Translate

الجمعة، 18 فبراير 2022

المستصفى/الجزء الأول المستصفى المستصفى أبو حامد الغزالي المستصفى/الجزء الأول


المستصفى/الجزء الأول المستصفى المستصفى أبو حامد الغزالي المستصفى/الجزء الأول 

 
[خُطْبَةُ الْكِتَابِ] الْحَمْدُ لِلَّهِ الْقَوِيِّ الْقَادِرِ، الْوَلِيِّ النَّاصِرِ، اللَّطِيفِ الْقَاهِرِ، الْمُنْتَقِمِ الْغَافِرِ، الْبَاطِنِ الظَّاهِرِ، الْأَوَّلِ الْآخِرِ الَّذِي جَعَلَ الْعَقْلَ أَرْجَحَ الْكُنُوزِ وَالذَّخَائِرِ، وَالْعِلْمَ أَرْبَحَ الْمَكَاسِبِ وَالْمَتَاجِرِ، وَأَشْرَفَ الْمَعَالِي وَالْمَفَاخِرِ، وَأَكْرَمَ الْمَحَامِدِ وَالْمَآثِرِ وَأَحْمَدَ الْمَوَارِدِ وَالْمَصَادِرِ؛ فَشَرُفَتْ بِإِثْبَاتِهِ الْأَقْلَامُ وَالْمَحَابِرُ، وَتَزَيَّنَتْ بِسَمَاعِهِ الْمَحَارِيبُ وَالْمَنَابِرُ، وَتَحَلَّتْ بِرُقُومِهِ الْأَوْرَاقُ وَالدَّفَاتِرُ، وَتَقَدَّمَ بِشَرَفِهِ الْأَصَاغِرُ عَلَى الْأَكَابِرِ، وَاسْتَضَاءَتْ بِبَهَائِهِ الْأَسْرَارُ وَالضَّمَائِرُ، وَتَنَوَّرَتْ بِأَنْوَارِهِ الْقُلُوبُ وَالْبَصَائِرُ، وَاسْتُحْقِرَ فِي ضِيَائِهِ ضِيَاءُ الشَّمْسِ الْبَاهِرِ عَلَى الْفَلَكِ الدَّائِرِ، وَاسْتُصْغِرَ فِي نُورِهِ الْبَاطِنِ مَا ظَهَرَ مِنْ نُورِ الْأَحْدَاقِ وَالنَّوَاظِرِ حَتَّى تَغَلْغَلَ بِضِيَائِهِ فِي أَعْمَاقِ الْمُغْمِضَاتِ جُنُودُ الْخَوَاطِرِ، وَإِنْ كَلَّتْ عَنْهَا النَّوَاظِرُ، وَكُثِّفَتْ عَلَيْهَا الْحُجُبُ وَالسَّوَاتِرُ. وَالصَّلَاةُ عَلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِهِ ذِي الْعُنْصُرِ الطَّاهِرِ، وَالْمَجْدِ الْمُتَظَاهِرِ، وَالشَّرَفِ الْمُتَنَاصِرِ، وَالْكَرَمِ الْمُتَقَاطِرِ، الْمَبْعُوثِ بَشِيرًا لِلْمُؤْمِنِينَ وَنَذِيرًا لِلْكَافِرِينَ، وَنَاسِخًا بِشَرْعِهِ كُلَّ شَرْعٍ غَابِرٍ وَدِينٍ دَائِرٍ، الْمُؤَيَّدِ بِالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ الَّذِي لَا يَمَلُّهُ سَامِعٌ وَلَا آثِرٌ، وَلَا يُدْرِكُ كُنْهَ جَزَالَتِهِ نَاظِمٌ وَلَا نَاثِرٌ، وَلَا يُحِيطُ بِعَجَائِبِهِ وَصْفُ وَاصِفٍ وَلَا ذِكْرُ ذَاكِرٍ وَكُلُّ بَلِيغٍ دُونَ ذَوْقِ فَهْمِ جَلِيَّاتِ أَسْرَارِهِ قَاصِرٌ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ كَثِيرًا كَثْرَةً يَنْقَطِعُ دُونَهَا عُمْرُ الْعَادِّ الْحَاصِرِ. أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ تَنَاطَقَ قَاضِي الْعَقْلِ وَهُوَ الْحَاكِمُ الَّذِي لَا يُعْزَلُ وَلَا يُبَدَّلُ، وَشَاهِدُ الشَّرْعِ وَهُوَ الشَّاهِدُ الْمُزَكَّى الْمُعَدَّلُ، بِأَنَّ الدُّنْيَا دَارُ غُرُورٍ لَا دَارُ سُرُورٍ، وَمَطِيَّةُ عَمَلٍ لَا مَطِيَّةُ كَسَلٍ، وَمَنْزِلُ عُبُورٍ لَا مُتَنَزَّهُ حُبُورٍ، وَمَحَلُّ تِجَارَةٍ لَا مَسْكَنُ عِمَارَةٍ، وَمَتْجَرٌ بِضَاعَتُهَا الطَّاعَةُ وَرِبْحُهَا الْفَوْزُ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ. وَالطَّاعَةُ طَاعَتَانِ عَمَلٌ وَعِلْمٌ، وَالْعِلْمُ أَنْجَحُهَا وَأَرْبَحُهَا، فَإِنَّهُ أَيْضًا مِنْ الْعَمَلِ وَلَكِنَّهُ عَمَلُ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ أَعَزُّ الْأَعْضَاءِ وَسَعْيُ الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْأَشْيَاءِ لِأَنَّهُ مَرْكَبُ الدِّيَانَةِ وَحَامِلُ الْأَمَانَةِ إذْ عُرِضَتْ عَلَى الْأَرْضِ وَالْجِبَالِ وَالسَّمَاءِ فَأَشْفَقْنَ مِنْ حَمْلِهَا وَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا غَايَةَ الْإِبَاءِ. ثُمَّ الْعُلُومُ ثَلَاثَةٌ: عَقْلِيٌّ مَحْضٌ لَا يَحُثُّ الشَّرْعُ عَلَيْهِ وَلَا يَنْدُبُ إلَيْهِ كَالْحِسَابِ وَالْهَنْدَسَةِ وَالنُّجُومِ وَأَمْثَالِهِ مِنْ الْعُلُومِ فَهِيَ بَيْنَ ظُنُونٍ كَاذِبَةٍ لَائِقَةٍ، وَإِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ؛ وَبَيْنَ عُلُومٍ صَادِقَةٍ لَا مَنْفَعَةَ لَهَا وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ وَلَيْسَتْ الْمَنْفَعَةُ فِي الشَّهَوَاتِ الْحَاضِرَةِ وَالنِّعَمِ الْفَاخِرَةِ فَإِنَّهَا فَانِيَةٌ دَائِرَةٌ، بَلْ النَّفْعُ ثَوَابُ دَارِ الْآخِرَةِ.

وَنَقْلِيٌّ مَحْضٌ كَالْأَحَادِيثِ وَالتَّفَاسِيرِ، وَالْخَطْبُ فِي أَمْثَالِهَا يَسِيرٌ؛ إذْ يَسْتَوِي فِي الِاسْتِقْلَالِ بِهَا الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ؛ لِأَنَّ قُوَّةَ الْحِفْظِ كَافِيَةٌ فِي النَّقْلِ وَلِيس فِيهَا مَجَالٌ لِلْعَقْلِ. وَأَشْرَفُ الْعُلُومِ مَا ازْدَوَجَ فِيهِ الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ وَاصْطَحَبَ فِيهِ الرَّأْيُ وَالشَّرْعُ، وَعِلْمُ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ صَفْوِ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ سَوَاءَ السَّبِيلِ، فَلَا هُوَ تَصَرُّفٌ بِمَحْضِ الْعُقُولِ بِحَيْثُ لَا يَتَلَقَّاهُ الشَّرْعُ بِالْقَبُولِ وَلَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى مَحْضِ التَّقْلِيدِ الَّذِي لَا يَشْهَدُ لَهُ الْعَقْلُ بِالتَّأْيِيدِ وَالتَّسْدِيدِ. وَلِأَجْلِ شَرَفِ عِلْمِ الْفِقْهِ وَسَبَبِهِ وَفَّرَ اللَّهُ دَوَاعِيَ الْخَلْقِ عَلَى طَلَبِهِ وَكَانَ الْعُلَمَاءُ بِهِ أَرْفَعَ الْعُلَمَاءِ مَكَانًا وَأَجَلَّهُمْ شَأْنًا وَأَكْثَرَهُمْ أَتْبَاعًا وَأَعْوَانًا؛ فَتَقَاضَانِي فِي عُنْفُوَانِ شَبَابِي اخْتِصَاصُ هَذَا الْعِلْمِ بِفَوَائِدِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَثَوَابِ الْآخِرَةِ وَالْأَوْلَى أَنْ أَصْرِفَ إلَيْهِ مِنْ مُهْلَةِ الْعُمُرِ صَدْرًا وَأَنْ أَخُصَّ بِهِ مِنْ مُتَنَفَّسِ الْحَيَاةِ قَدْرًا، فَصَنَّفْتُ كُتُبًا كَثِيرَةً فِي فُرُوعِ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ، ثُمَّ أَقْبَلْتُ بَعْدَهُ عَلَى عِلْمِ طَرِيقِ الْآخِرَةِ وَمَعْرِفَةِ أَسْرَارِ الدِّينِ الْبَاطِنَةِ فَصَنَّفْتُ فِيهِ كُتُبًا بَسِيطَةً كَكِتَابِ " إحْيَاءُ عُلُومِ الدِّينِ " وَوَجِيزَةً كَكِتَابِ جَوَاهِرُ الْقُرْآنِ وَوَسِيطَةً كَكِتَابِ كِيمْيَاءُ السَّعَادَةِ. ثُمَّ سَاقَنِي قَدَرُ اللَّهِ تَعَالَى إلَى مُعَاوَدَةِ التَّدْرِيسِ وَالْإِفَادَةِ، فَاقْتَرَحَ عَلَيَّ طَائِفَةٌ مِنْ مُحَصِّلِي عِلْمِ الْفِقْهِ تَصْنِيفًا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَصْرِفُ الْعِنَايَةَ فِيهِ إلَى التَّلْفِيقِ بَيْنَ التَّرْتِيبِ وَالتَّحْقِيقِ وَإِلَى التَّوَسُّطِ بَيْنَ الْإِخْلَالِ وَالْإِمْلَالِ عَلَى وَجْهٍ يَقَعُ فِي الْفَهْمِ دُونَ كِتَابِ " تَهْذِيبِ الْأُصُولِ " لِمَيْلِهِ إلَى الِاسْتِقْصَاءِ وَالِاسْتِكْثَارِ، وَفَوْقَ كِتَابِ " الْمَنْخُولِ " لِمَيْلِهِ إلَى الْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ، فَأَجَبْتُهُمْ إلَى ذَلِكَ مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ، وَجَمَعْتُ فِيهِ بَيْنَ التَّرْتِيبِ وَالتَّحْقِيقِ لِفَهْمِ الْمَعَانِي فَلَا مَنْدُوحَةَ لِأَحَدِهِمَا عَنْ الثَّانِي، فَصَنَّفْتُهُ وَأَتَيْتُ فِيهِ بِتَرْتِيبٍ لَطِيفٍ عَجِيبٍ يَطَّلِعُ النَّاظِرُ فِي أَوَّلِ وَهْلَةٍ عَلَى جَمِيعِ مَقَاصِدِ هَذَا الْعِلْمِ وَيُفِيدُهُ الِاحْتِوَاءُ عَلَى جَمِيعِ مَسَارِحِ النَّظَرِ فِيهِ، فَكُلُّ عِلْمٍ لَا يَسْتَوْلِي الطَّالِبُ فِي ابْتِدَاءِ نَظَرِهِ عَلَى مَجَامِعِهِ وَلَا مَبَانِيهِ فَلَا مَطْمَعَ لَهُ فِي الظَّفَرِ بِأَسْرَارِهِ وَمَبَاغِيهِ؛ وَقَدْ سَمَّيْتُهُ كِتَابَ " الْمُسْتَصْفَى مِنْ عِلْمِ الْأُصُولِ وَاَللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمَسْئُولُ لِيُنْعِمَ بِالتَّوْفِيقِ وَيَهْدِي إلَى سَوَاءِ الطَّرِيقِ وَهُوَ بِإِجَابَةِ السَّائِلِينَ حَقِيقٌ.

[صَدْرُ الْكِتَابِ] [بَيَانُ حَدِّ أُصُولِ الْفِقْهِ] صَدْرُ الْكِتَابِ اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ الْمُلَقَّبَ بِأُصُولِ الْفِقْهِ قَدْ رَتَّبْنَاهُ وَجَمَعْنَاهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَبَنَيْنَاهُ عَلَى مُقَدِّمَةٍ وَأَرْبَعَةِ أَقْطَابٍ، الْمُقَدِّمَةُ لَهَا كَالتَّوْطِئَةِ وَالتَّمْهِيدِ، وَالْأَقْطَابُ هِيَ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى لُبَابِ الْمَقْصُودِ. وَلْنَذْكُرْ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ مَعْنَى أُصُولِ الْفِقْهِ وَحَدَّهُ وَحَقِيقَتَهُ أَوَّلًا، ثُمَّ مَرْتَبَتَهُ وَنِسْبَتَهُ إلَى الْعُلُومِ ثَانِيًا، ثُمَّ كَيْفِيَّةَ انْشِعَابِهِ بِهِ إلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ وَالْأَقْطَابِ الْأَرْبَعَةِ ثَالِثًا، ثُمَّ كَيْفِيَّةَ انْدِرَاجِ جَمِيعِ أَقْسَامِهِ وَتَفَاصِيلِهِ تَحْتَ الْأَقْطَابِ الْأَرْبَعَةِ رَابِعًا، ثُمَّ وَجْهَ تَعَلُّقِهِ بِهَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ خَامِسًا. بَيَانُ حَدِّ أُصُولِ الْفِقْهِ اعْلَمْ أَنَّكَ لَا تَفْهَمُ مَعْنَى أُصُولِ الْفِقْهِ مَا لَمْ تَعْرِفْ أَوَّلًا مَعْنَى الْفِقْهِ، وَالْفِقْهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ فِي أَصْلِ الْوَضْعِ، يُقَالُ فُلَانٌ يَفْقَهُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ أَيْ يَعْلَمُهُ وَيَفْهَمُهُ، وَلَكِنْ صَارَ بِعُرْفِ الْعُلَمَاءِ عِبَارَةً عَنْ الْعِلْمِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الثَّابِتَةِ لِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ خَاصَّةً، حَتَّى لَا يُطْلَقَ بِحُكْمِ الْعَادَةِ اسْمُ الْفَقِيهِ عَلَى مُتَكَلِّمٍ وَفَلْسَفِيٍّ وَنَحْوِيٍّ وَمُحَدِّثٍ وَمُفَسِّرٍ بَلْ يَخْتَصُّ بِالْعُلَمَاءِ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الثَّابِتَةِ لِلْأَفْعَالِ الْإِنْسَانِيَّةِ كَالْوُجُوبِ وَالْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ وَالنَّدْبِ وَالْكَرَاهَةِ وَكَوْنِ الْعَقْدِ صَحِيحًا وَفَاسِدًا وَبَاطِلًا وَكَوْنِ الْعِبَادَةِ قَضَاءً وَأَدَاءً وَأَمْثَالِهِ. وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّ لِلْأَفْعَالِ أَحْكَامًا عَقْلِيَّةً أَيْ مُدْرَكَةً بِالْعَقْلِ كَكَوْنِهَا أَعْرَاضًا وَقَائِمَةً بِالْمَحَلِّ وَمُخَالِفَةً لِلْجَوْهَرِ وَكَوْنِهَا أَكْوَانًا حَرَكَةً وَسُكُونًا وَأَمْثَالِهَا، وَالْعَارِفُ بِذَلِكَ يُسَمَّى مُتَكَلِّمًا لَا فَقِيهًا. وَأَمَّا أَحْكَامُهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا وَاجِبَةٌ وَمَحْظُورَةٌ وَمُبَاحَةٌ وَمَكْرُوهَةٌ وَمَنْدُوبٌ إلَيْهَا فَإِنَّمَا يَتَوَلَّى الْفَقِيهُ بَيَانَهَا، فَإِذَا فَهِمْتَ هَذَا فَافْهَمْ أَنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ عِبَارَةٌ عَنْ أَدِلَّةِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَعَنْ مَعْرِفَةِ وُجُوهِ دَلَالَتِهَا عَلَى الْأَحْكَامِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةُ لَا مِنْ حَيْثُ التَّفْصِيلُ، فَإِنَّ عِلْمَ الْخِلَافِ مِنْ الْفِقْهِ أَيْضًا مُشْتَمِلٌ عَلَى أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ وَوُجُوهِ دَلَالَتِهَا وَلَكِنْ مِنْ حَيْثُ التَّفْصِيلُ، كَدَلَالَةِ حَدِيثٍ خَاصٍّ فِي مَسْأَلَةِ النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ عَلَى الْخُصُوصِ وَدَلَالَةِ آيَةٍ خَاصَّةٍ فِي مَسْأَلَةِ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَلَى الْخُصُوصِ. وَأَمَّا الْأُصُولُ فَلَا يُتَعَرَّضُ فِيهَا لِإِحْدَى الْمَسَائِلِ وَلَا عَلَى طَرِيقِ ضَرْبِ الْمِثَالِ، بَلْ يُتَعَرَّضُ فِيهَا لِأَصْلِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَلِشَرَائِطِ صِحَّتِهَا وَثُبُوتِهَا ثُمَّ لِوُجُوهِ دَلَالَتِهَا الْجُمَلِيَّةِ إمَّا مِنْ حَيْثُ صِيغَتُهَا أَوْ مَفْهُومُ لَفْظِهَا أَوْ مَجْرَى لَفْظِهَا أَوْ مَعْقُولُ لَفْظِهَا وَهُوَ الْقِيَاسُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُتَعَرَّضَ فِيهَا لِمَسْأَلَةٍ خَاصَّةٍ فَبِهَذَا تُفَارِقُ أُصُولُ الْفِقْهِ فُرُوعَهُ وَقَدْ عَرَفْتَ

مِنْ هَذَا أَنَّ أَدِلَّةَ الْأَحْكَامِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، فَالْعِلْمُ بِطُرُقِ ثُبُوتِ هَذِهِ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ وَشُرُوطِ صِحَّتِهَا وَوُجُوهِ دَلَالَتِهَا عَلَى الْأَحْكَامِ هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِأُصُولِ الْفِقْهِ [بَيَانُ مَرْتَبَةِ عِلْمِ الْأُصُول وَنِسْبَتِهِ إلَى الْعُلُومِ] بَيَانُ مَرْتَبَةِ هَذَا الْعِلْمِ وَنِسْبَتِهِ إلَى الْعُلُومِ اعْلَمْ أَنَّ الْعُلُومَ تَنْقَسِمُ إلَى عَقْلِيَّةٍ كَالطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَالْهَنْدَسَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ غَرَضِنَا. وَإِلَى دِينِيَّةٍ كَالْكَلَامِ وَالْفِقْهِ وَأُصُولِهِ وَعِلْمِ الْحَدِيثِ وَعِلْمِ التَّفْسِيرِ وَعِلْمِ الْبَاطِنِ، أَعْنِي عِلْمَ الْقَلْبِ وَتَطْهِيرَهُ عَنْ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْلِيَّةِ وَالدِّينِيَّةِ يَنْقَسِمُ إلَى كُلِّيَّةٍ وَجُزْئِيَّةٍ. فَالْعِلْمُ الْكُلِّيُّ مَنْ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ هُوَ الْكَلَامُ وَسَائِرُ الْعُلُومِ مِنْ الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ عُلُومٌ جُزْئِيَّةٌ، لِأَنَّ الْمُفَسِّرَ لَا يَنْظُرُ إلَّا فِي مَعْنَى الْكِتَابِ خَاصَّةً وَالْمُحَدِّثُ لَا يَنْظُرُ إلَّا فِي طَرِيقِ ثُبُوتِ الْحَدِيثِ خَاصَّةً، وَالْفَقِيهُ لَا يَنْظُرُ إلَّا فِي أَحْكَامِ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ خَاصَّةً، وَالْأُصُولِيُّ لَا يَنْظُر إلَّا فِي أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ خَاصَّةً وَالْمُتَكَلِّمُ هُوَ الَّذِي يَنْظُرُ فِي أَعَمِّ الْأَشْيَاءِ وَهُوَ الْمَوْجُودُ، فَيَقْسِمُ الْمَوْجُودَ أَوَّلًا إلَى قَدِيمٍ حَادِثٍ، ثُمَّ يَقْسِمُ الْمُحْدَثَ إلَى جَوْهَرٍ وَعَرَضٍ، ثُمَّ يَقْسِمُ الْعَرَضَ إلَى مَا تُشْتَرَطُ فِيهِ الْحَيَاةُ مِنْ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْكَلَامِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَإِلَى مَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا كَاللَّوْنِ وَالرِّيحِ وَالطَّعْمِ، وَيَقْسِمُ الْجَوْهَرَ إلَى الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ وَالْجَمَادِ وَيُبَيِّنُ أَنَّ اخْتِلَافَهَا بِالْأَنْوَاعِ أَوْ بِالْأَعْرَاضِ. ثُمَّ يَنْظُرُ فِي الْقَدِيمِ فَيُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يُتَكَثَّرُ وَلَا يَنْقَسِمُ انْقِسَامَ الْحَوَادِثِ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا وَأَنْ يَكُونَ مُتَمَيِّزًا عَنْ الْحَوَادِثِ بِأَوْصَافٍ تَجِبُ لَهُ وَبِأُمُورٍ تَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ وَأَحْكَامٍ تَجُوزُ فِي حَقِّهِ وَلَا تَجِبُ وَلَا تَسْتَحِيلُ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْجَائِزِ وَالْوَاجِبِ وَالْمُحَالِ فِي حَقِّهِ. ثُمَّ يُبَيِّنُ أَنَّ أَصْلَ الْفِعْلِ جَائِزٌ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْعَالَمَ فِعْلُهُ الْجَائِزُ، وَأَنَّهُ لِجَوَازِهِ افْتَقَرَ إلَى مُحْدِثٍ، وَأَنَّ بَعْثَةَ الرُّسُلِ مِنْ أَفْعَالِهِ الْجَائِزَةِ، وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ وَعَلَى تَعْرِيفِ صِدْقِهِمْ بِالْمُعْجِزَاتِ، وَأَنَّ هَذَا الْجَائِزَ وَاقِعٌ. عِنْدَ هَذَا يَنْقَطِعُ كَلَامُ الْمُتَكَلِّمِ وَيَنْتَهِي تَصَرُّفُ الْعَقْلِ، بَلْ الْعَقْلُ يَدُلَّ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ. ثُمَّ يَعْزِلُ نَفْسَهُ وَيَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ يَتَلَقَّى مِنْ النَّبِيِّ بِالْقَبُولِ مَا يَقُولُهُ فِي اللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مِمَّا يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ بِدَرَكِهِ وَلَا يَقْضِي أَيْضًا بِاسْتِحَالَتِهِ فَقَدْ يَرِدُ الشَّرْعُ بِمَا يَقْصُرُ الْعَقْلُ عَنْ الِاسْتِقْلَالِ بِإِدْرَاكِهِ إذْ لَا يَسْتَقِلُّ الْعَقْلُ بِإِدْرَاكِ كَوْنِ الطَّاعَةِ سَبَبًا لِلسَّعَادَةِ فِي الْآخِرَةِ وَكَوْنِ الْمَعَاصِي لِلشَّقَاوَةِ، لَكِنَّهُ لَا يَقْضِي بِاسْتِحَالَتِهِ أَيْضًا، وَيَقْضِي بِوُجُوبِ صِدْقِ مَنْ دَلَّتْ الْمُعْجِزَةُ عَلَى صِدْقِهِ، فَإِذَا أُخْبِرَ عَنْهُ صَدَّقَ الْعَقْلُ بِهِ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ فَهَذَا مَا يَحْوِيهِ عِلْمُ الْكَلَامِ فَقَدْ عَرَفْتَ هَذَا أَنَّهُ يَبْتَدِئُ نَظَرُهُ فِي أَعَمِّ الْأَشْيَاءِ أَوَّلًا وَهُوَ الْمَوْجُودُ، ثُمَّ يَنْزِلُ بِالتَّدْرِيجِ إلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فَيُثْبِتُ فِيهِ مَبَادِئَ سَائِرِ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَصِدْقِ الرَّسُولِ، فَيَأْخُذُ الْمُفَسِّرُ مِنْ جُمْلَةِ مَا نَظَرَ فِيهِ الْمُتَكَلِّمُ وَاحِدًا خَاصًّا وَهُوَ الْكِتَابُ فَيَنْظُرُ فِي تَفْسِيرِهِ، وَيَأْخُذُ الْمُحَدِّثُ وَاحِدًا خَاصًّا وَهُوَ السُّنَّةُ فَيَنْظُرُ فِي طُرُقِ ثُبُوتِهَا، وَالْفَقِيهُ يَأْخُذُ وَاحِدًا خَاصًّا وَهُوَ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ فَيَنْظُرُ فِي نِسْبَتِهِ إلَى خِطَابِ الشَّرْعِ مِنْ حَيْثُ الْوُجُوبُ وَالْحَظْرُ وَالْإِبَاحَةُ، وَيَأْخُذُ الْأُصُولِيُّ وَاحِدًا خَاصًّا وَهُوَ قَوْلُ الرَّسُولِ الَّذِي دَلَّ الْمُتَكَلِّمُ عَلَى صِدْقِهِ فَيَنْظُرُ فِي وَجْهِ دَلَالَتِهِ عَلَى الْأَحْكَامِ إمَّا بِمَلْفُوظِهِ أَوْ بِمَفْهُومِهِ أَوْ بِمَعْقُولِ مَعْنَاهُ وَمُسْتَنْبَطِهِ، وَلَا يُجَاوِزُ نَظَرُ الْأُصُولِيِّ قَوْلَ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَفِعْلَهُ. فَإِنَّ الْكِتَابَ

إنَّمَا يَسْمَعُهُ مِنْ قَوْلِهِ وَالْإِجْمَاعُ يَثْبُتُ بِقَوْلِهِ وَالْأَدِلَّةُ هِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ فَقَطْ وَقَوْلُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا يَثْبُتُ صِدْقُهُ وَكَوْنُهُ حُجَّةً فِي عِلْمِ الْكَلَامِ. فَإِذَا الْكَلَامُ هُوَ الْمُتَكَفِّلُ بِإِثْبَاتِ مَبَادِئِ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ كُلِّهَا، فَهِيَ جُزْئِيَّةٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْكَلَامِ، فَالْكَلَامُ هُوَ الْعِلْمُ الْأَعْلَى فِي الرُّتْبَةِ إذْ مِنْهُ النُّزُولُ إلَى هَذِهِ الْجُزْئِيَّاتِ فَإِنْ قِيلَ: فَلْيَكُنْ مِنْ شَرْطِ الْأُصُولِيِّ وَالْفَقِيهِ وَالْمُفَسِّرِ وَالْمُحَدِّثِ أَنْ يَكُونَ قَدْ حَصَّلَ عِلْمَ الْكَلَامِ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْكُلِّيِّ الْأَعْلَى كَيْفَ يُمْكِنُهُ النُّزُولُ إلَى الْجُزْئِيِّ الْأَسْفَلِ؟ قُلْنَا: لَيْسَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي كَوْنِهِ أُصُولِيًّا وَفَقِيهًا وَمُفَسِّرًا وَمُحَدِّثًا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي كَوْنِهِ عَالِمًا مُطْلَقًا مَلِيئًا بِالْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَا مِنْ عِلْمٍ مِنْ الْعُلُومِ الْجُزْئِيَّةِ إلَّا وَلَهُ مَبَادٍ تُؤْخَذُ مُسَلَّمَةً بِالتَّقْلِيدِ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ وَيُطْلَبُ بُرْهَانُ ثُبُوتِهَا فِي عِلْمٍ آخَرَ. فَالْفَقِيهُ يَنْظُرُ فِي نِسْبَةِ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ إلَى خِطَابِ الشَّرْعِ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إقَامَةُ الْبُرْهَانِ عَلَى إثْبَاتِ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّات لِلْمُكَلَّفِينَ فَقَدْ أَنْكَرَتْ الْجَبْرِيَّةُ فِعْلَ الْإِنْسَانِ وَأَنْكَرَتْ طَائِفَةٌ وُجُودَ الْأَعْرَاضِ وَالْفِعْلُ عَرَضٌ. وَلَا عَلَى الْفَقِيهِ إقَامَةُ الْبُرْهَانِ عَلَى ثُبُوتِ خِطَابِ الشَّرْعِ وَأَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى كَلَامًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ هُوَ أَمْرٌ وَنَهْيٌ، وَلَكِنْ يَأْخُذُ ثُبُوتَ الْخِطَابِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَثُبُوتَ الْفِعْلِ مِنْ الْمُكَلَّفِ عَلَى سَبِيلِ التَّقْلِيدِ وَيَنْظُرُ فِي نِسْبَةِ الْفِعْلِ إلَى الْخِطَابِ فَيَكُونُ قَدْ قَامَ بِمُنْتَهَى عِلْمِهِ. وَكَذَلِكَ الْأُصُولِيُّ يَأْخُذُ بِالتَّقْلِيدِ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ أَنَّ قَوْلَ الرَّسُولِ حُجَّةٌ وَدَلِيلٌ وَاجِبُ الصِّدْقِ، ثُمَّ يَنْظُرُ فِي وُجُوهِ دَلَالَتِهِ وَشُرُوطِ صِحَّتِهِ. فَكُلُّ عَالِمٍ بِعِلْمٍ مِنْ الْعُلُومِ الْجُزْئِيَّةِ فَإِنَّهُ مُقَلِّدٌ لَا مَحَالَةَ فِي مَبَادِئِ عِلْمِهِ إلَى أَنْ يَتَرَقَّى إلَى الْعِلْمِ الْأَعْلَى فَيَكُونَ قَدْ جَاوَزَ عِلْمَهُ إلَى عِلْمٍ آخَرَ. [بَيَانُ كَيْفِيَّةِ دَوَرَان عِلْم الْأُصُول عَلَى الْأَقْطَابِ الْأَرْبَعَةِ] بَيَانُ كَيْفِيَّةِ دَوَرَانِهِ عَلَى الْأَقْطَابِ الْأَرْبَعَةِ اعْلَمْ أَنَّك إذَا فَهِمْتَ أَنَّ نَظَرَ الْأُصُولِيِّ فِي وُجُوهِ دَلَالَةِ الْأَدِلَّةِ السَّمْعِيَّةِ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مَعْرِفَةُ كَيْفِيَّةِ اقْتِبَاسِ الْأَحْكَامِ مَنْ الْأَدِلَّةِ، فَوَجَبَ النَّظَرُ فِي الْأَحْكَامِ، ثُمَّ فِي الْأَدِلَّةِ وَأَقْسَامِهَا، ثُمَّ فِي كَيْفِيَّةِ اقْتِبَاسِ الْأَحْكَامِ مَنْ الْأَدِلَّةِ، ثُمَّ فِي صِفَاتِ الْمُقْتَبِسِ الَّذِي لَهُ أَنْ يَقْتَبِسَ الْأَحْكَامَ، فَإِنَّ الْأَحْكَامَ ثَمَرَاتٌ وَكُلُّ ثَمَرَةٍ فَلَهَا صِفَةٌ وَحَقِيقَةٌ فِي نَفْسِهَا وَلَهَا مُثْمِرٌ وَمُسْتَثْمِرٌ وَطَرِيقٌ فِي الِاسْتِثْمَارِ. وَالثَّمَرَةُ هِيَ الْأَحْكَامُ، أَعْنِي الْوُجُوبَ وَالْحَظْرَ وَالنَّدْبَ وَالْكَرَاهَةَ وَالْإِبَاحَةَ وَالْحُسْنَ وَالْقُبْحَ وَالْقَضَاءَ وَالْأَدَاءَ وَالصِّحَّةَ وَالْفَسَادَ وَغَيْرَهَا وَالْمُثْمِرُ هِيَ الْأَدِلَّةُ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ فَقَطْ. وَطُرُقُ الِاسْتِثْمَارِ هِيَ وُجُوهُ دَلَالَةِ الْأَدِلَّةِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ، إذْ الْأَقْوَالُ إمَّا أَنْ تَدُلَّ عَلَى الشَّيْءِ بِصِيغَتِهَا وَمَنْظُومِهَا، أَوْ بِفَحْوَاهَا وَمَفْهُومِهَا وَبِاقْتِضَائِهَا وَضَرُورَتِهَا أَوْ بِمَعْقُولِهَا وَمَعْنَاهَا الْمُسْتَنْبَطِ مِنْهَا. وَالْمُسْتَثْمِرُ هُوَ الْمُجْتَهِدُ، وَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ صِفَاتِهِ وَشُرُوطِهِ وَأَحْكَامِهِ. فَإِذَا جُمْلَةُ الْأُصُولِ تَدُورُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْطَابٍ: الْقُطْبُ الْأَوَّلُ: فِي الْأَحْكَامِ، وَالْبُدَاءَةُ بِهَا أَوْلَى لِأَنَّهَا الثَّمَرَةُ الْمَطْلُوبَةُ. الْقُطْبُ الثَّانِي: فِي الْأَدِلَّةِ، وَهِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَبِهَا التَّثْنِيَةُ إذْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ مَعْرِفَةِ الثَّمَرَةِ لَا أَهَمَّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْمُثْمِرِ. الْقُطْبُ الثَّالِثُ: فِي طَرِيقِ الِاسْتِثْمَارِ، وَهُوَ وُجُوهُ دَلَالَةِ الْأَدِلَّةِ، وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: دَلَالَةٌ بِالْمَنْظُومِ، وَدَلَالَةٌ بِالْمَفْهُومِ، وَدَلَالَةٌ بِالضَّرُورَةِ وَالِاقْتِضَاءِ، وَدَلَالَةٌ بِالْمَعْنَى الْمَعْقُولِ. الْقُطْبُ الرَّابِعُ: فِي الْمُسْتَثْمِرِ وَهُوَ الْمُجْتَهِدُ الَّذِي يَحْكُمُ بِظَنِّهِ، وَيُقَابِلُهُ الْمُقَلِّدُ

الَّذِي يَلْزَمُهُ اتِّبَاعُهُ، فَيَجِبُ ذِكْرُ شُرُوطِ الْمُقَلِّدِ وَالْمُجْتَهِدِ وَصِفَاتِهِمَا. [بَيَانُ كَيْفِيَّةِ انْدِرَاجِ الشُّعَبِ الْكَثِيرَةِ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ تَحْتَ هَذِهِ الْأَقْطَابِ الْأَرْبَعَةِ] ِ لَعَلَّكَ تَقُولُ أُصُولُ الْفِقْهِ تَشْتَمِلُ عَلَى أَبْوَابٍ كَثِيرَةٍ وَفُصُولٍ مُنْتَشِرَةٍ فَكَيْفَ يَنْدَرِجُ جُمْلَتُهَا تَحْتَ هَذِهِ الْأَقْطَابِ الْأَرْبَعَةِ؟ فَنَقُولُ: الْقُطْبُ الْأَوَّلُ: هُوَ الْحُكْمُ. وَلِلْحُكْمِ حَقِيقَةٌ فِي نَفْسِهِ وَانْقِسَامٌ، وَلَهُ تَعَلُّقٌ بِالْحَاكِمِ وَهُوَ الشَّارِعُ وَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُكَلَّفُ وَبِالْمَحْكُومِ فِيهِ وَهُوَ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ وَبِالْمُظْهِرِ لَهُ وَهُوَ السَّبَبُ وَالْعِلَّةُ، فَفِي الْبَحْثِ عَنْ حَقِيقَةِ الْحُكْمِ فِي نَفْسِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ خِطَابِ الشَّرْعِ وَلِيس وَصْفًا لِلْفِعْلِ وَلَا حُسْنَ وَلَا قُبْحَ وَلَا مَدْخَلَ لِلْعَقْلِ فِيهِ وَلَا حُكْمَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَفِي الْبَحْثِ عَنْ أَقْسَامِ الْحُكْمِ يَتَبَيَّنُ حَدُّ الْوَاجِبِ وَالْمَحْظُورِ وَالْمَنْدُوبِ وَالْمُبَاحِ وَالْمَكْرُوهِ وَالْقَضَاءِ وَالْأَدَاءِ وَالصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ وَالْعَزِيمَةِ وَالرُّخْصَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَقْسَامِ الْأَحْكَامِ. وَفِي الْبَحْثِ عَنْ الْحَاكِمِ يَتَبَيَّنُ أَنْ لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ وَأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِلرَّسُولِ وَلَا لِلسَّيِّدِ عَلَى الْعَبْدِ وَلَا لِمَخْلُوقٍ عَلَى مَخْلُوقٍ، بَلْ كُلُّ ذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَوَضْعُهُ لَا حُكْمَ لِغَيْرِهِ. وَفِي الْبَحْثِ عَنْ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ يَتَبَيَّنُ خِطَابُ النَّاسِي وَالْمُكْرَهِ وَالصَّبِيِّ، وَخِطَابُ الْكَافِرِ بِفُرُوعِ الشَّرْعِ، وَخِطَابُ السَّكْرَانِ وَمَنْ يَجُوزُ تَكْلِيفُهُ وَمَنْ لَا يَجُوزُ. وَفِي الْبَحْثِ عَنْ الْمَحْكُومِ فِيهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْخِطَابَ يَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ لَا بِالْأَعْيَانِ وَأَنَّهُ لَيْسَ وَصْفًا لِلْأَفْعَالِ فِي ذَوَاتِهَا. وَفِي الْبَحْثِ عَنْ مَظْهَرِ الْحُكْمِ يَتَبَيَّنُ حَقِيقَةُ السَّبَبِ وَالْعِلَّةِ وَالشَّرْطِ وَالْمَحَلِّ وَالْعَلَامَةِ، فَيَتَنَاوَلُ هَذَا الْقُطْبُ جُمْلَةً مِنْ تَفَارِيقِ فُصُولِ الْأُصُولِ أَوْرَدَهَا الْأُصُولِيُّونَ مُبَدَّدَةً فِي مَوَاضِعَ شَتَّى لَا تَتَنَاسَبُ وَلَا تَجْمَعُهَا رَابِطَةٌ، فَلَا يَهْتَدِي الطَّالِبُ إلَى مَقَاصِدِهَا وَوَجْهِ الْحَاجَةِ إلَى مَعْرِفَتِهَا وَكَيْفِيَّةِ تَعَلُّقِهَا بِأُصُولِ الْفِقْهِ. الْقُطْبُ الثَّانِي: فِي الْمُثْمِرِ، وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ. وَفِي الْبَحْثِ عَنْ أَصْلِ الْكِتَابِ يَتَبَيَّنُ حَدُّ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنْهُ وَمَا لَيْسَ مِنْهُ، وَطَرِيقُ إثْبَاتِ الْكِتَابِ وَإِنَّهُ التَّوَاتُرُ فَقَطْ وَبَيَانُ مَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ مِنْ حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ وَعَرَبِيَّةٍ وَعَجَمِيَّةٍ. وَفِي الْبَحْثِ عَنْ السُّنَّةِ يَتَبَيَّنُ حُكْمُ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ مِنْ الرَّسُولِ وَطُرُقُ ثُبُوتِهَا مِنْ تَوَاتُرٍ وَآحَادٍ وَطُرُقُ رِوَايَتِهَا مِنْ مُسْنَدٍ وَمُرْسَلٍ وَصِفَاتُ رُوَاتِهَا مِنْ عَدَالَةٍ وَتَكْذِيبٍ، إلَى تَمَامِ كِتَابِ الْأَخْبَارِ. وَيَتَّصِلُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كِتَابُ النَّسْخِ فَإِنَّهُ لَا يَرِدُ إلَّا عَلَيْهِمَا، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلَا يَتَطَرَّقُ النَّسْخُ إلَيْهِ. وَفِي الْبَحْثِ عَنْ أَصْلِ الْإِجْمَاعِ تَتَبَيَّنُ حَقِيقَتُهُ وَدَلِيلُهُ وَأَقْسَامُهُ وَإِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَإِجْمَاعُ مَنْ بَعْدَهُمْ إلَى جَمِيعِ مَسَائِلِ الْإِجْمَاعِ الْقُطْبُ الثَّالِثُ: فِي طُرُقِ الِاسْتِثْمَارِ. وَهِيَ أَرْبَعَةٌ الْأُولَى: دَلَالَةُ اللَّفْظِ مِنْ حَيْثُ صِيغَتُهُ، وَبِهِ يَتَعَلَّقُ النَّظَرُ فِي صِيغَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ وَالظَّاهِرِ وَالْمُؤَوَّلِ وَالنَّصِّ. وَالنَّظَرُ فِي كِتَابِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ نَظَرٌ فِي مُقْتَضَى الصِّيَغِ اللُّغَوِيَّةِ وَأَمَّا الدَّلَالَةُ مِنْ حَيْثُ الْفَحْوَى وَالْمَفْهُومُ فَيَشْتَمِلُ عَلَيْهِ كِتَابُ الْمَفْهُومِ وَدَلِيلُ

