوكِ الطّوَائِفِ وَكَانَ يُقَدّمُهُمْ إذَا اجْتَمَعُوا لِحَرْبِ عَدُوّ مِنْ غَيْرِهِمْ وَكَانَتْ الْحَضْرُ بَيْنَ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ ، وَكَانَ مُلْكُهُ يَبْلُغُ أَطْرَارَ الشّامِ ، وَكَانَ سَابُورُ قَدْ تَغَيّبَ عَنْ الْعِرَاقِ إلَى خُرَاسَانَ ، فَأَغَارَ الضّيْزَنُ عَلَى بِلَادِهِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْعَرَبِ ، فَلَمّا قَفَلَ سَابُورُ وَأُخْبِرَ بِصُنْعِ الضّيْزَنِ نَهَدَ إلَيْهِ وَأَقَامَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ سِنِينَ . وَذَكَرَ الْأَعْشَى فِي شِعْرِهِ حَوْلَيْنِ لَا يَقْدِرُ عَلَى فَتْحِ الْحِصْنِ وَكَانَ لِلضّيْزَنِ بِنْتٌ اسْمُهَا : النّضِيرَةُ وَفِيهَا قِيلَ
أَقْفَرَ الْحَضْرُ مِنْ نَضِيرَةَ فَالْمِ ... رْبَاعُ مِنْهَا فَجَانِبُ الثّرْثَارِ
وَكَانَتْ سُنّتُهُمْ فِي الْجَارِيَةِ إذَا عَرَكَتْ أَيْ حَاضَتْ أَخَرَجُوهَا إلَى رَبَضِ الْمَدِينَةِ ، فَعَرَكَتْ النّضِيرَةُ فَأُخْرِجَتْ إلَى رَبَضِ الْحَضْرِ فَأَشْرَفَتْ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَبْصَرَتْ سَابُورَ - وَكَانَ مِنْ أَجْمَلِ النّاسِ - فَهَوِيَتْهُ فَأَرْسَلَتْ إلَيْهِ أَنْ يَتَزَوّجَهَا ، وَتَفْتَحَ لَهُ الْحَضْرَ وَاشْتَرَطَتْ عَلَيْهِ وَالْتَزَمَ لَهَا مَا أَرَادَتْ ثُمّ اُخْتُلِفَ فِي السّبَبِ الّذِي دَلّتْ عَلَيْهِ فَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ مَا فِي الْكِتَابِ وَقَالَ الْمَسْعُودِيّ : دَلّتْهُ عَلَى نَهَرٍ وَاسِعٍ [ اسْمُهُ الثّرْثَارُ ] كَانَ يَدْخُلُ مِنْهُ الْمَاءُ إلَى الْحَضْرِ فَقَطَعَ لَهُمْ الْمَاءَ وَدَخَلُوا مِنْهُ . وَقَالَ الطّبَرِيّ : دَلّتْهُ عَلَى طِلَسْمٍ [ أَوْ طِلّسْمٍ ] كَانَ فِي الْحَضْرِ وَكَانَ فِي عِلْمِهِمْ أَنّهُ لَا يُفْتَحُ حَتّى تُؤْخَذَ حَمَامَةٌ وَرْقَاءُ وَتُخْضَبُ رِجْلَاهَا بِحَيْضِ جَارِيَةٍ بِكْرٍ زَرْقَاءَ ثُمّ تُرْسَلُ الْحَمَامَةُ فَتَنْزِلُ عَلَى سُورِ الْحَضْرِ فَيَقَعُ الطّلّسْمُ فَيُفْتَحُ الْحَضْرُ فَفَعَلَ سَابُورُ ذَلِكَ فَاسْتَبَاحَ الْحَضْرَ وَأَبَادَ قَبَائِلَ مِنْ قُضَاعَةَ كَانُوا فِيهِ مِنْهُمْ بَنُو عُبَيْدٍ رَهْطُ الضّيْزَنِ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ عَقِبٌ وَحَرَقَ خَزَائِنَ الضّيْزَنِ وَاكْتَسَحَ مَا فِيهَا ، ثُمّ قَفَلَ بِنَضِيرَةَ مَعَهُ وَذَكَرَ الطّبَرِيّ فِي قَتْلِهِ إيّاهَا حِين تَمَلْمَلَتْ عَلَى الْفِرَاشِ الْوَثِيرِ وَلِينِ الْحَرِيرِ أَنّهُ قَالَ لَهَا : مَا كَانَ يَصْنَعُ بِك أَبُوك ؟ فَقَالَتْ كَانَ يُطْعِمُنِي الْمُخّ وَالزّبْدَ وَشَهْدُ أَبْكَارَ النّحْلِ وَصَفْوَ الْخَمْرِ . وَذَكَرَ أَنّهُ كَانَ يَرَى مُخّهَا مِنْ صَفَاءِ بَشَرَتِهَا ، وَأَنّ وَرَقَةَ الْآسَ أَدْمَتْهَا فِي عُكْنَةٍ مِنْ عُكَنِهَا ، وَأَنّ الْفِرَاشَ الّذِي نَامَتْ عَلَيْهِ كَانَ مِنْ حَرِيرٍ حَشْوُهُ الْقَزّ . وَقَالَ الْمَسْعُودِيّ : كَانَ حَشْوُهُ زَغَبِ الطّيْرِ ثُمّ اتّفَقُوا فِي صُورَةِ قَتْلِهَا كَمَا ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ غَيْرَ أَنّ ابْنَ إسْحَاقَ قَالَ كَانَ الْمُسْتَبِيحُ لِلْحَضْرِ سَابُورُ ذُو [ ص 155 ] وَجَعَلَهُ غَيْرُ سَابُورَ بْنِ أَزْدَشِيرَ بْنِ بَابِك ، وَقَدْ تَقَدّمَ أَنّ أَزْدَشِيرَ هُوَ أَوّلُ مَنْ جَمَعَ مُلْكَ فَارِسَ ، وَأَذَلّ مُلُوكَ الطّوَائِفِ حَتّى دَانَ الْمُلْكُ لَهُ وَالضّيْزَنُ كَانَ مِنْ مُلُوكِ الطّوَائِفِ فَيَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْقِصّةُ لِسَابُورَ ذِي الْأَكْتَافِ وَهُوَ سَابُورُ بْنُ هُرْمُزَ وَهُوَ ذُو الْأَكْتَافِ لِأَنّهُ كَانَ بَعْدَ سَابُورَ الْأَكْبَرِ بِدَهْرِ طَوِيلٍ وَبَيْنَهُمْ مُلُوكٌ مُسَمّوْنَ فِي كُتُبِ التّارِيخِ وَهُمْ هُرْمُزُ بْنُ سَابُورَ وَبَهْرَامُ بْنُ هُرْمُزَ وَبَهْرَامُ بْنُ بَهْرَامَ وَبَهْرَامُ الثّالِثُ وَنُرْسِي بْنُ بَهْرَامَ وَبَعْدَهُ كَانَ ابْنُهُ سَابُورُ ذُو الْأَكْتَافِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَقَوْلُ الْأَعْشَى : شَاهَبُورُ الْجُنُودِ بِخَفْضِ الدّالِ يَدُلّ عَلَى أَنّهُ لَيْسَ بِشَاهَبُورَ ذِي الْأَكْتَافِ وَأَمّا إنْشَادُهُ لِأَبْيَاتِ عَدِيّ بْنِ زَيْدٍ :
وَأَخُو الْحَضْرِ إذْ بَنَاهُ وَإِذْ ... دِجْلَةُ يُجْبَى إلَيْهِ وَ الْخَابُورُ
فَلِلشّعْرِ خَبَرٌ عَجِيبٌ . حَدّثَنَا إجَازَةً الْقَاضِي الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ عَنْ ابْنِ أَيّوبَ عَنْ الْبُرْقَانِيّ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيّ بْنِ عُمَرَ قَالَ حَدّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْأَزْرَقُ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إسْحَاقَ بْنِ الْبُهْلُولِ قَالَ حَدّثَنِي جَدّي ، قَالَ حَدّثَنِي أَبِي ، عَنْ إسْحَاقَ بْنِ زِيَادٍ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ بْنِ لُؤَيّ عَنْ شُبَيْبِ بْنِ شَيْبَةَ عَنْ خَالِدِ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ الْأَهْتَمِ قَالَ أَوْفَدَنِي يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ إلَى هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي وَفْدِ [ أَهْلِ ] الْعِرَاق ِ قَالَ فَقَدِمْت عَلَيْهِ وَقَدْ خَرَجَ مُتَبَدّيًا بِقَرَابَتِهِ وَأَهْلِهِ وَحَشَمِهِ وَغَاشِيَتِهِ مِنْ جُلَسَائِهِ فَنَزَلَ فِي أَرْضِ قَاعٍ صَحْصَحٍ مُتَنَايِفٍ أَفْيَحَ فِي عَامٍ [ قَدْ ] بَكّرَ وَسْمِيّهُ وَتَتَابَعَ وَلِيّهُ وَأَخَذَتْ الْأَرْضُ [ فِيهِ ] زِينَتِهَا مِنْ اخْتِلَافِ أَنْوَارِ نَبْتِهَا مِنْ نُورِ رَبِيعٍ مُونِقٍ فَهُوَ أَحْسَنُ مَنْظَرًا ، وَأَحْسَنُ مُسْتَنْظَرًا ، وَأَحْسَنُ مُخْتَبَرًا بِصَعِيدِ كَأَنّ تُرَابَهُ قِطَعُ الْكَافُورِ حَتّى لَوْ أَنّ قِطْعَةً أُلْقِيَتْ فِيهِ لَمْ تَتْرَبْ قَالَ وَقَدْ ضُرِبَ لَهُ سُرَادِقٌ مِنْ حِبَرَةٍ كَانَ صَنَعَهُ لَهُ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ بِالْيَمَنِ ، فِيهِ فُسْطَاطٌ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَفْرِشَةٍ مِنْ خَزّ أَحْمَرَ مِثْلُهَا مَرَافِقُهَا وَعَلَيْهِ دُرّاعَةٌ مِنْ خَزّ أَحْمَرَ مِثْلُهَا عِمَامَتُهَا ، قَالَ وَقَدْ أَخَذَ النّاسُ مَجَالِسَهُمْ فَأَخْرَجْت رَأْسِي مِنْ نَاحِيَةِ الطّاقِ فَنَظَرَ إلَيّ شِبْهَ الْمُسْتَنْطَقِ [ لِي ] ؛ فَقُلْت : أَتَمّ اللّهُ عَلَيْك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نِعْمَةً سَوّغَكَهَا بِشُكْرِ وَجَعَلَ مَا قَلّدَك مِنْ هَذَا الْأَمْرِ رُشْدًا ، وَعَاقِبَةً مَا تَئُول إلَيْهِ حَمْدًا ، وَأَخْلَصَهُ لَك بِالتّقَى ، وَكَثّرَهُ لَك بِالنّمَاءِ وَلَا كَدَرَ عَلَيْك [ ص 156 ] صَفَا ، وَلَا خَالَطَ سُرُورَهُ الرّدَى ؛ فَقَدْ أَصْبَحَتْ لِلْمُسْلِمِينَ ثِقَةٌ وَمُسْتَرَاحًا . إلَيْك يَقْصِدُونَ فِي أُمُورِهِمْ وَإِلَيْك يَفْزَعُونَ فِي مَظَالِمِهِمْ وَمَا أَجِدُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ شَيْئًا - جَعَلَنِي اللّهُ فِدَاءَك - هُوَ أَبْلَغُ فِي قَضَاءِ حَقّك وَتَوْقِيرِ مَجْلِسِك مِمّا مَنّ اللّهِ [ جَلّ وَعَزّ ] بِهِ عَلَيّ مِنْ مُجَالَسَتِك ، وَالنّظَرِ إلَى وَجْهِك مِنْ أَنْ أُذَكّرَك نِعَمَ اللّهِ عَلَيْك ، وَأُنَبّهَك لِشُكْرِهَا ، وَمَا أَجِدُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ شَيْئًا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ حَدِيثِ مَنْ سَلَفَ قَبْلَك مِنْ الْمُلُوكِ فَإِنْ أَذِنَ لِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَخْبَرْته عَنْهُ . قَالَ فَاسْتَوَى جَالِسًا - وَكَانَ مُتّكِئًا - ثُمّ قَالَ هَاتِ يَا ابْنَ الْأَهْتَمِ [ قَالَ ] : فَقُلْت : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنّ مَلِكًا مِنْ الْمُلُوكِ قَبْلَك خَرَجَ فِي عَامٍ مِثْلِ عَامِنَا هَذَا إلَى الْخَوَرْنَقِ وَالسّدِيرِ فِي عَامٍ قَدْ بَكّرَ وَسْمِيّهُ وَتَتَابَعَ وَلِيّهُ وَأَخَذَتْ الْأَرْضُ فِيهِ زِينَتَهَا مِنْ نُورِ رَبِيعٍ مُونِقٍ فَهُوَ فِي أَحْسَنِ مَنْظَرٍ وَأَحْسَنِ مُسْتَنْظَرٍ وَأَحْسَنِ مُخْتَبَرٍ بِصَعِيدِ كَأَنّ تُرَابَهُ قِطَعُ الْكَافُورِ حَتّى لَوْ أَنّ قِطْعَةً أُلْقِيَتْ فِيهِ لَمْ تَتْرَبْ . قَالَ وَقَدْ كَانَ أُعْطِيَ فَتَاءَ السّنّ مَعَ الْكَثْرَةِ وَالْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ قَالَ فَنَظَرَ فَأَبْعَدَ النّظَرَ فَقَالَ لِجُلَسَائِهِ لِمَنْ [ مِثْلُ ] هَذَا ؟ هَلْ رَأَيْتُمْ مِثْلَ مَا أَنَا فِيهِ ؟ [ و ] هَلْ أُعْطِيَ أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُعْطِيت ؟ قَالَ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ مِنْ بَقَايَا حَمَلَةِ الْحَجّةِ وَالْمُضِيّ عَلَى أَدَبِ الْحَقّ وَمِنْهَاجِهِ . قَالَ وَلَنْ تَخْلُوَا الْأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لِلّهِ بِحُجّتِهِ فِي عِبَادِهِ فَقَالَ أَيّهَا الْمَلِكُ إنّك قَدْ سَأَلْت عَنْ أَمْرٍ أَفَتَأْذَنُ فِي الْجَوَابِ عَنْهُ ؟ قَالَ نَعَمْ . قَالَ أَرَأَيْت مَا أَنْتَ فِيهِ أَشَيْءٌ لَمْ تَزَلْ فِيهِ أَمْ شَيْءٌ صَارَ إلَيْك مِيرَاثًا مِنْ غَيْرِك ، وَهُوَ زَائِلٌ عَنْك ، وَصَائِرٌ إلَى غَيْرِك ، كَمَا صَارَ إلَيْك مِيرَاثًا مِنْ لَدُنْ غَيْرِك ؟ قَالَ فَكَذَلِكَ هُوَ . قَالَ فَلَا أَرَاك [ إلّا ] أُعْجِبْت بِشَيْءِ يَسِيرٍ تَكُونُ فِيهِ قَلِيلًا ، وَتَغِيبُ عَنْهُ طَوِيلًا ، وَتَكُونُ غَدًا بِحِسَابِهِ مُرْتَهِنًا . قَالَ وَيْحَك فَأَيْنَ الْمَهْرَبُ ؟ وَأَيْنَ الْمَطْلَبُ ؟ قَالَ إمّا أَنْ تُقِيمَ فِي مُلْكِك ، تَعْمَلُ فِيهِ بِطَاعَةِ [ اللّهِ ] رَبّك عَلَى مَا سَاءَك وَسَرّك ، وَمَضّكَ وَأَرْمَضَكَ وَإِمّا أَنْ تَضَعَ تَاجَك ، وَتَضَعَ أَطْمَارَك ، وَتَلْبَسَ أَفَسَاحَك ، وَتَعْبُدَ رَبّك فِي هَذَا الْجَبَلِ حَتّى يَأْتِيَك أَجَلُك . قَالَ فَإِذَا كَانَ فِي السّحَرِ فَاقْرَعْ عَلَيّ بَابِي ، فَإِنّي مُخْتَارٌ أَحَدَ الرّأْيَيْنِ فَإِنْ اخْتَرْت مَا أَنَا فِيهِ كُنْت وَزِيرًا ، لَا تُعْصَى ، وَإِنْ اخْتَرْت خَلَوَاتِ الْأَرْضِ وَقَفْرَ الْبِلَادِ كُنْت رَفِيقًا ، لَا تُخَالِفُ . قَالَ فَقَرَعَ عَلَيْهِ بَابَهُ عِنْدَ السّحَرِ فَإِذَا هُوَ قَدْ وَضَعَ تَاجَهُ [ وَخَلَعَ أَطْمَارَهُ ] وَلَبِسَ أَمْسَاحَهُ وَتَهَيّأَ لِلسّيَاحَةِ قَالَ فَلَزِمَا - وَاَللّهِ - الْجَبَلَ حَتّى أَتَتْهُمَا آجَالُهُمَا ، وَهُوَ حَيْثُ يَقُولُ أَحَدُ بَنِي تَمِيمٍ : عَدِيّ بْنُ [ زَيْدُ ] بْنُ سَالِمٍ الْمُرّيّ الْعَدَوِيّ [ ص 157 ]
أَيّهَا الشّامِتُ الْمُعِيرُ بِالدّ ... هْرِ أَأَنْتَ المبرأ الْمَوْفُورُ ؟
أَمْ لَدَيْك الْعَهْدُ الْوَثِيقُ مِنْ الْأَيّا ... مِ ؟ بَلْ أَنْتَ جَاهِلٌ مَغْرُورُ
مَنْ رَأَيْت الْمَنُونَ خَلّدْنَ أَمْ مَنْ ... ذَا عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يُضَامَ خَفِيرُ
أَيْنَ كِسْرَى كِسْرَى الْمُلُوكِ أَنُو ... شِرْوَانَ أَمْ أَيْنَ قَبْلَهُ سَابُورُ ؟
وَبَنُو الْأَصْفَرِ الْكِرَامِ مُلُوكُ الرّ ... ومِ ؟ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ مَذْكُورٌ
وَأَخُو الْحَضْرِ إذْ بَنَاهُ وَإِذْ دِجْ ... لَةُ تُجْبَى إلَيْهِ وَ الْخَابُورُ
شَادَهُ مَرْمَرًا ، وَجَلّلَهُ كِلْس ... ا فَلِلطّيْرِ فِي ذُرَاهُ وُكُورُ
لَمْ يَهَبْهُ رَيْبُ الْمَنُونِ فَبَا نَ ... الْمُلْكُ عَنْهُ فَبَابُهُ مَهْجُورُ
وَتَذَكّرْ رَبّ الْخَوَرْنَقِ إذْ ... أَشْرَفَ يَوْمًا ، وَلِلْهُدَى تَفْكِيرُ
سَرّهُ مَالُهُ وَكَثْرَةُ مَا يَمْلِكُ ... وَالْبَحْرُ مُعْرِضًا وَالسّدِيرُ
فَارْعَوَى قَلْبُهُ وَقَالَ وَمَا غِبْطَةُ ... حَيّ إلَى الْمَمَاتِ يَصِيرُ ؟
ثُمّ أَضْحَوْا كَأَنّهُمْ وَرَقٌ جَفّ ... فَأَلَوْت بِهِ الصّبَا وَالدّبُورُ
ثُمّ بَعْدَ الْفَلَاحِ وَالْمُلْكِ ... وَالْإِمّةِ وَارَتْهُمْ هُنَاكَ الْقُبُورُ
قَالَ فَبَكَى [ وَاَللّهِ ] هِشَامٌ حَتّى أَخْضَلَ لِحْيَتَهُ وَبَلّ عِمَامَتَهُ وَأَمَرَ بِنَزْعِ أَبْنِيَتِهِ وَبِنُقْلَانِ قَرَابَتِهِ وَأَهْلِهِ وَحَشَمِهِ وَغَاشِيَتِهِ مِنْ جُلَسَائِهِ وَلَزِمَ قَصْرَهُ . قَالَ فَأَقْبَلَتْ الْمَوَالِي وَالْحَشَمُ عَلَى خَالِدِ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ الْأَهْتَمِ وَقَالُوا : مَا أَرَدْت إلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ؟ أَفْسَدْت عَلَيْهِ لَذّتَهُ وَنَغّصْت عَلَيْهِ مَأْدُبَتَهُ . قَالَ إلَيْكُمْ عَنّي فَإِنّي عَاهَدْت اللّهَ [ عَزّ وَجَلّ ] عَهْدًا أَلّا أَخْلُوَ بِمَلِكِ إلّا ذَكّرْته اللّهَ عَزّ وَجَلّ . وَاَلّذِي ذَكَرَهُ عَدِيّ بْنُ زَيْدٍ فِي هَذَا الشّعْرِ هُوَ النّعْمَانُ بْنُ امْرِئِ الْقَيْسِ جَدّ النّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ ، وَأَوّلُ هَذَا الشّعْرِ
أَرْوَاحٌ مُوَدّعٌ أَمْ بُكُورُ ... [ لَك ] فَانْظُرْ لِأَيّ ذَاكَ تَصِيرُ
[ ص 158 ] قَالَهُ عَدِيّ ، وَهُوَ فِي سِجْنِ النّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ ، وَفِيهِ قُتِلَ وَهُوَ عَدِيّ بْنُ زَيْدِ بْنِ حَمّادِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَيّوبَ بْنِ مَحْرُوبِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عُصَيّةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ وَقَالَ عَمْرُو بْنُ آلَةَ بْنِ الْخَنْسَاءِ
أَلَمْ يُنَبّئْك وَالْأَنْبَاءُ تَنْمَى ... بِمَا لَاقَتْ سَرَاةَ بَنِي الْعَبِيدِ
وَمَصْرَعُ ضَيْزَنٍ وَبَنِيّ أَبِيهِ ... وَأَحْلَاسُ الْكَتَائِبِ مِنْ تَزِيدَ
أَتَاهُمْ بِالْفُيُولِ مُجَلّلَاتٍ ... وَبِالْأَبْطَالِ سَابُورُ الْجُنُودِ
فَهَدّمَ مِنْ أَوَاسِي الْحَضْرِ صَخْرًا ... كَأَنّ ثِقَالَهُ زُبَرُ الْحَدِيدِ
وَقَالَ الْأَعْشَى :
أَقَامَ بِهِ شَاهَبُورُ الجنو ... د حَوْلَيْنِ تُضْرَبُ فِيهِ الْقُدُمُ
وَقَدْ قَدّمْنَا أَنّ شَاهَبُورَ مَعْنَاهُ ابْنُ الْمَلِكِ وَأَنّ بُورَ هُوَ الِابْنُ بِلِسَانِهِمْ وَفِي هَذَا الْبَيْتِ دَلِيلٌ عَلَى مَا قُلْنَاهُ مِنْ أَنّ سَابُورَ مُغَيّرٌ عَنْ شَاهَبُورَ . وَالْقُدُمُ جَمْعُ قَدُومٍ وَهُوَ الْفَأْسُ وَنَحْوُهُ وَالْقَدُومُ : اسْمُ مَوْضِعٍ أَيْضًا اُخْتُتِنَ فِيهِ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السّلَام الّذِي جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنّ إبْرَاهِيمَ اخْتَتَنَ بِالْقَدُومِ مُخَفّفٌ أَيْضًا ، وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ التّشْدِيدُ . وَبَعْدَهُ
فَهَلْ زَادَهُ رَبّهُ قُوّةً ... وَمِثْلُ مُجَاوِرِهِ لَمْ يَقُمْ
وَكَانَ دَعَا قَوْمَهُ دَعْوَةً ... هَلُمّوا إلَى أَمْرِكُمْ قَدْ صُرِمَ
فَمُوتُوا كِرَامًا بِأَسْيَافِكُمْ ... أَرَى الْمَوْتَ يَجْشَمُهُ مَنْ جَشِمْ
وَفِي الشّعْرِ وَهَلْ خَالِدٌ مَنْ نَعِمْ . يُقَالُ نَعِمَ يَنْعِمُ وَيَنْعَمُ مِثْلُ حَسِبَ يَحْسِبُ وَيَحْسَبُ . وَفِي أَدَبِ الْكَاتِبِ أَنّهُ يُقَالُ نَعِمَ يَنْعُمُ مِثْلُ فَضَلَ يَفْضُلُ . حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ سِيبَوَيْهِ ، وَهُوَ غَلَطٌ مِنْ الْقُتَبِيّ وَمَنْ تَأَمّلَهُ فِي كِتَابِ سِيبَوَيْهِ تَبَيّنَ لَهُ غَلَطُ الْقُتَبِيّ وَأَنّ سِيبَوَيْهِ لَمْ يَذْكُرْ الضّمّ إلّا فِي فَضَلَ يَفْضُلُ . [ ص 159 ] عَدِيّ بْنِ زَيْدٍ : رَبِيّةٌ لَمْ تُوَقّ وَالِدَهَا . يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ فَعِيلَةً مِنْ رَبِيت إلّا أَنّ الْقِيَاسَ فِي فَعَيْلَةٍ بِمَعْنَى : مَفْعُولَةٍ أَنْ تَكُونَ بِغَيْرِ هَاءٍ وَيَحْتَمِلُ أَنّهُ أَرَادَ مَعْنَى الرّبْوِ وَالنّمَاءِ لِأَنّهَا رَبَتْ فِي نِعْمَةٍ فَتَكُونُ بِمَعْنَى فَاعِلَةٍ وَيَكُونُ الْبِنَاءُ مُوَافِقًا لِلْقِيَاسِ وَأَصَحّ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ رَبِيئَةً بِالْهَمْزِ وَسَهّلَ الْهَمْزَةَ فَصَارَتْ يَاءً وَجَعَلَهَا رَبِيئَةً لِأَنّهَا كَانَتْ طَلِيعَةً حَيْثُ اطّلَعَتْ حَتّى رَأَتْ سَابُورَ وَجُنُودَهُ وَيُقَالُ لِلطّلِيعَةِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى : رَبِيئَةٌ وَيُقَالُ لَهُ رَبَاءُ عَلَى وَزْنِ فَعَالٍ وَأَنْشَدُوا : رَبَاءُ شَمّاءُ لَا يَأْوِي نَقْلَتُهَا ، الْبَيْتُ . وَقَوْلُهُ أَضَاعَ رَاقِبُهَا ، أَيْ أَضَاعَ الْمَرْبَأَةُ الّذِي يَرْقُبُهَا وَيَحْرُسُهَا ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْهَاءُ عَائِدَةً عَلَى الْجَارِيَةِ أَيْ أَضَاعَهَا حَافِظُهَا . وَقَوْلُهُ وَالْخَمْرُ وَهْلٌ . يُقَالُ وَهِلَ الرّجُلُ وَهْلًا وَوَهَلًا إذَا أَرَادَ شَيْئًا ، فَذَهَبَ وَهْمُهُ إلَى غَيْرِهِ . وَيُقَالُ فِيهِ وَهَمَ أَيْضًا بِفَتْحِ الْهَاءِ وَأَمّا وَهِمَ بِالْكَسْرِ فَمَعْنَاهُ غَلَطٌ وَأَوْهَمَ بِالْأَلِفِ مَعْنَاهُ أَسْقَطَ . وَقَوْلُهُ سَبَائِبُهَا . السّبَائِبُ جَمْعُ : سَبِيبَةٍ وَهِيَ كَالْعِمَامَةِ أَوْ نَحْوِهَا ، وَمِنْهُ السّبّ وَهُوَ الْخِمَارُ . وَقَوْلُهُ فِي خِدْرِهَا مَشَاجِبُهَا . الْمَشَاجِبُ جَمْعُ مِشْجَبٍ وَهُوَ مَا تَعَلّقَ مِنْهُ الثّيَابُ وَمِنْهُ قَوْلُ جَابِرٍ وَإِنّ ثِيَابِي لَعَلَى الْمِشْجَبِ وَكَانُوا يُسَمّونَ الْقِرْبَةَ شَجْبًا ؛ لِأَنّهَا جِلْدُ مَاءٍ قَدْ شَجِبَ أَيْ عَطِبَ وَكَانُوا لَا يُمْسِكُونَ الْقِرْبَةَ وَهِيَ الشّجْبُ إلّا مُعَلّقَةً فَالْعَوْدُ الّذِي تَعَلّقَ بِهِ هُوَ الْمِشْجَبُ حَقِيقَةً ثُمّ اتْسَعُوا ، فَسَمّوا مَا تَعَلّقَ بِهِ الثّيَابُ مِشْجَبًا تَشْبِيهًا بِهِ . وَفِي شِعْرِ عَدِيّ الْمُتَقَدّمِ ذُكِرَ الْخَابُورُ ، وَهُوَ وَادٍ مَعْرُوفٌ وَهُوَ فَاعُولٌ مِنْ خَبَرْت الْأَرْضَ إذَا حَرَثْتهَا ، وَهُوَ وَادٍ عَظِيمٌ عَلَيْهِ مَزَارِعُ . قَالَتْ لَيْلَى أُخْتُ الْوَلِيدِ بْنِ طَرِيفٍ الْخَارِجِيّ الشّيْبَانِيّ حِينَ قُتِلَ أَخُوهَا الْوَلِيدُ قَتَلَهُ يَزِيدُ بْنُ مَزِيدٍ الشّيْبَانِيّ أَيّامَ الرّشِيدِ فَلَمّا قُتِلَ قَالَتْ أُخْتُهُ
أَيَا شَجَرَ الْخَابُورِ مَا لَك مُورِقًا
كَأَنّك لَمْ تَحْزَنْ عَلَى ابْنِ طَرِيفِ
فَقَدْنَاهُ فُقْدَانَ الرّبِيعِ وَلَيْتَنَا
فَدَيْنَاهُ مِنْ سَادَاتِنَا بِأُلُوفِ
[ ص 160 ] الْخَافُورُ بِالْفَاءِ فَنَبَاتٌ تَخْفِرُ رِيحُهُ أَيْ تَقْطَعُ شَهْوَةَ النّسَاءِ كَمَا يَفْعَلُ الْحَبَقُ وَيُقَالُ لَهُ الْمَرْوُ وَبِهَذَا الِاسْمِ يَعْرِفُهُ النّاسُ وَهُوَ الزّغْبُرُ أَيْضًا .

ذِكْرُ وَلَدِ نِزَارِ بْنِ مَعَدّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 160 ] فَوَلَدَ نِزَارُ بْنُ مَعَدّ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ مُضَرَ بْنَ نِزَارٍ ، وَرَبِيعَةَ بْنَ نِزَارٍ ، وَأَنْمَارَ بْنَ نِزَارٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَإِيَادُ بْنُ نِزَارٍ . قَالَ الْحَارِثُ بْنُ دَوْسٍ الْإِيَادِيّ ، وَيُرْوَى لِأَبِي دُوَاد الْإِيَادِيّ وَاسْمُهُ جَارَةُ بْنُ الْحَجّاجِ
وَفُتُوّ حَسَنٌ أَوْجُهُهُمْ ... مِنْ إيَادِ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدّ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ . فَأُمّ مُضَرَ وَإِيَادٍ : سَوْدَةُ بِنْتُ عَكّ بْنِ عَدْنَانَ . وَأُمّ رَبِيعَةَ وَأَنْمَارٍ : شَقِيقَةُ بِنْتُ عَكّ بْنِ عَدْنَانَ ، وَيُقَالُ جُمُعَةُ بِنْتُ عَكّ بْنِ عَدْنَانَ .
أَوْلَادُ أَنْمَارٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَنْمَارٌ أَبُو خَثْعَمَ وَبَجِيلَةَ . قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَجَلِيّ وَكَانَ سَيّدَ بَجِيلَةَ ، وَهُوَ الّذِي يَقُولُ لَهُ الْقَائِلُ
لَوْلَا جَرِيرٌ هَلَكَتْ بَجِيلَهْ ... نِعْمَ الْفَتَى ، وَبِئْسَ الْقَبِيلَهْ
وَهُوَ يُنَافِرُ الْفُرَافِصَةَ الْكَلْبِيّ إلَى الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ التّمِيمِيّ .
يَا أَقْرَعُ بْنَ حَابِسٍ يَا أَقَرْعُ ... إنّك إنْ تَصْرَعْ أَخَاك تُصْرَعُ
[ ص 161 ] فَقَالَ عَمْرٌو : بَلْ أَطْبُخُ فَلَحِقَ عَامِرٌ بِالْإِبِلِ فَجَاءَ بِهَا ، فَلَمّا رَاحَا عَلَى أَبِيهِمَا حَدّثَاهُ بِشَأْنِهِمَا ، فَقَالَ لِعَامِرِ أَنْتَ مُدْرِكَةٌ وَقَالَ لِعَمْرِو : وَأَنْتَ طَابِخَةٌ . وَأَمّا قَمْعَةُ فَيَزْعُمُ نُسّابُ مُضَرَ : أَنّ خُزَاعَةَ مِنْ وَلَدِ عَمْرِو بْنِ لُحِيّ بْنِ قَمْعَةَ بْنِ إلْيَاسَ . قَالَ
ابْنَيْ نِزَارٍ اُنْصُرَا أَخَاكُمَا ... إنّ أَبِي وَجَدْته أَبَاكُمَا
لَنْ يَغْلِبَ الْيَوْمَ أَخٌ وَالَاكُمَا وَقَدْ تَيَامَنْت ، فَلَحِقْت بِالْيَمَنِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَالَتْ الْيَمَنُ : وَبَجِيلَةُ : أَنْمَارُ بْنُ إرَاشَ بْنِ لِحْيَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْغَوْثِ بْنِ نَبْتِ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ ، وَيُقَالُ إرَاشُ بْنُ عَمْرِو بْنِ لِحْيَانَ بْنِ الْغَوْثِ . وَدَارُ بَجِيلَةَ وَخَثْعَمَ : يَمَانِيّةٌ .
أَوْلَادُ مُضَرَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَوَلَدَ مُضَرُ بْنُ نِزَارٍ رَجُلَيْنِ إلْيَاسَ بْنَ مُضَرَ ، وَعَيْلَانَ بْنَ مُضَرَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَأُمّهُمَا : جُرْهُمِيّةٌ .
أَوْلَادُ إلْيَاسَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَوَلَدَ إلْيَاسُ بْنُ مُضَرَ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ مُدْرِكَةَ بْنَ إلْيَاسَ ، وَطَابِخَةَ بْنَ إلْيَاسَ وَقَمْعَةَ بْنَ إلْيَاسَ وَأُمّهُمْ خِنْدِفُ : امْرَأَةٌ مِنْ الْيَمَنِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : خِنْدِفُ بِنْتُ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافّ بْنِ قُضَاعَةَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ اسْمُ مُدْرِكَةَ عَامِرًا ، وَاسْمُ طَابِخَةَ عَمْرًا ، وَزَعَمُوا أَنّهُمَا كَانَا فِي إبِلٍ لَهُمَا يَرْعَيَانِهَا ، فَاقْتَنَصَا صَيْدًا ، فَقَعَدَا عَلَيْهِ يَطْبُخَانِهِ وَعَدَتْ عَادِيَةٌ عَلَى إبِلِهِمَا ، فَقَالَ عَامِرٌ لِعَمْرِو : أَتُدْرِكُ الْإِبِلَ أَمْ تَطْبُخُ هَذَا الصّيْدَ ؟
Sذَكَرَ نِزَارُ بْنُ مَعَدّ وَمَنْ تَنَاسَلَ مِنْهُمْ
[ ص 162 ] [ ص 163 ] أَوْلَادَ مَعَدّ الْعَشَرَةَ فِيمَا تَقَدّمَ فَأَمّا مُضَرُ فَقَدْ تَقَدّمَ ذِكْرُهُ فِي عَمُودٍ نَسَبِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَذَكَرْنَا أَنّهُ أَوّلُ مَنْ سَنّ حُدَاءَ الْإِبِلِ وَسَبَبُهُ - فِيمَا ذَكَرُوا - أَنّهُ سَقَطَ عَنْ بَعِيرٍ فَوَثَبَتْ يَدُهُ وَكَانَ أَحْسَنَ النّاسِ صَوْتًا ، فَكَانَ يَمْشِي خَلْفَ الْإِبِلِ وَيَقُولُ وَايَدَيّاهُ وَايَدَيّاهُ يَتَرَنّمُ بِذَلِكَ فَأَعْنَقَتْ الْإِبِلُ وَذَهَبَ كَلَالُهَا ؛ فَكَانَ ذَلِكَ أَصْلُ الْحُدَاءِ عِنْدَ الْعَرَبِ ، وَذَلِكَ أَنّهَا تَنْشَطُ بِحُدَائِهَا الْإِبِلُ فَتُسْرِعُ . [ ص 161 ] أَنْمَارُ بْنُ نِزَارٍ ، وَهُوَ أَبُو بَجِيلَةَ وَخَثْعَمَ فَسُمّيَ بِالْأَنْمَارِ جَمْعُ نَمِرٍ كَمَا سُمّوا بِسِبَاعِ وَكِلَابٍ وَأُمّ بَنِيهِ بَجِيلَةُ بِنْتُ صَعْبِ بْنِ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ وُلِدَ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا أَفْتَلُ وَهُوَ خَثْعَمُ ، وَوَلَدَتْ لَهُ عَبْقَرَ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ سَمّاهُمْ أَبُو الْفَرَجِ عَنْهُمْ تَنَاسَلَتْ قَبَائِلُ بَجِيلَةَ وَهُمْ وَدَاعَةُ وَخُزَيْمَةُ وَصُهَيْبَةُ [ فِي الْأَصْلِ صُحَيْهِمْ ] وَالْحَارِثُ وَمَالِكُ وَشَيْبَةُ وَطُرَيْفَةُ وَفَهْمٌ [ ص 162 ] وَالْغَوْثُ وَسَهْلٌ وَعَبْقَرٌ وَأَشْهَلُ كُلّهُمْ بَنُو أَنْمَارٍ ، وَيُقَالُ إنّ بَجِيلَةَ حَبَشِيّةٌ حَضَنَتْ أَوْلَادَ أَنْمَارٍ الّذِينَ سَمّيْنَا ، وَلَمْ تَحْضُنْ أَفْتَلَ وَهُوَ خَثْعَمُ ، فَلَمْ يُنْسَبْ إلَيْهَا . رَوَى التّرْمِذِيّ مِنْ طَرِيقِ فَرْوَةَ بْنِ مُسَيْكٍ أَنّهُ لَمَا أَنَزَلَ اللّهُ فِي سَبَأٍ مَا أَنَزَلَ قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا سَبَأٌ : امْرَأَةٌ أَمْ أَرْضٌ ؟ قَالَ " لَيْسَ بِامْرَأَةِ وَلَا أَرْضٍ وَلَكِنّهُ رَجُلٌ وَلَدَ عَشَرَةً مِنْ الْعَرَبِ ، فَتَيَامَنْ مِنْهُمْ سِتّةً وَتَشَاءَمَ أَرْبَعَةٌ فَأَمّا الّذِينَ تَشَاءَمُوا : فَلَخْمٌ وَجُذَامٌ وَعَامِلَةُ وَغَسّانُ ، وَأَمّا الّذِينَ تَيَامَنُوا : فَالْأَزْدُ وَالْأَشْعَرُونَ وَحِمْيَرُ وَمُذْحِجُ وَكِنْدَةُ وَأَنْمَارٌ " ، قَالَ الرّجُلُ وَمَنْ أَنْمَارٌ ؟ قَالَ " الّذِينَ مِنْهُمْ خَثْعَمُ وَبَجِيلَةُ . وَقَوْلُهُ
لَوْلَا جَرِيرٌ هَلَكَتْ بَجِيلَةُ ... نِعْمَ الْفَتَى ، وَبَئِسَتْ الْقَبِيلَهْ
قَالَ لَمّا سَمِعَ هَذَا : مَا مُدِحَ رَجُلٌ هُجِيَ قَوْمُهُ وَجَرِيرٌ هَذَا هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَابِرٍ وَهُوَ الشّلَيْلُ بْنُ مَالِكِ بْنِ نَصْرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ جُشَمِ بْنِ عُوَيْفِ بْنِ جَذِيمَةَ بْنِ عَدِيّ بْنِ مَالِكِ بْنِ سَعْدِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ قَسْرٍ وَهُوَ مَالِكُ بْنُ عَبْقَرِ بْنِ أَنْمَارٍ بْنِ إرَاشَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْغَوْثِ ، يُكَنّى : أَبَا عَمْرٍو ، وَقِيلَ أَنَا عَبْدُ اللّهِ وَفِيهِ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ خَيْرُ ذِي يَمَنٍ ، عَلَيْهِ مَسْحَةُ مُلْكٍ وَكَانَ عُمَرُ يُسَمّيهِ يُوسُفَ هَذِهِ الْأُمّةِ وَكَانَ مِنْ مُقْبِلِي الظّعُنِ وَكَانَتْ نَعْلُهُ طُولُهَا : ذِرَاعٌ فِيمَا ذَكَرُوا . وَمِنْ النّذِيرِ بْنِ قَسْرٍ الْعُرَنِيّونَ الّذِينَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ ، وَحَدِيثُهُمْ مَشْهُورٌ وَهُمْ بَنُو عُرَيْنَةَ بْنِ النّذِيرِ ، أَوْ بَنُو عُرَيْنَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نَذِيرٍ ، لِأَنّهُمَا عُرَيْنَتَانِ وَأَحَدُهُمَا : عَمّ الْآخَرِ . وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي السّيرَةِ مِنْ بَنِي قَيْسٍ : كُبّةٌ مِنْ بَجِيلَةَ . وَقَوْلُهُ وَهُوَ يُنَافِرُ الْفُرَافِصَةَ [ بْنَ الْأَحْوَصِ ] الْكَلْبِيّ إلَى الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ التّمِيمِيّ . يُنَافِرُ أَيْ يُحَاكِمُ . قَالَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ لَفْظُ الْمُنَافَرَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ النّفَرِ وَكَانُوا إذَا تَنَازَعَ الرّجُلَانِ وَادّعَى كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنّهُ أَعَزّ نَفَرًا مِنْ صَاحِبِهِ تَحَاكَمُوا إلَى الْعَلّامَةِ فَمَنْ فَضَلَ مِنْهُمَا قِيلَ نَفّرَهُ عَلَيْهِ أَيْ فَضّلَ نَفَرَهُ عَلَى نَفَرِ الْآخَرِ فَمِنْ هَذَا أُخِذَتْ الْمُنَافَرَةُ [ ص 163 ] وَقَالَ زُهَيْرٌ :
فَإِنّ الْحَقّ مَقْطَعُهُ ثَلَاثٌ ... يَمِينٌ أَوْ نِفَارٌ أَوْ جَلَاءٌ
وَالْفُرَافِصَةُ بِالضّمّ اسْمُ الْأَسَدِ وَبِالْفَتْحِ اسْمُ الرّجُلِ وَقَدْ قِيلَ كُلّ فُرَافِصَةٌ فِي الْعَرَبِ بِالضّمّ إلّا الْفُرَافِصَةَ أَبَا نَائِلَةَ صِهْرَ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ فَإِنّهُ بِالْفَتْحِ . وَقَوْلُهُ إنّك إنْ تَصْرَعْ أَخَاك تُصْرَعْ . وُجِدَتْ فِي حَاشِيَة أَبِي بَحْرٍ قَالَ الْأَشْهُرُ فِي الرّوَايَةِ إنْ يُصْرَعْ أَخُوك ، وَإِنّمَا لَمْ يَنْجَزِمْ الْفِعْلُ الْآخَرُ عَلَى جَوَابِ الشّرْطِ لِأَنّهُ فِي نِيّةِ التّقْدِيمِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ ، وَهُوَ عَلَى إضْمَارِ الْفَاءِ عِنْدَ الْمُبَرّدِ وَمَا ذُكِرَ فِي أَنْمَارٍ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْيَمَنِ يَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ التّرْمِذِيّ الْمُتَقَدّمُ . وَذَكَرَ أُمّ إلْيَاسَ وَقَالَ فِيهَا : امْرَأَةٌ مِنْ جُرْهُمٍ ، وَلَمْ يُسَمّهَا ، وليست من جُرْهُمٍ ، وَإِنّمَا هِيَ الرّبَابُ بِنْتُ حَيْدَةَ بْنِ مَعَدّ بْنِ عَدْنَانَ فِيمَا ذَكَرَ الطّبَرِيّ ، وَقَدْ قَدّمْنَا ذَلِكَ فِي نَسَبِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأَمّا عَيْلَانُ أَخُو إلْيَاسَ فَقَدْ قِيلَ إنّهُ قَيْسٌ نَفْسُهُ لَا أَبُوهُ وَسُمّيَ بِفَرَسِ لَهُ اسْمُهُ عَيْلَانُ وَكَانَ يُجَاوِرُهُ قَيْسُ كُبّةَ مِنْ بَجِيلَةَ عُرِفَ بِكُبّةَ اسْمِ فَرَسِهِ فُرّقَ بَيْنَهُمَا بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ وَقِيلَ عَيْلَانُ اسْمُ كَلْبٍ لَهُ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ النّاسُ وَلِأَخِيهِ إلْيَاسُ وَقَدْ تَقَدّمَ فِي أَوّلِ الْكِتَابِ الْقَوْلُ فِي عَمُودِ نَسَبِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَمَا فِيهِ غُنْيَةٌ مِنْ شَرْحِ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ . وَذَكَرَ مُدْرِكَةَ وَطَابِخَةَ وَقَمْعَةَ وَسَبَبَ تَسْمِيَتِهِمْ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَفِي الْخَبَرِ زِيَادَةٌ وَهُوَ أَنّ إلْيَاسَ قَالَ لِأُمّهِمْ - وَاسْمُهَا لَيْلَى ، وَأُمّهَا : ضَرِيّةُ بِنْتُ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ الّتِي يُنْسَبُ إلَيْهَا : حِمَى ضَرِيّةَ ، وَقَدْ أَقْبَلَتْ تُخَنْدِفُ فِي مِشْيَتِهَا : مَا لَك تُخَنْدِفِينَ ؟ فَسُمّيَتْ خِنْدِفَ ، وَالْخَنْدِفَةُ سُرْعَةٌ فِي مَشْيٍ وَقَالَ لِمُدْرِكَةَ وَأَنْتَ قَدْ أَدْرَكْت مَا طَلَبْتَا
وَقَالَ لِطَابِخَةَ
وَأَنْتَ قَدْ أَنْضَجْت مَا طَبَخْتَا
وَقَالَ لِقَمْعَةَ وَهُوَ عُمَيْرٌ
وَأَنْتَ قَدْ قَعَدْت فَانْقَمَعْتَا
[ ص 164 ] وَخِنْدِفُ الّتِي عُرِفَ بِهَا بَنُو إلْيَاسَ وَهِيَ الّتِي ضَرَبَتْ الْأَمْثَالَ بِحُزْنِهَا عَلَى إلْيَاسَ وَذَلِكَ أَنّهَا تَرَكَتْ بَنِيهَا ، وَسَاحَتْ فِي الْأَرْضِ تَبْكِيهِ حَتّى مَاتَتْ كَمَدًا ، وَكَانَ مَاتَ يَوْمَ خَمِيسٍ وَكَانَتْ إذَا جَاءَ الْخَمِيسُ بَكَتْ مِنْ أَوّلِ النّهَارِ إلَى آخِرِهِ فَمِمّا قِيلَ مِنْ الشّعْرِ فِي ذَلِكَ
إذَا مُؤْنِسٌ لَاحَتْ خَرَاطِيمُ شَمْسِهِ ... بَكَتْهُ بِهِ حَتّى تَرَى الشّمْسَ تَغْرُبُ
فَمَا رَدّ بَأْسًا حُزْنُهَا وَعَوِيلُهَا ... وَلَمْ يُغْنِهَا حُزْنٌ وَنَفْسٌ تُعَذّبُ
وَكَانُوا يُسَمّونَ الْخَمِيسَ مُؤْنِسًا قَالَ الزّبَيْرُ وَإِنّمَا نُسِبَ بَنُو إلْيَاسَ لِأُمّهِمْ لِأَنّهَا حِينَ تَرَكَتْهُمْ شُغْلًا لِحُزْنِهَا عَلَى أَبِيهِمْ رَحِمَهُمْ النّاسُ فَقَالُوا : هَؤُلَاءِ أَوْلَادُ خِنْدِفَ الّذِينَ تَرَكَتْهُمْ وَهُمْ صِغَارُ أَيْتَامٍ حَتّى عُرِفُوا بِبَنِي خِنْدِفَ . وَأَمّا عَوَانَةُ بِنْتُ سَعْدِ بْنِ قَيْسِ عَيْلَانَ فَسُمّيَتْ الْعَوَانَةُ وَهِيَ النّاقَةُ الطّوِيلَةُ .

قِصّةُ عَمْرِو بْنِ لُحَيّ وَذِكْرُ أَصْنَامِ الْعَرَبِ
حَدِيثُ جَرّ عَمْرٍو قُصْبَهُ فِي النّارِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 164 ] عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ حُدّثْت أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ رَأَيْت عَمْرَو بْنَ لُحَيّ يَجُرّ قُصْبَهُ فِي النّارِ فَسَأَلْته عَمّنْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ مِنْ النّاسِ فَقَالَ هَلَكُوا [ ص 165 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التّيْمِيّ أَنّ أَبَا صَالِحٍ السّمّانِ حَدّثَهُ أَنّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاسْمُ أَبِي هُرَيْرَةَ . عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَامِرٍ ، وَيُقَالُ اسْمُهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ صَخْرٍ - يَقُولُ سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ لِأَكْثَمَ بْنِ الْجَوْنِ الْخُزَاعِيّ يَا أَكْثَمُ رَأَيْت عَمْرَو بْنَ لُحَيّ بْنِ قَمْعَةَ بْنِ خِنْدِفَ يَجُرّ قُصْبَهُ فِي النّارِ فَمَا رَأَيْت رَجُلًا أَشْبَهَ بِرَجُلِ مِنْك بِهِ وَلَا بِك مِنْهُ . فَقَالَ أَكْثَمُ عَسَى أَنْ يَضُرّنِي شَبَهُهُ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ لَا ، إنّك مُؤْمِنٌ وَهُوَ كَافِرٌ إنّهُ كَانَ أَوّلَ مَنْ غَيّرَ دِينَ إسْمَاعِيلَ فَنَصَبَ الْأَوْثَانَ وَبَحَرَ الْبَحِيرَةَ وَسَيّبَ السّائِبَةَ وَوَصَلَ الْوَصِيلَةَ وَحَمَى الْحَامِي
Sوَذَكَرَ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ لُحَيّ بْنِ قَمْعَةَ بْنِ إلْيَاس َ وَقَدْ تَقَدّمَ فِي نَسَبِ خُزَاعَةَ وَأَسْلَمَ أَنّهُمَا ابْنَا حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ وَأَنّ رَبِيعَةَ بْنِ حَارِثَةَ هُوَ أَبُو خُزَاعَةَ مِنْ بَنِي أَبِي حَارِثَةَ بْنِ عَامِرٍ لَا مِنْ حَارِثَةَ وَسَيَأْتِي ذَلِكَ . وَقَوْلُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِأَسْلَمَ ارْمُوا يَا بَنِي إسْمَاعِيلَ فَإِنّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا وَهُوَ مُعَارِضٌ لِحَدِيثِ أَكْثَمَ بْنِ الْجَوْنِ فِي الظّاهِرِ إلّا أَنّ بَعْضَ أَهْلِ النّسَبِ ذَكَرَ أَنّ عَمْرَو بْنَ لُحَيّ كَانَ حَارِثَةُ قَدْ خَلّفَ عَلَى أُمّهِ بَعْدَ أَنْ آمَتْ مِنْ قَمْعَةَ وَلُحَيّ صَغِيرٌ . وَلُحَيّ هُوَ رَبِيعَةُ ، فَتَبَنّاهُ حَارِثَةُ وَانْتَسَبَ إلَيْهِ فَيَكُونُ النّسَبُ صَحِيحًا بِالْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا : إلَى حَارِثَةَ بِالتّبَنّي ، وَإِلَى قَمْعَةَ بِالْوِلَادَةِ وَكَذَلِكَ أَسْلَمُ بْنُ أَفْصَى بْنِ حَارِثَةَ فَإِنّهُ أَخُو خُزَاعَةَ ، وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي خُزَاعَةَ ، وَقِيلَ فِي أَسْلَمَ بْنِ أَفْصَى : إنّهُمْ مِنْ بَنِي أَبِي حَارِثَةَ بْنِ عَامِرٍ [ ص 165 ] بَنِي حَارِثَةَ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَكُونُ فِي الْحَدِيثِ حُجّةٌ لِمَنْ نَسَبَ قَحْطَانَ إلَى إسْمَاعِيلَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَمِنْ حُجّةِ مَنْ نَسَبَ خُزَاعَةَ إلَى قَمْعَةَ مَعَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْمُعَطّلِ [ الْهُذَلِيّ ] يُخَاطِبُ قَوْمًا مِنْ خُزَاعَةَ :
لَعَلّكُمْ مِنْ أُسْرَةٍ قَمْعِيّةٍ ... إذَا حَضَرُوا لَا يَشْهَدُونَ الْمُعَرّفَا
وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَكْثَمَ الّذِي يَرْوِيهِ أَبُو هُرَيْرَةَ . اسْمُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرٍو ، وَقِيلَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ صَخْرٍ وَقِيلَ هُوَ الّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ . وَقَالَ الْبُخَارِيّ اسْمُهُ عَبْدُ شَمْسِ بْنُ عَبْدِ نُهْمٍ وَقِيلَ اسْمُهُ عَبْدُ غَنْمٍ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا اسْمُهُ فِي الْجَاهِلِيّةِ فَبَدّلَهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَمَا بَدّلَ كَثِيرًا مِنْ الْأَسْمَاءِ وَقَدْ قِيلَ اسْمُهُ يَزِيدُ بْنُ عِشْرِقَةَ وَقِيلَ كُرْدُوسٌ وَقِيلَ سُكَيْنٌ . قَالَهُ النّفْسُوِيّ ، [ لَعَلّهُ الْبَغَوِيّ أَوْ النّفُوسِيّ ] وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا . وَكَنّاهُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِهِرّةِ رَآهَا مَعَه وَقَدْ ذَكَرَ أَنّ الْهِرّة كَانَتْ وَحْشِيّةً . وَأَمّا أَكْثَمُ الّذِي ذَكَرَهُ فَقَدْ صَرّحَ فِي حَدِيثِهِ بِنَسَبِ عَمْرٍو وَالِدِ خُزَاعَةَ ، وَذَكَرَهُ لَقُوّةِ الشّبَهِ بَيْنَ أَكْثَمَ وَبَيْنَهُ يَدُلّ عَلَى أَنّهُ نَسَبُ وِلَادَةٍ - كَمَا تَقَدّمَ وَلَا سِيّمَا عَلَى رِوَايَةِ الزّبَيْرِ فَإِنّ فِيهَا أَنّهُ قَالَ رَأَيْت عَمْرَو بْنَ لُحَيّ وَالِدَ خُزَاعَةَ يَجُرّ قُصْبَهُ فِي النّارِ وَقَوْلُهُ لِأَكْثَمَ إنّك مُؤْمِنٌ وَهُوَ كَافِرٌ قَدْ رَوَى الْحَدِيثَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي أُسَامَةَ فِي مُسْنَدِهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فِي حَدِيثِ الدّجّالِ لِعَبْدِ الْعُزّى بْنِ س ، وَأَنّ عَبْدَ الْعُزّى قَالَ أَيَضُرّنِي شَبَهِي بِهِ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ يَعْنِي : الدّجّالَ فَقَالَ كَمَا قَالَ لِأَكْثَمَ إنّك مُؤْمِنٌ وَهُوَ كَافِرٌ وَأَحْسَبُ هَذَا وَهْمًا فِي الْحَدِيثِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ عَنْ الزّهْرِيّ . قَالَ ابْنُ قَطَن ٍ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ هَلَكَ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَلِأَكْثَمَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حَدِيثَانِ . أَحَدُهُمَا [ ص 166 ] قَطَنٍ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ هَلَكَ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَلِأَكْثَمَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حَدِيثَانِ . أَحَدُهُمَا [ ص 166 ] خَيْرُ الرّفَقَاءِ أَرْبَعَةٌ وَقَدْ تَكَلّمْنَا عَلَى مَعْنَاهُ فِي كِتَابِ التّعْرِيفِ وَالْإِعْلَامِ . وَالْآخَرُ اُغْزُ مَعَ غَيْرِ قَوْمِك ، تَحْسُنْ خُلُقُك قَالَ الْإِسْكَافُ فِي كِتَابِ فَوَائِدِ الْأَخْبَارِ مَعْنَى هَذَا لِأَنّ الرّجُلَ إذَا غَزَا مَعَ غَيْرِ قَوْمِهِ تَحَفّظَ وَلَمْ يَسْتَرْسِلْ وَتَكَلّفَ مِنْ رِيَاضَةِ نَفْسِهِ مَا لَا يَتَكَلّفُهُ فِي صُحْبَةِ مَنْ يَثِقُ بِاحْتِمَالِهِ لِنَظَرِهِمْ إلَيْهِ بِعَيْنِ الرّضَى ، وَلِصِحّةِ إدْلَالِهِ فَلِذَلِكَ تَحْسُنُ خُلُقُهُ لِرِيَاضَةِ نَفْسِهِ عَلَى الصّبْرِ وَالِاحْتِمَالِ فَهَذَا حَسَنٌ مِنْ التّأْوِيلِ غَيْرَ أَنّ الْحَدِيثَ مُخْتَلَفٌ فِي لَفْظِهِ فَقَدْ رُوِيَ فِيهِ سَافِرْ مَعَ قَوْمِك ، وَذَكَرَ الرّوَايَتَيْنِ أَبُو عُمَرَ رَحِمَهُ اللّه . وَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ عَمْرَو بْنَ لُحَيّ ، وَأَنّهُ أَوّلُ مَنْ بَحَرَ الْبَحِيرَةَ وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا أَنّ أَوّلَ مَنْ بَحَرَ الْبَحِيرَةَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ كَانَتْ لَهُ نَاقَتَانِ فَجَدَعَ آذَانَهُمَا ، وَحَرّمَ أَلْبَانَهُمَا . قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَرَأَيْته فِي النّارِ يَخْبِطَانِهِ بِأَخْفَافِهِمَا ، وَيَعَضّانِهِ بِأَفْوَاهِهِمَا وَقَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ قَدْ عَرَفْت أَوّلَ مَنْ سَيّبَ السّائِبَةَ وَنَصَبَ النّصُبَ . عَمْرُو بْنُ لُحَيّ رَأَيْته يُؤْذِي أَهْلَ النّارِ بِرِيحِ قُصْبِهِ رَوَاهُ ابْنُ إسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ مُرْسَلًا ، وَلَمْ يَقَعْ فِي رِوَايَةِ الْبَكّائِيّ عَنْهُ .

أَوّلُ مَا كَانَتْ عِبَادَةُ الْحِجَارَةِ
[ ص 166 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ عَمْرَو بْنِ لُحَيّ خَرَجَ مِنْ مَكّةَ إلَى الشّامِ فِي بَعْضِ أُمُورِهِ فَلَمّا قَدِمَ مَآبَ مِنْ أَرْضِ الْبَلْقَاءِ ، وَبِهَا يَوْمَئِذٍ الْعَمَالِيقُ - وَهُمْ وَلَدُ عِمْلَاقَ . وَيُقَال : عِمْلِيقُ بْنُ لَاوِذَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ - رَآهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ فَقَالَ لَهُمْ مَا [ ص 167 ] أَرَاكُمْ تَعْبُدُونَ ؟ قَالُوا لَهُ هَذِهِ أَصْنَامٌ نَعْبُدُهَا ، فَنَسْتَمْطِرُهَا فَتُمْطِرُنَا ، وَنَسْتَنْصِرُهَا فَتَنْصُرُنَا ، فَقَالَ لَهُمْ أَفَلَا تُعْطُونَنِي مِنْهَا صَنَمًا ، فَأَسِيرُ بِهِ إلَى أَرْضِ الْعَرَبِ ، فَيَعْبُدُوهُ ؟ فَأَعْطَوْهُ صَنَمًا يُقَالُ لَهُ هُبَلُ فَقَدِمَ بِهِ مَكّةَ ، فَنَصَبَهُ وَأَمَرَ النّاسَ بِعِبَادَتِهِ وَتَعْظِيمِهِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَيَزْعُمُونَ أَنّ أَوّلَ مَا كَانَتْ عِبَادَةُ الْحِجَارَةِ فِي بَنِي إسْمَاعِيلَ أَنّهُ كَانَ لَا يَظْعَنُ مِنْ مَكّةَ ظَاعِنٌ مِنْهُمْ حِينَ ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ وَالْتَمَسُوا الْفُسَحَ فِي الْبِلَادِ إلّا حَمَلَ مَعَهُ حَجَرًا مِنْ حِجَارَةِ الْحَرَمِ تَعْظِيمًا لِلْحَرَمِ فَحَيْثُمَا نَزَلُوا وَضَعُوهُ فَطَافُوا بِهِ كَطَوَافِهِمْ بِالْكَعْبَةِ حَتّى سَلَخَ ذَلِكَ بِهِمْ إلَى أَنْ كَانُوا يَعْبُدُونَ مَا اسْتَحْسَنُوا مِنْ الْحِجَارَةِ وَأَعْجَبَهُمْ حَتّى خَلَفَ الْخُلُوفُ وَنَسُوا مَا كَانُوا عَلَيْهِ وَاسْتَبْدَلُوا بِدِينِ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ غَيْرَهُ فَعَبَدُوا الْأَوْثَانَ وَصَارُوا إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْأُمَمُ قَبْلَهُمْ مِنْ الضّلَالَاتِ وَفِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ بَقَايَا مِنْ عَهْدِ إبْرَاهِيمَ يَتَمَسّكُونَ بِهَا : مِنْ تَعْظِيمِ الْبَيْتِ ، وَالطّوَافِ بِهِ وَالْحَجّ وَالْعُمْرَةِ وَالْوُقُوفِ عَلَى عَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةَ ، وَهَدْيِ الْبُدْنِ وَالْإِهْلَالِ بِالْحَجّ وَالْعُمْرَةِ مَعَ إدْخَالِهِمْ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ . فَكَانَتْ كِنَانَةُ وَقُرَيْشٌ إذَا أَهَلّوا قَالُوا : " لَبّيْكَ اللّهُمّ لَبّيْكَ لَبّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك ، إلّا شَرِيكَ هُوَ لَك ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ " . فَيُوَحّدُونَهُ بِالتّلْبِيَةِ ثُمّ يُدْخِلُونَ مَعَهُ أَصْنَامَهُمْ وَيَجْعَلُونَ مُلْكَهَا بِيَدِهِ . يَقُولُ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِمُحَمّدِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [ يُوسُفُ 106 ] أَيْ مَا يُوَحّدُونَنِي لِمَعْرِفَةِ حَقّي إلّا جَعَلُوا مَعِي شَرِيكًا مِنْ خَلْقِي .
Sأَصْلُ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ
يُقَالُ لِكُلّ صَنَمٍ مِنْ حَجَرٍ أَوْ غَيْرِهِ صَنَمٌ وَلَا يُقَالُ وَثَنٌ إلّا لِمَا كَانَ مِنْ غَيْرِ صَخْرَةٍ كَالنّحَاسِ وَنَحْوِهِ وَكَانَ عَمْرُو بْنُ لُحَيّ حِينَ غَلَبَتْ خُزَاعَةُ عَلَى الْبَيْتِ ، وَنَفَتْ جُرْهُمُ عَنْ مَكّةَ ، قَدْ جَعَلَتْهُ الْعَرَبُ رَبّا لَا يَبْتَدِعُ لَهُمْ بِدْعَةً إلّا اتّخَذُوهَا شِرْعَةً لِأَنّهُ كَانَ يُطْعِمُ النّاسَ وَيَكْسُو فِي الْمَوْسِمِ فَرُبّمَا نَحَرَ فِي الْمَوْسِمِ عَشَرَةَ آلَافِ بَدَنَةٍ وَكَسَا عَشَرَةَ آلَافِ حُلّةٍ حَتّى [ قِيلَ ] إنّهُ اللّاتِي الّذِي ، يَلُتّ السّوِيقَ لِلْحَجِيجِ عَلَى صَخْرَةٍ مَعْرُوفَةٍ تُسَمّى : صَخْرَةَ اللّاتِي ، وَيُقَالُ إنّ الّذِي يَلُتّ كَانَ مِنْ ثَقِيفٍ ، فَلَمّا مَاتَ قَالَ لَهُمْ عَمْرٌو : إنّهُ لَمْ يَمُتْ وَلَكِنْ دَخَلَ فِي الصّخْرَةِ ثُمّ أَمَرَهُمْ بِعِبَادَتِهَا ، وَأَنْ يَبْنُوا عَلَيْهَا بَيْتًا يُسَمّى : اللّاتِي ، وَيُقَالُ دَامَ أَمْرُهُ وَأَمَرَ وَلَدَهُ [ ص 167 ] بِمَكّةَ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ فَلَمّا هَلَكَ سُمّيَتْ تِلْكَ الصّخْرَةُ اللّاتِي مُخَفّفَةَ التّاءِ وَاُتّخِذَ صَنَمًا يُعْبَدُ وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ ، أَنّهُ أَوّلُ مَنْ أَدْخَلَ الْأَصْنَامَ الْحَرَمَ ، وَحَمَلَ النّاسَ عَلَى عِبَادَتِهَا ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ إسَافٍ وَنَائِلَةَ وَمَا كَانَ مِنْهُ فِي أَمْرِهِمَا . وَذَكَرَ أَبُو الْوَلِيدِ الْأَزْرَقِيّ فِي أَخْبَارِ مَكّةَ أَنّ عَمْرَو بْنَ لُحَيّ فَقَأَ أَعْيُنِ عِشْرِينَ بَعِيرًا ، وَكَانُوا يَفْقَئُونَ عَيْنَ الْفَحْلِ إذَا بَلَغَتْ الْإِبِلُ أَلْفًا ، فَإِذَا بَلَغَتْ أَلْفَيْنِ فَقَئُوا الْعَيْنَ الْأُخْرَى قَالَ الرّاجِزُ
وَكَانَ شُكْرُ الْقَوْمِ عِنْدَ الْمِنَنِ ... كَيّ الصّحِيحَاتِ وَفَقْأُ الْأَعْيُنِ
وَكَانَتْ التّلْبِيَةُ مِنْ عَهْدِ إبْرَاهِيمَ : لَبّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك لَبّيْكَ حَتّى كَانَ عَمْرُو بْنُ لُحَيّ ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُلَبّي تَمَثّلَ لَهُ الشّيْطَانُ فِي صُورَةِ شَيْخٍ يُلَبّي مَعَهُ فَقَالَ عَمْرٌو : لَبّيْكَ لَا شَرِيك لَك ، فَقَالَ الشّيْخُ إلّا شَرِيكًا هُوَ لَك ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَمْرٌو ، وَقَالَ مَا هَذَا ؟ فَقَالَ الشّيْخُ قُلْ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ فَإِنّهُ لَا بَأْسَ بِهَذَا ، فَقَالَهَا عَمْرٌو ، فَدَانَتْ بِهَا الْعَرَبُ .

أَصْنَامُ قَوْمِ نُوحٍ
وَقَدْ [ ص 168 ] كَانَتْ لِقَوْمِ نُوحٍ أَصْنَامٌ قَدْ عَكَفُوا عَلَيْهَا ، قَصّ اللّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - خَبَرَهَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ { وَقَالُوا لَا تَذَرُنّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنّ وَدّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلّوا كَثِيرًا } [ نُوحٌ 22 23 ]
S[ ص 168 ] وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ مَا كَانَ فِي قَوْمِ نُوحٍ وَمَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ وَتِلْكَ هِيَ الْجَاهِلِيّةُ الْأُولَى الّتِي ذَكَرَ اللّهُ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ { وَلَا تَبَرّجْنَ تَبَرّجَ الْجَاهِلِيّةِ الْأُولَى } [ الْأَحْزَاب : 33 ] وَكَانَ بَدْءُ ذَلِكَ فِي عَهْدِ مهلايل بْنِ قَيْنَانَ فِيمَا ذَكَرُوا ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ صَارَتْ الْأَوْثَانُ الّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي الْعَرَبِ بَعْدُ وَهِيَ أَسْمَاءُ قَوْمٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ فَلَمّا هَلَكُوا أَوْحَى الشّيْطَانُ إلَى قَوْمِهِمْ أَنْ انْصِبُوا فِي مَجَالِسِهِمْ الّتِي كَانُوا يُجْلِسُونَهَا أَنْصَابًا ، وَسَمّوْهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتّى إذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتُنُوسِخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ وَذَكَرَ الطّبَرِيّ هَذَا الْمَعْنَى وَزَادَ أَنّ سُوَاعًا كَانَ ابْنَ شِيثَ وَأَنّ يَغُوثَ كَانَ ابْنَ سُوَاعٍ وَكَذَلِكَ يَعُوقُ وَنَسْرُ كُلّمَا هَلَكَ الْأَوّلُ صُوّرَتْ صُورَتُهُ وَعُظّمَتْ لِمَوْضِعِهِ مِنْ الدّينِ وَلَمّا عَهِدُوا فِي دُعَائِهِ مِنْ الْإِجَابَةِ فَلَمْ يَزَالُوا هَكَذَا حَتّى خَلَفَتْ الْخُلُوفُ وَقَالُوا : مَا عَظّمَ هَؤُلَاءِ آبَاؤُنَا إلّا لِأَنّهَا تَرْزُقُ وَتَنْفَعُ وَتَضُرّ ، وَاِتّخَذُوهَا آلِهَةً وَهَذِهِ أَسْمَاءُ سُرْيَانِيّةٌ وَقَعَتْ إلَى الْهِنْدِ ، فَسَمّوْا بِهَا أَصْنَامَهُمْ الّتِي زَعَمُوا أَنّهَا صُوَرُ الدّرَارِيّ السّبْعَةِ وَرُبّمَا كَلّمَتْهُمْ الْجِنّ مِنْ جَوْفِهَا فَفَتَنَتْهُمْ ثُمّ أَدْخَلَهَا إلَى الْعَرَبِ عَمْرُو بْنُ لُحَيّ كَمَا ذُكِرَ أَوْ غَيْرُهُ وَعَلّمَهُمْ تِلْكَ الْأَسْمَاءَ وَأَلْقَاهَا الشّيْطَانُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ مُوَافَقَةً لِمَا كَانُوا فِي عَهْدِ نُوحٍ .

أَصْنَامُ الْقَبَائِلِ الْعَرَبِيّةِ
فَكَانَ الّذِينَ اتّخَذُوا تِلْكَ الْأَصْنَامَ مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ وَغَيْرِهِمْ وَسُمّوا بِأَسْمَائِهِمْ حِينَ فَارَقُوا دِينَ إسْمَاعِيلَ هُذَيْلَ بْنَ مُدْرِكَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ ، اتّخَذُوا سُوَاعًا ، فَكَانَ لَهُمْ بِرُهَاطٍ . وَكَلْبُ بْنُ وَبْرَةَ مِنْ قُضَاعَةَ ، اتّخَذُوا وَدّا بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ . [ ص 169 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيّ
وَنَنْسَى اللّاتِ وَالْعُزّى وَوَدّا ... وَنَسْلُبُهَا الْقَلَائِدَ وَالشّنُوفَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللّهُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَكَلْبُ بْنُ وَبْرَةَ بْنِ تَغْلِبَ بْنِ حُلْوَانَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافّ بْنِ قُضَاعَةَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَنْعُمُ مِنْ طَيّئٍ ، وَأَهْلُ جُرَشَ مِنْ مَذْحِجَ اتّخَذُوا يَغُوثَ بِجُرَشَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ أَنْعَمُ . وَطَيّئُ بْنُ أُدَدِ بْنِ مَالِكٍ وَمَالِكٌ مَذْحِجُ بْنُ أُدَدٍ وَيُقَالُ طَيّئُ بْنُ أُدَدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَخَيْوَانُ بَطْنٌ مِنْ هَمْدَانَ ، اتّخَذُوا يَعُوقَ بِأَرْضِ هَمْدَانَ مِنْ أَرْضِ الْيَمَنِ . [ ص 170 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَ مَالِكُ بْنُ نَمَطٍ الْهَمْدَانِيّ :
يَرِيشُ اللّهُ فِي الدّنْيَا وَيَبْرِي ... وَلَا يَبْرِي يَعُوقُ وَلَا يَرِيشُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : اسْمُ هَمْدَانَ : أَوْسَلَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أَوْسَلَةَ بْنِ الْخِيَارِ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ ، وَيُقَالُ أَوْسَلَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَوْسَلَةَ بْنِ الْخِيَارِ . وَيُقَالُ هَمْدَانُ بْنُ أَوْسَلَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْخِيَارِ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَذُو الْكُلَاعِ مِنْ حِمْيَرَ ، اتّخَذُوا نَسْرًا بِأَرْضِ حِمْيَرَ . وَكَانَ لِخَوْلَانُ صَنَمٌ يُقَالُ لَهُ عُمْيَانِسُ بِأَرْضِ خَوْلَانَ ، يَقْسِمُونَ لَهُ مِنْ أَنْعَامِهِمْ وَحُرُوثِهِمْ قَسْمًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللّهِ بِزَعْمِهِمْ فَمَا دَخَلَ فِي حَقّ عُمْيَانِسَ مِنْ حَقّ اللّهِ تَعَالَى الّذِي سَمّوْهُ لَهُ تَرَكُوهُ لَهُ وَمَا دَخَلَ فِي حَقّ اللّهِ تَعَالَى مِنْ حَقّ عُمْيَانِسَ رَدّوهُ عَلَيْهِ وَهُمْ بَطْنٌ مِنْ خَوْلَانَ ، يُقَالُ لَهُمْ الْأَدِيمُ وَفِيهِمْ أَنَزَلَ اللّهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - فِيمَا يَذْكُرُونَ { وَجَعَلُوا لِلّهِ مِمّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } [ الْأَنْعَامُ 136 ] . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : خَوْلَانُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْحَافّ بْنِ قُضَاعَةَ ، وَيُقَالُ خَوْلَانُ بْنُ عَمْرِو بْنِ مُرّةَ بْنِ أُدَدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ مِهْسَعَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَرِيبِ بْنِ زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ ، وَيُقَالُ خَوْلَانُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ بْنِ مَذْحِجَ . [ ص 171 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ لِبَنِي مِلْكَانَ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ صَنَمٌ يُقَالُ لَهُ سَعْدٌ صَخْرَةٌ بِفَلَاةِ مِنْ أَرْضِهِمْ طَوِيلَةٌ فَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي مِلْكَانَ بِإِبِلِ لَهُ مُؤَبّلَةً لِيَقِفَهَا عَلَيْهِ الْتِمَاسَ بَرَكَتِهِ - فِيمَا يَزْعُمُ - فَلَمّا رَأَتْهُ الْإِبِلُ وَكَانَتْ مَرْعِيّةً لَا تُرْكَبُ وَكَانَ يُهْرَاقُ عَلَيْهِ الدّمَاءُ نَفَرَتْ مِنْهُ فَذَهَبَتْ فِي كُلّ وَجْهٍ وَغَضِبَ رَبّهَا الْمِلْكَانِيّ ، فَأَخَذَ حَجَرًا فَرَمَاهُ بِهِ ثُمّ قَالَ لَا بَارَكَ اللّهُ فِيك ، نَفّرْت عَلَيّ إبِلِي ، ثُمّ خَرَجَ فِي طَلَبِهَا حَتّى جَمَعَهَا ، فَلَمّا اجْتَمَعَتْ لَهُ قَالَ
أَتَيْنَا إلَى سَعْدٍ لِيَجْمَعَ شَمْلَنَا ... فَشَتّتَنَا سَعْدٌ فَلَا نَحْنُ مِنْ سَعْدِ
وَهَلْ سَعْدُ إلّا صَخْرَةٌ بِتَنُوفَةِ ... مِنْ الْأَرْضِ لَا تَدْعُو لِغَيّ وَلَا رُشْدٍ
وَكَانَ فِي دَوْسٍ صَنَمٌ لِعَمْرِو بْنِ حُمَمَةَ الدّوْسِيّ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : سَأَذْكُرُ حَدِيثَهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللّهُ . وَدَوْسُ بْنُ عُدْثَانَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ زَهْرَانَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَالِكِ بْنِ نَصْرِ بْنِ الْأَسَدِ بْنِ الْغَوْثِ . وَيُقَال : دَوْسُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ زَهْرَانَ بْنِ الْأَسَدِ بْنِ الْغَوْثِ .
Sوَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ أَنّ كَلْبَ بْنَ وَبْرَةَ مِنْ قُضَاعَةَ . وَبْرَةُ بِسُكُونِ الْبَاءِ تُقَيّدُ فِي نُسْخَةِ الشّيْخِ وَهِيَ الْأُنْثَى مِنْ الْوَبَرِ اتّخَذُوا وَدّا فِي دُومَةِ الْجَنْدَلِ ، وَدُومَةُ هَذِهِ - بِضَمّ الدّالِ [ ص 169 ] بِدُومَى بَنِي إسْمَاعِيلَ كَانَ نَزَلَهَا ، وَدُومَةُ أُخْرَى بِضَمّ الدّالِ عِنْدَ الْكُوفَةِ ، وَدَوْمَةُ - بِفَتْحِ الدّالِ - أُخْرَى مَذْكُورَةٌ فِي أَخْبَارِ الرّدّةِ كَذَا وَجَدْته لِلْبَكْرِيّ [ فِي مُعْجَمِ مَا اُسْتُعْجِمَ ] مُقَيّدًا فِي أَسْمَاءِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ . وَذَكَرَ طَيّئَ بْنَ أُدَدٍ أَوْ ابْنَ مَالِكِ بْنِ أُدَدٍ عَلَى الْخِلَافِ وَمَالِكٌ هُوَ مَذْحِجُ ، وَسُمّوا مَذْحِجًا بِأَكَمَةِ نَزَلُوا إلَيْهَا . [ وَطَيّ ] مِنْ الطّاءَةِ وَهِيَ بَعْدَ الذّهَابِ فِي الْأَرْضِ . قَالَهُ ابْنُ جِنّيّ ، وَلَمْ يَرْضَ قَوْلَ الْقُتَبِيّ إنّهُ أَوّلُ مَنْ طَوَى الْمَنَاهِلَ لِأَنّ طَيّئًا مَهْمُوزٌ وَطَوَيْت غَيْرُ مَهْمُوزٍ . وَذَكَرَ جُرَشَ فِي مَذْحِجَ . وَالْمَعْرُوفُ أَنّهُمْ فِي حِمْيَرَ ، وَأَنّ مَذْحِجَ مِنْ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ ، وَيُقَالُ إنّ الْمُلْكَ كَانَ لِكَهْلَانَ بَعْدَ حِمْيَرَ ، وَأَنّ مُلْكَهُ دَامَ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ ثُمّ عَادَ فِي بَنِي حِمْيَرَ ، قَالَهُ الْمَسْعُودِيّ . وَذَكَرَ الدّارَقُطْنِيّ أَنّ جُرَشَ وَحُرَشَ بِالْحَاءِ أَخَوَانِ وَأَنّهُمَا ابْنَا عُلَيْمِ بْنِ جَنَابٍ الْكَلْبِيّ ، فَهُمَا قَبِيلَانَ مِنْ كَلْبٍ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ . [ ص 170 ] وَذَكَرَ مَالِكُ بْنُ نَمَطٍ الْهَمْدَانِيّ [ الْخَارِفِيّ ] ، وَهُوَ أَبُو ثَوْرٍ يُلَقّبُ ذَا الْمِشْعَارِ وَهُوَ مِنْ بَنِي خَارِفٍ ، وَقَدْ قِيلَ . إنّهُ مِنْ يَام بْنِ أَصِي ، وَكِلَاهُمَا مِنْ هَمْدَانَ وَقَوْلُهُ يَرِيشُ اللّهُ فِي الدّنْيَا وَيَبْرِي
هُوَ مِنْ رِشْت السّهْمَ وَبَرَيْته ، اُسْتُعِيرَ فِي النّفْعِ وَالضّرّ . قَالَ سُوَيْدٌ :
فَرِشْنِي طَالَمَا قَدْ بَرَيْتنِي ... وَخَيْرُ الْمَوَالِي مَنْ يَرِيشُ وَلَا يَبْرِي
[ ص 171 ] وَذَكَرَ حَدِيثَ الْمِلْكَانِيّ وَقَوْلَهُ فَشَتّتَنَا سَعْدٌ فَلَا نَحْنُ مِنْ سَعْدِ
وَيَمْتَنِعُ فِي الْعَرَبِيّةِ دُخُولُ لَا عَلَى الِابْتِدَاءِ الْمُعْرِفَةِ وَالْخَبَرِ إلّا مَعَ تَكْرَارٍ لَا ، مِثْلَ أَنْ تَقُولَ لَا زَيْدٌ فِي الدّارِ وَلَا عَمْرٌو ، وَذَكَرَ سِيبَوَيْهِ قَوْلَهُمْ لَا نَوْلُك أَنْ تَفْعَلَ وَقَالَ إنّمَا جَازَ هَذَا ؛ لِأَنّ مَعْنَاهُ مَعْنَى الْفِعْلِ أَيْ لَا يَنْبَغِي لَك أَنْ تَفْعَلَ وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ فِي بَيْتِ الْمِلْكَانِيّ أَيْ لَمْ يَقُلْهَا عَلَى جِهَةِ الْخَبَرِ ، وَلَكِنْ عَلَى قَصْدِ التّبَرّي مِنْهُ فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ فَلَا نَتَوَلّى سَعْدًا ، وَلَا نَدِينُ بِهِ فَهَذَا الْمَعْنَى حَسّنَ دُخُولَ لَا عَلَى الِابْتِدَاءِ كَمَا حَسُنَ لَا نَوْلُك . وَقَوْلُهُ إلّا صَخْرَةً بِتَنُوفَةِ . التّنُوفَةُ الْقَفْرُ وَجَمْعُهَا : تَنَائِفُ بِالْهَمْزِ وَوَزْنُهَا : فَعُولَةٌ وَلَوْ كَانَتْ تَفْعِلَةً مِنْ النّوْفِ وَهُوَ الِارْتِفَاعُ لَجُمِعَتْ تَنَاوُفَ وَلَكِنّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَفْعِلَةً إلّا أَنْ تُحَرّكَ الْوَاوُ بِالضّمّ لِئَلّا يُشْبِهَ بِنَاءُ الْفِعْلِ وَلَوْ قِيلَ فِيهَا : تُنُوفَةٌ بِضَمّ التّاءِ لَاحْتَمَلَ حِينَئِذٍ أَنْ تَكُونَ فَعُولَةً أَوْ تَفْعِلَةً عَلَى مِثَالِ تَنْفِلَةٍ إذْ لَيْسَ فِي الْأَفْعَالِ تُفْعَلُ بِالضّمّ وَهَذَا مِنْ دَقِيقِ عِلْمِ التّصْرِيفِ . وَأَمّا مِلْكَانُ بْنُ كِنَانَةَ فَبِكَسْرِ الْمِيمِ . قَالَ أَبُو جَعْفَرِ بْنُ حَبِيبٍ النّسّابَةُ كُلّ شَيْءٍ فِي الْعَرَبِ فَهُوَ مِلْكَانُ بِكَسْرِ الْمِيمِ سَاكِنِ اللّامِ غَيْرُ مَلَكَانَ فِي قُضَاعَةَ ، وَمَلَكَانُ فِي السّكُونِ ، [ ص 172 ] فَمَلَكَانُ قُضَاعَةَ هُوَ ابْنُ جَرْمِ بْنِ رَبّانَ بْنِ حُلْوَانَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافّ بْنِ قُضَاعَةَ ، وَمَلَكَانُ السّكُونِ هُوَ ابْنُ عَبّادِ بْنِ عِيَاضِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ السّكُونِ بْنِ أَشْرَسَ مِنْ كِنْدَةَ ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْهَمْدَانِيّ فِي مَلَكَانَ بْنِ جَرْمٍ ، وَقَالَ مِثْلُ غَطَفَانَ ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ مَشَايِخُ خُزَاعَةَ يَقُولُونَ مَلَكَانُ بِفَتْحِ اللّامِ قَالَ أَبُو الْوَلِيدِ يَعْنِي ابْنَ حَبِيبٍ مَلَكَانُ بْنُ أَفْصَى بْنِ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ، وَذَكَرَ أَبُو عَلِيّ الْقَالِي فِي أَمَالِيهِ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْأَنْبَارِيّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَشْيَاخِهِ أَنّ كُلّ مَلَكَانَ فِي الْعَرَبِ فَهُوَ مِلْكَانُ بِكَسْرِ الْمِيمِ إلّا مَلَكَانَ فِي جَرْمِ بْنِ زَبّانَ . قَالَ الْمُؤَلّفُ وَابْنُ حَبِيبٍ النّسّابَةُ مَصْرُوفٌ اسْمُ أَبِيهِ وَرَأَيْت لِابْنِ الْمَغْرِبِيّ قَالَ إنّمَا هُوَ ابْنُ حَبِيبَ بِفَتْحِ الْبَاءِ غَيْرُ مُجْرًى ، لِأَنّهَا أُمّهُ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَقَالُوا : هُوَ حَبِيبُ بْنُ الْمُحَبّرِ مَعْرُوفٌ غَيْرُ مُنْكَرٍ وَإِنّمَا ذَكَرْنَاهُ هَاهُنَا لَمّا حَكَيْنَا قَوْلَهُ فِي مِلْكَانَ .

هُبَلُ وَإِسَافٌ وَنَائِلَةُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 172 ] وَكَانَتْ قُرَيْشٌ قَدْ اتّخَذَتْ صَنَمًا عَلَى بِئْرٍ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ يُقَالُ لَهُ هُبَلُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : سَأَذْكُرُ حَدِيثَهُ إنْ شَاءَ اللّهُ فِي مَوْضِعِهِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَاِتّخَذُوا إسَافًا وَنَائِلَةَ عَلَى مَوْضِعِ زَمْزَمَ يَنْحَرُونَ عِنْدَهُمَا ، وَكَانَ إسَافٌ وَنَائِلَةُ رَجُلًا وَامْرَأَةً مِنْ جُرْهُمَ - هُوَ إسَافُ بْنُ بَغْيٍ وَنَائِلَةُ بِنْتُ دِيكٍ - فَوَقَعَ إسَافٌ عَلَى نَائِلَةَ فِي الْكَعْبَةِ ، فَمَسَخَهُمَا اللّهُ حَجَرَيْنِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زُرَارَةَ أَنّهَا قَالَتْ سَمِعْت عَائِشَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - تَقُولُ مَا زِلْنَا نَسْمَعُ أَنّ إسَافًا وَنَائِلَةَ كَانَا رَجُلًا وَامْرَأَةً مِنْ جُرْهُمَ ، أَحْدَثَا فِي الْكَعْبَةِ ، فَمَسَخَهُمَا اللّهُ تَعَالَى حَجَرَيْنِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . [ ص 173 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ
وَحَيْثُ يُنِيخُ الْأَشْعَرُونَ رِكَابَهُمْ ... بِمُفْضَى السّيُولِ مِنْ إسَافٍ وَنَائِلِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ سَأَذْكُرُهَا فِي مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَاِتّخَذَ أَهْلُ كُلّ دَارٍ فِي دَارِهِمْ صَنَمًا يَعْبُدُونَهُ فَإِذَا أَرَادَ الرّجُلُ مِنْهُمْ سَفَرًا تَمَسّحَ بِهِ حِينَ يَرْكَبُ فَكَانَ ذَلِكَ آخِرُ مَا يَصْنَعُ حِينَ يَتَوَجّهُ إلَى سَفَرِهِ وَإِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرِهِ تَمَسّحَ بِهِ فَكَانَ ذَلِكَ أَوّلَ مَا يَبْدَأُ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى أَهْلِهِ فَلَمّا بَعَثَ اللّهُ رَسُولَهُ مُحَمّدًا - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِالتّوْحِيدِ قَالَتْ قُرَيْشٌ : { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ ص : 5 ] وَكَانَتْ الْعَرَبُ قَدْ اتّخَذَتْ مَعَ الْكَعْبَةِ طَوَاغِيتَ وَهِيَ بُيُوتٌ تُعَظّمُهَا كَتَعْظِيمِ الْكَعْبَةِ ، لَهَا سَدَنَةٌ وَحِجَابٌ وَتُهْدِي لَهَا كَمَا تُهْدِي لِلْكَعْبَةِ وَتَطُوفُ بِهَا كَطَوَافِهَا بِهَا وَتَنْحَرُ عِنْدَهَا ، وَهِيَ تَعْرِفُ فَضْلَ الْكَعْبَةِ عَلَيْهَا ؛ لِأَنّهَا كَانَتْ قَدْ عَرَفَتْ أَنّهَا بَيْتُ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَمَسْجِدُهُ .
الْعُزّى وَاللّاتِ وَمَنَاةُ
[ ص 174 ] فَكَانَتْ لِقُرَيْشِ وَبَنِيّ كِنَانَةَ : الْعُزّى بِنَخْلَةَ ، وَكَانَ سَدَنَتَهَا وَحُجّابَهَا بَنُو شَيْبَانَ مِنْ سُلَيْمٍ ، حُلَفَاءُ بَنِي هَاشِمٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حُلَفَاءُ بَنِي أَبِي طَالِبٍ خَاصّةً وَسُلَيْمٌ سُلَيْمُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصْفَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَقَالَ شَاعِرٌ مِنْ الْعَرَبِ :
لَقَدْ أُنْكِحَتْ أَسْمَاءُ رَأْسَ بُقَيْرَةٍ ... مِنْ الْأُدْمِ أَهْدَاهَا امْرِئِ مِنْ بَنِي غَنْمِ
رَأَى قَدَعًا فِي عَيْنِهَا إذْ يَسُوقُهَا ... إلَى غَبْغَبِ الْعُزّى فَوَسّعَ فِي الْقَسْمِ
وَكَذَلِكَ كَانُوا يَصْنَعُونَ إذَا نَحَرُوا هَدْيًا قَسّمُوهُ فِي مَنْ حَضَرَهُمْ . وَالْغَبْغَبُ الْمَنْحَرُ وَمِهْرَاقُ الدّمَاءِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ لِأَبِي خِرَاشٍ الْهُذَلِيّ وَاسْمُهُ خُوَيْلِدُ بْنُ مُرّةَ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ . وَالسّدَنَةُ الّذِينَ يَقُومُونَ بِأَمْرِ الْكَعْبَةِ . قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ :
فَلَا وَرَبّ الْآمِنَاتِ الْقُطّنِ ... [ يَعْمُرْنَ أَمْنًا بِالْحَرَامِ الْمَأْمَنِ ]
بِمَحْبَسِ الْهَدْيِ وَبَيْتِ المَسْدَنِ وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ وَسَأَذْكُرُ حَدِيثَهَا إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعِهِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَتْ اللّاتِ لِثَقِيفِ بِالطّائِفِ ، وَكَانَ سَدَنَتُهَا وَحُجّابُهَا بَنُو مُعَتّبٍ مِنْ ثَقِيفٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَسَأَذْكُرُ حَدِيثَهَا إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى فِي مَوْضِعِهِ . [ ص 175 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَتْ مَنَاةُ لِلْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ، وَمَنْ دَانَ بِدِينِهِمْ مِنْ أَهْلِ يَثْرِبَ ، عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمُشَلّلِ بِقُدَيْدٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَ الْكُمَيْتُ بْنُ زَيْدٍ أَحَدُ بَنِي أَسَدِ بْنِ مُدْرِكَةَ .
وَقَدْ آلَتْ قَبَائِلُ لَا تُوَلّي ... مَنَاةَ ظُهُورَهَا مُتَحَرّفِينَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَيْهَا أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ فَهَدَمَهَا ، وَيُقَالُ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ .
Sفَصْلٌ
وَذَكَرَ إسَافًا وَنَائِلَةَ وَأَنّهُمَا رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ مِنْ جُرْهُمَ ، وَأَنّ إسَافًا وَقَعَ عَلَيْهَا فِي الْكَعْبَةِ فَمُسِخَا ، وَأَخْرَجَهُ رَزِينٌ فِي فَضَائِلِ مَكّةَ عَنْ بَعْضِ السّلَفِ مَا أَمْهَلُهُمَا اللّهُ إلَى أَنْ يَفْجُرَا فِيهَا ، وَلَكِنّهُ قَبّلَهَا ، فَمُسِخَا حَجَرَيْنِ فَأُخْرِجَا إلَى الصّفَا وَالْمَرْوَةِ ، فَنُصِبَا عَلَيْهِمَا ، لِيَكُونَا عِبْرَةً وَمَوْعِظَةً فَلَمّا كَانَ عَمْرَو بْنَ لُحَيّ نَقَلَهُمَا إلَى الْكَعْبَةِ ، وَنَصَبَهُمَا عَلَى زَمْزَمَ ، فَطَافَ النّاسُ بِالْكَعْبَةِ وَبِهِمَا ، حَتّى عُبِدَا مِنْ دُونِ اللّهِ . [ ص 173 ] عَمْرَو بْنَ لُحَيّ جَاءَ بِهِ مِنْ هِيتَ ، وَهِيَ مِنْ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ حَتّى وَضَعَهُ فِي الْكَعْبَةِ . وَذَكَرَ الْوَاقِدِيّ أَنّ نَائِلَةَ حِينَ كَسَرَهَا النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَامَ الْفَتْحِ خَرَجَتْ مِنْهَا سَوْدَاءَ شَمْطَاءَ تَخْمُشُ وَجْهَهَا ، وَتُنَادِي بِالْوَيْلِ وَالثّبُورِ وَذَكَرَ بَاقِيَ الْحَدِيثِ . وَقَوْلُ عَائِشَةَ أَحْدَثَا فِي الْكَعْبَةِ أَرَادَتْ الْحَدَثَ الّذِي هُوَ الْفُجُورُ كَمَا قَالَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - مَنْ أَحْدَثَ [ فِيهَا ] حَدَثًا ، أَوْ آوَى مُحْدِثًا ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللّهِ [ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ ] وَقَالَ عُمَرُ حِينَ كَانَتْ الزّلْزَلَةُ بِالْمَدِينَةِ : أَحْدَثْتُمْ . وَاَللّهِ لَئِنْ عَادَتْ لَأَخْرُجَن مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِكُمْ وَقَوْلُ أَبِي طَالِبٍ مِنْ إسَافٍ وَنَائِلِ وَهُوَ تَرْخِيمٌ فِي غَيْرِ النّدَاءِ لِلضّرُورَةِ كَمَا قَالَ أَمَالُ بْنُ حَنْظَلٍ . وَذَكَرَ قَوْلَ الشّاعِرِ
رَأَى قَدَعًا فِي عَيْنِهَا وَالْقَدَعُ ... ضَعْفُ الْبَصَرِ مِنْ إدْمَانِ النّظَرِ
وَقَوْلُهُ فِي الْغَبْغَبِ وَهُوَ الْمَنْحَرُ وَمَرَاقّ الدّمِ كَانَهُ سُمّيَ بِحِكَايَةِ صَوْتِ الدّمِ عِنْدَ [ ص 174 ] يَكُونَ مَقْلُوبًا مِنْ قَوْلِهِمْ بِئْرٌ بُغْبُغٌ وَبُغَيْبِغٌ إذَا كَانَتْ كَثِيرَةَ الْمَاءِ . قَالَ الرّاجِزُ بُغَيْبِغٌ قَصِيرَةُ الرّشَاءِ . وَمِنْهُ قِيلَ لِعَيْنِ أَبِي نَيْزَرٍ الْبُغَيْبِغَةُ . وَمَعْنَى هَذَا الْبَيْتِ الذّمّ وَتَشْبِيهُ هَذَا الْمَهْجُوّ بِرَأْسِ بَقَرَةٍ قَدْ قَرُبَتْ أَنْ يَذْهَبَ بَصَرُهَا ، فَلَا تَصْلُحُ إلّا لِلذّبْحِ وَالْقَسْمِ . وَذَكَرَ فَلْسًا فِي بِلَادِ طَيّئٍ بَيْنَ أَجَأٍ وَسَلْمَى . وَيُذْكَرُ عَنْ ابْنِ الْكَلْبِيّ أَوْ غَيْرِهِ أَنّ أَجَأً اسْمُ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَهُوَ أَجَأُ بْنُ عَبْدِ الْحَيّ وَكَانَ فَجَرَ بِسَلْمَى بِنْتِ حَامٍ ، أَوْ اُتّهِمَ بِذَلِكَ فَصُلِبَا فِي ذَيْنِك الْجَبَلَيْنِ وَعِنْدَهُمَا جَبَلٌ يُقَالُ لَهُ الْعَوْجَاءُ ، وَكَانَتْ الْعَوْجَاءُ حَاضِنَةَ سَلْمَى - فِيمَا ذُكِرَ - وَكَانَتْ السّفِيرُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَجَأٍ ، فَصُلِبَتْ فِي الْجَبَلِ الثّالِثِ فَسُمّيَ بِهَا .