الْخِطَابِ، وَأَمَّا الدَّلَالَةُ مِنْ حَيْثُ ضَرُورَةُ اللَّفْظِ وَاقْتِضَاؤُهُ فَيَتَضَمَّنُ جُمْلَةً مِنْ إشَارَاتِ الْأَلْفَاظِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي، فَتَقُولُ: أَعْتَقْتُ، فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ حُصُولَ الْمِلْكِ لِلْمُلْتَمِسِ وَلَمْ يَتَلَفَّظَا بِهِ لَكِنَّهُ مِنْ ضَرُورَةِ مَلْفُوظِهِمَا وَمُقْتَضَاهُ. وَأَمَّا الدَّلَالَةُ مِنْ حَيْثُ مَعْقُولُ اللَّفْظِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْجَائِعِ وَالْمَرِيضِ وَالْحَاقِنِ بِمَعْقُولِ مَعْنَاهُ، وَمِنْهُ يَنْشَأُ الْقِيَاسُ وَيَنْجَرُّ إلَى بَيَانِ جَمِيعِ أَحْكَامِ الْقِيَاسِ وَأَقْسَامِهِ. الْقُطْبُ الرَّابِعُ: فِي الْمُسْتَثْمِرِ، وَهُوَ الْمُجْتَهِدُ وَفِي مُقَابَلَتِهِ الْمُقَلِّدُ، وَفِيهِ يَتَبَيَّنُ صِفَاتُ الْمُجْتَهِدِ وَصِفَاتُ الْمُقَلِّدِ وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يَجْرِي فِيهِ الِاجْتِهَادُ دُونَ الَّذِي لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ وَالْقَوْلُ فِي تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِينَ وَجُمْلَةُ أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ. فَهَذِهِ جُمْلَةُ مَا ذُكِرَ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ وَقَدْ عَرَفْتَ كَيْفِيَّةَ انْشِعَابِهَا مِنْ هَذِهِ الْأَقْطَابِ الْأَرْبَعَةِ [بَيَانُ الْمُقَدِّمَةِ وَوَجْهُ تَعَلُّقِ الْأُصُولِ بِهَا] اعْلَمْ أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ حَدُّ أُصُولِ الْفِقْهِ إلَى مَعْرِفَةِ أَدِلَّةِ الْأَحْكَامِ اشْتَمَلَ الْحَدُّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَلْفَاظٍ: الْمَعْرِفَةُ وَالدَّلِيلُ وَالْحُكْمُ فَقَالُوا: إذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ حَتَّى كَانَ مَعْرِفَتُهُ أَحَدَ الْأَقْطَابِ الْأَرْبَعَةِ فَلَا بُدَّ أَيْضًا مِنْ مَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ وَمَعْرِفَةِ الْمَعْرِفَةِ، أَعْنِي الْعِلْمَ. ثُمَّ الْعِلْمُ الْمَطْلُوبُ لَا وُصُولَ إلَيْهِ إلَّا بِالنَّظَرِ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ النَّظَرِ فَشَرَعُوا فِي بَيَانِ حَدِّ الْعِلْمِ وَالدَّلِيلِ وَالنَّظَرِ وَلَمْ يَقْتَصِرُوا عَلَى تَعْرِيفِ صُوَرِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَلَكِنْ انْجَرَّ بِهِمْ إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى إثْبَاتِ الْعِلْمِ عَلَى مُنْكِرِيهِ مِنْ السُّوفُسْطائيَّةِ وَإِقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى النَّظَرِ عَلَى مُنْكِرِي النَّظَرِ وَإِلَى جُمْلَةٍ مِنْ أَقْسَامِ الْعُلُومِ وَأَقْسَامِ الْأَدِلَّةِ، وَذَلِكَ مُجَاوَزَةٌ لِحَدِّ هَذَا الْعِلْمِ وَخَلْطٌ لَهُ بِالْكَلَامِ، وَإِنَّمَا أَكْثَرَ فِيهِ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ الْأُصُولِيِّينَ لِغَلَبَةِ الْكَلَامِ عَلَى طَبَائِعِهِمْ فَحَمَلَهُمْ حُبُّ صِنَاعَتِهِمْ عَلَى خَلْطِهِ بِهَذِهِ الصَّنْعَةِ، كَمَا حَمَلَ حُبُّ اللُّغَةِ وَالنَّحْوِ بَعْضَ الْأُصُولِيِّينَ عَلَى مَزْجِ جُمْلَةٍ مِنْ النَّحْوِ بِالْأُصُولِ فَذَكَرُوا فِيهِ مِنْ مَعَانِي الْحُرُوفِ وَمَعَانِي الْإِعْرَابِ جُمَلًا هِيَ مِنْ عِلْمِ النَّحْوِ خَاصَّةً، وَكَمَا حَمَلَ حُبُّ الْفِقْهِ جَمَاعَةً مِنْ فُقَهَاءِ مَا وَرَاءَ النَّهْرِ كَأَبِي زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَتْبَاعِهِ عَلَى مَزْجِ مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ تَفَارِيعِ الْفِقْهِ بِالْأُصُولِ، فَإِنَّهُمْ وَإِنْ أَوْرَدُوهَا فِي مَعْرِضِ الْمِثَالِ وَكَيْفِيَّةِ إجْرَاءِ الْأَصْلِ فِي الْفُرُوعِ فَقَدْ أَكْثَرُوا فِيهِ وَعُذْرُ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي ذِكْرِ حَدِّ الْعِلْمِ وَالنَّظَرِ وَالدَّلِيلِ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَظْهَرُ مِنْ عُذْرِهِمْ فِي إقَامَةِ الْبُرْهَانِ عَلَى إثْبَاتِهَا مَعَ الْمُنْكِرِينَ، لِأَنَّ الْحَدَّ يُثَبِّتُ فِي النَّفْسِ صُوَرَ هَذِهِ الْأُمُورِ وَلَا أَقَلَّ مِنْ تَصَوُّرِهَا إذَا كَانَ الْكَلَامُ يَتَعَلَّقُ بِهَا، كَمَا أَنَّهُ لَا أَقَلَّ مِنْ تَصَوُّرِ الْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ لِمَنْ يَخُوضُ فِي الْفِقْهِ. وَأَمَّا مَعْرِفَةُ حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ وَحُجِّيَّةِ الْقِيَاسِ فَذَلِكَ مِنْ خَاصِّيَّةِ أُصُولِ الْفِقْهِ، فَذِكْرُ حُجِّيَّةِ الْعِلْمِ وَالنَّظَرِ عَلَى مُنْكِرِيهِ اسْتِجْرَارُ الْأُصُولِ إلَى الْفُرُوعِ. وَبَعْدَ أَنْ عَرَّفْنَاكَ إسْرَافَهُمْ فِي هَذَا الْخَلْطِ فَإِنَّا لَا نَرَى أَنْ نُخْلِيَ هَذَا الْمَجْمُوعَ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ لِأَنَّ الْفِطَامَ عَنْ الْمَأْلُوفِ شَدِيدٌ وَالنُّفُوسُ عَنْ الْغَرِيبِ نَافِرَةٌ، لَكِنَّا نَقْتَصِرُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا تَظْهَرُ فَائِدَتُهُ عَلَى الْعُمُومِ فِي جُمْلَةِ الْعُلُومِ مِنْ تَعْرِيفِ مَدَارِكِ الْعُقُولِ وَكَيْفِيَّةِ تَدَرُّجِهَا مِنْ الضَّرُورِيَّاتِ إلَى النَّظَرِيَّاتِ عَلَى وَجْهٍ يَتَبَيَّنُ فِيهِ حَقِيقَةُ الْعِلْمِ وَالنَّظَرِ وَالدَّلِيلِ وَأَقْسَامُهَا وَحُجَجُهَا تَبْيِينًا بَلِيغًا تَخْلُو عَنْهُ مُصَنَّفَاتُ الْكَلَامِ.

[مُقَدِّمَةُ الْكِتَابِ] [بَيَانُ حَصْرِ مَدَارِكِ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ فِي الْحَدِّ وَالْبُرْهَانِ] مُقَدِّمَةُ الْكِتَابِ بَيَانُ حَصْرِ مَدَارِكِ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ فِي الْحَدِّ وَالْبُرْهَانِ نَذْكُرُ فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ مَدَارِكَ الْعُقُولِ وَانْحِصَارَهَا فِي الْحَدِّ وَالْبُرْهَانِ، وَنَذْكُرُ شَرْطَ الْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ وَشَرْطَ الْبُرْهَانِ الْحَقِيقِيِّ وَأَقْسَامَهُمَا عَلَى مِنْهَاجٍ أَوْجَزَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ مَحَكِّ النَّظَرِ " وَكِتَابِ مِعْيَارِ الْعِلْمِ ". وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ مِنْ جُمْلَةِ عِلْمِ الْأُصُولِ وَلَا مِنْ مُقَدِّمَاتِهِ الْخَاصَّةِ بِهِ، بَلْ هِيَ مُقَدِّمَةُ الْعُلُومِ كُلِّهَا، وَمَنْ لَا يُحِيطُ بِهَا فَلَا ثِقَةَ لَهُ بِعُلُومِهِ أَصْلًا، فَمَنْ شَاءَ أَنْ لَا يَكْتُبَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ فَلْيَبْدَأْ بِالْكِتَابِ مِنْ الْقُطْبِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ ذَلِكَ هُوَ أَوَّلُ أُصُولِ الْفِقْهِ وَحَاجَةُ جَمِيعِ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ إلَى هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ لِحَاجَةِ أُصُولِ الْفِقْهِ. بَيَانُ حَصْرِ مَدَارِكِ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ فِي الْحَدِّ وَالْبُرْهَانِ اعْلَمْ أَنَّ إدْرَاكَ الْأُمُورِ عَلَى ضَرْبَيْنِ: إدْرَاكُ الذَّوَاتِ الْمُفْرَدَةِ كَعِلْمِكَ بِمَعْنَى الْجِسْمِ وَالْحَرَكَةِ وَالْعَالَمِ وَالْحَدِيثِ وَالْقَدِيمِ وَسَائِرِ مَا يُدَلُّ عَلَيْهِ بِالْأَسَامِي الْمُفْرَدَةِ، الثَّانِي: إدْرَاكُ نِسْبَةِ هَذِهِ الْمُفْرَدَاتِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ بِالنَّفْيِ أَوْ الْإِثْبَاتِ، وَهُوَ أَنْ تَعْلَمَ أَوَّلًا مَعْنَى لَفْظِ الْعَالَمِ وَهُوَ أَمْرٌ مُفْرَدٌ وَمَعْنَى لَفْظِ الْحَادِثِ وَمَعْنَى لَفْظِ الْقَدِيمِ وَهُمَا أَيْضًا أَمْرَانِ مُفْرَدَانِ، ثُمَّ تَنْسُبُ مُفْرَدًا إلَى مُفْرَدٍ بِالنَّفْيِ أَوْ الْإِثْبَاتِ كَمَا تَنْسُبُ الْقِدَمَ إلَى الْعَالَمِ بِالنَّفْيِ فَتَقُولُ: لَيْسَ الْعَالَمُ قَدِيمًا، وَتَنْسُبُ الْحُدُوثَ إلَيْهِ بِالْإِثْبَاتِ فَتَقُولُ: الْعَالَمُ حَادِثٌ، وَالضَّرْبُ الْأَخِيرُ هُوَ الَّذِي يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ. وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَيَسْتَحِيلُ فِيهِ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ إذْ لَا يَتَطَرَّقُ التَّصْدِيقُ، إلَّا إلَى خَبَرٍ، وَأَقَلُّ مَا يَتَرَكَّبُ مِنْهُ جُزْءَانِ مُفْرَدَانِ وَصْفٌ وَمَوْصُوفٌ، فَإِذَا نُسِبَ الْوَصْفُ إلَى الْمَوْصُوفِ بِنَفْيٍ أَوْ إثْبَاتِ، صُدِّقَ أَوْ كُذِّبَ. فَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ حَادِثٌ أَوْ جِسْمٌ أَوْ قَدِيمٌ فَأَفْرَادٌ لَيْسَ فِيهَا صِدْقٌ وَلَا كَذِبٌ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُصْطَلَحَ عَلَى التَّعْبِيرِ عَنْ هَذَيْنِ الضَّرْبَيْنِ بِعِبَارَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فَإِنَّ حَقَّ الْأُمُورِ الْمُخْتَلِفَةِ أَنْ تَخْتَلِفَ أَلْفَاظُهَا الدَّالَّةُ عَلَيْهَا، إذْ الْأَلْفَاظُ مِثْلُ الْمَعَانِي فَحَقُّهَا أَنْ تُحَاذَى بِهَا الْمَعَانِي. وَقَدْ سَمَّى الْمَنْطِقِيُّونَ مَعْرِفَةَ الْمُفْرَدَاتِ تَصَوُّرًا وَمَعْرِفَةَ النِّسْبَةِ الْخَبَرِيَّةِ بَيْنَهُمَا تَصْدِيقًا فَقَالُوا: الْعِلْمُ إمَّا تَصَوُّرٌ وَإِمَّا تَصْدِيقٌ، وَسَمَّى بَعْضُ عُلَمَائِنَا الْأَوَّلَ مَعْرِفَةً وَالثَّانِيَ عِلْمًا تَأَسِّيًا بِقَوْلِ النُّحَاةِ فِي قَوْلِهِمْ الْمَعْرِفَةُ تَتَعَدَّى إلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، إذْ تَقُولُ: عَرَفْتُ زَيْدًا، وَالظَّنُّ يَتَعَدَّى إلَى مَفْعُولَيْنِ، إذْ تَقُولُ: ظَنَنْتُ زَيْدًا عَالِمًا، وَلَا تَقُولُ: ظَنَنْتُ زَيْدًا، وَلَا: ظَنَنْتُ عَالِمًا، وَالْعِلْمُ مِنْ بَابِ الظَّنِّ، فَتَقُولُ: عَلِمْتُ زَيْدًا عَدْلًا. وَالْعَادَةُ فِي هَذِهِ الِاصْطِلَاحَاتِ مُخْتَلِفَةٌ. وَإِذَا فَهِمْتَ افْتِرَاقَ الضَّرْبَيْنِ فَلَا مُشَاحَّةَ فِي الْأَلْقَابِ، فَنَقُولُ الْآنَ: إنَّ

الْإِدْرَاكَاتِ صَارَتْ مَحْصُورَةً فِي الْمَعْرِفَةِ وَالْعِلْمِ أَوْ فِي التَّصَوُّرِ وَالتَّصْدِيقِ وَكُلُّ عِلْمٍ تَطَرَّقَ إلَيْهِ تَصْدِيقٌ فَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ مَعْرِفَتَانِ أَيْ: تَصَوُّرَانِ فَإِنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْمُفْرَدَ كَيْفَ يَعْلَمُ الْمُرَكَّبَ وَمَنْ لَا يَفْهَمُ مَعْنَى الْعَالَمِ وَمَعْنَى الْحَادِثِ كَيْفَ يَعْلَمُ أَنَّ الْعَالَمَ حَادِثٌ، وَمَعْرِفَةُ الْمُفْرَدَاتِ قِسْمَانِ: أَوَّلِيٌّ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُطْلَبُ بِالْبَحْثِ وَهُوَ الَّذِي يَرْتَسِمُ مَعْنَاهُ فِي النَّفْسِ مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ وَطَلَبٍ كَلَفْظِ الْوُجُودِ وَالشَّيْءِ وَكَكَثِيرٍ مِنْ الْمَحْسُوسَاتِ، وَمَطْلُوبٌ وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ اسْمُهُ مِنْهُ عَلَى أَمْرٍ جُمْلِيٍّ غَيْرِ مُفَصَّلٍ وَلَا مُفَسَّرٍ فَيُطْلَبُ تَفْسِيرُهُ بِالْحَدِّ، وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ يَنْقَسِمُ إلَى أَوَّلِيٍّ كَالضَّرُورِيَّاتِ، وَإِلَى مَطْلُوبٍ كَالنَّظَرِيَّاتِ. وَالْمَطْلُوبُ مِنْ الْمَعْرِفَةِ لَا يُقْتَنَصُ إلَّا بِالْحَدِّ، وَالْمَطْلُوبُ مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ لَا يُقْتَنَصُ إلَّا بِالْبُرْهَانِ، فَالْبُرْهَانُ وَالْحَدُّ هُوَ الْآلَةُ الَّتِي بِهَا يُقْتَنَصُ سَائِرُ الْعُلُومِ الْمَطْلُوبَةِ. فَلْتَكُنْ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةُ الْمَرْسُومَةُ لِبَيَانِ مَدَارِكِ الْعُقُولِ مُشْتَمِلَةً عَلَى دِعَامَتَيْنِ دِعَامَةٌ فِي الْحَدِّ وَدِعَامَةٌ فِي الْبُرْهَانِ. [الدِّعَامَةُ الْأُولَى فِي الْحَدِّ] [الْفَنُّ الْأَوَّلُ فِي الْقَوَانِينِ] الدِّعَامَةُ الْأُولَى: فِي الْحَدِّ الْفَنُّ الْأَوَّلُ: فِي الْقَوَانِينِ وَيَجِبُ تَقْدِيمُهَا لِأَنَّ الْمُفْرَدَاتِ تَتَقَدَّمُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْمُرَكَّبَاتِ، وَتَشْتَمِلُ عَلَى فَنَّيْنِ: فَنٍّ يَجْرِي مَجْرَى الْقَوَانِينِ، وَفَنٍّ يَجْرِي مَجْرَى الِامْتِحَانَاتِ لِتِلْكَ الْقَوَانِينِ. الْفَنُّ الْأَوَّلُ: فِي الْقَوَانِينِ وَهِيَ سِتَّةٌ: الْقَانُونُ الْأَوَّلُ أَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا يُذْكَرُ جَوَابًا عَنْ سُؤَالٍ فِي الْمُحَاوَرَاتِ، وَلَا يَكُونُ الْحَدُّ جَوَابًا عَنْ كُلِّ سُؤَالٍ بَلْ عَنْ بَعْضِهِ وَالسُّؤَالُ طَلَبٌ وَلَهُ لَا مَحَالَةَ مَطْلُوبٌ وَصِيغَةٌ، وَالصِّيَغُ وَالْمَطَالِبُ كَثِيرَةٌ وَلَكِنَّ أُمَّهَاتِ الْمَطَالِبِ أَرْبَعٌ الْمَطْلَب الْأَوَّلُ: مَا يُطْلَبُ بِصِيغَةِ " هَلْ ". يُطْلَبُ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ أَمْرَانِ إمَّا أَصْلُ الْوُجُودِ كَقَوْلِكَ: هَلْ اللَّهُ تَعَالَى مَوْجُودٌ، أَوْ يُطْلَبُ حَالُ الْمَوْجُودِ وَوَصْفُهُ كَقَوْلِكَ: هَلْ اللَّهُ تَعَالَى خَالِقُ الْبَشَرِ، وَهَلْ اللَّهُ تَعَالَى مُتَكَلِّمٌ وَآمِرٌ وَنَاهٍ. الْمَطْلَبُ الثَّانِي: مَا يُطْلَبُ بِصِيغَةِ " مَا ". وَيُطْلَقُ لِطَلَبِ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ يُطْلَبَ بِهِ شَرْحُ اللَّفْظِ كَمَا يَقُولُ مَنْ لَا يَدْرِي الْعُقَارَ: مَا الْعُقَارُ؟ فَيُقَالُ لَهُ: الْخَمْرُ، إذَا كَانَ يَعْرِفُ لَفْظَ الْخَمْرِ الثَّانِي: أَنْ يُطْلَبَ لَفْظٌ مُحَرَّرٌ جَامِعٌ مَانِعٌ يَتَمَيَّزُ بِهِ الْمَسْئُولُ عَنْهُ مِنْ غَيْرِهِ كَيْفَمَا كَانَ الْكَلَامُ سَوَاءٌ كَانَ عِبَارَةً عَنْ عَوَارِضِ ذَاتِهِ وَلَوَازِمِهِ الْبَعِيدَةِ عَنْ حَقِيقَةِ ذَاتِهِ أَوْ حَقِيقَةِ ذَاتِهِ كَمَا سَيَأْتِي الْفَرْقُ بَيْنَ الذَّاتِيِّ وَالْعَرَضِيِّ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: مَا الْخَمْرُ؟ فَيُقَالُ: هُوَ الْمَائِعُ الَّذِي يَقْذِفُ بِالزَّبَدِ ثُمَّ يَسْتَحِيلُ إلَى الْحُمُوضَةِ وَيُحْفَظُ فِي الدَّنِّ. وَالْمَقْصُودُ أَنْ لَا يُتَعَرَّضَ لِحَقِيقَةِ ذَاتِهِ بَلْ يُجْمَعُ مِنْ عَوَارِضِهِ وَلَوَازِمِهِ مَا يُسَاوِي بِجُمْلَتِهِ الْخَمْرَ بِحَيْثُ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ خَمْرٌ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ مَا لَيْسَ بِخَمْرٍ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُطْلَبَ بِهِ مَاهِيَّةُ الشَّيْءِ وَحَقِيقَةُ ذَاتِهِ، كَمَنْ يَقُولُ: مَا الْخَمْرُ؟ فَيُقَالُ: هُوَ شَرَابٌ مُسْكِرٌ مُعْتَصَرٌ مِنْ الْعِنَبِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ كَاشِفًا عَنْ حَقِيقَتِهِ ثُمَّ يَتْبَعُهُ لَا مَحَالَةَ التَّمْيِيزُ. وَاسْمُ الْحَدِّ فِي الْعَادَةِ. يُطْلَقُ عَلَى هَذِهِ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ بِالِاشْتِرَاكِ، فَلْنَخْتَرِعْ لِكُلِّ

وَاحِدٍ اسْمًا وَلْنُسَمِّ الْأَوَّلَ حَدًّا لَفْظِيًّا إذْ السَّائِلُ لَا يَطْلُبُ بِهِ إلَّا شَرْحَ اللَّفْظِ، وَلْنُسَمِّ الثَّانِي حَدًّا رَسْمِيًّا إذْ هُوَ مَطْلَبٌ مُرْتَسِمٌ بِالْعِلْمِ غَيْرُ مُتَشَوِّفٍ إلَى دَرَكِ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ، وَلِنُسَمِّ الثَّالِثَ حَدًّا حَقِيقِيًّا إذْ مَطْلَبُ الطَّالِبِ مِنْهُ دَرَكُ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ، وَهَذَا الثَّالِثُ شَرْطُهُ أَنْ يَشْتَمِلَ عَلَى جَمِيعِ ذَاتِيَّاتِ الشَّيْءِ، فَإِنَّهُ لَوْ سُئِلَ عَنْ حَدِّ الْحَيَوَانِ فَقِيلَ جِسْمٌ حَسَّاسٌ فَقَدْ جِيءَ بِوَصْفٍ ذَاتِيٍّ، وَهُوَ كَافٍ فِي الْجَمْعِ وَالْمَنْعِ وَلَكِنَّهُ نَاقِصٌ بَلْ حَقُّهُ أَنْ يُضَافَ إلَيْهِ الْمُتَحَرِّكُ بِالْإِرَادَةِ، فَإِنَّ كُنْهَ حَقِيقَةِ الْحَيَوَانِ يُدْرِكُهُ الْعَقْلُ بِمَجْمُوعِ أَمْرَيْنِ، فَأَمَّا الْمُرْتَسِمُ الطَّالِبُ لِلتَّمْيِيزِ فَيَكْتَفِي بِالْحَسَّاسِ وَإِنْ لَمْ يُقَلْ إنَّهُ جِسْمٌ أَيْضًا. الْمَطْلَبُ الثَّالِثُ: مَا يُطْلَبُ بِصِيغَةِ " لَمْ ". وَهُوَ سُؤَالٌ عَنْ الْعِلَّةِ وَجَوَابُهُ بِالْبُرْهَانِ عَلَى مَا سَيَأْتِي حَقِيقَتُهُ الْمَطْلَبُ الرَّابِعُ: مَا يُطْلَبُ بِصِيغَةِ " أَيُّ ". وَهُوَ الَّذِي يُطْلَبُ بِهِ تَمْيِيزُ مَا عُرِفَ جُمْلَتُهُ عَمَّا اخْتَلَطَ بِهِ، كَمَا إذَا قِيلَ: مَا الشَّجَرُ؟ فَقِيلَ: إنَّهُ جِسْمٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: أَيُّ جِسْمٍ هُوَ؟ فَيَقُولُ: نَامٍ. وَأَمَّا مَطْلَبُ (كَيْفَ) وَ (أَيْنَ) وَ (مَتَى) وَسَائِرُ صِيَغِ السُّؤَالِ فَدَاخِلٌ فِي مَطْلَبِ " هَلْ " وَالْمَطْلُوبُ بِهِ صِفَةُ الْوُجُودِ. الْقَانُونُ الثَّانِي: أَنَّ الْحَادَّ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا بِالْفَرْقِ بَيْنَ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَاللَّازِمَةِ وَالْعَرَضِيَّةِ، وَذَلِكَ غَامِضٌ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ فَنَقُولُ: الْمَعْنَى إذَا نُسِبَ إلَى الْمَعْنَى الَّذِي يُمْكِنُ وَصْفُهُ بِهِ وُجِدَ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْمَوْصُوفِ، إمَّا ذَاتِيًّا لَهُ وَيُسَمَّى صِفَةَ نَفْسٍ، وَإِمَّا لَازِمًا وَيُسَمَّى تَابِعًا، وَإِمَّا عَارِضًا لَا يَبْعُدُ أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْهُ فِي الْوُجُودِ، وَلَا بُدَّ مِنْ إتْقَانِ هَذِهِ النِّسْبَةِ فَإِنَّهَا نَافِعَةٌ فِي الْحَدِّ وَالْبُرْهَانِ جَمِيعًا. أَمَّا الذَّاتِيُّ أَعْنِي بِهِ كُلَّ دَاخِلٍ فِي مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتِهِ دُخُولًا لَا يُتَصَوَّرُ فَهْمُ الْمَعْنَى دُونَ فَهْمِهِ، وَذَلِكَ كَاللَّوْنِيَّةِ لِلسَّوَادِ وَالْجِسْمِيَّةِ لِلْفَرَسِ وَالشَّجَرِ فَإِنَّ مَنْ فَهِمَ الشَّجَرَ فَقَدْ فَهِمَ جِسْمًا مَخْصُوصًا فَتَكُونُ الْجِسْمِيَّةُ دَاخِلَةً فِي ذَاتِ الشَّجَرِيَّةِ دُخُولًا بِهِ قِوَامُهَا فِي الْوُجُودِ وَالْعَقْلِ لَوْ قُدِّرَ عَدَمُهَا لَبَطَلَ وُجُودُ الشَّجَرِيَّةِ، وَكَذَا الْفَرَسُ، وَلَوْ قُدِّرَ خُرُوجُهَا عَنْ الذِّهْنِ لَبَطَلَ فَهْمُ الشَّجَرِ وَالْفَرَسِ مِنْ الذِّهْنِ وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى فَلَا بُدَّ مِنْ إدْرَاجِهِ فِي حَدِّ الشَّيْءِ، فَمَنْ يَحُدُّ النَّبَاتَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ: " جِسْمٌ نَامٍ " لَا مَحَالَةَ. وَأَمَّا اللَّازِمُ فَمَا لَا يُفَارِقُ الذَّاتَ أَلْبَتَّةَ وَلَكِنَّ فَهْمَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَاهِيَّةِ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَيْهِ، كَوُقُوعِ الظِّلِّ لِشَخْصِ الْفَرَسِ وَالنَّبَاتِ وَالشَّجَرِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ لَازِمٌ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُفَارِقَ وُجُودَهُ عِنْدَ مَنْ يُعَبِّرُ عَنْ مَجَارِي الْعَادَاتِ بِاللُّزُومِ وَيَعْتَقِدُهُ وَلَكِنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ الذَّاتِ وَلَوَازِمِهِ وَلَيْسَ بِذَاتِيٍّ لَهُ، وَأَعْنِي بِهِ أَنَّ فَهْمَ حَقِيقَتِهِ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى فَهْمِ ذَلِكَ لَهُ إذْ الْغَافِلُ عَنْ وُقُوعِ الظِّلِّ يَفْهَمُ الْفَرَسَ وَالنَّبَاتَ بَلْ يَفْهَمُ الْجِسْمَ الَّذِي هُوَ أَعَمُّ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ يَخْطِرْ بِبَالِهِ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ كَوْنُ الْأَرْضِ مَخْلُوقَةً وَصْفٌ لَازِمٌ لِلْأَرْضِ لَا يُتَصَوَّرُ مُفَارَقَتُهُ لَهُ، وَلَكِنْ فَهْمُ الْأَرْضِ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى فَهْمِ كَوْنِهَا مَخْلُوقَةً فَقَدْ يُدْرِكُ حَقِيقَةَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ بَعْدُ أَنَّهُمَا مَخْلُوقَتَانِ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَوَّلًا حَقِيقَةَ الْجِسْمِ ثُمَّ نَطْلُبُ بِالْبُرْهَانِ كَوْنَهُ مَخْلُوقًا، وَلَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْلَمَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاءَ مَا لَمْ نَعْلَمْ الْجِسْمَ. وَأَمَّا الْعَارِضُ فَأَعْنِي بِهِ مَا لَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ يُلَازِمَ بَلْ يُتَصَوَّرُ مُفَارَقَتُهُ إمَّا

سَرِيعًا كَحُمْرَةِ الْخَجَلِ أَوْ بَطِيئًا كَصُفْرَةِ الذَّهَبِ وَزُرْقَةِ الْعَيْنِ وَسَوَادِ الزِّنْجِيِّ، وَرُبَّمَا لَا يَزُولُ فِي الْوُجُودِ كَزُرْقَةِ الْعَيْنِ وَلَكِنْ يُمْكِنُ رَفْعُهُ فِي الْوَهْمِ. وَأَمَّا كَوْنُ الْأَرْضِ مَخْلُوقَةً وَكَوْنُ الْجِسْمِ الْكَثِيفِ ذَا ظِلٍّ مَانِعٍ نُورَ الشَّمْسِ فَإِنَّهُ مُلَازِمٌ لَا تُتَصَوَّرُ مُفَارَقَتُهُ. وَمِنْ مُثَارَاتِ الْأَغَالِيطِ الْكَثِيرَةِ الْتِبَاسُ اللَّازِمِ التَّابِعِ بِالذَّاتِيِّ فَإِنَّهُمَا مُشْتَرِكَانِ فِي اسْتِحَالَةِ الْمُفَارَقَةِ، وَاسْتِقْصَاءُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ الَّتِي هِيَ كَالْعِلَاوَةِ عَلَى هَذَا الْعِلْمِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَقَدْ اسْتَقْصَيْنَاهُ فِي كِتَابِ مِعْيَارِ الْعِلْمِ ". فَإِذَا فَهِمْتَ الْفَرْقَ بَيْنَ الذَّاتِيِّ وَاللَّازِمِ فَلَا تُورَدُ فِي الْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ إلَّا الذَّاتِيَّاتُ، وَيَنْبَغِي أَنْ تُورَدَ جَمِيعُ الذَّاتِيَّاتِ حَتَّى يُتَصَوَّرَ بِهَا كُنْهُ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ وَمَاهِيَّتُهُ، وَأَعْنِي بِالْمَاهِيَّةِ مَا يَصْلُحُ أَنْ يُقَالَ فِي جَوَابِ " مَا هُوَ " فَإِنَّ الْقَائِلَ: مَا هُوَ؟ يَطْلُبُ حَقِيقَةَ الشَّيْءِ فَلَا يَدْخُلُ فِي جَوَابِهِ إلَّا الذَّاتِيُّ. وَالذَّاتِيُّ يَنْقَسِمُ إلَى عَامٍّ وَيُسَمَّى جِنْسًا وَإِلَى خَاصٍّ وَيُسَمَّى نَوْعًا، فَإِنْ كَانَ الذَّاتِيُّ الْعَامُّ لَا أَعَمَّ مِنْهُ سُمِّيَ جِنْسَ الْأَجْنَاسِ، وَإِنْ كَانَ الذَّاتِيُّ الْخَاصُّ لَا أَخَصَّ مِنْهُ سُمِّيَ نَوْعَ الْأَنْوَاعِ وَهُوَ اصْطِلَاحُ الْمَنْطِقِيِّينَ وَلْنُصَالِحْهُمْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ وَهُوَ كَالْمُسْتَعْمَلِ أَيْضًا فِي عُلُومِنَا، وَمِثَالُهُ أَنَّا إذَا قُلْنَا: الْجَوْهَرُ يَنْقَسِمُ إلَى جِسْمٍ وَغَيْرِ جِسْمٍ وَالْجِسْمُ يَنْقَسِمُ إلَى نَامٍ وَغَيْرِ نَامٍ وَالنَّامِي يَنْقَسِمُ إلَى حَيَوَانٍ وَغَيْرِ حَيَوَانٍ وَالْحَيَوَانُ يَنْقَسِمُ إلَى عَاقِلٍ وَهُوَ الْإِنْسَانُ وَغَيْرِ عَاقِلٍ، فَالْجَوْهَرُ جِنْسُ الْأَجْنَاسِ إذْ لَا أَعَمَّ مِنْهُ وَالْإِنْسَانُ نَوْعُ الْأَنْوَاعِ إذْ لَا أَخَصَّ مِنْهُ وَالنَّامِي نَوْعٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْجِسْمِ لِأَنَّهُ أَخَصُّ مِنْهُ وَجِنْسٌ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْحَيَوَانِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الْحَيَوَانُ بَيْنَ النَّامِي الْأَعَمِّ وَالْإِنْسَانِ الْأَخَصِّ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ لَا يَكُونُ شَيْءٌ أَعَمَّ مِنْ الْجَوْهَرِ وَكَوْنُهُ مَوْجُودًا أَعَمُّ مِنْهُ؟ وَكَيْفَ لَا يَكُونُ شَيْءٌ أَخَصَّ مِنْ الْإِنْسَانِ وَقَوْلُنَا شَيْخٌ وَصَبِيٌّ وَطَوِيلٌ وَقَصِيرٌ وَكَاتِبٌ وَخَيَّاطٌ أَخَصُّ مِنْهُ؟ قُلْنَا: لَمْ نَعْنِ فِي هَذَا الِاصْطِلَاحِ بِالْجِنْسِ، الْأَعَمَّ فَقَطْ بَلْ عَنَيْنَا الْأَعَمَّ الَّذِي هُوَ ذَاتِيٌّ لِلشَّيْءِ أَيْ دَاخِلٌ فِي جَوَابِ " مَا هُوَ " بِحَيْثُ لَوْ بَطَلَ عَنْ الذِّهْنِ التَّصْدِيقُ بِثُبُوتِهِ بَطَلَ الْمَحْدُودُ وَحَقِيقَتُهُ عَنْ الذِّهْنِ وَخَرَجَ عَنْ كَوْنِهِ مَفْهُومًا لِلْعَقْلِ وَعَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ فَالْمَوْجُودُ لَا يَدْخُلُ فِي الْمَاهِيَّةِ إذْ بُطْلَانُهُ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمَاهِيَّةِ عَنْ الذِّهْنِ. بَيَانُهُ إذَا قَالَ الْقَائِلُ: مَا حَدُّ الْمُثَلَّثِ؟ فَقُلْنَا شَكْلٌ يُحِيطُ بِهِ ثَلَاثَةُ أَضْلَاعٍ، أَوْ قَالَ: مَا حَدُّ الْمُسَبَّعِ؟ فَقُلْنَا شَكْلٌ يُحِيطُ بِهِ سَبْعَةُ أَضْلَاعٍ فَهِمَ السَّائِلُ حَدَّ الْمُسَبَّعِ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْمُسَبَّعَ مَوْجُودٌ فِي الْعَالَمِ أَصْلًا فَبُطْلَانُ الْعِلْمِ بِوُجُودِهِ لَا يُبْطِلُ عَنْ ذِهْنِهِ فَهْمَ حَقِيقَةِ الْمُسَبَّعِ، وَلَوْ بَطَلَ عَنْ ذِهْنِهِ الشَّكْلُ لَبَطَلَ الْمُسَبَّعُ وَلَمْ يَبْقَ مَفْهُومًا عِنْدَهُ. وَأَمَّا مَا هُوَ أَخَصُّ مِنْ الْإِنْسَانِ مِنْ كَوْنِهِ طَوِيلًا أَوْ قَصِيرًا أَوْ شَيْخًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ كَاتِبًا أَوْ أَبْيَضَ أَوْ مُحْتَرِفًا فَشَيْءٌ مِنْهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْمَاهِيَّةِ إذْ لَا يَتَغَيَّرُ جَوَابُ الْمَاهِيَّةِ بِتَغَيُّرِهِ، فَإِذَا قِيلَ لَنَا: مَا هَذَا؟ فَقُلْنَا إنْسَانٌ وَكَانَ صَغِيرًا فَكَبِرَ أَوْ قَصِيرًا فَطَالَ فَسُئِلْنَا مَرَّةً أُخْرَى: مَا هُوَ؟ لَسْتُ أَقُولُ مَنْ هُوَ لَكَانَ الْجَوَابُ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ. وَلَوْ أُشِيرَ إلَى مَا يَنْفَصِلُ مِنْ الْإِحْلِيلِ عِنْدَ الْوِقَاعِ وَقِيلَ: مَا هُوَ؟ لَقُلْنَا نُطْفَةٌ، فَإِذَا صَارَ جَنِينًا ثُمَّ مَوْلُودًا فَقِيلَ: مَا هُوَ؟ تَغَيَّرَ الْجَوَابُ وَلَمْ يَحْسُنْ أَنْ يُقَالَ نُطْفَةٌ بَلْ يُقَالَ إنْسَانٌ. وَكَذَلِكَ الْمَاءُ إذَا سَخِنَ فَقِيلَ: مَا هُوَ؟ قُلْنَا مَاءٌ، كَمَا فِي حَالَةِ الْبُرُودَةِ وَلَوْ اسْتَحَالَ بِالنَّارِ بُخَارًا ثُمَّ هَوَاءً ثُمَّ قِيلَ: مَا هُوَ؟ تَغَيَّرَ الْجَوَابُ. فَإِذَا انْقَسَمَتْ الصِّفَاتُ إلَى مَا يَتَبَدَّلُ الْجَوَابُ عَنْ الْمَاهِيَّةِ بِتَبَدُّلِهَا وَإِلَى مَا لَا يَتَبَدَّلُ فَلْنَذْكُرْ فِي الْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ مَا يَدْخُلُ فِي الْمَاهِيَّةِ. وَأَمَّا الْحَدُّ اللَّفْظِيُّ وَالرَّسْمِيُّ

فَمُؤْنَتُهُمَا خَفِيفَةٌ إذْ طَالِبهُمَا قَانِعٌ بِتَبْدِيلِ لَفْظِ الْعُقَارِ بِالْخَمْرِ وَتَبْدِيلِ لَفْظِ الْعِلْمِ بِالْمَعْرِفَةِ أَوْ بِمَا هُوَ وَصْفٌ عَرَضِيٌّ جَامِعٌ مَانِعٌ، وَإِنَّمَا الْعَوِيصُ الْمُتَعَذِّرُ هُوَ الْحَدُّ الْحَقِيقِيُّ وَهُوَ الْكَاشِفُ عَنْ مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ لَا غَيْرَ الْقَانُونُ الثَّالِثُ: أَنَّ مَا وَقَعَ السُّؤَالُ عَنْ مَاهِيَّتِهِ وَأَرَدْتَ أَنْ تَحُدَّهُ حَدًّا حَقِيقِيًّا فَعَلَيْكَ فِيهِ وَظَائِفُ لَا يَكُونُ الْحَدُّ حَقِيقِيًّا إلَّا بِهَا، فَإِنْ تَرَكْتَهَا سَمَّيْنَاهُ رَسْمِيًّا أَوْ لَفْظِيًّا وَيَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُعْرِبًا عَنْ حَقِيقَةِ الشَّيْءِ وَمُصَوِّرًا لِكُنْهِ مَعْنَاهُ فِي النَّفْسِ. الْأُولَى: أَنْ تُجْمَعَ أَجْزَاءُ الْحَدِّ مِنْ الْجِنْسِ وَالْفُصُولِ، فَإِذَا قَالَ لَكَ مُشِيرًا إلَى مَا يَنْبُتُ مِنْ الْأَرْضِ: مَا هُوَ؟ فَلَا بُدَّ أَنْ تَقُولَ: جِسْمٌ، لَكِنْ لَوْ اقْتَصَرْتَ عَلَيْهِ لَبَطَلَ عَلَيْكَ بِالْحَجَرِ فَتَحْتَاجُ إلَى الزِّيَادَةِ فَتَقُولُ: نَامٍ، فَتَحْتَرِزُ بِهِ عَمَّا لَا يَنْمُو، فَهَذَا الِاحْتِرَازُ يُسَمَّى فَصْلًا أَيْ فَصَلْتَ الْمَحْدُودَ عَنْ غَيْرِهِ. الثَّانِيَةُ: أَنْ تَذْكُرَ جَمِيعَ ذَاتِيَّاتِهِ وَإِنْ كَانَتْ أَلْفًا وَلَا تُبَالِي بِالتَّطْوِيلِ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ تُقَدِّمَ الْأَعَمَّ عَلَى الْأَخَصِّ فَلَا تَقُولُ نَامٍ جِسْمٌ بَلْ بِالْعَكْسِ. وَهَذِهِ لَوْ تَرَكْتَهَا لَتَشَوَّشَ النَّظْمُ وَلَمْ تَخْرُجْ الْحَقِيقَةُ عَنْ كَوْنِهَا مَذْكُورَةً مَعَ اضْطِرَابِ اللَّفْظِ، فَالْإِنْكَارُ عَلَيْكَ فِي هَذَا أَقَلُّ مِمَّا فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى الْجِسْمِ. الثَّالِثَةُ: أَنَّكَ إذَا وَجَدَتْ الْجِنْسَ الْقَرِيبَ فَلَا تَذْكُرْ الْبَعِيدَ مَعَهُ فَتَكُونَ مُكَرِّرًا، كَمَا تَقُولُ: مَائِعٌ شَرَابٌ، أَوْ تَقْتَصِرُ عَلَى الْبَعِيدِ فَتَكُونُ مُبْعِدًا، كَمَا تَقُولُ فِي حَدِّ الْخَمْرِ، جِسْمٌ مُسْكِرٌ مَأْخُوذٌ مِنْ الْعِنَبِ. وَإِذَا ذَكَرْتَ هَذَا فَقَدْ ذَكَرْتَ مَا هُوَ ذَاتِيٌّ وَمُطَّرِدٌ وَمُنْعَكِسٌ لَكِنَّهُ مُخْتَلٌّ قَاصِرٌ عَنْ تَصْوِيرِ كُنْهِ حَقِيقَةِ الْخَمْرِ، بَلْ لَوْ قُلْتَ: مَائِعٌ مُسْكِرٌ، كَانَ أَقْرَبَ مِنْ الْجِسْمِ، وَهُوَ أَيْضًا ضَعِيفٌ بَلْ يَنْبَغِي أَنْ تَقُولَ: شَرَابٌ مُسْكِرٌ، فَإِنَّهُ الْأَقْرَبُ الْأَخَصُّ وَلَا تَجِدُ بَعْدَهُ جِنْسًا أَخَصَّ مِنْهُ، فَإِذَا ذَكَرْتَ الْجِنْسَ فَاطْلُبْ بَعْدَهُ الْفَصْلَ إذْ الشَّرَابُ يَتَنَاوَلُ سَائِرَ الْأَشْرِبَةِ فَاجْتَهِدْ أَنْ تَفْصِلَ بِالذَّاتِيَّاتِ إلَّا إذَا عَسُرَ عَلَيْكَ ذَلِكَ وَهُوَ كَذَلِكَ عَسِيرٌ فِي أَكْثِرْ الْحُدُودِ فَاعْدِلْ بَعْدَ ذِكْرِ الْجِنْسِ إلَى اللَّوَازِمِ وَاجْتَهِدْ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرْتَهُ مِنْ اللَّوَازِمِ الظَّاهِرَةِ الْمَعْرُوفَةِ فَإِنَّ الْخَفِيَّ لَا يُعْرَفُ، كَمَا إذَا قِيلَ: مَا الْأَسَدُ؟ فَقُلْتَ: " سَبُعٌ أَبْخَرُ " لَيَتَمَيَّزَ بِالْبَخَرِ عَنْ الْكَلْبِ، فَإِنَّ الْبَخَرَ مِنْ خَوَاصِّ الْأَسَدِ لَكِنَّهُ خَفِيٌّ، وَلَوْ قُلْتَ: سَبُعٌ شُجَاعٌ عَرِيضُ الْأَعَالِي، لَكَانَتْ هَذِهِ اللَّوَازِمُ وَالْأَعْرَاضُ أَقْرَبُ إلَى الْمَقْصُودِ لِأَنَّهَا أَجْلَى. وَأَكْثَرُ مَا تَرَى فِي الْكُتُبِ مِنْ الْحُدُودِ رَسْمِيَّةً إذْ الْحَقِيقَةُ عَسِرَةٌ جِدًّا، وَقَدْ يَسْهُلُ دَرَكُ بَعْضِ الذَّاتِيَّاتِ وَيَعْسُرُ بَعْضُهَا فَإِنَّ دَرَكَ جَمِيعِ الذَّاتِيَّاتِ حَتَّى لَا يَشِذَّ وَاحِدٌ مِنْهَا عَسِرٌ. وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ الذَّاتِيِّ وَاللَّازِمِ عَسِرٌ، وَرِعَايَةُ التَّرْتِيبِ حَتَّى لَا يُبْتَدَأَ بِالْأَخَصِّ قَبْلَ الْأَعَمِّ عَسِرٌ وَطَلَبُ الْجِنْسِ الْأَقْرَبِ عَسِرٌ، فَإِنَّكَ رُبَّمَا تَقُولُ فِي الْأَسَدِ إنَّهُ حَيَوَانٌ شُجَاعٌ وَلَا يَحْضُرُكَ لَفْظُ السَّبُعِ فَتَجْمَعُ أَنْوَاعًا مِنْ الْعُسْرِ، وَأَحْسَنُ الرَّسْمِيَّاتِ مَا وُضِعَ فِيهِ الْجِنْسُ الْأَقْرَبُ وَتُمِّمَ بِالْخَوَاصِّ الْمَشْهُورَةِ الْمَعْرُوفَةِ. الرَّابِعَةُ: أَنْ تَحْتَرِزَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْغَرِيبَةِ الْوَحْشِيَّةِ وَالْمَجَازِيَّةِ الْبَعِيدَةِ وَالْمُشْتَرَكَةِ الْمُتَرَدِّدَةِ، وَاجْتَهِدْ فِي الْإِيجَازِ مَا قَدَرْتَ وَفِي طَلَبِ اللَّفْظِ النَّصَّ مَا أَمْكَنَكَ، فَإِنْ أَعْوَزَكَ النَّصُّ وَافْتَقَرْتَ إلَى الِاسْتِعَارَةِ فَاطْلُبْ مِنْ الِاسْتِعَارَاتِ مَا هُوَ أَشَدُّ مُنَاسَبَةً لِلْغَرَضِ، وَاذْكُرْ مُرَادَكَ لِلسَّائِلِ فَمَا كُلُّ أَمْرٍ مَعْقُولٍ لَهُ عِبَارَةٌ صَرِيحَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْإِنْبَاءِ عَنْهُ. وَلَوْ طَوَّلَ مُطَوِّلٌ وَاسْتَعَارَ مُسْتَعِيرٌ أَوْ أَتَى بِلَفْظٍ مُشْتَرَكٍ وَعُرِفَ مُرَادُهُ بِالتَّصْرِيحِ أَوْ عُرِفَ بِالْقَرِينَةِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَعْظِمَ صَنِيعَهُ وَيُبَالِغَ فِي