ذُو الْخُلُصَةِ وَفَلْسٌ وَرُضَاءٌ وَذُو الْكَعَبَاتِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ ذُو الْخُلُصَةِ لِدَوْسِ وَخَثْعَمَ وَبَجِيلَة َ ، وَمَنْ كَانَ بِبِلَادِهِمْ مِنْ الْعَرَبِ بِتَبَالَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَال : ذُو الْخَلَصَةِ . قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْعَرَبِ :
لَوْ كُنْت يَا ذَا الْخَلَصِ الْمَوْتُورَا ... مِثْلِي وَكَانَ شَيْخُك الْمَقْبُورَا
لَمْ تَنْهَ عَنْ قَتْلِ الْعُدَاةِ زُورَا
قَالَ وَكَانَ أَبُوهُ قُتِلَ فَأَرَادَ الطّلَبَ بِثَأْرِهِ فَأَتَى ذَا الْخَلَصَةِ فَاسْتَقْسَمَ عِنْدَهُ بِالْأَزْلَامِ فَخَرَجَ السّهْمُ بِنَهْيِهِ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ . وَمِنْ النّاسِ مَنْ يُنْحِلُهَا امْرَأَ الْقَيْسِ بْنِ حُجْرٍ الْكِنْدِيّ ، فَبَعَثَ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ الْبَجَلِيّ ، فَهَدَمَهُ . [ ص 176 ] [ ص 177 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَتْ فَلْسٌ لِطَيّئٍ وَمَنْ يَلِيهَا بِجَبَلَيْ طَيّئٍ يَعْنِي سَلْمَى وَأَجَأً . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بَعَثَ إلَيْهَا عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ فَهَدَمَهَا ، فَوَجَدَ فِيهَا سَيْفَيْنِ يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا : الرّسُوبُ ، وَلِلْآخَرِ الْمِخْذَمُ . فَأَتَى بِهِمَا رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَوَهَبَهُمَا لَهُ فَهُمَا سَيْفَا عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ لِحِمْيَرَ وَأَهْلِ الْيَمَنِ بَيْتٌ بِصَنْعَاءَ يُقَالُ لَهُ رِئَامٌ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَدْ ذَكَرْت حَدِيثَهُ فِيمَا مَضَى .
S[ ص 175 ] وَذَكَرَ ذَا الْخَلَصَةِ وَهُوَ بَيْتُ دَوْسٍ . وَالْخَلَصُ فِي اللّغَةِ نَبَاتٌ طَيّبُ الرّيحِ يَتَعَلّقُ بِالشّجَرِ لَهُ حَبّ كَعِنَبِ الثّعْلَبِ . وَجَمْعُ الْخَلَصَةِ خَلَصٌ . وَأَنّ الّذِي اسْتَقْسَمَ بِالْأَزْلَامِ هُوَ امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ حُجْرٍ . وَوَقَعَ فِي كِتَابِ أَبِي الْفَرَجِ أَنّ امْرَأَ الْقَيْسِ بْنِ حُجْرٍ حِينَ وَتَرَتْهُ بَنُو أَسَدٍ بِقَتْلِ أَبِيهِ اسْتَقْسَمَ عِنْدَ ذِي الْخَلَصَةِ بِثَلَاثَةِ أَزْلَامٍ وَهِيَ الزّاجِرُ وَالْآمِرُ وَالْمُتَرَبّصُ فَخَرَجَ لَهُ الزّاجِرُ فَسَبّ الصّنَمَ وَرَمَاهُ بِالْحِجَارَةِ وَقَالَ لَهُ اعْضُضْ بِبَظْرِ أُمّك ، وَقَالَ الرّجَزَ الّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ : لَوْ كُنْت يَا ذَا الْخَلَصِ الْمَوْتُورَا . إلَى آخِرِهِ وَلَمْ يَسْتَقْسِمْ أَحَدٌ عِنْدَ ذِي الْخَلَصَةِ بَعْدُ حَتّى جَاءَ الْإِسْلَامُ وَمَوْضِعُهُ الْيَوْمَ مَسْجِدٌ جَامِعٌ لِبَلْدَةِ يُقَالُ لَهَا : الْعَبَلَاتِ مِنْ [ ص 176 ] أَرْضِ خَثْعَمَ . ذَكَرَهُ الْمُبَرّدُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ . وَاسْمُ امْرِئِ الْقَيْسِ حُنْدُجٌ وَالْحُنْدُجُ بَقْلَةٌ تَنْبُتُ فِي الرّمْلِ . وَالْقَيْسُ الشّدّةُ وَالنّجْدَةُ . قَالَ الشّاعِرُ
وَأَنْتَ عَلَى الْأَعْدَاءِ قَيْسٌ وَنَجْدَةٌ ... وَأَنْتَ عَلَى الْأَدْنَى هِشَامٌ وَنَوْفَلُ
وَالنّسَبُ إلَيْهِ مَرْقَسِيّ ، وَإِلَى كُلّ امْرِئِ الْقَيْسِ سِوَاهُ امْرِئِيّ . وَقَدْ قِيلَ إنّ حُنْدُجًا اسْمُ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ عَابِسٍ وَلَهُ صُحْبَةٌ وَهُوَ كِنْدِيّ مِثْلُ الْأَوّلِ فَوَقَعَ الْغَلَطُ مِنْ هَهُنَا . وَقَوْلُهُ لَمْ تَنْهَ عَنْ قَتْلِ الْعُدَاةِ زُورَا . نصب : زورا عَلَى الْحَالِ مِنْ الْمَصْدَرِ الّذِي هُوَ النّهْيُ . أَرَادَ نَهْيًا زُورَا . وَانْتِصَابُ الْمَصْدَرِ عَلَى هَذِهِ الصّورَةِ إنّمَا هُوَ حَالٌ أَوْ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ فَإِذَا حَذَفْت الْمَصْدَرَ وَأَقَمْت الصّفَةَ مَقَامَهُ لَمْ تَكُنْ إلّا حَالًا ، وَالدّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنّك تَقُولُ سَارُوا شَدِيدًا ، وَسَارُوا رُوَيْدًا ، فَإِنْ رَدَدْته إلَى مَا لَمْ يُسَمّ فَاعِلُهُ لَمْ يَجُزْ رَفْعُهُ لِأَنّهُ حَالٌ وَلَوْ لَفَظْت بِالْمَصْدَرِ فَقُلْت : سَارُوا سَيْرًا رُوَيْدًا لَجَازَ أَنْ تَقُولَ فِيمَا لَمْ يُسَمّ فَاعِلُهُ سِيرَ عَلَيْهِ سَيْرٌ رُوَيْدٌ هَذَا كُلّهُ مَعْنَى قَوْلِ سِيبَوَيْهِ ، فَدَلّ عَلَى أَنّ حُكْمَهُ إذَا لُفِظَ بِهِ غَيْرُ حُكْمِهِ إذَا حُذِفَ وَالسّرّ فِي ذَلِكَ أَنّ الصّفَةَ لَا تَقُومُ مَقَامَ الْمَفْعُولِ إذَا حُذِفَ . لَا تَقُولُ كَلّمْت شَدِيدًا ، وَلَا ضَرَبْت طَوِيلًا ، يَقْبُحُ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ الصّفَةُ عَامّةً وَالْحَالُ لَيْسَتْ كَذَلِكَ لِأَنّهَا تَجْرِي مَجْرَى الظّرْفِ وَإِنْ كَانَتْ صِفّةً فَمَوْصُوفُهَا مَعَهَا ، وَهُوَ الِاسْمُ الّذِي هِيَ حَالٌ لَهُ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى : أَفَحَسِبْتُمْ أَنّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا [ الْمُؤْمِنُونَ 115 ] . وَذَكَرَ بَعْثَ جَرِيرٍ الْبَجَلِيّ إلَى هَدْمِ ذِي الْخَلَصَةِ وَذَلِكَ قَبْلَ وَفَاةِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِشَهْرَيْنِ أَوْ نَحْوِهِمَا ، قَالَ جَرِيرٌ بَعَثَنِي رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ رَاكِبًا مِنْ أَحْمَسَ إلَى الْخَلَصَةِ فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ فَدَعَا لِي ، وَقَالَ اللّهُمّ ثَبّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيّا وَفِي كِتَابِ مُسْلِمٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ " وَكَانَ يُقَالُ لَهُ الْكَعْبَةُ الْيَمَانِيّةُ وَالشّآمِيّةُ " ، وَهَذَا مُشْكِلٌ وَمَعْنَاهُ كَانَ يُقَالُ الْكَعْبَةُ الْيَمَانِيّةُ وَالشّآمِيّةُ يَعْنُونَ بِالشّآمِيّةِ الْبَيْتَ الْحَرَامَ ، فَزِيَادَةٌ لَهُ سَهْوٌ وَبِإِسْقَاطِهِ يَصِحّ الْمَعْنَى . قَالَهُ بَعْضُ الْمُحَدّثِينَ وَالْحَدِيثُ فِي جَامِعِ الْبُخَارِيّ بِزِيَادَةِ لَهُ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ، وَلَيْسَ هَذَا عِنْدِي بِسَهْوِ وَإِنّمَا مَعْنَاهُ كَانَ يُقَالُ لَهُ أَيْ يُقَالُ مِنْ أَجْلِهِ الْكَعْبَةُ الشّآمِيّةُ لِلْكَعْبَةِ وَهُوَ الْكَعْبَةُ الْيَمَانِيّةُ ، وَلَهُ بِمَعْنَى مِنْ أَجْلِهِ لَا تُنْكَرُ كَمَا قَالَ ابْنُ أَبِي رَبِيعَةَ :
وَقُمَيْرٌ مِنْ آخِرِ اللّيْلِ قَدْ لَا ... حَ لَهُ قَالَتْ الْفَتَاتَانِ قُومَا
[ ص 177 ] وَذُو الْخُلُصَةِ بِضَمّ الْخَاءِ وَاللّامِ فِي قَوْلِ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَبِفَتْحِهِمَا فِي قَوْلِ ابْنِ هِشَامٍ ، هُوَ صَنَمٌ سَيُعْبَدُ فِي آخِرِ الزّمَانِ ثَبَتَ فِي الْحَدِيثِ أَنّهُ لَا تَقُومُ السّاعَةُ حَتّى تَصْطَفِقُ أَلَيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ وَخَثْعَمَ حَوْلَ ذِي الْخَلَصَةِ

رُضَاءٌ وَالْمُسْتَوْغِرُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَتْ رُضَاءٌ بَيْتًا لِبَنِي رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ ، وَلَهَا يَقُولُ المُسْتَوْغِرُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ حِينَ هَدَمَهَا فِي الْإِسْلَامِ
وَلَقَدْ شَدَدْت عَلَى رُضَاءٍ شِدّةً ... فَتَرَكْتهَا قَفْرًا بِقَاعِ أَسْحَمَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْلُهُ فَتَرَكْتهَا قَفْرًا بِقَاعِ أَسْحَمَا
عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سَعْدٍ . [ ص 178 ] وَيُقَالُ إنّ الْمُسْتَوْغِرَ عُمّرَ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً وَكَانَ أَطْوَلَ مُضَرَ كُلّهَا عُمْرًا ، وَهُوَ الّذِي يَقُولُ
وَلَقَدْ سَئِمْت مِنْ الْحَيَاةِ وَطُولِهَا ... وَعَمِرْتُ مِنْ عَدَدِ السّنِينَ مِئِينَا
مِائَةٌ حَدَتْهَا بَعْدَهَا مِئَتَانِ لِي ... وَازْدَدْت مِنْ عَدَدِ الشّهُورِ سِنِينَا
هَلْ مَا بَقِيَ إلّا كَمَا قَدْ فَاتَنَا ... يَوْمَ يَمُرّ ، وَلَيْلَةٌ تَحْدُونَا
وَبَعْضُ النّاسِ يَرْوِي هَذِهِ الْأَبْيَاتَ لِزُهَيْرِ بْنِ جَنَابٍ الْكَلْبِيّ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ ذُو الْكَعَبَاتِ لِبَكْرِ وَتَغْلِبَ ابْنَيْ وَائِلٍ وَإِيَادٍ بِسِنْدَادَ وَلَهُ يَقُولُ أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ
بَيْنَ الْخَوَرْنَق ِ وَالسّدِير ِ وَبَارِقٍ ... وَالْبَيْتِ ذِي الْكَعَبَاتِ مِنْ سِنْدَادِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذَا الْبَيْتُ لِلْأَسْوَدِ بْنِ يَعْفُرَ النّهْشَلِيّ نَهْشَلُ بْنُ دَارِمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ وَأَنْشَدَنِيهِ أَبُو مُحْرِزٍ خَلَفُ الْأَحْمَرِ :
أَهْلُ الْخَوَرْنَقِ وَالسّدِيرِ وَبَارِقٍ ... وَالْبَيْتِ ذِي الشّرُفَاتِ مِنْ سِنْدَادِ
S[ ص 179 ] [ ص 180 ] وَذَكَرَ المُسْتَوْغِرُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَاسْمُهُ كَعْبٌ . قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ سُمّيَ مُسْتَوْغِرًا بِقَوْلِهِ
يَنِشّ الْمَاءُ فِي الرّبَلَاتِ مِنْهُ ... نَشِيشَ الرّضْفِ فِي اللّبَنِ الْوَغِيرِ
وَالْوَغِيرُ فَعِيلٌ مِنْ وَغْرَةِ الْحَرّ وَهِيَ شِدّتُهُ وَذَكَرَ الْقُتَبِيّ أَنّ الْمُسْتَوْغِرَ حَضَرَ سُوقَ عُكَاظٍ ، وَمَعَهُ ابْنُ ابْنِهِ وَقَدْ هَرِمَ وَالْجَدّ يَقُودُهُ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ اُرْفُقْ بِهَذَا الشّيْخِ فَقَدْ طَالَ [ ص 178 ] رَفَقَ بِك ، فَقَالَ وَمَنْ تَرَاهُ ؟ فَقَالَ هُوَ أَبُوك أَوْ جَدّك ، فَقَالَ مَا هُوَ إلّا ابْنَ ابْنَيْ فَقَالَ مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ وَلَا المُسْتَوْغِرُ بْنُ رَبِيعَةَ فَقَالَ أَنَا المُسْتَوْغِرُ . وَالْأَبْيَاتُ الّتِي أَنْشَدَهَا لَهُ
وَلَقَدْ سَئِمْت مِنْ الْحَيَاةِ وَطُولِهَا ... وَعَمَرْت مِنْ عَدَدِ السّنِينَ مِئِينَا
إلَى آخِرِهِ . ذَكَرَ أَنّهَا تُرْوَى لِزُهَيْرِ بْنِ جَنَابٍ الْكَلْبِيّ وَهُوَ زُهَيْرُ بْنُ جَنَابِ بْنِ هُبَلَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَوْفِ بْنِ غُذْرَةَ بْنِ زَيْدِ اللّاتِ بْنِ رُفَيْدَةَ بْنِ ثَوْرِ بْنِ كَلْبِ بْنِ وَبْرَةَ . وَزُهَيْرٌ هَذَا مِنْ الْمُعَمّرِينَ وَهُوَ الّذِي يَقُولُ
أَبُنَيّ إنْ أَهْلِكْ فَإِنّي ... قَدْ بَنَيْت لَكُمْ بَنِيّهْ
وَتَرَكْتُكُمْ أَوْلَادَ سَادَا ... تِ زِنَادُهُمْ وَرِيّهْ
مِنْ كُلّ مَا نَالَ الْفَتَى ... قَدْ نِلْته إلّا التّحِيّهْ
يُرِيدُ بِالتّحِيّةِ الْبَقَاءَ وَقِيلَ الْمُلْكُ وَأَعْقَبَ هُوَ وَإِخْوَتُهُ قَبَائِلَ فِي كَلْبٍ وَهُمْ زُهَيْرٌ وَعَدِيّ وَحَارِثَةُ وَمَالِكٌ وَيُعْرَفُ مَالِكٌ هَذَا بِالْأَصَمّ لِقَوْلِهِ [ ص 179 ]
أَصَمّ عَنْ الْخَنَا إنْ قِيلَ يَوْمًا ... وَفِي غَيْرِ الْخَنَا أُلْفَى سَمِيعَا
وَأَخُوهُ حَارِثَةُ بْنُ جَنَابٍ وَعُلَيْمُ بْنُ جَنَابٍ وَمِنْ بَنِي عُلَيْمٍ بَنُو زَيْدَ غَيْرُ مَصْرُوفٍ . عُرِفُوا بِأُمّهِمْ زَيْدُ بِنْتُ مَالِكٍ وَهُمْ بَنُو كَعْبِ بْنِ عُلَيْمٍ مِنْهُمْ الرّبَابُ بِنْتُ امْرِئِ الْقَيْسِ امْرَأَةُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيّ وَفِيهَا يَقُولُ
أُحِبّ لِحُبّهَا زَيْدًا جَمِيعًا ... وَنَثْلَةٌ كُلّهَا ، وَبَنِيّ الرّبَابِ
وَأُخْرَى لِأَنّهَا مِنْ آلِ لَأْمٍ ... أُحِبّهُمْ وَطُرّ بَنِي جَنَابِ
فَمِنْ الْمُعَمّرِينَ مِنْ الْعَرَبِ سِوَى الْمُسْتَوْغِرِ مِمّا زَادُوا عَلَى الْمِائَتَيْنِ والثلاثمائة : زُهَيْرٌ هَذَا ، وَعُبَيْدُ بْنُ شَرْيَةَ وَدَغْفَلُ بْنُ حَنْظَلَةَ النّسّابَةُ وَالرّبِيعُ بْنُ ضَبُعٍ الْفَزَارِيّ ، وَذُو الْإِصْبَعِ [ حُرْثَانُ بْنُ مُحَرّثٍ ] الْعَدْوَانِيّ ، وَنَصْرُ بْنُ دُهْمَانَ بْنُ أَشْجَعَ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ ، وَكَانَ قَدْ اسْوَدّ رَأْسُهُ بَعْدَ ابْيِضَاضِهِ وَتَقَوّمَ ظَهْرُهُ بَعْدَ انْحِنَائِهِ وَفِيهِ يَقُولُ الْقَائِلُ
لِنَصْرِ بْنِ دُهْمَانَ الْهُنَيْدَةُ عَاشَهَا ... وَتِسْعِينَ حَوْلًا ثُمّ قُوّمَ فَانْصَاتَا
وَعَادَ سَوَادُ الرّأْسِ بَعْدَ ابْيِضَاضِهِ ... وَلَكِنّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ قَدْ مَاتَا
وَأَمَرَهُ عِنْدَ الْعَرَبِ مِنْ أَعْجَبِ الْعَجَبِ وَمِنْ أَطْوَلِ الْمُعَمّرِينَ عُمْرًا : ذُوَيْدٌ وَاسْمُهُ زَيْدُ بْنُ نَهْدٍ مِنْ قُضَاعَةَ ، وَأَبُوهُ نَهْدٌ إلَيْهِ يُنْسَبُ الْحَيّ الْمَعْرُوفُونَ مِنْ قُضَاعَةَ : بَنُو نَهْدِ بْنِ زَيْدٍ عَاشَ ذُوَيْدٌ أَرْبَعَمِائَةِ عَامٍ - فِيمَا ذَكَرُوا - وَكَانَ لَهُ آثَارٌ فِي الْعَرَبِ ، وَوَقَائِعُ وَغَارَاتٌ فَلَمّا جَاءَ الْمَوْتُ قَالَ
الْيَوْمَ يُبْنَى لِذُوَيْدٍ بَيْتُهُ ... وَمَغْنَمٍ يَوْمَ الْوَغَى حَوَيْته
وَمِعْصَمٌ مُوَشّمٌ لَوَيْته ... لَوْ كَانَ لِلدّهْرِ بِلًى أَبْلَيْته
أَوْ كَانَ قِرْنِي وَاحِدًا كَفَيْته
وَقَوْلُ الْمُسْتَوْغِرِ :
وَلَقَدْ شَدَدْت عَلَى رُضَاءٍ شِدّةً ... فَتَرَكْتهَا قَفْرًا بِقَاعِ أَسْحَمَا
يُرِيدُ تَرَكْتهَا سَحْمَاءَ مِنْ آثَارِ النّارِ وَبَعْدَهُ [ ص 180 ]
وَأَعَانَ عَبْدُ اللّهِ فِي مَكْرُوهِهَا ... وَبِمِثْلِ عَبْدِ اللّهِ أَغْشَى الْمَحْرَمَا
ذَكَرَ ذَا الْكَعَبَاتِ بَيْتَ وَائِلٍ وَأَنْشَدَ لِلْأَسْوَدِ بْنِ يَعْفُرَ
أَرْضُ الْخَوَرْنَقِ وَالسّدِيرِ وَدَارِمَ ... وَالْبَيْتُ ذِي الشّرُفَات مِنْ سِنْدَادِ
وَالْخَوَرْنَقُ : قَصْرٌ بَنَاهُ النّعْمَانُ الْأَكْبَرُ مَلِكُ الْحِيرَةِ لِسَابُورَ لِيَكُونَ وَلَدُهُ فِيهِ عِنْدَهُ وَبَنَاهُ بُنْيَانًا عَجَمِيّا لَمْ تَرَ الْعَرَبُ مِثْلَهُ وَاسْمُ الّذِي بَنَاهُ لَهُ سِنِمّارُ وَهُوَ الّذِي رُدّيَ مِنْ أَعْلَاهُ حَتّى قَالَتْ الْعَرَبُ : جَزَانِي جَزَاءَ سِنِمّارِ وَذَلِكَ أَنّهُ لَمَا تَمّ الْخَوَرْنَقُ ، وَعَجِبَ النّاسُ مِنْ حُسْنِهِ قَالَ سِنِمّارُ أَمَا وَاَللّهِ لَوْ شِئْت حِينَ بَنَيْته جَعَلْته يَدُورُ مَعَ الشّمْسِ حَيْثُ دَارَتْ فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ أَإِنّك لَتُحْسِنُ أَنْ تَبْنِيَ أَجْمَلَ مِنْ هَذَا ؟ وَغَارَتْ نَفْسُهُ أَنْ يُبْتَنَى لِغَيْرِهِ مِثْلُهُ وَأَمَرَ بِهِ فَطُرِحَ مِنْ أَعْلَاهُ وَكَانَ بَنَاهُ فِي عِشْرِينَ سَنَةً قَالَ الشّاعِرُ [ عَبْدُ الْعُزّى بْنُ امْرِئِ الْقَيْسِ الْكَلْبِيّ ] :
جَزَانِي جَزَاهُ اللّهُ شَرّ جَزَائِهِ ... جَزَاءَ سِنِمّارِ وَمَا كَانَ ذَا ذَنْبٍ
سِوَى رَصّهِ الْبُنْيَانَ عِشْرِينَ حِجّةً ... يُعَلّى عَلَيْهِ بِالْقَرَامِدِ وَالسّكْبِ
فَلَمّا انْتَهَى الْبُنْيَانُ يَوْمًا تَمَامَهُ ... وَآضَ كَمِثْلِ الطّوْدِ وَالْبَاذِخِ الصّعْبِ
وَظَنّ سِنِمّارُ بِهِ كُلّ حَبْوَةٍ ... وَفَازَ لَدَيْهِ بِالْمَوَدّةِ وَالْقُرْبِ
رَمَى بِسِنِمّارِ عَلَى حَاقِ رَأْسِهِ ... وَذَاكَ لَعَمْرُ اللّهِ مِنْ أَقْبَحِ الْخَطْبِ
ذَكَرَ هَذَا الشّعْرَ الْجَاحِظُ فِي كِتَابِ الْحَيَوَانِ وَالسّنِمّارُ مِنْ أَسْمَاءِ الْقَمَرِ وَأَوّلُ شِعْرِ الْأَسْوَدِ ذَهَبَ الرّقَادُ فَمَا أُحِسّ رُقَادِي . وَفِيهَا يَقُولُ
وَلَقَدْ عَمِرْتُ وَإِنْ تَطَاوَلَ فِي الْمَدَى ... إنّ السّبِيلَ سَبِيلُ ذِي الْأَعْوَادِ
قِيلَ يُرِيدُ بِالْأَعْوَادِ النّعْشَ وَقِيلَ أَرَادَ عَامِرَ بْنَ الظّرِبِ الّذِي قُرِعَتْ لَهُ الْعَصَا بِالْعُودِ مِنْ الْهَرَمِ وَالْخَرَفِ وَفِيهَا يَقُولُ [ ص 181 ]
مَاذَا أُؤَمّلُ بَعْدَ آلِ مُحَرّقٍ ... تَرَكُوا مَنَازِلَهُمْ وَبَعْدَ إيَادِ
نَزَلُوا بِأَنْقِرَةِ يَسِيلُ عَلَيْهِمْ ... مَاءُ الْفُرَاتِ يَجِيءُ مِنْ أَطْوَادِ
أَرْضُ الْخَوَرْنَقِ وَالسّدِيرِ وَبَارِقٍ ... وَالْبَيْتِ ذِي الْكَعَبَاتِ مِنْ سِنْدَادِ
جَرَتْ الرّيَاحُ عَلَى مَحَلّ دِيَارِهِمْ ... فَكَأَنّمَا كَانُوا عَلَى مِيعَادٍ
وَأَرَى النّعِيمَ وَكُلّ مَا يُلْهَى بِهِ ... يَوْمًا يَصِيرُ إلَى بِلًى وَنَفَادِ
وَمَعْنَى السّدِيرِ بِالْفَارِسِيّةِ بَيْتُ الْمُلْكِ . يَقُولُونَ لَهُ " سِهْدِلِيّ " أَيْ لَهُ ثَلَاثُ شُعَبٍ وَقَالَ الْبَكْرِيّ : سُمّيَ السّدِيرَ ؛ لِأَنّ الْأَعْرَابَ كَانُوا يَرْفَعُونَ أَبْصَارَهُمْ إلَيْهِ فَتَسْدَرُ مِنْ عُلْوِهِ يُقَالُ سَدِرَ بَصَرُهُ إذَا تَحَيّرَ .

أَمْرُ الْبَحِيرَةِ وَالسّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِي
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 181 ] الْبَحِيرَةُ فَهِيَ بِنْتُ السّائِبَةِ وَالسّائِبَةُ النّاقَةُ إذَا تَابَعَتْ بَيْنَ عَشَرِ إنَاثٍ لَيْسَ بَيْنَهُنّ ذَكَرٌ سُيّبَتْ فَلَمْ يُرْكَبْ ظَهْرُهَا ، وَلَمْ يُجَزّ وَبَرُهَا ، وَلَمْ يَشْرَبْ لَبَنُهَا إلّا ضَيْفٌ فَمَا نَتَجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ أُنْثَى شُقّتْ أُذُنُهَا ، ثُمّ خُلّيَ سَبِيلُهَا مَعَ أُمّهَا ، فَلَمْ يُرْكَبْ ظُهْرُهَا ، وَلَمْ يُجَزّ وَبَرُهَا ، وَلَمْ يَشْرَبْ لَبَنُهَا إلّا ضَيْفٌ كَمَا فَعَلَ بِأُمّهَا ، فَهِيَ الْبَحِيرَةُ بِنْتُ السّائِبَةِ . وَالْوَصِيلَةُ الشّاةُ إذَا أَتْأَمَتْ عَشْرَ إنَاثٍ مُتَتَابِعَاتٍ فِي خَمْسَةِ أَبْطُنٍ لَيْسَ بَيْنَهُنّ ذَكَرٌ جُعِلَتْ وَصِيلَةً . قَالُوا : قَدْ وَصَلَتْ فَكَانَ مَا وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لِلذّكُورِ مِنْهُمْ دُونَ إنَاثِهِمْ إلّا أَنْ يَمُوتَ مِنْهَا شَيْءٌ فَيَشْتَرِكُوا فِي أَكْلِهِ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُرْوَى : فَكَانَ مَا وَلَدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لِذُكُورِ بَنِيهِمْ دُونَ بَنَاتِهِمْ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَالْحَامِي : الْفَحْلُ إذَا نُتِجَ لَهُ عَشْرُ إنَاثٍ مُتَتَابِعَاتٍ لَيْسَ بَيْنَهُنّ ذَكَرٌ حُمِيَ ظَهْرُهُ فَلَمْ يُرْكَبْ وَلَمْ يُجَزّ وَبَرُهُ وَخُلّيَ فِي إبِلِهِ يَضْرِبُ فِيهَا ، لَا يَنْتَفِعُ مِنْهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذَا عِنْدَ الْعَرَبِ عَلَى غَيْرِ هَذَا إلّا الْحَامِي ، فَإِنّهُ عِنْدَهُمْ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ . فَالْبَحِيرَةُ عِنْدَهُمْ النّاقَةُ تُشَقّ أُذُنُهَا فَلَا يُرْكَبُ ظَهْرُهَا ، وَلَا يُجَزّ وَبَرُهَا ، وَلَا يَشْرَبُ لَبَنَهَا إلّا ضَيْفٌ أَوْ يُتَصَدّقُ بِهِ وَتُهْمَلُ لِآلِهَتِهِمْ . وَالسّائِبَةُ الّتِي يَنْذُرُ الرّجُلُ أَنْ يُسَيّبَهَا إنْ بَرِئَ مِنْ مَرَضِهِ أَوْ إنْ أَصَابَ أَمْرًا يَطْلُبُهُ . فَإِذَا كَانَ أَسَابَ [ ص 182 ] آلِهَتِهِمْ فَسَابَتْ فَرَعَتْ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا . وَالْوَصِيلَةُ الّتِي تَلِدُ أُمّهَا اثْنَيْنِ فِي كُلّ بَطْنٍ فَيَجْعَلُ صَاحِبُهَا لِآلِهَتِهِ الْإِنَاثَ مِنْهَا ، وَلِنَفْسِهِ الذّكُورَ مِنْهَا : فَتَلِدُهَا أُمّهَا وَمَعَهَا ذَكَرٌ فِي بَطْنٍ فَيَقُولُونَ وَصَلَتْ أَخَاهَا ، فَيَسِيبُ أَخُوهَا مَعَهَا ، فَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي بِهِ يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ النّحْوِيّ وَغَيْرُهُ . رَوَى بَعْضٌ مَا لَمْ يَرْوِ بَعْضٌ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا بَعَثَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى رَسُولَهُ مُحَمّدًا - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنَزَلَ عَلَيْهِ { مَا جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنّ الّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ } [ الْمَائِدَةُ 103 ] . وَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : { وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } [ الْأَنْعَامُ 139 ] . وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ } [ يُونُسُ 59 ] . وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ { وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللّهُ وَلَا تَتّبِعُوا خُطُوَاتِ الشّيْطَانِ إِنّهُ لَكُمْ عَدُوّ مُبِينٌ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذّكَرَيْنِ حَرّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذّكَرَيْنِ حَرّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصّاكُمُ اللّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا لِيُضِلّ النّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنّ اللّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّالِمِينَ } [ الْأَنْعَامُ 142 - 144 ] . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَالَ الشّاعِرُ
حُولُ الْوَصَائِلِ فِي شُرَيْفٍ حِقّةٌ ... وَالْحَامِيَاتُ ظُهُورُهَا وَالسّيّبُ
[ ص 183 ] وَقَالَ تَمِيمُ بْنُ أُبَيّ بْنِ مُقْبِلٍ أَحَدُ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ
فِيهِ مِنْ الْأَخْرَجِ الْمِرْبَاعِ قَرْقَرَةٌ ... هَدْرَ الدّيَافِيّ وَسْطَ الْهَجْمَةِ الْبُحُرِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَجَمْعُ بَحِيرَةٍ بَحَائِرُ وَبُحُرٌ . وَجَمْعُ وَصِيلَةٍ وَصَائِلُ وَوُصُلٌ . وَجَمْعُ سَائِبَةٍ الْأَكْثَرُ سَوَائِبُ وَسُيّبٌ وَجَمْعُ حَامٍ الْأَكْثَرُ حَوَامّ .
Sالْبَحِيرَةُ وَالسّائِبَةُ
فَصْلٌ وَذَكَرَ الْبَحِيرَةَ وَالسّائِبَةَ وَفَسّرَ ذَلِكَ وَفَسّرَهُ ابْنُ هِشَامٍ بِتَفْسِيرِ آخَرَ . وَلِلْمُفَسّرِينَ فِي تَفْسِيرِهِمَا أَقْوَالٌ مِنْهَا : مَا يَقْرُبُ وَمِنْهَا مَا يَبْعُدُ مِنْ قَوْلِهِمَا ، وَحَسْبُك مِنْهَا مَا وَقَعَ فِي الْكِتَابِ لِأَنّهَا أُمُورٌ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيّةِ قَدْ أَبْطَلَهَا الْإِسْلَامُ فَلَا تَمَسّ الْحَاجَةُ إلَى عِلْمِهَا . [ ص 182 ] وَذَكَرَ مَا أَنَزَلَ اللّهُ فِي ذَلِكَ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى : { خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا } [ الْأَنْعَامُ 139 ] وَفِيهِ مِنْ الْفِقْهِ الزّجْرُ عَنْ التّشَبّهِ بِهِمْ فِي تَخْصِيصِهِمْ الذّكُورَ دُونَ الْإِنَاثِ بِالْهِبَاتِ . رَوَتْ عَمْرَةُ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنّهُ قَالَ يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إلَى الْمَالِ فَيَجْعَلُهُ عِنْدَ ذُكُورِ وَلَدِهِ . إنْ هَذَا إلّا كَمَا قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا } رَوَاهُ الْبُخَارِيّ فِي التّارِيخِ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ حَجّاجٍ . [ ص 183 ] الْبَحِيرَةِ
فِيهِ مِنْ الْأَخْرَجِ الْمِرْبَاعِ قَرْقَرَةٌ ... هَدْرَ الدّيَافِيّ وَسَطَ الْهَجْمَةِ الْبُحُرِ
هَكَذَا الرّوَايَةُ الْمِرْبَاعُ بِالْبَاءِ مِنْ الرّبِيعِ وَالْمِرْبَاعُ هُوَ الْفَحْلُ الّذِي يُبَكّرُ بِالْإِلْقَاحِ وَيُقَالُ لِلنّاقَةِ أَيْضًا : مِرْبَاعٌ إذَا بَكّرَتْ بِالنّتَاجِ وَلِلرّوْضَةِ إذَا بَكّرَتْ بِالنّبَاتِ . يَصِفُ فِي هَذَا الْبَيْتِ حِمَارَ وَحْشٍ يَقُولُ فِيهِ مِنْ الْأَخْرَجِ وَهُوَ الظّلِيمُ الّذِي فِيهِ بَيَاضٌ وَسَوَادٌ أَيْ فِيهِ مِنْهُ قَرْقَرَةٌ أَيْ صَوْتٌ وَهَدْرٌ مِثْلَ هَدْرِ الدّيَافِيّ أَيْ الْفَحْلُ الْمَنْسُوبُ إلَى دِيَافَ بَلَدٌ بِالشّامِ وَالْهَجْمَةُ مِنْ الْإِبِلِ دُونَ الْمِائَةِ وَجَعَلَهَا بَحْرًا لِأَنّهَا تَأْمَنُ مِنْ الْغَارَاتِ يَصِفُهَا بِالْمَنَعَةِ وَالْحِمَايَةِ كَمَا تَأْمَنُ مِنْ الْبَحِيرَةِ مِنْ أَنْ تُذْبَحَ أَوْ تُنْحَرَ وَرَأَيْت فِي شِعْرِ ابْنِ مُقْبِلٍ مِنْ الْأَخْرَجِ الْمِرْيَاعِ بِالْيَاءِ أُخْتُ الْوَاوِ وَفَسّرَهُ فِي الشّرْحِ مِنْ رَاعَ يَرِيعُ إذَا أَسْرَعَ الْإِجَابَةَ كَمَا قَالَ طَرَفَةُ " تَرِيعُ إلَى صَوْتِ الْمَهِيبِ وَتَتّقِي " . وَالنّفْسُ إلَى الرّوَايَةِ الْأُولَى أَسْكَنُ وَحُكِيَ عَنْ ابْنِ قُتَيْبَةَ أَنّهُ قَالَ فِي الْبَحْرِ هِيَ الْغَزِيرَاتُ اللّبَنِ لَا جَمْعُ بَحِيرَةٍ كَأَنّهَا : جَمْعُ بُحُورٍ عِنْدَهُ فَظَنّ هَذَا يُذْهِبُ الْمَعْنَى الّذِي ذَكَرْنَا مِنْ أَمْنِهَا وَمَنَعَتِهَا ؛ إذْ لَيْسَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْغَزِيرَاتِ اللّبَنِ لَكِنّهُ أَظْهَرُ فِي الْعَرَبِيّةِ لِأَنّ بَحِيرَةً فَعَيْلَةٌ وَفَعِيلَةٌ لَا تُجْمَعُ عَلَى فُعُلٍ إلّا أَنْ تُشَبّهَ بِسَفِينَةِ وَسُفُنٍ وَخَرِيدَةٍ وَخُرُدٍ وَهُوَ قَلِيلٌ . وَقِيلَ الْبَيْتُ فِي وَصْفِ رَوْضٍ
بِعَازِبِ النّبْتِ يَرْتَاحُ الْفُؤَادُ لَهُ ... رَأْدَ النّهَارِ لِأَصْوَاتِ مِنْ النّغَرِ
وَبَعْدَ الْبَيْتِ الْوَاقِعِ فِي السّيرَةِ
وَالْأَزْرَقُ الْأَخْضَرُ السّرْبَالُ مُنْتَصِبٌ ... قَيْدُ الْعَصَا فَوْقَ ذَيّالٍ مِنْ الزّهَرِ
يَعْنِي بِالْأَزْرَقِ ذُبَابُ الرّوْضِ وَكَذَلِكَ النّغَرُ . وَقَوْلُهُ فِي الْبَيْتِ الْآخَرِ حَوْلُ الْوَصَائِلِ [ ص 184 ] جَمْعُ حَائِلٍ ، وَيُقَالُ فِي جَمْعِهَا أَيْضًا : حُولَلٌ وَمِثْلُهُ عَائِطٌ وَعُوطَطٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ . وَالشّرِيفُ اسْمُ مَوْضِعٍ .

عُدْنَا إلَى سِيَاقَةِ النّسَبِ
نَسَبِ خُزَاعَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 184 ] وَخُزَاعَةُ تَقُولُ نَحْنُ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ مِنْ الْيَمَنِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَتَقُولُ خُزَاعَةُ : نَحْنُ بَنُو عَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ الْأَسَدِ بْنِ الْغَوْثِ ، وَخِنْدِفُ أُمّهَا ، فِيمَا حَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ . وَيُقَالُ خُزَاعَةُ : بَنُو حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ . وَإِنّمَا سُمّيَتْ خُزَاعَةَ ، لِأَنّهُمْ تَخَزّعُوا مِنْ وَلَدِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ، حِينَ أَقْبَلُوا مِنْ الْيَمَنِ يُرِيدُونَ الشّامَ ، فَنَزَلُوا بِمَرّ الظّهْرَانِ ، فَأَقَامُوا بِهَا . قَالَ عَوْنُ بْنُ أَيّوبَ الْأَنْصَارِيّ أَحَدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ سَوَادِ بْنِ غَنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ مِنْ الْخَزْرَجِ فِي الْإِسْلَامِ
فَلَمّا هَبَطْنَا بَطْنَ مَرّ تَخَزّعَتْ ... خُزَاعَةُ مِنّا فِي خُيُولِ كَرَاكِرِ
حَمَتْ كُلّ وَادٍ مِنْ تِهَامَةَ وَاحْتَمَتْ ... بِصُمّ الْفَنَا وَالْمُرْهَفَاتِ الْبَوَاتِرِ
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . [ ص 185 ] وَقَالَ أَبُو الْمُطّهِرِ إسْمَاعِيلُ بْنُ رَافِعٍ الْأَنْصَارِيّ ، أَحَدُ بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ :
فَلَمّا هَبَطْنَا بَطْنَ مَكّةَ أَحْمَدَتْ ... خُزَاعَةُ دَارَ الْآكِلِ الْمُتَحَامِلِ
فَحَلّتْ أَكَارِيسًا ، وَشَتّتْ قَنَابِلًا ... عَلَى كُلّ حَيّ بَيْنَ نَجْدٍ وَسَاحِلِ
نَفَوْا جُرْهُمًا عَنْ بَطْنِ مَكّةَ وَاحْتَبَوْا ... بِعِزّ خُزَاعِيّ شَدِيدِ الْكَوَاهِلِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ وَأَنَا إنْ شَاءَ اللّهُ أَذْكُرُ نَفْيَهَا جُرْهُمًا فِي مَوْضِعِهِ .
Sنَسَبُ خُزَاعَةَ
وَقَوْلُهُ فِي نَسَبِ خُزَاعَةَ : تَقُولُ خُزَاعَةُ : نَحْنُ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَامِرِ إلَى آخِرِ النّسَبِ وَقَدْ تَقَدّمَ أَنّ عَمْرًا يُقَالُ لَهُ مُزَيْقِيَاءُ . وَأَمّا عَامِرٌ فَهُوَ مَاءُ السّمَاءِ سُمّيَ بِذَلِكَ لِجُودِهِ وَقِيَامِهِ عِنْدَهُمْ مَقَامَ الْغَيْثِ . وَحَارِثَةُ بْنُ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ وَهُوَ الْغِطْرِيفُ .
بَطْنُ مَرّ
وَقَوْلُ عَوْنٍ فَلَمّا هَبَطْنَا بَطْنَ مَرّ . يُرِيدُ مَرّ الظّهْرَانِ ، وَسُمّيَ مَرّا لِأَنّ فِي عِرْقٍ مِنْ الْوَادِي مِنْ غَيْرِ لَوْنِ الْأَرْضِ شِبْهُ الْمِيمِ الْمَمْدُودَةِ وَبَعْدَهَا را خُلِقَتْ كَذَلِكَ وَيُذْكَرُ عَنْ كَثِيرٍ أَنّهُ قَالَ سُمّيَتْ مَرّا لِمَرَارَتِهَا ، وَلَا أَدْرِي مَا صِحّةُ هَذَا . [ ص 185 ]
خُزَاعَتُنَا أَهْلُ اجْتِهَادٍ وَهِجْرَةٍ ... وَأَنْصَارُنَا جُنْدُ النّبِيّ الْمُهَاجِرِ
وَسِرْنَا إلَى أَنْ قَدْ نَزَلْنَا بِيَثْرِبَ ... بِلَا وَهَنٍ مِنّا وَغَيْرَ تَشَاجُرٍ
وَسَارَتْ لَنَا سَيّارَةٌ ذَاتُ مَنْظَرٍ ... بِكَوْمِ الْمَطَايَا وَالْخُيُولِ الْجُمَاهِرِ
يَؤُمّونَ أَهْلَ الشّامِ حِينَ تَمَكّنُوا ... مُلُوكًا بِأَرْضِ الشّامِ فَوْقَ الْبَرَابِرِ
أَوْلَاك بَنُو مَاءِ السّمَاءِ تَوَارَثُوا ... دِمَشْقًا بِمُلْكِ كَابِرًا بَعْدَ كَابِرٍ
الْحُلُولُ جَمْعُ : حَالّ وَالْكَرَادِيسُ جَمْعُ : كُرْدُوسٍ الْخَيْلُ .
دِمَشْقُ
وَقَوْلُهُ دِمَشْقًا ، سُمّيَتْ مَدِينَةَ الشّامِ بِاسْمِ الرّجُلِ الّذِي هَاجَرَ إلَيْهَا مَعَ إبْرَاهِيمَ وَهُوَ دَامِشْقُ بْنُ النّمْرُوذِ بْنِ كَنْعَانَ أَبُوهُ الْمَلِكُ الْكَافِرُ عَدُوّ إبْرَاهِيمَ وَكَانَ ابْنُهُ دَامِشْقُ قَدْ آمَنَ بِإِبْرَاهِيمَ وَهَاجَرَ مَعَهُ إلَى الشّامِ . كَذَلِكَ ذَكَرَ بَعْضُ النّسّابِ وَذَكَرَهُ الْبَكْرِيّ فِي كِتَابِ الْمُعْجَمِ . وَالدّمَشْقُ فِي اللّغَةِ النّاقَةُ الْمُسِنّةُ - فِيمَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ - وَكَانَ يُقَالُ لِدِمَشْقَ أَيْضًا : جَيْرُونُ سُمّيَتْ بِاسْمِ الّذِي بَنَاهَا ، وَهُوَ جَيْرُونُ بْنُ سَعْدِ [ بْنِ عَادٍ ] ، وَفِيهَا يَقُولُ أَبُو دَهْبَلَ [ الْجُمَحِيّ ] :
صَاحِ حَيّا الْإِلَهُ حَيّا وَدَارَا ... عِنْدَ شَرْقِ الْقَنَاةِ مِنْ جَيْرُونَ

أَوْلَادُ مُدْرِكَةَ وَخُزَيْمَةَ وَكِنَانَةَ وَالنّضْرِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 186 ] فَوَلَدَ مُدْرِكَةُ بْنُ إلْيَاسَ رَجُلَيْنِ خُزَيْمَةَ بْنَ مُدْرِكَةَ وَهُذَيْلَ بْنَ مُدْرِكَةَ ، وَأُمّهُمَا : امْرَأَةٌ مِنْ قُضَاعَةَ [ قِيلَ سَلْمَى بِنْتُ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ - كَمَا فِي نَسَبِ قُرَيْشٍ ] . فَوَلَدَ خُزَيْمَةُ بْنُ مُدْرِكَةَ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ كِنَانَةَ بْنَ خُزَيْمَةَ ، وَأَسَدَ بْنَ خُزَيْمَةَ ، وَأَسَدَةَ بْنَ خُزَيْمَةَ ، وَالْهَوْنَ بْنَ خُزَيْمَةَ ، فَأُمّ كِنَانَةَ عَوَانَةُ بِنْتُ سَعْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ بْنِ مُضَرَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ الْهَوْنُ بْنُ خُزَيْمَةَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَوَلَدَ كِنَانَةُ بْنُ خُزَيْمَةَ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ النّضْرَ بْنَ كِنَانَةَ ، وَمَالِكَ بْنَ كِنَانَةَ ، وَعَبْدَ مَنَاةَ بْنَ كِنَانَةَ وَمِلْكَانَ بْنَ كِنَانَةَ فَأُمّ النّضْرِ بَرّةُ بِنْتُ مُرّ بْنِ أَدّ بْنِ طَابِخَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ ، وَسَائِرُ بَنِيهِ لِامْرَأَةِ أُخْرَى . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أُمّ النّضْرِ وَمَالِكٍ وَمِلْكَانَ . بَرّةُ بِنْتُ مُرّ وَأُمّ عَبْدِ مَنَاةَ هَالَةُ بِنْتُ سُوَيْدِ بْنِ الْغِطْرِيفِ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ . وَشَنُوءَةُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَالِكِ بْنِ نَصْرِ بْنِ الْأَسْدِ بْنِ الْغَوْثِ ، وَإِنّمَا سُمّوا شَنُوءَةَ لِشَنَآنِ كَانَ بَيْنَهُمْ . وَالشّنَآنُ الْبُغْضُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : النّضْرُ قُرَيْشٌ ، فَمَنْ كَانَ مِنْ وَلَدِهِ فَهُوَ قُرَشِيّ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ وَلَدِهِ فَلَيْسَ بِقُرَشِيّ . قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَطِيّةَ أَحَدُ بَنِي كُلَيْبِ بْنِ يَرْبُوعِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمِ يَمْدَحُ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ :
فَمَا الْأُمّ الّتِي وَلَدَتْ قُرَيْشًا ... بِمُقْرِفَةِ النّجّارِ وَلَا عَقِيمِ
وَمَا قَرْمٌ بِأَنْجَبَ مِنْ أَبِيكُمْ ... وَمَا خَالٌ بِأَكْرَمَ مِنْ تَمِيمِ
[ ص 187 ] بَرّةَ بِنْتَ مُرّ أُخْتَ تَمِيمِ بْنِ مُرّ ، أُمّ النّضْرِ . وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . [ ص 188 ] وَيُقَالُ فِهْرُ بْنُ مَالِكٍ : قُرَيْشٌ ، فَمَنْ كَانَ مِنْ وَلَدِهِ فَهُوَ قُرَشِيّ ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ وَلَدِهِ فَلَيْسَ بِقُرَشِيّ وَإِنّمَا سُمّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشًا مِنْ التّقَرّشِ وَالتّقَرّشُ التّجَارَةُ وَالِاكْتِسَابُ . قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ :
قَدْ كَانَ يُغْنِيهِمْ عَنْ الشّغُوشِ ... وَالْخَشْلِ مِنْ تَسَاقُطِ الْقُرُوشِ
شَحْمٌ وَمَحْضٌ لَيْسَ بِالْمَغْشُوشِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَالشّغُوشُ قَمْحٌ يُسَمّى : الشّغُوشَ . وَالْخَشْلُ رُءُوسُ الْخَلَاخِيلِ وَالْأَسْوِرَةِ وَنَحْوِهِ . وَالْقُرُوشُ التّجَارَةُ وَالِاكْتِسَابُ يَقُولُ قَدْ كَانَ يُغْنِيهِمْ عَنْ هَذَا شَحْمٌ وَمَحْضٌ وَالْمَحْضُ اللّبَنُ الْحَلِيبُ الْخَالِصُ . [ ص 189 ] وَقَالَ أَبُو جِلْدَةَ الْيَشْكُرِيّ ، وَيَشْكُرُ بْنُ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ :
إخْوَةٌ قَرَشُوا الذّنُوبَ عَلَيْنَا ... فِي حَدِيثٍ مِنْ عُمْرِنَا وَقَدِيمِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَيُقَالُ إنّمَا سُمّيَتْ قُرَيْشٌ : قُرَيْشًا لِتَجَمّعِهَا مِنْ بَعْدِ تُفَرّقْهَا . وَيُقَالُ لِلتّجَمّعِ التّقَرّشُ . فَوَلَدَ النّضْرُ بْنُ كِنَانَةَ رَجُلَيْنِ مَالِكَ بْنَ النّضْرِ ، وَيَخْلُدَ بْنَ النّضْرِ فَأُمّ مَالِكٍ عَاتِكَةُ بِنْتُ عَدْوَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ وَلَا أَدْرِي أَهِيَ أَمْ يَخْلُدَ أَمْ لَا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَالصّلْتُ بْنُ النّضْرِ - فِيمَا قَالَ أَبُو عَمْرٍو الْمَدَنِيّ - وَأُمّهُمْ جَمِيعًا : بِنْتُ سَعْدِ بْنِ ظَرِبٍ الْعَدْوَانِيّ . وَعَدْوَانُ : بْنُ عُمَرَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ . قَالَ كُثَيّرُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ - وَهُوَ كُثَيّرُ عَزّةَ أَحَدُ بَنِي مُلَيْحِ بْنِ عَمْرٍو ، مِنْ خُزَاعَةَ :
أَلَيْسَ أَبِي بِالصّلْتِ أَمْ لَيْسَ إخْوَتِي ... لِكُلّ هِجَانٍ مِنْ بَنِي النّضْرِ أَزْهَرَا
رَأَيْت ثِيَابَ الْعَصْبِ مُخْتَلِطَ السّدَى ... بِنَا وَبِهِمْ وَالْحَضْرَمِيّ الْمُخَصّرَا
[ إذَا مَا قَطَعْنَا مِنْ قُرَيْشٍ قَرَابَةً ... بِأَيّ نِجَادٍ يَحْمِلُ السّيْفَ مَيْسَرًا ]
فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا مِنْ بَنِي النّضْرِ فَاتْرُكُوا ... أَرَاكًا بِأَذْنَابِ الْفَوَائِجِ أَخْضَرَا
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَاَلّذِينَ يُعْزَوْنَ إلَى الصّلْتِ بْنِ النّضْرِ مِنْ خُزَاعَةَ : بَنُو مُلَيْحِ بْنِ عَمْرٍو ، رَهْطُ كُثَيّرِ عَزّةَ .
S[ ص 186 ]
بَنُو كِنَانَةَ
وَذَكَرَ بَنِي كِنَانَةَ الْأَرْبَعَةَ مَالِكًا وَمِلْكَانَ وَالنّضْرَ وَعَبْدَ مَنَاةَ . وَزَادَ الطّبَرِيّ فِي وَلَدِ كِنَانَةَ عَامِرًا وَالْحَارِثَ وَالنّضِيرَ وَغَنْمًا وَسَعْدًا وَعَوْفًا وَجَرْوَلَ وَالْحُدَالَ وَغَزْوَانَ . كُلّهُمْ بَنُو كِنَانَةَ .
قُرَيْشٌ
فَصْلٌ وَذَكَرَ النّضْرَ بْنَ كِنَانَةَ ، وَقَوْلَ مَنْ قَالَ إنّهُ قُرَيْشٌ ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ فِي أَنّ فِهْرًا هُوَ قُرَيْشٌ ، وَقَدْ قِيلَ إنّ فِهْرًا لَقَبٌ وَاسْمُهُ الّذِي سُمّيَ بِهِ قُرَيْشٌ . [ ص 187 ] فَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ الزّبَيْرُ بْنُ بَكّارٍ فِي أَنْسَابِ قُرَيْشٍ لَهُ قَالَ قَالَ عَمّي : وَأَمّا بَنُو يَخْلُدَ بْنِ النّضْرِ فَذُكِرُ [ وَا ] فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَلِكِ بْنِ كِنَانَةَ وَمِنْهُمْ قُرَيْشُ بْنُ بَدْرِ بْنِ يَخْلُدَ بْنِ النّضْرِ وَكَانَ دَلِيلُ بَنِي كِنَانَةَ فِي تِجَارَاتِهِمْ فَكَانَ يُقَالُ قَدِمَتْ عِيرُ قُرَيْشٍ ، فَسُمّيَتْ قُرَيْشٌ بِهِ وَأَبُوهُ بَدْرُ بْنُ يَخْلُدَ صَاحِبُ بَدْرٍ الْمَوْضِعِ الّذِي لَقِيَ فِيهِ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قُرَيْشًا . وَقَالَ عَنْ غَيْرِ عَمّهِ قُرَيْشُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ يَخْلُدَ وَابْنُهُ بَدْرٌ الّذِي سُمّيَتْ بِهِ بَدْرٌ وَهُوَ احْتَفَرَهَا . قَالَ وَقَدْ قَالُوا : اسْمُ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ : قُرَيْشٌ ، وَمَنْ لَمْ يَلِدْهُ فِهْرٌ ، فَلَيْسَ مِنْ قُرَيْشٍ ، وَذُكِرَ عَنْ عَمّهِ أَنّ فِهْرًا هُوَ قُرَيْشٌ . وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ حَدّثَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُؤَمّلِيّ عَنْ جَدّي عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُصْعَبٍ - رَحِمَهُ اللّهُ - أَنّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ اسْمُ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ : قُرَيْشٌ ، وَإِنّمَا فِهْرٌ لَقَبٌ وَكَذَلِكَ حَدّثَهُ الْمُؤَمّلِيّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ فِي اسْمِ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ : أَنّهُ قُرَيْشٌ ، وَمِثْلُ ذَلِكَ ذُكِرَ عَنْ الْمُؤَمّلِيّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ فِي اسْمِ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ : أَنّهُ قُرَيْشٌ . قَالَ وَحَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ وَقَالَ حَدّثَنَا أَبُو الْبَخْتَرِيّ وَهْبُ بْنُ وَهْبٍ قَالَ حَدّثَنِي ابْنُ أَخِي ابْن شِهَابٌ عَنْ عَمّهِ أَنّ اسْمَ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ الّذِي أَسْمَتْهُ أُمّهُ قُرَيْشٌ ، وَإِنّمَا نَبَزْته فِهْرًا ، كَمَا يُسَمّى الصّبِيّ : غِزَارَةَ وَشَمْلَةَ وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ قَالَ قَالَ وَقَدْ أَجْمَعَ النّسّابُ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ أَنّ قُرَيْشًا إنّمَا تَفَرّقَتْ عَنْ فِهْرٍ ، وَاَلّذِي عَلَيْهِ مَنْ أَدْرَكْته مِنْ نُسّابِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ أَنّ وَلَدَ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ : قُرَيْشٌ ، وَأَنّ مَنْ جَاوَزَ فِهْرَ بْنَ مَالِكٍ بِنَسَبِهِ فَلَيْسَ مِنْ قُرَيْشٍ . وَذُكِرَ عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ السّائِبِ الْكَلْبِيّ فِيمَا حَدّثَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَثْرَمُ عَنْهُ أَنّ النّضْرَ بْنَ كِنَانَةَ هُوَ قُرَيْشٌ ، وَذُكِرَ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَلَدَ مَالِكُ بْنُ النّضْرِ فِهْرًا ، وَهُوَ جِمَاعُ قُرَيْشٍ ، وَقَالَ قَالَ مُحَمّدُ بْنُ حَسَنٍ عَنْ نَصْرِ بْنِ مُزَاحِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُحَمّدٍ عَنْ الشّعْبِيّ ، قَالَ النّضْرُ بْنُ كِنَانَةَ هُوَ قُرَيْشٌ ، وَإِنّمَا سُمّيَ قُرَيْشًا ؛ لِأَنّهُ كَانَ يُقَرّشُ عَنْ خَلّةِ النّاسِ وَحَاجَتِهِمْ فَيَسُدّهَا بِمَالِهِ وَالتّقْرِيشُ . هُوَ التّفْتِيشُ وَكَانَ بَنُوهُ يُقْرِشُونَ أَهْلَ الْمَوْسِمِ عَنْ الْحَاجَةِ فَيَرْفِدُونَهُمْ بِمَا يَبْلُغُهُمْ فَسُمّوا بِذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ وَقَرْشِهِمْ قُرَيْشًا . وَقَدْ قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلّزَةَ فِي بَيَانِ الْقَرْشِ
أَيّهَا النّاطِقُ الْمُقَرّشُ عَنّا ... عِنْدَ عَمْرٍو ، فَهَلْ لَهُ أَنُفَاءُ
وَحَدّثَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَثْرَمُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنّى [ التّيْمِيّ ] ، قَالَ مُنْتَهَى مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ قُرَيْشٍ : النّضْرُ بْنُ كِنَانَةَ ، فَوَلَدُهُ قُرَيْشٌ دُونَ سَائِرِ بَنِي كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ [ ص 188 ] عَامِرُ بْنُ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ ، فَأَمّا مَنْ وَلَدُ كِنَانَةَ سِوَى النّضْرِ فَلَا يُقَالُ لَهُمْ قُرَيْشٌ ، وَإِنّمَا سُمّيَ بَنُو النّضْرِ قُرَيْشًا لِتَجَمّعِهِمْ لِأَنّ التّقَرّشَ هُوَ التّجَمّعُ . قَالَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ التّجّارُ يَتَقَارَشُونَ يَتّجِرُونَ وَالدّلِيلُ عَلَى اضْطِرَابِ هَذَا الْقَوْلِ أَنّ قُرَيْشًا لَمْ يَجْتَمِعُوا حَتّى جَمَعَهُمْ قُصَيّ بْنُ كِلَابٍ ، فَلَمْ يَجْمَعْ إلّا وَلَدَ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ لَا مِرْيَةَ عِنْدَ أَحَدٍ فِي ذَلِكَ وَبَعْدَ هَذَا فَنَحْنُ أَعْلَمُ بِأُمُورِنَا ، وَأَرْعَى لِمَآثِرِنَا ، وَأَحْفَظُ لِأَسْمَائِنَا ، لَمْ نَعْلَمْ وَلَمْ نَدَعْ قُرَيْشًا ، وَلَمْ نُهْمِمْ إلّا وَلَدَ فِهْرِ بْنِ مَالِكٍ . قَالَ الْمُؤَلّفُ فِي جَمِيعِ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ قَوْلِ الزّبَيْرِ وَمَا حَكَاهُ عَنْ النّسّابِينَ نَقَلْته مِنْ كِتَابِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ - رَحِمَهُ اللّهُ - ثُمّ أَلْفَيْته فِي كِتَابِ الزّبَيْرِ كَمَا ذَكَرَهُ وَرَأَيْت لِغَيْرِهِ أَنّ قُرَيْشًا تَصْغِيرُ الْقِرْشِ وَهُوَ حُوتٌ فِي الْبَحْرِ يَأْكُلُ حِيتَانَ الْبَحْرِ سُمّيَتْ بِهِ الْقَبِيلَةُ أَوْ سُمّيَ بِهِ أَبُو الْقَبِيلَةِ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - وَرَدّ الزّبَيْرُ عَلَى ابْنِ إسْحَاقَ فِي أَنّهَا سُمّيَتْ قُرَيْشًا لِتَجَمّعِهَا ، وَأَنّهُ لَا يُعْرَفُ قُرَيْشٌ إلّا فِي بَنِي فِهْرٍ رَدّا لَا يُلْزِمُ لِأَنّ ابْنَ إسْحَاقَ لَمْ يَقُلْ إنّهُمْ بَنُو قُصَيّ خَاصّةً وَإِنّمَا أَرَادَ أَنّهُمْ سُمّوا بِهَذَا الِاسْمِ مُذْ جَمَعَهُمْ قُصَيّ ، وَكَذَا قَالَ الْمُبَرّدُ فِي الْمُقْتَضَبِ إنّ هَذِهِ التّسْمِيَةَ إنّمَا وَقَعَتْ لِقُصَيّ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - غَيْرَ أَنّا قَدّمْنَا فِي قَوْلِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ مَا يَدُلّ عَلَى أَنّهَا كَانَتْ تُسَمّى قُرَيْشًا قَبْلَ مَوْلِدِ قُصَيّ وَهُوَ قَوْلُهُ إذَا قُرَيْشٌ تَبْغِي الْحَقّ خِذْلَانًا . وَذَكَرَ قَوْلَ رُؤْبَةَ قَدْ كَانَ يُغْنِيهِمْ عَنْ الشّغُوشِ . وَفَسّرَهُ ضَرْبٌ مِنْ الْقَمْحِ وَفَسّرَ الْخَشْلَ رُءُوسَ الْخَلَاخِيلِ . وَفِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ قَالَ إنّمَا الْخَشْلُ الْمُقْلُ [ ص 189 ] لُكَثَيّرِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ أَلَيْسَ أَبِي بِالصّلْتِ أَمْ لَيْسَ إخْوَتِي . الْبَيْتُ وَبَعْده :
رَأَيْت ثِيَابَ الْعَصْبِ مُخْتَلِطَ السّدَى ... بِنَا وَبِهِمْ وَالْحَضْرَمِيّ الْمُخَصّرَا
وَالْعَصْبُ بُرُودُ الْيَمَنِ ، لِأَنّهَا تُصْبَغُ بِالْعَصْبِ وَلَا يَنْبُت الْعَصْبُ وَلَا الْوَرْسُ إلّا بِالْيَمَنِ وَكَذَلِكَ اللّبَانُ . قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ . يُرِيدُ إنّ قُدُودَنَا مِنْ قُدُودِهِمْ فَسَدْيُ أَثْوَابِنَا ، مُخْتَلِطٌ بِسَدْيِ أَثْوَابِهِمْ . وَالْحَضْرَمِيّ النّعَالُ الْمُخَصّرَةُ الّتِي تَضِيقُ مِنْ جَانِبَيْهَا كَأَنّهَا نَاقِصَةٌ [ ص 190 ] يُقَالُ رَجُلٌ مُبَطّنٌ أَيْ ضَامِرُ الْبَطْنِ وَجَاءَ فِي صِفَةِ نَعْلِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنّهَا كَانَتْ مُعَقّبَةً مُخَصّرَةً مُلَسّنَةً مُخَثْرَمَةً . وَالْمُخَثْرَمَةُ الّتِي لَهَا خَثْرَمَةٌ وَهُوَ كَالتّحْدِيرِ فِي مُقَدّمِهَا وَكَانَتْ نَعْلُهُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - مِنْ سِبْتٍ وَلَا يَكُونُ السّبْتُ إلّا مِنْ جِلْدِ بَقَرٍ مَدْبُوغٍ . قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ الْأَصْمَعِيّ وَأَبِي زَيْدٍ .

أَوْلَادُ مَالِكٍ وَابْنِهِ فِهْرٍ
[ ص 190 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَوَلَدَ مَالِكُ بْنُ النّضْرِ : فِهْرَ بْنَ مَالِكٍ ، وَأُمّهُ جَنْدَلَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضٍ الْجُرْهُمِيّ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَلَيْسَ بِابْنِ مُضَاضٍ الْأَكْبَرِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَوَلَدَ فِهْرُ بْنُ مَالِكٍ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ غَالِبَ بْنَ فِهْرٍ ، وَمُحَارِبَ بْنَ فِهْرٍ ، وَالْحَارِثَ بْنَ فِهْرٍ ، وَأَسَدَ بْنَ فِهْرٍ ، وَأُمّهُمْ لَيْلَى بِنْتُ سَعْدِ بْنِ هُذَيْلِ بْنِ مُدْرِكَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَجَنْدَلَةُ بِنْتُ فِهْرٍ ، وَهِيَ أُمّ يَرْبُوعِ بْنِ حَنْظَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ ، وَأُمّهَا : لَيْلَى بِنْتُ سَعْدٍ . قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَطِيّةَ بْنِ الْخَطَفَى . وَاسْمُ الْخَطَفَى : حُذَيْفَةُ بْنُ بَدْرِ بْنِ سَلَمَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ كُلَيْبِ بْنِ يَرْبُوعِ بْنِ حَنْظَلَةَ .
وَإِذَا غَضِبْت رَمَى وَرَائِي بِالْحَصَى ... أَبْنَاءُ جَنْدَلَةٍ كَخَيْرِ الْجَنْدَلِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ .
Sوَذَكَرَ قَوْلَ جَرِيرِ بْنِ الْخَطَفَى :
يَرْفَعْنَ بِاللّيْلِ إذَا مَا أَسْدَفَا ... أَعْنَاقَ جِنّانٍ وَهَامًا رُجّفَا
وَعَنَقًا بَاقِي الرّسِيمِ خَيْطَفَا وَالْخَيْطَفَةُ سُرْعَةٌ فِي الْعَدْوِ فَإِذَا وَصَفْت بِهِ الْعُنُقَ وَالْجَرْيَ قُلْت : عُنُقٌ خَيْطَفٌ وَإِذَا سَمّيْت بِهِ الرّجُلَ قُلْت : خَطَفَى ، وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلْته اسْمًا لِلْمِشْيَةِ فَهُوَ مِثْلُ الْجَمَزَى وَالْبَشَكَى .

غَالِبٌ وَزَوْجَاتُهُ وَأَوْلَادُهُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 191 ] فَوَلَدَ غَالِبُ بْنُ فِهْرٍ رَجُلَيْنِ لُؤَيّ بْنَ غَالِبٍ ، وَتَيْمَ بْنَ غَالِبٍ ، وَأُمّهُمَا : سَلْمَى بِنْتُ عَمْرٍو الْخُزَاعِيّ - وَتَيْمُ بْنُ غَالِبٍ الّذِينَ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو الْأَدْرَمِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَيْسُ بْنُ غَالِبٍ ، وَأُمّهُ سَلْمَى بِنْتُ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو الْخُزَاعِيّ وَهِيَ أُمّ لُؤَيّ وَتَيْمٍ ابْنَيْ غَالِبٍ .
S[ ص 191 ]
بَنُو الْأَدْرَمِ
وَقَوْلُهُ وَتَيْمُ بْنُ غَالِبٍ وَهُمْ بَنُو الْأَدْرَمِ . وَالْأَدْرَمُ الْمَدْفُونُ الْكَعْبَيْنِ مِنْ اللّحْمِ يُقَالُ امْرَأَةٌ دَرْمَاءُ وَكَعْبٌ أَدْرَمُ . قَالَ الرّاجِزُ
قَامَتْ تُرِيهِ خَشْيَةَ أَنْ تُصْرَمَا ... سَاقًا بَخَنْدَاةَ وَكَعْبًا أَدْرَمًا
وَكَفَلًا مِثْلُ النّقَا أَوْ أَعْظَمَا وَالْأَدْرَمُ أَيْضًا : الْمَنْقُوضُ الذّقَنِ وَكَانَ تَيْمُ بْنُ غَالِبٍ كَذَلِكَ فَسُمّيَ الْأَدْرَمَ قَالَهُ الزّبَيْرُ . وَبَنُو الْأَدْرَمِ هَؤُلَاءِ هُمْ أَعْرَابُ مَكّةَ ، وَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ الظّوَاهِرِ ، لَا مِنْ قُرَيْشٍ الْبِطَاحِ ، وَكَذَلِكَ بَنُو مُحَارِبٍ مِنْ فِهْرٍ ، وَبَنُو مَعِيصِ بْنِ عَامِرٍ .

نَسْلُ لُؤَيّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَوَلَدَ لُؤَيّ بْنُ غَالِبٍ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ كَعْبَ بْنَ لُؤَيّ ، وَعَامِرَ بْنَ لُؤَيّ ، وَسَامَةَ بْنَ لُؤَيّ وَعَوْفَ بْنَ لُؤَيّ فَأُمّ كَعْبٍ وَعَامِرٍ وَسَامَةُ مَاوِيّةُ بِنْتُ كَعْبِ بْنِ الْقَيْنِ بْنِ جَسْرٍ ، مِنْ قُضَاعَةَ . [ ص 192 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ وَالْحَارِثُ بْنُ لُؤَيّ وَهُمْ جُشَمُ بْنُ الْحَارِثِ فِي هِزّانَ مِنْ رَبِيعَةَ . قَالَ جَرِيرٌ
بَنِي جُشَمٍ لَسْتُمْ لِهَزّانَ فَانْتَمَوْا ... لِأَعْلَى الرّوَابِي مِنْ لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ
وَلَا تَنْكِحُوا فِي آلِ ضَوْرٍ نِسَاءَكُمْ ... وَلَا فِي شُكَيْسٍ بِئْسَ مَثْوَى الْغَرَائِبِ
وَسَعْدُ بْنُ لُؤَيّ وَهُمْ بَنَانَةُ فِي شَيْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُكَابَةَ بْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلِ ، مِنْ رَبِيعَةَ . وَبُنَانَةُ حَاضِنَةٌ لَهُمْ مِنْ بَنِي الْقَيْنِ بْنِ جَسْرِ بْنِ شَيْعِ اللّهِ وَيُقَالُ سَيْعُ اللّهِ بْنُ الْأَسَدِ بْنِ وَبْرَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ حُلْوَانَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافّ بْنِ قُضَاعَةَ . وَيُقَالُ بِنْتُ [ ص 193 ] النّمِرِ بْنِ قَاسِطٍ ، مِنْ رَبِيعَةَ . وَيُقَالُ بِنْتُ جَرْمِ بْنِ رَبّانَ بْنِ حُلْوَانَ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافّ بْنِ قُضَاعَةَ . وَخُزَيْمَةُ بْنُ لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ ، وَهُمْ عَائِذَةُ فِي شَيْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ . وَعَائِذَةُ امْرَأَةٌ مِنْ الْيَمَنِ ، وَهِيَ أُمّ بَنِي عُبَيْدَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ لُؤَيّ . وَأُمّ بَنِي لُؤَيّ كُلّهِمْ - إلّا عَامِرَ بْنَ لُؤَيّ : مَاوِيّةُ بِنْتُ كَعْبِ بْنِ الْقَيْنِ بْنِ جَسْرٍ . وَأُمّ عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ : مَخْشِيّةُ بِنْتُ شَيْبَانَ بْنِ مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ ، وَيُقَالُ لَيْلَى بِنْتُ شَيْبَانَ بْنِ مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ .
Sمَاوِيّةُ امْرَأَةُ لُؤَيّ
وَذَكَرَ بَنِي لُؤَيّ فَقَالَ أُمّ عَامِرٍ مَاوِيّةُ بِنْتُ كَعْبِ بْنِ الْقَيْنِ . سُمّيَتْ بِالْمَاوِيّةِ وَهِيَ الْمِرْآةُ كَأَنّهَا نُسِبَتْ إلَى الْمَاءِ لِصَفَائِهَا ، وَقُلِبَتْ هَمْزَةُ الْمَاءِ وَاوًا ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ تُقْلَبَ [ ص 192 ] فَيُقَال : مَاهِيّةٌ وَلَكِنْ شَبّهُوهُ بِمَا الْهَمْزَةُ فِيهِ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ يَاءٍ أَوْ وَاوٍ لَمّا كَانَ حُكْمُ الْهَاءِ أَنْ لَا تُهْمَزَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَلَمّا شُبّهَتْ بِحُرُوفِ الْمَدّ وَاللّينِ فَهَمَزُوهَا لِذَلِكَ اُطّرِدَ فِيهَا ذَلِكَ الشّبَهُ وَيَحْتَمِلُ اسْمُ الْمَرْأَةِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوَيْته ، إذَا ضَمَمْته إلَيْك ، يُقَالُ أَوَيْت مِثْلُ ضَمَمْت ، وَآوَيْته مِثْلُ آذَيْته ، ثُمّ يُقَالُ فِي الْمَفْعُولِ مِنْ أَوَيْته عَلَى وَزْنِ فَعَلْت : مَأْوِيّ وَالْمَرْأَةُ مَأْوِيّةٌ ثُمّ تُسَهّلُ الْهَمْزَةُ فَتَكُونُ أَلِفًا سَاكِنَةً . وَخَالَفَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي أُمّ عَامِرٍ فَقَالَ مَخْشِيّةُ بِنْتُ شَيْبَانَ بْنِ مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ ، وَمَاوِيّةُ أُمّ سَائِرِ بَنِيهِ غَيْرَ عَامِرٍ .
بُنَانَةُ وَعَائِذَةُ وَبَنُو نَاجِيَةَ وَذُبْيَانُ وَسَامَةُ
وَذَكَرَ سَعْدَ بْنَ لُؤَيّ وَأَنّهُمْ بُنَانَةُ فِي شَيْبَانَ عُرِفُوا بِحَاضِنَةِ لَهُمْ اسْمُهَا : بُنَانَةُ وَكَانَ بَنُو ضُبَيْعَةَ قَدْ ادّعَوْهُمْ وَهُوَ ضُبَيْعَةُ أَضْجَمُ بْنُ رَبِيعَةَ ، لَا ضُبَيْعَةُ بْنُ أُقَيْشِ بْنِ ثَعْلَبَةَ فَلَمّا كَانَ زَمَنُ عُمَرَ قَدِمُوا عَلَيْهِ وَفِيهِمْ سَيّدٌ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ أَبُو الدّهْمَاءِ فَكَلّمَ أَبُو الدّهْمَاءِ عُمَرَ أَنْ يَلْحَقَهُمْ بِقُرَيْشِ فَأَنْكَرَ عُمَرُ ذَلِكَ فَأَخْبَرَهُ عُثْمَانُ عَنْ أَبِيهِ عَفّانَ أَنّهُ حَدّثَهُ بِصِحّةِ نَسَبِهِمْ إلَى قُرَيْشٍ ، وَسَبَبِ خُرُوجِهِمْ عَنْهُمْ فَوَاعَدَهُمْ أَنْ يَأْتُوهُ الْعَامَ الْقَابِلَ فَيَلْحَقَهُمْ فَقُتِلَ أَبُو الدّهْمَاءِ عِنْدَ انْصِرَافِهِ وَشُغِلُوا بِأَمْرِهِ حَتّى مَاتَ عُمَرُ فَأَلْحَقَهُمْ عُثْمَانُ بِقُرَيْشِ فَلَمّا كَانَ عَلِيّ نَفَاهُمْ عَنْ قُرَيْشٍ ، وَرَدّهُمْ إلَى شَيْبَانَ فَقَالَ الشّاعِرُ
ضَرَبَ التّجِيبِيّ الْمُضَلّلَ ضَرْبَةً ... رَدّتْ بُنَانَةُ فِي بَنِي شَيْبَانَا
وَالْعَائِذِيّ لِمِثْلِهَا مُتَوَقّعٌ ... لِمَا يَكُنْ وَكَأَنّهُ قَدْ كَانَا
[ ص 193 ] الْخَبَرَ مِنْ حَدِيثٍ ذَكَرَهُ الْبَرْقِيّ عَنْ ابْنِ الْكَلْبِيّ وَالْبُنَانَةُ فِي اللّغَةِ الرّائِحَةُ الطّيّبَةُ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْبُنَانَةُ الرّوْضَةُ الْمُعْشِبَةُ الْحَالِيَةُ أَيْ قَدْ حُلّيَتْ بِالزّهْرِ . وَذَكَرَ خُزَيْمَةَ بْنَ لُؤَيّ وَأَنّهُمْ انْتَسَبُوا فِي شَيْبَانَ وَيُعْرَفُونَ بِأُمّهِمْ عَائِذَةَ قَالَ وَعَائِذَةُ مِنْ الْيَمَنِ ، وَقَالَ غَيْرُهُ هِيَ بِنْتُ الْخِمْسِ بْنِ قُحَافَةَ مِنْ خَثْعَمَ وُلِدَتْ لِعُبَيْدِ بْنِ خُزَيْمَةَ مَالِكًا وَحَارِثًا ، فَهُمْ بَنُو خُزَيْمَةَ عَائِذَةَ [ قُرَيْشٌ ] ، وَمِنْ بَنِي خُزَيْمَةَ أَيْضًا : بَنُو حَرْبِ بْنِ خُزَيْمَةَ ، قَتَلَتْهُمْ الْمُسَوّدَةُ فِي قَرْيَتِهِمْ بِالشّامِ وَهُمْ يَحْسَبُونَهُمْ بَنِي حَرْبِ بْنِ أُمَيّةَ . وَذَكَرَ بِنْتَ جَرْمِ بْنِ رَبّانَ . وَبِنْتُ جَرْمَ هِيَ نَاجِيَةُ وَاسْمُهَا : لَيْلَى ، وَجَرْمُ أَبُو جُدّةَ الّذِي نَزَلَ جُدّةَ مِنْ سَاحِلِ الْحِجَازِ ، فَعُرِفَتْ بِهِ كَمَا عُرِفَتْ كَثِيرٌ مِنْ الْبِلَادِ بِمَنْ نَزَلَهَا مِنْ الرّجَالِ وَقَدْ تَقَدّمَ طَرَفٌ مِنْ ذَلِكَ وَسَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ كَثِيرٌ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى . وَرَبّانُ هُوَ عِلَافٌ الّذِي تُنْسَبُ إلَيْهِ الرّحَالُ الْعِلَافِيّةُ . وَذَكَرَ سَعْدَ بْنَ ذُبْيَانَ وَقِصّتُهُ مَعَ عَوْفِ بْنِ لُؤَيّ وَذُبْيَانَ بْنِ بِغِيضِ بِكَسْرِ الذّالِ وَضَمّهَا ، وَالْكَسْرُ أَفْصَحُ وَهُمْ أَرْبَعَةُ أَحْيَاءٍ مِنْ الْعَرَبِ : ذُبْيَانُ بْنُ بِغِيضِ فِي قَيْسٍ ، وَذُبْيَانُ بْنُ ثَعْلَبَةَ فِي بَجِيلَةَ ، وَذُبْيَانُ فِي قُضَاعَةَ ، وَذُبْيَانُ فِي الْأَزْدِ . وَذَكَرَ ابْنُ دُرَيْدٍ فِي كِتَابِ اشْتِقَاقِ الْأَسْمَاءِ لَهُ أَنّ ذُبْيَانَ فُعْلَانُ [ أَوْ فِعْلَانُ ] مِنْ ذَبَى الْعُودُ يَذْبِي [ ذَبْيًا إذَا لَانَ وَاسْتَرْخَى ] . يُقَالُ ذَبَى الْعُودُ وَذَوَى بِمَعْنَى وَاحِدٍ .

أَمْرُ سَامَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَمّا سَامَةُ بْنُ لُؤَيّ فَخَرَجَ إلَى عُمَانَ ، وَكَانَ بِهَا . وَيَزْعُمُونَ أَنّ عَامِرَ بْنَ لُؤَيّ أَخْرَجَهُ وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ فَفَقَأَ سَامَةُ عَيْنَ عَامِرٍ فَأَخَافَهُ عَامِرٌ [ ص 194 ] فَخَرَجَ إلَى عُمَانَ . فَيَزْعُمُونَ أَنّ سَامَةَ بْنَ لُؤَيّ بَيْنَا هُوَ يَسِيرُ عَلَى نَاقَتِهِ إذْ وَضَعَتْ رَأْسَهَا تَرْتَعُ فَأَخَذَتْ حَيّةٌ بِمِشْفَرِهَا ، فَهَصَرَتْهَا حَتّى وَقَعَتْ النّاقَةُ لِشِقّهَا ، ثُمّ نَهَشَتْ سَامَةَ فَقَتَلَتْهُ . فَقَالَ سَامَةُ حِينَ أَحَسّ بِالْمَوْتِ فِيمَا يَزْعُمُونَ [ ص 195 ]
عَيْنُ فَابْكِي لِسَامَةَ بْنِ لُؤَيّ ... عَلِقَتْ مَا بِسَامَةَ الْعَلّاقَهْ
لَا أَرَى مِثْلَ سَامَةَ بْنِ لُؤَيّ ... يَوْمَ حَلّوا بِهِ قَتِيلًا لِنَاقَهْ
بَلّغَا عَامِرًا وَكَعْبًا رَسُولًا ... أَنّ نَفْسِي إلَيْهِمَا مُشْتَاقَهْ
إنْ تَكُنْ فِي عُمَانَ دَارِي ، فَإِنّي ... غَالِبِيّ ، خَرَجْت مِنْ غَيْرِ نَاقَهْ
رُبّ كَأْسٍ هَرَقَتْ يَا ابْنَ لُؤَيّ ... حَذَرَ الْمَوْتِ لَمْ تَكُنْ مُهْرَاقَهْ
رُمْت دَفْعَ الْحُتُوفِ يَا ابْنَ لُؤَيّ ... مَا لِمَنْ رَامَ ذَاكَ بِالْحَتْفِ طَاقَهْ
وَخُرُوسِ السّرَى تَرَكْت رَذِيّا ... بَعْدَ جِدّ وَجِدّةٍ وَرَشَاقَهْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَبَلَغَنِي أَنّ بَعْضَ وَلَدِهِ أَتَى رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَانْتَسَبَ إلَى سَامَةَ بْنِ لُؤَيّ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - " آلشّاعِرِ " ؟ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ كَأَنّك يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَدْت قَوْلَهُ
رُبّ كَأْسٍ هَرَقَتْ يَا بْنَ لُؤَيّ ... حَذَرَ المَوْتِ لَمْ تَكُنْ مُهْرَاقَهْ
قَالَ أَجَلْ .
Sوَذَكَرَ حَدِيثَ سَامَةَ بْنِ لُؤَيّ حِينَ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَحَدُ بَنِيهِ فَانْتَسَبَ لَهُ إلَى سَامَةَ فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ آلشّاعِرِ بِخَفْضِ الرّاءِ مِنْ الشّاعِرِ كَذَا قَيّدَهُ أَبُو بَحْرٍ عَلَى أَبِي [ ص 194 ] كَلَامِ الْمُخَاطَبِ وَإِنْ كَانَ الِاسْتِفْهَامُ لَا يَعْمَلُ مَا قَبْلَهُ فِيمَا بَعْدَهُ وَلَكِنّ الْعَامِلَ مُقَدّرٌ بَعْدَ الْأَلِفِ فَإِذَا قَالَ لَك الْقَائِلُ قَرَأْت عَلَى زَيْدٍ مَثَلًا ، فَقُلْت : آلْعَالِمِ بِالِاسْتِفْهَامِ كَأَنّك قُلْت لَهُ أَعَلَى الْعَالِمِ وَنَظِيرُ هَذَا أَلِفُ الْإِنْكَارِ إذَا قَالَ الْقَائِلُ مَرَرْت بِزَيْدِ فَأَنْكَرْت عَلَيْهِ فَقُلْت أَزَيْدَنِيهِ بِخَفْضِ الدّالِ وَبِالنّصْبِ إذَا قَالَ رَأَيْت زَيْدًا ، قُلْت : أَزَيْدَنِيهِ وَكَذَلِكَ الرّفْعُ . وَمِنْ بَنِي سَامَةَ هَذَا : مُحَمّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ بْنِ الْيَزِيدِ شَيْخِ الْبُخَارِيّ ، وَبَنُو سَامَةَ بْنِ لُؤَيّ زَعَمَ بَعْضُ النّسّابِ أَنّهُ أَدْعِيَاءٌ وَأَنّ سَامَةَ لَمْ يُعَقّبْ وَقَالَ الزّبَيْرُ وَلَدَ سَامَةُ غَالِبًا وَالنّبِيتَ وَالْحَارِثَ . وَأُمّ غَالِبٍ نَاجِيَةُ بِنْتُ جَرْمِ بْنِ زَبّانَ وَاسْمُهَا : لَيْلَى سُمّيَتْ نَاجِيَةً لِأَنّهَا عَطِشَتْ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَجَعَلَ زَوْجُهَا يَقُولُ لَهَا : اُنْظُرِي إلَى الْمَاءِ وَهُوَ يُرِيهَا السّرَابَ حَتّى نَجَتْ فَسُمّيَتْ نَاجِيَةً وَإِلَيْهَا يُنْسَبُ [ بَكْرُ بْنُ قَيْسٍ ] أَبُو الصّدّيقِ النّاجِي الّذِي يَرْوِي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ وَأَبُو الْمُتَوَكّلِ النّاجِي ، وَكَثِيرًا مَا يُخَرّجُ عَنْهُ التّرْمِذِيّ ، وَكَانَ بَنُو سَامَةَ بِالْعِرَاقِ أَعْدَاءً لِعَلِيّ - رَحِمَهُ اللّهُ - وَاَلّذِينَ خَالَفُوا عَلِيّا مِنْهُمْ بَنُو عَبْدُ الْبَيْتِ وَمِنْهُمْ عَلِيّ بْنُ الْجَهْمِ الشّاعِرُ قِيلَ إنّهُ كَانَ يَلْعَنُ أَبَاهُ لَمّا سَمّاهُ عَلِيّا بُغْضًا مِنْهُ فِي عَلِيّ - رَحِمَهُ اللّهُ - ذَكَرَهُ الْمَسْعُودِيّ .
الرّسُولُ وَالْمُرْسَلُ
وَقَوْلُهُ بَلّغَا عَامِرًا وَكَعْبًا رَسُولًا . يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا مَفْعُولٌ بِبَلّغَا إذَا جَعَلَتْ الرّسُولَ بِمَعْنَى : الرّسَالَةِ كَمَا قَالَ الشّاعِرُ
لَقَدْ كَذّبَ الْوَاشُونَ مَا بُحْت عِنْدهمْ ... بِلَيْلَى ، وَلَا أَرْسَلْتهمْ بِرَسُولِ
أَيْ بِرِسَالَةِ وَإِنّمَا سَمّوْا الرّسَالَةَ رَسُولًا إذَا كَانَتْ كِتَابًا ، أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَ الْكِتَابِ مِنْ شِعْرٍ مَنْظُومٍ كَأَنّهُمْ كَانُوا يُقِيمُونَ الشّعْرَ مَقَامَ الْكِتَابِ فَتَبْلُغُهُ الرّكْبَانُ كَمَا تَبْلُغُ الْكِتَابَ يُعْرِبُ [ ص 195 ] فَسُمّيَ رَسُولًا . وَبَيْنَ الرّسُولِ وَالْمُرْسَلِ مَعْنًى دَقِيقٌ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي فَهْمِ قَوْلِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنّاسِ رَسُولًا } [ النّسَاءُ 79 ] فَإِنّهُ لَا يَحْسُنُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يُقَالَ أَرْسَلْنَاك مُرْسَلًا ، وَلَا نَبّأْنَاك تَنْبِيئًا ، كَمَا لَا يَحْسُنُ ضَرَبْنَاك مَضْرُوبًا ، وَلِكَشْفِ هَذَا الْمَعْنَى وَإِيضَاحِهِ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا ، وَاخْتِصَارُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنْ لَيْسَ كُلّ مُرْسَلٍ رَسُولًا ، فَالرّيَاحُ مُرْسَلَاتٌ وَالْحَاصِبُ مُرْسَلٌ وَكَذَلِكَ كُلّ عَذَابٍ أَرْسَلَهُ اللّهُ وَإِنّمَا الرّسُولُ اسْمٌ لِلْمُبَلّغِ عَنْ الْمُرْسِلِ . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ بَلّغَا عَامِرًا وَكَعْبًا رَسُولًا ؛ إذْ قَدْ يُعَبّرُ بِالْوَاحِدِ عَنْ الِاثْنَيْنِ وَالْجَمَاعَةِ فِي مِثْلِ هَذَا اللّفْظِ تَقُولُ أَنْتُمْ رَسُولِي ، وَهِيَ رَسُولِي ، تُسَوّي بَيْنَ الْجَمَاعَةِ وَالْوَاحِدِ وَالْمُذّكّرِ وَالْمُؤَنّثِ . وَفِي التّنْزِيلِ { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنّا رَسُولُ رَبّ الْعَالَمِينَ } [ الشّعَرَاءُ 16 ] فَيَكُونُ الْمَفْعُولُ عَلَى هَذَا : أَنّ نَفْسِي إلَيْهِمَا مُشْتَاقَةٌ وَيَكُونُ أَنْ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوّلِ بَدَلًا مِنْ رَسُولٍ أَيْ رِسَالَةً . وَقَوْلُهُ وَخَرُوسِ السّرَى تَرَكْت رَذِيّا . إنْ خَفَضْت فَمَعْنَاهُ رُبّ خَرُوسِ السّرَى تَرَكْت ، فَتَرَكْت فِي مَوْضِعِ الصّفَةِ لِخَرُوسِ وَإِنْ نَصَبْت جَعَلْتهَا مَفْعُولًا بِتَرَكْت ، وَلَمْ يَكُنْ تَرَكْت فِي مَوْضِعِ صِفَةٍ لِأَنّ الصّفَةَ لَا تَعْمَلُ فِي الْمَوْصُوفِ وَالسّرَى : فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ لِخَرُوسِ عَلَى الْمَجَازِ كَمَا تَقُولُ نَامَ لَيْلُك . يُرِيدُ نَاقَةً صَمُوتًا صَبُورًا عَلَى السّرَى ، لَا تَضْجَرُ مِنْهُ فَسُرَاهَا كَالْأَخْرَسِ وَمِنْهُ قَوْلُ الْكُمَيْتِ
كَتُومٌ إذَا ضَجّ الْمَطِيّ ، كَأَنّمَا ... تَكَرّمَ عَنْ أَخْلَاقِهِنّ وَتَرْغَبُ
[ ص 196 ] الْأَعْشَى :
كَتُومُ الرّغَاءِ إذَا هَجّرَتْ ... وَكَانَتْ بَقِيّةُ ذَوْدٍ كُتُمْ
وَإِنّمَا قَالَ خَرُوسٌ فِي مَعْنَى الْأَخْرَسِ لِأَنّهُ أَرَادَ كَتُومًا ، فَجَاءَ بِهِ عَلَى وَزْنِهِ . قَالَ الْبَرْقِيّ وَكُنْت مَاوِيّةُ بِنْتُ كَعْبٍ تُحِبّ سَامَةَ أَكْثَرَ مِنْ إخْوَتِهِ وَكَانَتْ تَقُولُ وَهِيَ تُرْقِصُهُ صَغِيرًا :
وَإِنّ ظَنّي بِابْنِي إنْ كَبَنْ ... أَنْ يَشْتَرِيَ الْحَمْدَ وَيُغْلِيَ بِالثّمَنْ
وَيَهْزِمُ الْجَيْشَ إذَا الْجَيْشُ أَرْجَحَن ... وَيُرَوّي الْعَيْمَانَ مِنْ مَحْضِ اللّبَنْ
يُقَالُ كَبَنَ وَأَكْبَنَ إذَا اشْتَدّ . [ ص 197 ] وَذَكَرَ قَوْلَ جَرِيرٍ لِبَنِي جُشَمِ بْنِ لُؤَيّ
بَنِي جُشَمٍ لَسْتُمْ لِهَزّانَ فَانْتَمُوا ... لِأَعْلَى الرّوَابِي مِنْ لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ
يُقَالُ إنّهُمْ أَعْطَوْا جَرِيرًا عَلَى هَذَا الشّعْرِ أَلْفَ عِيرٍ رُبَيّ وَكَانُوا يَنْتَسِبُونَ إلَى رَبِيعَةَ ، فَمَا انْتَسَبُوا بَعْدُ إلّا لِقُرَيْشِ .