ذَمِّهِ إنْ كَانَ قَدْ كَشَفَ عَنْ الْحَقِيقَةِ بِذِكْرِ جَمِيعِ الذَّاتِيَّاتِ فَإِنَّهُ الْمَقْصُودُ وَهَذِهِ الْمَزَايَا تَحْسِينَاتٌ وَتَزْيِينَاتٌ كَالْأَبَازِيرِ مَنْ الطَّعَامِ الْمَقْصُودِ، وَإِنَّمَا الْمُتَحَذْلِقُونَ يَسْتَعْظِمُونَ مِثْلَ ذَلِكَ وَيَسْتَنْكِرُونَهُ غَايَةَ الِاسْتِنْكَارِ لِمَيْلِ طِبَاعِهِمْ الْقَاصِرَةِ عَنْ الْمَقْصُودِ الْأَصْلِيِّ إلَى الْوَسَائِلِ وَالرُّسُومِ وَالتَّوَابِعِ حَتَّى رُبَّمَا أَنْكَرُوا قَوْلَ الْقَائِلِ فِي الْعِلْمِ: إنَّهُ الثِّقَةُ بِالْمَعْلُومِ أَوْ إدْرَاكُ الْمَعْلُومِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الثِّقَةَ مُتَرَدِّدَةٌ بَيْنَ الْأَمَانَةِ وَالْفَهْمِ، وَهَذَا هَوَسٌ لِأَنَّ الثِّقَةَ إذَا قُرِنَتْ بِالْمَعْلُومِ تَعَيَّنَ فِيهَا جِهَةُ الْفَهْمِ. وَمَنْ قَالَ: حَدُّ اللَّوْنِ مَا يُدْرَكُ بِحَاسَّةِ الْعَيْنِ عَلَى وَجْهِ كَذَا وَكَذَا، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْكَرَ مِنْ حَيْثُ إنَّ لَفْظَ الْعَيْنِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْمِيزَانِ وَالشَّمْسِ وَالْعُضْوِ الْبَاصِرِ لِأَنَّ قَرِينَةَ الْحَاسَّةِ أَذْهَبَتْ عَنْهُ الِاحْتِمَالَ وَحَصَلَ التَّفْهِيمُ الَّذِي هُوَ مَطْلُوبُ السُّؤَالِ، وَاللَّفْظُ غَيْرُ مُرَادٍ بِعَيْنِهِ فِي الْحَدِّ الْحَقِيقِيِّ إلَّا عِنْدَ الْمُرْتَسِمِ الَّذِي يَحُومُ حَوْلَ الْعِبَارَاتِ فَيَكُونُ اعْتِرَاضُهُ عَلَيْهَا وَشَغَفُهُ بِهَا. الْقَانُونُ الرَّابِعُ: فِي طَرِيقِ اقْتِنَاصِ الْحَدِّ. اعْلَمْ أَنَّ الْحَدَّ لَا يَحْصُلُ بِالْبُرْهَانِ، لِأَنَّا إذَا قُلْنَا فِي حَدِّ الْخَمْرِ: إنَّهُ شَرَابٌ مُسْكِرٌ، فَقِيلَ لَنَا: لِمَ؟ لَكَانَ مُحَالًا أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ بُرْهَانٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَنَا خَصْمٌ وَكُنَّا نَطْلُبُهُ فَكَيْفَ نَطْلُبُهُ بِالْبُرْهَانِ وَقَوْلُنَا: الْخَمْرُ شَرَابٌ مُسْكِرٌ، دَعْوَى هِيَ قَضِيَّةٌ مَحْكُومُهَا الْخَمْرُ وَحُكْمُهَا أَنَّهُ شَرَابٌ مُسْكِرٌ، وَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ إنْ كَانَتْ مَعْلُومَةً بِلَا وَسَطٍ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْبُرْهَانِ، وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ وَافْتَقَرَتْ إلَى وَسَطٍ وَهُوَ مَعْنَى الْبُرْهَانِ أَعْنِي طَلَبَ الْوَسَطِ كَانَ صِحَّةُ ذَلِكَ الْوَسَطِ لِلْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَصِحَّةُ الْحُكْمِ لِلْوَسَطِ كُلُّ وَاحِدٍ قَضِيَّةٌ وَاحِدَةٌ فَبِمَاذَا تُعْرَفُ صِحَّتُهَا؟ فَإِنْ اُحْتِيجَ إلَى وَسَطٍ تَدَاعَى إلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ، وَإِنْ وَقَفَ فِي مَوْضِعٍ بِغَيْرِ وَسَطٍ فَبِمَاذَا تُعْرَفُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ صِحَّتُهُ؟ فَلْيُتَّخَذْ ذَلِكَ طَرِيقًا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ، مِثَالُهُ لَوْ قُلْنَا فِي حَدِّ الْعِلْمِ: إنَّهُ الْمَعْرِفَةُ، فَقِيلَ: لِمَ؟ فَقُلْنَا: لِأَنَّ كُلَّ عِلْمٍ فَهُوَ اعْتِقَادٌ مَثَلًا وَكُلَّ اعْتِقَادٍ فَهُوَ مَعْرِفَةٌ فَكُلُّ عِلْمٍ إذَنْ مَعْرِفَةٌ لِأَنَّ هَذَا طَرِيقُ الْبُرْهَانِ عَلَى مَا سَيَأْتِي، فَيُقَالُ وَلِمَ قُلْتُمْ كُلُّ عِلْمٍ فَهُوَ اعْتِقَادٌ وَلِمَ قُلْتُمْ كُلُّ اعْتِقَادٍ فَهُوَ مَعْرِفَةٌ؟ فَيَصِيرُ السُّؤَالُ سُؤَالَيْنِ، وَهَكَذَا يَتَدَاعَى إلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ. بَلْ الطَّرِيقُ أَنَّ النِّزَاعَ إنْ كَانَ مَعَ خَصْمٍ أَنْ يُقَالَ: عَرَفْنَا صِحَّتَهُ بِاطِّرَادِهِ وَانْعِكَاسِهِ فَهُوَ الَّذِي يُسَلِّمُهُ الْخَصْمُ بِالضَّرُورَةِ. أَمَّا كَوْنُهُ مُعْرِبًا عَنْ تَمَامِ الْحَقِيقَةِ رُبَّمَا يُنَازَعَ فِيهِ وَلَا يُقَرُّ بِهِ، فَإِنْ مُنِعَ اطِّرَادُهُ وَانْعِكَاسُهُ عَلَى أَصْلِ نَفْسِهِ طَالَبْنَاهُ بِأَنْ يَذْكُرَ حَدَّ نَفْسِهِ وَقَابَلْنَا أَحَدَ الْحَدَّيْنِ بِالْآخَرِ وَعَرَفْنَا مَا فِيهِ التَّفَاوُتُ مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ وَعَرَفْنَا الْوَصْفَ الَّذِي فِيهِ يَتَفَاوَتَانِ وَجَرَّدْنَا النَّظَرَ إلَى ذَلِكَ الْوَصْفِ وَأَبْطَلْنَاهُ بِطَرِيقَةٍ أَوْ أَثْبَتْنَاهُ بِطَرِيقَةٍ، مِثَالُهُ إذَا قُلْنَا: الْمَغْصُوبُ مَضْمُونٌ وَوَلَدُ الْمَغْصُوبِ مَغْصُوبٌ فَكَانَ مَضْمُونًا فَقَالُوا: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ وَلَدَ الْمَغْصُوبِ مَغْصُوبٌ، قُلْنَا: حَدُّ الْغَصْبِ إثْبَاتُ الْيَدِ الْعَادِيَةِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ. وَقَدْ وُجِدَ فَرُبَّمَا مُنِعَ كَوْنُ الْيَدِ عَادِيَةً وَكَوْنُهُ إثْبَاتًا، بَلْ نَقُولُ: هَذَا ثُبُوتٌ وَلَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ غَرَضِنَا بَلْ رُبَّمَا قَالَ: نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا مَوْجُودٌ فِي وَلَدِ الْمَغْصُوبِ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا حَدُّ الْغَصْبِ فَهَذَا لَا يُمْكِنْ إقَامَةُ بِرِهَانٍ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّا نَقُولُ: هُوَ مُطَّرِدٌ مُنْعَكِسٌ فَمَا الْحَدُّ عِنْدَكَ؟ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ حَتَّى نَنْظُرَ إلَى مَوْضِعِ التَّفَاوُتِ، فَيَقُولُ: بَلْ حَدُّ الْغَصْبِ إثْبَاتُ الْيَدِ الْمُبْطِلَةِ الْمُزِيلَةِ لِلْيَدِ الْمُحِقَّةِ، فَنَقُولُ: قَدْ زِدْتَ وَصْفًا وَهُوَ الْإِزَالَةُ. فَلْنَنْظُرْ هَلْ يُمْكِنُنَا أَنْ نَقْدِرَ عَلَى اعْتِرَافِ الْخَصْمِ بِثُبُوتِ الْغَصْبِ مَعَ عَدَمِ هَذَا الْوَصْفِ، فَإِنْ قَدَرْنَا عَلَيْهِ بَانَ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ مَحْذُوفَةٌ وَذَلِكَ بِأَنْ نَقُولَ: الْغَاصِبُ مِنْ الْغَصْبِ

يُضْمَنُ لِلْمَالِكِ وَقَدْ أَثْبَتَ الْيَدَ الْمُبْطِلَةَ وَلَمْ يُزِلْ الْمُحِقَّةَ فَإِنَّهَا كَانَتْ زَائِلَةً، فَهَذَا طَرِيقُ قَطْعِ النِّزَاعِ مَعَ الْمُنَاظِرِ. وَأَمَّا النَّاظِرُ مَعَ نَفْسِهِ إذَا تَحَرَّرَتْ لَهُ حَقِيقَةُ الشَّيْءِ وَتَخَلَّصَ لَهُ اللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى مَا تَحَرَّرَ فِي مَذْهَبِهِ عَلِمَ أَنَّهُ وَاجِدٌ لِحَدٍّ فَلَا يُعَانِدُ نَفْسَهُ. الْقَانُونُ الْخَامِسُ: فِي حَصْرِ مَدَاخِلِ الْخَلَلِ فِي الْحُدُودِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ، فَإِنَّهُ تَارَةً يَدْخُلُ مِنْ جِهَةِ الْجِنْسِ وَتَارَةً مِنْ جِهَةِ الْفَصْلِ وَتَارَةً مِنْ جِهَةِ أَمْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا. أَمَّا الْخَلَلُ مِنْ جِهَةِ الْجِنْسِ فَأَنْ يُؤْخَذَ الْفَصْلُ بَدَلُهُ، كَمَا يُقَالُ فِي الْعِشْقِ: إنَّهُ إفْرَاطُ الْمَحَبَّةِ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إنَّهُ الْمَحَبَّةُ الْمُفْرِطَةُ، فَالْإِفْرَاطُ يَفْصِلُهَا عَنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ الْمَحَبَّةِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُؤْخَذَ الْمَحَلُّ بَدَلَ الْجِنْسِ كَقَوْلِكَ فِي الْكُرْسِيِّ: إنَّهُ خَشَبٌ يُجْلَسُ عَلَيْهِ، وَفِي السَّيْفِ: إنَّهُ حَدِيدٌ يُقْطَعُ بِهِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ لِلسَّيْفِ: إنَّهُ آلَةٌ صِنَاعِيَّةٌ مِنْ حَدِيدٍ مُسْتَطِيلَةٍ عَرْضُهَا كَذَا وَيُقْطَعُ بِهَا كَذَا، فَالْآلَةُ جِنْسٌ وَالْحَدِيدُ مَحَلُّ الصُّورَةِ لَا جِنْسٌ. وَأَبْعَدُ مِنْهُ أَنْ يُؤْخَذَ بَدَلُ الْجِنْسِ مَا كَانَ مَوْجُودًا وَالْآنَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ، كَقَوْلِكَ لِلرَّمَادِ: إنَّهُ خَشَبٌ مُحْتَرِقٌ، وَلِلْوَلَدِ: إنَّهُ نُطْفَةٌ مُسْتَحِيلَةٌ، فَإِنَّ الْحَدِيدَ مَوْجُودٌ فِي السَّيْفِ فِي الْحَالِ وَالنُّطْفَةُ وَالْخَشَبُ غَيْرُ مَوْجُودَيْنِ فِي الْوَلَدِ وَالرَّمَادِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُؤْخَذَ الْجُزْءُ بَدَلَ الْجِنْسِ كَمَا يُقَالُ فِي حَدِّ الْعَشَرَةِ: إنَّهَا خَمْسَةٌ وَخَمْسَةٌ وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ تُوضَعَ الْقُدْرَةُ مَوْضِعَ الْمَقْدُورِ كَمَا يُقَالُ حَدُّ الْعَفِيفِ هُوَ الَّذِي يَقْوَى عَلَى اجْتِنَابِ اللَّذَّاتِ الشَّهْوَانِيَّةِ وَهُوَ فَاسِدٌ بَلْ هُوَ الَّذِي يُتْرَكُ وَإِلَّا فَالْفَاسِقُ يَقْوَى عَلَى التَّرْكِ وَلَا يَتْرُكُ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَضَعَ اللَّوَازِمَ الَّتِي لَيْسَتْ بِذَاتِيَّةٍ بَدَلَ الْجِنْسِ، كَالْوَاحِدِ وَالْمَوْجُودِ إذَا أَخَذْتَهُ فِي حَدِّ الشَّمْسِ أَوْ الْأَرْضِ مَثَلًا. وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَضَعَ النَّوْعَ مَكَانَ الْجِنْسِ كَقَوْلِكَ: الشَّرُّ هُوَ ظُلْمُ النَّاسِ، وَالظُّلْمُ نَوْعٌ مِنْ الشَّرِّ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْفَصْلِ فَأَنْ يَأْخُذَ اللَّوَازِمَ وَالْعَرَضِيَّاتِ فِي الِاحْتِرَازِ بَدَلَ الذَّاتِيَّاتِ وَأَنْ لَا يُورِدَ جَمِيعَ الْفُصُولِ. وَأَمَّا الْأُمُورُ الْمُشْتَرَكَةُ فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُحَدَّ الشَّيْءُ بِمَا هُوَ أَخْفَى مِنْهُ كَقَوْلِ الْقَائِلِ حَدُّ الْحَادِثِ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْقُدْرَةُ. وَمِنْ ذَلِكَ حَدُّ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ مُسَاوٍ لَهُ فِي الْخَفَاءِ، كَقَوْلِكَ: الْعِلْمُ مَا يُعْلَمُ بِهِ أَوْ مَا يَكُونُ الذَّاتُ بِهِ عَالِمًا. وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُعَرَّفَ الضِّدُّ بِالضِّدِّ فَيَقُولُ: حَدُّ الْعِلْمِ مَا لَيْسَ بِظَنٍّ وَلَا جَهْلٍ، وَهَكَذَا حَتَّى يَحْصُرَ الْأَضْدَادَ، وَحَدُّ الزَّوْجِ مَا لَيْسَ بِفَرْدٍ، ثُمَّ يُمْكِنُكَ أَنْ تَقُولَ فِي حَدِّ الْفَرْدِ: مَا لَيْسَ بِزَوْجٍ، فَيَدُورُ الْأَمْرُ وَلَا يَحْصُلُ لَهُ بَيَانٌ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَأْخُذَ الْمُضَافُ فِي حَدِّ الْمُضَافِ وَهُمَا مُتَكَافِئَانِ فِي الْإِضَافَةِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ حَدُّ الْأَبِ مَنْ لَهُ ابْنٌ، ثُمَّ لَا يَعْجَزُ أَنْ يَقُولَ حَدُّ الِابْنِ مَنْ لَهُ أَبٌ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: الْأَبُ حَيَوَانٌ تَوَلَّدَ مِنْ نُطْفَتِهِ حَيَوَانٌ آخَرُ هُوَ مِنْ نَوْعِهِ، فَهُوَ أَبٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ، وَلَا يُحِيلُ عَلَى الِابْنِ فَإِنَّهُمَا فِي الْجَهْلِ وَالْمَعْرِفَةِ يَتَلَازَمَانِ. وَمَنْ يَقُولُ فِي حَدُّ الشَّمْسِ: إنَّهُ كَوْكَبٌ يَطْلُعُ نَهَارًا، فَيُقَالُ وَمَا حَدُّ النَّهَارِ؟ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ: النَّهَارُ زَمَانٌ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى غُرُوبِهَا، إنْ أَرَادَ الْحَدَّ الصَّحِيحَ، وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ لَا يُمْكِنُ إحْصَاؤُهَا. الْقَانُونُ السَّادِسُ: فِي أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لَا تَرْكِيبَ فِيهِ أَلْبَتَّةَ لَا يُمْكِنُ حَدُّهُ إلَّا بِطَرِيقِ

شَرْحِ اللَّفْظِ أَوْ بِطَرِيقِ الرَّسْمِ، وَأَمَّا الْحَدُّ الْحَقِيقِيُّ فَلَا، وَالْمَعْنَى الْمُفْرَدُ مِثْلُ الْمَوْجُودِ. فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَا حَدُّ الْمَوْجُودِ؟ فَغَايَتُكَ أَنْ تَقُولَ: هُوَ الشَّيْءُ أَوْ الثَّابِتُ، فَتَكُونَ قَدْ أَبْدَلْتَ اسْمًا بِاسْمٍ مُرَادِفٍ لَهُ رُبَّمَا يَتَسَاوَيَانِ فِي التَّفْهِيمِ. وَرُبَّمَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَخْفَى فِي مَوْضِعِ اللِّسَانِ كَمَنْ يَقُولُ: مَا الْعُقَارُ؟ فَيُقَالُ: الْخَمْرُ، وَمَا الْغَضَنْفَرُ؟ فَيُقَالُ الْأَسَدُ. وَهَذَا أَيْضًا إنَّمَا يَحْسُنُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ فِي الْجَوَابِ أَشْهَرَ مِنْ الْمَذْكُورِ فِي السُّؤَالِ ثُمَّ لَا يَكُونُ إلَّا شَرْحًا لِلَّفْظِ، وَإِلَّا فَمَنْ يَطْلُبُ تَلْخِيصَ ذَاتِ الْأَسَدِ فَلَا يَتَخَلَّصُ لَهُ ذَلِكَ فِي عَقْلِهِ إلَّا بِأَنْ يَقُولَ: هُوَ سَبُعٌ مِنْ صِفَتِهِ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَأَمَّا تَكْرَارُ الْأَلْفَاظِ الْمُتَرَادِفَةِ فَلَا يُغْنِيهِ. وَلَوْ قُلْتَ: حَدُّ الْمَوْجُودِ أَنَّهُ الْمَعْلُومُ أَوْ الْمَذْكُورُ، وَقَيَّدْتَهُ بِقَيْدٍ احْتَرَزْتَ بِهِ عَنْ الْمَعْدُومِ، كُنْتَ ذَكَرْتَ شَيْئًا مِنْ تَوَابِعِهِ وَلَوَازِمِهِ وَكَانَ حَدُّكَ رَسْمِيًّا غَيْرَ مُعْرِبٍ عَنْ الذَّاتِ فَلَا يَكُونُ حَقِيقِيًّا، فَإِذًا الْمَوْجُودُ لَا حَدَّ لَهُ فَإِنَّهُ مَبْدَأُ كُلِّ شَرْحٍ فَكَيْفَ يُشْرَحُ فِي نَفْسِهِ؟ إنَّمَا قُلْنَا الْمَعْنَى الْمُفْرَدُ لَيْسَ لَهُ الْحَدُّ الْحَقِيقِيُّ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الْقَائِلِ مَا حَدُّ الشَّيْءِ، قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى قَوْلِهِ مَا حَدُّ هَذِهِ الدَّارِ، وَلِلدَّارِ جِهَاتٌ مُتَعَدِّدَةٌ إلَيْهَا يَنْتَهِي الْحَدُّ فَيَكُونُ تَحْدِيدُ الدَّارِ بِذِكْرِ جِهَاتِهَا الْمُخْتَلِفَةِ الْمُتَعَدِّدَةِ الَّتِي الدَّارُ مَحْصُورَةٌ مُسَوَّرَةٌ بِهَا. فَإِذَا قَالَ: مَا حَدُّ السَّوَادِ؟ فَكَأَنَّهُ يَطْلُبُ بِهِ الْمَعَانِيَ وَالْحَقَائِقَ الَّتِي بِائْتِلَافِهَا تَتِمُّ حَقِيقَةُ السَّوَادِ، فَإِنَّ السَّوَادَ لَوْنٌ وَمَوْجُودٌ وَعَرَضٌ وَمَرْئِيٌّ وَمَعْلُومٌ وَمَذْكُورٌ وَوَاحِدٌ وَكَثِيرٌ وَمُشْرِقٌ وَبَرَّاقٌ وَكَدِرٌ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْصَافِ، وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ بَعْضُهَا عَارِضٌ يَزُولُ وَبَعْضُهَا لَازِمٌ لَا يَزُولُ وَلَكِنْ لَيْسَتْ ذَاتِيَّةً كَكَوْنِهِ مَعْلُومًا وَوَاحِدًا وَكَثِيرًا، وَبَعْضُهَا ذَاتِيٌّ لَا يُتَصَوَّرُ فَهْمُ السَّوَادِ دُونَ فَهِمِهِ، كَكَوْنِهِ لَوْنًا. فَطَالِبُ الْحَدِّ كَأَنَّهُ يَقُولُ: إلَى كَمْ مَعْنًى تَنْتَهِي حُدُودُ حَقِيقَةِ السَّوَادِ؟ لِتُجْمَعَ لَهُ تِلْكَ الْمَعَانِي الْمُتَعَدِّدَةُ، وَيَتَخَلَّصُ بِأَنْ يَبْتَدِئَ بِالْأَعَمِّ وَيَخْتِمَ بِالْأَخَصِّ وَلَا يَتَعَرَّضَ لِلْعَوَارِضِ. وَرُبَّمَا يُطْلَبُ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لِلَّوَازِمِ بَلْ لِلذَّاتِيَّاتِ خَاصَّةً، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَعْنَى مُؤْتَلِفًا مِنْ ذَاتِيَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ كَالْمَوْجُودِ فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ تَحْدِيدُهُ؟ فَكَانَ السُّؤَالُ عَنْهُ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: مَا حَدُّ الْكُرَةِ؟ وَيُقَدِّرُ الْعَالَمَ كُلَّهُ كُرَةً، فَكَيْفَ يُذْكَرُ حَدُّهُ عَلَى مِثَالِ حُدُودِ الدَّارِ إذْ لَيْسَ لَهُ حُدُودٌ، فَإِنَّ حَدَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ مُنْقَطَعِهِ وَمُنْقَطَعُهُ سَطْحُهُ الظَّاهِرُ وَهُوَ سَطْحٌ وَاحِدٌ مُتَشَابِهٌ وَلَيْسَ سُطُوحًا مُخْتَلِفَةً وَلَا هُوَ مُنْتَهٍ إلَى مُخْتَلِفَةٍ حَتَّى يُقَالَ أَحَدُ حُدُودِهِ يَنْتَهِي إلَى كَذَا وَالْآخَرُ إلَى كَذَا. فَهَذَا الْمِثَالُ الْمَحْسُوسُ وَإِنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْ الْمَقْصُودِ رُبَّمَا يُفْهِمُ مَقْصُودَ هَذَا الْكَلَامِ. وَلَا يُفْهَمُ مِنْ قُولِي السَّوَادُ مُرَكَّبٌ مِنْ مَعْنَى اللَّوْنِيَّةِ وَالسَّوَادِيَّةِ وَاللَّوْنِيَّةُ جِنْسٌ وَالسَّوَادِيَّةُ نَوْعٌ أَنَّ فِي السَّوَادِ ذَوَاتٍ مُتَعَدِّدَةً مُتَبَايِنَةً مُتَفَاضِلَةً، فَلَا تَقُلْ: إنَّ السَّوَادَ لَوْنٌ وَسَوَادٌ بَلْ لَوْنُ ذَلِكَ اللَّوْنِ بِعَيْنِهِ هُوَ سَوَادٌ وَمَعْنَاهُ يَتَرَكَّبُ وَيَتَعَدَّدُ لِلْعَقْلِ حَتَّى يَعْقِلَ اللَّوْنِيَّةَ مُطْلَقًا وَلَا يَخْطِرُ لَهُ السَّوَادُ مَثَلًا ثُمَّ يَعْقِلُ السَّوَادَ فَيَكُونُ الْعَقْلُ قَدْ عَقَلَ أَمْرًا زَائِدًا لَا يُمْكِنُهُ جَحْدُ تَفَاصِيلِهِ فِي الذِّهْنِ وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَعْتَقِدَ تَفَاصِيلَهُ فِي الْوُجُودِ، وَلَا تَظُنَّنَّ أَنَّ مُنْكِرَ الْحَالِ يَقْدِرُ عَلَى حَدِّ شَيْءٍ أَلْبَتَّةَ. وَالْمُتَكَلِّمُونَ يُسَمُّونَ اللَّوْنِيَّةَ حَالًا لِأَنَّ مُنْكِرَ الْحَالِ إذَا ذَكَرَ الْجِنْسَ وَاقْتَصَرَ بَطَلَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنْ زَادَ شَيْئًا لِلِاحْتِرَازِ فَيُقَالُ لَهُ: إنَّ الزِّيَادَةَ عَيْنُ الْأَوَّلِ أَوْ غَيْرُهُ؟ فَإِنْ كَانَ عَيْنَهُ فَهُوَ تَكْرَارٌ فَاطْرَحْهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ فَقَدْ اعْتَرَفَ بِأَمْرَيْنِ. وَإِنْ قَالَ فِي حَدِّ الْجَوْهَرِ: إنَّهُ مَوْجُودٌ بَطَلَ بِالْعَرَضِ، فَإِنْ زَادَ أَنَّهُ مُتَحَيِّزٌ فَيُقَالُ لَهُ: قَوْلُكَ مُتَحَيِّزٌ مَفْهُومُهُ غَيْرُ مَفْهُومِ الْمَوْجُودِ أَوْ عَيْنُهُ؟ فَإِنْ كَانَ عَيْنَهُ فَكَأَنَّكَ قُلْتَ

مَوْجُودٌ مَوْجُودٌ وَالْمُتَرَادِفَةُ كَالْمُتَكَرِّرَةِ فَهُوَ إذًا يَبْطُلُ بِالْعَرَضِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَهُ حَتَّى انْدَفَعَ النَّقْضُ بِقَوْلِكَ " مُتَحَيِّزٌ " وَلَمْ يَنْدَفِعْ بِقَوْلِكَ " مَوْجُودٌ " فَهُوَ غَيْرٌ بِالْمَعْنَى لَا بِاللَّفْظِ، فَوَجَبَ الِاعْتِرَافُ بِتَغَايُرِ الْمَعْنَى فِي الْعَقْلِ. وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ الْمُفْرَدَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَدٌّ حَقِيقِيٌّ وَإِنَّمَا يُحَدُّ لَهُ بِحَدٍّ لَفْظِيٍّ كَقَوْلِكَ فِي حَدِّ الْمَوْجُودِ: إنَّهُ الشَّيْءُ، أَوْ رَسْمِيٍّ كَقَوْلِكَ فِي حَدِّ الْمَوْجُودِ: إنَّهُ الْمُنْقَسِمُ إلَى الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ وَالْقَادِرِ وَالْمَقْدُورِ أَوْ الْوَاحِدِ وَالْكَثِيرِ أَوْ الْقَدِيمِ وَالْحَادِثِ أَوْ الْبَاقِي وَالْفَانِي أَوْ مَا شِئْت مِنْ لَوَازِمِ الْمَوْجُودِ وَتَوَابِعِهِ وَكُلُّ ذَلِكَ لَيْسَ يُنَبِّئُ عَنْ ذَاتِ الْمَوْجُودِ عَنْ تَابِعٍ لَازِمٍ لَا يُفَارِقُهُ أَلْبَتَّةَ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَكَّبَ إذَا حَدَّدْتَهُ بِذِكْرِ آحَادِ الذَّاتِيَّاتِ تَوَجَّهَ السُّؤَالُ عَنْ حَدِّ الْآحَادِ، فَإِذَا قِيلَ لَكَ: مَا حَدُّ الشَّجَرِ؟ فَقُلْتَ: نَبَاتٌ قَائِمٌ عَلَى سَاقٍ، فَقِيلَ لَكَ: مَا حَدُّ النَّبَاتِ؟ فَتَقُولُ: جِسْمٌ نَامٍ، فَيُقَالُ: مَا حَدُّ الْجِسْمِ؟ فَتَقُولُ: جَوْهَرٌ مُؤْتَلِفٌ أَوْ الْجَوْهَرُ الطَّوِيلُ الْعَرِيضُ الْعَمِيقُ، فَيُقَالُ وَمَا حَدُّ الْجَوْهَرِ؟ وَهَكَذَا، فَإِنَّ كُلَّ مُؤَلَّفٍ فِيهِ مُفْرَدَاتٌ فَلَهُ حَقِيقَةٌ وَحَقِيقَتُهُ أَيْضًا تَأْتَلِفُ مِنْ مُفْرَدَاتٍ. وَلَا تَظُنُّ أَنَّ هَذَا يَتَمَادَى إلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ بَلْ يَنْتَهِي إلَى مُفْرَدَاتٍ يَعْرِفُهَا الْعَقْلُ وَالْحِسُّ مَعْرِفَةً أَوَّلِيَّةً لَا تَحْتَاجُ إلَى طَلَبٍ بِصِيغَةِ الْحَدِّ، كَمَا أَنَّ الْعُلُومَ التَّصْدِيقِيَّةَ تُطْلَبُ بِالْبُرْهَانِ عَلَيْهَا وَكُلُّ بُرْهَانٍ يَنْتَظِمُ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ وَلَا بُدَّ لِكُلِّ مُقَدِّمَةٍ أَيْضًا مِنْ بُرْهَانٍ يَأْتَلِفُ مِنْ مُقَدِّمَتَيْنِ وَهَكَذَا فَيَتَمَادَى إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى أَوَّلِيَّاتٍ، فَكَمَا أَنَّ فِي الْعُلُومِ أَوَّلِيَّاتٍ فَكَذَلِكَ فِي الْمَعَارِفِ، فَطَالِبُ حُدُودِ الْأَوَّلِيَّاتِ إنَّمَا يَطْلُبُ شَرْحَ اللَّفْظِ لَا الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ تَكُونُ ثَابِتَةً فِي عَقْلِهِ بِالْفِطْرَةِ الْأُولَى كَثُبُوتِ حَقِيقَةِ الْوُجُودِ فِي الْعَقْلِ، فَإِنْ طَلَبَ الْحَقِيقَةَ فَهُوَ مُعَانِدٌ كَمِنْ يَطْلُبُ الْبُرْهَانَ عَلَى أَنَّ الِاثْنَيْنِ أَكْثَرُ مِنْ الْوَاحِدِ، فَهَذَا بَيَانُ مَا أَرَدْنَا ذِكْرَهُ مِنْ الْقَوَانِينِ [الْفَنُّ الثَّانِي مِنْ دِعَامَةِ الْحَدِّ فِي الِامْتِحَانَاتِ لِلْقَوَانِينِ] ِ فِي الِامْتِحَانَاتِ لِلْقَوَانِينِ بِحُدُودٍ مُفَصَّلَةٍ: وَقَدْ أَكْثَرْنَا أَمْثِلَتَهَا فِي كِتَابِ مِعْيَارِ الْعِلْمِ وَمِحَكِّ النَّظَرِ " وَنَحْنُ الْآنَ مُقْتَصِرُونَ عَلَى حَدِّ الْحَدِّ وَحَدِّ الْعِلْمِ وَحَدِّ الْوَاجِبِ لِأَنَّ هَذَا النَّمَطَ مِنْ الْكَلَامِ دَخِيلٌ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ فَلَا يَلِيقُ فِيهِ الِاسْتِقْصَاءُ. الِامْتِحَانُ الْأَوَّلُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي حَدِّ الْحَدِّ، فَمِنْ قَائِلٍ، يَقُولُ: حَدُّ الشَّيْءِ هُوَ حَقِيقَتُهُ وَذَاتُهُ، وَمِنْ قَائِلٍ يَقُولُ: حَدُّ الشَّيْءِ هُوَ اللَّفْظُ الْمُفَسِّرُ لِمَعْنَاهُ عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُ وَيَجْمَعُ، وَمِنْ قَائِلٍ ثَالِثٍ يَقُولُ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ خِلَافِيَّةٌ فَيَنْصُرُ أَحَدَ الْحَدَّيْنِ عَلَى الْآخَرِ، فَانْظُرْ كَيْفَ تَخَبَّطَ عَقْلُ هَذَا الثَّالِثِ فَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الِاخْتِلَافَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ التَّوَارُدِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهَذَانِ قَدْ تَبَاعَدَا وَتَنَافَرَا وَمَا تَوَارَدَا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ. وَإِنَّمَا مَنْشَأُ هَذَا الْغَلَطِ الذُّهُولُ عَنْ مَعْرِفَةِ الِاسْمِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ فَإِنَّ مَنْ يَحُدُّ الْعَيْنَ بِأَنَّهُ الْعُضْوُ الْمُدْرِكُ لِلْأَلْوَانِ بِالرُّؤْيَةِ لَمْ يُخَالِفْ مَنْ حَدَّهُ بِأَنَّهُ الْجَوْهَرُ الْمَعْدِنِيُّ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ النُّقُودِ بَلْ حَدُّ هَذَا أَمْرًا مُبَايِنًا لِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ الْآخَرِ، وَإِنَّمَا اشْتَرَكَا فِي اسْمِ الْعَيْنِ فَافْهَمْ هَذَا فَإِنَّهُ قَانُونٌ كَثِيرُ النَّفْعِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا الصَّحِيحُ عِنْدَكَ فِي حَدِّ الْحَدِّ فَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ طَلَبَ الْمَعَانِيَ مِنْ الْأَلْفَاظِ ضَاعَ وَهَلَكَ وَكَانَ كَمَنْ اسْتَدْبَرَ الْمَغْرِبَ وَهُوَ يَطْلُبُهُ وَمَنْ قَرَّرَ الْمَعَانِيَ أَوَّلًا فِي عَقْلِهِ ثُمَّ أَتْبَعَ الْمَعَانِيَ الْأَلْفَاظَ فَقَدْ اهْتَدَى. فَلْنُقَرِّرْ الْمَعَانِيَ، فَنَقُولُ: الشَّيْءُ لَهُ فِي الْوُجُودِ أَرْبَعُ مَرَاتِبَ الْأُولَى: حَقِيقَتُهُ فِي نَفْسِهِ.