أَمْرُ عَوْفِ بْنِ لُؤَيّ وَنَقْلَتِهِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 196 ] خَرَجَ - فِيمَا يَزْعُمُونَ - فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، حَتّى إذَا كَانَ بِأَرْضِ غَطَفَانَ بْنِ سَعْدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ أُبْطِئَ بِهِ فَانْطَلَقَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ فَأَتَاهُ ثَعْلَبَةُ بْنُ سَعْدٍ وَهُوَ أَخُوهُ فِي نَسَبِ بَنِي ذُبْيَانَ - ثَعْلَبَةُ بْنُ سَعْدِ بْنِ ذُبْيَانَ بْنِ بِغِيضِ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ . وَعَوْفُ بْنُ سَعْدِ بْنِ ذُبْيَانَ بْنِ بِغِيضِ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ - فَحَبَسَهُ وَزَوّجَهُ وَالْتَاطَهُ وَآخَاهُ فَشَاعَ نَسَبُهُ فِي بَنِي ذُبْيَانَ . وَثَعْلَبَةُ - فِيمَا يَزْعُمُونَ - الّذِي يَقُولُ لِعَوْفِ حِينَ أُبْطِئَ بِهِ فَتَرَكَهُ قَوْمُهُ
احْبِسْ عَلَى ابْنِ لُؤَيّ جَمَلَك ... تَرَكَك الْقَوْمُ وَلَا مَتْرَك لَك
مَكَانَةُ مُرّةَ وَنَسَبُهُ وَسَادَاتُ مُرّةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنُ الزّبَيْرِ ، أَوْ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ حُصَيْنٍ أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ قَالَ لَوْ كُنْت مُدّعِيًا حَيّا مِنْ الْعَرَبِ ، أَوْ مُلْحِقُهُمْ بِنَا لَادّعَيْت بَنِي مُرّةَ بْنِ عَوْفٍ ، إنّا لَنَعْرِفُ فِيهِمْ الْأَشْبَاهَ مَعَ مَا نَعْرِفُ مِنْ مَوْقِعِ ذَلِكَ الرّجُلِ حَيْثُ وَقَعَ يَعْنِي : عَوْفَ بْنَ لُؤَيّ . [ ص 197 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَهُوَ فِي نَسَبِ غَطَفَانَ : مُرّةُ بْنُ عَوْفِ بْنِ سَعْدِ بْنِ ذُبْيَانَ بْنِ بَغِيضِ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ . وَهُمْ يَقُولُونَ إذَا ذُكِرَ لَهُمْ هَذَا النّسَبُ مَا نُنْكِرُهُ وَمَا نَجْحَدُهُ وَإِنّهُ لَأَحَبّ النّسَبِ إلَيْنَا . وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ ظَالِمِ بْنِ جَذِيمَةَ بْنِ يَرْبُوعٍ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَحَدُ بَنِي مُرّةَ بْنِ عَوْفِ حِينَ هَرَبَ مِنْ النّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ ، فَلَحِقَ بِقُرَيْشِ
فَمَا قَوْمِي بِثَعْلَبَةَ بْنِ سَعْدٍ ... وَلَا بِفَزَارَةَ الشّعْرِ الرّقَابَا
وَقَوْمِي - إنْ سَأَلْت - بَنُو لُؤَيّ ... بِمَكّةَ عَلِمُوا مُضَرَ الضّرَابَا
سَفِهْنَا بِاتّبَاعِ نَبِيّ بَغِيضٍ ... وَتَرْكِ الْأَقْرَبِينَ لَنَا انْتِسَابَا
سَفَاهَةَ مُخْلِفٍ لَمّا تَرَوّى ... هَرَاقَ الْمَاءَ وَاتّبَعَ السّرَابَا
فَلَوْ - طُووِعْت - عَمْرَك - كُنْت فِيهِمْ ... وَمَا أَلْفَيْت أَنْتَجِعُ السّحَابَا
وَخَشّ رَوَاحَةُ الْقُرَشِيّ رَحْلِي ... بِنَاجِيَةِ وَلَمْ يَطْلُبْ ثَوَابَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هَذَا مَا أَنْشَدَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ مِنْهَا . [ ص 198 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَقَالَ [ أَبُو زَيْدٍ ] الْحُصَيْنُ بْنُ الْحُمَامِ [ بْنُ رَبِيعَةَ ] الْمُرّيّ ثُمّ أَحَدُ بَنِي سَهْمِ بْنِ مُرّةَ يَرُدّ عَلَى الْحَارِثِ بْنِ ظَالِمٍ ، وَيَنْتَمِي إلَى غَطَفَانَ :
أَلَا لَسْتُمْ مِنّا ، وَلَسْنَا إلَيْكُمْ ... بَرِئْنَا إلَيْكُمْ مِنْ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ
أَقَمْنَا عَلَى عِزّ الْحِجَازِ وَأَنْتُمْ ... بِمُعْتَلَجِ الْبَطْحَاءِ بَيْنَ الْأَخَاشِبِ
يَعْنِي : قُرَيْشًا . ثُمّ نَدِمَ الْحُصَيْنُ عَلَى مَا قَالَ وَعَرَفَ مَا قَالَ الْحَارِثُ بْنُ ظَالِمٍ ، فَانْتَمَى إلَى قُرَيْشٍ ، وَأَكْذَبَ نَفْسَهُ فَقَالَ
نَدِمْت عَلَى قَوْلٍ مَضَى كُنْت قُلْته ... تَبَيّنْت فِيهِ أَنّهُ قَوْلُ كَاذِبٍ
فَلَيْتَ لِسَانِي كَانَ نِصْفَيْنِ مِنْهُمَا ... بَكِيمٌ وَنِصْفٌ عِنْدَ مَجْرَى الْكَوَاكِبِ
أَبُونَا كِنَانِيّ بِمَكّةَ قَبْرُهُ ... بِمُعْتَلَجِ الْبَطْحَاءِ بَيْنَ الْأَخَاشِبِ
لَنَا الرّبُعُ مِنْ بَيْتِ الْحَرَامِ وِرَاثَةً ... وَرُبْعُ الْبِطَاحِ عِنْدَ دَارِ ابْنِ حَاطِبِ
أَيْ أَنّ بَنِي لُؤَيّ كَانُوا أَرْبَعَةً كَعْبًا ، وَعَامِرًا ، وَسَامَةَ وَعَوْفًا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ لِرِجَالِ مِنْ بَنِي مُرّةَ إنْ شِئْتُمْ أَنْ تَرْجِعُوا إلَى نَسَبِكُمْ ، فَارْجِعُوا إلَيْهِ . [ ص 199 ] ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ الْقَوْمُ أَشْرَافًا فِي غَطَفَانَ ، هُمْ سَادَتُهُمْ وَقَادَتُهُمْ . مِنْهُمْ هَرَمُ بْنُ سِنَانِ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ وَخَارِجَةُ بْنُ سِنَانِ بْنِ أَبِي حَارِثَةَ وَالْحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ ، وَالْحُصَيْنُ بْنُ الْحُمَامِ ، وَهَاشِمُ بْنُ حَرْمَلَةَ الّذِي يَقُولُ لَهُ الْقَائِلُ أَحْيَا أَبَاهُ هَاشِمُ بْنُ حَرْمَلَهْ
يَوْمَ الْهَبَاءَاتِ وَيَوْمَ الْيَعْمَلَهْ
تَرَى الْمُلُوكَ عِنْدَهُ مُغَرْبَلَهْ
يَقْتُلُ ذَا الذّنْبِ وَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ لِعَامِرِ الْخَصَفِيّ خَصَفَةُ بْنُ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ أَحْيَا أَبَاهُ هَاشِمُ بْنُ حَرْمَلَهْ
يَوْمَ الْهَبَاءَاتِ وَيَوْمَ الْيَعْمَلَهْ
تَرَى الْمُلُوكَ عِنْدَهُ مُغَرْبَلَهْ
يَقْتُلُ ذَا الذّنْبِ وَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهْ
وَرُمْحُهُ لِلْوَالِدَاتِ مَثْكَلَهْ
[ ص 200 ] قَالَ لِعَامِرِ قُلْ فِيّ بَيْتًا جَيّدًا أُثِبْك عَلَيْهِ فَقَالَ عَامِرٌ الْبَيْتَ الْأَوّلَ فَلَمْ يُعْجِبْ هَاشِمًا ، ثُمّ قَالَ الثّانِي ، فَلَمْ يُعْجِبْهُ ثُمّ قَالَ الثّالِثُ فَلَمْ يُعْجِبْهُ فَلَمّا قَالَ الرّابِعُ
يَقْتُلُ ذَا الذّنْبِ ... وَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهْ
أَعْجَبَهُ فَأَثَابَهُ عَلَيْهِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَذَلِكَ الّذِي أَرَادَ الْكُمَيْتُ بْنُ زَيْدِ بْنِ الْأَخْنَسِ الْأَسَدِيّ فِي قَوْلِهِ
وَهَاشِمُ مُرّةَ الْمُفْنِي مُلُوكًا ... بِلَا ذَنْبٍ إلَيْهِ وَمُذْنِبِينَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَقَوْلُ عَامِرٍ يَوْمَ الْهَبَاءَاتِ . عَنْ غَيْرِ أَبِي عُبَيْدٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ قَوْمٌ لَهُمْ صِيتٌ وَذِكْرٌ فِي غَطَفَانَ وَقَيْسٍ كُلّهَا ، فَأَقَامُوا عَلَى نَسَبِهِمْ وَفِيهِمْ كَانَ الْبَسْلُ .
Sوَذَكَرَ شِعْرَ الْحَارِثِ بْنِ ظَالِمٍ . وَقَوْلُهُ سَفَاهَةَ مُخْلِفٍ وَهُوَ الْمُسْتَقِي [ لِلْمَاءِ ] ، وَفِيهِ لَمْ يَذْكُرْ
لَعَمْرُك إنّنِي لَأُحِبّ كَعْبًا ... وَسَامَةَ إخْوَتِي حُبّي الشّرَابَا
وَقَوْلُهُ وَخَشّ رَوَاحَةُ الْقُرَشِيّ رَحْلِي بِنَاجِيَةِ . أَيْ بِنَاقَةِ سَرِيعَةٍ يُقَالُ خَشّ السّهْمَ بِالرّيْشِ إذَا رَاشَهُ بِهِ فَأَرَادَ رَاشَنِي وَأَصْلَحَ رَحْلِي بِنَاجِيَةِ وَلَمْ يَطْلُبْ ثَوَابًا بِمَدْحِهِ بِذَلِكَ . وَرَوَاحَةُ هَذَا : هُوَ رَوَاحَةُ بْنُ مُنْقِذِ بْنِ مَعِيصِ بْنِ عَامِرِ كَانَ قَدْ رَبَعَ فِي الْجَاهِلِيّةِ أَيْ رَأَسَ وَأَخَذَ الْمِرْبَاعَ . وَقَوْلُهُ لَوْ طُووِعْت عَمْرَك كُنْت فِيهِمْ وَنَصَبَ عَمْرَك عَلَى الظّرْفِ . وَقَوْلُهُ وَمَا أَلْفَيْت أَنْتَجِعُ السّحَابَا . أَيْ كَانُوا يُغْنُونَنِي بِسَيْبِهِمْ وَمَعْرُوفِهِمْ عَنْ انْتِجَاعِ السّحَابِ وَارْتِيَادِ الْمَرَاعِي فِي الْبِلَادِ . [ ص 198 ] الْحَصِينِ بِمُعْتَلَجِ الْبَطْحَاءِ : أَيْ حَيْثُ تَعْتَلِجُ السّيُولِ وَالِاعْتِلَاجُ عَمَلٌ بِقُوّةِ قَالَ الشّاعِرُ
لَوْ قُلْت لِلسّيْلِ دَعْ طَرِيقَك وَالٍ ... سّيْلُ كَمِثْلِ الْهِضَابِ يَعْتَلِجُ
وَفِي الْحَدِيثِ إنّكُمَا عِلْجَانِ فَعَالِجَا عَنْ دِينِكُمَا ، وَفِي الْحَدِيثِ إنّ الدّعَاءَ لَيَلْقَى الْبَلَاءَ نَازِلًا مِنْ السّمَاءِ فَيَعْتَلِجَانِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَيْ يَتَدَافَعَانِ بِقُوّةِ . وَقَوْلُهُ لَنَا الرّبُعُ بِضَمّ الرّاءِ يُرِيدُ أَنّ بَنِي لُؤَيّ كَانُوا أَرْبَعَةً أَحَدُهُمْ أَبُوهُمْ وَهُوَ عَوْفٌ وَبَنُو لُؤَيّ هُمْ أَهْلُ الْحَرَمِ ، وَلَهُمْ وِرَاثَةُ الْبَيْتِ . وَالْأَخَاشِبُ : جِبَالُ مَكّةَ ، وَقَدْ يُقَالُ لِكُلّ جَبَلٍ أَخْشَبُ أَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدٍ : كَأَنّ فَوْقَ مَنْكِبَيْهِ أَخْشَبَا
وَذَكَرَ خَارِجَةَ بْنَ سِنَانٍ الّذِي تَزْعُمُ قَيْسٌ أَنّ الْجِنّ اخْتَطَفَتْهُ لِتَسْتَفْحِلَهُ نِسَاءَهَا لِبَرَاعَتِهِ [ ص 199 ] نَسْلِهِ وَقَدْ قَدِمَتْ بِنْتُهُ عَلَى عُمَرَ فَقَالَ لَهَا : مَا كَانَ أَبُوك أَعْطَى زُهَيْرًا حِينَ مَدَحَهُ فَقَالَتْ أَعْطَاهُ مَالًا وَرَقِيقًا وَأَثَاثًا أَفْنَاهُ الدّهْرُ فَقَالَ لَكِنْ مَا أَعْطَاكُمْ زُهَيْرٌ لَمْ يُفْنِهِ الدّهْرُ وَكَانَ خَارِجَةُ بَقِيرًا أَمَرَتْ أُمّهُ عِنْدَ مَوْتِهَا أَنْ يُبْقَرَ بَطْنُهَا عَنْهُ فَفَعَلُوا فَخَرَجَ حَيّا ، فَسُمّيَ خَارِجَةَ وَيُقَالُ لِلْبَقِيرِ خِشْعَةُ قَالَ الْحَطِيئَةُ يَعْنِي خَارِجَةَ بْنِ سِنَانٍ
لَقَدْ عَلِمَتْ خَيْلُ ابْنِ خِشْعَةَ أَنّهَا ... مَتَى مَا يَكُنْ يَوْمًا جِلَادٌ تُجَالِدُ
وَقَوْلُ عَامِرٍ تَرَى الْمُلُوكَ حَوْلَهُ مُغَرْبَلَهْ . قِيلَ مَعْنَاهُ مُنْتَفِخَةٌ وَذَكَرُوا أَنّهُ يُقَالُ غَرْبَلَ الْقَتِيلُ إذَا انْتَفَخَ وَهَذَا غَيْرُ مَعْرُوفٍ وَإِنْ كَانَ أَبُو عُبَيْدٍ قَدْ ذَكَرَهُ فِي الْغَرِيبِ الْمُصَنّفِ وَأَيْضًا : فَإِنّ الرّوَايَةَ بِفَتْحِ الْبَاءِ مُغَرْبَلَةٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَاهُ يَتَخَيّرُ الْمُلُوكَ فَيَقْتُلُهُمْ وَاَلّذِي أَرَاهُ فِي ذَلِكَ أَنّهُ يُرِيدُ بِالْغَرْبَلَةِ اسْتِقْصَاءَهُمْ وَتَتْبَعُهُمْ كَمَا قَالَ مَكْحُولٌ الدّمَشْقِيّ : وَدَخَلَتْ الشّامَ ، فَغَرْبَلْتهَا غَرْبَلَةً حَتّى لَمْ أَدَعْ عِلْمًا إلّا حَوَيْته ، فِي كُلّ ذَلِكَ أَسْأَلُ عَنْ الْبَقْلِ . [ ص 200 ] وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فَمَعْنَى هَذَا : التّتَبّعُ وَالِاسْتِقْصَاءُ وَكَأَنّهُ مِنْ غَرْبَلْت الطّعَامَ . إذَا تَتَبّعْته بِالِاسْتِخْرَاجِ حَتّى لَا تَبْقَى إلّا الْحُثَالَةُ . وَقَوْلُهُ يَقْتُلُ ذَا الذّنْبِ وَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهْ
إنّمَا أَعْجَبَ هَاشِمًا هَذَا الْبَيْتُ لِأَنّهُ وَصَفَهُ فِيهِ بِالْعِزّ وَالِامْتِنَاعِ وَأَنّهُ لَا يَخَافُ حَاكِمًا يُعْدِي عَلَيْهِ وَلَا تِرَةً مِنْ طَالِبِ ثَأْرٍ . وَهَاشِمُ بْنُ حَرْمَلَةَ هَذَا هُوَ جَدّ مَنْظُورُ بْنُ زَبّانَ بْنِ يَسَارٍ الّذِي كَانَتْ بِنْتُهُ زُجْلَةَ عِنْدَ ابْنِ الزّبَيْرِ فَهُوَ جَدّ مَنْظُورٍ لِأُمّهِ وَاسْمُهَا : قِهْطِمُ بِنْتُ هَاشِمٍ . كَانَتْ قِهْطِمُ قَدْ حَمَلَتْ بِمَنْظُورِ أَرْبَعَ سِنِينَ وَوَلَدَتْهُ بِأَضْرَاسِهِ فَسُمّيَ مَنْظُورًا لِطُولِ انْتِظَارِهِمْ إيّاهُ وَفِي زَبّانَ بْنِ سَيّارٍ وَالِدِ مَنْظُورٍ يَقُولُ الْحُطَيْئَةُ
وَفِي آلِ زَبّانَ بْنِ سَيّارَ فِتْيَةٌ ... يَرَوْنَ ثَنَايَا الْمَجْدَ سَهْلًا صِعَابُهَا
وَلَمْ يَصْرِفْ سَيّارًا لِمَا سَنَذْكُرُهُ بَعْدُ - إنْ شَاءَ اللّهُ .
مُزَيْنَةُ
وَذَكَرَ زُهَيْرًا وَنَسَبَهُ إلَى مُزَيْنَةَ ، وَهُمْ بَنُو عُثْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْأُطُمِ بْنِ أَدّ بْنِ طَابِخَةَ . قَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ :
فَإِنّك خَيْرُ عُثْمَانَ بْنِ عَمْرٍو ... وَأَسْنَاهَا إذَا ذُكِرَ السّنَاءُ
[ ص 201 ] مُزَيْنَةَ ، وَمُزَيْنَةُ : أُمّهُمْ وَهِيَ بِنْتُ كَلْبِ بْنِ وَبْرَةَ وَأُخْتُهَا : الْحَوْأَبُ بِنْتُ كَلْبٍ الّتِي يُعْرَفُ بِهَا مَاءُ الْحَوْأَبِ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَيّتُكُنّ صَاحِبَةُ الْجَمَلِ الْأَدْبَبِ تَنْبَحُهَا كِلَابُ الْحَوْأَبِ .

أَمْرُ الْبَسْلِ
[ ص 201 ] الْعَرَبِ قَدْ عَرَفَتْ ذَلِكَ لَهُمْ الْعَرَبُ لَا يُنْكِرُونَهُ وَلَا يَدْفَعُونَهُ يَسِيرُونَ بِهِ إلَى أَيّ بِلَادِ الْعَرَبِ شَاءُوا ، لَا يَخَافُونَ مِنْهُمْ شَيْئًا . قَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى ، يَعْنِي بَنِي مُرّةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : زُهَيْرٌ أَحَدُ بَنِي مُزَيْنَةَ بْنِ أُدّ بْنِ طَابِخَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ ، وَيُقَالُ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي سُلْمَى مِنْ غَطَفَانَ ، وَيُقَالُ حَلِيفٌ فِي غَطَفَانَ .
تَأَمّلْ فَإِنْ تُقْوِ الْمَرَوْرَاةُ مِنْهُمْ ... وَدَارَاتُهَا لَا تُقْوِ مِنْهُمْ إذًا نَخْلُ
بِلَادٌ بِهَا نَادَمْتهمْ وَأَلِفْتهمْ ... فَإِنْ تُقْوِيَا مِنْهُمْ فَإِنّهُمْ بَسْلُ
أَيْ حَرَامٌ . يَقُولُ سَارُوا فِي حَرَمِهِمْ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ
أَجَارَتُكُمْ بَسْلٌ عَلَيْنَا مُحَرّمٌ ... وَجَارَتُنَا حِلّ لَكُمْ وَحَلِيلُهَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ .
Sالْبَسْلُ
وَذَكَرَ الْبَسْلَ وَهُوَ الْحَرَامُ وَالْبَسْلُ أَيْضًا : الْحَلَالُ فَهُوَ مِنْ الْأَضْدَادِ وَمِنْهُ بُسْلَةُ الرّاقِي ، أَيْ مَا يَحِلّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ عَلَى الرّقْيَةِ وَبَسْلٌ فِي الدّعَاءِ بِمَعْنَى : آمِينَ قَالَ الرّاجِزُ [ الْمُتَلَمّسُ ] :
لَا خَابَ مِنْ نَفْعِك مَنْ رَجَاك ... بَسْلًا ، وَعَادَى اللّهُ مَنْ عَادَاك
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ يَقُولُ فِي أَثَرِ الدّعَاءِ آمِينَ وَبَسْلًا ، أَيْ اسْتِجَابَةً . [ ص 202 ] الْمَرَوْرَاةُ مِنْهُمْ . الْبَيْتُ وَقَعَ فِي بَعْضِ النّسَخِ الْمَرَوْرَاتُ بِتَاءِ مَمْدُودَةٍ كَأَنّهُ جَمْعُ مَرَوْرٍ وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ مِثْلُ هَذَا الْبِنَاءِ وَإِنّمَا هُوَ الْمَرَوْرَاةُ بِهَاءِ مِمّا ضُوعِفَتْ فِيهِ الْعَيْنُ وَاللّامُ فَهُوَ فَعَلْعَلَةٌ مِثْلُ صَمَحْمَحَةٍ وَالْأَلِفُ فِيهِ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ وَاوٍ أَصْلِيّةٍ وَهَذَا قَوْلُ سِيبَوَيْهِ جَعَلَهُ مِثْلَ شَجَوْجَاةٍ وَأَبْطَلَ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ عَثَوْثَلٍ وَقَالَ ابْنُ السّرّاجِ فِي قَطَوْطَاةٍ وَهُوَ مِثْلُ مَرَوْرَاةٍ هُوَ فَعَوْعَلٌ مِثْلُ عَثَوْثَلٍ وَقَالَ سِيبَوَيْهِ فِيهِ إنّهُ مِنْ بَابِ صَمَحْمَحَةٍ فَالْوَاوُ زَائِدَةٌ عَلَى قَوْلِ ابْنِ السّرّاجِ وَوَزْنُهُ عِنْدَهُ فَعَوْعَلَةٌ .

أَوْلَادُ كَعْبٍ وَمُرّةَ وَأُمّهَاتُهُمْ
[ ص 202 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَوَلَدَ كَعْبُ بْنُ لُؤَيّ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ مُرّةَ بْنَ كَعْبٍ ، وَعَدِيّ بْنَ كَعْبٍ ، وَهُصَيْصَ بْنَ كَعْبٍ . وَأُمّهُمْ وَحْشِيّةُ بِنْتُ شَيْبَانَ بْنِ مُحَارِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّضْرِ . فَوَلَدَ مُرّةُ بْنُ كَعْبٍ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ كِلَابَ بْنَ مُرّةَ ، وَتَيْمَ بْنَ مُرّةَ وَيَقَظَةَ بْنَ مُرّةَ . فَأُمّ كِلَابٍ هِنْدُ بِنْتُ سُرَيْرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ [ فِهْرِ بْنِ ] مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ . وَأُمّ يَقَظَةَ الْبَارِقِيّةُ امْرَأَةٌ مِنْ بَارِقَ ، مِنْ الْأُسْدِ مِنْ الْيَمَنِ . وَيُقَالُ هِيَ أُمّ تَيْمٍ . وَيُقَالُ تَيْمٌ هِنْدُ بِنْتُ سُرَيْرٍ أُمّ كِلَابٍ .
Sأَعْلَامٌ وَأَنْسَابٌ
وَذَكَرَ هُصَيْصَ بْنَ كَعْبٍ وَهُوَ فُعَيْلٌ مِنْ الْهَصّ وَهُوَ الْقَبْضُ بِالْأَصَابِعِ . مِنْ كِتَابِ الْعَيْنِ . وَذَكَرَ يَقَظَةَ بْنَ مُرّةَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَقَدْ وَجَدْته بِسُكُونِ الْقَافِ فِي أَشْعَارٍ مُدِحَ بِهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ، فَمِنْهَا قَوْلُ الشّاعِرِ
وَأَنْتَ لِمَخْزُومِ بْنِ يَقْظَةَ جَنّةٌ ... كِلَا اسْمَيْك فِيهَا مَاجِدٌ وَابْنُ مَاجِدِ
وَأُمّ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ جَدّ بَنِي مَخْزُومٍ كَلْبَةُ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ . قَالَهُ الزّبَيْرُ .

نَسَبُ بَارِقَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ [ ص 203 ] بَارِقُ : بَنُو عَدِيّ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ الْأُسْدِ بْنِ الْغَوْثِ ، وَهُمْ فِي شَنُوءَةَ . قَالَ الْكُمَيْتُ بْنُ زَيْدٍ
وَأَزْدُ شَنُوءَةَ انْدَرَءُوا عَلَيْنَا ... بِجُمّ يَحْسَبُونَ لَهَا قَرُونَا
فَمَا قُلْنَا لِبَارِقَ : قَدْ أَسَأْتُمْ ... وَمَا قُلْنَا لِبَارِقَ : أَعْتِبُونَا
قَالَ وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَإِنّمَا سُمّوا بِبَارِقَ ؛ لِأَنّهُمْ تَبِعُوا الْبَرْقَ .
S[ ص 203 ] بَارِقَ ، وَهُمْ بَنُو عَدِيّ بْنِ الْأَزْدِ ، وَقَالَ سُمّوا : بَارِقَ ؛ لِأَنّهُمْ اتّبَعُوا الْبَرْقَ ، وَقَدْ قِيلَ إنّهُمْ نَزَلُوا عِنْدَ جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ بَارِقُ ، فَسُمّوا بِهِ . وَقَوْلُ الْكُمَيْتِ بِجُمّ يَحْسَبُونَ لَهَا قُرُونًا . أَيْ يُنَاطِحُونَ بِلَا عُدّةٍ وَلَا مِنّةٍ كَالْكِبَاشِ الْجُمّ الّتِي لَا قُرُونَ لَهَا ، وَيَحْسَبُونَ أَنّ لَهُمْ قُوّةً . وَالْكُمَيْتُ هَذَا هُوَ ابْنُ زَيْدِ أَبُو الْمُسْتَهِلّ مِنْ بَنِي أَسْدٍ . وَفِي أَسْدٍ : الْكُمَيْتُ بْنُ مَعْرُوفٍ كَانَ قَبْلَ هَذَا ، وَفِيهِمْ أَيْضًا الْكُمَيْتُ بْنُ ثَعْلَبَةَ وَهُوَ أَقْدَمُ الثّلَاثَةِ وَابْنُ مَعْرُوفٍ هُوَ الّذِي يَقُولُ
خُذُوا الْعَقْلَ إنْ أَعْطَاكُمْ الْقَوْمُ عَقْلَكُمْ ... وَكُونُوا كَمَنْ سِيمَ الْهَوَانَ فَأَرْبَعَا
وَلَا تُكْثِرُوا فِيهِ الضّجَاجَ فَإِنّهُ ... مَحَا السّيْفُ مَا قَالَ ابْنُ دَارَةَ أَجْمَعَا

وَلَدَا كِلَابٍ وَأُمّهُمَا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَوَلَدَ كِلَابُ بْنُ مُرّةَ رَجُلَيْنِ قُصَيّ بْنَ كِلَابٍ ، وَزُهْرَةَ بْنَ كِلَابٍ . وَأُمّهُمَا : فَاطِمَةُ بِنْتُ سَعْدِ بْنِ سَيَلٍ أَحَدُ الْجَدَرَةِ مِنْ جُعْثُمَةَ الْأَزْدِ ، مِنْ الْيَمَنِ ، حُلَفَاءُ فِي بَنِي الدّيلِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ .
نَسَبُ جُعْثُمَةَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ جُعْثُمَةُ الْأَسْدُ وَجُعْثُمَةُ الْأَزْدِ ، وَهُوَ جُعْثُمَةُ بْنُ يَشْكُرَ بْنِ [ ص 204 ] دُهْمَانَ بْنِ نَصْرِ بْنِ زَهْرَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَالِكِ بْنِ نَصْرِ بْنِ الْأَسْدِ بْنِ الْغَوْثِ ، وَيُقَالُ جُعْثُمَةُ بْنُ يَشْكُرَ بْنِ مُبَشّرِ بْنِ صَعْبِ بْنِ نَصْرِ بْنِ زَهْرَانَ بْنِ الْأَسْدِ بْنِ الْغَوْثِ . وَإِنّمَا سُمّوا الْجَدَرَةَ لِأَنّ عَامِرَ بْنَ عَمْرِو بْنِ جُعْثُمَةَ تَزَوّجَ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضٍ الْجُرْهُمِيّ وَكَانَتْ جُرْهُمٌ أَصْحَابَ الْكَعْبَةِ . فَبَنَى لِلْكَعْبَةِ جِدَارًا ، فَسُمّيَ عَامِرٌ بِذَلِك : الْجَادِرَ فَقِيلَ لِوَلَدِهِ الْجَدَرَةُ لِذَلِكَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلِسَعْدِ بْنِ سَيَلٍ يَقُولُ الشّاعِرُ
مَا نَرَى فِي النّاسِ شَخْصًا وَاحِدًا ... مَنْ عَلِمْنَاهُ كَسَعْدِ بْنِ سَيَلْ
فَارِسًا أَضْبَطَ فِيهِ عُسْرَةٌ ... وَإِذَا مَا وَاقَفَ الْقِرْنَ نَزَلْ
فَارِسًا يَسْتَدْرِجُ الْخَيْلَ كَمَا اس ... تدرج الْحُرّ الْقَطَامِيّ الْحَجَلْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْلُهُ كَمَا اسْتَدْرَجَ الْحُرّ . عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ .
Sالْجَدَرَةُ
وَذَكَرَ الْجَدَرَةَ وَقَالَ هُمْ بَنُو عَامِرِ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ جُعْثُمَةَ وَفِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ [ ص 204 ] زِيَادَةُ خُزَيْمَةَ خَطَأٌ إنّمَا هُوَ عَمْرُو بْنُ جُعْثُمَةَ وَذَكَرَ غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ السّيْلَ ذَاتَ مَرّةٍ دَخَلَ الْكَعْبَةَ ، وَصَدّعَ بُنْيَانَهَا ، فَفَزِعَتْ لِذَلِكَ قُرَيْشٌ ، وَخَافُوا انْهِدَادَهَا إنْ جَاءَ سَيْلٌ آخَرُ وَأَنْ يَذْهَبَ شَرَفُهُمْ وَدِينُهُمْ فَبَنَى عَامِرٌ لَهَا جِدَارًا ، فَسُمّيَ الْجَادِرَ . وَقَوْلُهُ فِي الْجَدَرَةِ حُلَفَاءِ بَنِي الدّيلِ . الْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ النّسَبِ أَنّ الدّيلَ فِي عَبْدِ الْقَيْسِ وَهُوَ الدّيلُ بْنُ عَمْرِو بْنِ وَدِيعَةَ [ بْنِ أَفْصَى بْنِ عَبْدِ الْقَيْسِ ] ، وَالدّيلُ أَيْضًا فِي الْأَزْدِ ، وَهُوَ ابْنُ هَدْهَادَ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ وَالدّيلُ أَيْضًا فِي تَغْلِبَ وَهُوَ ابْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ غَنْمِ بْنِ تَغْلِبَ ، وَالدّيلُ أَيْضًا فِي إيَادٍ ، وَهُوَ ابْنُ أُمَيّةَ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ إيَادٍ ، وَأَمّا الّذِي فِي كِنَانَةَ وَهُمْ الّذِينَ يُنْسَبُ إلَيْهِمْ أَبُو الْأَسْوَدِ الدّؤَلِيّ ، وَهُوَ ظَالِمُ بْنُ عَمْرٍو ، وَهُمْ حُلَفَاءُ الْجَدَرَةِ فَابْنُ الْكَلْبِيّ وَمُحَمّدُ بْنُ حَبِيبٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ النّسَبِ يَقُولُونَ فِيهِ الدّئِلُ بِضَمّ الدّالِ وَهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ وَيَنْسُبُونَ إلَيْهِ دُؤَلِيّ ، وَطَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اللّغَةِ مِنْهُمْ الْكِسَائِيّ وَيُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ وَالْأَخْفَشُ يَقُولُونَ فِيهِ الدّيلُ بِكَسْرِ الدّالِ وَيَنْسُبُونَ إلَيْهِ الدّيلِيّ ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ قَالَ مُحَمّدُ بْنُ حَبِيبٍ ابْنُ الْكَلْبِيّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ النّسَبِ أَقْعَدُ بِهَذَا ، وَإِلَيْهِمْ يُرْجَعُ فِيمَا أَشْكَلَ مِنْ هَذَا الْبَابِ . قَالَ الْمُؤَلّفُ وَأَمّا الدّوَلُ فَالدّوَلُ بْنُ حَنِيفَةَ وَاسْمُ حَنِيفَةَ أُثَالُ بْنُ لُجَيْمِ بْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيّ بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ ، وَهُمْ رَهْطُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذّابِ ، وَفِي رَبِيعَةَ أَيْضًا ، ثُمّ فِي عَمْرَةَ الدّوَلُ بْنُ صَبَاحٍ وَفِي الرّبَابِ : الدّوَلُ بْنُ جَلّ بْنِ عَدِيّ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ أُدّ بْنِ طَابِخَةَ وَفِي الْأَسْدِ الدّوَلُ بْنُ سَعْدِ مَنَاةَ بْنِ غَامِدٍ . [ ص 205 ] ابْنِ إسْحَاقَ فِي الدّيلِ بْنِ بَكْرٍ بِكَسْرِ الدّالِ وَالْيَاءِ السّاكِنَةِ وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ النّسّابِ الْعَدَوِيّ وَابْنُ سَالِمٍ الجُمَحِيّ ، وَمَنْ تَقَدّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَهْلِ اللّغَةِ وَالدّأْلُ عَلَى وَزْنِ فَعْلٍ مِنْ دَأَلَ يَدْأَلُ إذَا مَشَى بِعَجَلَةِ وَأَمّا الدّيلُ بِغَيْرِ هَمْزٍ فَكَأَنّهُ سُمّيَ بِالْفِعْلِ مِنْ دِيلَ عَلَيْهِمْ مِنْ الدّوْلَةِ عَلَى وَزْنِ مَا لَمْ يُسَمّ فَاعِلُهُ . وَقَدْ قِيلَ إنّ الدّئِلَ بْنَ بَكْرٍ سُمّيَ بِالدّئِلِ وَهِيَ دُوَيْبّةٌ صَغِيرَةٌ وَأَنْشَدُوا لِكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ [ الْأَنْصَارِيّ ] :
جَاءُوا بِجَيْشِ لَوْ قِيسَ مُعْرَسُهُ ... مَا كَانَ إلّا كَمُعْرَسِ الدّئِلِ
وَأَنْشَدَ فِي سَعْدِ بْنِ سَيَلٍ وَاسْمُ سَيَلٍ خَيْرُ بْنُ حَمَالَةَ قَالَهُ الطّبَرِيّ ، وَالسّيَلُ هُوَ السّنْبُلُ وَهُوَ أَوّلُ مَنْ حَلّى السّيُوفَ بِالذّهَبِ وَالْفِضّةِ . [ ص 206 ] أَضْبَطَ فِيهِ عُسْرَةٌ الْأَضْبَطُ الّذِي يَعْمَلُ بِكِلْتَا يَدَيْهِ وَهُوَ مِنْ صِفَةِ الْأَسَدِ أَيْضًا ، قَالَ الْجُمَيْحُ [ مُنْقِذُ بْنُ الطّمّاحِ الْأَسَدِيّ ] : ضَبْطَاءَ تَسْكُنُ غَيْلًا غَيْرَ مَقْرُوبِ
وَقَوْلُهُ فِيهِ عُسْرَةٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا ، وَالِاسْمُ مِنْهُ أَعْسَرُ .

عَوْدٌ إلَى أَوْلَادِ كِلَابٍ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : [ ص 205 ] عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ ، وَأُمّهَا : فَاطِمَةُ بِنْتُ سَعْدِ بْنِ سَيَلٍ .
أَوْلَادُ قُصَيّ وَعَبْدِ مَنَافٍ وَأُمّهَاتُهُمْ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَوَلَدَ قُصَيّ بْنُ كِلَابٍ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ عَبْدَ مَنَافِ بْنَ قُصَيّ ، وَعَبْدَ الدّارِ بْنَ قُصَيّ ، وَعَبْدَ الْعُزّى بْنَ قُصَيّ ، وَعَبْدَ بْنَ قُصَيّ ، وَتَخْمُرَ بِنْتَ قُصَيّ ، وَبَرّةَ بِنْتَ قُصَيّ . وَأُمّهُمْ حُبّى بِنْتُ حُلَيْلِ ابْنِ حَبَشِيّةَ ابْنِ سَلُولَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو الْخُزَاعِيّ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ حَبَشِيّةُ ابْنُ سَلُولَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَوَلَدَ عَبْدُ مَنَافٍ - وَاسْمُهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ قُصَيّ - أَرْبَعَةَ نَفَرٍ هَاشِمَ بْنَ عَبْدِ مَنَافٍ وَعَبْدَ شَمْسِ بْنَ عَبْدِ مَنَافٍ وَالْمُطّلِبَ بْنَ عَبْدِ مَنَافٍ ، وَأُمّهُمْ عَاتِكَةُ بِنْتُ مُرّةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ فَالِجِ بْنِ ذَكْوَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ بُهْثَةَ بْنِ سُلَيْمِ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ ، وَنَوْفَلَ بْنَ عَبْدِ مَنَافٍ وَأُمّهُ وَاقِدَةُ بِنْتُ عَمْرٍو الْمَازِنِيّةُ . مَازِنُ بْنُ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَبِهَذَا النّسَبِ خَالَفَهُمْ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ بْنِ جَابِرِ بْنِ وَهْبِ بْنِ نُسَيْبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَازِنِ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَأَبُو عَمْرٍو ، وَتُمَاضِرُ وَقِلَابَةُ وَحَيّةُ وَرَيْطَةُ وَأُمّ الْأَخْثَمِ [ وَاسْمُهَا : هَالَةُ ] ، وَأُمّ سُفْيَانَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ . فَأُمّ أَبِي عَمْرٍو : رَيْطَةُ امْرَأَةٌ مِنْ ثَقِيفٍ ، وَأُمّ سَائِرِ النّسَاءِ عَاتِكَةُ بِنْتُ مُرّةَ بْنِ هِلَالِ [ بْنِ فَالِجِ بْنِ ذَكْوَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ بُهْثَةَ بْنِ سُلَيْمِ بْنِ مَنْصُورٍ ] ، أُمّ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ [ ص 206 ] مَنَافٍ وَأُمّهَا صَفِيّةُ بِنْتُ حَوْزَةَ بْنِ عَمْرِو ابْنِ سَلُولَ [ وَاسْمُهُ مُرّةُ ] بْنُ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ ، وَأُمّ صَفِيّةَ بِنْتُ عَائِذِ بْنِ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ بْنِ مَذْحِجٍ .
أَوْلَادُ هَاشِمٍ وَأُمّهَاتُهُمْ
قَالَ ابْنُ هَاشِمٍ فَوَلَدَ هَاشِمُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَخَمْسَ نِسْوَةٍ عَبْدَ الْمُطّلِبِ بْنَ هَاشِمٍ ، وَأَسَدَ بْنَ هَاشِمٍ وَأَبَا صَيْفِيّ بْنَ هَاشِمٍ وَنَضْلَةَ بْنَ هَاشِمٍ ، وَالشّفَاءَ وَخَالِدَةَ وَضَعِيفَةَ وَرُقَيّةَ وَحَيّةَ . فَأُمّ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَرُقَيّة : سَلْمَى بِنْتُ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ لَبِيَدِ بْنِ خِدَاشِ بْنِ عَامِرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَدِيّ بْنِ النّجّارِ . وَاسْمُ النّجّارِ تَيْمُ اللّهِ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ . وَأُمّهَا : عُمَيْرَةُ بِنْتُ صَخْرِ [ بْنِ حَبِيبِ ] بْنِ الْحَارِثِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ النّجّارِ . وَأُمّ عُمَيْرَةَ سَلْمَى بِنْتُ عَبْدِ الْأَشْهَلِ النّجّارِيّةُ . وَأُمّ أَسَدٍ : قَيْلَةُ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ مَالِكٍ الْخُزَاعِيّ . وَأُمّ أَبِي صَيْفِيّ وَحَيّةَ هِنْدُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَةَ الْخَزْرَجِيّةُ . وَأُمّ نَضْلَةَ وَالشّفَاءِ امْرَأَةٌ مِنْ قُضَاعَةَ . وَأُمّ خَالِدَةَ وَضَعِيفَةَ وَافِدَةُ بِنْتُ أَبِي عَدِيّ الْمَازِنِيّةُ .
Sوَذَكَرَ حُلَيْلَ بْنَ حُبْشِيّةَ وَالْحُبْشِيّةُ نَمْلَةٌ كَبِيرَةٌ سَوْدَاءُ وَأَنّ قُصَيّا تَزَوّجَ ابْنَتَهُ حُبّى ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ مَنَافٍ وَإِخْوَتَهُ وَقَالَ غَيْرُهُ بَلْ أُمّ عَبْدِ مَنَافٍ عَاتِكَةُ بِنْتُ هِلَالِ بْنِ بَالِجِ [ أَوْ فَالِجِ ] بْنِ ذَكْوَانَ ، وَأُمّ هَاشِمٍ عَاتِكَةُ بِنْتُ مُرّةَ فَالْأُولَى : عَمّةُ الثّانِيَةِ وَأُمّ وَهْبٍ جَدّ النّبِيّ - عَلَيْهِ السّلَامُ - لِأُمّهِ عَاتِكَةُ بِنْتُ الْأَوْقَصِ بْنِ مُرّةَ بْنِ هِلَالٍ فَهُنّ عَوَاتِكُ . وَلَدْنَ النّبِيّ عَلَيْهِ [ ص 207 ] قَالَ أَنَا ابْنُ الْعَوَاتِكِ مِنْ سُلَيْم وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ هَذَا الْحَدِيثِ إنّ ثَلَاثَ نِسْوَةٍ مِنْ سُلَيْمٍ أَرْضَعْنَهُ كُلّهُنّ تُسْمَى : عَاتِكَةَ ، وَالْأَوّلُ أَصَحّ . وَأُمّ عَاتِكَةَ بِنْتِ مُرّةَ مَاوِيّةُ بِنْتُ حَوْزَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُرّةَ أَخِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَهُمْ بَنُو سَلُولَ ، وَأُمّ مَاوِيّةَ أُمّ أَنَاس الْمَذْحِجِيّةُ . وَقَالَ فِي أُمّهَاتِ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَأَمّا صَفِيّةُ فَأُمّهَا : بِنْتُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ بْنِ مَذْحِجٍ ، وَهُوَ وَهْمٌ لِأَنّ سَعْدَ الْعَشِيرَةِ بْنَ مَذْحِجٍ هُوَ أَبُو الْقَبَائِلِ الْمَنْسُوبَةِ إلَى مَذْحِجٍ إلّا [ ص 208 ] أَقَلّهَا ، فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ فِي عَصْرِ هَاشِمٍ مَنْ هُوَ ابْنٌ لَهُ لِصُلْبِهِ وَلَكِنْ هَكَذَا رَوَاهُ الْبَرْقِيّ عَنْ ابْنِ هِشَامٍ - كَمَا قُلْنَا - وَرَوَاهُ غَيْرُهُ بِنْتُ عَبْدِ اللّهِ مِنْ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ وَهِيَ رِوَايَةُ الْغَسّانِيّ وَقَدْ قِيلَ فِيهِ عَائِذُ اللّهِ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الصّوَابِ . وَلِسَعْدِ الْعَشِيرَةِ ابْنٌ لِصُلْبِهِ وَاسْمُهُ عِيذَ اللّهِ وَهِيَ قَبِيلَةٌ مِنْ قَبَائِلِ جَنْبٍ مِنْ مَذْحِجٍ ، وَقَدْ ذَكَرْت بُطُونَ جَنْبٍ وَأَسْمَاءَ وَلَدِ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَلِمَ سُمّيَتْ تِلْكَ الْقَبَائِلُ بِجَنْبِ وَأَحْسَبُ الْوَهْمَ فِي رِوَايَةِ الْبَرْقِيّ إنّمَا جَاءَ مِنْ اشْتِرَاكِ الِاسْمِ لِأَنّ أُمّ صَفِيّةَ الْمَذْكُورَةَ بِنْتُ عِيذَ اللّهِ وَلَكِنْ لَيْسَ بعيذ اللّهِ الّذِي هُوَ ابْنُ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ لِصُلْبِهِ وَلَكِنّهُ مِنْ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ . وَذَكَرَ عَبْدَ شَمْسِ بْنَ عَبْدِ مَنَافٍ وَكَانَ تِلْوًا لِهَاشِمِ وَيُقَالُ كَانَا تَوْأَمَيْنِ فَوُلِدَ هَاشِمٌ وَرِجْلُهُ فِي جَبْهَةِ شَمْسٍ مُلْتَصِقَةً فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَى نَزْعِهَا إلّا بِدَمِ فَكَانُوا يَقُولُونَ سَيَكُونُ بَيْنَ وَلَدِهِمَا دِمَاءٌ فَكَأَنّ تِلْكَ الدّمَاءُ مَا وَقَعَ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ ، وَبَيْنَ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ . وَأَمّا سَلْمَى أُمّ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، فَقَدْ ذَكَرَ نَسَبَهَا ، وَأُمّهَا : عُمَيْرَةُ بِنْتُ ضَحْرٍ الْمَازِنِيّةُ وَابْنُهَا : عَمْرُو بْنُ أُحَيْحَةَ بْنِ الْجُلَاحِ ، وَأَخُوهُ مَعْبَدٌ وَلَدَتْهُمَا لِأُحَيْحَةَ بَعْدَ هَاشِمٍ وَكَانَ عَمْرٌو مِنْ أَجْمَلِ النّاسِ وَأَنْطَقِهِمْ بِحِكْمَةِ وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ لِلْمَنْصُورِ أَرَأَيْت إنْ اتْسَعْنَا فِي الْبَنِينَ وَضِقْنَا فِي الْبَنَاتِ فَإِلَى مَنْ تَدْفَعُنَا ، يَعْنِي : فِي الْمُصَاهَرَةِ فَأَنْشَدَ
عَبْدُ شَمْسٍ كَانَ يَتْلُو هَاشِمًا ... وَهُمَا بَعْدُ لِأُمّ وَلِأَبْ
وَذَكَرَ الدّارَقُطْنِيّ : أَنّ الْحَارِثَ بْنَ حَبْشٍ السّلَمِيّ كَانَ أَخَا هَاشِمٍ وَعَبْدِ شَمْسٍ وَالْمُطّلِبِ لِأُمّهِمْ وَأَنّهُ رَثَى هَاشِمًا لِهَذِهِ الْأُخُوّةِ وَهَذَا يُقَوّي أَنّ أُمّهُمْ عَاتِكَةُ السّلَمِيّةُ . فَصْلٌ وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ أَنّ أُمّ حَيّةِ بِنْتِ هَاشِمٍ ، وَأُمّ أَبِي صَيْفِيّ : هِنْدُ بِنْتُ [ عَمْرِو بْنِ ] ثَعْلَبَةَ [ بْنِ الْخَزْرَجِ ] ، وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ النّسَبِ أَنّ أُمّ حَيّةَ [ أُمّ عَدِيّ ] : جَحْلُ بِنْتُ حَبِيبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حُطَيْطٍ الثّقَفِيّةُ وَحَيّةُ بِنْتُ هَاشِمٍ تَحْتَ الْأَجْحَمِ بْنِ دِنْدِنَةَ [ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْقَيْنِ بْنِ رِزَاحِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو ] الْخُزَاعِيّ وَلَدَتْ لَهُ أُسَيْدًا ، وَفَاطِمَةَ بِنْتَ الْأَجْحَمِ الّتِي تَقُولُ [ ص 209 ]
يَا عَيْنُ بَكّي عِنْدَ كُلّ صَبَاحٍ ... جُودِي بِأَرْبَعَةِ عَلَى الْجَرّاحِ
قَدْ كُنْت لِي جَبَلًا أَلُوذُ بِظِلّهِ ... فَتَرَكْتنِي أَضْحَى بِأَجْرَدَ ضَاحِ
قَدْ كُنْت ذَاتَ حَمِيّةٍ مَا عِشْت لِي ... أَمْشِي الْبَرَازَ وَكُنْت أَنْتَ جَنَاحِي
فَالْيَوْمَ أَخْضَعُ لِلذّلِيلِ وَأَتّقِي ... مِنْهُ وَأَدْفَعُ ظَالِمِي بِالرّاحِ
وَأَغُضّ مِنْ بَصَرِي ، وَأَعْلَمُ أَنّهُ ... قَدْ بَانَ حَدّ فَوَارِسِي وَرِمَاحِي
وَإِذَا دَعَتْ قُمْرِيّةٌ شَجَنًا لَهَا ... يَوْمًا عَلَى فَنَنٍ دَعَوْت صَبَاحِي
وَقَعَ هَذَا الشّعْرُ لَهَا فِي الْحَمَاسَةِ وَغَيْرِهَا .

أَوْلَادُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَوَلَدَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ عَشَرَةَ نَفَرٍ وَسِتّ نِسْوَةٍ الْعَبّاسَ وَحَمْزَةَ وَعَبْدَ اللّهِ وَأَبَا طَالِبٍ - وَاسْمُهُ عَبْدُ مَنَافٍ - وَالزّبَيْرَ وَالْحَارِثَ وَجَحْلًا ، وَالْمُقَوّمَ وَضِرَارًا ، وَأَبَا لَهَبٍ - وَاسْمُهُ عَبْدُ الْعُزّى - وَصَفِيّةَ وَأُمّ حَكِيمٍ الْبَيْضَاءَ وَعَاتِكَةَ ، وَأُمَيْمَةَ ، وَأَرْوَى ، وَبَرّةَ . [ ص 207 ] فَأُمّ الْعَبّاسِ وَضِرَارٍ : نُتَيْلَةُ بِنْتُ جَنَابِ بْنِ كُلَيْبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ عَامِرٍ - وَهُوَ الضّحْيَانُ - بْنُ سَعْدِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ تَيْمِ اللّاتِ بْنِ النّمِرِ بْنِ قَاسِطِ بْنِ هِنْبِ بْنِ أَفْصَى بْنِ جَدِيلَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ . وَيُقَالُ أَفْصَى بْنُ دُعْمِيّ بْنِ جَدِيلَةَ . وَأُمّ حَمْزَةَ وَالْمُقَوّمِ وَجَحْلٍ - وَكَانَ يُلَقّبُ بِالْغَيْدَاقِ لِكَثْرَةِ خَيْرِهِ وَسَعَةِ مَالِهِ - وَصَفِيّةَ هَالَةُ بِنْتُ أُهَيْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ . وَأُمّ عَبْدِ اللّهِ وَأَبِي طَالِبٍ وَالزّبَيْرِ وَجَمِيعِ النّسَاءِ غَيْرِ صَفِيّةَ فَاطِمَةُ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ عَائِذِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّضْرِ . وَأُمّهَا : صَخْرَةُ بِنْتُ عَبْدِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّضْرِ . وَأُمّ صَخْرَةَ تَخْمُرُ بِنْتُ عَبْدِ بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّضْرِ . وَأُمّ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ : سَمْرَاءُ [ أَوْ صَفِيّةُ ] بِنْتُ جُنْدُبِ بْنِ جُحَيْرِ بْنِ رِئَابِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ سُوَاءَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ بْنِ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ . وَأُمّ أَبِي لَهَبٍ لُبْنَى بِنْتُ هَاجِرِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ ضَاطِرِ بْنِ حُبْشِيّةَ ابْنِ سَلُولَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو الْخُزَاعِيّ . [ ص 208 ]
S[ ص 209 ] وَذَكَرَ أُمّ الْعَبّاسِ وَهِيَ نُتَيْلَةُ بِنْتُ جَنَابِ بْنِ كُلَيْبٍ وَهِيَ مِنْ بَنِي عَامِرٍ الّذِي يُعْرَفُ بِالضّحْيَانِ وَكَانَ مِنْ مُلُوكِ رَبِيعَةَ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي خَبَرِ تُبّعٍ ، أَنّهَا أَوّلُ مَنْ كَسَا الْبَيْتَ الدّيبَاجَ وَذَكَرْنَا سَبَبَ ذَلِكَ وَنَزِيدُ هَاهُنَا مَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيّ ، قَالَ أَوّلُ مَنْ كَسَا الْبَيْتَ الدّيبَاجَ خَالِدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ أَخَذَ لَطِيمَةً مِنْ الْبَزّ وَأَخَذَ فِيهَا أَنْمَاطًا ، فَعَلّقَهَا عَلَى الْكَعْبَةِ ، وَأُمّ نُتَيْلَةَ أُمّ حُجْرٍ أَوْ أُمّ كُرْزِ بِنْتُ الْأَزَبّ مِنْ بَنِي بَكِيلٍ مِنْ هَمْدَانَ ، وَهِيَ نُتَيْلَةُ بِتَاءِ مَنْقُوطَةٍ بِاثْنَتَيْنِ وَهِيَ تَصْغِيرُ نَتْلَةٍ وَاحِدَةِ النّتْلِ وَهُمْ بَيْضُ النّعَامِ وَبَعْضُهُمْ يُصَحّفُهَا بِثَاءِ مُثَلّثَةٍ . وَذَكَرَ فِي بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِب ِ جَحْلًا بِتَقْدِيمِ الْجِيمِ عَلَى الْحَاءِ هَكَذَا رِوَايَةُ الْكِتَابِ . وَقَالَ الدّارَقُطْنِيّ : هُوَ حَجْلٌ بِتَقْدِيمِ الْحَاءِ . وَقَالَ جَحْلٌ بِتَقْدِيمِ الْجِيمِ هُوَ الْحَكَمُ بْنُ جَحْلٍ يُرْوَى عَنْ عَلِيّ وَمِنْ حَدِيثِهِ عَنْهُ أَنّهُ قَالَ مَنْ فَضّلَنِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ جَلَدْته حَدّ الْفِرْيَةِ . وَالْجَحْلُ السّقَاءُ الضّخْمُ . وَالْجَحْلُ الْحِرْبَاءُ . وَذَكَرَ ابْنُ دُرَيْدٍ أَنّ اسْمَ جَحْلٍ مُصْعَبٌ . وَقَالَ غَيْرُهُ كَانَ اسْمُهُ مُغِيرَةَ ، وَجَحْلٌ لَقَبٌ لَهُ . وَالْجَحْلُ ضَرْبٌ مِنْ الْيَعَاسِيبِ قَالَهُ صَاحِبُ الْعَيْنِ . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَة َ كُلّ شَيْءٍ ضَخْمٍ فَهُوَ جَحْلٌ وَجَحْلٌ هُوَ الْغَيْدَاقُ وَالْغَيْدَاقُ وَلَدُ الضّبّ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ الْحِسْلِ . وَلَمْ يُعْقِبْ وَكَذَا الْمُقَوّمُ لَمْ يُعْقِبْ إلّا بِنْتًا اسْمُهَا : هِنْدُ . وَأُمّ الْغَيْدَاقِ - فِيمَا ذَكَرَ الْقُتَبِيّ : مُمَنّعَةُ بِنْتُ عَمْرٍو الْخُزَاعِيّةُ وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِ ابْنِ إسْحَاقَ . وَذَكَرَ فِي أَعْمَامِهِ أَيْضًا : الزّبَيْرَ وَهُوَ أَكْبَرُ أَعْمَامِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ الّذِي كَانَ يُرَقّصُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ طِفْلٌ وَيَقُولُ [ ص 210 ]
مُحَمّدُ بْنُ عَبْدَمِ ... عِشْت بِعَيْشِ أَنْعَمِ
فِي دَوْلَةٍ وَمَغْنَمِ ... دَامٍ سَجِيسَ الْأَزْلَمِ
وَبِنْتُهُ ضُبَاعَةُ كَانَتْ تَحْتَ الْمِقْدَادِ . وَعَبْدُ اللّهِ ابْنُهُ مَذْكُورٌ فِي الصّحَابَةِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ - وَكَانَ الزّبَيْرُ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - يُكَنّى أَبَا الطّاهِرِ بِابْنِهِ الطّاهِرِ وَكَانَ مِنْ أَظْرَفِ فِتْيَانِ قُرَيْشٍ ، وَبِهِ سَمّى رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ابْنَهُ الطّاهِرَ . وَأُخْبِرَ الزّبَيْرُ عَنْ ظَالِمٍ كَانَ بِمَكّةَ أَنّهُ مَاتَ فَقَالَ بِأَيّ عُقُوبَةٍ كَانَ مَوْتُهُ ؟ فَقِيلَ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ فَقَالَ وَإِنْ فَلَا بُدّ مِنْ يَوْمٍ يُنْصِفُ اللّهُ فِيهِ الْمَظْلُومِينَ فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى إقْرَارِهِ بِالْبَعْثِ . وَذَكَرَ أَبَا طَالِبٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ مَنَافٍ وَلَهُ يَقُولُ عَبْدُ الْمُطّلِبِ :
أُوصِيك يَا عَبْدَ مَنَافٍ بَعْدِي ... بِمُؤْتَمٍ بَعْدَ أَبِيهِ فَرْدِ
مَاتَ أَبُوهُ وَهُوَ حِلْفُ الْمَهْدِ وَذَكَرَ أَبَا لَهَبٍ وَاسْمُهُ عَبْدُ الْعُزّى ، وَكُنّيَ أَبَا لَهَبٍ لِإِشْرَاقِ وَجْهِهِ وَكَانَ تَقْدِمَةً مِنْ اللّهِ - تَعَالَى - لِمَا صَارَ إلَيْهِ مِنْ اللّهَبِ وَأُمّهُ لُبْنَى بِنْتُ هَاجِرٍ بِكَسْرِ الْجِيمِ مِنْ بَنِي ضَاطِرَةَ بِضَادِ مَنْقُوطَةٍ . وَاللّبْنَى فِي اللّغَةِ شَيْءٌ يَتَمَيّعُ مِنْ بَعْضِ الشّجَرِ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ . وَيُقَالُ لِبَعْضِهِ الْمَيْعَةُ وَالدّوَدِمُ مِثْلُ اللّبْنَى يَسِيلُ مِنْ السّمُرِ غَيْرَ أَنّهُ أَحْمَرُ فَيُقَالُ حَاضَتْ السّمُرَةُ إذَا رَشَحَ ذَلِكَ مِنْهَا .

أُمّهَاتُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ [ ص 210 ] فَوَلَدَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - سَيّدَ وَلَدِ آدَمَ مُحَمّدَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِب ِ ، صَلَوَاتُ اللّهِ وَسَلَامُهُ وَرَحْمَتُهُ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ . وَأُمّهُ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّضْرِ . [ ص 211 ] بَرّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّضْرِ . وَأُمّ بَرّةَ أُمّ حَبِيبِ بِنْتُ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّضْرِ . وَأُمّ أُمّ حَبِيبٍ بَرّةُ بِنْتُ عَوْفِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُوَيْجِ بْنِ عَدِيّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّضْرِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَرَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَشْرَفُ وَلَدِ آدَمَ حَسَبًا ، وَأَفْضَلُهُمْ نَسَبًا مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
Sأُمّهَاتُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
ذَكَرَ فِي آخِرِهِنّ بَرّةَ بِنْتَ عَوْفِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُوَيْجِ بْنِ عَدِيّ وَهُنّ كُلّهُنّ قُرَشِيّاتٌ وَلِذَلِكَ وَقَفَ فِي بَرّةَ وَإِنْ كَانَ قَدْ ذَكَرَ أَهْلُ النّسَبِ بَعْدَ هَذَا : أُمّ بَرّةَ وَأُمّ أُمّهَا ، وَأُمّ أُمّ الْأُمّ وَلَكِنّهُنّ مِنْ غَيْرِ قُرَيْشٍ . قَالَ مُحَمّدُ بْنُ حَبِيبٍ وَأُمّ بَرّةَ قِلَابَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ [ ص 211 ] صَعْصَعَةَ بْنِ غَادِيَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ طَابِخَةَ بْنِ لِحْيَانَ بْنِ هُذَيْلٍ ، وَأُمّ قِلَابَةَ أُمَيْمَةُ بِنْتُ مَالِكِ بْنِ غَنْمِ بْنِ لِحْيَانَ بْنِ غَادِيَةَ بْنِ كَعْبٍ وَأُمّ أُمَيْمَةَ : دَبّةُ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ لِحْيَانَ بْنِ غَادِيَةَ وَأُمّهَا : بِنْتُ [ يَرْبُوعِ بْنِ نَاضِرَةَ بْنِ غَاضِرَةَ ] كَهْفِ الظّلْمِ مِنْ ثَقِيفٍ ، وَذَكَرَ الزّبَيْرُ قَلَابَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ وَزَعَمَ أَنّ أَبَاهَا الْحَارِثَ كَانَ يُكَنّى : أَبَا قَلَابَةَ وَأَنّهُ أَقْدَمُ شُعَرَاءِ هُذَيْلٍ ، وَذَكَرَ مِنْ قَوْلِهِ
لَا تَأْمَنَنّ وَإِنْ أَمْسَيْت فِي حَرَمٍ ... إنّ الْمَنَايَا بِجَنْبَيْ كُلّ إنْسَانِ
وَاسْلُكْ طَرِيقَك تَمْشِي غَيْرَ مُخْتَشِعٍ ... حَتّى تُلَاقِيَ مَا مَنّى لَك الْمَانِي
بَابُ مَوْلِدِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
[ ص 212 ] ذَكَرَ نَسَبَ أُمّهِ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ وَأَنّ زُهْرَةَ هُوَ ابْنُ كِلَابٍ وَفِي الْمَعَارِفِ لِابْنِ قُتَيْبَةَ أَنّ زُهْرَةَ اسْمُ امْرَأَةٍ عُرِفَ بِهَا بَنُو زُهْرَةَ ، وَهَذَا مُنْكَرٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ وَإِنّمَا هُوَ اسْمُ جَدّهِمْ - كَمَا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ وَالزّهْرَةُ فِي اللّغَةِ إشْرَاقٌ فِي اللّوْنِ أَيّ لَوْنٍ كَانَ مِنْ بَيَاضٍ أَوْ غَيْرِهِ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنّ الْأَزْهَرَ هُوَ الْأَبْيَضُ خَاصّةً وَأَنّ الزّهْرَ اسْمٌ لِلْأَبْيَضِ مِنْ النّوّارِ وَخَطّأَ أَبُو حَنِيفَةَ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ وَقَالَ إنّمَا الزّهْرَةُ إشْرَاقٌ فِي الْأَلْوَانِ كُلّهَا ، وَأَنْشَدَ فِي نُورِ الْحَوْذَانِ وَهُوَ أَصْفَرُ
تَرَى زَهْرَ الْحَوْذَانِ حَوْلَ رِيَاضِهِ ... يُضِيءُ كَلَوْنِ الْأَتْحَمِيّ الْمُوَرّسِ
وَفِي حَدِيثِ يَوْمِ أُحُدٍ : نَظَرْت إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَعَيْنَاهُ تُزْهِرَانِ تَحْتَ الْمِغْفَرِ .

حَدِيثُ مَوْلِدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
إشَارَةٌ إلَى ذِكْرِ احْتِفَارِ زَمْزَمَ
قَالَ حَدّثَنَا أَبُو مُحَمّدٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ قَالَ وَكَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَا حَدّثَنَا بِهِ زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَكّائِيّ ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ الْمُطّلِبِيّ بَيْنَمَا عَبْدُ الْمُطّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ نَائِمٌ فِي الْحِجْرِ ، إذْ أُتِيَ فَأُمِرَ بِحَفْرِ زَمْزَمَ وَهِيَ دَفْنٌ بَيْنَ صَنَمَيْ قُرَيْشٍ : إسَافَ وَنَائِلَةَ عِنْدَ مَنْحَرِ قُرَيْشٍ . وَكَانَتْ جُرْهُمٌ دَفَنَتْهَا حِينَ ظَعَنُوا مِنْ مَكّةَ ، وَهِيَ بِئْرُ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الّتِي سَقَاهُ اللّهُ حِين ظَمِئَ وَهُوَ صَغِيرٌ فَالْتَمَسَتْ لَهُ أُمّهُ مَاءً فَلَمْ تَجِدْهُ فَقَامَتْ إلَى الصّفَا تَدْعُو اللّهَ وَتَسْتَغِيثُهُ لِإِسْمَاعِيلَ ثُمّ أَتَتْ الْمَرْوَةَ فَفَعَلَتْ مِثْلَ ذَلِكَ . وَبَعَثَ اللّهُ تَعَالَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ [ ص 213 ] فَظَهَرَ الْمَاءُ وَسَمِعَتْ أُمّهُ أَصْوَاتَ السّبَاعِ فَخَافَتْهَا عَلَيْهِ فَجَاءَتْ تَشْتَدّ نَحْوَهُ فَوَجَدَتْهُ يَفْحَصُ بِيَدِهِ عَنْ الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ خَدّهِ وَيَشْرَبُ فَجَعَلَتْهُ حِسْيًا [ الْحِسْيُ الْحَفِيرَةُ الصّغِيرَةُ ] .
Sزَمْزَمُ
[ ص 213 ] وَذَكَرَ فِيهِ خَبَرَ إسْمَاعِيلَ وَأُمّهِ وَقَدْ تَقَدّمَ طَرَفٌ مِنْهُ . وَذَكَرَ أَنّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - هَمَزَ بِعَقِبِهِ فِي مَوْضِعِ زَمْزَمَ ، فَنَبَعَ الْمَاءُ وَكَذَلِك زَمْزَمُ تَسَمّى : هَمْزَةَ جِبْرِيلَ بِتَقْدِيمِ الْمِيمِ عَلَى الزّايِ وَيُقَالُ فِيهَا أَيْضًا : هَزْمَةُ جِبْرِيلَ لِأَنّهَا هَزْمَةٌ فِي الْأَرْضِ وَحُكِيَ فِي اسْمِهَا : زُمَازِمُ وَزَمْزَمُ . حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ الْمُطْرِزِ وَتُسَمّى أَيْضًا : طَعَامُ طُعْمٍ وَشِفَاءُ سُقْمٍ . وَقَالَ الْجُرْبِيّ : سُمّيَتْ زَمْزَمَ ، بِزَمْزَمَةِ الْمَاءِ وَهِيَ صَوْتُهُ وَقَالَ الْمَسْعُودِيّ : سُمّيَتْ زَمْزَمَ ؛ لِأَنّ الْفَرَسَ كَانَتْ تَحُجّ إلَيْهَا فِي الزّمَنِ الْأَوّلِ فَزَمْزَمَتْ عَلَيْهَا . وَالزّمْزَمَةُ صَوْتٌ يُخْرِجُهُ الْفَرَسُ مِنْ خَيَاشِيمِهَا عِنْدَ شُرْبِ الْمَاءِ . وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - إلَى عُمّالِهِ أَنْ انْهَوْا الْفَرَسَ عَنْ الزّمْزَمَةِ وَأَنْشَدَ الْمَسْعُودِيّ :
زَمْزَمَتْ الْفَرَسُ عَلَى زَمْزَمَ ... وَذَاكَ فِي سَالِفِهَا الْأَقْدَمِ
وَذَكَرَ الْبَرْقِيّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - أَنّهَا سُمّيَتْ زَمْزَمَ لِأَنّهَا زُمّتْ بِالتّرَابِ لِئَلّا يَأْخُذَ الْمَاءُ يَمِينًا وَشِمَالًا ، وَلَوْ تُرِكَتْ لَسَاحَتْ عَلَى الْأَرْضِ حَتّى تَمْلَأَ كُلّ شَيْءٍ . وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَالزّمْزَمَةُ عِنْدَ الْعَرَبِ : الْكَثْرَةُ وَالِاجْتِمَاعُ قَالَ الشّاعِرُ
وَبَاشَرَتْ مَعْطَنَهَا الْمُدَهْثَمَا ... وَيَمّمَتْ زُمْزُومَهَا الْمُزَمْزِمَا
سَبَبُ نُزُولِ هَاجَرَ وَإِسْمَاعِيلَ مَكّةَ
الْمُدَهْثَمُ اللّيّنُ وَكَانَ سَبَبُ إنْزَالِ هَاجَرَ وَابْنِهَا إسْمَاعِيلَ بِمَكّةَ وَنَقْلِهَا إلَيْهَا مِنْ الشّامِ أَنّ سَارّةَ بِنْتَ عَمّ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - شَجَرَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ هَاجَرَ أَمْرٌ وَسَاءَ مَا بَيْنَهُمَا ، فَأُمِرَ إبْرَاهِيمُ أَنْ يَسِيرَ بِهَا إلَى مَكّةَ ، فَاحْتَمَلَهَا عَلَى الْبُرَاقِ وَاحْتَمَلَ مَعَهُ قِرْبَةً بِمَاءِ وَمِزْوَدِ تَمْرٍ [ ص 214 ] وَسَارَ بِهَا حَتّى أَنْزَلَهَا بِمَكّةَ فِي مَوْضِعِ الْبَيْتِ ثُمّ وَلّى رَاجِعًا عَوْدَهُ عَلَى بَدْئِهِ وَتَبِعَتْهُ هَاجَرُ وَهِيَ تَقُولُ آللّهُ أَمَرَك أَنْ تَدَعَنِي ، وَهَذَا الصّبِيّ فِي هَذَا الْبَلَدِ الْمُوحِشِ وَلَيْسَ مَعَنَا أَنِيسٌ ؟ فَقَالَ نَعَمْ فَقَالَتْ إذًا لَا يُضَيّعُنَا ، فَجَعَلَتْ تَأْكُلُ مِنْ التّمْرِ وَتَشْرَبُ مِنْ مَاءِ الْقِرْبَةِ حَتّى نَفِدَ الْمَاءُ وَعَطِشَ الصّبِيّ ، وَجَعَلَ يَنْشَغُ لِلْمَوْتِ وَجَعَلَتْ هِيَ تَسْعَى مِنْ الصّفَا إلَى الْمَرْوَةِ ، وَمِنْ الْمَرْوَةِ إلَى الصّفَا ؛ لِتَرَى أَحَدًا ، حَتّى سَمِعَتْ صَوْتًا عِنْدَ الصّبِيّ فَقَالَتْ قَدْ سَمِعْت ، إنْ كَانَ عِنْدَك غَوْثٌ ثُمّ جَاءَتْ الصّبِيّ فَإِذَا الْمَاءُ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ خَدّهِ فَجَعَلَتْ تَغْرِفُ بِيَدَيْهَا ، وَتَجْعَلُ فِي الْقِرْبَةِ . قَالَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - " لَوْ تَرَكَتْهُ لَكَانَتْ عَيْنًا " ، أَوْ قَالَ " نَهَرًا مَعِينًا " ، وَكَلّمَهَا الْمَلَكُ وَهُوَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَأَخْبَرَهَا أَنّهَا مَقَرّ ابْنِهَا وَوَلَدِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأَنّهَا مَوْضِعُ بَيْتِ اللّهِ الْحَرَامِ ، ثُمّ مَاتَتْ هَاجَرُ ، وَإِسْمَاعِيلُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - ابْنُ عِشْرِينَ سَنَةً وَقَبْرُهَا فِي الْحِجْرِ ، وَثَمّ قَبْرُ إسْمَاعِيلَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَكَانَ الْحِجْرُ قَبْلَ بِنَاءِ الْبَيْتِ زَرْبًا لِغَنَمِ إسْمَاعِيلَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَيُقَالُ إنّ أَوّلَ بَلَدٍ مِيرَتْ مِنْهُ أُمّ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ - السّلَامُ - وَابْنُهَا التّمْرَ الْقَرْيَةُ الّتِي كَانَتْ تُعْرَفُ بِالْفُرْعِ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

أَمْرُ جُرْهُمً ، وَدَفْنُ زَمْزَمَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : [ ص 214 ] وَكَانَ مِنْ حَدِيثِ جُرْهُمً ، وَدَفْنُهَا زَمْزَمَ ، وَخُرُوجُهَا مِنْ مَكّةَ ، وَمَنْ وَلِيَ أَمْرَ مَكّةَ بَعْدَهَا إلَى أَنْ حَفَرَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ زَمْزَمَ ، مَا حَدّثَنَا بِهِ زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَكّائِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ الْمُطّلِبِيّ قَالَ لَمّا تُوُفّيَ إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ وَلِيَ الْبَيْتَ بَعْدَهُ ابْنُهُ نَابِتُ بْنُ إسْمَاعِيلَ - مَا شَاءَ اللّهُ أَنْ يَلِيَهُ - ثُمّ وَلِيَ الْبَيْتَ بَعْدَهُ مُضَاضُ بْنُ عَمْرٍو الْجُرْهُمِيّ . [ ص 215 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ مُضَاضُ بْنُ عَمْرٍو الْجُرْهُمِيّ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَبَنُو إسْمَاعِيلَ ، وَبَنُو نَابِتٍ مَعَ جَدّهِمْ مُضَاضِ بْنِ عَمْرٍو وَأَخْوَالِهِمْ مِنْ جُرْهُمَ ، وَجُرْهُمُ وَقَطُورَاءُ يَوْمَئِذٍ أَهْلُ مَكّةَ ، وَهُمَا ابْنَا عَمّ وَكَانَا ظَعَنَا مِنْ الْيَمَنِ ، فَأَقْبَلَا سَيّارَةً وَعَلَى جُرْهُمَ : مُضَاضُ بْنُ عَمْرٍو ، وَعَلَى قَطُورَاءَ : السّمَيْدَعُ رَجُلٌ مِنْهُمْ . وَكَانُوا إذَا خَرَجُوا مِنْ الْيَمَنِ لَمْ يَخْرُجُوا إلّا وَلَهُمْ مَلِكٌ يُقِيمُ أَمْرَهُمْ . فَلَمّا نَزَلَا مَكّةَ رَأَيَا بَلَدًا ذَا مَاءٍ وَشَجَرٍ فَأَعْجَبَهُمَا فَنَزَلَا بِهِ . فَنَزَلَ مُضَاضُ بْنُ عَمْرٍو بِمَنْ مَعَهُ مِنْ جُرْهُمَ بِأَعْلَى مَكّةَ بِقُعَيْقِعَانَ فَمَا حَازَ . وَنَزَلَ السّمَيْدَعُ بِقَطُورَاءَ أَسْفَلَ مَكّةَ بِأَجْيَادِ فَمَا حَازَ . فَكَانَ مُضَاضٌ يَعْشُرُ مَنْ دَخَلَ مَكّةَ مِنْ أَعْلَاهَا ، وَكَانَ السّمَيْدَعُ يَعْشُرُ مَنْ دَخَلَ مَكّةَ مِنْ أَسْفَلِهَا ، وَكُلّ فِي قَوْمِهِ لَا يَدْخُلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ . ثُمّ إنّ جُرْهُمَ وَقَطُورَاءَ بَغَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَتَنَافَسُوا الْمُلْكَ بِهَا ، وَمَعَ مُضَاضٍ يَوْمَئِذٍ بَنُو إسْمَاعِيلَ وَبَنُو نَابِتٍ ، وَإِلَيْهِ وِلَايَةُ الْبَيْتِ دُونَ السّمَيْدَعِ . فَسَارَ بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ فَخَرَجَ مُضَاضُ بْنُ عَمْرٍو مِنْ قُعَيْقِعَانَ فِي كَتِيبَتِهِ سَائِرًا إلَى السّمَيْدَعِ ، وَمَعَ كَتِيبَتِهِ عُدّتُهَا مِنْ الرّمَاحِ وَالدّرَقِ وَالسّيُوفِ وَالْجِعَابِ يُقَعْقِعُ بِذَلِكَ مَعَهُ فَيُقَالُ مَا سُمّيَ قُعَيْقِعَانُ بِقُعَيْقِعَانَ إلّا لِذَلِكَ . وَخَرَجَ السّمَيْدَعُ مِنْ أَجْيَادٍ ، وَمَعَهُ الْخَيْلُ وَالرّجَالُ فَيُقَالُ مَا سُمّيَ أَجْيَادٌ : أَجْيَادًا إلّا لِخُرُوجِ [ ص 216 ] السّمَيْدَعِ مِنْهُ . فَالْتَقَوْا بِفَاضِح ِ وَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا ، فَقُتِلَ السّمَيْدَعُ ، وَفُضِحَتْ قَطُورَاءُ . فَيُقَالُ مَا سُمّيَ فَاضِحٌ فَاضِحًا إلّا لِذَاكَ . ثُمّ إنّ الْقَوْمَ تَدَاعَوْا إلَى الصّلْحِ فَسَارُوا حَتّى نَزَلُوا الْمَطَابِخَ : شِعْبًا بِأَعْلَى مَكّةَ ، وَاصْطَلَحُوا بِهِ وَأَسْلَمُوا الْأَمْرَ إلَى مُضَاضٍ . فَلَمّا جُمِعَ إلَيْهِ أَمْرُ مَكّةَ ، فَصَارَ مُلْكُهَا لَهُ نَحَرَ لِلنّاسِ فَأَطْعَمَهُمْ فَاطّبَخَ النّاسُ وَأَكَلُوا ، فَيُقَالُ مَا سُمّيَتْ الْمَطَابِخُ : الْمَطَابِخَ إلّا لِذَلِكَ . وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَزْعُمُ أَنّهَا إنّمَا سُمّيَتْ الْمَطَابِخَ ، لَمّا كَانَ تُبّعٌ نَحَرَ بِهَا ، وَأَطْعَمَ وَكَانَتْ مَنْزِلَهُ فَكَانَ الّذِي كَانَ بَيْنَ مُضَاضٍ وَالسّمَيْدَعِ أَوّلَ بَغْيٍ كَانَ بِمَكّةَ فِيمَا يَزْعُمُونَ . ثُمّ نَشَرَ اللّهُ وَلَدَ إسْمَاعِيلَ بِمَكّةَ وَأَخْوَالُهُمْ مِنْ جُرْهُمٍ وُلَاةُ الْبَيْتِ وَالْحُكّامُ بِمَكّةَ لَا يُنَازِعُهُمْ وَلَدُ إسْمَاعِيلَ فِي ذَلِكَ لِخُؤُولَتِهِمْ وَقَرَابَتِهِمْ وَإِعْظَامًا لِلْحُرْمَةِ أَنْ يَكُونَ بِهَا بَغْيٌ أَوْ قِتَالٌ . فَلَمّا ضَاقَتْ مَكّةُ عَلَى وَلَدِ إسْمَاعِيلَ انْتَشَرُوا فِي الْبِلَادِ فَلَا يُنَاوِئُونَ قَوْمًا إلّا أَظْهَرَهُمْ اللّهُ عَلَيْهِمْ بِدِينِهِمْ فَوَطِئُوهُمْ .
Sقَطُورَا وَجُرْهُمٌ وَالسّمَيْدَعُ
فَصْلٌ وَذَكَرَ نُزُولَ جُرْهُمً ، وَقَطُورَا عَلَى أُمّ إسْمَاعِيلَ هَاجَرَ ، وَجُرْهُمٌ : هُوَ قَحْطَانُ بْنُ عَامِرِ بْنِ شَالِخَ بْنِ أَرْفَخْشَذَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ وَيُقَالُ جُرْهُمُ بْنُ عَابِرٍ وَقَدْ قِيلَ إنّهُ كَانَ مَعَ نُوحٍ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي السّفِينَةِ وَذَلِكَ أَنّهُ مِنْ وَلَدِ وَلَدِهِ وَهُمْ مِنْ الْعَرَبِ الْعَارِبَةِ وَمِنْهُمْ تَعَلّمَ إسْمَاعِيلُ الْعَرَبِيّةَ . وَقِيلَ إنّ اللّهَ تَعَالَى أَنْطَقَهُ بِهَا إنْطَاقًا ، وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً . [ ص 215 ] وَأَمّا السّمَيْدَعُ الّذِي ذَكَرَهُ فَهُوَ السّمَيْدَعُ بْنُ هَوْثَرَ - بِثَاءِ مُثَلّثَةٍ - قَيّدَهَا الْبَكْرِيّ - بْنُ لَاي بْنِ قَطُورَا بْنِ كَرْكَرَ بْنِ عِمْلَاقٍ وَيُقَالُ إنّ الزّبّاءَ الْمَلِكَةَ كَانَتْ مِنْ ذُرّيّتِهِ وَهِيَ بِنْتُ عَمْرِو بْنِ أُذَيْنَةَ بْنِ ظَرِبِ بْنِ حَسّانَ وَبَيْنَ حَسّانَ وَبَيْنَ السّمَيْدَعِ آبَاءٌ كَثِيرَةٌ وَلَا يَصِحّ قَوْلُ مَنْ قَالَ إنّ حَسّانَ ابْنُهُ لِصُلْبِهِ لِبُعْدِ زَمَنِ الزّبّاءِ مِنْ السّمَيْدَعِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِي اسْمِهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَذَكَرَ الْحَارِثُ بْنُ مُضَاضٍ الْأَكْبَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ الرّقِيبِ بْنِ هَيّ بْنِ بِنْتِ جُرْهُمٍ .
جِيَادٌ وَقُعَيْقِعَانُ
فَصْلٌ وَذَكَرَ وِلَايَةَ جُرْهُمٍ الْبَيْتَ الْحَرَامَ دُونَ بَنِي إسْمَاعِيلَ إلَى أَنْ بَغَوْا فِي الْحَرَمِ ، وَكَانَ أَوّلَ بَغْيٍ فِي الْحَرَمِ مَا ذَكَرَهُ مِنْ حَرْبِ جُرْهُمٍ لِقَطُورَا . وَأَمّا أَجْيَادٌ فَلَمْ يُسَمّ بِأَجْيَادِ مِنْ أَجْلِ جِيَادِ الْخَيْلِ كَمَا ذَكَرَ لِأَنّ جِيَادَ الْخَيْلِ لَا يُقَالُ فِيهَا : أَجْيَادٌ ، وَإِنّمَا أَجْيَادٌ : جَمْعُ جِيدٍ . [ ص 216 ] وَذَكَرَ أَصْحَابُ الْأَخْبَارِ أَنّ مُضَاضًا ضَرَبَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَجْيَادَ مِائَةِ رَجُلٍ مِنْ الْعَمَالِقَةِ ، فَسُمّيَ الْمَوْضِعُ بِأَجْيَادِ وَهَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ وَمِنْ شِعْبِ أَجْيَادٍ تَخْرُجُ دَابّةُ الْأَرْضِ الّتِي تُكَلّمُ النّاسَ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ صَالِحٍ مَوْلَى التّوْأَمَةِ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، وَذَكَرَ غَيْرُهُ فِي أَخْبَارِ مَكّةَ أَنّ قُعَيْقِعَانَ سُمّيَ بِهَذَا الِاسْمِ حِينَ نَزَلَ تُبّعٌ مَكّةَ ، وَنَحَرَ عِنْدَهَا وَأَطْعَمَ وَوَضَعَ سِلَاحَهُ وَأَسْلِحَةَ جُنْدِهِ بِهَذَا الْمَكَانِ فَسُمّيَ قُعَيْقِعَانَ بِقَعْقَعَةِ السّلَاحِ فِيهِ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

اسْتِيلَاءُ كِنَانَةَ وَخُزَاعَةَ عَلَى الْبَيْتِ وَنَفْيُ جُرْهُمٍ
بَنُو بَكْرٍ يَطْرُدُونَ جُرْهُمًا
ثُمّ إنّ جُرْهُمًا بَغَوْا بِمَكّةَ ، وَاسْتَحَلّوا خِلَالًا مِنْ الْحُرْمَةِ فَظَلَمُوا مَنْ دَخَلَهَا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا ، وَأَكَلُوا مَالَ الْكَعْبَةِ الّذِي يُهْدَى لَهَا ، فَرَقّ أَمْرُهُمْ . فَلَمّا رَأَتْ بَنُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ ، وَغُبْشَانُ مِنْ خُزَاعَةَ ذَلِكَ أَجْمَعُوا لِحَرْبِهِمْ وَإِخْرَاجِهِمْ مِنْ مَكّةَ . فَآذَنُوهُمْ [ ص 217 ] وَغُبْشَانُ فَنَفَوْهُمْ مِنْ مَكّةَ . وَكَانَتْ مَكّةُ فِي الْجَاهِلِيّةِ لَا تُقِرّ فِيهَا ظُلْمًا وَلَا بَغْيًا ، وَلَا يَبْغِي فِيهَا أَحَدٌ إلّا أَخْرَجَتْهُ فَكَانَتْ تُسَمّى : النّاسّةَ ، وَلَا يُرِيدُهَا مَلِكٌ يَسْتَحِلّ حُرْمَتَهَا إلّا هَلَكَ مَكَانَهُ فَيُقَالُ إنّهَا مَا سُمّيَتْ بِبَكّةِ إلّا أَنّهَا كَانَتْ تَبُكّ أَعْنَاقَ الْجَبَابِرَةِ إذَا أَحْدَثُوا فِيهَا شَيْئًا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ أَنّ بَكّةَ اسْمٌ لِبَطْنِ مَكّةَ ، لِأَنّهُمْ يَتَبَاكَوْنَ فِيهَا ، أَيْ يَزْدَحِمُونَ وَأَنْشَدَنِي :
إذَا الشّرِيبُ أَخَذَتْهُ أَكّهْ ... فَخَلّهِ حَتّى يَبُكّ بَكّهْ
[ ص 218 ] وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ لِعَامَانَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ .
Sجُرْهُمٌ تَسْرِقُ مَالَ الْكَعْبَةِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ اسْتِحْلَالَ جُرْهُمٍ لِحُرْمَةِ الْكَعْبَةِ ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ كَانَ احْتَفَرَ بِئْرًا قَرِيبَةَ الْقَعْرِ عِنْدَ بَابِ الْكَعْبَةِ ، كَانَ يُلْقَى فِيهَا مَا يُهْدَى إلَيْهَا ، فَلَمّا فَسَدَ أَمْرُ جُرْهُمٍ [ ص 217 ] مَالَ الْكَعْبَةِ مَرّةً بَعْدَ مَرّةً فَيَذْكُرُ أَنّ رَجُلًا مِنْهُمْ دَخَلَ الْبِئْرَ لِيَسْرِقَ مَالَ الْكَعْبَةِ ، فَسَقَطَ عَلَيْهِ حَجَرٌ مِنْ شَفِيرِ الْبِئْرِ فَحَبَسَهُ فِيهَا ، ثُمّ أُرْسِلَتْ عَلَى الْبِئْرِ حَيّةٌ لَهَا رَأْسٌ كَرَأْسِ الْجَدْيِ سَوْدَاءُ الْمَتْنِ بَيْضَاءُ الْبَطْنِ فَكَانَتْ تُهَيّبُ مَنْ دَنَا مِنْ بِئْرِ الْكَعْبَةِ ، وَقَامَتْ فِي الْبِئْرِ - فِيمَا ذَكَرُوا - نَحْوًا مِنْ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ وَسَنَذْكُرُ قِصّةَ رَفْعِهَا عِنْدَ بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ إنْ شَاءَ اللّهُ .
بَيْنَ جُرْهُمٍ وَخُزَاعَةَ
فَصْلٌ فَلَمّا كَانَ مِنْ بَغْيِ جُرْهُمٍ مَا كَانَ وَافَقَ تَفَرّقَ سَبَأٍ مِنْ أَجْلِ سَيْلِ الْعَرِمِ ، وَنُزُولَ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ أَرْضَ مَكّةَ ، وَذَلِكَ بِأَمْرِ طَرِيفَةَ الْكَاهِنَةِ وَهِيَ امْرَأَةُ عَمْرِو بْنِ مُزَيْقِيَاءَ وَهِيَ مِنْ حِمْيَرَ ، وَبِأَمْرِ عِمْرَانَ بْنِ عَامِرٍ أَخِي عَمْرٍو ، وَكَانَ كَاهِنًا أَيْضًا ، فَنَزَلَهَا هُوَ وَقَوْمُهُ فَاسْتَأْذَنُوا جُرْهُمًا أَنْ يُقِيمُوا بِهَا أَيّامًا ، حَتّى يُرْسِلُوا الرّوّادَ وَيَرْتَادُوا مَنْزِلًا حَيْثُ رَأَوْا مِنْ الْبِلَادِ فَأَبَتْ عَلَيْهِمْ جُرْهُمٌ ، وَأَغْضَبُوهُمْ حَتّى أَقْسَمَ حَارِثَةُ أَلّا يَبْرَحَ مَكّةَ إلّا عَنْ قِتَالٍ وَغَلَبَةٍ فَحَارَبَتْهُمْ جُرْهُمٌ ، فَكَانَتْ الدّوْلَةُ لِبَنِي حَارِثَةَ عَلَيْهِمْ وَاعْتَزَلَتْ بَنُو إسْمَاعِيلَ ، فَلَمْ تَكُنْ مَعَ أَحَدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ فَعِنْدَ ذَلِكَ مَلَكَتْ خُزَاعَةُ - وَهُمْ بَنُو حَارِثَةَ - مَكّةَ ، وَصَارَتْ وِلَايَةُ الْبَيْتِ لَهُمْ وَكَانَ رَئِيسُهُمْ عَمْرَو بْنَ لُحَيّ الّذِي تَقَدّمَ ذِكْرُهُ قَبْلُ فَشَرّدَ بَقِيّةَ جُرْهُمٍ ، فَسَارَ فَلّهُمْ فِي الْبِلَادِ وَسُلّطَ عَلَيْهِمْ الذّرّ وَالرّعَافُ وَأَهْلَكَ بَقِيّتَهُمْ السّيْلُ بِإِضَمَ حَتّى كَانَ آخِرَهُمْ مَوْتًا امْرَأَةٌ رِيئَتْ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْهَا بِزَمَانِ فَعَجِبُوا مِنْ طُولِهَا وَعِظَمِ خِلْقَتِهَا ، حَتّى قَالَ لَهَا قَائِلٌ أَجِنّيّةٌ أَنْتِ أَمْ إنْسِيّةٌ ؟ فَقَالَتْ بَلْ إنْسِيّةٌ مِنْ جُرْهُمٍ ، [ ص 218 ] جُهَيْنَةَ ، فَاحْتَمَلَاهَا عَلَى الْبَعِيرِ إلَى أَرْضِ خَيْبَر َ ، فَلَمّا أَنْزَلَاهَا بِالْمَنْزِلِ الّذِي رَسَمَتْ لَهُمَا ، سَأَلَاهَا عَنْ الْمَاءِ فَأَشَارَتْ لَهُمَا إلَى مَوْضِعِ الْمَاءِ فَوَلّيَا عَنْهَا ، وَإِذَا الذّرّ قَدْ تَعَلّقَ بِهَا ، حَتّى بَلَغَ خَيَاشِيمَهَا وَعَيْنَيْهَا ، وَهِيَ تُنَادِي بِالْوَيْلِ وَالثّبُورِ حَتّى دَخَلَ حَلْقَهَا ، وَسَقَطَتْ لِوَجْهِهَا ، وَذَهَبَ الْجُهَنِيّانِ إلَى الْمَاءِ فَاسْتَوْطَنَاهُ فَمِنْ هُنَالِكَ صَارَ مَوْضِعَ جُهَيْنَةَ بِالْحِجَازِ وَقُرْبَ الْمَدِينَةِ ، وَإِنّمَا هُمْ مِنْ قُضَاعَةَ ، وَقُضَاعَةُ : مِنْ رِيفِ الْعِرَاقِ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَخَرَجَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضٍ الْجُرْهُمِيّ بِغَزَالَيْ الْكَعْبَةِ وَبِحَجَرِ الرّكْنِ فَدَفَنَهُمَا فِي زَمْزَمَ ، وَانْطَلَقَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ جُرْهُمَ إلَى الْيَمَنِ ، فَحَزِنُوا عَلَى مَا فَارَقُوا مِنْ أَمْرِ مَكّةَ وَمُلْكِهَا حُزْنًا شَدِيدًا ، فَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضٍ فِي ذَلِكَ [ ص 219 ]
وَقَائِلَةٍ وَالدّمْعُ سَكْبٌ مُبَادِرُ ... وَقَدْ شَرِقَتْ بِالدّمْعِ مِنْهَا الْمَحَاجِرُ
كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحَجُونِ إلَى الصّفَا ... أَنِيسٌ وَلَمْ يَسْمُرْ بِمَكّةَ سَامِرُ
فَقُلْت لَهَا وَالْقَلْبُ مِنّي كَأَنّمَا ... يُلَجْلِجُهُ بَيْنَ الْجَنَاحَيْنِ طَائِرُ
بَلَى نَحْنُ كُنّا أَهْلَهَا ، فَأَزَالَنَا ... صُرُوفُ اللّيَالِي ، وَالْجُدُودُ الْعَوَاثِرُ
وَكُنّا وُلَاةَ الْبَيْتِ مِنْ بَعْدِ نَابِتٍ ... نَطُوفُ بِذَاكَ الْبَيْتِ وَالْخَيْرُ ظَاهِرُ
وَنَحْنُ وَلِينَا الْبَيْتَ مِنْ بَعْدِ نَابِتٍ ... بِعَزّ فَمَا يَحْظَى لَدَيْنَا الْمُكَاثِرُ
مَلَكْنَا فَعَزّزْنَا فَأَعْظِمْ بِمُلْكِنَا ... فَلَيْسَ لِحَيّ غَيْرِنَا ثَمّ فَاخِرُ
أَلَمْ تُنْكِحُوا مِنْ خَيْرِ شَخْصٍ عَلِمْته ... فَأَبْنَاؤُهُ مِنّا ، وَنَحْنُ الْأَصَاهِرُ
فَإِنْ تَنْثَنِ الدّنْيَا عَلَيْنَا بِحَالِهَا ... فَإِنّ لَهَا حَالًا ، وَفِيّ التّشَاجُرُ
فَأَخْرَجَنَا مِنْهَا الْمَلِيكُ بِقُدْرَةِ ... كَذَلِكَ - يَا لَلنّاسِ - تَجْرِي الْمَقَادِرُ
أَقُولُ إذَا نَامَ الْخَلِيّ ، وَلَمْ أَنَمْ ... إذَا الْعَرْشُ لَا يَبْعُدْ سُهَيْلٌ وَعَامِرُ
وَبُدّلْت مِنْهَا أَوْجُهًا لَا أُحِبّهَا ... قَبَائِلُ مِنْهَا حِمْيَرٌ وَيُحَابِرُ
وَصِرْنَا أَحَادِيثًا وَكُنّا بِغِبْطَةِ ... بِذَلِكَ عَضّتْنَا السّنُونَ الْغَوَابِرُ
فَسَحّتْ دُمُوعُ الْعَيْنِ تَبْكِي لِبَلْدَةِ ... بِهَا حَرَمٌ أَمْنٌ وَفِيهَا الْمَشَاعِرُ
وَتَبْكِي لِبَيْتِ لَيْسَ يُؤْذَى حِمَامُهُ ... يَظَلّ بِهِ أَمْنًا ، وَفِيهِ الْعَصَافِرُ
وَفِيهِ وُحُوشٌ - لَا تُرَامُ - أَنِيسَةٌ ... إذَا خَرَجَتْ مِنْهُ فَلَيْسَتْ تُغَادِرُ
[ ص 220 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : " فَأَبْنَاؤُهُ مِنّا " ، عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ .
Sغُرْبَةُ الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضٍ
فَصْلٌ رَجْعُ الْحَدِيثِ . وَكَانَ الْحَارِثُ بْنُ مُضَاضِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ الرّقِيب بْنِ هَيّ بْنِ نَبْتِ بْنِ جُرْهُمٍ الْجُرْهُمِيّ قَدْ نَزَلَ بِقَنَوْنَا مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ ، فَضَلّتْ لَهُ إبِلٌ فَبَغَاهَا حَتّى أَتَى الْحَرَمَ ، فَأَرَادَ دُخُولَهُ لِيَأْخُذَ إبِلَهُ فَنَادَى عَمْرُو بْنُ لُحَيّ مَنْ وَجَدَ جُرْهُمِيّا ، فَلَمْ يَقْتُلْهُ قُطِعَتْ يَدُهُ فَسَمِعَ بِذَلِكَ الْحَارِثُ وَأَشْرَفَ عَلَى جَبَلٍ مِنْ جِبَالِ مَكّةَ ، فَرَأَى إبِلَهُ تُنْحَرُ وَيُتَوَزّعُ لَحْمُهَا ، فَانْصَرَفَ بَائِسًا خَائِفًا ذَلِيلًا ، وَأَبْعَدَ فِي الْأَرْضِ وَهِيَ غُرْبَةُ الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضٍ الّتِي تُضْرَبُ بِهَا الْمَثَلُ حَتّى قَالَ الطّائِيّ :
غُرْبَةٌ تَقْتَدِي بِغُرْبَةِ قَيْسِ بْ ... نِ زُهَيْرٍ وَالْحَارِثِ بْنِ مُضَاضِ
[ ص 219 ] قَالَ الْحَارِثُ الشّعْرَ الّذِي رَسَمَهُ ابْنُ إسْحَاقَ وَهُوَ قَوْلُهُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْحَجُونِ إلَى الصّفَا
الشّعْرَ وَفِيهِ
وَنَبْكِي لِبَيْتِ لَيْسَ يُؤْذَى حِمَامُهُ ... تَظَلّ بِهِ أَمْنًا ، وَفِيهِ الْعَصَافِرُ
أَرَادَ الْعَصَافِيرُ وَحَذَفَ الْيَاءَ ضَرُورَةً وَرَفَعَ الْعَصَافِيرَ عَلَى الْمَعْنَى ، أَيْ وَتَأْمَنُ فِيهِ الْعَصَافِيرُ وَتَظَلّ بِهِ أَمْنًا ، أَيْ ذَاتَ أَمْنٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُون أَمْنًا جَمْعَ آمِنٍ مِثْلُ رَكْبٍ جَمْعُ : رَاكِبٍ وَفِيهِ وَلَمْ يَسْمُرْ بِمَكّةَ سَامِرُ السّامِرُ اسْمُ الْجَمَاعَةِ يَتَحَدّثُونَ بِاللّيْلِ وَفِي التّنْزِيلِ { سَامِرًا تَهْجُرُونَ } [ الْمُؤْمِنُونَ 67 ] وَالْحَجُونُ بِفَتْحِ الْحَاءِ عَلَى فَرْسَخٍ وَثُلُثٍ مِنْ مَكّةَ ، قَالَ الْحُمَيْدِيّ : كَانَ سُفْيَانُ رُبّمَا أَنْشَدَ هَذَا الشّعْرَ فَزَادَ فِيهِ بَعْدَ قَوْلِهِ فَلَيْسَتْ تُغَادِرُ
وَلَمْ يَتَرَبّعْ وَاسِطًا وَجُنُوبَهُ ... إلَى السّرّ مِنْ وَادِي الْأَرَاكَةِ حَاضِرُ
وَأَبْدَلَنِي رَبّي بِهَا دَارَ غُرْبَةٍ ... بِهَا الْجُوعُ بَادٍ وَالْعَدُوّ الْمُحَاصِرُ
وَاسِطٌ وَعَامِرٌ وَجُرْهُمٌ
قَالَ الْحُمَيْدِيّ : وَاسِطٌ : الْجَبَلُ الّذِي يَجْلِسُ عِنْدَهُ الْمَسَاكِينُ إذَا ذَهَبَتْ إلَى مِنَى . وَقَوْلُهُ فِيهِ لَا يَبْعَدْ سُهَيْلٌ وَعَامِرُ
[ ص 220 ] جِبَالِ مَكّةَ ، يَدُلّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ بِلَالٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي عَامِرٌ وَطَفِيلُ . عَلَى رِوَايَةِ مَنْ رَوَاهُ هَكَذَا ، وَجُرْهُمٌ هَذَا هُوَ الّذِي تَتَحَدّثُ بِهَا الْعَرَبُ فِي أَكَاذِيبِهَا ، وَكَانَ مِنْ خُرَافَاتِهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ أَنّ جُرْهُمًا ابْنٌ لِمَلَكِ أُهْبِطَ مِنْ السّمَاءِ لِذَنْبِ أَصَابَهُ فَغُضِبَ عَلَيْهِ مِنْ أَجْلِهِ كَمَا أُهْبِطَ هَارُوتُ وَمَارُوتُ ثُمّ أُلْقِيَتْ فِيهِ الشّهْوَةُ فَتَزَوّجَ امْرَأَةً فَوَلَدَتْ لَهُ جُرْهُمًا ، قَالَ قَائِلُهُمْ
لَا هُمّ إنّ جُرْهُمًا عِبَادُكَا ... النّاسُ طُرْفٌ وَهُمْ تِلَادُكَا
[ بِهِمْ قَدِيمًا عَمِرَتْ بِلَادُكَا
مِنْ كِتَابِ الْأَمْثَالِ لِلْأَصْبَهَانِيّ
مَكّةُ وَأَسْمَاؤُهَا : فَصْلٌ وَذَكَرَ مَكّةَ وَبَكّةَ وَقَدْ قِيلَ فِي بَكّةَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنّهَا تَبُكّ الْجَبَابِرَةَ أَيْ تَكْسِرُهُمْ وَتَقْدَعُهُمْ وَقِيلَ مِنْ التّبَاكّ وَهُوَ الِازْدِحَامُ وَمَكّةُ مَنْ تَمَكّكْت الْعَظْمَ إذَا اجْتَذَبْت مَا فِيهِ مِنْ الْمُخّ وَتَمَكّكَ الْفَصِيلُ مَا فِي ضَرْعِ النّاقَةِ فَكَأَنّهَا تَجْتَذِبُ إلَى نَفْسِهَا مَا فِي الْبِلَادِ مِنْ النّاسِ وَالْأَقْوَاتِ الّتِي تَأْتِيهَا فِي الْمَوَاسِمِ وَقِيلَ لَمّا كَانَتْ فِي بَطْنِ وَادٍ فَهِيَ تُمَكّكُ الْمَاءَ مِنْ جِبَالِهَا وَأَخَاشِبِهَا عِنْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ وَتَنْجَذِبُ إلَيْهَا السّيُولُ وَأَمّا قَوْلُ الرّاجِزِ الّذِي أَنْشَدَهُ ابْنُ هِشَامٍ :
إذَا الشّرِيبُ أَخَذَتْهُ أَكّهْ ... فَخَلّهِ حَتّى يَبُكّ بَكّهْ
فَالْأَكّةُ الشّدّةُ وَإِكَاكُ الدّهْرِ شَدَائِدُهُ . وَذَكَرَ أَنّهُ كَانَ يُقَالُ لَهَا : النّاسّةُ ، وَهُوَ مِنْ نُسْت الشّيْءَ إذَا أَذَهَبْته ، وَالرّوَايَةُ فِي الْكِتَابِ بِالنّونِ وَذَكَرَ الْخَطّابِيّ [ فِي غَرِيبِهِ ] أَنّهُ يُقَالُ لَهَا : الْبَاسّةُ أَيْضًا بِالْبَاءِ وَهُوَ مِنْ بُسّتْ الْجِبَالُ بَسّا ، أَيْ فُتّتْ وَثُرّيَتْ كَمَا يُثَرّى السّوِيقُ ، قَالَ الرّاجِزُ لَا تَخْبِزَا خَبْزًا وَبُسّا بَسّا
[ ص 221 ] يُقَالُ إنّ هَذَا الْبَيْتَ لِلِصّ أَعْجَلَهُ الْهَرَبُ . وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنّ الْخَبْزَ شِدّةُ السّوْقِ وَالْبَسّ : أَلْيَنُ مِنْهُ وَبَعْدَهُ
مَا تَرَكَ السّيْرُ لَهُنّ نَسّا
وَمِنْ أَسْمَاءِ مَكّةَ أَيْضًا ، الرّأْسُ وَصَلَاحُ وَأُمّ رُحْمٍ وَكُوثَى ، وَأَمّا الّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا الدّجّالُ فَهِيَ كُوثَى رَبّا وَمِنْهَا كَانَتْ أُمّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ وَقَدْ تَقَدّمَ اسْمُهَا ، وَأَبُوهَا هُوَ الّذِي احْتَفَرَ نَهْرَ كُوثَى ، قَالَهُ الطّبَرِيّ .