الثَّانِيَةُ: ثُبُوتُ مِثَالِ حَقِيقَةٍ فِي الذِّهْنِ وَهُوَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْعِلْمِ. الثَّالِثَةُ: تَأْلِيفُ صَوْتٍ بِحُرُوفٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ الْعِبَارَةُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمِثَالِ الَّذِي فِي النَّفْسِ. الرَّابِعَةِ: تَأْلِيفُ رُقُومٍ تُدْرَكُ بِحَاسَّةِ الْبَصَرِ دَالَّةٍ عَلَى اللَّفْظِ وَهُوَ الْكِتَابَةُ، فَالْكِتَابَةُ تَبَعٌ لِلَّفْظِ إذْ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَاللَّفْظُ تَبَعٌ لِلْعِلْمِ إذْ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَالْعِلْمُ تَبَعٌ لِلْمَعْلُومِ إذْ يُطَابِقُهُ وَيُوَافِقُهُ، وَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ مُتَطَابِقَةٌ مُتَوَازِيَةٌ إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَيْنِ وُجُودَانِ حَقِيقِيَّانِ لَا يَخْتَلِفَانِ بِالْأَعْصَارِ وَالْأُمَمِ وَالْآخَرَيْنِ وَهُوَ اللَّفْظُ وَالْكِتَابَةُ يَخْتَلِفَانِ بِالْأَعْصَارِ وَالْأُمَمِ لِأَنَّهُمَا مَوْضُوعَانِ بِالِاخْتِيَارِ، وَلَكِنَّ الْأَوْضَاعَ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ صُوَرُهَا فَهِيَ مُتَّفِقَةٌ فِي أَنَّهَا قُصِدَ بِهَا مُطَابَقَةُ الْحَقِيقَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَدَّ مَأْخُوذٌ مِنْ الْمَنْعِ وَإِنَّمَا اُسْتُعِيرَ لِهَذِهِ الْمَعَانِي لِمُشَارَكَتِهِ فِي مَعْنَى الْمَنْعِ، فَانْظُرْ الْمَنْعَ أَيْنَ تَجِدُهُ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ. فَإِذَا ابْتَدَأْتَ بِالْحَقِيقَةِ لَمْ تَشُكَّ فِي أَنَّهَا حَاصِرَةٌ لِلشَّيْءِ مَخْصُوصَةٌ بِهِ إذْ حَقِيقَةُ كُلِّ شَيْءٍ خَاصِّيَّتُهُ الَّتِي لَهُ وَلَيْسَتْ لِغَيْرِهِ فَإِذَا الْحَقِيقَةُ جَامِعَةٌ مَانِعَةٌ، وَإِنْ نَظَرْتَ إلَى مِثَالِ الْحَقِيقَةِ فِي الذِّهْنِ وَهُوَ الْعِلْمُ وَجَدْتَهُ أَيْضًا كَذَلِكَ لِأَنَّهُ مُطَابِقٌ لِلْحَقِيقَةِ الْمَانِعَةِ وَالْمُطَابَقَةُ تُوجِبُ الْمُشَارَكَةَ فِي الْمَنْعِ، وَإِنْ نَظَرْتَ إلَى الْعِبَارَةِ عَنْ الْعِلْمِ وَجَدْتَهَا أَيْضًا حَاصِرَةً فَإِنَّهَا مُطَابِقَةٌ لِلْعِلْمِ الْمُطَابِقِ لِلْحَقِيقَةِ وَالْمُطَابِقُ لِلْمُطَابِقِ مُطَابِقٌ، وَإِنْ نَظَرْتَ إلَى الْكِتَابَةِ وَجَدْتَهَا مُطَابِقَةً لِلَّفْظِ الْمُطَابِقِ لِلْعِلْمِ الْمُطَابِقِ لِلْحَقِيقَةِ فَهِيَ أَيْضًا مُطَابِقَةٌ فَقَدْ وَجَدْتَ الْمَنْعَ فِي الْكُلِّ إلَّا أَنَّ الْعَادَةَ لَمْ تَجْرِ بِإِطْلَاقِ الْحَدِّ عَلَى الْكِتَابَةِ الَّتِي هِيَ الرَّابِعَةُ وَلَا عَلَى الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ الثَّانِي بَلْ هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَبَيْنَ اللَّفْظِ وَكُلُّ لَفْظٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ حَقِيقَتَيْنِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَدَّانِ مُخْتَلِفَانِ كَلَفْظِ الْعَيْنِ. فَإِذًا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى نَفْسِ الشَّيْءِ يَكُونُ حَدًّا لِحَدٍّ أَنَّهُ حَقِيقَةُ الشَّيْءِ وَذَاتُهُ وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ الثَّانِي يَكُونُ حَدًّا لِحَدٍّ أَنَّهُ اللَّفْظُ الْجَامِعُ الْمَانِعُ، إلَّا أَنَّ الَّذِينَ أَطْلَقُوهُ عَلَى اللَّفْظِ أَيْضًا اصْطِلَاحُهُمْ مُخْتَلِفٌ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْحَدِّ اللَّفْظِيِّ وَالرَّسْمِيِّ وَالْحَقِيقِيِّ، فَحَدُّ الْحَدِّ عِنْدَ مَنْ يَقْنَعُ بِتَكْرِيرِ اللَّفْظِ كَقَوْلِكَ الْمَوْجُودُ هُوَ الشَّيْءُ وَالْعِلْمُ هُوَ الْمَعْرِفَةُ وَالْحَرَكَةُ هِيَ النَّقْلَةُ هُوَ تَبْدِيلُ اللَّفْظِ بِمَا هُوَ أَوْضَحُ عِنْدَ السَّائِلِ عَلَى شَرْطِ أَنْ يَجْمَعَ وَيَمْنَعَ. وَأَمَّا حَدُّ الْحَدِّ عِنْدَ مَنْ يَقْنَعُ بِالرَّسْمِيَّاتِ فَإِنَّهُ اللَّفْظُ الشَّارِحُ لِلشَّيْءِ بِتَعْدِيدِ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ أَوْ اللَّازِمَةِ عَلَى وَجْهٍ يُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ تَمْيِيزًا يَطَّرِدُ وَيَنْعَكِسُ، وَأَمَّا حَدُّهُ عِنْدَ مَنْ لَا يُطْلِقُ اسْمَ الْحَدِّ إلَّا عَلَى الْحَقِيقِيِّ فَهُوَ أَنَّهُ الْقَوْلُ الدَّالُ عَلَى تَمَامِ مَاهِيَّةِ الشَّيْءِ، وَلَا يُحْتَاجُ فِي هَذَا إلَى ذِكْرِ الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ لِأَنَّ ذَلِكَ تَبَعٌ لِلْمَاهِيَّةِ بِالضَّرُورَةِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى التَّعَرُّضِ لِلَّوَازِمِ فَإِنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ بَلْ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمَاهِيَّةِ إلَّا الذَّاتِيَّاتُ فَقَدْ عَرَفْتَ أَنَّ اسْمَ الْحَدِّ مُشْتَرَكٌ فِي الِاصْطِلَاحَاتِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَشَرْحِ اللَّفْظِ وَالْجَمْعِ بِالْعَوَارِضِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى الْمَاهِيَّةِ، فَهَذِهِ أَرْبَعَةُ أُمُورٍ مُخْتَلِفَةٍ كَمَا دَلَّ لَفْظُ الْعَيْنِ عَلَى أُمُورٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَتَعَلَّمْ صِنَاعَةَ الْحَدِّ. فَإِذَا ذُكِرَ لَكَ اسْمٌ وَطُلِبَ مِنْكَ حَدُّهُ فَانْظُرْ فَإِنْ كَانَ مُشْتَرَكًا فَاطْلُبْ عِدَّةَ الْمَعَانِي الَّتِي فِيهَا الِاشْتِرَاكُ، فَإِنْ كَانَتْ ثَلَاثَةٌ فَاطْلُبْ لَهَا ثَلَاثَةَ حُدُودٍ، فَإِنَّ الْحَقَائِقَ إذَا اخْتَلَفَتْ فَلَا بُدَّ مِنْ اخْتِلَافِ الْحُدُودِ، فَإِذَا قِيلَ لَك: مَا الْإِنْسَانُ؟ فَلَا تَطْمَعْ فِي حَدٍّ وَاحِدٍ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ أُمُورٍ، إذْ يُطْلَقُ عَلَى إنْسَانِ الْعَيْنِ وَلَهُ حَدٌّ وَعَلَى الْإِنْسَانِ الْمَعْرُوفِ وَلَهُ حَدٌّ آخَرُ وَعَلَى الْإِنْسَانِ الْمَصْنُوعِ عَلَى

الْحَائِطِ الْمَنْقُوشِ وَلَهُ حَدٌّ آخَرُ وَعَلَى الْإِنْسَانِ الْمَيِّتِ وَلَهُ حَدٌّ آخَرُ، فَإِنَّ الْيَدَ الْمَقْطُوعَةَ وَالذَّكَرَ الْمَقْطُوعَ يُسَمَّى ذَكَرًا أَوْ تُسَمَّى يَدًا وَلَكِنْ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي كَانَتْ تُسَمَّى بِهِ حِينَ كَانَتْ غَيْرَ مَقْطُوعَةٍ، فَإِنَّهَا كَانَتْ تُسَمَّى بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا آلَةُ الْبَطْشِ وَآلَةُ الْوِقَاعِ، وَبَعْدَ الْقَطْعِ تُسَمَّى بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ شَكْلَهَا شَكْلُ آلَةِ الْبَطْشِ، حَتَّى لَوْ بَطَلَ بِالتَّقْطِيعَاتِ الْكَثِيرَةِ شَكْلُهَا سُلِبَ هَذَا الِاسْمُ عَنْهَا، وَلَوْ صُنِعَ شَكْلُهَا مِنْ خَشَبٍ أَوْ حَجَرٍ أُعْطِيَ الِاسْمُ. وَكَذَلِكَ إذَا قِيلَ: مَا حَدُّ الْعَقْلِ؟ فَلَا تَطْمَعْ فِي أَنْ تَحُدَّهُ بِحَدٍّ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ هَوَسٌ، لِأَنَّ اسْمَ الْعَقْلِ مُشْتَرَكٌ يُطْلَقُ عَلَى عِدَّةِ مَعَانٍ، إذْ يُطْلَقُ عَلَى بَعْضِ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ وَيُطْلَقُ عَلَى الْغَرِيزَةِ الَّتِي يَتَهَيَّأُ بِهَا الْإِنْسَانُ لِدَرْكِ الْعُلُومِ النَّظَرِيَّةِ وَيُطْلَقُ عَلَى الْعُلُومِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ التَّجْرِبَةِ، حَتَّى إنَّ مَنْ لَمْ تُحَنِّكْهُ التَّجَارِبُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ لَا يُسَمَّى عَاقِلًا، وَيُطْلَقُ عَلَى مَنْ لَهُ وَقَارٌ وَهَيْبَةٌ وَسَكِينَةٌ فِي جُلُوسِهِ وَكَلَامِهِ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْهُدُوِّ، فَيُقَالُ فُلَانٌ عَاقِلٌ أَيْ فِيهِ هُدُوٌّ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مَنْ جَمَعَ الْعَمَلَ إلَى الْعِلْمِ، حَتَّى إنَّ الْمُفْسِدَ وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةٍ مِنْ الْكِيَاسَةِ يُمْنَعُ عَنْ تَسْمِيَتِهِ عَاقِلًا فَلَا يُقَالُ لِلْحَجَّاجِ عَاقِلٌ بَلْ دَاهٍ وَلَا يُقَالُ لِلْكَافِرِ عَاقِلٌ وَإِنْ كَانَ مُحِيطًا بِجُمْلَةِ الْعُلُومِ الطِّبِّيَّةِ وَالْهَنْدَسِيَّةِ، بَلْ إمَّا فَاضِلٌ وَإِمَّا دَاهٍ وَإِمَّا كَيِّسٌ. فَإِذَا اخْتَلَفَتْ الِاصْطِلَاحَاتُ فَيَجِبُ بِالضَّرُورَةِ أَنْ تَخْتَلِفَ الْحُدُودُ، فَيُقَالُ فِي حَدِّ الْعَقْلِ بِاعْتِبَارِ أَحَدِ مُسَمَّيَاتِهِ إنَّهُ بَعْضُ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ كَجَوَازِ الْجَائِزَاتِ وَاسْتِحَالَةِ الْمُسْتَحِيلَاتِ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَبِالِاعْتِبَارِ الثَّانِي إنَّهُ غَرِيزَةٌ يَتَهَيَّأُ بِهَا النَّظَرُ فِي الْمَعْقُولَاتِ وَهَكَذَا بَقِيَّةُ الِاعْتِبَارَاتِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَنَرَى النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِي الْحُدُودِ وَهَذَا الْكَلَامُ يَكَادُ يُحِيلُ الِاخْتِلَافَ فِي الْحَدِّ، أَتَرَى أَنَّ الْمُتَنَازِعِينَ فِيهِ لَيْسُوا عُقَلَاءَ؟ فَاعْلَمْ أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْحَدِّ يُتَصَوَّرُ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ سُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ قَوْلِ إمَامٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ يَقْصِدُ الِاطِّلَاعَ عَلَى مُرَادِهِ بِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا فَيَقَعُ النِّزَاعُ فِي مُرَادِهِ بِهِ فَيَكُونُ قَدْ وُجِدَ التَّوَارُدُ عَلَى الْقَائِلِ وَالتَّبَايُنُ بَعْدَ التَّوَارُدِ فَالْخِلَافُ تَبَايُنٌ بَعْدَ التَّوَارُدِ، وَإِلَّا فَلَا نِزَاعَ بَيْنَ مَنْ يَقُولُ: السَّمَاءُ قَدِيمَةٌ وَبَيْنَ مَنْ يَقُولُ: الْإِنْسَانُ مَجْبُورٌ عَلَى الْحَرَكَاتِ، إذْ لَا تَوَارُدَ، فَلَوْ كَانَ لَفْظُ الْحَدِّ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ فِي كِتَابِ إمَامٍ لَجَازَ أَنْ يُتَنَازَعَ فِي مُرَادِهِ وَيَكُونُ إيضَاحُ ذَلِكَ مِنْ صِنَاعَةِ التَّفْسِيرِ لَا مِنْ صِنَاعَةِ النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ الثَّانِي: أَنْ يَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى عَلَى وَجْهٍ مُحَقَّقٍ وَيَكُونُ الْمَطْلُوبُ حَدُّهُ أَمْرًا ثَانِيًا لَا يَتَّحِدُ حَدُّهُ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ فَيَخْتَلِفُ، كَمَا يَقُولُ الْمُعْتَزِلِيُّ: حَدُّ الْعِلْمِ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ وَنَحْنُ نُخَالِفُ فِي ذِكْرِ الشَّيْءِ، فَإِنَّ الْمَعْدُومَ عِنْدَنَا لَيْسَ بِشَيْءٍ وَهُوَ مَعْلُومٌ، فَالْخِلَافُ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى يَتَعَدَّى إلَى هَذَا الْحَدِّ. وَكَذَلِكَ يَقُولُ الْقَائِلُ: حَدُّ الْعَقْلِ بَعْضُ الْعُلُومِ الضَّرُورِيَّةِ عَلَى وَجْهِ كَذَا وَكَذَا، وَيُخَالِفُ مَنْ يَقُولُ فِي حَدِّهِ إنَّهُ غَرِيزَةٌ يَتَمَيَّزُ بِهَا الْإِنْسَانُ عَنْ الذِّئَابِ وَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْقَائِلَ الْأَوَّلَ يُنْكِرُ تَمَيُّزَ الْعَيْنِ بِغَرِيزَةٍ عَنْ الْعَقِبِ وَتَمَيُّزَ الْإِنْسَانِ بِغَرِيزَةٍ عَنْ الذِّئَابِ بِهَا يَتَهَيَّأُ لِلنَّظَرِ فِي الْعَقْلِيَّاتِ، لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى الْعَادَةَ بِخَلْقِ الْعِلْمِ فِي الْقَلْبِ دُونَ الْعَقِبِ وَفِي الْإِنْسَانِ دُونَ الذِّئَابِ وَخَلَقَ الْبَصَرِ فِي الْعَيْنِ دُونَ الْعَقِبِ لَا لِتَمَيُّزِهِ بِغَرِيزَةٍ اسْتَعَدَّ بِسَبَبِهَا لِقَبُولِهِ، فَيَكُونُ مَنْشَأُ الِاخْتِلَافِ فِي الْحَدِّ الِاخْتِلَافَ فِي إثْبَاتِ هَذِهِ الْغَرِيزَةِ أَوْ نَفْيِهَا. فَهَذِهِ أُمُورٌ وَإِنْ أَوْرَدْنَاهَا فِي

مَعْرِضِ الِامْتِحَانِ فَقَدْ أَدْرَجْنَا فِيهَا مَا يَجْرِي عَلَى التَّحْقِيقِ مَجْرَى الْقَوَانِينِ. امْتِحَانٌ ثَانٍ: اُخْتُلِفَ فِي حَدِّ الْعِلْمِ فَقِيلَ إنَّهُ الْمَعْرِفَةُ، وَهُوَ حَدٌّ لَفْظِيٌّ وَهُوَ أَضْعَفُ أَنْوَاعِ الْحُدُودِ فَإِنَّهُ تَكْرِيرُ لَفْظٍ بِذِكْرِ مَا يُرَادِفُهُ كَمَا يُقَالُ حَدُّ الْأَسَدِ اللَّيْثُ وَحَدُّ الْعُقَارِ الْخَمْرُ وَحَدُّ الْمَوْجُودِ الشَّيْءُ وَحَدُّ الْحَرَكَةِ النَّقْلَةُ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ لَفْظِيًّا بِأَنْ يُقَالَ مَعْرِفَةُ الْمَعْلُومِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ تَطْوِيلٍ وَتَكْرِيرٍ إذْ الْمَعْرِفَةُ لَا تُطْلَقُ إلَّا عَلَى مَا هُوَ كَذَلِكَ، فَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: حَدُّ الْمَوْجُودِ الشَّيْءُ الَّذِي لَهُ ثُبُوتٌ وَوُجُودٌ، فَإِنَّ هَذَا تَطْوِيلٌ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ لَفْظِيًّا. وَلَسْتُ أَمْنَعُ مِنْ تَسْمِيَةِ هَذَا حَدًّا، فَإِنَّ لَفْظَ الْحَدِّ مُبَاحٌ فِي اللُّغَةِ لِمَنْ اسْتَعَارَهُ لِمَا يُرِيدُهُ مِمَّا فِيهِ نَوْعٌ مِنْ الْمَنْعِ. هَذَا إذَا كَانَ الْحَدُّ عِنْدَهُ عِبَارَةً عَنْ لَفْظٍ مَانِعٍ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ عِبَارَةٌ عَنْ قَوْلٍ شَارِحٍ لِمَاهِيَّةِ الشَّيْءِ مُصَوِّرٍ حَقِيقَتَهُ فِي ذِهْنِ السَّائِلِ فَقَدْ ظَلَمَ بِإِطْلَاقِ هَذَا الِاسْمِ عَلَى قَوْلِهِ الْعَلْمُ هُوَ الْمَعْرِفَةُ. وَقِيلَ أَيْضًا إنَّهُ الَّذِي يُعْلَمُ بِهِ وَإِنَّهُ الَّذِي تَكُونُ الذَّاتُ بِهِ عَالِمَةً، وَهَذَا أَبْعَدُ مِنْ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ مُسَاوٍ لَهُ فِي الْخُلُوِّ عَنْ الشَّرْحِ وَالدَّلَالَةِ عَلَى الْمَاهِيَّةِ، وَلَكِنْ قَدْ يُتَوَهَّمُ فِي الْأَوَّلِ شَرْحُ اللَّفْظِ بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ عِنْدَ السَّائِلِ أَشْهَرَ مِنْ الْآخَرِ فَيُشْرَحُ الْأَخْفَى بِالْأَشْهَرِ، أَمَّا الْعَالِمُ وَيَعْلَمُ فَهُمَا مُشْتَقَّانِ مِنْ نَفْسِ الْعِلْمِ، وَمَنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ الْمَصْدَرُ كَيْفَ يَتَّضِحُ لَهُ بِالْمُشْتَقِّ مِنْهُ وَالْمُشْتَقُّ أَخْفَى مِنْ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ؟ وَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلُ فِي حَدِّ الْفِضَّةِ: أَنَّهَا الَّتِي تُصَاغُ مِنْهَا الْأَوَانِي الْفِضِّيَّةُ. وَقَدْ قِيلَ فِي حَدِّ الْعِلْمِ: إنَّهُ الْوَصْفُ الَّذِي يَتَأَتَّى لِلْمُتَّصِفِ بِهِ إتْقَانُ الْفِعْلِ وَأَحْكَامِهِ، وَهَذَا ذِكْرُ لَازِمٍ مِنْ لَوَازِمِ الْعِلْمِ فَيَكُونُ رَسْمِيًّا، وَهُوَ أَبْعَدُ مِمَّا قَبْلَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ أَخَصُّ مِنْ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا بَعْضَ الْعُلُومِ وَيَخْرُجُ مِنْهُ الْعِلْمُ بِاَللَّهِ وَصِفَاتِهِ إذْ لَيْسَ يَتَأَتَّى بِهِ إتْقَانُ فِعْلٍ وَأَحْكَامِهِ، وَلَكِنَّهُ أَقْرَبُ مِمَّا قَبْلَهُ بِوَجْهٍ فَإِنَّهُ ذِكْرٌ لَازِمٌ قَرِيبٌ مِنْ الذَّاتِ لِيُفِيدَ شَرْحًا وَبَيَانًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ مَا يَعْلَمُ بِهِ وَمَا تَكُونُ الذَّاتُ بِهِ عَالِمَةً. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا حَدُّ الْعِلْمِ عِنْدَكَ؟ فَاعْلَمْ أَنَّهُ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْإِبْصَارِ وَالْإِحْسَاسِ وَلَهُ حَدٌّ بِحَسَبِهِ، وَيُطْلَقُ عَلَى النَّخِيلِ وَلَهُ حَدٌّ بِحَسَبِهِ، وَيُطْلَقُ عَلَى الظَّنِّ وَلَهُ حَدٌّ آخَرُ، وَيُطْلَقُ عَلَى عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ آخَرَ أَعْلَى وَأَشْرَفَ، وَلَسْتُ أَعْنِي بِهِ شَرَفًا بِمُجَرَّدِ الْعُمُومِ فَقَطْ بَلْ بِالذَّاتِ وَالْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ مَعْنًى وَاحِدٌ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ التَّفَاصِيلِ وَلَا تَفَاصِيلَ وَلَا تَعَدُّدَ فِي ذَاتِهِ. وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى إدْرَاكِ الْعَقْلِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْبَيَانِ، وَرُبَّمَا يَعْسُرُ تَحْدِيدُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْحَقِيقِيِّ بِعِبَارَةٍ مُحَرَّرَةٍ جَامِعَةٍ لِلْجِنْسِ وَالْفَصْلِ الذَّاتِيِّ، فَإِنَّا بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ عَسِيرٌ فِي أَكْثِرْ الْأَشْيَاءِ بَلْ أَكْثَرُ الْمُدْرَكَاتِ الْحِسِّيَّةِ يَتَعَسَّرُ تَحْدِيدُهَا، فَلَوْ أَنَّا أَرَدْنَا أَنْ نَحُدَّ رَائِحَةَ الْمِسْكِ أَوْ طَعْمَ الْعَسَلِ لَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهِ. وَإِذَا عَجَزْنَا عَنْ حَدِّ الْمُدْرَكَاتِ فَنَحْنُ عَنْ تَحْدِيدِ الْإِدْرَاكَاتِ أَعْجَزُ وَلَكِنَّا نَقْدِرُ عَلَى شَرْحِ مَعْنَى الْعِلْمِ بِتَقْسِيمٍ وَمِثَالٍ، أَمَّا التَّقْسِيمُ فَهُوَ أَنْ نُمَيِّزَهُ عَمَّا يَلْتَبِسُ بِهِ وَلَا يَخْفَى وَجْهُ تَمَيُّزِهِ عَنْ الْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ وَسَائِرِ صِفَاتِ النَّفْسِ، وَإِنَّمَا يَلْتَبِسُ بِالِاعْتِقَادَاتِ، وَلَا يَخْفَى أَيْضًا وَجْهُ تَمَيُّزِهِ عَنْ الشَّكِّ وَالظَّنِّ لِأَنَّ الْجَزْمَ مُنْتَفٍ عَنْهُمَا وَالْعِلْمُ عِبَارَةٌ عَنْ أَمْرٍ جَزْمٍ لَا تَرَدُّدَ فِيهِ وَلَا تَجْوِيزَ. وَلَا يَخْفَى أَيْضًا وَجْهُ تَمَيُّزِهِ عَنْ الْجَهْلِ فَإِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَجْهُولِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ وَالْعِلْمُ مُطَابِقٌ لِلْمَعْلُومِ، وَرُبَّمَا يَبْقَى مُلْتَبِسًا بِاعْتِقَادِ الْمُقَلِّدِ الشَّيْءَ عَلَى مَا هُوَ بِهِ عَنْ تَلَقُّفٍ لَا عَنْ بَصِيرَةٍ وَعَنْ جَزْمٍ لَا عَنْ تَرَدُّدٍ، لِأَجْلِهِ خَفِيَ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ حَتَّى قَالُوا فِي حَدِّ الْعِلْمِ: إنَّهُ

اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ. وَهُوَ خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: تَخْصِيصُ الشَّيْءِ مَعَ أَنَّ الْعِلْمَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْدُومِ الَّذِي لَيْسَ شَيْئًا عِنْدَنَا. وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا الِاعْتِقَادَ حَاصِلٌ لِلْمُقَلِّدِ وَلَيْسَ بِعَالِمٍ قَطْعًا، فَإِنَّهُ كَمَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَعْتَقِدَ الشَّيْءَ جَزْمًا عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ لَا عَنْ بَصِيرَةٍ كَاعْتِقَادِ الْيَهُودِيِّ وَالْمُشْرِكِ فَإِنَّهُ تَصْمِيمٌ جَازِمٌ لَا تَرَدُّدَ فِيهِ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَعْتَقِدَ الشَّيْءَ بِمُجَرَّدِ التَّلْقِينِ وَالتَّلَقُّفِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ مَعَ الْجَزْمِ الَّذِي لَا يَخْطِرُ بِبَالِهِ جَوَازُ غَيْرِهِ. فَوَجْهُ تَمَيُّزِ الْعِلْمِ عَنْ الِاعْتِقَادِ هُوَ أَنَّ الِاعْتِقَادَ مَعْنَاهُ السَّبْقُ إلَى أَحَدِ مُعْتَقَدَيْ الشَّاكِّ مَعَ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إخْطَارِ نَقِيضِهِ بِالْبَالِ وَمِنْ غَيْرِ تَمْكِينِ نَقِيضِهِ مِنْ الْحُلُولِ فِي النَّفْسِ، فَإِنَّ الشَّاكَّ يَقُولُ: الْعَالَمُ حَادِثٌ أَمْ لَيْسَ بِحَادِثٍ، وَالْمُعْتَقِدُ يَقُولُ: حَادِثٌ، وَيَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ وَلَا يَتَّسِعُ صَدْرُهُ لِتَجْوِيزِ الْقِدَمِ، وَالْجَاهِلُ يَقُولُ قَدِيمٌ، وَيَسْتَمِرُّ عَلَيْهِ. وَالِاعْتِقَادُ وَإِنْ وَافَقَ الْمُعْتَقِدَ فَهُوَ جِنْسٌ مِنْ الْجَهْلِ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ خَالَفَهُ بِالْإِضَافَةِ فَإِنَّ مُعْتَقِدَ كَوْنِ زَيْدٍ فِي الدَّارِ لَوْ قُدِّرَ اسْتِمْرَارُهُ عَلَيْهِ حَتَّى خَرَجَ زَيْدٌ مِنْ الدَّارِ بَقِيَ اعْتِقَادُهُ كَمَا كَانَ لَمْ يَتَغَيَّرْ فِي نَفْسِهِ وَإِنَّمَا تَغَيَّرَتْ إضَافَتُهُ، فَإِنَّهُ طَابَقَ الْمُعْتَقِدَ فِي حَالَةٍ وَخَالَفَهُ فِي حَالَةٍ. وَأَمَّا الْعِلْمُ فَيَسْتَحِيلُ تَقْدِيرُ بَقَائِهِ مَعَ تَغَيُّرِ الْمَعْلُومِ فَإِنَّهُ كَشْفٌ وَانْشِرَاحٌ، وَالِاعْتِقَادُ عُقْدَةٌ عَلَى الْقَلْبِ وَالْعِلْمُ عِبَارَةٌ عَنْ انْحِلَالِ الْعَقْدِ فَهُمَا مُخْتَلِفَانِ، وَلِذَلِكَ لَوْ أَصْغَى الْمُعْتَقِدُ إلَى الْمُشَكِّكِ لَوَجَدَ لِنَقِيضِ مُعْتَقَدِهِ مَجَالًا فِي نَفْسِهِ، وَالْعَالِمُ لَا يَجِدُ ذَلِكَ أَصْلًا وَإِنْ أَصْغَى إلَى الشُّبَهِ الْمُشَكِّكَةِ، وَلَكِنْ إذَا سَمِعَ شُبْهَةً فَإِمَّا أَنْ يَعْرِفَ حَلَّهَا وَإِنْ لَمْ تُسَاعِدْهُ الْعِبَارَةُ فِي الْحَالِ وَإِمَّا أَنْ تُسَاعِدُهُ الْعِبَارَةُ أَيْضًا عَلَى حَلِّهَا وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَلَا يَشُكُّ فِي بُطْلَانِ الشُّبْهَةِ بِخِلَافِ الْمُقَلِّدِ. وَبَعْدَ هَذَا التَّقْسِيمِ وَالتَّمْيِيزِ يَكَادُ يَكُونُ الْعِلْمُ مُرْتَسِمًا فِي النَّفْسِ بِمَعْنَاهُ وَحَقِيقَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَكَلُّفِ تَحْدِيدٍ، وَأَمَّا الْمِثَالُ فَهُوَ أَنَّ إدْرَاكَ الْبَصِيرَةِ الْبَاطِنَةِ تَفْهَمُهُ بِالْمُقَايَسَةِ بِالْبَصَرِ الظَّاهِرِ وَلَا مَعْنَى لِلْبَصَرِ الظَّاهِرِ إلَّا انْطِبَاعُ صُورَةِ الْمُبْصَرِ فِي الْقُوَّةِ الْبَاصِرَةِ مِنْ إنْسَانِ الْعَيْنِ كَمَا يُتَوَهَّمُ انْطِبَاعُ الصُّوَرِ فِي الْمِرْآةِ مَثَلًا، فَكَمَا أَنَّ الْبَصَرَ يَأْخُذُ صُوَرَ الْمُبْصَرَاتِ أَيْ يَنْطَبِعُ فِيهَا مِثَالُهَا الْمُطَابِقُ لَهَا لَا عَيْنُهَا فَإِنَّ عَيْنَ النَّارِ لَا تَنْطَبِعُ فِي الْعَيْنِ بَلْ مِثَالٌ يُطَابِقُ صُورَتَهَا، وَكَذَلِكَ يَرَى مِثَالَ النَّارِ فِي الْمِرْآةِ لَا عَيْنَ النَّارِ فَكَذَلِكَ الْعَقْلُ عَلَى مِثَالِ مِرْآةٍ تَنْطَبِعُ فِيهَا صُوَرُ الْمَعْقُولَاتِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهَا، وَأَعْنِي بِصُوَرِ الْمَعْقُولَاتِ حَقَائِقَهَا وَمَاهِيَّاتِهَا. فَالْعِلْمُ عِبَارَةٌ عَنْ أَخْذِ الْعَقْلِ صُوَرَ الْمَعْقُولَاتِ وَهَيَّأْتَهَا فِي نَفْسِهِ وَانْطِبَاعَهَا فِيهِ كَمَا يُظَنُّ مِنْ حَيْثُ الْوَهْمُ انْطِبَاعُ الصُّوَرِ فِي الْمِرْآةِ، فَفِي الْمِرْآةِ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ الْحَدِيدُ وَصِقَالَتُهُ وَالصُّورَةُ الْمُنْطَبِعَةُ فِيهَا، فَكَذَلِكَ جَوْهَرُ الْآدَمِيِّ كَحَدِيدِ الْمِرْآةِ وَعَقْلُهُ هَيْئَةٌ وَغَرِيزَةٌ فِي جَوْهَرِهِ وَنَفْسِهِ بِهَا يَتَهَيَّأُ لِلِانْطِبَاعِ بِالْمَعْقُولَاتِ، كَمَا أَنَّ الْمِرْآةَ بِصِقَالَتِهَا وَاسْتِدَارَتِهَا تَتَهَيَّأُ لِمُحَاكَاةِ الصُّوَرِ، فَحُصُولُ الصُّوَرِ فِي مِرْآةِ الْعَقْلِ الَّتِي هِيَ مِثَالُ الْأَشْيَاءِ هُوَ الْعِلْمُ، وَالْغَرِيزَةُ الَّتِي بِهَا يَتَهَيَّأُ لِقَبُولِ هَذِهِ الصُّوَرِ هِيَ الْعَقْلُ، وَالنَّفْسُ الَّتِي هِيَ حَقِيقَةُ الْآدَمِيِّ الْمَخْصُوصَةُ بِهَذِهِ الْغَرِيزَةِ الْمُهَيَّأَةِ لِقَبُولِ حَقَائِقِ الْمَعْقُولَاتِ كَالْمِرْآةِ، فَالتَّقْسِيمُ الْأَوَّلُ يَقْطَعُ الْعِلْمَ عَنْ مَظَانِّ الِاشْتِبَاهِ. وَهَذَا الْمِثَالُ يُفْهِمُكَ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ، فَحَقَائِقُ الْمَعْقُولَاتِ إذَا انْطَبَعَ بِهَا النَّفْسُ الْعَاقِلَةُ تُسَمَّى عِلْمًا، وَكَمَا أَنَّ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَالْأَشْجَارَ وَالْأَنْهَارَ يُتَصَوَّرُ أَنْ تُرَى فِي الْمِرْآةِ حَتَّى كَأَنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْمِرْآةِ وَكَأَنَّ الْمِرْآةَ حَاوِيَةٌ لِجَمِيعِهَا، فَكَذَلِكَ الْحَضْرَةُ الْإِلَهِيَّةُ بِجُمْلَتِهَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَنْطَبِعَ بِهَا نَفْسُ الْآدَمِيِّ، وَالْحَضْرَةُ الْإِلَهِيَّةُ عِبَارَةٌ عَنْ جُمْلَةِ الْمَوْجُودَاتِ فَكُلُّهَا مِنْ الْحَضْرَةِ

الْإِلَهِيَّةِ إذْ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى وَأَفْعَالُهُ، فَإِذَا انْطَبَعَتْ بِهَا صَارَتْ كَأَنَّهَا كُلُّ الْعَالَمِ لِإِحَاطَتِهَا بِهِ تَصَوُّرًا وَانْطِبَاعًا. وَعِنْدَ ذَلِكَ رُبَّمَا ظَنَّ مَنْ لَا يَدْرِي الْحُلُولَ، فَيَكُونُ كَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الصُّورَةَ حَالَّةٌ فِي الْمِرْآةِ، وَهُوَ غَلَطٌ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي الْمِرْآةِ وَلَكِنْ كَأَنَّهَا فِي الْمِرْآةِ. فَهَذَا مَا نَرَى الِاقْتِصَارَ عَلَيْهِ فِي شَرْحِ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْمُقَدِّمَةِ الَّتِي هِيَ عِلَاوَةٌ عَلَى هَذَا الْعِلْمِ. امْتِحَانٌ ثَالِثٌ اخْتَلَفُوا فِي حَدِّ الْوَاجِبِ، فَقِيلَ: الْوَاجِبُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْإِيجَابُ، وَهُوَ فَاسِدٌ، كَقَوْلِهِمْ: الْعِلْمُ مَا يُعْلَمُ بِهِ، وَقِيلَ: مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ، وَقِيلَ: مَا يَجِبُ بِتَرْكِهِ الْعِقَابُ، وَقِيلَ: مَا لَا يَجُوزُ الْعَزْمُ عَلَى تَرْكِهِ، وَقِيلَ: مَا يَصِيرُ الْمُكَلَّفُ بِتَرْكِهِ عَاصِيًا، وَقِيلَ: مَا يُلَامُ تَارِكُهُ شَرْعًا. وَأَكْثَرُ هَذِهِ الْحُدُودِ تَعْرِضُ لِلَّوَازِمِ وَالتَّوَابِعِ، وَسَبِيلُكَ إنْ أَرَدْتَ الْوُقُوفَ عَلَى حَقِيقَتِهِ أَنْ تَتَوَصَّلَ إلَيْهِ بِالتَّقْسِيمِ كَمَا أَرْشَدْنَاكَ إلَيْهِ فِي حَدِّ الْعِلْمِ. فَاعْلَمْ أَنَّ الْأَلْفَاظَ فِي هَذَا الْفَنِّ خَمْسَةٌ الْوَاجِبُ، وَالْمَحْظُورُ، وَالْمَنْدُوبُ، وَالْمَكْرُوهُ، وَالْمُبَاحُ، فَدَعْ الْأَلْفَاظَ جَانِبًا وَرُدَّ النَّظَرَ إلَى الْمَعْنَى أَوَّلًا، فَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الْوَاجِبَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ إذْ يُطْلِقُهُ الْمُتَكَلِّمُ فِي مُقَابَلَةِ الْمُمْتَنِعِ، وَيَقُولُ وُجُودُ اللَّهِ تَعَالَى وَاجِبٌ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] . وَيُقَالُ وَجَبَتْ الشَّمْسُ، وَلَهُ بِكُلِّ مَعْنًى عِبَارَةٌ، وَالْمَطْلُوبُ الْآنَ مُرَادُ الْفُقَهَاءِ. وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ لَا شَكَّ أَنَّهَا لَا تُطْلَقُ عَلَى جَوْهَرٍ بَلْ عَلَى عَرَضٍ، وَلَا عَلَى كُلِّ عَرَضٍ بَلْ مِنْ جُمْلَتِهَا عَلَى الْأَفْعَالِ فَقَطْ، وَمِنْ الْأَفْعَالِ عَلَى أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ لَا عَلَى أَفْعَالِ الْبَهَائِمِ. فَإِذًا نَظَرُكَ إلَى أَقْسَامِ الْفِعْلِ لَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ مَقْدُورًا وَحَادِثًا وَمَعْلُومًا وَمُكْتَسَبًا وَمُخْتَرَعًا، وَلَهُ حَسَبُ كُلِّ نِسْبَةٍ انْقِسَامَاتٌ إذْ عَوَارِضُ الْأَفْعَالِ وَلَوَازِمُهَا كَثِيرَةٌ فَلَا نَظَرَ فِيهَا وَلَكِنْ إطْلَاقُ هَذَا الِاسْمِ عَلَيْهَا مِنْ حَيْثُ نِسْبَتُهَا إلَى خِطَابِ الشَّرْعِ فَقَطْ، فَنَقْسِمُ الْأَفْعَالَ بِالْإِضَافَةِ إلَى خِطَابِ الشَّرْعِ، فَنَعْلَمُ أَنَّ الْأَفْعَالَ تَنْقَسِمُ إلَى مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ خِطَابُ الشَّرْعِ كَفِعْلِ الْمَجْنُونِ وَإِلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَاَلَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ يَنْقَسِمُ إلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ وَبَيْنَ الْإِحْجَامِ عَنْهُ وَيُسَمَّى مُبَاحًا وَإِلَى مَا تَرَجَّحَ فِعْلُهُ عَلَى تَرْكِهِ وَإِلَى مَا تَرَجَّحَ تَرْكُهُ عَلَى فِعْلِهِ، وَاَلَّذِي تَرَجَّحَ فِعْلُهُ عَلَى تَرْكِهِ يَنْقَسِمُ إلَى مَا أَشْعَرَ بِأَنَّهُ لَا عِقَابَ عَلَى تَرْكِهِ وَيُسَمَّى مَنْدُوبًا وَإِلَى مَا أَشْعَرَ بِأَنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ وَيُسَمَّى وَاجِبًا. ثُمَّ رُبَّمَا خَصَّ فَرِيقٌ اسْمَ الْوَاجِبِ بِمَا أَشْعَرَ بِالْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ ظَنًّا وَمَا أَشْعَرَ بِهِ قَطْعًا خَصُّوهُ بِاسْمِ الْفَرْضِ. ثُمَّ لَا مُشَاحَّةَ فِي الْأَلْفَاظِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الْمَعَانِي، وَأَمَّا الْمُرَجَّحُ تَرْكُهُ فَيَنْقَسِمُ إلَى مَا أَشْعَرَ بِأَنَّهُ لَا عِقَابَ عَلَى فِعْلِهِ وَيُسَمَّى مَكْرُوهًا، وَقَدْ يَكُونُ مِنْهُ مَا أَشْعَرَ بِعِقَابٍ عَلَى فِعْلِهِ فِي الدُّنْيَا كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ نَامَ بَعْدَ الْعَصْرِ فَاخْتُلِسَ عَقْلُهُ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ» وَإِلَى مَا أَشْعَرَ بِعِقَابٍ فِي الْآخِرِ عَلَى فِعْلِهِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى مَحْظُورًا وَحَرَامًا وَمَعْصِيَةً، فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِكَ أَشْعَرَ؟ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ عُرِفَ بِدَلَالَةٍ مِنْ خِطَابٍ صَرِيحٍ أَوْ قَرِينَةٍ أَوْ مَعْنًى مُسْتَنْبَطٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ إشَارَةٍ، فَالْإِشْعَارُ يَعُمُّ جَمِيعَ الْمَدَارِكِ فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِكَ عَلَيْهِ عِقَابٌ؟ قُلْنَا: مَعْنَاهُ أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ سَبَبُ الْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا الْمُرَادُ بِكَوْنِهِ سَبَبًا؟ فَالْمُرَادُ بِهِ مَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِنَا الْأَكْلُ سَبَبُ الشِّبَعِ وَحَزُّ الرَّقَبَةِ سَبَبُ الْمَوْتِ وَالضَّرْبُ سَبَبُ الْأَلَمِ وَالدَّوَاءُ سَبَبُ الشِّفَاءِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَلَوْ كَانَ سَبَبًا لَكَانَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ لَا يُعَاقَبَ، وَكَمْ مِنْ تَارِكِ وَاجِبٍ يُعْفَى عَنْهُ