[ ص 221 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَيْضًا يَذْكُرُ بَكْرًا وَغُبْشَانَ وَسَاكِنِي مَكّةَ الّذِينَ خَلَفُوا فِيهَا بَعْدَهُمْ [ ص 222 ]
يَا أَيّهَا النّاسُ سِيرُوا إنّ قَصْرَكُمْ ... أَنْ تُصْبِحُوا ذَاتَ يَوْمٍ لَا تَسِيرُونَا
حُثّوا الْمَطِيّ وَأَرْخُوا مِنْ أَزِمّتِهَا ... قَبْلَ الْمَمَاتِ وَقَضّوا مَا تُقَضّونَا
كُنّا أُنَاسًا كَمَا كُنْتُمْ فَغَيّرَنَا ... دَهْرٌ فَأَنْتُمْ كَمَا كُنّا تَكُونُونَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هَذَا مَا صَحّ لَهُ مِنْهَا . وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ أَنّ هَذِهِ [ ص 223 ] قِيلَ فِي الْعَرَبِ ، وَأَنّهَا وُجِدَتْ مَكْتُوبَةً فِي حَجَرٍ بِالْيَمَنِ وَلَمْ يُسَمّ لِي قَائِلُهَا .
Sفَصْلٌ وَذَكَرَ قَوْلَ الْحَارِثِ بْنِ مُضَاضٍ
يَا أَيّهَا النّاسُ سِيرُوا إنّ قَصْرَكُمْ ... أَنْ تُصْبِحُوا ذَاتَ يَوْمٍ لَا تَسِيرُونَا
وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ أَنّهَا وُجِدَتْ بِحَجَرِ بِالْيَمَنِ وَلَا يُعْرَفُ قَائِلُهَا ، وَأَلْفَيْت فِي كِتَابِ أَبِي بَحْرٍ سُفْيَانَ بْنِ الْعَاصِي خَبَرًا لِهَذِهِ الْأَبْيَاتِ وَأَسْنَدَهُ أَبُو الْحَارِثِ مُحَمّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْجُعْفِيّ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ السّلَامِ الْبَصْرِيّ قَالَ حَدّثَنَا إسْحَاقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ سُلَيْمَانَ التّمّارُ قَالَ أَخْبَرَنِي ثِقَةٌ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْيَمَامَةِ ، قَالَ وُجِدَ فِي بِئْرٍ بِالْيَمَامَةِ ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ وَهِيَ بِئْرُ طَسْمٍ وَجَدِيسٍ فِي قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا : مُعْنِقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحِجْرِ مِيلٌ وَهُمْ مِنْ بَقَايَا عَادٍ ، غَزَاهُمْ تُبّعٌ ، فَقَتَلَهُمْ فَوَجَدُوا فِي حَجَرٍ مِنْ الثّلَاثَةِ الْأَحْجَارِ مَكْتُوبًا : [ ص 222 ]
يَا أَيّهَا الْمَلِكُ الّذِي ... بِالْمُلْكِ سَاعَدَهُ زَمَانُهْ
مَا أَنْتَ أَوّلَ مَنْ عَلَا ... وَعَلَا شئون النّاسِ شَانُهْ
أَقْصِرْ عَلَيْك مُرَاقِبًا ... فَالدّهْرُ مَخْذُولٌ أَمَانُهْ
كَمْ مِنْ أَشَمّ مُعَصّبٍ ... بِالتّاجِ مَرْهُوبٍ مَكَانُهْ
قَدْ كَانَ سَاعَدَهُ الزّمَا ... نُ وَكَانَ ذَا خَفْضٍ جَنَانُهْ
تَجْرِي الْجَدَاوِلُ حَوْلَهُ ... لِلْجُنْدِ مُتْرَعَةً جِفَانُهْ
قَدْ فَاجَأَتْهُ مَنِيّةٌ ... لَمْ يُنْجِهِ مِنْهَا اكْتِنَانُهْ
وَتَفَرّقَتْ أَجْنَادُهُ ... عَنْهُ وَنَاحَ بِهِ قِيَانُهْ
وَالدّهْرُ مَنْ يَعْلِقْ بِهِ ... يَطْحَنْهُ مُفْتَرِشًا جِرَانُهْ
وَالنّاسُ شَتّى فِي الْهَوَى ... كَالْمَرْءِ مُخْتَلِفٌ بَنَانُهْ
وَالصّدْقُ أَفْضَلُ شِيمَةٍ ... وَالْمَرْءُ يَقْتُلُهُ لِسَانُهْ
وَالصّمْتُ أَسْعَدُ لِلْفَتَى ... وَلَقَدْ يُشَرّفُهُ بَيَانُهْ
وَوُجِدَ فِي الْحَجَرِ الثّانِي مَكْتُوبًا أَبْيَاتٌ
كُلّ عَيْشٍ تَعِلّهْ ... لَيْسَ لِلدّهْرِ خَلّهْ
يَوْمُ بُؤْسَى وَنُعْمَى ... وَاجْتِمَاعٍ وَقِلّهْ
حُبّنَا الْعَيْشَ وَالتّكَا ... ثُرَ جَهْلٌ وَضِلّهْ
بَيْنَمَا الْمَرْءُ نَاعِمٌ ... فِي قُصُورٍ مُظِلّهْ
فِي ظِلَالٍ وَنِعْمَةٍ ... سَاحِبًا ذَيْلَ حُلّهْ
لَا يَرَى الشّمْسَ مِلْغَضَا ... رَةِ إذْ زَلّ زَلّهْ
لَمْ يُقَلْهَا ، وَبَدّلَتْ ... عِزّةَ الْمَرْءِ ذِلّهْ
آفَةُ الْعَيْشِ وَالنّعِ ... يمِ كُرُورُ الْأَهِلّهْ
وَصْلُ يَوْمٍ بِلَيْلَةِ ... وَاعْتِرَاضٌ بِعِلّهْ
وَالْمَنَايَا جَوَاثِمُ ... كَالصّقُورِ الْمُدِلّهْ
بِاَلّذِي تَكْرَهُ النّفُ ... وسُ عَلَيْهَا مُطِلّهْ
وَفِي الْحَجَرِ الثّالِثِ مَكْتُوبًا :
يَا أَيّهَا النّاس سِيرُوا إنّ قَصْرَكُمْ ... أَنْ تُصْبِحُوا ذَاتَ يَوْمٍ لَا تَسِيرُونَا
حُثّوا الْمَطِيّ وَأَرْخُوا مِنْ أَزِمّتِهَا ... قَبْلَ الْمَمَاتِ وَقَضّوا مَا تُقَضّونَا
كُنّا أُنَاسًا كَمَا كُنْتُمْ فَغَيّرَنَا ... دَهْرٌ فَأَنْتُمْ كَمَا كُنّا تَكُونُونَا
[ ص 223 ] وَذَكَرَ أَبُو الْوَلِيدِ الْأَزْرَقِيّ فِي كِتَابِهِ فِي فَضَائِلِ مَكّةَ زِيَادَةً فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ وَهِيَ
قَدْ مَالَ دَهْرٌ عَلَيْنَا ثُمّ أَهْلَكَنَا ... بِالْبَغْيِ فِينَا وَبَزّ النّاسِ نَاسُونَا
إنّ التّفَكّرَ لَا يُجْدِي بِصَاحِبِهِ ... عِنْدَ الْبَدِيهَةِ فِي عِلْمٍ لَهُ دُوّنَا
قَضّوا أُمُورَكُمْ بِالْحَزْمِ إنّ لَهَا ... أُمُورَ رُشْدٍ رَشَدْتُمْ ثَمّ مَسْنُونَا
وَاسْتَخْبِرُوا فِي صَنِيعِ النّاسِ قَبْلَكُمْ ... كَمَا اسْتَبَانَ طَرِيقٌ عِنْدَهُ اُلْهُونَا
كُنّا زَمَانًا مُلُوكَ النّاسِ قَبْلَكُمْ ... بِمَسْكَنِ فِي حَرَامِ اللّهِ مَسْكُونَا
وَوُجِدَ عَلَى حَائِطٍ قَصِيرٍ بِدِمَشْقَ لِبَنِي أُمَيّةَ مَكْتُوبًا :
يَا أَيّهَا الْقَصْرُ الّذِي كَانَتْ ... تَحُفّ بِهِ الْمَوَاكِبْ
أَيْنَ الْمَوَاكِبُ وَالْمَضَ ... ارِبُ وَالنّجَائِبُ وَالْجَنَائِبْ
أَيْنَ الْعَسَاكِرُ وَالدّسَ ... اكِرُ وَالْمَقَانِبُ وَالْكَتَائِبْ
مَا بَالُهُمْ لَمْ يَدْفَعُوا ... لَمّا أَتَتْ عَنْك النّوَائِبْ
مَا بَالُ قَصْرِك وَاهِيًا ... قَدْ عَادَ مُنْهَدّ الْجَوَانِبْ
وَوُجِدَ فِي الْحَائِطِ الْآخَرِ مِنْ حِيطَانِهَا جَوَابُهَا :
يَا سَائِلِي عَمّا مَضَى ... مِنْ دَهْرِنَا وَمِنْ الْعَجَائِبْ
وَالْقَصْرِ إذْ أَوْدَى ، فَأَضْحَى ... بَعْدُ مُنْهَدّ الْجَوَانِبْ
وَعَنْ الْجُنُودِ أُولِي الْعُقُو ... دِ وَمَنْ بِهِمْ كُنّا نُحَارِبْ
وَبِهِمْ قَهَرْنَا عَنْوَةً ... مَنْ بِالْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبْ
وَتَقُولُ لِمْ لَمْ يَدْفَعُوا ... لَمّا أَتَتْ عَنْك النّوَائِبْ
هَيْهَاتَ لَا يُنْجِي مِنْ المو ... ت الْكَتَائِبُ وَالْمَقَانِبْ

اسْتِبْدَادُ قَوْمٍ مِنْ خُزَاعَةَ بِوِلَايَةِ الْبَيْتِ
[ ص 224 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ غُبْشَانَ مِنْ خُزَاعَةَ وَلِيَتْ الْبَيْتَ دُونَ بَنِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ وَكَانَ الّذِي يَلِيهِ مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ الْغُبْشَانِيّ ، وَقُرَيْشٌ إذْ ذَاكَ حُلُولٌ وَصِرْمٌ وَبُيُوتَاتٌ مُتَفَرّقُونَ فِي قَوْمِهِمْ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ فَوَلِيَتْ خُزَاعَةُ الْبَيْتَ يَتَوَارَثُونَ ذَلِكَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ حَتّى كَانَ آخِرَهُمْ حُلَيْلُ بْنُ حُبْشِيّةَ ابْنِ سَلُولَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو الْخُزَاعِيّ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : يُقَالُ حُبْشِيّةُ ابْنُ سَلُولَ .
Sقُصَيّ وَخُزَاعَةُ وَوِلَايَةُ الْبَيْتِ
[ ص 224 ] قُصَيّ ذَكَرَ فِيهِ أَنّ قُرَيْشًا قُرْعَةُ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ هَكَذَا بِالْقَافِ وَهِيَ الرّوَايَةُ الصّحِيحَةُ وَفِي بَعْضِ النّسَخِ فَرْعَةُ بِالْفَاءِ وَالْقُرْعَةُ بِالْقَافِ هِيَ نُخْبَةُ الشّيْءِ وَخِيَارُهُ وَقَرِيعُ الْإِبِلِ فَحْلُهَا ، وَقَرِيعُ الْقَبِيلَةِ سَيّدُهَا ، وَمِنْهُ اُشْتُقّ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ وَغَيْرُهُ مِمّنْ سُمّيَ مِنْ الْعَرَبِ بِالْأَقْرَعِ . وَذَكَرَ انْتِقَالَ وِلَايَةِ الْبَيْتِ مِنْ خُزَاعَةَ إلَيْهِ وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْ سَبَبِ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ أَنّ قُصَيّا رَأَى نَفْسَهُ أَحَقّ بِالْأَمْرِ مِنْهُمْ وَذَكَرَ غَيْرُهُ أَنّ حُلَيْلًا كَانَ يُعْطِي مَفَاتِيحَ الْبَيْتِ ابْنَتَهُ حُبّى ، حِينَ كَبِرَ وَضَعُفَ فَكَانَتْ بِيَدِهَا ، وَكَانَ قُصَيّ رُبّمَا أَخَذَهَا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ فَفَتَحَ الْبَيْتَ لِلنّاسِ وَأَغْلَقَهُ وَلَمّا هَلَكَ حُلَيْلٌ أَوْصَى بِوِلَايَةِ الْبَيْتِ إلَى قُصَيّ ، فَأَبَتْ خُزَاعَةُ أَنْ تُمْضِيَ ذَلِكَ لِقُصَيّ فَعِنْدَ ذَلِكَ هَاجَتْ الْحَرْبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خُزَاعَةَ ، وَأَرْسَلَ إلَى رِزَاحٍ أَخِيهِ يَسْتَنْجِدُهُ عَلَيْهِمْ . وَيُذْكَرُ أَيْضًا أَنّ أَبَا غُبْشَانَ مِنْ خُزَاعَةَ ، وَاسْمُهُ سُلَيْمٌ - وَكَانَتْ لَهُ وِلَايَةُ الْكَعْبَةِ - بَاعَ مَفَاتِيحَ الْكَعْبَةِ مِنْ قُصَيّ بِزِقّ خَمْرٍ فَقِيلَ أَخْسَرُ مِنْ صَفْقَةِ أَبِي غُبْشَانَ ذَكَرَهُ الْمَسْعُودِيّ وَالْأَصْبَهَانِيّ فِي الْأَمْثَالِ . وَكَانَ الْأَصْلُ فِي انْتِقَالِ وِلَايَةِ الْبَيْتِ مِنْ وَلَدِ مُضَرَ إلَى خُزَاعَةَ أَنّ الْحَرَمَ حِينَ ضَاقَ عَنْ وَلَدِ نِزَارٍ وَبَغَتْ فِيهِ إيَادٌ أَخْرَجَتْهُمْ بَنُو مُضَرَ بْنِ نِزَارٍ ، وَأَجْلَوْهُمْ عَنْ مَكّةَ ، فَعَمَدُوا فِي اللّيْلِ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ، فَاقْتَلَعُوهُ وَاحْتَمَلُوهُ عَلَى بَعِيرٍ فَرَزَحَ الْبَعِيرُ بِهِ وَسَقَطَ إلَى الْأَرْضِ وَجَعَلُوهُ عَلَى آخَرَ فَرَزَحَ أَيْضًا ، وَعَلَى الثّالِثِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ فَلَمّا رَأَوْا ذَلِكَ دَفَنُوهُ وَذَهَبُوا ، فَلَمّا أَصْبَحَ أَهْلُ مَكّةَ ، وَلَمْ يَرَوْهُ وَقَعُوا فِي كَرْبٍ عَظِيمٍ وَكَانَتْ امْرَأَةٌ مِنْ خُزَاعَةَ قَدْ بَصُرَتْ بِهِ حِينَ دُفِنَ فَأَعْلَمَتْ قَوْمَهَا بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ أَخَذَتْ خُزَاعَةُ عَلَى وُلَاةِ الْبَيْتِ أَنْ يَتَخَلّوْا لَهُمْ [ ص 225 ] الْحَجَرِ ، فَفَعَلُوا ذَلِكَ فَمِنْ هُنَالِكَ صَارَتْ وِلَايَةُ الْبَيْتِ لِخُزَاعَةَ إلَى أَنْ صَيّرَهَا أَبُو غُبْشَانَ إلَى عَبْدِ مَنَافٍ هَذَا مَعْنَى قَوْلِ الزّبَيْرِ .

تَزَوّجُ قُصَيّ بْنِ كِلَابٍ حُبّى بِنْتَ حُلَيْلٍ
[ ص 225 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ قُصَيّ بْنَ كِلَابٍ خَطَبَ إلَى حُلَيْلِ ابْنِ حُبْشِيّةَ بِنْتَه حُبّى ، فَرَغِبَ فِيهِ حُلَيْلٌ فَزَوّجَهُ فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الدّارِ وَعَبْدَ مَنَافٍ وَعَبْدَ الْعُزّى ، وَعَبْدًا . فَلَمّا انْتَشَرَ وَلَدُ قُصَيّ ، وَكَثُرَ مَالُهُ وَعَظُمَ شَرَفُهُ هَلَكَ حُلَيْلٌ .
قُصَيّ يَتَوَلّى أَمْرَ الْبَيْتِ
فَرَأَى قُصَيّ أَنّهُ أَوْلَى بِالْكَعْبَةِ وَبِأَمْرِ مَكّةَ مِنْ خُزَاعَةَ وَبَنِيّ بَكْرٍ وَأَنّ قُرَيْشًا قُرْعَةُ إسْمَاعِيلَ بْنِ إبْرَاهِيمَ وَصَرِيحُ وَلَدِهِ . فَكَلّمَ رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ ، وَبَنِيّ كِنَانَةَ وَدَعَاهُمْ إلَى إخْرَاجِ خُزَاعَةَ وَبَنِيّ بَكْرٍ مِنْ مَكّةَ ، فَأَجَابُوهُ . وَكَانَ رَبِيعَةُ بْنُ حَرَامٍ مِنْ عُذْرَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدٍ قَدْ قَدِمَ مَكّةَ بَعْدَمَا هَلَكَ كِلَابٌ فَتَزَوّجَ فَاطِمَةَ بِنْتَ سَعْدِ بْنِ سَيَلٍ وَزُهْرَةُ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ وَقُصَيّ فَطِيمٌ فَاحْتَمَلَهُمَا إلَى بِلَادِهِ فَحَمَلَتْ قُصَيّا مَعَهَا ، وَأَقَامَ زُهْرَةُ فَوَلَدَتْ لِرَبِيعَةَ رِزَاحًا . فَلَمّا بَلَغَ قُصَيّ ، وَصَارَ رَجُلًا أَتَى مَكّةَ ، فَأَقَامَ بِهَا ، فَلَمّا أَجَابَهُ قَوْمُهُ إلَى مَا دَعَاهُمْ إلَيْهِ كَتَبَ إلَى أَخِيهِ مِنْ أُمّهِ رِزَاحِ بْنِ رَبِيعَةَ ، يَدْعُوهُ إلَى نُصْرَتِهِ وَالْقِيَامِ مَعَهُ فَخَرَجَ رِزَاحُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَمَعَهُ إخْوَتُهُ حُنّ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَمَحْمُودُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَجُلْهُمَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَهُمْ لِغَيْرِ أُمّهِ فَاطِمَةَ فِيمَنْ تَبِعَهُمْ مِنْ قُضَاعَةَ فِي حَاجّ الْعَرَبِ ، وَهُمْ مُجْمِعُونَ لِنُصْرَةِ قُصَيّ . وَخُزَاعَةُ تَزْعُمُ أَنّ حُلَيْلَ ابْنَ حُبْشِيّةَ أَوْصَى بِذَلِكَ قُصَيّا وَأَمَرَهُ بِهِ حِينَ انْتَشَرَ [ ص 226 ] ابْنَتِهِ مِنْ الْوَلَدِ مَا انْتَشَرَ . وَقَالَ أَنْتَ أَوْلَى بِالْكَعْبَةِ وَبِالْقِيَامِ عَلَيْهَا ، وَبِأَمْرِ مَكّةَ مِنْ خُزَاعَةَ ، فَعِنْدَ ذَلِكَ طَلَبَ قُصَيّ مَا طَلَبَ وَلَمْ نَسْمَعْ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ فَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ .
Sنَشْأَةُ قُصَيّ
فَصْلٌ وَذَكَرَ أَنّ قُصَيّا نَشَأَ فِي حَجْرِ رَبِيعَةَ بْنِ حَرَامٍ ثُمّ ذَكَرَ رُجُوعَهُ إلَى مَكّةَ ، وَزَادَ غَيْرُهُ فِي شَرْحِ الْخَبَرِ ، فَقَالَ وَكَانَ قُصَيّ رَضِيعًا حِين احْتَمَلَتْهُ أُمّهُ مَعَ بَعْلِهَا رَبِيعَةَ ، فَنَشَأَ وَلَا يَعْلَمُ لِنَفْسِهِ أَبًا إلّا رَبِيعَةَ ، وَلَا يُدْعَى إلّا لَهُ فَلَمّا كَانَ غُلَامًا يَفَعَةً أَوْ حَزَوّرًا سَابّهُ رَجُلٌ مِنْ قُضَاعَةَ ، فَعَيّرَهُ بِالدّعْوَةِ وَقَالَ لَسْت مِنّا ، وَإِنّمَا أَنْتَ فِينَا مُلْصَقٌ فَدَخَلَ عَلَى أُمّهِ وَقَدْ وَجَمَ لِذَلِكَ فَقَالَتْ لَهُ يَا بُنَيّ صَدَقَ إنّك لَسْت مِنْهُمْ وَلَكِنّ رَهْطَك خَيْرٌ مِنْ رَهْطِهِ وَآبَاؤُك أَشْرَفُ مِنْ آبَائِهِ وَإِنّمَا أَنْتَ قُرَشِيّ ، وَأَخُوك وَبَنُو عَمّك بِمَكّةَ وَهُمْ جِيرَانُ بَيْتِ اللّهِ الْحَرَامِ فَدَخَلَ فِي سَيّارَةٍ حَتّى أَتَى مَكّةَ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنّ اسْمَهُ زَيْدٌ وَإِنّمَا كَانَ قُصَيّا أَيْ بَعِيدًا عَنْ بَلَدِهِ فَسُمّيَ قُصَيّا .

مَا كَانَ يَلِيهِ الْغَوْثُ بْنُ مُرّ مِنْ الْإِجَازَةِ لِلنّاسِ بِالْحَجّ
وَكَانَ الْغَوْثُ بْنُ مُرّ بْنِ أُدّ بْنِ طَابِخَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ يَلِي الْإِجَازَةَ لِلنّاسِ بِالْحَجّ مِنْ عَرَفَةَ وَوَلَدُهُ مِنْ بَعْدِهِ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ وَلِوَلَدِهِ صُوفَةُ . وَإِنّمَا وَلِيَ ذَلِكَ الْغَوْثُ بْنُ مُرّ ، لِأَنّ أُمّهُ كَانَتْ امْرَأَةً مِنْ جُرْهُمٍ ، وَكَانَتْ لَا تَلِدُ فَنَذَرَتْ لِلّهِ إنْ هِيَ وَلَدَتْ رَجُلًا : أَنْ تَصّدّقَ بِهِ عَلَى الْكَعْبَةِ عَبْدًا لَهَا يَخْدُمُهَا ، وَيَقُومُ عَلَيْهَا ، فَوَلَدَتْ الْغَوْثَ ، فَكَانَ يَقُومُ عَلَى الْكَعْبَةِ فِي الدّهْرِ الْأَوّلِ مَعَ أَخْوَالِهِ مِنْ جُرْهُمٍ ، فَوَلِيَ الْإِجَازَةَ بِالنّاسِ مِنْ عَرَفَةَ لِمَكَانِهِ الّذِي كَانَ بِهِ مِنْ الْكَعْبَةِ ، وَوَلَدُهُ مِنْ بَعْدِهِ حَتّى انْقَرَضُوا . فَقَالَ مُرّ بْنُ أُدّ لِوَفَاءِ نَذْرِ أُمّهِ
إنّي جُعِلْت رَبّ مِنْ بَنِيّهْ ... رَبِيطَةً بِمَكّةَ الْعَلِيّهْ
فَبَارِكَنّ لِي بِهَا أَلِيّهْ ... وَاجْعَلْهُ لِي مِنْ صَالِحِ الْبَرِيّهْ
وَكَانَ الْغَوْثُ بْنُ مُرّ - فِيمَا زَعَمُوا - إذَا دَفَعَ بِالنّاسِ قَالَ
لَا هُمّ إنّي تَابِعٌ تَبَاعَهْ ... إنْ كَانَ إثْمٌ فَعَلَى قُضَاعَهْ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَتْ صُوفَةُ تَدْفَعُ بِالنّاسِ مِنْ عَرَفَة ، وَتُجِيزُ بِهِمْ إذَا نَفَرُوا مِنْ مِنَى ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ النّفَرِ أَتَوْا لِرَمْيِ الْجِمَارِ وَرَجُلٌ مِنْ صُوفَةَ يَرْمِي لِلنّاسِ لَا يَرْمُونَ حَتّى يَرْمِيَ . فَكَانَ ذَوُو [ ص 227 ] يَأْتُونَهُ فَيَقُولُونَ لَهُ قُمْ فَارْمِ حَتّى نَرْمِيَ مَعَك ، فَيَقُولُ لَا وَاَللّهِ حَتّى تَمِيلَ الشّمْسُ فَيَظَلّ ذَوُو الْحَاجَاتِ الّذِينَ يُحِبّونَ التّعَجّلَ يَرْمُونَهُ بِالْحِجَارَةِ ويستعجلونه بِذَلِكَ وَيَقُولُونَ لَهُ وَيْلَك قُمْ فَارْمِ ، فَيَأْبَى عَلَيْهِمْ حَتّى إذَا مَالَتْ الشّمْسُ قَامَ فَرَمَى ، وَرَمَى النّاسُ مَعَهُ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَإِذَا فَرَغُوا مِنْ رَمْيِ الْجِمَارِ وَأَرَادُوا النّفَرَ مِنْ مِنَى ، أَخَذَتْ صُوفَةُ بِجَانِبَيْ الْعَقَبَةِ ، فَحَبَسُوا النّاسَ وَقَالُوا : أَجِيزِي صُوفَةُ فَلَمْ يُجَزْ أَحَدٌ مِنْ النّاسِ حَتّى يَمُرّوا ، فَإِذَا نَفَرَتْ صُوفَةُ وَمَضَتْ خُلّيَ سَبِيلُ النّاسِ فَانْطَلَقُوا بَعْدَهُمْ فَكَانُوا كَذَلِكَ [ ص 228 ] بِالْقُعْدُدِ بَنُو سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ وَكَانَتْ مِنْ بَنِي سَعْدٍ فِي آلِ صَفْوَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ شِجْنَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : صَفْوَانُ بْنُ جَنَابِ بْنِ شِجْنَةَ عُطَارِدُ بْنُ عَوْفِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ صَفْوَانُ هُوَ الّذِي يُجِيزُ لِلنّاسِ بِالْحَجّ مِنْ عَرَفَةَ ثُمّ بَنُوهُ مِنْ بَعْدِهِ حَتّى كَانَ آخِرَهُمْ الّذِي قَامَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ كَرْبُ بْنُ صَفْوَانَ وَقَالَ أَوْسُ بْنُ تَمِيمِ بْنِ مَغْرَاءَ السّعْدِيّ :
لَا يَبْرَحُ النّاسُ مَا حَجّوا مُعَرّفَهُمْ ... حَتّى يُقَالَ أَجِيزُوا آلَ صَفْوَانَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لِأَوْسِ بْنِ مَغْرَاءَ .
Sالْغَوْثُ بْنُ مُرّ وَصُوفَةُ
[ ص 226 ] وَذَكَرَ قِصّةَ الْغَوْثِ بْنِ مُرّ ، وَدَفْعِهِ بِالنّاسِ مِنْ عَرَفَةَ وَقَالَ بَعْضُ نَقَلَةِ الْأَخْبَارِ إنّ وِلَايَةَ الْغَوْثِ بْنِ مُرّ كَانَتْ مِنْ قِبَلِ مُلُوكِ كِنْدَةَ . وَقَوْلُهُ إنْ كَانَ إثْمًا فَعَلَى قُضَاعَةَ . إنّمَا خَصّ قُضَاعَةَ بِهَذَا ؛ لِأَنّ مِنْهُمْ مُحِلّينَ يَسْتَحِلّونَ الْأَشْهُرَ الْحُرُمَ ، كَمَا كَانَتْ خَثْعَمُ وَطَيّئٌ تَفْعَلُ وَكَذَلِكَ كَانَتْ النّسَأَةُ تَقُولُ إذَا حَرّمَتْ صَفَرًا أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْأَشْهُرِ بَدَلًا مِنْ الشّهْرِ الْحَرَامِ - يَقُولُ قَائِلُهُمْ قَدْ حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ الدّمَاءُ إلّا دِمَاءُ الْمُحِلّينَ . [ ص 227 ] فَصْلٌ وَأَمّا تَسْمِيَةُ الْغَوْثِ وَوَلَدِهِ صُوفَةَ فَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ ذَلِكَ . فَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدِ اللّهِ الزّبَيْرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْقَاضِي فِي أَنْسَابِ قُرَيْشٍ لَهُ عِنْدَ ذِكْرِ صُوفَةَ الْبَيْتَ الْوَاقِعَ فِي السّيرَةِ لِأَوْسِ بْنِ مَغْرَاءَ السّعْدِيّ وَهُوَ لَا يَبْرَحُ النّاسُ مَا حَجّوا مُعَرّفَهُمْ
الْبَيْتَ . وَبَعْدَهُ
مَجْدٌ بَنَاهُ لَنَا قِدْمًا أَوَائِلُنَا ... وَأَوْرَثُوهُ طِوَالَ الدّهْرِ أَحْزَانَا
وَمَغْرَاءُ تَأْنِيثُ أَمْغَرَ وَهُوَ الْأَحْمَرُ وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْرَابِيّ لِلنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَهُوَ هَذَا الرّجُلُ الْأَمْغَرُ ؟ ثُمّ قَالَ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَصُوفَةُ وَصُوفَانُ يُقَالُ لِكُلّ مَنْ وَلِيَ مِنْ الْبَيْتِ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ أَوْ قَامَ بِشَيْءِ مِنْ خِدْمَةِ الْبَيْتِ أَوْ بِشَيْءِ مِنْ أَمْرِ الْمَنَاسِكِ يُقَالُ لَهُمْ صُوفَةُ وَصُوفَانُ . قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ لِأَنّهُ بِمَنْزِلَةِ الصّوفِ فِيهِمْ الْقَصِيرُ وَالطّوِيلُ وَالْأَسْوَدُ وَالْأَحْمَرُ لَيْسُوا مِنْ قَبِيلَةٍ وَاحِدَةٍ . وَذَكَرَ أَبُو عَبْدِ اللّهِ أَنّهُ حَدّثَهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَثْرَمِ عَنْ هِشَامِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ السّائِبِ الْكَلْبِيّ قَالَ إنّمَا سُمّيَ الْغَوْثُ بْنُ مُرّ : صُوفَةَ لِأَنّهُ كَانَ لَا يَعِيشُ لِأُمّهِ وَلَدٌ فَنَذَرَتْ لَئِنْ عَاشَ لَتُعَلّقَنّ بِرَأْسِهِ صُوفَةَ وَلَتَجْعَلَنّهُ رَبِيطًا لِلْكَعْبَةِ فَفَعَلَتْ فَقِيلَ لَهُ صُوفَةُ وَلِوَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الرّبِيطُ وَحَدّثَ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عِمْرَانَ قَالَ أَخْبَرَنِي عِقَالُ بْنُ شَبّةَ قَالَ قَالَتْ أُمّ تَمِيمِ بْنِ مُرّ - وَوَلَدَتْ نِسْوَةً - فَقَالَتْ لِلّهِ عَلَيّ لَئِنْ وَلَدْت غُلَامًا لَأُعَبّدَنّهُ لِلْبَيْتِ فَوَلَدَتْ الْغَوْثَ ، وَهُوَ أَكْبَرُ وَلَدِ مُرّ فَلَمّا رَبَطَتْهُ عِنْدَ الْبَيْتِ أَصَابَهُ الْحَرّ ، فَمَرّتْ بِهِ - وَقَدْ سَقَطَ وَذَوَى وَاسْتَرْخَى فَقَالَتْ مَا صَارَ ابْنِي إلّا صُوفَةَ فَسُمّيَ صُوفَةَ . [ ص 228 ]
بَنُو سَعْدٍ وَزَيْدِ مَنَاةَ
فَصْلٌ وَذَكَرَ وِرَاثَةَ بَنِي سَعْدٍ إجَازَةَ الْحَاجّ بِالْقُعْدُدِ مِنْ بَنِي الْغَوْثِ بْنِ مُرّ ، وَذَلِكَ أَنّ سَعْدًا هُوَ ابْنُ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمِ بْنِ مُرّ وَكَانَ سَعْدٌ أَقْعَدَ بِالْغَوْثِ بْنِ مُرّ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْعَرَبِ ، وَزَيْدُ مَنَاةَ بْنُ تَمِيمٍ يُقَالُ فِيهِ مَنَاةُ وَمَنَاءَةُ بِالْهَمْزِ وَتَرْكِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ - إذَا هُمِزَ - مَفْعَلَةً مِنْ نَاءَ يَنُوءُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَعَالَةً مِنْ الْمَنِيئَةِ وَهِيَ الْمَدْبَغَةُ كَمَا قَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْعَرَبِ لِأُخْرَى : [ تَقُولُ لَك أُمّي ] : أَعْطِينِي نَفْسًا أَوْ نَفْسَيْنِ أَمْعَسُ بِهِ مَنِيئَتِي ، فَإِنّي أَفِدَةٌ . النّفْسُ قِطْعَةٌ مِنْ الدّبَاغِ وَالْمَنِيئَةُ الْجِلْدُ فِي الدّبَاغِ وَأَفِدَةٌ مُقَارِبَةٌ لِاسْتِتْمَامِ مَا تُرِيدُ صَلَاحَهُ وَتَمَامَهُ مِنْ ذَلِكَ الدّبَاغِ وَأَنْشَدَ أَبُو حَنِيفَةَ
إذَا أَنْتَ بَاكَرْت الْمَنِيئَةَ بَاكَرَتْ ... قَضِيبَ أَرَاكٍ بَاتَ فِي الْمِسْكِ مُنْقَعًا
وَأَنْشَدَ يَعْقُوبُ
إذَا أَنْتَ بَاكَرْت الْمَنِيئَةَ بَاكَرَتْ ... مَدَاكًا لَهَا مِنْ زَعْفَرَانٍ وَإِثْمِدَا

مَا كَانَتْ عَلَيْهِ عَدْوَانُ مِنْ إفَاضَةِ الْمُزْدَلِفَةِ
[ ص 229 ] وَاسْمُهُ حُرْثَانُ بْنُ عَمْرٍو ، وَإِنّمَا سُمّيَ ذَا الْإِصْبَعِ لِأَنّهُ كَانَ لَهُ إصْبَعٌ فَقَطَعَهَا .
عَذِيرَ الْحَيّ مِنْ عَدْوَا ... نَ كَانُوا حَيّةَ الْأَرْضِ
بَغَى بَعْضُهُمْ ظُلْمًا ... فَلَمْ يُرْعِ عَلَى بَعْضِ
وَمِنْهُمْ كَانَتْ السّادَا ... تُ وَالْمُوفُونَ بِالْقَرْضِ
وَمِنْهُمْ مَنْ يُجِيزُ النّا ... سَ بِالسّنّةِ وَالْفَرْضِ
وَمِنْهُمْ حَكَمٌ يَقْضِي ... فَلَا يُنْقَضُ مَا يَقْضِي
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ - فَلِأَنّ الْإِضَافَةَ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ كَانَتْ فِي عَدْوَانَ - فِيمَا حَدّثَنِي زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَكّائِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ - يَتَوَارَثُونَ ذَلِكَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ . حَتّى كَانَ آخِرَهُمْ الّذِي قَامَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ أَبُو سَيّارَةَ عُمَيْلَةُ بْنُ الْأَعْزَلِ فَفِيهِ يَقُولُ شَاعِرٌ مِنْ الْعَرَبِ :
نَحْنُ دَفَعْنَا عَنْ أَبِي سَيّارَهْ ... وَعَنْ مَوَالِيهِ بَنِي فَزَارَهْ
حَتّى أَجَازَ سَالِمًا حِمَارَهْ ... مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ يَدْعُو جَارَهْ
قَالَ وَكَانَ أَبُو سَيّارَةَ يَدْفَعُ بِالنّاسِ عَلَى أَتَانٍ لَهُ فَلِذَلِكَ يَقُولُ سَالِمًا حِمَارَهْ . [ ص 230 ]
Sاشْتِقَاقُ الْمُزْدَلِفَةِ
فَصْلٌ وَأَمّا قَوْلُهُ فَلِأَنّ الْإِفَاضَةَ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ كَانَتْ فِي عَدْوَانَ فَالْمُزْدَلِفَةُ مُفْتَعِلَةٌ مِنْ [ ص 229 ] { وَأَزْلَفْنَا ثَمّ الْآخَرِينَ } وَقِيلَ بَلْ الِازْدِلَافُ هُوَ الِاقْتِرَابُ وَالزّلْفَةُ الْقُرْبَةُ فَسُمّيَتْ مُزْدَلِفَةَ ؛ لِأَنّ النّاسَ يَزْدَلِفُونَ فِيهَا إلَى الْحَرَمِ ، وَفِي الْخَبَرِ : أَنّ آدَمَ عَلَيْهِ السّلَامُ لَمّا هَبَطَ إلَى الْأَرْضِ لَمْ يَزَلْ يَزْدَلِفُ إلَى حَوّاءَ ، وَتَزْدَلِفُ إلَيْهِ حَتّى تَعَارَفَا بِعَرَفَةَ وَاجْتَمَعَا بِالْمُزْدَلِفَةِ فَسُمّيَتْ جُمَعًا ، وَسُمّيَتْ الْمُزْدَلِفَةَ .
ذُو الْإِصْبَعِ وَآلُ ظَرِبٍ
وَأَمّا ذُو الْإِصْبَعِ الّذِي ذَكَرَهُ فَهُوَ حُرْثَانُ بْنُ عَمْرٍو ، وَيُقَالُ فِيهِ حُرْثَانُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مُحَرّثِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هُبَيْرَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ ظَرِبٍ وَظَرِبٌ هُوَ وَالِدُ عَامِرِ بْنِ الظّرِبِ الّذِي كَانَ حَكَمَ الْعَرَبَ ، وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ قِصّتَهُ فِي الْخُنْثَى ، وَفِيهِ يَقُولُ الشّاعِرُ [ الْمُتَلَمّسُ ] :
لِذِي الْحِلْمِ قَبْلَ الْيَوْمِ مَا تُقْرَعُ الْعَصَا ... وَمَا عُلّمَ الْإِنْسَانُ إلّا لِيَعْلَمَا
[ ص 230 ] وَكَانَ قَدْ خَرِفَ حَتّى تَفَلّتَ ذِهْنُهُ فَكَانَتْ الْعَصَا تُقْرَعُ لَهُ إذَا تَكَلّمَ فِي نَادِي قَوْمِهِ تَنْبِيهًا لَهُ لِئَلّا تَكُونَ لَهُ السّقْطَةُ فِي قَوْلٍ أَوْ حُكْمٍ . وَكَذَلِكَ كَانَ ذُو الْإِصْبَعِ كَانَ حَكَمًا فِي زَمَانِهِ وَعَمّرَ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ وَسُمّيَ ذَا الْإِصْبَعِ لِأَنّ حَيّةً نَهَشَتْهُ فِي أُصْبُعِهِ . وَجَدّهُمْ ظَرِبٌ هُوَ عَمْرُو بْنُ عِيَاذِ بْنِ يَشْكُرَ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَدْوَانَ ، وَاسْمُ عَدْوَانَ : تَيْمٌ وَأُمّهُ جَدِيلَةُ بِنْتُ أُدّ بْنِ طَابِخَةَ وَكَانُوا أَهْلَ الطّائِفِ ، وَكَثُرَ عَدَدُهُمْ فِيهَا حَتّى بَلَغُوا زُهَاءَ سَبْعِينَ أَلْفًا ، ثُمّ هَلَكُوا بِبَغْيِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَكَانَ ثَقِيفٌ وَهُوَ قَسِيّ بْنُ مُنَبّهٍ صِهْرًا لِعَامِرِ بْنِ الظّرِبِ كَانَتْ تَحْتَهُ زَيْنَبُ بِنْتُ عَامِرٍ وَهِيَ أُمّ أَكْثَرِ ثَقِيفٍ ، وَقِيلَ هِيَ أُخْتُ عَامِرٍ وَأُخْتُهَا لَيْلَى بِنْتُ الظّرِبِ هِيَ أُمّ دَوْسِ بْنِ عَدْنَانَ وَسَيَأْتِي طَرَفٌ مِنْ خَبَرِهِ فِيمَا بَعْدُ - إنْ شَاءَ اللّهُ - فَلَمّا هَلَكَتْ عَدْوَانُ ، وَأَخْرَجَتْ بَقِيّتَهُمْ ثَقِيفٌ مِنْ الطّائِفِ ، صَارَتْ الطّائِفُ بِأَسْرِهَا لِثَقِيفِ إلَى الْيَوْمِ . وَقَوْلُهُ حَيّةَ الْأَرْضِ يُقَالُ فُلَانٌ حَيّةُ الْأَرْضِ وَحَيّةُ الْوَادِي إذَا كَانَ مَهِيبًا يُذْعَرُ مِنْهُ كَمَا قَالَ حَسّانُ
يَا مُحْكِمُ بْنَ طُفَيْلٍ قَدْ أُتِيحَ لَكُمْ ... لِلّهِ دُرّ أَبِيكُمْ حَيّةِ الْوَادِي
يَعْنِي بِحَيّةِ الْوَادِي : خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ . فَصْلٌ وَقَوْلُهُ عَذِيرَ الْحَيّ مِنْ عَدْوَانَ . نَصَبَ عَذِيرًا عَلَى الْفِعْلِ الْمَتْرُوكِ إظْهَارُهُ كَأَنّهُ يَقُولُ هَاتُوا عَذِيرَهُ أَيْ مَنْ يَعْذِرُهُ فَيَكُونُ الْعَذِيرُ بِمَعْنَى : الْعَاذِرِ وَيَكُونُ أَيْضًا بِمَعْنَى : الْعُذْرِ مَصْدَرًا كَالْحَدِيثِ وَنَحْوِهِ .
أَبُو سَيّارَةَ
وَذَكَرَ أَبَا سَيّارَةَ وَهُوَ عُمَيْلَةُ بْنُ الْأَعْزَلِ فِي قَوْلِ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَقَالَ غَيْرُهُ اسْمُهُ الْعَاصِي . قَالَهُ الْخَطّابِيّ . وَاسْمُ الْأَعْزَلِ خَالِدٌ ذَكَرَهُ الْأَصْبَهَانِيّ ، وَكَانَتْ لَهُ أَتَانٌ عَوْرَاءُ خِطَامُهَا لِيفٌ يُقَالُ إنّهُ دَفَعَ عَلَيْهَا فِي الْمَوْقِفِ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَإِيّاهَا يَعْنِي الرّاجِزُ فِي قَوْلِهِ حَتّى يُجِيزَ سَالِمًا حِمَارَهْ . وَكَانَتْ تِلْكَ الْأَتَانُ سَوْدَاءَ وَلِذَلِكَ يَقُولُ
لَا هُمّ مَا لِي فِي الْحِمَارِ الْأَسْوَدِ ... أَصْبَحْت بَيْنَ الْعَالَمِينَ أُحْسَدُ
فَقِ أَبَا سَيّارَةَ الْمُحَسّدَ ... مِنْ شَرّ كُلّ حَاسِدٍ إذْ يَحْسُدُ
[ ص 231 ] سَيّارَةَ هَذَا هُوَ الّذِي يَقُولُ أَشْرِقْ ثَبِيرُ كَيْمَا نُغِيرَ وَهُوَ الّذِي يَقُولُ لَا هُمّ إنّي تَابِعٌ تَبَاعَهْ
وَكَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ اللّهُمّ بَغّضْ بَيْنَ رِعَائِنَا ، وَحَبّبْ بَيْنَ نِسَائِنَا ، وَاجْعَلْ الْمَالَ فِي سَمْحَائِنَا : وَهُوَ أَوّلُ مَنْ جَعَلَ الدّيَةَ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ فِيمَا ذَكَرَ أَبُو الْيَقْظَانِ حَكَاهُ عَنْهُ حَمْزَةُ بْنُ الْحَسَنِ الْأَصْبَهَانِيّ . وَقَوْلُهُ وَعَنْ مَوَالِيهِ بَنِي فَزَارَهْ . يَعْنِي بِمَوَالِيهِ بَنِي عَمّهِ لِأَنّهُ مِنْ عَدْوَانَ وَعَدْوَانُ وَفَزَارَةُ مِنْ قَيْسِ عَيْلَانَ ، وَقَوْلُهُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ يَدْعُو جَارَهْ . أَيْ يَدْعُو اللّهَ عَزّ وَجَلّ يَقُولُ اللّهُمّ كُنْ لَنَا جَارًا مِمّا نَخَافُهُ أَيْ مُجِيرًا .

أَمْرُ عَامِرِ بْنِ ظَرِبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عِيَاذِ بْنِ يَشْكُرَ بْنِ عَدْوَانَ
[ ص 231 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ وَقَوْلُهُ حَكَمٌ يَقْضِي يَعْنِي : عَامَ بْنِ ظَرِبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عِيَاذِ بْنِ يَشْكُرَ بْنِ عَدْوَانَ الْعَدْوَانِيّ . وَكَانَتْ الْعَرَبُ لَا يَكُونُ بَيْنَهَا نَائِرَةٌ وَلَا عُضْلَةٌ فِي قَضَاءٍ إلّا أَسْنَدُوا ذَلِكَ إلَيْهِ ثُمّ رَضُوا بِمَا قَضَى فِيهِ فَاخْتَصَمَ إلَيْهِ فِي بَعْضِ مَا كَانُوا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ فِي رَجُلٍ خُنْثَى ، لَهُ مَا لِلرّجُلِ وَلَهُ مَا لِلْمَرْأَةِ فَقَالُوا : أَنَجْعَلُهُ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً ؟ وَلَمْ يَأْتُوهُ بِأَمْرِ كَانَ أَعْضَلَ مِنْهُ . فَقَالَ حَتّى أَنْظُرَ فِي أَمْرِكُمْ فَوَاَللّهِ مَا نَزَلَ بِي مِثْلُ هَذِهِ مِنْكُمْ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ فَاسْتَأْخَرُوا عَنْهُ . فَبَاتَ لَيْلَتَهُ سَاهِرًا يُقَلّبُ أَمْرَهُ وَيَنْظُرُ فِي شَأْنِهِ لَا يَتَوَجّهُ لَهُ مِنْهُ وَجْهٌ وَكَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ يُقَالُ لَهَا : سُخَيْلَةُ تَرْعَى عَلَيْهِ غَنَمَهُ وَكَانَ يُعَاتِبُهَا إذَا سَرَحَتْ فَيَقُولُ صَبّحْت وَاَللّهِ يَا سُخَيْلَ وَإِذَا أَرَاحَتْ عَلَيْهِ قَالَ مَسّيْتِ وَاَللّهِ يَا سُخَيْلَ وَذَلِكَ أَنّهَا كَانَتْ تُؤَخّرُ السّرْحَ حَتّى يَسْبِقَهَا بَعْضُ النّاسِ وَتُؤَخّرُ الْإِرَاحَةَ حَتّى يَسْبِقَهَا بَعْضُ النّاسِ . فَلَمّا رَأَتْ سَهَرَهُ وَقَلَقَهُ وَقِلّةَ قَرَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ قَالَتْ مَا لَك لَا أَبَا لَك مَا عَرَاك فِي لَيْلَتِك هَذِهِ ؟ قَالَ وَيْلَك دَعِينِي ، أَمْرٌ لَيْسَ مِنْ شَأْنِك ، ثُمّ عَادَتْ لَهُ بِمِثْلِ قَوْلِهَا ، فَقَالَ فِي نَفْسِهِ عَسَى أَنْ تَأْتِيَ مِمّا أَنَا فِيهِ بِفَرَجِ فَقَالَ وَيْحَك اُخْتُصِمَ إلَيّ فِي مِيرَاثِ خُنْثَى ، أَأَجْعَلُهُ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً ؟ فَوَاَللّهِ مَا أَدْرِي مَا أَصْنَعُ مَا يَتَوَجّهُ لِي فِيهِ وَجْهٌ ؟ [ ص 232 ] قَالَ فَقَالَتْ سُبْحَانَ اللّهِ لَا أَبَا لَك أَتْبِعْ الْقَضَاءَ الْمَبَالَ أَقْعِدْهُ فَإِنْ بَالَ مِنْ حَيْثُ يَبُولُ الرّجُلُ فَهُوَ رَجُلٌ وَإِنْ بَالَ مِنْ حَيْثُ تَبُولُ الْمَرْأَةُ فَهِيَ امْرَأَةٌ . قَالَ مَسّي سُخَيْلَ بَعْدَهَا ، أَوْ صَبّحِي ، فَرّجْتهَا وَاَللّهِ ثُمّ خَرَجَ عَلَى النّاسِ حِينَ أَصْبَحَ فَقَضَى بِاَلّذِي أَشَارَتْ عَلَيْهِ بِهِ .
Sالْحُكْمُ بِالْأَمَارَاتِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ عَامِرُ بْنُ الظّرِبِ وَحُكْمُهُ فِي الْخُنْثَى ، وَمَا أَفْتَتْهُ بِهِ جَارِيَتُهُ سُخَيْلَةُ وَهُوَ حُكْمٌ مَعْمُولٌ بِهِ فِي الشّرْعِ وَهُوَ مِنْ بَابِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ وَلَهُ أَصْلٌ فِي الشّرِيعَةِ قَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ { وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } وَجْهُ الدّلَالَةِ عَلَى الْكَذِبِ فِي الدّمِ أَنّ الْقَمِيصَ الْمُدْمَى لَمْ يَكُنْ فِيهِ خَرْقٌ وَلَا أَثَرٌ لِأَنْيَابِ الذّئْبِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } [ يُوسُفَ 26 ] الْآيَةَ . [ ص 232 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمَوْلُودِ إنْ جَاءَتْ بِهِ أَوْرَقَ جَعْدًا جُمَالِيّا فَهُوَ لِلّذِي رُمِيَتْ بِهِ فَالِاسْتِدْلَالُ بِالْأَمَارَاتِ أَصْلٌ يَنْبَنِي عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ الْأَحْكَامِ فِي الْحُدُودِ وَالْمِيرَاثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . وَالْحُكْمُ فِي الْخُنْثَى أَنْ يُعْتَبَرَ الْمَبَالُ وَيُعْتَبَرَ بِالْحَيْضِ فَإِنْ أَشْكَلَ مِنْ كُلّ وَجْهٍ حُكِمَ بِأَنْ يَكُونَ لَهُ فِي الْمِيرَاثِ سَهْمُ امْرَأَةٍ وَنِصْفٌ وَفِي الدّيَةِ كَذَلِكَ وَأَكْثَرُ أَحْكَامِهِ مَبْنِيّةٌ عَلَى الِاجْتِهَادِ .

غَلَبُ قُصَيّ بْنِ كِلَابٍ عَلَى أَمْرِ مَكّةَ وَجَمْعُهُ أَمْرَ قُرَيْشٍ وَمَعُونَةُ قُضَاعَةَ لَهُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا كَانَ ذَلِكَ الْعَامُ فَعَلَتْ صُوفَةُ كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُ وَقَدْ عَرَفَتْ [ ص 233 ] الْعَرَبُ ، وَهُوَ دِينٌ فِي أَنْفُسِهِمْ فِي عَهْدِ جُرْهُمٍ وَخُزَاعَةَ وَوِلَايَتِهِمْ . فَأَتَاهُمْ قُصَيّ بْنُ كِلَابٍ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ وَقُضَاعَةَ عِنْدَ الْعَقَبَةِ ، فَقَالَ لَنَحْنُ أَوْلَى بِهَذَا مِنْكُمْ ، فَقَاتَلُوهُ فَاقْتَتَلَ النّاسُ قِتَالًا شَدِيدًا ، ثُمّ انْهَزَمَتْ صُوفَةُ وَغَلَبَهُمْ قُصَيّ عَلَى مَا كَانَ بِأَيْدِيهِمْ مِنْ ذَلِكَ . وَانْحَازَتْ عِنْدَ ذَلِكَ خُزَاعَةُ وَبَنُو بَكْرٍ عَنْ قُصَيّ ، وَعَرَفُوا أَنّهُ سَيَمْنَعُهُمْ كَمَا مَنَعَ صُوفَةَ وَأَنّهُ سَيَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ وَأَمْرِ مَكّةَ . فَلَمّا انْحَازُوا عَنْهُ بَادَأَهُمْ وَأَجْمَعَ لِحَرْبِهِمْ وَخَرَجَتْ لَهُ خُزَاعَةُ وَبَنُو بَكْرٍ فَالْتَقَوْا ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا ، حَتّى كَثُرَتْ الْقَتْلَى فِي الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا ، ثُمّ إنّهُمْ تَدَاعَوْا إلَى الصّلْحِ وَإِلَى أَنْ يُحَكّمُوا بَيْنَهُمْ رَجُلًا مِنْ الْعَرَبِ ، فَحَكّمُوا يَعْمَرَ بْنَ عَوْفِ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لَيْثِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ فَقَضَى بَيْنَهُمْ بِأَنّ قُصَيّا أَوْلَى بِالْكَعْبَةِ وَأَمْرِ مَكّةَ مِنْ خُزَاعَةَ ، وَأَنّ كُلّ دَمٍ أَصَابَهُ قُصَيّ مِنْ خُزَاعَةَ وَبَنِيّ بَكْرٍ مَوْضُوعٌ يَشْدَخُهُ تَحْتَ قَدَمَيْهِ وَأَنّ مَا أَصَابَتْ خُزَاعَةُ وَبَنُو بَكْرٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ وَقُضَاعَةَ ، فَفِيهِ الدّيَةُ مُؤَدّاةً وَأَنْ يُخَلّى بَيْنَ قُصَيّ وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ وَمَكّةَ . فَسُمّيَ يَعْمَرُ بْنُ عَوْفٍ يَوْمَئِذٍ الشّدّاخَ لِمَا شَدَخَ مِنْ الدّمَاءِ وَوَضَعَ مِنْهَا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ الشّدّاخُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَوَلِيَ قُصَيّ الْبَيْتَ وَأَمْرَ مَكّةَ ، وَجَمَعَ قَوْمَهُ مِنْ مَنَازِلِهِمْ إلَى مَكّةَ ، وَتَمَلّكَ عَلَى قَوْمِهِ وَأَهْلِ مَكّةَ فَمَلّكُوهُ إلّا أَنّهُ قَدْ أَقَرّ لِلْعَرَبِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ يَرَاهُ دِينًا فِي نَفْسِهِ لَا يَنْبَغِي تَغْيِيرُهُ فَأَقَرّ آلَ صَفْوَانَ وَعَدْوَانَ وَالنّسَأَةَ وَمُرّةَ بْنَ عَوْفٍ عَلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ حَتّى جَاءَ الْإِسْلَامُ فَهَدَمَ اللّهُ بِهِ ذَلِكَ كُلّهُ . فَكَانَ قُصَيّ أَوّلَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ أَصَابَ مُلْكًا أَطَاعَ لَهُ بِهِ قَوْمُهُ فَكَانَتْ إلَيْهِ الْحِجَابَةُ وَالسّقَايَةُ وَالرّفَادَةُ وَالنّدْوَةُ ، وَاللّوَاءُ فَحَازَ شَرَفَ مَكّةَ كُلّهُ . وَقَطّعَ مَكّةَ رِبَاعًا بَيْنَ قَوْمِهِ فَأَنْزَلَ كُلّ قَوْمٍ مِنْ قُرَيْشٍ مَنَازِلَهُمْ مِنْ مَكّةَ الّتِي أَصْبَحُوا عَلَيْهَا ، وَيَزْعُمُ النّاسُ أَنّ قُرَيْشًا هَابُوا قَطْعَ الْحَرَمِ فِي مَنَازِلِهِمْ فَقَطَعَهَا قُصَيّ بِيَدِهِ وَأَعْوَانِهِ فَسَمّتْهُ قُرَيْشٌ : مُجَمّعًا لِمَا جَمَعَ مِنْ أَمْرِهَا ، وَتَيَمّنَتْ بِأَمْرِهِ فَمَا تُنْكَحُ امْرَأَةٌ وَلَا يَتَزَوّجُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ ، وَمَا يَتَشَاوَرُونَ فِي أَمْرٍ نَزَلَ بِهِمْ وَلَا يَعْقِدُونَ لِوَاءً لِحَرْبِ قَوْمٍ مِنْ غَيْرِهِمْ إلّا فِي دَارِهِ يَعْقِدُهُ لَهُمْ بَعْضُ وَلَدِهِ وَمَا تَدّرِعُ جَارِيَةٌ إذَا بَلَغَتْ أَنْ تَدّرِعَ مِنْ قُرَيْشٍ إلّا فِي دَارِهِ يُشَقّ عَلَيْهَا فِيهَا دِرْعُهَا ثُمّ تَدّرِعُهُ ثُمّ يُنْطَلَقُ بِهَا إلَى أَهْلِهَا . فَكَانَ أَمْرُهُ فِي قَوْمِهِ مِنْ قُرَيْشٍ فِي حَيَاتِهِ وَمِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ كَالدّينِ الْمُتّبَعِ لَا [ ص 234 ] وَاِتّخَذَ لِنَفْسِهِ دَارَ النّدْوَةِ ، وَجَعَلَ بَابَهَا إلَى مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ ، فَفِيهَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَقْضِي أُمُورَهَا : قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَ الشّاعِرُ
قُصَيّ لَعَمْرِي كَانَ يُدْعَى مُجَمّعًا ... بِهِ جَمّعَ اللّهُ الْقَبَائِلَ مِنْ فِهْرٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ سَمِعْت السّائِبَ بْنَ خَبّابٍ صَاحِبَ الْمَقْصُورَةِ يُحَدّثُ أَنّهُ سَمِعَ رَجُلًا يُحَدّثُ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ ، وَهُوَ خَلِيفَةٌ حَدِيثَ قُصَيّ بْنِ كِلَابٍ ، وَمَا جَمَعَ مِنْ أَمْرِ قَوْمِهِ وَإِخْرَاجَهُ خُزَاعَةَ وَبَنِيّ بَكْرٍ مِنْ مَكّةَ ، وَوِلَايَتَهُ الْبَيْتَ وَأَمْرَ مَكّةَ ، فَلَمْ يَرُدّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُنْكِرْهُ .
Sالشّدّاخُ
فَصْلٌ وَذَكَرَ يَعْمَرَ الشّدّاخَ بْنَ عَوْفٍ حِينَ حَكّمُوهُ وَأَنّهُ سُمّيَ بِالشّدّاخِ لَمّا شَدَخَ مِنْ دِمَاءِ خُزَاعَةَ وَيَعْمَرُ الشّدّاخُ هُوَ جَدّ بَنِي دَأْبٍ الّذِينَ أُخِذَ عَنْهُمْ كَثِيرٌ مِنْ عِلْمِ الْأَخْبَارِ وَالْأَنْسَابِ وَهُمْ عِيسَى بْنُ يَزِيدَ بْنِ [ بَكْرِ ] بْنِ دَأْبٍ وَأَبُوهُ يَزِيدُ وَحُذَيْفَةُ بْنُ دَأْبٍ وَدَأْبٌ هُوَ ابْنُ كُرْزِ بْنِ أَحْمَرَ مِنْ بَنِي يَعْمَرَ بْنِ عَوْفٍ الّذِي شَدَخَ دِمَاءَ خُزَاعَةَ ، أَيْ أَبْطَلَهَا ، وَأَصْلُ الشّدْخِ الْكَسْرُ وَالْفَضْخُ وَمِنْهُ الْغُرّةُ الشّادِخَةُ شُبّهَتْ بِالضّرْبَةِ الْوَاسِعَةِ . وَالشّدّاخُ بِفَتْحِ الشّينِ كَمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ ، وَالشّدّاخُ بِضَمّهَا إنّمَا هُوَ جَمْعٌ ، وَجَائِزٌ أَنْ يُسَمّى هُوَ وَبَنُوهُ الشّدّاخَ كَمَا يُقَالُ الْمَنَاذِرَةُ فِي الْمُنْذِرِ وَبَنِيهِ وَالْأَشْعَرُونَ فِي بَنِي الْأَشْعَرِ مِنْ سَبَأٍ وَهُوَ بَابٌ يَكْثُرُ وَيَطُولُ . وَأُمّ يَعْمَرَ الشّدّاخِ اسْمُهَا : السّؤْمُ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ جُرّةَ بِضَمّ الْجِيمِ وَسَيَأْتِي ذِكْرُ جِرّةَ بِالْكَسْرِ ذَكَرَهُ ابْنُ مَاكُولَا . وَمِنْ بَنِي الشّدّاخِ بَلْعَاءُ بْنُ قَيْسِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ يَعْمَرَ الشّدّاخُ الشّاعِرُ الْمَذْكُورُ فِي شِعْرِ الْحَمَاسَةِ اسْمُهُ حُمَيْضَةُ وَلُقّبَ بَلْعَاءَ لِقَوْلِهِ
أَنَا ابْنُ قَيْسٍ سَبُعًا وَابْنَ سَبُعْ ... أَبَارَ مِنْ قَيْسٍ قَبِيلًا فَالْتَمَعْ
كَأَنّمَا كَانُوا طَعَامًا فَابْتُلِعْ
وِلَايَةُ قُصَيّ الْبَيْتَ
[ ص 233 ] [ ص 234 ] ذَكَرَ فِيهِ أَمْرَ قُصَيّ وَمَا جَمَعَ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ ، وَأَنْشَدَ
قُصَيّ لَعَمْرِي كَانَ يُدْعَى مُجَمّعًا
الْبَيْتَ وَبَعْدَهُ
هُمُوا مَلَئُوا الْبَطْحَاءَ مَجْدًا وَسُوْدُدًا ... وَهُمْ طَرَدُوا عَنّا غُوَاةَ بَنِي بَكْرِ
وَيَذْكُرُ أَنّ هَذَا الشّعْرَ لِحُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ . وَذَكَرَ أَنّ قُصَيّا قَطّعَ مَكّةَ رِبَاعًا ، وَأَنّ أَهْلَهَا هَابُوا قَطْعَ شَجَرِ الْحَرَمِ لِلْبُنْيَانِ . وَقَالَ الْوَاقِدِيّ : الْأَصَحّ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنّ قُرَيْشًا حِينَ أَرَادُوا الْبُنْيَانَ قَالُوا لِقُصَيّ كَيْفَ نَصْنَعُ فِي شَجَرِ الْحَرَمِ ، فَحَذّرَهُمْ قَطْعَهَا وَخَوّفَهُمْ الْعُقُوبَةَ فِي ذَلِكَ فَكَانَ أَحَدُهُمْ يَحُوفُ بِالْبُنْيَانِ حَوْلَ الشّجَرَةِ ، حَتّى تَكُونَ فِي مَنْزِلِهِ . قَالَ فَأَوّلُ مَنْ تَرَخّصَ فِي قَطْعِ شَجَرِ الْحَرَمِ لِلْبُنْيَانِ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الزّبَيْرِ حِينَ ابْتَنَى دُورًا بِقُعَيْقِعَانَ لَكِنّهُ جَعَلَ دِيَةَ كُلّ شَجَرَةٍ بَقَرَةً وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - أَنّهُ قَطَعَ دَوْحَةً كَانَتْ فِي دَارِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى ، كَانَتْ تَنَالُ أَطْرَافُهَا ثِيَابَ الطّائِفِينَ بِالْكَعْبَةِ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوَسّعَ الْمَسْجِدُ فَقَطَعَهَا عُمَرُ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - وَوَدَاهَا بَقَرَةً وَمَذْهَبُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللّهُ - فِي ذَلِكَ أَلّا دِيَةَ فِي شَجَرِ الْحَرَمِ . قَالَ وَلَمْ يَبْلُغْنِي فِي ذَلِكَ شَيْءٌ . وَقَدْ أَسَاءَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَأَمّا الشّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللّهُ - فَجَعَلَ فِي الدّوْحَةِ بَقَرَةً وَفِيمَا دُونَهَا شَاةً . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللّهُ - إنْ كَانَتْ الشّجَرَةُ الّتِي فِي الْحَرَمِ مِمّا يَغْرِسُهَا النّاسُ ويَسْتَنْبِتُونها ، فَلَا فِدْيَةَ عَلَى مَنْ قَطَعَ شَيْئًا مِنْهَا ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهَا ، فَفِيهِ الْقِيمَةُ بَالِغًا مَا بَلَغَتْ . وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ : أَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا - أَفْتَى فِيهَا بِعِتْقِ رَقَبَةٍ . [ ص 235 ]
دَارُ النّدْوَةِ
وَذَكَرَ أَنّ قُصَيّا اتّخَذَ دَارَ النّدْوَةِ ، وَهِيَ الدّارُ الّتِي كَانُوا يَجْتَمِعُونَ فِيهَا لِلتّشَاوُرِ وَلَفْظُهَا مَأْخُوذٌ مِنْ لَفْظِ النّدِيّ وَالنّادِي وَالْمُنْتَدَى ، وَهُوَ مَجْلِسُ الْقَوْمِ الّذِي يَنْدُونَ حَوْلَهُ أَيْ يَذْهَبُونَ قَرِيبًا مِنْهُ ثُمّ يَرْجِعُونَ إلَيْهِ وَالتّنْدِيَةُ فِي الْخَيْلِ . أَنْ تُصْرَفَ عَنْ الْوِرْدِ إلَى الْمَرْعَى قَرِيبًا ، ثُمّ تُعَادُ إلَى الشّرْبِ وَهُوَ الْمُنَدّى ، وَهَذِهِ الدّارُ تَصَيّرَتْ بَعْدَ بَنِي عَبْدِ الدّارِ إلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ ، فَبَاعَهَا فِي الْإِسْلَامِ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَذَلِكَ فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ فَلَامَهُ مُعَاوِيَةُ فِي ذَلِكَ وَقَالَ أَبِعْت مَكْرُمَةَ آبَائِك وَشَرَفِهِمْ فَقَالَ حَكِيمٌ ذَهَبَتْ الْمَكَارِمُ إلّا التّقْوَى . وَاَللّهِ لَقَدْ اشْتَرَيْتهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ بِزِقّ خَمْرٍ وَقَدْ بِعْتهَا بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَأُشْهِدُكُمْ أَنّ ثَمَنَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَأَيّنَا الْمَغْبُونُ ؟ ذَكَرَ خَبَرَ حَكِيمٍ هَذَا الدّارَقُطْنِيّ فِي أَسْمَاءِ رِجَالِ الْمُوَطّأِ لَهُ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 235 ] قُصَيّ مِنْ حَرْبِهِ انْصَرَفَ أَخُوهُ رِزَاحُ بْنُ رَبِيعَةَ إلَى بِلَادِهِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ وَقَالَ رِزَاحٌ فِي إجَابَتِهِ قُصَيّا : [ ص 236 ] [ ص 237 ]
لَمّا أَتَى مِنْ قُصَيّ رَسُولٌ ... فَقَالَ الرّسُولُ أَجِيبُوا الْخَلِيلَا
نَهَضْنَا إلَيْهِ نَقُودُ الْجِيَادَ ... وَنَطْرَحُ عَنّا الْمَلُولَ الثّقِيلَا
نَسِيرُ بِهَا اللّيْلَ حَتّى الصّبَاحِ ... وَنَكْمِي النّهَارَ لِئَلّا نَزُولَا
فَهُنّ سِرَاعٌ كَوِرْدِ الْقَطَا ... يُجِبْنَ بِنَا مِنْ قُصَيّ رَسُولَا
جَمَعْنَا مِنْ السّرّ مِنْ أَشْمَذَيْنِ ... وَمِنْ كُلّ حَيّ جَمَعْنَا قَبِيلَا
فَيَا لَك حَلْبَةَ مَا لَيْلَةٌ ... تَزِيدُ عَلَى الْأَلْفِ سَيْبًا رَسِيلَا
فَلَمّا مَرَرْنَ عَلَى عَسْجَرٍ ... وَأَسْهَلْنَ مِنْ مُسْتَنَاخٍ سَبِيلَا
وَجَاوَزْنَ بِالرّكْنِ مِنْ وَرِقَانٍ ... وَجَاوَزْنَ بِالْعَرْجِ حَيّا حُلُولَا
مَرَرْنَ عَلَى الْخَيْلِ مَا ذُقْنَهُ ... وَعَالَجْنَ مَنْ مَرّ لَيْلًا طَوِيلَا
نُدَنّي مِنْ الْعُوذِ أَفْلَاءَهَا ... إرَادَةَ أَنْ يَسْتَرِقْنَ الصّهِيلَا
فَلَمّا انْتَهَيْنَا إلَى مَكّةَ ... أَبَحْنَا الرّجَالَ قَبِيلًا قَبِيلَا
نُعَاوِرُهُمْ ثَمّ حَدّ السّيُوفِ ... وَفِي كُلّ أَوْبٍ خَلَسْنَا الْمَقُولَا
نُخَبّزُهُمْ بِصِلَابِ النّسُو ... رِ خَبْزَ الْقَوِيّ الْعَزِيزِ الذّلِيلَا
قَتَلْنَا خُزَاعَةَ فِي دَارِهَا ... وَبَكْرًا قَتَلْنَا وَجِيلًا فَجِيلَا
نَفَيْنَاهُمْ مِنْ بِلَادِ الْمَلِيكِ ... كَمَا لَا يَحُلّونَ أَرْضًا سُهُولَا
فَأَصْبَحَ سَبْيُهُمْ فِي الْحَدِيدِ ... وَمِنْ كُلّ حَيّ شَفَيْنَا الْغَلِيلَا
وَقَالَ ثَعْلَبَةُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ ذُبْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ سَعْدِ بْنِ هُذَيْمٍ الْقُضَاعِيّ فِي ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ قُصَيّ حِينَ دَعَاهُمْ فَأَجَابُوهُ
جَلَبْنَا الْخَيْلَ مُضْمَرَةً تَغَالَى ... مِنْ الْأَعْرَافِ أَعْرَافِ الْجِنَابِ
إلَى غَوْرَى تِهَامَةَ فَالْتَقَيْنَا ... مِنْ الْفَيْفَاءِ فِي قَاعٍ يَبَابِ
فَأَمّا صُوفَةُ الْخُنْثَى ، فَخَلّوْا ... مَنَازِلَهُمْ مُحَاذَرَةَ الضّرَابِ
وَقَامَ بِنَسْرِ عَلَى إذْ رَأَوْنَا ... إلَى الْأَسْيَافِ كَالْإِبِلِ الطّرَابِ
وَقَالَ قُصَيّ بْنُ كِلَابٍ :
أَنَا ابْنُ الْعَاصِمِينَ بَنِي لُؤَيّ ... بِمَكّةَ مَنْزِلِي ، وَبِهَا رُبِيتُ
إلَى الْبَطْحَاءِ قَدْ عَلِمَتْ مَعَدّ ... وَمَرْوَتُهَا رَضِيت بِهَا رَضِيت
فَلَسْت لِغَالِبِ إنْ لَمْ تَأَثّلْ ... بِهَا أَوْلَادُ قَيْذَرَ وَالنّبِيتُ
رِزَاحٌ نَاصِرِي ، وَبِهِ أُسَامِي ... فَلَسْت أَخَافُ ضَيْمًا مَا حَيِيت
Sمِنْ تَفْسِيرِ شِعْرِ رِزَاحٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ شِعْرَ رِزَاحٍ ، وَفِيهِ وَنَكْمِي النّهَارَ أَيْ نَكْمُنُ وَنَسْتَتِرُ وَالْكَمِيّ مِنْ الْفُرْسَانِ الّذِي تَكَمّى بِالْحَدِيدِ . وَقِيلَ الّذِي يَكْمِي شَجَاعَتَهُ أَيْ يَسْتُرُهَا ، حَتّى يُظْهِرَهَا عِنْدَ الْوَغَى . وَفِيهِ مَرَرْنَا بِعَسْجَرَ وَهُوَ اسْمُ مَوْضِعٍ وَكَذَلِكَ وَرِقَانُ اسْمُ جَبَلٍ وَوَقَعَ فِي نُسْخَةِ سُفْيَانَ وَرَقَانُ بِفَتْحِ الرّاءِ وَقَيّدَهُ أَبُو عُبَيْدٍ الْبَكْرِيّ : وَرِقَانَ بِكَسْرِ الرّاءِ وَأَنْشَدَ لِلْأَحْوَصِ
وَكَيْفَ نُرَجّي الْوَصْلَ مِنْهَا وَأَصْبَحَتْ ... ذُرَى وَرِقَانٍ دُونَهَا وَحَفِيرُ
وَيُخَفّفُ فَيُقَالُ وَرْقَانُ . قَالَ جَمِيلٌ
يَا خَلِيلَيّ إنّ بَثْنَةَ بَانَتْ ... يَوْمَ وَرْقَانَ بِالْفُؤَادِ سَبِيّا
[ ص 236 ] وَذَكَرَ أَنّهُ مِنْ أَعْظَمِ الْجِبَالِ وَذَكَرَ أَنّ فِيهِ أَوْشَالًا وَعُيُونًا عِذَابًا ، وَسَكّانُهُ بَنُو أَوْسِ بْنِ مُزَيْنَةَ . وَذَكَرَ أَيْضًا الْحَدِيثَ وَهُوَ قَوْلُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ضِرْسُ الْكَافِرِ فِي النّارِ مِثْلُ أُحُدٍ ، وَفَخِذُهُ مِثْلُ وَرِقَانٍ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ ذَكَرَ آخِرَ مَنْ يَمُوتُ مِنْ هَذِهِ الْأُمّةِ فَقَالَ رَجُلَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ يَنْزِلَانِ جَبَلًا مِنْ جِبَالِ الْعَرَبِ ، يُقَالُ لَهُ وَرِقَانُ كُلّ هَذَا مِنْ قَوْلِ الْبَكْرِيّ فِي كِتَابِ مُعْجَمِ مَا اُسْتُعْجِمَ . فَصْلٌ وَذَكَرَ أَشْمَذِينَ بِكَسْرِ الذّالِ وَفِي حَاشِيَةِ كِتَابِ سُفْيَانَ بْنِ الْعَاصِ الْأَشْمَذَانِ جَبَلَانِ [ بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَخَيْبَرَ ] ، وَيُقَالُ اسْمُ قَبِيلَتَيْنِ ثُمّ قَالَ فِي الْحَاشِيَةِ فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الرّوَايَةُ بِفَتْحِ الذّالِ وَكَسْرِ النّونِ مِنْ أَشْمَذَيْنِ - قَالَ الْمُؤَلّفُ رَحِمَهُ اللّهُ - فَإِنْ صَحّ أَنّهُمَا اسْمُ قَبِيلَتَيْنِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ الرّوَايَةُ كَمَا فِي الْأَصْلِ أَشْمَذِينَ بِكَسْرِ الذّالِ لِأَنّهُ جَمْعٌ فِي الْمَعْنَى . وَاشْتِقَاقُ الْأَشْمَذِ مِنْ شَمَذَاتِ النّاقَةِ بِذَنَبِهَا أَيْ رَفَعَتْهُ وَيُقَالُ لِلنّحْلِ شُمّذٌ لِأَنّهَا تَرْفَعُ أَعْجَازَهَا . وَفِيهِ مَرَرْنَ عَلَى الْحَيْلِ وَفَسّرَهُ الشّيْخُ فِي حَاشِيَةِ الْكِتَابِ فَقَالَ هُوَ الْمَاءُ الْمُسْتَنْقَعُ فِي بَطْنِ وَادٍ وَوَجَدْت فِي غَيْرِ أَصْلِ الشّيْخِ رِوَايَتَيْنِ إحْدَاهُمَا : مَرَرْنَ عَلَى الْحِلّ وَالْأُخْرَى : مَرَرْنَ عَلَى الْحِلْيِ فَأَمّا الْحِلّ : فَجَمْعُ حِلّةٍ وَهِيَ بَقْلَةٌ شَاكّةٌ . ذَكَرَهُ ابْنُ دُرَيْدٍ فِي الْجَمْهَرَةِ . وَأَمّا الْحِلْيُ فَيُقَالُ إنّهُ ثَمَرُ الْقُلْقُلَانِ وَهُوَ نَبْتٌ . [ ص 237 ] نُخَبّزُهُمْ . أَيْ نَسُوقُهُمْ سَوْقًا شَدِيدًا ، وَقَدْ تَقَدّمَ قَوْلُ الرّاجِزِ . لَا تَخْبِزَا خَبْزًا وَبُسّا بَسّا . وَذَكَرَ شِعْرَ رِزَاحٍ الْآخَرَ وَفِيهِ مِنْ الْأَعْرَافِ أَعْرَافِ الْجِنَابِ . بِكَسْرِ الْجِيمِ وَهُوَ مَوْضِعٌ مِنْ بِلَادِ قُضَاعَةَ . وَفِيهِ وَقَامَ بَنُو عَلِيّ وَهُمْ بَنُو كِنَانَةَ ، وَإِنّمَا سُمّوا بِبَنِي عَلِيّ لِأَنّ عَبْدَ مَنَاةَ بْنَ كِنَانَةَ كَانَ رَبِيبًا لِعَلِيّ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مَازِنٍ مِنْ الْأَزْدِ جَدّ سَطِيحٍ الْكَاهِنِ فَقِيلَ لِبَنِي كِنَانَةَ بَنُو عَلِيّ وَأَحْسَبُهُ أَرَادَ فِي هَذَا الْبَيْتِ بَنِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ لِأَنّهُمْ قَامُوا مَعَ خُزَاعَةَ .
شِعْرُ قُصَيّ والعذرتاق
وَذَكَرَ شِعْرَ قُصَيّ : أَنَا ابْنُ الْعَاصِمِينَ بَنِي لُؤَيّ
الْأَبْيَاتَ وَلَيْسَ فِيهَا مَا يُشْكِلُ .

[ ص 238 ] رِزَاحُ بْنُ رَبِيعَةَ فِي بِلَادِهِ نَشَرَهُ اللّهُ وَنَشَرَ حُنّا ، فَهُمَا قَبِيلَا عُذْرَةَ الْيَوْمَ . وَقَدْ كَانَ بَيْنَ رِزَاحِ بْنِ رَبِيعَةَ ، حِينَ قَدِمَ بِلَادَهُ وَبَيْنَ نَهْدِ بْنِ زَيْدٍ وَحَوْتَكَةَ بْنِ أَسْلَمَ ، وَهُمَا بَطْنَانِ مِنْ قُضَاعَةَ شَيْءٌ فَأَخَافَهُمْ حَتّى لَحِقُوا بِالْيَمَنِ وَأَجْلَوْا مِنْ بِلَادِ قُضَاعَةَ ، فَهُمْ الْيَوْمَ بِالْيَمَنِ فَقَالَ قُصَيّ بْنُ كِلَابٍ ، وَكَانَ يُحِبّ قُضَاعَةَ وَنَمَاءَهَا وَاجْتِمَاعَهَا بِبِلَادِهَا ، لِمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رِزَاحٍ مِنْ الرّحِمِ وَلِبَلَائِهِمْ عِنْدَهُ إذْ أَجَابُوهُ إذْ دَعَاهُمْ إلَى نُصْرَتِهِ وَكَرِهَ مَا صَنَعَ بِهِمْ رِزَاحٌ :
أَلّا مَنْ مُبْلِغٌ عَنّي رِزَاحًا ... فَإِنّي قَدْ لَحَيْتُك فِي اثْنَتَيْنِ
لَحَيْتُك فِي بَنِي نَهْدِ بْنِ زَيْدٍ ... كَمَا فَرّقْت بَيْنَهُمْ وَبَيْنِي
وَحَوْتَكَةَ بْنِ أَسْلَمَ إنّ قَوْمًا ... عَنَوْهُمْ بِالْمَسَاءَةِ قَدْ عَنَوْنِي
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَتُرْوَى هَذِهِ الْأَبْيَاتُ لِزُهَيْرِ بْنِ جَنَابٍ الْكَلْبِيّ .
S[ ص 238 ] وَذَكَرَ أَنّ رِزَاحًا حِينَ اسْتَقَرّ فِي بِلَادِهِ نَشَرَ اللّهُ وَلَدَهُ وَوَلَدَ حُنّ بْنِ رَبِيعَةَ ، فَهُمَا حَيّا عُذْرَةَ . قَالَ الْمُؤَلّفُ فِي قُضَاعَةَ : عُذْرَتَانِ عُذْرَةُ بْنُ رُفَيْدَةَ وَهُمْ مِنْ بَنِي كَلْبِ بْنِ وَبْرَةَ . وَعُذْرَةُ بْنُ سَعْدِ بْنِ سُودِ بْنِ أَسْلُمِ بْنِ الْحَافّ بْنِ قُضَاعَةَ ، وَأَسْلُمُ هَذَا هُوَ بِضَمّ اللّامِ مِنْ وَلَدِ حُنّ بْنِ رَبِيعَةَ أَخِي رِزَاحِ بْنِ رَبِيعَةَ جَدّ جَمِيلِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَعْمَرٍ صَاحِبِ بُثَيْنَةَ وَمَعْمَرٌ هُوَ ابْنُ وَلَدِ الْحَارِثِ بْنِ خَيْبَرَ بْنِ ظَبْيَانَ وَهُوَ الضّبِيسُ بْنُ حُنّ . وَبُثَيْنَةُ أَيْضًا مِنْ وَلَدِ حُنّ وَهِيَ بِنْتُ حِبّانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْهَوْذِيّ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْأَحَبّ بْنِ حُنّ [ وَفِي قُضَاعَةَ أَيْضًا عُذْرَةُ بْنُ عَدِيّ وَفِي الْأَزْدِ : عُذْرَةُ بْنُ عَدّاد ] .
حَوْتَكَةُ وَأَسْلُمٌ
وَذَكَرَ حَوْتَكَةَ بْنَ أَسْلُمٍ وَبَنِيّ نَهْدِ بْنِ زَيْدٍ وَإِجْلَاء رِزَاحٍ لَهُمْ وَحَوْتَكَةُ هُوَ عَمّ نَهْدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلُمٍ ، وَلَيْسَ فِي الْعَرَبِ أَسْلُمٌ بِضَمّ اللّامِ إلّا ثَلَاثَةٌ . اثْنَانِ مِنْهَا فِي قُضَاعَةَ ، وَهُمَا : أَسْلُمُ بْنُ الْحَافّ هَذَا ، وَأَسْلُمُ بْنُ تَدُولَ بْنِ تَيْمِ اللّاتِ بْنِ رُفَيْدَةَ بْنِ ثَوْرِ بْنِ كَلْبِ ، وَالثّالِثُ فِي عَكّ أَسْلُمُ بْنُ الْقَيَاتَةِ بْنِ غَابِنِ بْنِ الشّاهِدِ بْنِ عَكّ وَمَا عَدَا هَؤُلَاءِ فَأَسْلَمُ بِفَتْحِ اللّامِ . ذَكَرَهُ ابْنُ حَبِيبٍ فِي الْمُؤْتَلِفِ وَالْمُخْتَلِفِ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا كَبِرَ قُصَيّ وَرَقّ عَظْمُهُ وَكَانَ عَبْدُ الدّارِ بِكْرَهُ وَكَانَ عَبْدُ مَنَافٍ قَدْ شَرُفَ فِي زَمَانِ أَبِيهِ وَذَهَبَ كُلّ مَذْهَبٍ وَعَبْدُ الْعُزّى وَعَبْدٌ . قَالَ قُصَيّ [ ص 239 ] كَانُوا قَدْ شَرُفُوا عَلَيْك : لَا يَدْخُلْ رَجُلٌ مِنْهُمْ الْكَعْبَةَ ، حَتّى تَكُونَ أَنْتَ تَفْتَحُهَا لَهُ وَلَا يُعْقَدُ لِقُرَيْشِ لِوَاءٌ لِحَرْبِهَا إلّا أَنْتَ بِيَدِك ، وَلَا يَشْرَبُ أَحَدٌ بِمَكّةَ إلّا مِنْ سِقَايَتِك ، وَلَا يَأْكُلُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَوْسِمِ طَعَامًا إلّا مِنْ طَعَامِك ، وَلَا تَقْطَعُ قُرَيْشٌ أَمْرًا مِنْ أُمُورِهَا إلّا فِي دَارِك ، فَأَعْطَاهُ دَارَهُ دَارَ النّدْوَةِ ، الّتِي لَا تَقْضِي قُرَيْشٌ أَمْرًا مِنْ أُمُورِهَا إلّا فِيهَا ، وَأَعْطَاهُ الْحِجَابَةَ وَاللّوَاءَ وَالسّقَايَةَ وَالرّفَادَةَ . مَنْ فَرَضَ الرّفَادَةَ وَكَانَتْ الرّفَادَةُ خَرْجًا تُخْرِجُهُ قُرَيْشٌ فِي كُلّ مَوْسِمٍ مِنْ أَمْوَالِهَا إلَى قُصَيّ بْنِ كِلَابٍ ، فَيَصْنَعُ بِهِ طَعَامًا لِلْحَاجّ فَيَأْكُلُهُ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَعَةٌ وَلَا زَادٌ . وَذَلِكَ أَنّ قُصَيّا فَرَضَهُ عَلَى قُرَيْشٍ ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ أَمَرَهُمْ بِهِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إنّكُمْ جِيرَانُ اللّهِ ، وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَأَهْلُ الْحَرَمِ ، وَإِنّ الْحَاجّ ضَيْفُ اللّهِ وَزَوّارُ بَيْتِهِ وَهُمْ أَحَقّ الضّيْفِ بِالْكَرَامَةِ فَاجْعَلُوا لَهُمْ طَعَامًا وَشَرَابًا أَيّامَ الْحَجّ حَتّى يَصْدُرُوا عَنْكُمْ فَفَعَلُوا ، فَكَانُوا يَخْرُجُونَ لِذَلِكَ كُلّ عَامٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ خَرْجًا ، فَيَدْفَعُونَهُ إلَيْهِ فَيَصْنَعُهُ طَعَامًا لِلنّاسِ أَيّامَ مِنَى ، فَجَرَى ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ فِي الْجَاهِلِيّةِ عَلَى قَوْمِهِ حَتّى قَامَ الْإِسْلَامُ ثُمّ جَرَى فِي الْإِسْلَامِ إلَى يَوْمِك هَذَا ، فَهُوَ الطّعَامُ الّذِي يَصْنَعُهُ السّلْطَانُ كُلّ عَامٍ بِمِنَى لِلنّاسِ حَتّى يَنْقَضِيَ الْحَجّ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي بِهَذَا مِنْ أَمْرِ قُصَيّ بْنِ كِلَابٍ ، وَمَا قَالَ لِعَبْدِ الدّارِ فِيمَا دَفَعَ إلَيْهِ مِمّا كَانَ بِيَدِهِ أَبِي إسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ ، عَنْ الْحَسَنِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ قَالَ سَمِعْته يَقُولُ ذَلِكَ لِرَجُلِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ يُقَالُ لَهُ نُبَيْهُ بْنُ وَهْبِ بْنِ عَامِرِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ . قَالَ الْحَسَنُ فَجَعَلَ إلَيْهِ قُصَيّ كُلّ مَا كَانَ بِيَدِهِ مِنْ أَمْرِ قَوْمِهِ وَكَانَ قُصَيّ لَا يُخَالِفُ وَلَا يُرَدّ عَلَيْهِ شَيْءٌ صَنَعَهُ .
ذِكْرُ مَا جَرَى مِنْ اخْتِلَافِ قُرَيْشٍ بَعْدَ قُصَيّ وَحِلْفُ الْمُطَيّبِينَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ قُصَيّ بْنَ كِلَابٍ هَلَكَ فَأَقَامَ أَمْرَهُ فِي قَوْمِهِ وَفِي غَيْرِهِمْ [ ص 240 ] فَاخْتَطّوا مَكّةَ رِبَاعًا - بَعْدَ الّذِي كَانَ قَطَعَ لِقَوْمِهِ بِهَا - فَكَانُوا يَقْطَعُونَهَا فِي قَوْمِهِمْ وَفِي غَيْرِهِمْ مِنْ حُلَفَائِهِمْ وَيَبِيعُونَهَا فَأَقَامَتْ عَلَى ذَلِكَ قُرَيْشٌ مَعَهُمْ لَيْسَ بَيْنَهُمْ اخْتِلَافٌ وَلَا تَنَازُعٌ ثُمّ إنّ بَنِي عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ عَبْدَ شَمْسٍ وَهَاشِمًا وَالْمُطّلِبَ وَنَوْفَلًا أَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يَأْخُذُوا مَا بِأَيْدِي بَنِي عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَي ّ مِمّا كَانَ قُصَيّ جَعَلَ إلَى عَبْدِ الدّارِ مِنْ الْحِجَابَةِ وَاللّوَاءِ وَالسّقَايَةِ وَالرّفَادَةِ وَرَأَوْا أَنّهُمْ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْهُمْ لِشَرَفِهِمْ عَلَيْهِمْ وَفَضْلِهِمْ فِي قَوْمِهِمْ فَتَفَرّقَتْ عِنْدَ ذَلِكَ قُرَيْشٌ ، فَكَانَتْ طَائِفَةٌ مَعَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ عَلَى رَأْيِهِمْ يَرَوْنَ أَنّهُمْ أَحَقّ بِهِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدّار ِ لِمَكَانِهِمْ فِي قَوْمِهِمْ وَكَانَتْ طَائِفَةٌ مَعَ بَنِي عَبْدِ الدّارِ . يَرَوْنَ أَنْ لَا يُنْزَعَ مِنْهُمْ مَا كَانَ قُصَيّ جَعَلَ إلَيْهِمْ . [ ص 241 ] فَكَانَ صَاحِبَ أَمْرِ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ عَبْدُ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ أَسَنّ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَكَانَ صَاحِبَ أَمْرِ بَنِي عَبْدِ الدّارِ عَامِرُ بْنُ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ . فَكَانَ بَنُو أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْن ِ قُصَيّ ، وَبَنُو زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ ، وَبَنُو تَيْمِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبٍ ، وَبَنُو الْحَارِثِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النّضْرِ ، مَعَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ . وَكَانَ بَنُو مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ ، وَبَنُو سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبٍ ، وَبَنُو جُمَحَ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبٍ ، وَبَنُو عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ مَعَ بَنِي عَبْدِ الدّارِ وَخَرَجَتْ عَامِرُ بْنُ لُؤَيّ وَمُحَارِبُ بْنُ فِهْرٍ ، فَلَمْ يَكُونُوا مَعَ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ . فَعَقَدَ كُلّ قَوْمٍ عَلَى أَمْرِهِمْ حِلْفًا مُؤَكّدًا عَلَى أَنْ لَا يَتَخَاذَلُوا ، وَلَا يُسْلِمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مَا بَلّ بَحْرٌ صُوفَةَ . فَأَخْرَجَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ جَفْنَةً مَمْلُوءَةً طِيبًا ، فَيَزْعُمُونَ أَنّ بَعْضَ نِسَاءِ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَخْرَجَتْهَا لَهُمْ فَوَضَعُوهَا لِأَحْلَافِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ ، ثُمّ غَمَسَ الْقَوْمُ أَيْدِيَهُمْ فِيهَا ، فَتَعَاقَدُوا وَتَعَاهَدُوا هُمْ وَحُلَفَاؤُهُمْ ثُمّ مَسَحُوا الْكَعْبَةَ بِأَيْدِيهِمْ تَوْكِيدًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَسُمّوا الْمُطَيّبِينَ . وَتَعَاقَدَ بَنُو عَبْدِ الدّارِ وَتَعَاهَدُوا هُمْ وَحُلَفَاؤُهُمْ عِنْدَ الْكَعْبَةِ حِلْفًا مُؤَكّدًا ، عَلَى أَنْ لَا يَتَخَاذَلُوا ، وَلَا يُسْلِمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، فَسُمّوا الْأَحْلَاف . ثُمّ سُونِدَ بَيْنَ الْقَبَائِلِ وَلُزّ بَعْضُهَا بِبَعْضِ فَعُبّيَتْ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ لِبَنِي سَهْمٍ وَعُبّيَتْ بَنُو أَسَد ٍ لِبَنِي عَبْدِ الدّارِ وَعُبّيَتْ زُهْرَةُ لِبَنِي جُمَحَ وَعُبّيَتْ بَنُو تَيْمٍ لِبَنِي مَخْزُومٍ وَعُبّيَتْ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ لِبَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ ، ثُمّ قَالُوا : لِتُقْنِ كُلّ قَبِيلَةٍ مَنْ أُسْنِدَ إلَيْهَا . فَبَيْنَا النّاسُ عَلَى ذَلِكَ قَدْ أَجْمَعُوا لِلْحَرْبِ إذْ تَدَاعَوْا إلَى الصّلْحِ عَلَى أَنْ يُعْطُوا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ السّقَايَةَ وَالرّفَادَةَ وَأَنْ تَكُونَ الْحِجَابَةُ وَاللّوَاءُ وَالْقُوّةُ لِبَنِي عَبْدِ الدّارِ كَمَا كَانَتْ فَفَعَلُوا وَرَضِيَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ بِذَلِكَ وَتَحَاجَزَ النّاسُ عَنْ الْحَرْبِ وَثَبَتَ كُلّ قَوْمٍ مَعَ مَنْ حَالَفُوا ، فَلَمْ يَزَالُوا عَلَى ذَلِكَ حَتّى جَاءَ اللّهُ تَعَالَى بِالْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَا كَانَ مِنْ حِلْفٍ فِي الْجَاهِلِيّةِ فَإِنّ الْإِسْلَامَ لَمْ يَزِدْهُ إلّا شِدّةً .
S[ ص 239 ] فَصْلٌ وَذَكَرَ تَنَازُعَ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَبَنِيّ عَبْدِ الدّارِ فِيمَا كَانَ قُصَيّ جَعَلَ إلَيْهِمْ وَذَكَرَ فِي ذَلِكَ حِلْفَ الْمُطَيّبِينَ وَسَمّاهُمْ وَذَكَرَ أَنّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ عَبْدِ مَنَافٍ هِيَ الّتِي أَخْرَجَتْ لَهُمْ [ ص 240 ] سَمّاهَا الزّبَيْرُ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ كِتَابِهِ فَقَالَ هِيَ أُمّ حَكِيمٍ الْبَيْضَاءُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ عَمّةُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَتَوْأَمَةُ أَبِيهِ . قَالَ وَكَانَ الْمُطَيّبُونَ يُسَمّوْنَ الدّافَةَ جَمْعَ دَائِفٍ بِتَخْفِيفِ الْفَاءِ لِأَنّهُمْ دَافُوا الطّيبَ . السّنَادُ وَالْإِقْوَاءُ وَذَكَرَ أَنّ الْقَبَائِلَ سُونِدَ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ لِتَكْفِيَ كُلّ قَبِيلَةٍ مَا سُونِدَ إلَيْهَا ، فَسُونِدَ مِنْ السّنَادِ وَهِيَ مُقَابَلَةٌ فِي الْحَرْبِ بَيْنَ كُلّ فَرِيقٍ وَمَا يَلِيهِ مِنْ عَدُوّهِ وَمِنْهُ أُخِذَ سِنَادُ الشّعْرِ وَهُوَ أَنْ يَتَقَابَلَ الْمِصْرَاعَانِ مِنْ الْبَيْتِ فَيَكُونُ قَبْلَ حَرْفِ الرّوِيّ حَرْفُ مَدّ وَلِينٍ وَيَكُونُ فِي آخِرِ الْبَيْتِ الثّانِي قَبْلَ حَرْفِ الرّوِيّ حَرْفُ لِينٍ وَهِيَ يَاءٌ أَوْ وَاوٌ مَفْتُوحٌ مَا قَبْلَهَا كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ : أَلَا هُبّي بِصَحْنِك فَاصْبِحِينَا
ثُمّ قَابَلَهُ فِي بَيْتٍ آخَرَ بِقَوْلِهِ - تُصَفّقُهَا الرّيَاحُ إذَا جَرَيْنَا - فَكَأَنّ الْيَاءَ الْمَفْتُوحَ مَا قَبْلَهَا قَدْ سُونِدَتْ بِهَا إلَى الْيَاءِ الْمَكْسُورِ مَا قَبْلَهَا ، فَتَقَابَلَتَا ، وَهُمَا غَيْرُ مُتّفِقَتَيْنِ فِي الْمَدّ كَمَا يَتَقَابَلُ الْقَبِيلَتَانِ وَهُمَا مُخْتَلِفَتَانِ مُتَعَادِيَتَانِ وَأَمّا الْإِقْوَاءُ فَهُوَ أَنْ يَنْقُصَ قُوّةٌ مِنْ الْمِصْرَاعِ الْأَوّلِ كَمَا تَنْقُصُ قُوّةٌ مِنْ قُوَى الْحَبْلِ وَذَلِكَ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ آخِرِ الْمِصْرَاعِ الْأَوّلِ حَرْفٌ مِنْ الْوَتَدِ كَقَوْلِهِ
أَفَبَعْدَ مَقْتَلِ مَالِكِ بْنِ زُهَيْرٍ ... تَرْجُو النّسَاءَ عَوَاقِبَ الْأَطْهَارِ
وَكَقَوْلِهِ الْآخَرِ
لَمّا رَأَتْ مَاءَ السّلَى مَشْرُوبًا ... وَالْفَرْثُ يُعْصَرُ فِي الْإِنَاءِ أَرَنّتْ
[ ص 241 ] وَكَانَ الْأَصْمَعِيّ يُسَمّي هَذَا الْإِقْوَاءَ الْمُقْعَدَ ذَكَرَهُ عَنْهُ أَبُو عُبَيْدٍ ، وَقَالَ عَدِيّ بْنُ الرّقَاعِ [ الْعَامِلِيّ ] فِي السّنَادِ
وَقَصِيدَةٍ قَدْ بِتّ أَجْمَعُ بَيْتَهَا ... حَتّى أُثَقّفَ مَيْلَهَا وَسِنَادَهَا

============

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

البرص و العميان-أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ

البرص و العميان-أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ  المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله عليه محمد وسلم وهب الله لك حسن الاستماع وأشعر ...