وَلَا يُعَاقَبُ فَأَقُولُ: لَيْسَ كَذَلِكَ، إذْ لَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِنَا الضَّرْبُ سَبَبُ الْأَلَمِ وَالدَّوَاءُ سَبَبُ الشِّفَاءِ أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ فِي كُلِّ شَخْصٍ أَوْ فِي مُعَيَّنٍ مُشَارٍ إلَيْهِ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَعْرِضَ فِي الْمَحَلِّ أَمْرٌ يَدْفَعُ السَّبَبَ وَلَا يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى بُطْلَانِ السَّبَبِيَّةِ، فَرُبَّ دَوَاءٍ لَا يَنْفَعُ وَرُبَّ ضَرْبٍ لَا يُدْرِكُ الْمَضْرُوبَ أَلَمُهُ لِكَوْنِهِ مَشْغُولَ النَّفْسِ بِشَيْءٍ آخَرَ، كَمَنْ يُجْرَحُ فِي حَالِ الْقِتَالِ وَهُوَ لَا يُحِسُّ فِي الْحَالِ بِهِ، وَكَمَا أَنَّ الْعِلَّةَ قَدْ تَسْتَحِكُمْ فَتَدْفَعُ أَثَرَ الدَّوَاءِ فَكَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ فِي سَرِيرَةِ الشَّخْصِ وَبَاطِنِهِ أَخْلَاقٌ رَضِيَّةٌ وَخِصَالٌ مَحْمُودَةٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مَرْضِيَّةٌ تُوجِبُ الْعَفْوَ عَنْ جَرِيمَتِهِ وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ خُرُوجَ الْجَرِيمَةِ عَنْ كَوْنِهَا سَبَبَ الْعِقَابِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: هَلْ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ حَدَّانِ؟ قُلْنَا: أَمَّا الْحَدُّ اللَّفْظِيُّ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَلْفًا إذْ ذَلِكَ بِكَثْرَةِ الْأَسَامِي الْمَوْضُوعَةِ لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ، وَأَمَّا الرَّسْمِيُّ فَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكْثُرَ لِأَنَّ عَوَارِضَ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ وَلَوَازِمِهِ قَدْ تَكْثُرُ. وَأَمَّا الْحَدُّ الْحَقِيقِيُّ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ إلَّا وَاحِدًا لِأَنَّ الذَّاتِيَّاتِ مَحْصُورَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهَا لَمْ يَكُنْ حَدًّا حَقِيقِيًّا، وَإِنْ ذَكَرَ مَعَ الذَّاتِيَّاتِ زِيَادَةً فَالزِّيَادَةُ حَشْوٌ. فَإِذًا هَذَا الْحَدُّ لَا يَتَعَدَّدُ وَإِنْ جَازَ أَنْ تَخْتَلِفَ الْعِبَارَاتُ الْمُتَرَادِفَةُ، كَمَا يُقَالُ فِي حَدِّ الْحَادِثِ إنَّهُ الْمَوْجُودُ بَعْدَ الْعَدَمِ أَوْ الْكَائِنُ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ أَوْ الْمَوْجُودُ الْمَسْبُوقُ بِعَدَمٍ أَوْ الْمَوْجُودُ عَنْ عَدَمٍ، فَهَذِهِ الْعِبَارَاتُ لَا تُؤَدِّي إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا فَإِنَّهَا فِي حُكْمِ الْمُتَرَادِفَةِ. وَلْنَقْتَصِرْ فِي الِامْتِحَانَاتِ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ فَالتَّنْبِيهُ حَاصِلٌ بِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [الدِّعَامَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ مَدَارّكِ الْعُقُولِ] [الْفَنُّ الْأَوَّلُ فِي السَّوَابِقِ] الدِّعَامَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ مَدَارّكِ الْعُقُولِ الدِّعَامَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ مَدَارّكِ الْعُقُولِ: فِي الْبُرْهَانِ الَّذِي بِهِ التَّوَصُّلُ إلَى الْعُلُومِ التَّصْدِيقِيَّةِ الْمَطْلُوبَةِ بِالْبَحْثِ وَالنَّظَرِ وَهَذِهِ الدِّعَامَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثَةِ فُنُونٍ: سَوَابِقُ، وَلَوَاحِقُ، وَمَقَاصِدُ. الْفَنُّ الْأَوَّلُ: فِي السَّوَابِقِ وَيَشْتَمِلُ عَلَى تَمْهِيدٍ كُلِّيٍّ وَثَلَاثَةِ فُصُولٍ: التَّمْهِيدُ: اعْلَمْ أَنَّ الْبُرْهَانَ عِبَارَةٌ عَنْ أَقَاوِيلَ مَخْصُوصَةٍ أُلِّفَتْ تَأْلِيفًا مَخْصُوصًا بِشَرْطٍ مَخْصُوصٍ يَلْزَمُ مِنْهُ رَأْيٌ هُوَ مَطْلُوبُ النَّاظِرِ بِالنَّظَرِ، وَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ إذَا وُضِعَتْ فِي الْبُرْهَانِ لِاقْتِبَاسِ الْمَطْلُوبِ مِنْهَا سُمِّيَتْ مُقَدِّمَاتٍ. وَالْخَلَلُ فِي الْبُرْهَانِ تَارَةً يَدْخُلُ فِي جِهَةِ نَفْسِ الْمُقَدِّمَاتِ إذْ قَدْ تَكُونُ خَالِيَةً عَنْ شُرُوطِهَا، وَأُخْرَى مِنْ كَيْفِيَّةِ التَّرْتِيبِ وَالنَّظْمِ وَإِنْ كَانَتْ الْمُقَدِّمَاتُ صَحِيحَةً يَقِينِيَّةً وَمَرَّةً مِنْهَا جَمِيعًا. وَمِثَالُهُ مِنْ الْمَحْسُوسَاتِ الْبَيْتُ، الْمَبْنِيُّ، فَإِنَّهُ أَمْرٌ مُرَكَّبٌ تَارَةً يَخْتَلُّ بِسَبَبٍ فِي هَيْئَةِ التَّأْلِيفِ بِأَنْ تَكُونَ الْحِيطَانُ مُعْوَجَّةً وَالسَّقْفُ مُنْخَفِضًا إلَى مَوْضِعٍ قَرِيبٍ مِنْ الْأَرْضِ فَيَكُونُ فَاسِدًا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ وَإِنْ كَانَتْ الْأَحْجَارُ وَالْجُذُوعُ وَسَائِرُ الْآلَاتِ صَحِيحَةً، وَتَارَةً يَكُونُ الْبَيْتُ صَحِيحَ الصُّورَةِ فِي تَرْبِيعِهَا وَوَضْعِ حِيطَانِهَا وَسَقْفِهَا وَلَكِنْ يَكُونُ الْخَلَلُ مِنْ رَخَاوَةٍ فِي الْجُذُوعِ وَتَشَعُّبٍ فِي اللَّبِنَاتِ هَذَا حُكْمُ الْبُرْهَانِ وَالْحَدِّ وَكُلِّ أَمْرٍ مُرَكَّبٍ، فَإِنَّ الْخَلَلَ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي هَيْئَةِ تَرْكِيبِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْأَصْلِ الَّذِي يَرِدُ عَلَيْهِ التَّرْكِيبُ، كَالثَّوْبِ فِي الْقَمِيصِ وَالْخَشَبِ فِي الْكُرْسِيِّ وَاللَّبِنِ فِي الْحَائِطِ وَالْجُذُوعِ فِي السَّقْفِ. وَكَمَا أَنَّ مَنْ يُرِيدُ بِنَاءَ بَيْتٍ بَعِيدٍ عَنْ الْخَلَلِ يَفْتَقِرُ إلَى أَنْ يَعُدَّ الْآلَاتِ الْمُفْرَدَةِ أَوَّلًا

كَالْجُذُوعِ وَاللَّبِنِ وَالطِّينِ، ثُمَّ إنْ أَرَادَ اللَّبِنَ افْتَقَرَ إلَى إعْدَادِ مُفْرَدَاتِهِ وَهُوَ التِّبْنُ وَالتُّرَابُ وَالْمَاءُ وَالْقَالَبُ الَّذِي فِيهِ يُضْرَبُ، فَيَبْدَأُ أَوَّلًا بِالْأَجْزَاءِ الْمُفْرَدَةِ فَيُرَكِّبُهَا ثُمَّ يُرَكِّبُ الْمُرَكَّبَ، وَهَكَذَا إلَى آخِرِ الْعَمَلِ. وَكَذَلِكَ طَالِبُ الْبُرْهَانِ يَنْبَغِي أَنْ يَنْظُرَ فِي نَظْمِهِ وَصُورَتِهِ وَفِي الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي فِيهَا النَّظْمُ وَالتَّرْتِيبُ، وَأَقَلُّ مَا يَنْتَظِمُ مِنْهُ بُرْهَانٌ مُقَدِّمَتَانِ أَعْنِي عِلْمَيْنِ يَتَطَرَّقُ إلَيْهِمَا التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ، وَأَقَلُّ مَا تَحْصُلُ مِنْهُ مُقَدِّمَةٌ مَعْرِفَتَانِ تُوضَعُ إحْدَاهُمَا مُخْبَرًا عَنْهَا وَالْأُخْرَى خَبَرًا وَوَصْفًا فَقَدْ انْقَسَمَ الْبُرْهَانُ إلَى مُقَدِّمَتَيْنِ وَانْقَسَمَ كُلُّ مُقَدِّمَةٍ إلَى مَعْرِفَتَيْنِ تُنْسَبُ إحْدَاهُمَا إلَى الْأُخْرَى وَكُلُّ مُفْرَدٍ فَهُوَ مَعْنًى وَيَدُلُّ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ بِلَفْظٍ، فَيَجِبُ ضَرُورَةً أَنْ نَنْظُرَ فِي الْمَعَانِي الْمُفْرَدَةِ وَأَقْسَامِهَا ثُمَّ فِي الْأَلْفَاظِ الْمُفْرَدَةِ وَوُجُوهِ دَلَالَتِهَا. ثُمَّ إذَا فَهِمْنَا اللَّفْظَ مُفْرَدًا وَالْمَعْنَى مُفْرَدًا أَلَّفْنَا مَعْنَيَيْنِ وَجَعَلْنَاهُمَا مُقَدِّمَةً، وَنَنْظُرُ فِي حُكْمِ الْمُقَدِّمَةِ وَشُرُوطِهَا ثُمَّ نَجْمَعُ مُقَدِّمَتَيْنِ وَنَصُوغُ مِنْهُمَا بُرْهَانًا وَنَنْظُرُ فِي كَيْفِيَّةِ الصِّيَاغَةِ الصَّحِيحَةِ وَكُلُّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ الْبُرْهَانَ بِغَيْرِ هَذَا الطَّرِيقِ فَقَدْ طَمِعَ فِي الْمُحَالِ وَكَانَ كَمَنْ طَمِعَ فِي أَنْ يَكُونَ كَاتِبًا يَكْتُبُ الْخُطُوطَ الْمَنْظُومَةَ وَهُوَ لَا يُحْسِنُ كِتَابَةَ الْكَلِمَاتِ، أَوْ يَكْتُبُ الْكَلِمَاتِ وَهُوَ لَا يُحْسِنُ كَتْبَ الْحُرُوفِ الْمُفْرَدَةِ. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي كُلِّ مُرَكَّبٍ، فَإِنَّ أَجْزَاءَ الْمُرَكَّبِ تُقَدَّمُ عَلَى الْمُرَكَّبِ بِالضَّرُورَةِ حَتَّى لَا يُوصَفَ الْقَادِرُ الْأَكْبَرُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى خَلْقِ الْعِلْمِ بِالْمُرَكَّبِ دُونَ الْآحَادِ، إذْ لَا يُوصَفُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِ الْخُطُوطِ الْمَنْظُومَةِ دُونَ تَعْلِيمِ الْكَلِمَاتِ. فَلِهَذِهِ الضَّرُورَةِ اشْتَمَلَتْ دِعَامَةُ الْبُرْهَانِ عَلَى فَنٍّ فِي السَّوَابِقِ وَفَنٍّ فِي الْمَقَاصِدِ وَفَنٍّ فِي اللَّوَاحِقِ. [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ عَلَى الْمَعَانِي] الْفَنُّ الْأَوَّلُ فِي السَّوَابِقِ فِيهِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي دَلَالَةِ الْأَلْفَاظِ عَلَى الْمَعَانِي وَيَتَّضِحُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ بِتَقْسِيمَاتٍ: التَّقْسِيمُ الْأَوَّلُ: أَنَّ دَلَالَةَ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى تَنْحَصِرُ فِي ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ وَهِيَ الْمُطَابَقَةُ وَالتَّضَمُّنُ وَالِالْتِزَامُ، فَإِنَّ لَفْظَ الْبَيْتِ دَلَّ عَلَى مَعْنَى الْبَيْتِ بِطَرِيقِ الْمُطَابَقَةِ وَيَدُلُّ عَلَى السَّقْفِ وَحْدَهُ بِطَرِيقِ التَّضَمُّنِ لِأَنَّ الْبَيْتَ يَتَضَمَّنُ السَّقْفَ لِأَنَّ الْبَيْتَ عِبَارَةٌ مِنْ السَّقْفِ وَالْحِيطَانِ، وَكَمَا يَدُلُّ لَفْظُ الْفَرَسِ عَلَى الْجِسْمِ إذْ لَا فَرَسَ إلَّا وَهُوَ جِسْمٌ. وَأَمَّا طَرِيقُ الِالْتِزَامِ فَهُوَ كَدَلَالَةِ لَفْظِ السَّقْفِ عَلَى الْحَائِطِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَوْضُوعٍ لِلْحَائِطِ وَضْعَ لَفْظِ الْحَائِطِ لِلْحَائِطِ حَتَّى يَكُونَ مُطَابِقًا وَلَا هُوَ مُتَضَمِّنٌ، إذْ لَيْسَ الْحَائِطُ جُزْءًا مِنْ السَّقْفِ كَمَا كَانَ السَّقْفُ جُزْءًا مِنْ نَفْسِ الْبَيْتِ وَكَمَا كَانَ الْحَائِط جُزْءًا مِنْ نَفْسِ الْبَيْتِ، لَكِنَّهُ كَالرَّفِيقِ الْمُلَازِمِ الْخَارِجِ عَنْ ذَاتِ السَّقْفِ الَّذِي لَا يَنْفَكُّ السَّقْفُ عَنْهُ. وَإِيَّاكَ أَنْ تَسْتَعْمِلَ فِي نَظَرِ الْعَقْلِ مِنْ الْأَلْفَاظِ مَا يَدُلُّ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ، لَكِنْ اقْتَصِرْ عَلَى مَا يَدُلُّ بِطَرِيقِ الْمُطَابَقَةِ وَالتَّضَمُّنِ، لِأَنَّ الدَّلَالَةَ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ لَا تَنْحَصِرُ فِي حَدٍّ إذْ السَّقْفُ يَلْزَمُ الْحَائِطَ وَالْحَائِطُ الْأُسَّ وَالْأُسُّ الْأَرْضَ وَذَلِكَ لَا يَنْحَصِرُ. التَّقْسِيمُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَلْفَاظَ بِالْإِضَافَةِ إلَى خُصُوصِ الْمَعْنَى وَشُمُولِهِ تَنْقَسِمُ إلَى لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى عَيْنٍ وَاحِدَةٍ وَنُسَمِّيهِ مُعَيَّنًا، كَقَوْلِكَ زَيْدٌ وَهَذِهِ الشَّجَرَةُ وَهَذَا الْفَرَسُ وَهَذَا السَّوَادُ، وَإِلَى مَا يَدُلَّ عَلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ تَتَّفِقُ فِي مَعْنًى وَاحِدٍ وَنُسَمِّيهِ مُطْلَقًا. وَالْأَوَّلُ حَدُّهُ اللَّفْظُ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَفْهُومُهُ إلَّا ذَلِكَ الْوَاحِدُ بِعَيْنِهِ فَلَوْ قَصَدْتَ اشْتِرَاكَ غَيْرِهِ فِيهِ مُنِعَ نَفْسُ مَفْهُومِ

اللَّفْظِ مِنْهُ. وَأَمَّا الْمُطْلَقُ فَهُوَ الَّذِي لَا يُمْنَعُ نَفْسُ مَفْهُومِهِ مِنْ وَقْعِ الِاشْتِرَاكِ فِي مَعْنَاهُ، كَقَوْلِكَ السَّوَادُ وَالْحَرَكَةُ وَالْفَرَسُ وَالْإِنْسَانُ. وَبِالْجُمْلَةِ الِاسْمُ الْمُفْرَدُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ إذَا أُدْخِلَ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعُمُومِ. فَإِنْ قُلْتَ: وَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا وَقَوْلُكَ الْإِلَهُ وَالشَّمْسُ وَالْأَرْضُ لَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ مُفْرَدٍ مَعَ دُخُولِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ؟ فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا غَلَطٌ، فَإِنَّ امْتِنَاعَ الشَّرِكَةِ هَهُنَا لَيْسَ لِنَفْسِ مَفْهُومِ اللَّفْظِ بَلْ الَّذِي وَضَعَ اللُّغَةَ لَوْ جَوَّزَ فِي الْإِلَهِ عَدَدًا لَكَانَ وُجُودُ هَذَا اللَّفْظِ عَامًا فِي الْآلِهَةِ كُلِّهَا، فَإِنْ امْتَنَعَ الشُّمُولُ لَمْ يَكُنْ لِوَضْعِ اللَّفْظِ بَلْ لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ إلَهٍ ثَانٍ، فَلَمْ يَكُنْ امْتِنَاعُ الشَّرِكَةِ لِمَفْهُومِ اللَّفْظِ. وَالْمَانِعُ فِي الشَّمْسِ أَنَّ الشَّمْسَ فِي الْوُجُودِ وَاحِدَةٌ، فَلَوْ فَرَضْنَا عَوَالِمَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ شَمْسٌ وَأَرْضٌ كَانَ قَوْلُنَا الشَّمْسُ وَالْأَرْضُ شَامِلًا لِلْكُلِّ. فَتَأَمَّلْ هَذَا فَإِنَّهُ مَزَلَّةُ قَدَمٍ فِي جُمْلَةٍ مِنْ الْأُمُورِ النَّظَرِيَّةِ، فَإِنَّ مَنْ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ قَوْلِهِ السَّوَادُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ هَذَا السَّوَادُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ الشَّمْسُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ هَذِهِ الشَّمْسُ عَظُمَ سَهْوُهُ فِي النَّظَرِيَّاتِ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي. التَّقْسِيمُ الثَّالِثُ: إنَّ الْأَلْفَاظَ الْمُتَعَدِّدَةَ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْمُسَمَّيَاتِ الْمُتَعَدِّدَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَنَازِلَ، وَلْنَخْتَرِعْ لَهَا أَرْبَعَةَ أَلْفَاظٍ وَهِيَ: الْمُتَرَادِفَةُ وَالْمُتَبَايِنَةُ وَالْمُتَوَاطِئَةُ وَالْمُشْتَرَكَةُ. أَمَّا الْمُتَرَادِفَةُ فَنَعْنِي بِهَا الْأَلْفَاظَ الْمُخْتَلِفَةَ وَالصِّيَغَ الْمُتَوَارِدَةَ عَلَى مُسَمًّى وَاحِدٍ كَالْخَمْرِ وَالْعُقَارِ وَاللَّيْثِ وَالْأَسَدِ وَالسَّهْمِ وَالنُّشَّابِ، وَبِالْجُمْلَةِ كُلُّ اسْمَيْنِ لِمُسَمًّى وَاحِدٍ يَتَنَاوَلُهُ أَحَدُهُمَا مِنْ حَيْثُ يَتَنَاوَلُهُ الْآخَرُ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ. وَأَمَّا الْمُتَبَايِنَةُ فَنَعْنِي بِهَا الْأَسَامِيَ الْمُخْتَلِقَةَ لِلْمَعَانِي الْمُخْتَلِفَةِ كَالسَّوَادِ وَالْقُدْرَةِ وَالْأَسَدِ وَالْمِفْتَاحِ وَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَسَائِرِ الْأَسَامِي وَهِيَ الْأَكْثَرُ. وَأَمَّا الْمُتَوَاطِئَةُ فَهِيَ الَّتِي تَنْطَلِقُ عَلَى أَشْيَاءَ مُتَغَايِرَةٍ بِالْعَدَدِ وَلَكِنَّهَا مُتَّفِقَةٌ بِالْمَعْنَى الَّذِي وُضِعَ الِاسْمُ عَلَيْهَا، كَاسْمِ الرَّجُلِ فَإِنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَى زَيْدٍ وَعَمْرٍو وَبَكْرٍ وَخَالِدٍ، وَاسْمِ الْجِسْمِ يَنْطَلِقُ عَلَى السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْإِنْسَانِ، لِاشْتِرَاكِ هَذِهِ الْأَعْيَانِ فِي مَعْنَى الْجِسْمِيَّةِ الَّتِي وُضِعَ الِاسْمُ بِإِزَائِهَا وَكُلُّ اسْمٍ مُطْلَقٍ لَيْسَ بِمُعَيَّنٍ كَمَا سَبَقَ فَإِنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَى آحَادِ مُسَمَّيَاتِهِ الْكَثِيرَةِ بِطَرِيقِ التَّوَاطُؤِ كَاسْمِ اللَّوْنِ لِلسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَالْحُمْرَةِ فَإِنَّهَا مُتَّفِقَةٌ فِي الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ سُمِّيَ اللَّوْنُ لَوْنًا وَلَيْسَ بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ أَلْبَتَّةَ. وَأَمَّا الْمُشْتَرَكَةُ فَهِيَ الْأَسَامِي الَّتِي تَنْطَلِقُ عَلَى مُسَمَّيَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ لَا تَشْتَرِكُ فِي الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ أَلْبَتَّةَ، كَاسْمِ الْعَيْنِ لِلْعُضْوِ الْبَاصِرِ وَلِلْمِيزَانِ وَلِلْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْمَاءُ وَهِيَ الْعَيْنُ الْفَوَّارَةُ وَلِلذَّهَبِ وَالشَّمْسِ وَكَاسْمِ الْمُشْتَرِي لِقَابِلِ عَقْدِ الْبَيْعِ وَلِلْكَوْكَبِ الْمَعْرُوفِ. وَلَقَدْ ثَارَ مِنْ ارْتِبَاكِ الْمُشْتَرَكَةِ بِالْمُتَوَاطِئَةِ غَلَطٌ كَثِيرٌ فِي الْعَقْلِيَّاتِ حَتَّى ظَنَّ جَمَاعَةٌ مِنْ ضُعَفَاءِ الْعُقُولِ أَنَّ السَّوَادَ لَا يُشَارِكُ الْبَيَاضَ فِي اللَّوْنِيَّةِ إلَّا مِنْ حَيْثُ الِاسْمُ وَأَنَّ ذَلِكَ كَمُشَارَكَةِ الذَّهَبِ لِلْحَدَقَةِ الْبَاصِرَةِ فِي اسْمِ الْعَيْنِ وَكَمُشَارَكَةِ قَابِلِ عَقْدِ الْبَيْعِ لِلْكَوْكَبِ فِي الْمُشْتَرِي، وَبِالْجُمْلَةِ الِاهْتِمَامُ بِتَمْيِيزِ الْمُشْتَرَكَةِ عَنْ الْمُتَوَاطِئَةِ مُهِمٌّ فَلْنَزِدْ لَهُ شَرْحًا فَنَقُولُ: الِاسْمُ الْمُشْتَرَكُ قَدْ يَدُلُّ عَلَى الْمُخْتَلِفَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَدْ يَدُلَّ عَلَى الْمُتَضَادِّينَ كَالْجَلَلِ لِلْحَقِيرِ وَالْخَطِيرِ وَالنَّاهِلِ لِلْعَطْشَانِ وَالرَّيَّانِ وَالْجَوْنِ لِلسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَالْقُرْءِ لِلطُّهْرِ وَالْحَيْضِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ قَدْ يَكُونُ مُشْكِلًا قَرِيبَ الشَّبَهِ مِنْ الْمُتَوَاطِئِ وَيَعْسُرُ عَلَى الذِّهْنِ وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الصَّفَاءِ الْفَرْقُ وَلْنُسَمِّ ذَلِكَ مُتَشَابِهًا، وَذَلِكَ مِثْلُ اسْمِ النُّورِ الْوَاقِعِ عَلَى الضَّوْءِ الْمُبْصَرِ

مِنْ الشَّمْسِ وَالنَّارِ وَالْوَاقِعِ عَلَى الْعَقْلِ الَّذِي بِهِ يُهْتَدَى فِي الْغَوَامِضِ، فَلَا مُشَارَكَةَ بَيْنَ حَقِيقَةِ ذَاتِ الْعَقْلِ وَالضَّوْءِ إلَّا كَمُشَارَكَةِ السَّمَاءِ لِلْإِنْسَانِ فِي كَوْنِهَا جِسْمًا إذْ الْجِسْمِيَّةُ فِيهِمَا لَا تَخْتَلِفُ الْبَتَّةُ مَعَ أَنَّهُ ذَاتِيٌّ لَهُمَا. وَيَقْرُبُ مِنْ لَفْظِ النُّورِ لَفْظُ الْحَيِّ عَلَى النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، فَإِنَّهُ بِالِاشْتِرَاكِ الْمَحْضِ إذْ يُرَادُ بِهِ مِنْ النَّبَاتِ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ نَمَاؤُهُ وَمِنْ الْحَيَوَانِ الْمَعْنَى الَّذِي بِهِ يُحِسُّ وَيَتَحَرَّكُ بِالْإِرَادَةِ، وَإِطْلَاقُهُ عَلَى الْبَارِي تَعَالَى إذَا تَأَمَّلْتَ عَرَفْتَ أَنَّهُ لِمَعْنًى ثَالِثٍ يُخَالِفُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا. وَمِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ تَتَابُعِ الْأَغَالِيطِ مَغْلَطَةٌ أُخْرَى قَدْ تَلْتَبِسُ الْمُتَرَادِفَةُ بِالْمُتَبَايِنَةِ، وَذَلِكَ إذَا أُطْلِقَتْ أَسَامٍ مُخْتَلِفَةٍ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ بِاعْتِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ رُبَّمَا ظُنَّ أَنَّهَا مُتَرَادِفَةٌ كَالسَّيْفِ وَالْمُهَنَّدِ وَالصَّارِمِ، فَإِنَّ الْمُهَنَّدَ يَدُلُّ عَلَى السَّيْفِ مَعَ زِيَادَةِ نِسْبَةٍ إلَى الْهِنْدِ فَخَالَفَ إذًا مَفْهُومُهُ مَفْهُومَ السَّيْفِ، وَالصَّارِمُ يَدُلُّ عَلَى السَّيْفِ مَعَ صِفَةِ الْحِدَّةِ وَالْقَطْعِ لَا كَالْأَسَدِ وَاللَّيْثِ. وَهَذَا كَمَا أَنَّا فِي اصْطِلَاحَاتِنَا النَّظَرِيَّةِ نَحْتَاجُ إلَى تَبْدِيلِ الْأَسَامِي عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ عِنْدَ تَبَدُّلِ اعْتِبَارَاتِهِ، كَمَا أَنَّا نُسَمِّي الْعِلْمَ التَّصْدِيقِيَّ الَّذِي هُوَ نِسْبَةٌ بَيْنَ مُفْرَدَيْنِ دَعْوَى إذَا تَحَدَّى بِهِ الْمُتَحَدِّي وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ بُرْهَانٌ إنْ كَانَ فِي مُقَابَلَةِ خَصْمٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مُقَابَلَةِ خَصْمٍ سَمَّيْنَاهُ قَضِيَّةً كَأَنَّهُ قُضِيَ فِيهِ عَلَى شَيْءٍ بِشَيْءٍ، فَإِنْ خَاضَ فِي تَرْتِيبِ قِيَاسِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ سَمَّيْنَاهُ مَطْلُوبًا، فَإِنْ دَلَّ بِقِيَاسِهِ عَلَى صِحَّتِهِ سَمَّيْنَاهُ نَتِيجَةً فَإِنْ اسْتَعْمَلَهُ دَلِيلًا فِي طَلَبِ أَمْرٍ آخَرَ وَرَتَّبَهُ فِي أَجْزَاءِ الْقِيَاسِ سَمَّيْنَاهُ مُقَدِّمَةً، وَهَذَا وَنَظَائِرُهُ مِمَّا يَكْثُرُ. مِثَالُ الْغَلَطِ فِي الْمُشْتَرَكِ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَعَالَى فِي مَسْأَلَةِ الْمُكْرَهِ عَلَى الْقَتْلِ: " يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ مُخْتَارٌ وَيَقُولُ الْحَنَفِيُّ " لَا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ مُكْرَهٌ وَلَيْسَ بِمُخْتَارٍ " وَيَكَادُ الذِّهْنُ لَا يَنْبُو عَنْ التَّصْدِيقِ بِالْأَمْرَيْنِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ التَّصْدِيقَ بِالضِّدَّيْنِ مُحَالٌ، وَتَرَى الْفُقَهَاءَ يَتَعَثَّرُونَ فِيهِ وَلَا يَهْتَدُونَ إلَى حِلِّهِ. وَإِنَّمَا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُخْتَارَ مُشْتَرَكٌ، إذْ قَدْ يُجْعَلُ لَفْظُ الْمُخْتَارِ مُرَادًا، فَاللَّفْظُ الْقَادِرُ وَمُسَاوِيًا لَهُ إذْ قُوبِلَ بِاَلَّذِي لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْحَرَكَةِ الْمَوْجُودَةِ كَالْمَحْمُولِ، فَيُقَالُ: هَذَا عَاجِزٌ مَحْمُولٌ، وَهَذَا قَادِرٌ مُخْتَارٌ، وَيُرَادُ بِالْمُخْتَارِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى الْفِعْلِ وَتَرْكِهِ وَهُوَ صَادِقٌ عَلَى الْمُكْرَهِ. وَقَدْ يُعَبَّرُ بِالْمُخْتَارِ عَمَّنْ تَخَلَّى فِي اسْتِعْمَالِ قُدْرَتِهِ وَدَوَاعِي ذَاتِهِ بِلَا تَحَرُّكِ دَوَاعِيهِ مِنْ خَارِجٍ، وَهَذَا يَكْذِبُ عَلَى الْمُكْرَهِ وَنَقِيضِهِ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُخْتَارٍ يَصْدُقُ عَلَيْهِ، فَإِذَا صَدَقَ عَلَيْهِ مُخْتَارٌ وَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُخْتَارٍ وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ مَفْهُومُ الْمُخْتَارِ الْمَنْفِيِّ غَيْرَ مَفْهُومِ الْمُخْتَارِ الْمُثْبَتِ. وَلِهَذَا نَظَائِرُ فِي النَّظَرِيَّاتِ لَا تُحْصَى تَاهَتْ فِيهَا عُقُولُ الضُّعَفَاءِ فَلْيُسْتَدَلَّ بِهَذَا الْقَلِيلِ عَلَى الْكَثِيرِ. [الْفَصْلُ الثَّانِي النَّظَرُ فِي الْمَعَانِي الْمُفْرَدَةِ] الْفَصْلُ الثَّانِي مِنْ الْفَنِّ الْأَوَّلِ النَّظَرُ فِي الْمَعَانِي الْمُفْرَدَةِ النَّظَرُ فِي الْمَعَانِي الْمُفْرَدَةِ. وَيَظْهَرُ الْغَرَضُ مِنْ ذَلِكَ بِتَقْسِيمَاتٍ ثَلَاثَةٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى إذَا وُصِفَ بِالْمَعْنَى وَنُسِبَ إلَيْهِ وُجِدَ إمَّا ذَاتِيًّا وَإِمَّا عَرَضِيًّا وَإِمَّا لَازِمًا وَقَدْ فَصَّلْنَاهُ. وَالثَّانِي أَنَّهُ إذَا نُسِبَ إلَيْهِ وُجِدَ إمَّا أَعَمَّ كَالْوُجُودِ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْجِسْمِيَّةِ، وَإِمَّا أَخْفَى كَالْجِسْمِيَّةِ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْوُجُودِ، وَإِمَّا مُسَاوِيًا كَالْمُتَحَيِّزِ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْجَوْهَرِ عِنْدَ قَوْمٍ وَإِلَى الْجِسْمِ عِنْدَ قَوْمٍ. الثَّالِثُ: أَنَّ الْمَعَانِيَ بِاعْتِبَارِ أَسْبَابِهَا الْمُدْرِكَةِ لَهَا ثَلَاثَةٌ: مَحْسُوسَةٌ وَمُتَخَيَّلَةٌ وَمَعْقُولَةٌ؛ وَلْنَصْطَلِحْ عَلَى تَسْمِيَةِ سَبَبِ الْإِدْرَاكِ قُوَّةً، فَنَقُولُ فِي حَدَقَتِكَ مَعْنًى بِهِ تَمَيَّزَتْ الْحَدَقَةُ عَنْ الْجَبْهَةِ حَتَّى صِرْتَ تُبْصِرُ بِهَا، وَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ الْمَعْنَى

بَطَلَ الْإِبْصَارُ، وَالْحَالَةُ الَّتِي تُدْرِكُهَا عِنْدَ الْإِبْصَارِ شَرْطُهَا وُجُودُ الْمُبْصَرِ، فَلَوْ انْعَدَمَ الْمُبْصَرُ انْعَدَمَ الْإِبْصَارُ وَتَبْقَى صُورَتُهُ فِي دِمَاغِكَ كَأَنَّكَ تَنْظُرُ إلَيْهَا. وَهَذِهِ الصُّورَةُ لَا تَفْتَقِرُ إلَى وُجُودِ الْمُتَخَيَّلِ، بَلْ عَدَمُهُ وَغَيْبَتُهُ لَا تَنْفِي الْحَالَةَ الْمُسَمَّاةَ تَخَيُّلًا وَتَنْفِي الْحَالَةَ الَّتِي تُسَمَّى إبْصَارًا. وَلَمَّا كُنْتَ تُحِسَّ بِالتَّخَيُّلِ فِي دِمَاغِكَ لَا فِي فَخِذِكَ وَبَطْنِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ فِي الدِّمَاغِ غَرِيزَةٌ وَصِفَةٌ بِهَا يَتَهَيَّأُ لِلتَّخَيُّلِ وَبِهَا بَايَنَ الْبَطْنَ وَالْفَخِذَ كَمَا بَايَنَ الْعَيْنُ الْجَبْهَةَ وَالْعَقِبَ فِي الْإِبْصَارِ بِمَعْنًى اخْتَصَّ بِهِ لَا مَحَالَةَ وَالصَّبِيُّ فِي أَوَّلِ نَشْئِهِ تَقْوَى فِيهِ قُوَّةُ الْإِبْصَارِ لَا قُوَّةُ التَّخَيُّلِ؛ فَلِذَلِكَ إذَا وَلِعَ بِشَيْءٍ فَغَيَّبْتَهُ عَنْهُ وَأَشْغَلَتْهُ بِغَيْرِهِ اشْتَغَلَ بِهِ وَلَهَا عَنْهُ. وَرُبَّمَا يَحْدُثُ فِي الدِّمَاغِ مَرَضٌ يُفْسِدُ الْقُوَّةَ الْحَافِظَةَ لِلتَّخَيُّلِ وَلَا يُفْسِدُ الْإِبْصَارَ فَيَرَى الْأَشْيَاءَ وَلَكِنَّهُ كَمَا تَغَيَّبَ عَنْهُ يَنْسَاهَا، وَهَذِهِ الْقُوَّةُ يُشَارِكُ الْبَهِيمَةَ فِيهَا الْإِنْسَانُ؛ وَلِذَلِكَ مَهْمَا رَأَى الْفَرَسُ الشَّعِيرَ تَذَكَّرَ صُورَتَهُ الَّتِي كَانَتْ لَهُ فِي دِمَاغِهِ فَعَرَفَ أَنَّهُ مُوَافِقٌ لَهُ وَأَنَّهُ مُسْتَلَذٌّ لَدَيْهِ فَبَادَرَ إلَيْهِ، فَلَوْ كَانَتْ الصُّورَةُ لَا تَثْبُتُ فِي خَيَالِهِ لَكَانَتْ رُؤْيَتُهُ لَهَا ثَانِيًا كَرُؤْيَتِهِ لَهَا أَوَّلًا حَتَّى لَا يُبَادِرَ إلَيْهِ مَا لَمْ يُجَرِّبْهُ بِالذَّوْقِ مَرَّةً أُخْرَى. ثُمَّ فِيكَ قُوَّةٌ ثَالِثَةٌ شَرِيفَةٌ يُبَايِنُ الْإِنْسَانُ بِهَا الْبَهِيمَةَ تُسَمَّى عَقْلًا مَحَلُّهَا إمَّا دِمَاغُكَ وَإِمَّا قَلْبُك، وَعِنْدَ مَنْ يَرَى النَّفْسَ جَوْهَرًا قَائِمًا بِذَاتِهِ غَيْرَ مُتَحَيِّزٍ مَحَلُّهَا النَّفْسُ. وَقُوَّةُ الْعَقْلِ تُبَايِنُ قُوَّةَ التَّخَيُّلِ مُبَايَنَةً أَشَدَّ مِنْ مُبَايَنَةِ التَّخَيُّلِ لِلْإِبْصَارِ، إذْ لَيْسَ بَيْنَ قُوَّةِ الْإِبْصَارِ وَقُوَّةِ التَّخَيُّلِ فَرْقٌ، إلَّا أَنَّ وُجُودَ الْمُبْصَرِ شَرْطٌ لِبَقَاءِ الْإِبْصَارِ وَلَيْسَ شَرْطًا لِبَقَاءِ التَّخَيُّلِ، وَإِلَّا فَصُورَةُ الْفَرَسِ تَدْخُلُ فِي الْإِبْصَارِ مَعَ قَدْرٍ مَخْصُوصٍ وَلَوْنٍ مَخْصُوصٍ وَبُعْدٍ مِنْك مَخْصُوصٍ، وَيَبْقَى فِي التَّخَيُّلِ ذَلِكَ الْبُعْدُ وَذَلِكَ الْقَدْرُ وَاللَّوْنُ وَذَلِكَ الْوَضْعُ وَالشَّكْلُ حَتَّى كَأَنَّكَ تَنْظُرُ إلَيْهِ. وَلَعَمْرِي فِيكَ قُوَّةٌ رَابِعَةٌ تُسَمَّى الْمُفَكِّرَةَ شَأْنُهَا أَنْ تَقْدِرَ عَلَى تَفْصِيل الصُّوَرِ الَّتِي فِي الْخَيَالِ وَتَقْطِيعِهَا وَتَرْكِيبِهَا وَلَيْسَ لَهَا إدْرَاكُ شَيْءٍ آخَرَ، وَلَكِنْ إذَا حَضَرَ فِي الْخَيَالِ صُورَةُ إنْسَانٍ قَدَرَ عَلَى أَنْ يَجْعَلَهَا نِصْفَيْنِ فَيُصَوِّرُ نِصْفَ إنْسَانٍ، وَرُبَّمَا رَكَّبَ شَخْصًا نِصْفَهُ مِنْ إنْسَانٍ وَنِصْفَهُ مِنْ فَرَسٍ، وَرُبَّمَا تَصَوَّرَ إنْسَانًا يَطِيرُ إذْ ثَبَتَ فِي الْخَيَالِ صُورَةُ الْإِنْسَانِ وَحْدَهُ وَصُورَةُ الطَّيْرِ وَحْدَهُ؛ وَهَذِهِ الْقُوَّةُ تَجْمَعُ بَيْنَهُمَا كَمَا تُفَرِّقُ بَيْنَ نِصْفَيْ الْإِنْسَانِ. وَلَيْسَ فِي وُسْعِهَا أَلْبَتَّةَ اخْتِرَاعُ صُورَةٍ لَا مِثَالَ لَهَا فِي الْخَيَالِ بَلْ كُلُّ تَصَوُّرَاتِهَا بِالتَّفْرِيقِ وَالتَّأْلِيفِ فِي الصُّوَرِ الْحَاصِلَةِ فِي الْخَيَّالِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مُبَايَنَةَ إدْرَاكِ الْعَقْلِ لِإِدْرَاكِ التَّخَيُّلِ أَشَدُّ مِنْ مُبَايَنَةِ التَّخَيُّلِ لِلْإِبْصَارِ، إذْ لَيْسَ لِلتَّخَيُّلِ أَنْ يُدْرِكَ الْمَعَانِيَ الْمُجَرَّدَةَ الْعَارِيَّةَ عَنْ الْقَرَائِنِ الْغَرِيبَةِ الَّتِي لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي ذَاتِهَا، أَعْنِي الَّتِي لَيْسَتْ ذَاتِيَّةً كَمَا سَبَقَ، فَإِنَّكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى تَخَيُّلِ السَّوَادِ إلَّا فِي مِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ مِنْ الْجِسْمِ وَمَعَهُ شَكْلٌ مَخْصُوصٌ وَوَضْعٌ مَخْصُوصٌ مِنْكَ بِقُرْبٍ أَوْ بُعْدٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّكْلَ غَيْرُ اللَّوْنِ وَالْقَدْرَ غَيْرُ الشَّكْلِ؛ فَإِنَّ الْمُثَلَّثَ لَهُ شَكْلٌ وَاحِدٌ صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا. وَإِنَّمَا إدْرَاكُ هَذِهِ الْمُفْرَدَاتِ الْمُجَرَّدَةِ بِقُوَّةٍ أُخْرَى اصْطَلَحْنَا عَلَى تَسْمِيَتِهَا عَقْلًا فَيُدْرِكُ السَّوَادَ وَيَقْضِي بِقَضَايَا وَيُدْرِكُ اللَّوْنِيَّةَ مُجَرَّدَةً وَيُدْرِكُ الْحَيَوَانِيَّةَ وَالْجِسْمِيَّةَ مُجَرَّدَةً وَحَيْثُ يُدْرِكُ الْحَيَوَانِيَّةَ قَدْ لَا يَحْضُرُهُ الِالْتِفَاتُ إلَى الْعَاقِلِ وَغَيْرِ الْعَاقِلِ وَإِنْ كَانَ الْحَيَوَانُ لَا يَخْلُو عَنْ الْقِسْمَيْنِ؛ وَحَيْثُ يَسْتَمِرُّ فِي نَظَرِهِ قَاضِيًا عَلَى الْأَلْوَانِ بِقَضِيَّةٍ قَدْ لَا يَحْضُرُ مَعْنَى السَّوَادِيَّةِ وَالْبَيَاضِيَّةِ وَغَيْرِهِمَا. وَهَذِهِ مِنْ عَجِيبِ خَوَاصِّهَا وَبَدِيعِ أَفْعَالِهَا، فَإِذَا رَأَى فَرَسًا وَاحِدًا أَدْرَكَ الْفَرَسَ الْمُطْلَقَ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ الصَّغِيرُ

وَالْكَبِيرُ وَالْأَشْهَبُ وَالْكُمَيْتُ وَالْبَعِيدُ مِنْهُ فِي الْمَكَانِ وَالْقَرِيبُ، بَلْ يُدْرِكُ الْفَرَسِيَّةَ الْمُجَرَّدَةَ الْمُطْلَقَةَ مُتَنَزِّهَةً عَنْ كُلِّ قَرِينَةٍ لَيْسَتْ ذَاتِيَّةً لَهَا، فَإِنَّ الْقَدْرَ الْمَخْصُوصَ وَاللَّوْنَ الْمَخْصُوصَ لَيْسَ لِلْفَرَسِ ذَاتِيًّا بَلْ عَارِضًا أَوْ لَازِمًا فِي الْوُجُودِ، إذْ مُخْتَلِفَاتُ اللَّوْنِ وَالْقَدْرِ تَشْتَرِكُ فِي حَقِيقَةِ الْفَرَسِيَّةِ وَهَذِهِ الْمُطْلَقَاتُ الْمُجَرَّدَةُ الشَّامِلَةُ لِأُمُورٍ مُخْتَلِفَةٍ هِيَ الَّتِي يُعَبِّرُ عَنْهَا الْمُتَكَلِّمُونَ بِالْأَحْوَالِ وَالْوُجُوهِ وَالْأَحْكَامِ وَيُعَبِّرُ عَنْهَا الْمَنْطِقِيُّونَ بِالْقَضَايَا الْكُلِّيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْأَذْهَانِ لَا فِي الْأَعْيَانِ، وَتَارَةً يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِأَنَّهَا غَيْرُ مَوْجُودَةٍ مِنْ خَارِجٍ بَلْ مِنْ دَاخِلٍ - يَعْنُونَ خَارِجَ الذِّهْنِ وَدَاخِلَهُ - وَيَقُولُ أَرْبَابُ الْأَحْوَالِ: إنَّهَا أُمُورٌ ثَابِتَةٌ، تَارَةً يَقُولُونَ أَنَّهَا مَوْجُودَةٌ مَعْلُومَةٌ وَتَارَةً يَقُولُونَ لَا مَوْجُودَةٌ وَلَا مَعْلُومَةٌ وَلَا مَجْهُولَةٌ، وَقَدْ دَارَتْ فِيهِ رُءُوسُهُمْ وَحَارَتْ عُقُولُهُمْ. وَالْعَجَبُ أَنَّهُ مَنْزِلٌ يَنْفَصِلُ فِيهِ الْمَعْقُولُ عَنْ الْمَحْسُوسِ، إذْ مِنْ هَهُنَا يَأْخُذُ الْعَقْلُ الْإِنْسَانِيُّ فِي التَّصَرُّفِ وَمَا كَانَ قَبْلَهُ كَانَ يُشَارِكُ التَّخَيُّلُ الْبَهِيمِيُّ فِيهِ التَّخَيُّلَ الْإِنْسَانِيَّ. وَمَنْ تَحَيَّرَ فِي أَوَّلِ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الْعَقْلِ كَيْفَ يُرْجَى فَلَاحُهُ فِي تَصَرُّفَاتِهِ. [الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي أَحْكَامِ الْمَعَانِي الْمُؤَلَّفَةِ] الْفَصْلُ الثَّالِثُ مِنْ السَّوَابِقِ فِي أَحْكَامِ الْمَعَانِي الْمُؤَلَّفَةِ قَدْ نَظَرْنَا فِي مُجَرَّدِ اللَّفْظِ ثُمَّ فِي مُجَرَّدِ الْمَعْنَى، فَنَنْظُرُ الْآنَ فِي تَأْلِيفِ الْمَعْنَى عَلَى وَجْهٍ يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ التَّصْدِيقُ وَالتَّكْذِيبُ، كَقَوْلِنَا مَثَلًا: الْعَالَمُ حَادِثٌ وَالْبَارِي تَعَالَى قَدِيمٌ، فَإِنَّ هَذَا يَرْجِعُ إلَى تَأْلِيفِ الْقُوَّةِ الْمُفَكِّرَةِ بَيْنَ مَعْرِفَتَيْنِ لِذَاتَيْنِ مُفْرَدَتَيْنِ بِنِسْبَةِ إحْدَاهُمَا إلَى الْأُخْرَى إمَّا بِالْإِثْبَاتِ كَقَوْلِكَ الْعَالَمُ حَادِثٌ أَوْ بِالسَّلْبِ كَقَوْلِكَ الْعَالَمُ لَيْسَ بِقَدِيمٍ؛ وَقَدْ الْتَأَمَ هَذَا مِنْ جُزْأَيْنِ يُسَمِّي النَّحْوِيُّونَ أَحَدَهُمَا مُبْتَدَأً وَالْآخَرَ خَبَرًا، وَيُسَمِّي الْمُتَكَلِّمُونَ أَحَدَهُمَا وَصْفًا وَالْآخَرَ مَوْصُوفًا، وَيُسَمِّي الْمَنْطِقِيُّونَ أَحَدَهُمَا مَوْضُوعًا وَالْآخَرَ مَحْمُولًا، وَيُسَمِّي الْفُقَهَاءُ أَحَدَهُمَا حُكْمًا وَالْآخَرَ مَحْكُومًا عَلَيْهِ، وَيُسَمَّى الْمَجْمُوعُ قَضِيَّةً. وَأَحْكَامُ الْقَضَايَا كَثِيرَةٌ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ مِنْهَا مَا تَكْثُرُ الْحَاجَةُ إلَيْهِ وَتَضُرُّ الْغَفْلَةُ عَنْهُ؛ وَهُوَ حُكْمَانِ: الْأَوَّلُ: الْقَضِيَّةُ تَنْقَسِمُ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ إلَى التَّعْيِينِ وَالْإِهْمَالِ وَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، فَهِيَ أَرْبَعٌ الْأُولَى: قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ، كَقَوْلِنَا زَيْدٌ كَاتِبٌ وَهَذَا السَّوَادُ عَرَضٌ. الثَّانِيَةُ: قَضِيَّةٌ مُطْلَقَةٌ خَاصَّةٌ، كَقَوْلِنَا بَعْضُ النَّاسِ عَالِمٌ وَبَعْضُ الْأَجْسَامِ سَاكِنٌ الثَّالِثَةُ: قَضِيَّةٌ مُطْلَقَةٌ عَامَّةٌ، كَقَوْلِنَا كُلُّ جِسْمٍ مُتَحَيِّزٌ وَكُلُّ سَوَادٍ لَوْنٌ الرَّابِعَةُ: قَضِيَّةٌ مُهْمَلَةٌ، كَقَوْلِنَا: الْإِنْسَانُ فِي خُسْرٍ وَعِلَّةُ هَذِهِ الْقِسْمَةِ أَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا مُشَارًا إلَيْهِ أَوْ لَا يَكُونُ عَيْنًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَيْنًا فَإِمَّا أَنْ يُحْصَرَ بِسُورٍ يُبَيِّنُ مِقْدَارَهُ بِكُلِّيَّتِهِ فَتَكُونُ مُطْلَقَةً عَامَّةً أَوْ بِجُزْئِيَّتِهِ فَتَكُونُ خَاصَّةً أَوْ لَا يُحْصَرُ بِسُورٍ فَتَكُونُ مُهْمَلَةً؛ وَالسُّورُ هُوَ قَوْلُكَ كُلٌّ " وَبَعْضٌ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا. وَمِنْ طُرُقِ الْمُغَالِطِينَ فِي النَّظَرِ اسْتِعْمَالُ الْمُهْمَلَاتِ بَدَلَ الْقَضَايَا الْعَامَّةِ، فَإِنَّ الْمُهْمَلَاتِ قَدْ يَرِدُ بِهَا الْخُصُوصُ وَالْعُمُومُ فَيَصْدُقُ طَرَفَا النَّقِيضِ، كَقَوْلِك: الْإِنْسَانُ فِي خُسْرٍ، تَعْنِي الْكَافِرَ. الْإِنْسَانُ لَيْسَ فِي خُسْرٍ، تَعْنِي الْأَنْبِيَاءَ. وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسَامَحَ بِهَذَا فِي النَّظَرِيَّاتِ، مِثَالُ أَنْ يَقُولَ الشَّفْعَوِيُّ مَثَلًا: مَعْلُومٌ أَنَّ الْمَطْعُومَ رِبَوِيٌّ وَالسَّفَرْجَلُ مَطْعُومٌ فَهُوَ إذًا رِبَوِيٌّ؛ فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قُلْتَ الْمَطْعُومُ رِبَوِيٌّ؟ فَتَقُولُ: دَلِيلُهُ الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ بِمَعْنًى فَإِنَّهَا مَطْعُومَاتٌ وَهِيَ رِبَوِيَّةٌ. فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: فَقَوْلُك الْمَطْعُومُ رِبَوِيٌّ أَرَدْتَ بِهِ كُلَّ الْمَطْعُومَاتِ أَوْ بَعْضَهَا؟ فَإِنْ أَرَدْتَ الْبَعْضَ لَمْ تَلْزَمْ النَّتِيجَةُ إذْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ السَّفَرْجَلُ مِنْ

الْبَعْضِ الَّذِي لَيْسَ رِبَوِيًّا وَيَكُونُ هَذَا خَلَلًا فِي نَظْمِ الْقِيَاسِ كَمَا يَأْتِي وَجْهُهُ، وَإِنْ أَرَدْتَ الْكُلَّ فَمِنْ أَيْنَ عَرَفْتَ هَذَا وَمَا عَدَدْتَهُ مِنْ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ لَيْسَ كُلَّ الْمَطْعُومَاتِ؟ النَّظَرُ الثَّانِي: فِي شُرُوطِ النَّقِيضِ. وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ إذْ رُبَّ مَطْلُوبٍ لَا يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ عَلَى بُطْلَانِ نَقِيضِهِ فَيُسْتَبَانُ مِنْ إبْطَالِهِ صِحَّةُ نَقِيضِهِ، وَالْقَضِيَّتَانِ الْمُتَنَاقِضَتَانِ يَعْنِي بِهِمَا كُلَّ قَضِيَّتَيْنِ إذَا صَدَقَتْ إحْدَاهُمَا كَذَبَتْ الْأُخْرَى بِالضَّرُورَةِ، كَقَوْلِنَا: الْعَالَمُ حَادِثٌ الْعَالَمُ لَيْسَ بِحَادِثٍ. وَإِنَّمَا يَلْزَمُ صِدْقُ إحْدَاهُمَا عِنْدَ كَذِبِ الْأُخْرَى بِسِتَّةِ شُرُوطٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ فِي الْقَضِيَّتَيْنِ وَاحِدًا بِالذَّاتِ لَا بِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ، فَإِنْ اتَّحَدَ اللَّفْظُ دُونَ الْمَعْنَى لَمْ يَتَنَاقَضَا، كَقَوْلِكَ: النُّورُ مُدْرَكٌ بِالْبَصَرِ غَيْرُ مُدْرَكٍ بِالْبَصَرِ، إذَا أَرَدْتَ بِأَحَدِهِمَا الضَّوْءَ وَبِالْآخَرِ الْعَقْلَ؛ وَلِذَلِكَ لَا يَتَنَاقَضُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ: الْمُضْطَرُّ مُخْتَارٌ الْمُضْطَرُّ لَيْسَ بِمُخْتَارٍ، وَقَوْلُهُمْ: الْمُضْطَرُّ آثِمٌ الْمُضْطَرُّ لَيْسَ بِآثِمٍ، إذْ قَدْ يُعَبَّرُ بِالْمُضْطَرِّ عَنْ الْمُرْتَعِدِ وَالْمَحْمُولِ الْمَطْرُوحِ عَلَى غَيْرِهِ، وَقَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْمَدْعُوِّ بِالسَّيْفِ إلَى الْفِعْلِ، فَالِاسْمُ مُتَّحِدٌ وَالْمَعْنَى مُخْتَلِفٌ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ وَاحِدًا وَالِاسْمُ مُخْتَلِفٌ، كَقَوْلِكَ: الْعَالَمُ قَدِيمٌ الْعَالَم لَيْسَ بِقَدِيمٍ، أَرَدْتُ بِأَحَدِ الْقَدِيمَيْنِ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] . وَلِذَلِكَ لَمْ يَتَنَاقَضْ قَوْلُهُمْ: الْمُكْرَهُ مُخْتَارٌ الْمُكْرَهُ لَيْسَ بِمُخْتَارٍ؛ لِأَنَّ الْمُخْتَارَ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ الثَّالِثُ: أَنْ تَتَّحِدَ الْإِضَافَةُ فِي الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ، فَإِنَّكَ لَوْ قُلْتَ زَيْدٌ أَبُ زَيْدٌ لَيْسَ بِأَبٍ، لَمْ يَتَنَاقَضَا إذْ يَكُونُ أَبًا لِبَكْرٍ وَلَا يَكُونُ أَبًا لِخَالِدٍ وَكَذَلِكَ تَقُولُ زَيْدٌ أَبٌ زَيْدٌ ابْنٌ، فَلَا يَتَعَدَّدُ بِالْإِضَافَةِ إلَى شَخْصَيْنِ، وَالْعَشَرَةُ نِصْفٌ وَالْعَشَرَةُ لَيْسَتْ بِنِصْفٍ أَيْ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْعِشْرِينَ وَالثَّلَاثِينَ؛ وَكَمَا يُقَالُ الْمَرْأَةُ مُوَلًّى عَلَيْهَا الْمَرْأَةُ غَيْرُ مُوَلًّى عَلَيْهَا، وَهُمَا صَادِقَانِ بِالْإِضَافَةِ إلَى النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ لَا إلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَإِلَى الْعَصَبَةِ وَالْأَجْنَبِيِّ لَا إلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ. الرَّابِعُ: أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الْقُوَّةِ وَالْفِعْلِ، فَإِنَّكَ تَقُولُ: الْمَاءُ فِي الْكُوزِ مُرْوٍ، أَيْ بِالْقُوَّةِ؛ وَلَيْسَ الْمَاءُ بِمُرْوٍ أَيْ بِالْفِعْلِ؛ وَالسَّيْفُ فِي الْغِمْدِ قَاطِعٌ وَلَيْسَ بِقَاطِعٍ. وَمِنْهُ ثَارَ الْخِلَافُ فِي أَنَّ الْبَارِئَ فِي الْأَزَلِ خَالِقٌ أَوْ لَيْسَ بِخَالِقٍ. الْخَامِسُ: التَّسَاوِي فِي الْجُزْءِ وَالْكُلِّ، فَإِنَّكَ تَقُولُ الزِّنْجِيُّ أَسْوَدُ الزِّنْجِيُّ لَيْسَ بِأَسْوَدَ، أَيْ لَيْسَ بِأَسْوَدِ الْأَسْنَانِ؛ وَعَنْهُ نَشَأَ الْغَلَطُ، حَيْثُ قِيلَ إنَّ الْعَالِمِيَّةَ حَالٌ لِزَيْدٍ بِجُمْلَتِهِ لِأَنَّ زَيْدًا عِبَارَةٌ عَنْ جُمْلَتِهِ وَلَمْ يُعْرَفْ أَنَّا إذَا قُلْنَا زَيْدٌ فِي بَغْدَادَ لَمْ نَعْنِ بِهِ أَنَّهُ فِي جَمِيعِ بَغْدَادَ بَلْ فِي جُزْءٍ مِنْهَا وَهُوَ مَكَانٌ يُسَاوِي مِسَاحَتَهُ. السَّادِسُ: التَّسَاوِي فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ فَإِنَّك تَقُولُ: الْعَالَمُ حَادِثٌ الْعَالَمُ لَيْسَ بِحَادِثٍ، أَيْ هُوَ حَادِثٌ عِنْدَ أَوَّلِ وُجُودِهِ وَلَيْسَ بِحَادِثٍ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ بَلْ قَبْلَهُ مَعْدُومٌ وَبَعْدَهُ بَاقٍ وَالصَّبِيُّ تَنْبُتُ لَهُ أَسْنَانٌ وَالصَّبِيُّ لَا تَنْبُتُ لَهُ أَسْنَانٌ، وَنَعْنِي بِأَحَدِهِمَا السَّنَةَ الْأُولَى

وَبِالْآخَرِ الَّتِي بَعْدَهَا. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْقَضِيَّةُ الْمُتَنَاقِضَةُ هِيَ الَّتِي تَسْلُبُ مَا أَثْبَتَتْهُ الْأُولَى بِعَيْنِهِ عَمَّا أَثْبَتَتْهُ بِعَيْنِهِ، وَفِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَالْمَكَانِ وَالْحَالِ وَبِتِلْكَ الْإِضَافَةِ بِعَيْنِهَا وَبِالْقُوَّةِ إنْ كَانَ ذَلِكَ بِالْقُوَّةِ وَبِالْفِعْلِ إنْ كَانَ ذَلِكَ بِالْفِعْلِ وَكَذَلِكَ فِي الْجُزْءِ وَالْكُلِّ، وَتَحْصِيلُ ذَلِكَ بِأَنْ لَا تُخَالِفَ الْقَضِيَّةُ النَّافِيَةُ الْمُثْبِتَةَ إلَّا فِي تَبْدِيلِ النَّفْيِ بِالْإِثْبَاتِ فَقَطْ [الْفَنُّ الثَّانِي فِي الْمَقَاصِدِ وَفِيهِ فَصْلَانِ] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي صُورَةِ الْبُرْهَانِ] الْفَنُّ الثَّانِي: فِي الْمَقَاصِدِ وَفِيهِ فَصْلَانِ فَصْلٌ فِي صُورَةِ الْبُرْهَانِ وَفَصْلٌ فِي مَادَّتِهِ الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي صُورَةِ الْبُرْهَانِ صُورَةِ الْبُرْهَانِ. وَالْبُرْهَانُ عِبَارَةٌ عَنْ مُقَدِّمَتَيْنِ مَعْلُومَتَيْنِ تُؤَلَّفُ تَأْلِيفًا مَخْصُوصًا بِشَرْطٍ مَخْصُوصٍ، فَيَتَوَلَّدُ بَيْنَهُمَا نَتِيجَةٌ، وَلِيس يَتَّحِدُ نَمَطُهُ بَلْ يَرْجِعُ إلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةِ الْمَأْخَذِ وَالْبَقَايَا تَرْجِعُ إلَيْهَا. النَّمَطُ الْأَوَّلُ ثَلَاثَةُ أَضْرُب: مِثَالُ الْأَوَّلِ قَوْلُنَا كُلُّ جِسْمٍ مُؤَلَّفِ وَكُلُّ مُؤَلَّفٍ حَادِثٌ، فَلَزِمَ أَنَّ كُلَّ جِسْمٍ حَادِثٌ. وَمِنْ الْفِقْهِ قَوْلُنَا كُلُّ نَبِيذٍ مُسْكِرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، فَلَزِمَ أَنَّ كُلَّ نَبِيذٍ حَرَامٌ. فَهَاتَانِ مُقَدِّمَتَانِ إذَا سَلِمَتَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَزِمَ بِالضَّرُورَةِ تَحْرِيمُ النَّبِيذِ، فَإِنْ كَانَتْ الْمُقَدِّمَاتُ قَطْعِيَّةً سَمَّيْنَاهَا بُرْهَانًا، وَإِنْ كَانَتْ مُسَلَّمَةً سَمَّيْنَاهَا قِيَاسًا جَدَلِيًّا. وَإِنْ كَانَتْ مَظْنُونَةً سَمَّيْنَاهَا قِيَاسًا فِقْهِيًّا. وَسَيَأْتِي الْفَرْقُ بَيْنَ الْيَقِينِ وَالظَّنِّ إذَا ذَكَرْنَا أَصْلَ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ كُلَّ مُقَدِّمَةٍ أَصْلٌ، فَإِذَا ازْدَوَجَ أَصْلَانِ حَصَلَتْ النَّتِيجَةُ وَعَادَةُ الْفُقَهَاءِ فِي مِثْلِ هَذَا النَّظْمِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: النَّبِيذُ مُسْكِرٌ فَكَانَ حَرَامًا قِيَاسًا عَلَى الْخَمْرِ، وَهَذَا لَا تَنْقَطِعُ الْمُطَالَبَةُ عَنْهُ مَا لَمْ يُرَدُّ إلَى النَّظْمِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، فَإِنْ رُدَّ إلَى هَذَا النَّظْمِ وَلَمْ يَكُنْ مُسَلَّمًا فَلَا تَلْزَمُ النَّتِيجَةُ إلَّا بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ حَتَّى يَثْبُتَ كَوْنُهُ مُسْكِرًا إنْ نُوزِعَ فِيهِ بِالْحِسِّ وَالتَّجْرِبَةِ، وَكَوْنُ الْمُسْكِرِ حَرَامًا بِالْخَبَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ» وَقَدْ ذَكَرنَا فِي كِتَابِ أَسَاسِ الْقِيَاسِ أَنَّ تَسْمِيَةَ هَذَا قِيَاسًا تَجَوُّزٌ، فَإِنَّ حَاصِلَهُ رَاجِعٌ إلَى ازْدِوَاجِ خُصُوصٍ تَحْتَ عُمُومٍ. وَإِذَا فَهِمْتَ صُورَةَ هَذَا النَّظْمِ فَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذَا الْبُرْهَانِ مُقَدِّمَتَيْنِ إحْدَاهُمَا قَوْلُنَا كُلُّ نَبِيذٍ مُسْكِرٌ، وَالْأُخْرَى قَوْلُنَا كُلّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَكُلُّ مُقَدِّمَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى جُزْأَيْنِ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، الْمُبْتَدَأُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ وَالْخَبَرُ حُكْمٌ، فَيَكُونُ مَجْمُوعُ أَجْزَاءِ الْبُرْهَانِ أَرْبَعَةَ أُمُورٍ إلَّا أَنَّ أَمْرًا وَاحِدًا يَتَكَرَّرُ فِي الْمُقَدِّمَتَيْنِ فَيَعُودُ إلَى ثَلَاثَةِ أَجْزَاءٍ بِالضَّرُورَةِ، لِأَنَّهَا لَوْ بَقِيَتْ أَرْبَعَةً لَمْ تَشْتَرِكْ الْمُقَدِّمَتَانِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَبَطَلَ الِازْدِوَاجُ بَيْنَهُمَا فَلَا تَتَوَلَّدُ النَّتِيجَةُ، فَإِنَّك إذَا قُلْتَ: النَّبِيذُ مُسْكِرٌ، ثُمَّ لَمْ تَتَعَرَّضْ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ لَا لِلنَّبِيذِ وَلَا لِلْمُسْكِرِ لَكِنْ قُلْتَ: وَالْمَغْصُوبُ مَضْمُونٌ أَوْ الْعَالَمُ حَادِثٌ، فَلَا تَرْتَبِطُ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى، فَبِالضَّرُورَةِ يَنْبَغِي أَنْ تُكَرِّرَ الْأَجْزَاءَ الْأَرْبَعَةَ فَلْنَصْطَلِحْ عَلَى تَسْمِيَةِ الْمُتَكَرِّرِ " عِلَّةً " وَهُوَ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَقْتَرِنَ بِقَوْلِكَ " لِأَنَّ " فِي جَوَابِ الْمُطَالَبَةِ " بِلِمَ " فَإِنَّهُ إذَا قِيلَ لَكَ: لِمَ قُلْتَ إنَّ النَّبِيذَ حَرَامٌ قُلْتَ لِأَنَّهُ مُسْكِرٌ، وَلَا تَقُولُ لِأَنَّهُ نَبِيذٌ، وَلَا تَقُولُ لِأَنَّهُ حَرَامٌ، فَمَا يَقْتَرِنُ بِهِ " لِأَنَّ " هُوَ الْعِلَّةُ. وَلْنُسَمِّ مَا يَجْرِي مَجْرَى النَّبِيذِ مَحْكُومًا عَلَيْهِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى الْحَرَامِ حُكْمًا، فَإِنَّا فِي النَّتِيجَةِ نَقُولُ: فَالنَّبِيذُ حَرَامٌ. وَلْنَشْتَقَّ لِلْمُقَدَّمَتَيْنِ اسْمَيْنِ مِنْهُمَا لَا مِنْ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ مُتَكَرِّرَةٌ فِيهِمَا، فَنُسَمِّي الْمُقَدِّمَةَ الْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْمَحْكُومِ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى وَهِيَ قَوْلُنَا كُلُّ نَبِيذٍ مُسْكِرٌ، وَالْمُشْتَمِلَةَ عَلَى الْحُكْمِ الْمُقَدِّمَةَ الثَّانِيَةَ وَهِيَ

قَوْلُنَا كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، أَخْذًا مِنْ النَّتِيجَةِ، فَإِنَّا نَقُولُ: فَكُلُّ نَبِيذٍ حَرَامٌ، فَتَذْكُرُ النَّبِيذَ أَوَّلًا ثُمَّ الْحَرَامَ، وَغَرَضُ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ سُهُولَةُ التَّعْرِيفِ عِنْدَ التَّفْصِيلِ وَالتَّحْقِيقِ. وَمَهْمَا كَانَتْ الْمُقَدِّمَاتُ مَعْلُومَةً كَانَ الْبُرْهَانُ قَطْعِيًّا، وَإِنْ كَانَتْ مَنْظُومَةً كَانَ فِقْهِيًّا، وَإِنْ كَانَتْ مَمْنُوعَةً فَلَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِهَا، وَأَمَّا بَعْدَ تَسْلِيمِهَا فَلَا يُمْكِنُ الشَّكُّ فِي النَّتِيجَةِ أَصْلًا بَلْ كُلُّ عَاقِلٍ صَدَّقَ بِالْمُقَدَّمَتَيْنِ فَهُوَ مُضْطَرٌّ إلَى التَّصْدِيقِ بِالنَّتِيجَةِ مَهْمَا أَحْضَرَهُمَا فِي الذِّهْنِ وَأَحْضَرَ مَجْمُوعَهُمَا بِالْبَالِ. وَحَاصِلُ وَجْه الدَّلَالَةِ فِي هَذَا النَّظْمِ أَنَّ الْحُكْمَ عَلَى الصِّفَةِ حُكْمٌ عَلَى الْمَوْصُوفِ؛ لِأَنَّا إذَا قُلْنَا: النَّبِيذُ مُسْكِرٌ، جَعَلْنَا الْمُسْكِرَ وَصْفًا، فَإِذَا حَكَمْنَا عَلَى كُلِّ مُسْكِرٍ بِأَنَّهُ حَرَامٌ فَقَدْ حَكَمْنَا عَلَى الْوَصْفِ، فَبِالضَّرُورَةِ يَدْخُلُ الْمَوْصُوفُ فِيهِ فَإِنَّهُ إنْ بَطَلَ قَوْلُنَا النَّبِيذُ حَرَامٌ مَعَ كَوْنِهِ مُسْكِرًا بَطَلَ قَوْلُنَا كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ إذَا ظَهَرَ لَنَا مُسْكِرٌ لَيْسَ بِحَرَامٍ. وَهَذَا الضَّرْبُ لَهُ شَرْطَانِ فِي كَوْنِهِ مُنْتِجًا: شَرْطٌ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْأُولَى وَهُوَ أَنْ تَكُونَ مُثْبِتَةً، فَإِنْ كَانَتْ نَافِيَةً لَمْ تُنْتِجْ لِأَنَّكَ إذَا نَفَيْتَ شَيْئًا عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَكُنِ الْحُكْمُ عَلَى النَّفْيِ حُكْمًا عَلَى الْمَنْفِيِّ عَنْهُ، فَإِنَّكَ إذَا قُلْتَ: لَا خَلَّ وَاحِدٌ مُسْكِرٌ وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ حُكْمٌ فِي الْخَلِّ إذَا وَقَعَتْ الْمُبَايَنَةُ بَيْنَ الْمُسْكِرِ وَالْخَلِّ، فَحُكْمُكَ عَلَى الْمُسْكِرِ بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ لَا يَتَعَدَّى إلَى الْخَلِّ الشَّرْطُ الثَّانِي فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ: وَهُوَ أَنْ تَكُونَ عَامَّةً كُلِّيَّةً حَتَّى يَدْخُلَ الْمَحْكُومُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ عُمُومِهَا فِيهَا، فَإِنَّكَ إذَا قُلْتَ كُلُّ سَفَرْجَلٍ مَطْعُومٌ وَبَعْضُ الْمَطْعُومِ رِبَوِيٌّ، لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ كَوْنُ السَّفَرْجَلِ رِبَوِيًّا إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ عَلَى بَعْضِ الْمَطْعُومِ أَنْ يَتَنَاوَلَ السَّفَرْجَلَ. نَعَمْ إذَا قُلْتَ وَكُلُّ مَطْعُومٍ رِبَوِيٌّ لَزِمَ فِي السَّفَرْجَلِ، وَيَثْبُتُ ذَلِكَ بِعُمُومِ الْخَبَرِ. فَإِنْ قُلْتَ: فَبِمَاذَا يُفَارِقُ هَذَا الضَّرْبُ الضَّرْبَيْنِ الْآخَرَيْنِ بَعْدَهُ؟ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعِلَّةَ إمَّا أَنْ تُوضَعَ مَحْكُومًا عَلَيْهَا فِي الْمُقَدِّمَتَيْنِ، أَوْ مَحْكُومًا بِهَا فِي الْمُقَدِّمَتَيْنِ، أَوْ تُوضَعَ حُكْمًا فِي إحْدَاهُمَا مَحْكُومَةً فِي الْأُخْرَى، وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ النَّظْمُ الْأَوَّلُ، وَالثَّانِي وَالثَّالِثُ لَا يَتَّضِحَانِ غَايَةَ الِاتِّضَاحِ إلَّا بِالرَّدِّ إلَيْهِ فَلِذَلِكَ قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ. النَّظْمُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ حُكْمًا فِي الْمُقَدِّمَتَيْنِ، مِثَالُهُ قَوْلُنَا: الْبَارِي تَعَالَى لَيْسَ بِجِسْمٍ؛ لِأَنَّ الْبَارِي غَيْرُ مُؤَلَّفٍ وَكُلُّ جِسْمٍ مُؤَلَّفٌ فَالْبَارِي تَعَالَى إذَنْ لَيْسَ بِجِسْمٍ. فَهَهُنَا ثَلَاثَةُ مَعَانٍ: الْبَارِي وَالْمُؤَلَّفُ وَالْجِسْمُ، وَالْمُكَرَّرُ هُوَ الْمُؤَلَّفُ فَهُوَ الْعِلَّةُ، وَتَرَاهُ خَبَرًا فِي الْمُقَدِّمَتَيْنِ وَحُكْمًا بِخِلَافِ الْمُسْكِرِ فِي النَّظْمِ الْأَوَّلِ إذْ كَانَ خَبَرًا فِي إحْدَاهُمَا مُبْتَدَأً فِي الْأُخْرَى وَوَجْهُ لُزُومِ النَّتِيجَةِ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ شَيْئَيْنِ ثَبَتَ لِأَحَدِهِمَا مَا انْتَفَى عَنْ الْآخَرِ فَهُمَا مُتَبَايِنَانِ، فَالتَّأْلِيفُ ثَابِتٌ لِلْجِسْمِ مُنْتَفٍ عَنْ الْبَارِي تَعَالَى، فَلَا يَكُونُ بَيْنَ مَعْنَى الْجِسْمِ وَبَيْنَ الْبَارِي الْتِقَاءٌ أَيْ لَا يَكُونُ الْبَارِي جِسْمًا وَلَا الْجِسْمُ هُوَ الْبَارِي تَعَالَى. وَيُمْكِنُ بَيَانُ لُزُومِ النَّتِيجَةِ بِالرَّدِّ إلَى النَّظْمِ الْأَوَّلِ بِطَرِيقِ الْعَكْسِ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي كِتَابِ " مِعْيَارُ الْعِلْمِ " وَكِتَابِ " مَحَكُّ النَّظَرِ " فَلَا نُطَوِّلُ الْآنَ بِهِ. وَهَذَا النَّظْمُ هُوَ الَّذِي يُعَبِّرُ عَنْهُ الْفُقَهَاءُ بِالْفَرْقِ، إذْ يَقُولُونَ: الْجِسْمُ مُؤَلَّفٌ وَالْبَارِي غَيْرُ مُؤَلَّفٍ. وَخَاصِّيَّةُ هَذَا النَّظْمِ أَنَّهُ لَا يُنْتِجُ إلَّا قَضِيَّةً نَافِيَةً سَالِبَةً، وَأَمَّا النَّظْمُ الْأَوَّلُ فَإِنَّهُ يُنْتِجُ النَّفْيَ وَالْإِثْبَاتَ جَمِيعًا. وَمِنْ شُرُوطِ هَذَا النَّظْمِ أَنْ تَخْتَلِفَ الْمُقَدِّمَتَانِ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، فَإِنْ كَانَتَا مُثْبَتَتَيْنِ لَمْ يُنْتِجَا؛ لِأَنَّ حَاصِلَ هَذَا النَّظْمِ يَرْجِعُ إلَى الْحُكْمِ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ عَلَى شَيْئَيْنِ، وَلِيس مِنْ

ضَرُورَةٍ كُلُّ شَيْئَيْنِ يُحْكَمُ عَلَيْهِمَا بِشَيْءٍ وَاحِدٍ أَنْ يُخْبَرَ بِأَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ، فَإِنَّا نَحْكُمُ عَلَى السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ بِاللَّوْنِيَّةِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُخْبَرَ عَنْ السَّوَادِ بِأَنَّهُ بَيَاضٌ وَلَا عَنْ الْبَيَاضِ بِأَنَّهُ سَوَادٌ. وَنَظْمُهُ أَنْ يُقَال كُلُّ سَوَادٍ لَوْنٌ وَكُلُّ بَيَاضٍ لَوْنٌ، فَلَا يَلْزَمُ كُلُّ سَوَادٍ بَيَاضٌ وَلَا كُلُّ بَيَاضٍ سَوَادٌ. نَعَمْ كُلُّ شَيْئَيْنِ أُخْبِرَ عَنْ أَحَدِهِمَا بِمَا يُخْبَرُ عَنْ الْآخَرِ بِنَفْيِهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا انْفِصَالٌ وَهُوَ النَّفْيُ. النَّظْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ مُبْتَدَأً فِي الْمُقَدِّمَتَيْنِ، وَهَذَا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ نَقْضًا. وَهَذَا إذَا اجْتَمَعَتْ شُرُوطُهُ أَنْتَجَ نَتِيجَةً خَاصَّةً لَا عَامَّةً، مِثَالُهُ قَوْلُنَا كُلُّ سَوَادٍ عَرَضٌ وَكُلُّ سَوَادٍ لَوْنٌ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ بَعْضَ الْعَرَضِ لَوْنٌ. وَكَذَلِكَ لَوْ قُلْتَ كُلُّ بُرٍّ مَطْعُومٌ وَكُلُّ بُرٍّ رِبَوِيٌّ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ بَعْضَ الْمَطْعُومِ رِبَوِيٌّ وَوَجْهُ دَلَالَتِهِ أَنَّ الرِّبَوِيَّ وَالْمَطْعُومَ شَيْئَانِ حَكَمْنَا بِهِمَا عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْبُرُّ فَالْتَقَيَا عَلَيْهِ، وَأَقَلُّ دَرَجَاتِ الِالْتِقَاءِ أَنْ يُوجِبَ حُكْمًا خَاصًّا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَامًّا فَأَمْكَنَ أَنْ يُقَالَ بَعْضُ الْمَطْعُومِ رِبَوِيُّ وَبَعْضُ الرِّبَوِيِّ مَطْعُومٌ. النَّمَطُ الثَّانِي مِنْ الْبُرْهَانِ: وَهُوَ نَمَطُ التَّلَازُمِ. يَشْتَمِلُ عَلَى مُقَدِّمَتَيْنِ، وَالْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى تَشْتَمِلُ عَلَى قَضِيَّتَيْنِ، وَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى ذِكْرِ إحْدَى تَيْنِكَ الْقَضِيَّتَيْنِ تَسْلِيمًا إمَّا بِالنَّفْيِ أَوْ بِالْإِثْبَاتِ حَتَّى تُسْتَنْتَجَ مِنْهُ إحْدَى تَيْنِكَ الْقَضِيَّتَيْنِ أَوْ نَقِيضُهَا. وَلْنُسَمِّ هَذَا نَمَطَ التَّلَازُمِ، وَمِثَالُهُ قَوْلُنَا: إنْ كَانَ الْعَالَمُ حَادِثًا فَلَهُ مُحْدِثٌ، فَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ حَادِثٌ وَهِيَ الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ لَهُ مُحْدِثًا. وَالْأُولَى اشْتَمَلَتْ عَلَى قَضِيَّتَيْنِ لَوْ أُسْقِطَ مِنْهُمَا حَرْفُ الشَّرْطِ لَانْفَصَلَتَا؛ إحْدَاهُمَا قَوْلُنَا: إنْ كَانَ الْعَالَمُ حَادِثًا. وَالثَّانِيَةُ قَوْلُنَا: فَلَهُ مُحْدِثٌ. وَلْنُسَمِّ الْقَضِيَّةَ الْأُولَى الْمُقَدَّمَ، وَلْنُسَمِّ الْقَضِيَّةَ الثَّانِيَةَ اللَّازِمَ وَالتَّابِعَ. وَالْقَضِيَّةُ الثَّانِيَةُ اشْتَمَلَتْ عَلَى تَسْلِيمِ عَيْنِ الْقَضِيَّةِ الَّتِي سَمَّيْنَاهَا مُقَدَّمًا، وَهُوَ قَوْلُنَا: وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعَالَمَ حَادِثٌ، فَتَلْزَمُ مِنْهُ النَّتِيجَةُ وَهُوَ أَنَّ لِلْعَالَمِ مُحْدِثًا وَهُوَ عَيْنُ اللَّازِم، وَمِثَالُهُ فِي الْفِقْهِ قَوْلُنَا: إنْ كَانَ الْوِتْرُ يُؤَدَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ بِكُلِّ حَالٍ فَهُوَ نَفْلٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ يُؤَدَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ فَثَبَتَ أَنَّهُ نَفْلٌ. وَهَذَا النَّمَطُ يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ أَرْبَعُ تَسْلِيمَاتٍ تَنْتُجُ مِنْهَا اثْنَتَانِ وَلَا تَنْتُجُ اثْنَتَانِ، أَمَّا الْمُنْتِجُ فَتَسْلِيمُ عَيْنِ الْمُقَدَّمِ يُنْتِجُ عَيْنَ اللَّازِمِ، مِثَالُهُ قَوْلُنَا: إنْ كَانَتْ هَذِهِ الصَّلَاةُ صَحِيحَةً فَالْمُصَلِّي مُتَطَهِّرٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ صَحِيحَةٌ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي مُتَطَهِّرًا. وَمِثَالُهُ مِنْ الْحِسِّ: إنْ كَانَ هَذَا سَوَادًا فَهُوَ لَوْنٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ سَوَادٌ فَإِذًا هُوَ لَوْنٌ أَمَّا الْمُنْتِجُ الْآخَرُ فَهُوَ تَسْلِيمُ نَقِيضِ اللَّازِمِ فَإِنَّهُ يُنْتِجُ نَقِيضَ الْمُقَدَّمِ مِثَالُهُ قَوْلُنَا: إنْ كَانَتْ هَذِهِ الصَّلَاةُ صَحِيحَةً فَالْمُصَلِّي مُتَطَهِّرٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُصَلِّي غَيْرُ مُتَطَهِّرٍ فَيَنْتُجُ أَنَّ الصَّلَاة غَيْرُ صَحِيحَةٍ. وَإِنْ كَانَ بَيْعُ الْغَائِبِ صَحِيحًا فَهُوَ يَلْزَمُ بِصَرِيحِ الْإِلْزَامِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ بِصَرِيحِ الْإِلْزَامِ فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَوَجْهُ دَلَالَةِ هَذَا النَّمَطِ عَلَى الْجُمْلَةِ أَنَّ مَا يُفْضِي إلَى الْمُحَالِ فَهُوَ مُحَالٌ وَهَذَا يُفْضِي إلَى الْمُحَالِ فَهُوَ إذًا مُحَالٌ، كَقَوْلِنَا: لَوْ كَانَ الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُسْتَقِرًّا عَلَى الْعَرْشِ لَكَانَ إمَّا مُسَاوِيًا لِلْعَرْشِ أَوْ أَكْبَرَ أَوْ أَصْغَرَ وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ، فَمَا يُفْضِي إلَيْهِ مُحَالٌ وَهَذَا يُفْضِي إلَى الْمُحَالِ فَهُوَ إذًا مُحَالٌ. وَأَمَّا الَّذِي لَا يُنْتِجُ فَهُوَ تَسْلِيمُ عَيْنِ اللَّازِمِ، فَإِنَّا لَوْ قُلْنَا: إنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ صَحِيحَةً فَالْمُصَلِّي مُتَطَهِّرٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُصَلِّي مُتَطَهِّرٌ فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ لَا صِحَّةُ الصَّلَاةِ وَلَا فَسَادُهَا إذْ قَدْ تَفْسُدُ الصَّلَاةُ بِعِلَّةٍ أُخْرَى. وَكَذَلِكَ تَسْلِيمُ نَقِيضِ الْمُقَدَّمِ لَا يُنْتِجُ عَيْنَ اللَّازِمِ وَلَا نَقِيضَهُ، فَإِنَّا

لَوْ قُلْنَا: وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّلَاةَ لَيْسَتْ صَحِيحَةً، فَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا كَوْنُ الْمُصَلِّي مُتَطَهِّرًا وَلَا كَوْنُهُ غَيْرَ مُتَطَهِّرٍ. وَتَحْقِيقُ لُزُومِ النَّتِيجَةِ مِنْ هَذَا النَّمَطِ أَنَّهُ مَهْمَا جُعِلَ شَيْءٌ لَازِمًا لِشَيْءٍ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ الْمَلْزُومُ أَعَمَّ مِنْ اللَّازِمِ بَلْ إمَّا أَخَصَّ أَوْ مُسَاوِيًا، وَمَهْمَا كَانَ أَخَصَّ فَثُبُوتُ الْأَخَصِّ بِالضَّرُورَةِ يُوجِبُ ثُبُوتَ الْأَعَمِّ، إذْ يَلْزَمُ مَنْ ثُبُوتِ السَّوَادِ ثُبُوتُ اللَّوْنِ، وَهُوَ الَّذِي عَنَيْنَاهُ بِتَسْلِيمِ عَيْنِ اللَّازِمِ وَانْتِفَاءُ الْأَعَمِّ يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْأَخَصِّ بِالضَّرُورَةِ، إذْ يَلْزَمُ مِنْ انْتِفَاءِ اللَّوْنِ انْتِفَاءُ السَّوَادِ وَهُوَ الَّذِي عَنَيْنَاهُ بِتَسْلِيمِ نَقِيضِ اللَّازِمِ. وَأَمَّا ثُبُوتُ الْأَعَمِّ فَلَا يُوجِبُ ثُبُوتَ الْأَخَصِّ فَإِنَّ ثُبُوتَ اللَّوْنِ لَا يُوجِبُ ثُبُوتَ السَّوَادِ، فَلِذَلِكَ قُلْنَا تَسْلِيمُ عَيْنِ اللَّازِمِ لَا يُنْتِجُ. وَأَمَّا انْتِفَاءُ الْأَخَصِّ فَلَا يُوجِبُ انْتِفَاءَ الْأَعَمِّ وَلَا ثُبُوتَهُ، فَإِنَّ انْتِفَاءَ السَّوَادِ لَا يُوجِبُ انْتِفَاءَ اللَّوْنِ وَلَا ثُبُوتَهُ، وَهُوَ الَّذِي عَنَيْنَاهُ بِقَوْلِنَا: إنَّ تَسْلِيمَ نَقِيضِ الْمُقَدَّمِ لَا يَنْتُجُ أَصْلًا. وَإِنْ جُعِلَ الْأَخَصُّ لَازِمًا لِلْأَعَمِّ فَهُوَ خَطَأٌ، كَمَنْ يَقُولُ: إنْ كَانَ هَذَا لَوْنًا فَهُوَ سَوَادٌ. فَإِنْ كَانَ اللَّازِمُ مُسَاوِيًا لِلْمُقَدَّمِ أَنْتَجَ مِنْهُ أَرْبَعَ تَسْلِيمَاتٍ، كَقَوْلِنَا: إنْ كَانَ زِنَا الْمُحْصَنِ مَوْجُودًا فَالرَّجْمُ وَاجِبٌ لَكِنَّهُ مَوْجُودٌ فَإِذًا هُوَ وَاجِبٌ، لَكِنَّهُ وَاجِبٌ فَإِذًا هُوَ مَوْجُودٌ، لَكِنْ الرَّجْمُ غَيْرُ وَاجِبٍ فَالزِّنَا غَيْرُ مَوْجُودٍ، لَكِنْ زِنَا الْمُحْصَنِ غَيْرُ مَوْجُودٍ فَالرَّجْمُ غَيْرُ وَاجِبٍ. وَكَذَلِكَ كُلُّ مَعْلُولٍ لَهُ عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، كَقَوْلِنَا: إنْ كَانَتْ الشَّمْسُ طَالِعَةً فَالنَّهَارُ مَوْجُودٌ لَكِنَّهَا طَالِعَةٌ فَالنَّهَارُ مَوْجُودٌ، لَكِنَّ النَّهَارَ مَوْجُودٌ فَهِيَ إذًا طَالِعَةٌ، لَكِنَّهَا غَيْرُ طَالِعَةٍ فَالنَّهَار غَيْر مَوْجُودٍ، لَكِنَّ النَّهَارَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فَهِيَ إذًا غَيْرُ طَالِعَةٍ. النَّمَطُ الثَّالِثُ: نَمَطُ التَّعَانُدِ. وَهُوَ عَلَى ضِدِّ مَا قَبْلَهُ، وَالْمُتَكَلِّمُونَ يُسَمُّونَهُ " السَّبْرَ وَالتَّقْسِيمَ "، وَالْمَنْطِقِيُّونَ يُسَمُّونَهُ " الشَّرْطِيُّ الْمُنْفَصِلُ " وَيُسَمُّونَ مَا قَبْله " الشَّرْطِيُّ الْمُتَّصِلُ ". وَهُوَ أَيْضًا يَرْجِعُ إلَى مُقَدِّمَتَيْنِ وَنَتِيجَةٍ، وَمِثَالُهُ: الْعَالَمُ إمَّا قَدِيمٌ وَإِمَّا حَادِثٌ. وَهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ وَهِيَ قَضِيَّتَانِ، الثَّانِيَةُ أَنْ تَسْلَمَ إحْدَى الْقَضِيَّتَيْنِ أَوْ نَقِيضُهَا فَيَلْزَمُ مِنْهُ لَا مَحَالَةَ نَتِيجَةٌ وَيَنْتُجُ فِيهِ أَرْبَعُ تَسْلِيمَاتٍ، فَإِنَّا نَقُولُ: لَكِنَّهُ حَادِثٌ فَلَيْسَ بِقَدِيمٍ، لَكِنَّهُ قَدِيمٌ فَلَيْسَ بِحَادِثٍ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِحَادِثٍ فَهُوَ قَدِيمٌ، لَكِنَّهُ لَيْسَ بِقَدِيمٍ فَهُوَ حَادِثٌ. وَبِالْجُمْلَةِ كُلُّ قِسْمَيْنِ مُتَنَاقِضِينَ مُتَقَابِلِينَ إذَا وُجِدَ فِيهِمَا شَرَائِطُ التَّنَاقُضِ كَمَا سَبَقَ فَيُنْتِجُ إثْبَاتُ أَحَدِهِمَا نَفْيَ الْآخَرِ وَنَفْيُ أَحَدِهِمَا إثْبَاتَ الْآخَرِ. وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ تَنْحَصِرَ الْقَضِيَّةُ فِي قِسْمَيْنِ بَلْ شَرْطُهُ أَنْ تَسْتَوْفِي أَقْسَامَهُ، فَإِنْ كَانَتْ ثَلَاثَةً فَإِنَّا نَقُولُ: الْعَدَدُ إمَّا مُسَاوٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَر، فَهَذِهِ ثَلَاثَةٌ لَكِنَّهَا حَاصِرَةٌ فَإِثْبَاتُ وَاحِدٍ يُنْتِجُ نَفْيَ الْآخَرَيْنِ وَإِبْطَالُ اثْنَيْنِ يُنْتِجُ إثْبَاتَ الثَّالِثِ وَإِثْبَاتُ وَاحِدٍ يُنْتِجُ انْحِصَارًا لِحَقٍّ فِي الْآخَرَيْنِ فِي أَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ. وَاَلَّذِي لَا يَنْتُجُ فِيهِ انْتِقَاءٌ وَاحِدٌ هُوَ أَنْ لَا يَكُونَ مَحْصُورًا، كَقَوْلِكَ زَيْدٌ إمَّا بِالْعِرَاقِ وَإِمَّا بِالْحِجَازِ، فَهَذَا مِمَّا يُوجِبُ إثْبَاتَ وَاحِدٍ وَنَفْيَ الْآخَرِ، أَمَّا إبْطَالُ وَاحِدٍ فَلَا يُنْتِجُ إثْبَاتَ الْآخَرِ إذْ رُبَّمَا يَكُونُ فِي صُقْعٍ آخَرَ. وَقَوْلُ مَنْ أَثْبَتَ رُؤْيَةَ اللَّهِ بِعِلَّةِ الْوُجُودِ يَكَادُ لَا يَنْحَصِرُ كَلَامُهُ إلَّا أَنْ نَتَكَلَّفَ لَهُ وَجْهًا، فَإِنَّ قَوْلَ مُصَحِّحِ الرُّؤْيَةِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ كَوْنُهُ جَوْهَرًا فَيَبْطُل بِالْعَرَضِ أَوْ كَوْنُهُ عَرَضًا فَيَبْطُلُ بِالْجَوْهَرِ أَوْ كَوْنُهُ سَوَادًا أَوْ لَوْنًا فَيَبْطُلُ بِالْحَرَكَةِ، فَلَا تَبْقَى شَرِكَةٌ لِهَذِهِ الْمُخْتَلِفَاتِ إلَّا فِي الْوُجُودِ، وَهَذَا غَيْرُ حَاصِرٍ إذْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ بَقِيَ أَمْرٌ آخَرُ مُشْتَرَكٌ سَوِيُّ الْوُجُودِ لَمْ يَعْثُرْ عَلَيْهِ الْبَاحِثُ مِثْلَ كَوْنِهِ بِجِهَةِ مِنْ الرَّائِي مَثَلًا، فَإِنْ أَبْطَلَ

هَذَا فَلَعَلَّهُ لِمَعْنًى آخَرَ إلَّا أَنْ يَتَكَلَّفَ حَصْرَ الْمَعَانِي وَيَنْفِيَ جَمِيعَهَا سِوَى الْوُجُودِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يُنْتِجُ. فَهَذِهِ أَشْكَالُ الْبَرَاهِينِ، فَكُلُّ دَلِيلٍ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ إلَى وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْخَمْسَةِ فَهُوَ غَيْرُ مُنْتِجٍ أَلْبَتَّةَ وَلِهَذَا شَرْحٌ أَطْوَلُ مِنْ هَذَا ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَاب " مَحَكُّ النَّظَرِ " وَكِتَابِ " مِعْيَارُ الْعِلْمِ ". [الْفَصْلُ الثَّانِي بَيَانِ مَادَّةِ الْبُرْهَانِ] الْفَصْلُ الثَّانِي مِنْ فَنِّ الْمَقَاصِدِ بَيَانِ مَادَّةِ الْبُرْهَانِ فِي بَيَانِ مَادَّةِ الْبُرْهَانِ: وَهِيَ الْمُقَدِّمَاتُ الْجَارِيَةُ مِنْ الْبُرْهَانِ مَجْرَى الثَّوْبِ مِنْ الْقَمِيصِ وَالْخَشَبِ مِنْ السَّرِيرِ، فَإِنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ يَجْرِي مَجْرَى الْخِيَاطَةِ مِنْ الْقَمِيصِ وَشَكْلَ السَّرِيرِ مِنْ السَّرِيرِ، وَكَمَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَّخَذَ مِنْ كُلِّ جِسْمٍ سَيْفٌ وَسَرِيرٌ إذْ لَا يَتَأَتَّى مِنْ الْخَشَبِ وَلَا مِنْ الثَّوْبِ سَيْفٌ وَلَا مِنْ السَّيْفِ سَرِيرٌ فَكَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَّخَذَ مِنْ كُلِّ مُقَدِّمَةٍ بُرْهَانٌ مُنْتِجٌ، بَلْ الْبُرْهَانُ الْمُنْتِجُ لَا يَنْصَاغُ إلَّا مِنْ مُقَدِّمَاتٍ يَقِينِيَّةٍ إنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ يَقِينِيًّا أَوْ ظَنِّيَّةً إنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ فِقْهِيًّا. فَلْنَذْكُرْ مَعْنَى الْيَقِينِ فِي نَفْسِهِ لِتُفْهَمَ ذَاتُهُ، وَلْنَذْكُرْ مُدْرَكَهُ لِتَفْهَمَ الْآلَةَ الَّتِي بِهَا يُقْتَنَصُ الْيَقِينُ. أَمَّا الْيَقِينُ فَشَرْحُهُ أَنَّ النَّفْسَ إذَا أَذْعَنَتْ لِلتَّصْدِيقِ بِقَضِيَّةٍ مِنْ الْقَضَايَا وَسَكَنَتْ إلَيْهَا فَلَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَيَقَّنَ وَيَقْطَعَ بِهِ وَيَنْضَافُ إلَيْهِ قَطْعٌ ثَانٍ، وَهُوَ أَنْ يَقْطَعَ بِأَنَّ قَطْعَهَا بِهِ صَحِيحٌ وَيَتَيَقَّنَ بِأَنَّ يَقِينَهَا فِيهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِهِ سَهْوٌ وَلَا غَلَطٌ وَلَا الْتِبَاسٌ، فَلَا يَجُوزُ الْغَلَطُ فِي يَقِينِهَا الْأَوَّلِ وَلَا فِي يَقِينِهَا الثَّانِي، وَيَكُونُ صِحَّةُ يَقِينِهَا الثَّانِي كَصِحَّةِ يَقِينِهَا الْأَوَّلِ، بَلْ تَكُونُ مُطَمْئِنَةً آمِنَةً مِنْ الْخَطَأِ، بَلْ حَيْثُ لَوْ حُكِيَ لَهَا عَنْ نَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهُ أَقَامَ مُعْجِزَةً وَادَّعَى مَا يُنَاقِضَهَا فَلَا تَتَوَقَّفُ فِي تَكْذِيبِ النَّاقِلِ بَلْ تَقْطَعُ بِأَنَّهُ كَاذِبٌ، أَوْ تَقْطَعُ بِأَنَّ الْقَائِلَ لَيْسَ بِنَبِيٍّ وَأَنَّ مَا ظَنَّ أَنَّهُ مُعْجِزَةٌ فَهِيَ مَخْرَقَةٌ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يُؤَثِّرُ هَذَا فِي تَشْكِيكِهَا بَلْ تَضْحَكُ مِنْ قَائِلِهِ وَنَاقِلِهِ. وَإِنْ خَطَر بِبَالِهَا إمْكَانُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ قَدْ أَطْلَعَ نَبِيًّا عَلَى سِرٍّ بِهِ انْكَشَفَ لَهُ نَقِيضُ اعْتِقَادِهَا فَلَيْسَ اعْتِقَادُهَا يَقِينًا، مِثَالُهُ قَوْلُنَا: الثَّلَاثَةُ أَقَلُّ مِنْ السِّتَّةِ وَشَخْصٌ وَاحِدٌ لَا يَكُونُ فِي مَكَانَيْنِ، وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ قَدِيمًا حَادِثًا مَوْجُودًا مَعْدُومًا سَاكِنًا مُتَحَرِّكًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ. الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ تُصَدِّقَ بِهَا تَصْدِيقًا جَزْمًا لَا تَتَمَارَى فِيهِ وَلَا تَشْعُرُ بِنَقِيضِهَا أَلْبَتَّةَ، وَلَوْ أَشْعَرَتْ بِنَقِيضِهَا تَعَسَّرَ إذْعَانُهَا لِلْإِصْغَاءِ إلَيْهِ، وَلَكِنَّهَا لَوْ ثَبَتَتْ وَأَصْغَتْ وَحُكِيَ لَهَا نَقِيضُ مُعْتَقَدِهَا عَمَّنْ هُوَ أَعْلَمُ النَّاسِ عِنْدهَا كَنَبِيٍّ أَوْ صِدِّيقٍ أَوْرَثَ. ذَلِكَ فِيهَا تَوَقُّفًا. وَلْنُسَمِّ هَذَا الْجِنْسَ اعْتِقَادًا جَزْمًا وَهُوَ أَكْثَرُ اعْتِقَادَاتِ عَوَامِّ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي مُعْتَقَدَاتِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ، بَلْ اعْتِقَادُ أَكْثَرِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي نُصْرَةِ مَذَاهِبِهِمْ بِطَرِيقِ الْأَدِلَّةِ، فَإِنَّهُمْ قَبِلُوا الْمَذْهَبَ وَالدَّلِيلَ جَمِيعًا بِحُسْنِ الظَّنِّ فِي الصِّبَا فَوَقَعَ عَلَيْهِ نَشْؤُهُمْ، فَإِنَّ الْمُسْتَقِلَّ بِالنَّظَرِ الَّذِي يَسْتَوِي مَيْلُهُ فِي نَظَرِهِ إلَى الْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ عَزِيز. الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ لَهَا سُكُونٌ إلَى الشَّيْءِ وَالتَّصْدِيقِ بِهِ. وَهِيَ تُشْعِرُ بِنَقِيضِهِ أَوْ لَا تُشْعِرُ، لَكِنْ لَوْ أَشْعَرَتْ بِهِ لَمْ يَنْفِرْ طَبْعُهَا عَنْ قَبُولِهِ، وَهَذَا يُسَمَّى ظَنًّا وَلَهُ دَرَجَاتٌ فِي الْمَيْلِ إلَى الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ لَا تُحْصَى، فَمَنْ سَمِعَ مِنْ عَدْلٍ شَيْئًا سَكَنَتْ إلَيْهِ نَفْسُهُ، فَإِنْ انْضَافَ إلَيْهِ ثَانٍ زَادَ السُّكُونُ وَإِنْ انْضَافَ إلَيْهِ ثَالِثٌ زَادَ السُّكُونُ. وَالْقُوَّةُ فَإِنْ انْضَافَتْ إلَيْهِ تَجْرِبَةٌ لِصِدْقِهِمْ عَلَى الْخُصُوصِ زَادَتْ الْقُوَّةُ، فَإِنْ انْضَافَتْ إلَيْهِ قَرِينَةٌ كَمَا إذَا أَخْبَرُوا عَنْ أَمْرٍ مَخُوفٍ وَقَدْ اصْفَرَّتْ وُجُوهُهُمْ وَاضْطَرَبَتْ أَحْوَالُهُمْ زَادَ الظَّنُّ، وَهَكَذَا لَا يَزَالُ

يَتَرَقَّى قَلِيلًا قَلِيلًا إلَى أَنْ يَنْقَلِبَ الظَّنُّ عِلْمًا عِنْدَ الِانْتِهَاءِ إلَى حَدِّ التَّوَاتُرِ. وَالْمُحَدِّثُونَ يُسَمُّونَ أَكْثَرَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ عِلْمًا وَيَقِينًا، حَتَّى يُطْلِقُوا الْقَوْل بِأَنَّ الْأَخْبَار الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا الصِّحَاحُ تُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ. وَكَافَّةُ الْخَلْقِ إلَّا آحَادَ الْمُحَقِّقِينَ يُسَمُّونَ الْحَالَةَ الثَّانِيَةَ يَقِينًا وَلَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ وَالْأُولَى. وَالْحَقُّ أَنَّ الْيَقِينَ هُوَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي مَظِنَّةُ الْغَلَطِ، فَإِذَا أَلَّفْتَ بُرْهَانًا مِنْ مُقَدِّمَاتٍ يَقِينِيَّةٍ عَلَى الذَّوْقِ الْأَوَّلِ وَرَاعَيْتَ صُورَةَ تَأْلِيفِهِ عَلَى الشُّرُوطِ الْمَاضِيَةِ فَالنَّتِيجَةُ ضَرُورِيَّةٌ يَقِينِيَّةٌ يَجُوزُ الثِّقَةُ بِهَا هَذَا بَيَانُ نَفْسِ الْيَقِينِ، أَمَّا مَدَارِكُ الْيَقِينِ فَجَمِيعُ مَا يُتَوَهَّمُ كَوْنُهُ مُدْرِكًا لِلْيَقِينِ . وَالِاعْتِقَادُ الْجَزْمُ يَنْحَصِرُ فِي سَبْعَةِ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: الْأَوَّلِيَّاتُ. وَأَعْنِي بِهَا الْعَقْلِيَّاتِ الْمَحْضَةَ الَّتِي أَفْضَى ذَاتُ الْعَقْلِ بِمُجَرَّدِهِ إلَيْهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِعَانَةٍ بِحِسٍّ أَوْ تَخَيُّلٍ مُجْبَلٍ عَلَى التَّصْدِيقِ بِهَا، مِثْلَ عِلْمِ الْإِنْسَانِ بِوُجُودِ نَفْسِهِ وَبِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ قَدِيمًا حَادِثًا وَأَنَّ النَّقِيضَيْنِ إذَا صَدَقَ أَحَدُهُمَا كَذَبَ الْآخَرُ وَأَنَّ الِاثْنَيْنِ أَكْثَرُ مِنْ الْوَاحِدِ وَنَظَائِرِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ هَذِهِ الْقَضَايَا تُصَادِفُ مُرْتَسَمَةً فِي الْعَقْلِ مُنْذُ وُجُودِهِ، حَتَّى يَظُنَّ الْعَاقِلُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ عَالِمًا بِهَا وَلَا يَدْرِي مَتَى تُجَدَّدُ وَلَا يَقِفُ حُصُولُهُ عَلَى أَمْرٍ سِوَى وُجُودِ الْعَقْلِ، إذْ يَرْتَسِمُ فِيهِ الْمَوْجُودُ مُفْرَدًا وَالْقَدِيمُ مُفْرَدًا وَالْحَادِثُ مُفْرَدًا. وَالْقُوَّةُ الْمُفَكِّرَةُ تَجْمَعُ هَذِهِ الْمُفْرَدَاتِ وَتَنْسِبُ بَعْضَهَا إلَى بَعْضٍ، مِثْل أَنَّ الْقَدِيمَ حَادِثٌ. فَيُكَذِّبُ الْعَقْلُ بِهِ، وَإِنَّ الْقَدِيمَ لَيْسَ بِحَادِثٍ فَيُصَدِّقُ الْعَقْلُ بِهِ، فَلَا يُحْتَاجُ إلَّا إلَى ذِهْنٍ تَرْتَسِمُ فِيهِ الْمُفْرَدَاتُ وَإِلَى قُوَّةٍ مُفَكِّرَةٍ تَنْسِبُ بَعْضَ هَذِهِ الْمُفْرَدَاتِ إلَى الْبَعْضِ، فَيَنْتَهِضُ الْعَقْلُ عَلَى الْبَدِيهَةِ إلَى التَّصْدِيقِ أَوْ التَّكْذِيبِ. الثَّانِي: الْمُشَاهَدَاتُ الْبَاطِنَةُ وَذَلِكَ كَعِلْمِ الْإِنْسَانِ بِجُوعِ نَفْسِهِ وَعَطَشِهِ وَخَوْفِهِ وَفَرَحِهِ وَجَمِيعِ الْأَحْوَالِ الْبَاطِنَةِ الَّتِي يُدْرِكُهَا مَنْ لَيْسَ لَهُ الْحَوَاسُّ الْخَمْسُ فَهَذِهِ لَيْسَتْ مِنْ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ وَلَا هِيَ عَقْلِيَّةٌ، بَلْ الْبَهِيمَةُ تُدْرِكُ هَذِهِ الْأَحْوَالَ مِنْ نَفْسِهَا بِغَيْرِ عَقْلٍ، وَكَذَا الصَّبِيُّ، وَالْأَوَّلِيَّاتُ لَا تَكُونُ لِلْبَهَائِمِ وَلَا لِلصِّبْيَانِ. الثَّالِثُ: الْمَحْسُوسَاتُ الظَّاهِرَةُ كَقَوْلِكَ: الثَّلْجُ أَبْيَضُ وَالْقَمَرُ مُسْتَدِيرٌ وَالشَّمْسُ مُسْتَنِيرَةٌ. وَهَذَا الْفَنُّ وَاضِحٌ لَكِنَّ الْغَلَطَ يَتَطَرَّقُ إلَى الْأَبْصَارِ لِعَوَارِضَ مِثْلِ بُعْدٍ مُفْرِطٍ وَقُرْبٍ مُفْرِطٍ أَوْ ضَعْفٍ فِي الْعَيْنِ وَأَسْبَابُ الْغَلَطِ فِي الْأَبْصَارِ الَّتِي هِيَ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ ثَمَانِيَةٌ وَاَلَّذِي بِالِانْعِكَاسِ كَمَا فِي الْمِرْآةِ أَوْ بِالِانْعِطَافِ، كَمَا يَرَى مِمَّا وَرَاءَ الْبِلَّوْرِ وَالزُّجَاجِ فَيَتَضَاعَفُ فِي أَسْبَابِ الْغَلَطِ، وَاسْتِقْصَاءُ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْعِلَاوَةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَإِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَفْهَمَ مِنْهُ أُنْمُوذَجًا فَانْظُرْ إلَى طَرَفِ الظِّلِّ فَتَرَاهُ سَاكِنًا وَالْعَقْلُ يَقْضِي بِأَنَّهُ مُتَحَرِّكٌ، وَإِلَى الْكَوَاكِبِ فَتَرَاهَا سَاكِنَةً وَهِيَ مُتَحَرِّكَةٌ، وَإِلَى الصَّبِيِّ فِي أَوَّلِ نُشُوئِهِ وَالنَّبَاتِ فِي أَوَّلِ النُّشُوءِ وَهُوَ فِي النُّمُوِّ وَالتَّزَايُدِ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ عَلَى التَّدْرِيجِ فَتَرَاهُ وَاقِفًا، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُر الرَّابِعُ: التَّجْرِيبِيَّاتِ وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْهَا بِاطِّرَادِ الْعَادَاتِ، وَذَلِكَ مِثْلُ حُكْمِكَ بِأَنَّ النَّارَ مُحْرِقَةٌ وَالْخُبْزَ مُشْبِعٌ وَالْحَجَرَ هَاوٍ إلَى أَسْفَلَ وَالنَّارَ صَاعِدَةٌ إلَى فَوْقٍ وَالْخَمْرَ مُسْكِرٌ وَالسَّقَمُونْيَا مُسَهِّلٌ. فَإِذًا الْمَعْلُومَاتُ التَّجْرِيبِيَّة يَقِينِيَّةٌ عِنْد مَنْ جَرَّبَهَا. وَالنَّاسُ يَخْتَلِفُونَ فِي هَذِهِ الْعُلُومِ

لِاخْتِلَافِهِمْ فِي التَّجْرِبَةِ. فَمَعْرِفَةُ الطَّبِيبِ بِأَنَّ السَّقَمُونْيَا مُسَهِّلٌ كَمَعْرِفَتِكَ بِأَنَّ الْمَاءَ مُرْوٍ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ بِأَنَّ الْمِغْنَاطِيسَ جَاذِبٌ لِلْحَدِيدِ عِنْدَ مَنْ عَرَفَهُ. وَهَذِهِ غَيْرُ الْمَحْسُوسَاتِ؛ لِأَنَّ مَدْرَكَ الْحِسِّ هُوَ أَنَّ هَذَا الْحَجَرَ يَهْوِي إلَى الْأَرْضِ، وَأَمَّا الْحُكْمُ بِأَنَّ كُلَّ حَجَرٍ هَاوٍ فَهِيَ قَضِيَّةٌ عَامَّةٌ لَا قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ وَلِيس لِلْحِسِّ إلَّا قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ. وَكَذَلِكَ إذَا رَأَى مَائِعًا وَقَدْ شَرِبَهُ فَسَكِرَ فَحَكَمَ بِأَنَّ جِنْسَ هَذَا الْمَائِعِ مُسْكِرٌ فَالْحِسُّ لَمْ يُدْرِكْ إلَّا شُرْبًا وَسُكْرًا وَاحِدًا مُعَيَّنًا، فَالْحُكْمُ فِي الْكُلِّ إذًا هُوَ لِلْعَقْلِ وَلَكِنْ بِوَاسِطَةِ الْحِسِّ أَوْ بِتَكَرُّرِ الْإِحْسَاسِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، إذْ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ لَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِهَا، فَمَنْ تَأَلَّمَ لَهُ مَوْضِعٌ فَصَبَّ عَلَيْهِ مَائِعًا فَزَالَ أَلَمُهُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ الْمُزِيلُ إذْ يُحْتَمَلُ أَنَّ زَوَالَهُ بِالِاتِّفَاقِ، بَلْ هُوَ كَمَا لَوْ قَرَأَ عَلَيْهِ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ فَزَالَ فَرُبَّمَا يَخْطِرُ لَهُ أَنَّ إزَالَتَهُ بِالِاتِّفَاقِ فَإِذَا تَكَرَّرَ مَرَّاتٍ كَثِيرَةٍ فِي أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ انْغَرَسَ فِي النَّفْسِ يَقِينٌ وَعِلْمٌ بِأَنَّهُ الْمُؤَثِّرُ، كَمَا حَصَلَ بِأَنَّ الِاصْطِلَاءَ بِالنَّارِ مُزِيلٌ لِلْبَرْدِ وَالْخُبْزَ مُزِيلٌ لِأَلَمِ الْجُوعِ. وَإِذَا تَأَمَّلْتَ هَذَا عَرَفْتَ أَنَّ الْعَقْلَ قَدْ نَالَهُ بَعْدَ التَّكَرُّرِ عَلَى الْحِسِّ بِوَاسِطَةِ قِيَاسٍ خَفِيٍّ ارْتَسَمَ فِيهِ وَلَمْ يَشْعُرْ بِذَلِكَ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهِ وَلَمْ يَشْغَلْهُ بِلَفْظٍ، وَكَأَنَّ الْعَقْلَ يَقُولُ لَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا السَّبَبُ يَقْتَضِيهِ لَمَا اطَّرَدَ فِي الْأَكْثَرِ وَلَوْ كَانَ بِالِاتِّفَاقِ لَاخْتَلَفَ. وَهَذَا الْآنَ يُحَرِّكُ قُطْبًا عَظِيمًا فِي مَعْنَى تَلَازُمِ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِاطِّرَادِ الْعَادَاتِ، وَقَدْ نَبَّهْنَا عَلَى غَوْرِهَا فِي كِتَابِ " تَهَافُتُ الْفَلَاسِفَةِ " وَالْمَقْصُودُ تَمْيِيزُ التَّجْرِيبِيَّات عَنْ الْحِسِّيَّاتِ، وَمَنْ لَمْ يُمْعِنْ فِي تَجْرِبَةِ الْأُمُورِ تُعْوِزُهُ جُمْلَةٌ مِنْ الْيَقِينِيَّاتِ فَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ مَا يَلْزَمُ مِنْهَا مِنْ النَّتَائِجِ فَيَسْتَفِيدُهَا مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِهَا، وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْأَعْمَى وَالْأَصَمَّ تُعْوِزُهُمَا جُمْلَةٌ مِنْ الْعُلُومِ الَّتِي تُسْتَنْتَجُ مِنْ مُقَدِّمَاتٍ مَحْسُوسَةٍ حَتَّى يَقْدِرَ الْأَعْمَى عَلَى أَنْ يَعْرِفَ بِالْبُرْهَانِ أَنَّ الشَّمْسَ أَكْبَرُ مِنْ الْأَرْضِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُعْرَفُ بِأَدِلَّةٍ هَنْدَسِيَّةٍ تَنْبَنِي عَلَى مُقَدِّمَاتٍ حِسِّيَّةٍ وَلَمَّا كَانَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ شَبَكَةَ جُمْلَةٍ مِنْ الْعُلُومِ قَرَنَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْفُؤَادِ فِي كِتَابِهِ فِي مَوَاضِعَ. الْخَامِسُ: مُتَوَاتِرَاتٌ. كَعِلْمِنَا بِوُجُودِ مَكَّةَ وَوُجُودِ الشَّافِعِيِّ وَبِعَدَدِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ بَلْ كَعِلْمِنَا بِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ فَإِنَّ هَذَا أَمْرٌ وَرَاءَ الْمَحْسُوسِ إذْ لَيْسَ لِلْحِسِّ إلَّا أَنْ يَسْمَعَ صَوْتَ الْمُخْبِرِ بِوُجُودِ مَكَّةَ وَأَمَّا الْحُكْمُ بِصِدْقِهِ فَهُوَ لِلْعَقْلِ وَآلَتُهُ السَّمْعُ وَلَا مُجَرَّدُ السَّمْعِ بَلْ تَكَرُّرُ السَّمَاعِ وَلَا يَنْحَصِرُ الْعَدَدُ الْمُوجِبُ لِلْعِلْمِ فِي عَدَدٍ وَمَنْ تَكَلَّفَ حَصْرَ ذَلِكَ فَهُوَ فِي شَطَطٍ بَلْ هُوَ كَتَكَرُّرِ التَّجْرِبَةِ وَلِكُلِّ مَرَّةٍ فِي التَّجْرِبَةِ شَهَادَةٌ أُخْرَى إلَى أَنْ يَنْقَلِبَ الظَّنُّ عِلْمًا وَلَا يُشْعِرُ بِوَقْتِهِ فَكَذَلِكَ التَّوَاتُرُ. فَهَذِهِ مَدَارِكُ الْعُلُومِ الْيَقِينِيَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ الصَّالِحَةُ لِمُقَدِّمَاتِ الْبَرَاهِينِ وَمَا بَعْدَهَا لَيْسَ كَذَلِكَ السَّادِسُ: الْوَهْمِيَّاتُ وَذَلِكَ مِثْلَ قَضَاءِ الْوَهْمِ بِأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُشَارًا إلَى جِهَتِهِ فَإِنْ مَوْجُودٌ إلَّا مُتَّصِلًا بِالْعِلْمِ وَلَا مُنْفَصِلًا عَنْهُ وَلَا دَاخِلًا وَلَا خَارِجًا مُحَالٌ وَأَنَّ إثْبَاتَ شَيْءٍ مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّ الْجِهَاتِ السِّتَّ خَالِيَةٌ عَنْهُ مُحَالٌ، وَهَذَا عَمَلُ قُوَّةٍ فِي التَّجْوِيفِ الْأَوْسَطِ مَنْ الدِّمَاغِ وَتُسَمَّى وَهْمِيَّةً شَأْنُهَا مُلَازَمَةُ الْمَحْسُوسَاتِ وَمُتَابَعَتُهَا وَالتَّصَرُّفُ فِيهَا فَكُلُّ مَا لَا يَكُونُ عَلَى وَفْقِ الْمَحْسُوسَاتِ الَّتِي أَلِفَتْهَا فَلَيْسَ فِي طِبَاعِهَا إلَّا النَّبْوَةُ عَنْهَا وَإِنْكَارُهَا وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ نُفْرَةُ الطَّبْعِ عَنْ قَوْلِ الْقَائِلِ لَيْسَ وَرَاءَ الْعَالَمِ خَلَاءٌ وَلَا مَلَاءٌ وَهَاتَانِ قَضِيَّتَانِ وَهْمِيَّتَانِ

كَاذِبَتَانِ وَالْأُولَى مِنْهُمَا رُبَّمَا وَقَعَ لَكَ الْأُنْسُ بِتَكْذِيبِهَا لِكَثْرَةِ مُمَارَسَتِكَ لِلْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُوجِبَةِ لِإِثْبَاتِ مَوْجُودٍ لَيْسَ فِي جِهَةٍ وَالثَّانِيَةُ رُبَّمَا لَمْ تَأْنَسْ بِتَكْذِيبِهَا لِقِلَّةِ مُمَارَسَتِكَ لِأَدِلَّتِهَا وَإِذَا تَأَمَّلْتَ عَرَفْت أَنَّ مَا أَنْكَرَهُ الْوَهْمُ مِنْ نَفْيِ الْخَلَاءِ وَالْمَلَاءِ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ لِأَنَّ الْخَلَاءَ بَاطِلٌ بِالْبَرَاهِينِ الْقَاطِعَةِ إذْ لَا مَعْنَى لَهُ وَالْمَلَاءُ مُتَنَاهٍ بِأَدِلَّةٍ قَاطِعَةٍ إذْ يَسْتَحِيلُ وُجُودُ أَجْسَامٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا وَإِذَا ثَبَتَ هَذَانِ الْأَصْلَانِ عُلِمَ أَنَّهُ لَا خَلَاء وَلَا مَلَاءَ وَرَاءَ الْعَالَمِ وَهَذِهِ الْقَضَايَا مَعَ أَنَّهَا وَهْمِيَّةٌ فَهِيَ فِي النَّفْسِ لَا تَتَمَيَّزُ عَنْ الْأَوَّلِيَّاتِ الْقَطْعِيَّةِ مِثْلَ قَوْلِكِ لَا يَكُونُ شَخْصٌ فِي مَكَانَيْنِ بَلْ يَشْهَدُ بِهِ أَوَّلُ الْفِطْرَةِ كَمَا يَشْهَدُ بِالْأَوَّلِيَّاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَلَيْسَ كُلُّ مَا تَشْهَدُ بِهِ الْفِطْرَةُ قَطْعًا هُوَ صَادِقٌ بَلْ الصَّادِقُ مَا يَشْهَدُ بِهِ قُوَّةُ الْعَقْلِ فَقَطْ وَمَدَارِكُهُ الْخَمْسَةُ الْمَذْكُورَةُ وَهَذِهِ الْوَهْمِيَّاتُ لَا يَظْهَرُ كَذِبُهَا لِلنَّفَسِ إلَّا بِدَلِيلِ الْعَقْلِ. ثُمَّ بَعْدَ مَعْرِفَةِ الدَّلِيلِ أَيْضًا لَا تَنْقَطِعُ مُنَازَعَةُ الْوَهْمِ بَلْ تَبْقَى عَلَى نِزَاعِهَا فَإِنْ قُلْتَ فَبِمَاذَا أُمَيِّزُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصَّادِقَةِ وَالْفِطْرَةُ قَاطِعَةٌ بِالْكُلِّ وَمَتَى يَحْصُلُ الْأَمَانُ مِنْهَا فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ وَرْطَةٌ تَاهَ فِيهَا جَمَاعَةٌ فَتَسَفْسَطُوا وَأَنْكَرُوا كَوْنَ النَّظَرِ مُفِيدَ الْعِلْمِ الْيَقِينِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ طَلَبُ الْيَقِينِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَقَالُوا بِتَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ وَادَّعَوْا الْيَقِينَ بِتَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا تَيَقُّنَ أَيْضًا بِتَكَافُؤِ الْأَدِلَّةِ بِمَا هُوَ أَيْضًا فِي مَحَلِّ التَّوَقُّفِ وَكَشْفُ الْغِطَاءِ عَنْ هَذِهِ الْوَرْطَةِ يَسْتَدْعِي تَطْوِيلًا فَلَا نَشْتَغِلُ بِهِ وَنُفِيدُكَ الْآنَ طَرِيقَيْنِ تَسْتَعِينُ بِهِمَا فِي تَكْذِيبِ الْوَهْمِ: الْأَوَّلُ جُمْلِيٌّ وَهُوَ أَنَّكَ لَا تَشُكُّ فِي وُجُودِ الْوَهْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ وَهَذِهِ الصِّفَاتُ لَيْسَتْ مِنْ النَّظَرِيَّاتِ وَلَوْ عَرَضْتَ عَلَى الْوَهْمِ نَفْسَ الْوَهْمِ لَأَنْكَرَهُ، فَإِنَّهُ يَطْلُبُ لَهُ سُمْكًا وَمِقْدَارًا وَلَوْنًا فَإِذَا لَمْ يَجِدْهُ أَبَاهُ، وَلَوْ كَلَّفْتَ الْوَهْمَ أَنْ يَتَأَمَّلَ ذَاتَ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ لَصَوَّرَ لِكُلِّ وَاحِدٍ قَدْرًا وَمَكَانًا مُفْرَدًا وَلَوْ فَرَضْتَ لَهُ اجْتِمَاعَ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي جُزْءٍ وَاحِدٍ أَوْ جِسْمٍ وَاحِدٍ لَقَدَّرَ بَعْضَهَا مُنْطَبِقًا عَلَى الْبَعْضِ كَأَنَّهُ سِتْرٌ رَقِيقٌ مُرْسَلٌ عَلَى وَجْهِهِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى اتِّحَادِ الْبَعْضِ بِالْبَعْضِ بِأَسْرِهِ فَإِنَّهُ رُبَّمَا يُشَاهِدُ الْأَجْسَامَ وَيَرَاهَا مُتَمَيِّزَةً فِي الْوَضْعِ فَيَقْضِي فِي كُلِّ شَيْئَيْنِ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا مُتَمَيِّزٌ فِي الْوَضْعِ عَنْ الْآخَرِ. الطَّرِيقُ الثَّانِي وَهُوَ مِعْيَارٌ فِي آحَادِ الْمَسَائِلِ وَهُوَ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ جَمِيعَ قَضَايَا الْوَهْمِ لَيْسَتْ كَاذِبَةً فَإِنَّهَا تُوَافِقُ الْعَقْلَ فِي اسْتِحَالَةِ وُجُودِ شَخْصٍ فِي مَكَانَيْنِ بَلْ لَا تُنَازِعُ فِي جَمِيعِ الْعُلُومِ الْهَنْدَسِيَّةِ وَالْحِسَابِيَّةِ وَمَا يُدْرَكُ بِالْحِسِّ وَإِنَّمَا تُنَازِعُ فِيمَا وَرَاءَ الْمَحْسُوسَاتِ؛ لِأَنَّهَا تُمَثِّلُ غَيْرَ الْمَحْسُوسَاتِ بِالْمَحْسُوسَاتِ إذْ لَا تَقْبَلُهُ إلَّا عَلَى نَحْوِ الْمَحْسُوسَاتِ فَحِيلَةُ الْعَقْلِ مَعَ الْوَهْمِ فِي أَنْ يَثِقَ بِكَذِبِهِ مَهْمَا نَظَرَ فِي غَيْرِ مَحْسُوسٍ أَنْ يَأْخُذَ مُقَدِّمَاتٍ يَقِينِيَّةً لِيُسَاعِدَهُ الْوَهْمُ عَلَيْهَا وَيَنْظِمُهَا نَظْمَ الْبُرْهَانِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. فَإِنَّ الْوَهْمَ يُسَاعِدُ عَلَى أَنَّ الْيَقِينِيَّاتِ إذَا نُظِمَتْ كَذَلِكَ كَانَتْ النَّتِيجَةُ لَازِمَةً كَمَا سَبَقَ فِي الْأَمْثِلَةِ وَكَمَا فِي الْهَنْدَسِيَّاتِ فَتَجِدُ ذَلِكَ مِيزَانًا وَحَاكِمًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَإِذَا رَأَى الْوَهْم قَدْ زَاغَ عَنْ قَبُولِ نَتِيجَةِ دَلِيلٍ قَدْ سَاعَدَ عَلَى مُقَدِّمَاتِهِ وَسَاعَدَ عَلَى صِحَّةِ نَظْمِهَا وَعَلَى كَوْنِهَا نَتِيجَةَ عِلْمِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ قُصُورٍ فِي طِبَاعِهِ عَنْ إدْرَاكِ مِثْلِ هَذَا الشَّيْءِ الْخَارِجِ عَنْ الْمَحْسُوسَاتِ. فَاكْتَفِ بِهَذَا الْقَدْرِ فَإِنَّ تَمَّامَ الْإِيضَاحِ فِيهِ تَطْوِيلٌ. السَّابِعُ: الْمَشْهُورَات. وَهِيَ آرَاءٌ مَحْمُودَةٌ يُوجَبُ التَّصْدِيقُ بِهَا. أَمَّا شَهَادَةُ الْكُلِّ أَوْ الْأَكْثَرِ أَوْ شَهَادَةُ جَمَاهِيرِ الْأَفَاضِلِ كَقَوْلِكَ الْكَذِبُ قَبِيحٌ وَإِيلَامُ الْبَرِيءِ قَبِيحٌ وَكُفْرَانُ النِّعَمِ قَبِيحٌ وَشُكْرُ الْمُنْعِمِ وَإِنْقَاذُ الْهَلْكَى حَسَنٌ وَهَذِهِ قَدْ تَكُونُ صَادِقَةً وَقَدْ تَكُونُ كَاذِبَةً فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَوَّلَ

عَلَيْهَا فِي مُقَدِّمَاتِ الْبُرْهَانِ فَإِنَّ هَذِهِ الْقَضَايَا لَيْسَتْ أَوَّلِيَّةً وَلَا وَهْمِيَّةً فَإِنَّ الْفِطْرَةَ الْأُولَى لَا تَقْضِي بِهَا بَلْ إنَّمَا يَنْغَرِسُ قَبُولُهَا فِي النَّفْسِ بِأَسْبَابٍ كَثِيرَةٍ تَعْرِضُ مِنْ أَوَّلِ الصِّبَا. وَذَلِكَ بِأَنْ تُكَرَّرَ عَلَى الصَّبِيِّ وَيُكَلَّفَ اعْتِقَادُهَا وَيَحْسُنَ ذَلِكَ عِنْدَهُ وَرُبَّمَا يَحْمِلُ عَلَيْهَا حُبُّ التَّسَالُمِ وَطِيبُ الْمُعَاشَرَةِ وَرُبَّمَا تَنْشَأُ مِنْ الْحَنَانِ وَرِقَّةِ الطَّبْعِ فَتَرَى أَقْوَامًا يُصَدِّقُونَ بِأَنَّ ذَبْحَ الْبَهَائِمِ قَبِيحٌ وَيَمْتَنِعُونَ عَنْ أَكْلِ لُحُومِهَا وَمَا يَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى، فَالنُّفُوسُ الْمَجْبُولَةُ عَلَى الْحَنَانِ وَالرِّقَّةِ أَطَوْعُ لِقَبُولِهَا وَرُبَّمَا يَجْبُلُ عَلَى التَّصْدِيقِ بِهَا الِاسْتِقْرَاءُ الْكَثِيرُ وَرُبَّمَا كَانَتْ الْقَضِيَّةُ صَادِقَةً وَلَكِنْ بِشَرْطٍ دَقِيقٍ لَا يَفْطِنُ الذِّهْنُ لِذَلِكَ الشَّرْطِ وَيَسْتَمِرُّ عَلَى تَكْرِيرِ التَّصْدِيقِ فَيَرْسَخُ فِي نَفْسِهِ كَمَنْ يَقُولُ مَثَلًا: التَّوَاتُرُ لَا يُورِثُ الْعِلْمَ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْآحَادِ لَا يُورِثُ الْعِلْمَ، فَالْمَجْمُوعُ لَا يُورِثُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى الْآحَادِ وَهَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِشَرْطِ الِانْفِرَادِ وَعِنْدَ التَّوَاتُرِ فَاتَ هَذَا الشَّرْطُ فَيَذْهَلُ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ لِدِقَّتِهِ وَيُصَدِّقُ بِهِ مُطْلَقًا وَكَذَلِكَ يُصَدِّقُ بِقَوْلِهِ {إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20] مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَهُوَ شَيْءٌ لَكِنْ هُوَ قَدِيرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِشَرْطِ كَوْنِهِ مُمْكِنًا فِي نَفْسِهِ فَيَذْهَلُ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ وَيُصَدِّقُ بِهِ مُطْلَقًا لِكَثْرَةِ تَكَرُّرِهِ عَلَى اللِّسَانِ وَوُقُوعِ الذُّهُولِ عَنْ شَرْطِهِ الدَّقِيقِ. وَلِلتَّصْدِيقِ بِالْمَشْهُورَاتِ أَسْبَابٌ كَثِيرَةٌ وَهِيَ مِنْ مُثَارَاتِ الْغَلَطِ الْعَظِيمَةِ، وَأَكْثَرُ قِيَاسَاتِ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مُقَدِّمَاتٍ مَشْهُورَةٍ يُسَلِّمُونَهَا بِمُجَرَّدِ الشُّهْرَةِ فَلِذَلِكَ تَرَى أَقْيِسَتَهُمْ تُنْتِجُ نَتَائِجَ مُتَنَاقِضَةً فَيَتَحَيَّرُونَ فِيهَا فَإِنْ قُلْتَ فَبِمَ يُدْرَكُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَشْهُورِ وَالصَّادِقِ فَاعْرِضْ قَوْلَ الْقَائِلِ: الْعَدْلُ جَمِيلٌ وَالْكَذِبُ قَبِيحٌ عَلَى الْعَقْلِ الْأَوَّلِ الْفِطْرِيِّ الْمُوجِبِ لِلْأَوَّلِيَّاتِ وَقَدِّرْ أَنَّكَ لَمْ تُعَاشِرْ أَحَدًا وَلَمْ تُخَالِطْ أَهْلَ مِلَّةٍ وَلَمْ تَأْنَسْ بِمَسْمُوعٍ وَلَمْ تَتَأَدَّبْ بِاسْتِصْلَاحٍ وَلَمْ تُهَذَّبْ بِتَعْلِيمِ أُسْتَاذٍ وَمُرْشِدٍ وَكَلِّفْ نَفْسَكَ أَنْ تُشَكِّكَ فِيهِ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ عَلَيْهِ وَتَرَاهُ مُتَأَتِّيًا وَإِنَّمَا الَّذِي يُعَسِّرُ عَلَيْكَ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ أَنَّكَ عَلَى حَالَةٍ تُضَادُّهَا فَإِنَّ تَقْدِيرَ الْجُوعِ فِي حَالِ الشِّبَعِ عَسِيرٌ وَكَذَا تَقْدِيرُ كُلِّ حَالَةٍ أَنْتَ مُنْفَكٌّ عَنْهَا فِي الْحَالِ وَلَكِنْ إذَا تَحَذَّقْتَ فِيهَا أَمْكَنَكَ التَّشَكُّكَ وَلَوْ كَلَّفْتَ نَفْسَكَ الشَّكَّ فِي أَنَّ الِاثْنَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ الْوَاحِدِ لَمْ يَكُنِ الشَّكُّ مُتَأَتِّيًا بَلْ لَا يَتَأَتَّى الشَّكُّ فِي أَنَّ الْعَالَمَ يَنْتَهِي إلَى خَلَاءٍ أَوْ مَلَاءٍ وَهُوَ كَاذِبٌ وَهْمِيٌّ لَكِنَّ فِطْرَةَ الْوَهْمِ تَقْتَضِيهِ وَالْآخَر يَقْتَضِيهِ فِطْرَةُ الْعَقْلِ وَأَمَّا كَوْنُ الْكَذِبِ قَبِيحًا فَلَا يَقْتَضِيه فِطْرَة الْوَهْمِ وَلَا فِطْرَةُ الْعَقْلِ بَلْ مَا أَلِفَهُ الْإِنْسَانُ مِنْ الْعَادَاتِ وَالْأَخْلَاقِ وَالِاسْتِصْلَاحَات وَهَذِهِ أَيْضًا مُعَارَضَةٌ مُظْلِمَةٌ يَجِبُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا. فَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ فِي الْمُقَدِّمَاتِ الَّتِي مِنْهَا يَنْتَظِمُ الْبُرْهَانُ فَالْمُسْتَفَادُ مِنْ الْمَدَارِكِ الْخَمْسَةِ بَعْد الِاحْتِرَازِ عَنْ مَوَاقِعِ الْغَلَطِ فِيهَا يَصْلُحُ لِصِنَاعَةِ الْبُرْهَانِ وَالْمُسْتَفَادُ مَنْ غَلَطِ الْوَهْمِ لَا يَصْلُحُ أَلْبَتَّةَ وَالْمَشْهُورَاتُ تَصْلُحُ لِلْفِقْهِيَّاتِ الظَّنِّيَّةِ وَالْأَقْيِسَةِ الْجَدَلِيَّةِ وَلَا تَصْلُحُ لِإِفَادَةِ الْيَقِينِ أَلْبَتَّةَ. [الْفَنُّ الثَّالِثُ فِي اللَّوَاحِقِ وَفِيهِ فُصُولٌ] [الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي بَيَانِ مَا تَنْطِقُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ فِي مَعْرِضِ الدَّلِيلِ وَالتَّعْلِيل] الْفَنُّ الثَّالِثُ مِنْ دِعَامَةِ الْبُرْهَانِ فِي اللَّوَاحِقِ وَفِيهِ فُصُولٌ: الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي بَيَانِ أَنَّ مَا تَنْطِقُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ فِي مَعْرِضِ الدَّلِيلِ وَالتَّعْلِيل فِي بَيَانِ أَنَّ مَا تَنْطِقُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ فِي مَعْرِضِ الدَّلِيلِ وَالتَّعْلِيلِ فِي جَمِيعِ أَقْسَامِ الْعُلُومِ يَرْجِعُ إلَى الضُّرُوبِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، فَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ إلَيْهَا لَمْ يَكُنْ دَلِيلًا، وَحَيْثُ يُذْكَرُ لَا عَلَى ذَلِكَ النَّظْمِ فَسَبَبُهُ إمَّا قُصُورُ عِلْمِ النَّاظِرِ، أَوْ إهْمَالُهُ إحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ لِلْوُضُوحِ، أَوْ لِكَوْنِ التَّلْبِيسِ فِي ضِمْنِهِ حَتَّى لَا يَنْتَبِهَ لَهُ، أَوْ لِتَرْكِيبِ الضُّرُوبِ وَجَمْعِ جُمْلَةٍ مِنْهَا فِي سِيَاقِ

كَلَامٍ وَاحِدٍ، مِثَالِ تَرْكِ إحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ لِوُضُوحِهَا، وَذَلِكَ غَالِبٌ فِي الْفِقْهِيَّاتِ وَالْمُحَاوَرَاتِ احْتِرَازًا عَنْ التَّطْوِيلِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: هَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّجْمُ؛ لِأَنَّهُ زَنَى وَهُوَ مُحْصَنٌ، وَتَمَامُ الْقِيَاسِ أَنْ تَقُولَ كُلُّ مَنْ زَنَى وَهُوَ مُحْصَنٌ فَعَلَيْهِ الرَّجْمُ وَهَذَا زَنَى وَهُوَ مُحْصَنٌ " وَلَكِنْ تَرَكَ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى لِاشْتِهَارِهَا. وَكَذَلِكَ يُقَالُ: الْعَالَمُ مُحْدَثٌ، فَيُقَالُ: لِمَ؟ فَيَقُولُ؛ لِأَنَّهُ جَائِزٌ، وَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ، وَتَمَامُهُ أَنْ يَقُولَ كُلُّ جَائِزٍ فَلَهُ فَاعِلٌ وَالْعَالَمُ جَائِزٌ فَإِذًا لَهُ فَاعِلٌ ". وَيَقُولُ فِي نِكَاحِ الشِّغَارِ: هُوَ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَتَمَامُهُ أَنْ يَقُولَ كُلُّ مَنْهِيٍّ عَنْهُ فَهُوَ فَاسِدٌ وَالشِّغَارُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَهُوَ إذًا فَاسِدٌ، وَلَكِنْ تَرَكَ الْأُولَى لِأَنَّهَا مَوْضُوعُ النِّزَاعِ، وَلَوْ صَرَّحَ بِهَا لَتَنَبَّهَ الْخَصْمُ لَهَا فَرُبَّمَا تَرَكَهَا لِلتَّلْبِيسِ مَرَّةً كَمَا تَرَكَهَا لِلْوُضُوحِ أُخْرَى. وَأَكْثَرُ أَدِلَّةِ الْقُرْآنِ كَذَلِكَ تَكُونُ، مِثْلَ قَوْله تَعَالَى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] فَيَنْبَغِي أَنْ يُضَمَّ إلَيْهَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمَا لَمْ تَفْسُدَا. وقَوْله تَعَالَى: {إذًا لَابْتَغَوْا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} [الإسراء: 42] وَتَمَامُهُ أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُمْ لَمْ يَبْتَغُوا إلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا. وَمِثَالُ مَا يُتْرَكُ لِلتَّلْبِيسِ أَنْ يُقَالَ فُلَانٌ خَائِنٌ فِي حَقِّكَ، فَتَقُولُ: لِمَ؟ فَيُقَالُ لِأَنَّهُ كَانَ يُنَاجِي عَدُوَّكَ، وَتَمَامُهُ أَنْ يُقَالَ كُلُّ مَنْ يُنَاجِي الْعَدُوَّ فَهْو عَدُوٌّ وَهَذَا يُنَاجِي الْعَدُوَّ فَهُوَ إذًا عَدُوٌّ " وَلَكِنْ لَوْ صَرَّحَ بِهِ لَتَنَبَّهَ الذِّهْنُ بِأَنَّ مَنْ يُنَاجِي الْعَدُوَّ فَقَدْ يَنْصَحُهُ وَقَدْ يَخْدَعُهُ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عَدُوًّا. وَرُبَّمَا يَتْرُكُ الْمُقَدِّمَةَ الثَّانِيَةَ وَهِيَ مُقَدِّمَةُ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ، مِثَالُهُ أَنْ يُقَالَ: لَا تُخَالِطْ فُلَانًا، فَيَقُولُ: لِمَ؟ فَيُقَالُ: لِأَنَّ الْحُسَّادَ لَا يُخَالَطُونَ؛ وَتَمَامُهُ أَنْ يَضُمَّ إلَيْهِ: " إنَّ هَذَا حَاسِدٌ وَالْحَاسِدُ لَا يُخَالَطُ فَهَذَا إذًا لَا يُخَالَطُ ". وَسَبِيلُ مَنْ يُرِيدُ التَّلْبِيسَ إهْمَالُ الْمُقَدِّمَةِ الَّتِي التَّلْبِيسُ تَحْتَهَا اسْتِغْفَالًا لِلْخَصْمِ وَاسْتِجْهَالًا لَهُ، وَهَذَا غَلَطٌ فِي النَّظْمِ الْأَوَّلِ وَيَتَطَرَّقُ ذَلِكَ إلَى النَّظْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ، مِثَالُهُ قَوْلُكَ كُلُّ شُجَاعٍ ظَالِمٌ، فَيُقَالُ: لِمَ؟ فَيُقَالُ: لِأَنَّ الْحَجَّاجَ كَانَ شُجَاعًا وَظَالِمًا، وَتَمَامُهُ أَنْ يَقُولَ: " الْحَجَّاجُ شُجَاعٌ وَالْحَجَّاجُ ظَالِمٌ فَكُلُّ شُجَاعٍ ظَالِمٌ ". وَهَذَا غَيْرُ مُنْتِجٍ؛ لِأَنَّهُ طَلَبَ نَتِيجَةً عَامَّةً مِنْ النَّظْمِ الثَّالِثِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يُنْتِجُ إلَّا نَتِيجَةً خَاصَّةً. وَإِنَّمَا كَانَ مِنْ النَّظْمِ الثَّالِثِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّاجَ هُوَ الْعِلَّةُ لِأَنَّهُ الْمُتَكَرِّرُ فِي الْمُقَدِّمَتَيْنِ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ فِي الْمُقَدِّمَتَيْنِ، فَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ بَعْضَ الشُّجْعَانِ ظَالِمٌ، وَمِنْ هَهُنَا غَلِطَ مَنْ حَكَمَ عَلَى كُلِّ الْمُتَصَوِّفَةِ أَوْ كُلِّ الْمُتَفَقِّهَةِ بِالْفَسَادِ إذَا رَأَى ذَلِكَ مِنْ بَعْضِهِمْ، وَنَظْمُ قِيَاسِهِ " أَنَّ فُلَانًا مُتَفَقِّهٌ وَفُلَانٌ فَاسِقٌ فَكُلُّ مُتَفَقِّهٍ فَاسِقٌ وَذَلِكَ لَا يَلْزَمَ، بَلْ يَلْزَمُ أَنَّ بَعْضَ الْمُتَفَقِّهَةِ فَاسِقٌ وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ مِثْلُ هَذَا الْغَلَطِ فِي الْفِقْهِ أَنْ يَرَى الْفَقِيهُ حُكْمًا فِي مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ فَيَقْضِي بِذَلِكَ الْحُكْم عَلَى الْعُمُومِ، فَيَقُولُ مَثَلًا: الْبُرُّ مَطْعُومٌ وَالْبُرُّ رِبَوِيٌّ فَالْمَطْعُومُ رِبَوِيٌّ. وَبِالْجُمْلَةِ مَهْمَا كَانَتْ الْعِلَّةُ أَخَصَّ مِنْ الْحُكْمِ وَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ فِي النَّتِيجَةِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ إلَّا نَتِيجَةٌ جُزْئِيَّةٌ وَهُوَ مَعْنَى النَّظْمِ الثَّالِثِ، وَمَهْمَا كَانَتْ الْعِلَّةُ أَعَمَّ مِنْ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ وَأَخَصَّ مِنْ الْحُكْمِ أَوْ مُسَاوِيَةً لَهُ كَانَ مِنْ النَّظْمِ الْأَوْلِ وَأَمْكَنَ اسْتِنْتَاجُ الْقَضَايَا الْأَرْبَعَةِ مِنْهُ، أَعْنِي الْمُوجَبَةَ الْعَامَّةَ وَالْخَاصَّةَ وَالنَّافِيَةَ الْعَامَّةَ وَالْخَاصَّةَ. وَمَهْمَا كَانَتْ الْعِلَّةُ أَعَمَّ مِنْ الْحُكْمِ وَالْمَحْكُومِ عَلَيْهِ جَمِيعًا كَانَ مِنْ النَّظْم الثَّانِي وَلَمْ يُنْتِجْ مِنْهُ إلَّا النَّفْيَ، فَأَمَّا الْإِيجَابُ فَلَا. وَمِثَالُ الْمُخْتَلِطَاتِ الْمُرَكَّبَةِ مِنْ كُلِّ نَمَطٍ كَقَوْلِكَ: " الْبَارِي تَعَالَى إنْ كَانَ عَلَى الْعَرْشِ إمَّا مُسَاوٍ أَوْ أَكْبَرُ أَوْ أَصْغَرُ وَكُلُّ مُسَاوٍ وَأَصْغَرَ وَأَكْبَرَ مُقَدَّرٌ وَكُلُّ مُقَدَّرٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ جِسْمًا أَوْ لَا

يَكُونَ جِسْمًا، وَبَاطِلٌ أَنْ لَا يَكُونَ جِسْمًا فَثَبَتَ أَنَّهُ جِسْمٌ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْبَارِي تَعَالَى جِسْمًا، وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ جِسْمًا فَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْعَرْشِ ". وَهَذَا السِّيَاقُ اشْتَمَلَ عَلَى النَّظْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي وَالثَّالِثِ مُخْتَلِطًا كَذَلِكَ، فَمَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْلِيلِهِ وَتَفْصِيلِهِ فَرُبَّمَا انْطَوَى التَّلْبِيسُ فِي تَفَاصِيلِهِ وَتَضَاعِيفِهِ فَلَا يَتَنَبَّهُ لِمَوْضِعِهِ، وَمَنْ عَرَفَ الْمُفْرَدَاتِ أَمْكَنَهُ رَدُّ الْمُخْتَلِطَاتِ إلَيْهَا فَإِذًا لَا يُتَصَوَّرُ النُّطْقُ بِاسْتِدْلَالٍ إلَّا وَيَرْجِعُ إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ. [الْفَصْلُ الثَّانِي فِي بَيَانِ الِاسْتِقْرَاءِ وَالتَّمْثِيلِ] الْفَصْلُ الثَّانِي: فِي بَيَانِ رُجُوعِ الِاسْتِقْرَاءِ وَالتَّمْثِيلِ إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ أَمَّا الِاسْتِقْرَاءُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَصَفُّحِ أُمُورٍ جُزْئِيَّةٍ لِنَحْكُمَ بِحُكْمِهَا عَلَى أَمْرٍ يَشْمَلُ تِلْكَ الْجُزْئِيَّاتِ، كَقَوْلِنَا فِي الْوِتْرِ: لَيْسَ بِفَرْضٍ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ وَالْفَرْضُ لَا يُؤَدَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ. فَيُقَالُ: لِمَ قُلْتُمْ إنَّ الْفَرْضَ لَا يُؤَدَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ؟ فَيُقَالُ: عَرَفْنَاهُ بِالِاسْتِقْرَاءِ إذْ رَأَيْنَا الْقَضَاءَ وَالْأَدَاءَ وَالْمَنْذُورَ وَسَائِرَ أَصْنَافِ الْفَرَائِضِ لَا تُؤَدَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَقُلْنَا: إنَّ كُلَّ فَرْضٍ لَا يُؤَدَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ. وَوَجْهُ دَلَالَةِ هَذَا لَا يَتِمُّ إلَّا بِالنَّظْمِ الْأَوَّلِ بِأَنْ يَقُولَ: كُلُّ فَرْضٍ فَإِمَّا قَضَاءٌ أَوْ أَدَاءٌ أَوْ نَذْرٌ وَكُلُّ قَضَاءٍ وَأَدَاءٍ وَنَذْرٍ فَلَا يُؤَدَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ، فَكُلُّ فَرْضٍ لَا يُؤَدَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ " وَهَذَا مُخْتَلٌّ يَصْلُحُ لِلظَّنِّيَّاتِ دُونَ الْقَطْعِيَّاتِ، وَالْخَلَلُ تَحْتَ قَوْلِهِ " إمَّا أَدَاءٌ " فَإِنَّ حُكْمَهُ بِأَنَّ كُلَّ أَدَاءً لَا يُؤَدَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ يَمْنَعُهُ الْخَصْمُ إذْ الْوَتْرُ عِنْدَهُ أَدَاءٌ وَاجِبٌ وَيُؤَدَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَإِنَّمَا يَسْلَمُ الْخَصْمُ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَهَذِهِ صَلَاةٌ سَادِسَةٌ عِنْدَهُ فَيَقُولُ: وَهَلِ اسْتَقْرَيْتَ حُكْمَ الْوِتْرِ فِي تَصَفُّحِكَ وَكَيْفَ وَجَدْتَهُ؟ فَإِنْ قُلْتَ وَجَدْتُهُ لَا يُؤَدَّى عَلَى الرَّاحِلَةِ فَالْخَصْمُ لَا يَسْلَمُ، فَإِنْ لَمْ تَتَصَفَّحْهُ فَلَمْ يَبِنْ لَكَ إلَّا الْأَدَاءُ، فَخَرَجَتْ الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ أَنْ تَكُونَ عَامَّةً وَصَارَتْ خَاصَّةً، وَذَلِكَ لَا يُنْتِجُ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُقَدِّمَةَ الثَّانِيَةَ فِي النَّظْمِ الْأَوَّلِ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ عَامَّةً، وَلِهَذَا غَلِطَ مَنْ قَالَ: إنَّ صَانِعَ الْعَالَمِ جِسْمٌ؛ لِأَنَّهُ قَالَ كُلُّ فَاعِلٍ جِسْمٌ وَصَانِعُ الْعَالَمِ فَاعِلٌ فَهُوَ إذًا جِسْمٌ "، فَقِيلَ: لِمَ قُلْتَ إنَّ كُلَّ فَاعِلٍ جِسْمٌ؟ فَيَقُولُ: لِأَنِّي تَصَفَّحْتُ الْفَاعِلِينَ مِنْ خَيَّاطٍ وَبَنَّاءٍ وَإِسْكَافٍ وَحَجَّامٍ وَحَدَّادٍ وَغَيْرِهِمْ فَوَجَدْتُهُمْ أَجْسَامًا فَيُقَالُ: وَهَلْ تَصَفَّحْتَ صَانِعَ الْعَالَمِ أَمْ لَا؟ فَإِنْ لَمْ تَتَصَفَّحْهُ فَقَدْ تَصَفَّحْتَ الْبَعْضَ دُونَ الْكُلِّ فَوَجَدْتَ بَعْضَ الْفَاعِلِينَ جِسْمًا فَصَارَتْ الْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ خَاصَّةً لَا تُنْتِجُ، وَإِنْ تَصَفَّحْتَ الْبَارِي فَكَيْفَ وَجَدْتَهُ؟ فَإِنْ قُلْتَ وَجَدْتُهُ جِسْمًا فَهُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ، فَكَيْفَ أَدْخَلْتَهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ؟ فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ إنْ كَانَ تَامًّا رَجَعَ إلَى النَّظْمِ الْأَوَّلِ وَصَلُحَ لِلْقَطْعِيَّاتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَامًّا لَمْ يَصْلُحْ إلَّا لِلْفِقْهِيَّاتِ لِأَنَّهُ مَهْمَا وُجِدَ الْأَكْثَرُ عَلَى نَمَطٍ، غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ أَنَّ الْآخَرَ كَذَلِكَ. [الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي وَجْهِ لُزُومِ النَّتِيجَةِ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ] وَجْهِ لُزُومِ النَّتِيجَةِ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ. وَهُوَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِوَجْهِ الدَّلِيلِ، وَيَلْتَبِسُ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى الضُّعَفَاءِ فَلَا يَتَحَقَّقُونَ أَنَّ وَجْهَ الدَّلِيلِ عَيْنُ الْمَدْلُولِ أَوْ غَيْرُهُ، فَنَقُولُ كُلُّ مُفْرَدَيْنِ جَمَعَتْهُمَا الْقُوَّةُ الْمُفَكِّرَةُ وَنَسَبَتْ أَحَدَهُمَا إلَى الْآخَرِ بِنَفْيٍ أَوْ إثْبَاتٍ وَعَرَضَتْهُ عَلَى الْعَقْلِ لَمْ يَخْلُ الْعَقْلُ فِيهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يُصَدِّقَ بِهِ أَوْ يَمْتَنِعَ مِنْ التَّصْدِيقِ، فَإِنْ صَدَّقَ فَهُوَ الْأَوَّلِي الْمَعْلُومُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَيُقَالُ: إنَّهُ مَعْلُومٌ بِغَيْرِ نَظَرٍ وَدَلِيلٍ وَحِيلَةٍ وَتَأَمُّلٍ وَكُلُّ ذَلِكَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْ فَلَا مَطْمَعَ فِي التَّصْدِيقِ إلَّا بِوَاسِطَةٍ وَتِلْكَ الْوَاسِطَة هِيَ الَّتِي تُنْسَبُ إلَى الْحُكْمِ فَيَكُونُ خَبَرًا عَنْهَا وَتُنْسَبُ إلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ فَتُجْعَلُ

خَبَرًا عَنْهُ فَيُصَدَّقُ فَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ بِالضَّرُورَةِ التَّصْدِيقَ بِنِسْبَةِ الْحُكْمِ إلَى الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ. بَيَانُهُ أَنَّا إذَا قُلْنَا لِلْعَقْلِ اُحْكُمْ عَلَى النَّبِيذِ بِالْحَرَامِ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي وَلَمْ يُصَدِّقْ بِهِ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ يَلْتَقِي فِي الذِّهْنِ طَرَفَا هَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَهُوَ الْحَرَامُ وَالنَّبِيذُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَطْلُبَ وَاسِطَةً رُبَّمَا صَدَّقَ الْعَقْلُ بِوُجُودِهَا فِي النَّبِيذِ وَصَدَّقَ بِوُجُودِ وَصْفِ الْحَرَامِ لِتِلْكَ الْوَاسِطَةِ فَيَلْزَمُهُ التَّصْدِيقُ بِالْمَطْلُوبِ. فَيُقَالُ: هَلْ النَّبِيذُ مُسْكِرٌ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، إذَا كَانَ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ بِالتَّجْرِبَةِ. فَيُقَالُ: وَهَلِ الْمُسْكِرُ حَرَامٌ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، إذَا كَانَ قَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِالسَّمَاعِ وَهُوَ الْمُدْرَكُ بِالسَّمْعِ. قُلْنَا: فَإِنْ صَدَّقْتَ بِهَاتَيْنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ لَزِمَكَ التَّصْدِيقُ بِالثَّالِثِ لَا مَحَالَةَ وَهُوَ أَنَّ النَّبِيذَ حَرَامٌ بِالضَّرُورَةِ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُصَدِّقَ بِذَلِكَ وَيُذْعِنَ لِلتَّصْدِيقِ بِهِ. فَإِنْ قُلْت: فَهَذِهِ الْقَضِيَّةُ لَيْسَتْ خَارِجَةً عَنْ الْقَضِيَّتَيْنِ وَلَيْسَتْ زَائِدَةً عَلَيْهِمَا فَاعْلَمْ أَنَّ مَا تَوَهَّمْتَ حَقٌّ مِنْ وَجْهٍ وَغَلَطٌ مِنْ وَجْهٍ، أَمَّا الْغَلَطُ فَهُوَ أَنَّ هَذِهِ قَضِيَّةٌ ثَالِثَةٌ لِأَنَّ قَوْلَكَ: النَّبِيذُ حَرَامٌ غَيْرُ قَوْلِكَ: النَّبِيذُ مُسْكِرٌ وَغَيْرُ قَوْلِكَ: الْمُسْكِرُ حَرَامٌ، بَلْ هَذِهِ ثَلَاثُ مُقَدِّمَاتٍ مُخْتَلِفَاتٍ وَلِيس فِيهَا تَكْرِيرٌ أَصْلًا بَلْ النَّتِيجَةُ اللَّازِمَةُ غَيْرُ الْمُقَدِّمَاتِ الْمُلْتَزَمَةِ. وَأَمَّا وَجْهُ كَوْنِهِ حَقًّا فَهُوَ أَنَّ قَوْلَكَ الْمُسْكِرُ حَرَامٌ شَمَلَ بِعُمُومِهِ النَّبِيذَ الَّذِي هُوَ أَحَدُ الْمُسْكِرَاتِ، فَقَوْلُكَ النَّبِيذُ حَرَامٌ يَنْطَوِي فِيهِ لَكِنْ بِالْقُوَّةِ لَا بِالْفِعْلِ، وَقَدْ يَحْضُرُ الْعَامُّ فِي الذِّهْنِ وَلَا يَحْضُرُ الْخَاصُّ، فَمَنْ قَالَ الْجِسْمُ مُتَحَيِّزٌ رُبَّمَا لَا يَخْطِرُ بِبَالِهِ ذَلِكَ الْوَقْتَ أَنَّ الثَّعْلَبَ مُتَحَيِّزٌ بَلْ رُبَّمَا لَا يَخْطِرُ بِبَالِهِ ذَلِكَ الثَّعْلَبُ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَخْطِرَ بِبَالِهِ أَنَّهُ مُتَحَيِّزٌ، فَإِذًا النَّتِيجَةُ مَوْجُودَةٌ فِي إحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ بِالْقُوَّةِ الْقَرِيبَةِ وَالْمَوْجُودُ بِالْقُوَّةِ الْقَرِيبَةِ لَا يُظَنُّ أَنَّهُ مَوْجُودٌ بِالْفِعْلِ. فَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ النَّتِيجَةَ لَا تُخْرَجُ مِنْ الْقُوَّة إلَى الْفِعْلِ بِمُجَرَّدِ الْعِلْمِ بِالْمُقَدَّمَتَيْنِ مَا لَمْ تُحْضِرْ الْمُقَدِّمَتَيْنِ فِي الذِّهْنِ وَتُخْطِرْ بِبَالِكَ وَجْهَ وُجُودِ النَّتِيجَةِ فِي الْمُقَدِّمَتَيْنِ بِالْقُوَّةِ، فَإِذَا تَأَمَّلْتَ ذَلِكَ صَارَتْ النَّتِيجَةُ بِالْفِعْلِ، إذْ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَنْظُرَ النَّاظِرُ إلَى بَغْلَةٍ مُنْتَفِخَةِ الْبَطْنِ فَيَتَوَهَّمُ أَنَّهَا حَامِلٌ، فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ الْبَغْلَةَ عَاقِرٌ لَا تَحْمِلُ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَالُ: وَهَلْ تَعْلَمُ أَنَّ هَذِهِ بَغْلَةٌ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيُقَالُ: كَيْفَ تَوَهَّمْتَ أَنَّهَا حَامِلٌ؟ فَيَتَعَجَّب مِنْ تَوَهُّمِ نَفْسِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِالْمُقَدَّمَتَيْنِ، إذْ نَظْمُهَا " أَنَّ كُلَّ بَغْلَةٍ عَاقِرٌ وَهَذِهِ بَغْلَةٌ فَهِيَ إذًا عَاقِرٌ. وَالِانْتِفَاخُ لَهُ أَسْبَابٌ، فَإِذًا انْتِفَاخُهَا مِنْ سَبَبٍ آخَرَ. وَلَمَّا كَانَ السَّبَبُ الْخَاصُّ لِحُصُولِ النَّتِيجَةِ فِي الذِّهْنِ التَّفَطُّنُ لِوُجُودِ النَّتِيجَةِ بِالْقُوَّةِ فِي الْمُقَدِّمَةِ أُشْكِلَ عَلَى الضُّعَفَاءِ فَلَمْ يَعْرِفُوا أَنَّ وَجْهَ الدَّلِيلِ عَيْنُ الْمَدْلُولِ أَوْ غَيْرُهُ، فَالْحَقُّ أَنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ الْمَدْلُولُ الْمُسْتَنْتَجُ وَأَنَّهُ غَيْرُ التَّفَطُّنِ لِوُجُودِهِ فِي الْمُقَدِّمَتَيْنِ بِالْقُوَّةِ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّفَطُّنَ هُوَ سَبَبُ حُصُولِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَلُّدِ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ وَعَلَى سَبِيلِ اسْتِعْدَادِ الْقَلْبِ لِحُضُورِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ مَعَ التَّفَطُّنِ لِفَيَضَانِ النَّتِيجَةِ مِنْ عِنْدِ وَاهِبِ الصُّوَرِ الْمَعْقُولَةِ الَّذِي هُوَ الْعَقْلُ الْفَعَّالُ عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ وَعَلَى سَبِيلِ تَضَمُّنِ الْمُقَدِّمَاتِ لِلنَّتِيجَةِ بِطَرِيقِ اللُّزُومِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ عِنْدَ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا الْمُخَالِفِينَ لِلتَّوَلُّدِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُعْتَزِلَةُ وَعَلَى سَبِيلِ حُصُولِهِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَقِيبَ حُضُورِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ فِي الذِّهْنِ وَالتَّفَطُّنِ لِوَجْهِ تَضَمُّنِهِمَا لَهُ بِطَرِيقِ إجْرَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْعَادَةَ عَلَى وَجْهٍ يُتَصَوَّرُ خَرْقُهَا بِأَنْ لَا يُخْلَقَ عَقِيبَ تَمَامِ النَّظَرِ عِنْدَ بَعْضِ أَصْحَابِنَا. ثُمَّ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ نِسْبَةٍ لَهُ إلَى الْقُدْرَةِ الْحَادِثَةِ عِنْدَ بَعْضِهِمْ بَلْ بِحَيْثُ لَا تَتَعَلَّقُ بِهِ قُدْرَةُ الْعَبْدِ، وَإِنَّمَا قُدْرَتُهُ عَلَى إحْضَارِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ وَمُطَالَعَةِ

وَجْهِ تَضَمُّنِ الْمُقَدِّمَتَيْنِ لِلنَّتِيجَةِ عَلَى مَعْنَى وُجُودِهَا فِيهِمَا بِالْقُوَّةِ فَقَطْ، أَمَّا صَيْرُورَةُ النَّتِيجَةِ بِالْفِعْلِ فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهَا الْقُدْرَةُ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ هُوَ كَسْبُ مَقْدُورٍ. وَالرَّأْيُ الْحَقُّ فِي ذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِمَا نَحْنُ فِيهِ، وَالْمَقْصُودُ كَشْفُ الْغِطَاءِ عَنْ النَّظَرِ وَأَنَّ وَجْهَ الدَّلِيلِ مَا هُوَ وَالْمَدْلُولَ مَا هُوَ وَالنَّظَرَ الصَّحِيحَ مَا هُوَ وَالنَّظَرَ الْفَاسِدَ مَا هُوَ. وَتَرَى الْكُتُبَ مَشْحُونَاتٍ بِتَطْوِيلَاتٍ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مِنْ غَيْرِ شِفَاءٍ، وَإِنَّمَا الْكَشْفُ يَحْصُلُ بِالطَّرِيقِ الَّذِي سَلَكْنَاهُ فَقَطْ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ شَغَفُكَ بِالْكَلَامِ الْمُعْتَادِ الْمَشْهُورِ بَلْ بِالْكَلَامِ الْمُفِيدِ الْمُوَضَّحِ وَإِنْ خَالَفَ الْمُعْتَادَ مُغَالَطَةٌ مِنْ مُنْكِرِي النَّظَرِ: وَهُوَ أَنْ يَقُولَ: مَا تَطْلُبُ بِالنَّظَرِ هُوَ مَعْلُومٌ لَك أَمْ لَا؟ فَإِنْ عَلِمْتَ فَكَيْفَ تَطْلُبُ وَأَنْتَ وَاجِدٌ؟ وَإِنَّ جَهِلْتَهُ فَإِذَا وَجَدْتَهُ فَبِمَ تَعْرِفُ أَنَّهُ مَطْلُوبُك؟ وَكَيْفَ يَطْلُبُ الْعَبْدَ الْآبِقَ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ؟ فَإِنَّهُ لَوْ وَجَدَهُ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ مَطْلُوبُهُ. فَنَقُولُ: أَخْطَأْتَ فِي نَظْمِ شُبْهَتِكَ، فَإِنَّ تَقْسِيمَكَ لَيْسَ بِحَاصِرٍ؛ إذْ قُلْتَ تَعْرِفُهُ أَوْ لَا تَعْرِفُهُ بَلْ هَهُنَا قِسْمٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنِّي أَعْرِفُهُ مِنْ وَجْهٍ وَأَعْلَمُهُ مِنْ وَجْهٍ وَأَجْهَلُهُ مِنْ وَجْهٍ؛ وَأَعْنِي الْآنَ بِالْمَعْرِفَةِ غَيْرَ الْعِلْمِ، فَإِنِّي أَفْهَم مُفْرَدَاتِ أَجْزَاءِ الْمَطْلُوبِ بِطَرِيقِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّصَوُّرِ وَأَعْلَمُ جُمْلَةَ النَّتِيجَةِ الْمَطْلُوبَةِ بِالْقُوَّةِ لَا بِالْفِعْلِ، أَيْ فِي قُوَّتِي أَنْ أَقْبَلَ التَّصْدِيقَ بِهَا بِالْفِعْلِ وَأَجْهَلُهَا مِنْ وَجْهٍ أَيْ لَا أَعْلَمُهَا بِالْفِعْلِ، وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُهَا بِالْفِعْلِ لَمَا طَلَبْتُهَا، وَلَوْ لَمْ أَعْلَمْهَا بِالْقُوَّةِ لَمَا طَمِعْتُ فِي أَنْ أَعْلَمَهَا إذْ مَا لَيْسَ فِي قُوَّتِي عِلْمُهُ يَسْتَحِيلُ حُصُولُهُ كَاجْتِمَاعِ الضِّدَّيْنِ، وَلَوْلَا أَنِّي أَفْهَمُهُ بِالْمَعْرِفَةِ وَالتَّصَوُّرِ لِأَجْزَائِهِ الْمُنْفَرِدَةِ لَمَا كُنْتُ أَعْلَمُ الظَّفَرَ بِمَطْلُوبِي إذَا وَجَدْتُهُ، وَهُوَ كَالْعَبْدِ الْآبِقِ فَإِنِّي أَعْرِفُ ذَاتَهُ بِالتَّصَوُّرِ وَإِنَّمَا أَطْلُبُ مَكَانَهُ وَأَنَّهُ فِي الْبَيْتِ أَمْ لَا، وَكَوْنُهُ فِي الْبَيْتَ أَفْهَمُهُ بِالْمَعْرِفَةِ وَالتَّصَوُّرِ، أَيْ أَفْهَمُ الْبَيْتَ مُفْرَدًا وَالْكَوْنَ مُفْرَدًا وَأَعْلَمُهُ بِالْقُوَّةِ أَيْ فِي قُوَّتِي أَنْ أُصَدِّقَ بِكَوْنِهِ فِي الْبَيْتِ وَأَطْلُبُ حُصُولَهُ بِالْفِعْلِ مِنْ جِهَةِ حَاسَّةِ الْبَصَرِ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ فِي الْبَيْتِ صَدَّقْتُ بِكَوْنِهِ فِي الْبَيْتِ؛ فَكَذَلِكَ طَلَبِي لِكَوْنِ الْعَالَمِ حَادِثًا إذَا وَجَدْتُهُ. [الْفَصْلُ الرَّابِعُ فِي انْقِسَامِ الْبُرْهَانِ إلَى بُرْهَانِ عِلَّةٍ وَبُرْهَانِ دَلَالَةٍ] ٍ انْقِسَامِ الْبُرْهَانِ إلَى بُرْهَانِ عِلَّةٍ وَبُرْهَانِ دَلَالَةٍ. أَمَّا بُرْهَانُ الدَّلَالَةِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ الْمُتَكَرِّرُ فِي الْمُقَدِّمَتَيْنِ مَعْلُولًا وَمُسَبَّبًا، فَإِنَّ الْعِلَّةَ وَالْمَعْلُولَ يَتَلَازَمَانِ وَكَذَلِكَ السَّبَبُ وَالْمُسَبِّبُ وَالْمُوجِبُ وَالْمُوجَبُ؛ فَإِنْ اسْتَدْلَلْتَ بِالْعِلَّةِ عَلَى الْمَعْلُولِ فَالْبُرْهَانُ بُرْهَانُ عِلَّةٍ، وَإِنْ اسْتَدْلَلْتَ بِالْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ فَهُوَ بُرْهَانُ دَلَالَةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَدْلَلْتَ بِأَحَدِ الْمَعْلُولَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَمِثَالُ قِيَاسِ الْعِلَّةِ الْمَحْسُوسَاتُ أَنْ تَسْتَدِلَّ عَلَى الْمَطَرِ بِالْغَيْمِ وَعَلَى شِبَعِ زَيْدٍ بِأَكْلِهِ، فَتَقُولُ: أَكَلَ كَثِيرًا فَهُوَ فِي الْحَالِ شَبْعَانُ وَزَيْدٌ قَدْ أَكَلَ كَثِيرًا، فَهُوَ إذًا شَبْعَانُ. وَإِنْ قُلْتَ: إنَّ كُلَّ شَبْعَانَ قَدْ أَكَلَ كَثِيرًا وَزَيْدٌ شَبْعَانُ فَإِذًا قَدْ أَكَلَ كَثِيرًا؛ فَهَذَا بُرْهَانُ دَلَالَةٍ، وَمِثَالُهُ مِنْ الْكَلَام قَوْلُكَ كُلُّ فِعْلٍ مُحْكَمٍ فَفَاعِلُهُ عَالِمٌ، وَالْعَالِمُ فِعْلٌ مُحْكَمٍ فَصَانِعُهُ عَالِمٌ. وَمِثَالُ الِاسْتِدْلَالِ بِإِحْدَى النَّتِيجَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى فِي الْفِقْهِ قَوْلُنَا: الزِّنَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَطْءٍ لَا يُوجِبُ الْمَحْرَمِيَّةَ فَلَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ، وَهَذَا لَا يُوجِبُ الْمَحْرَمِيَّةَ فَلَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ فَإِنَّ الْحُرْمَةَ وَالْمَحْرَمِيَّةَ لَيْسَتْ إحْدَاهُمَا عِلَّةً لِلْأُخْرَى بَلْ هُمَا نَتِيجَتَا عِلَّةٍ وَاحِدَةٍ، وَحُصُولُ إحْدَى النَّتِيجَتَيْنِ يَدُلُّ عَلَى حُصُولِ الْأُخْرَى بِوَاسِطَةِ الْعِلَّةِ، فَإِنَّهَا تُلَازِمُ عِلَّتهَا وَالنَّتِيجَةُ الثَّانِيَةُ أَيْضًا تُلَازِمُ عِلَّتهَا وَمُلَازِمُ الْمُلَازِمِ مُلَازِمٌ لَا مَحَالَةَ. وَجَمِيعُ اسْتِدْلَالَاتِ الْفِرَاسَةِ

مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ بِإِحْدَى النَّتِيجَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى، حَتَّى إنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِخُطُوطٍ حُمْرٍ فِي كَتِفِ الشَّاةِ عَلَى إرَاقَةِ الدِّمَاءِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَيُسْتَدَلُّ بِالْخُلُقِ عَلَى الْأَخْلَاق؛ وَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ إلَّا بِطَرِيقِ تَلَازُمِ النَّتَائِجِ الصَّادِرَةِ عَنْ سَبَبٍ وَاحِدٍ. وَلْنَقْتَصِرْ مِنْ مَدَارِكِ الْعُقُولِ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ فَإِنَّهُ كَالْعِلَاوَةِ عَلَى عِلْمِ الْأُصُولِ، وَمَنْ أَرَادَ مَزِيدًا عَلَيْهِ فَلْيَطْلُبْهُ مِنْ كِتَابِ " مَحَكُّ النَّظَرِ " وَكِتَابِ " مِعْيَارُ الْعِلْمِ "، وَلْنَشْتَغِلْ الْآنَ بِالْأَقْطَابِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا عِلْمُ الْأُصُولِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى خَيْرِ خَلْقِهِ مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَعَلَى جَمِيعِ أَصْحَابِهِ

[الْقُطْبُ الْأَوَّلُ فِي الثَّمَرَةِ وَهِيَ الْحُكْمُ وَالْكَلَامُ فِيهِ يَنْقَسِمُ إلَى فُنُونٍ أَرْبَعَةٍ] [الْفَنّ الْأَوَّل فِي حَقِيقَة الْحُكْمِ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْقُطْبُ الْأَوَّلُ: فِي الثَّمَرَةِ وَهِيَ الْحُكْمُ وَالْكَلَامُ فِيهِ يَنْقَسِمُ إلَى فُنُونٍ أَرْبَعَةٍ الْفَنّ الْأَوَّل: فِي حَقِيقَتِهِ فَنٌّ فِي حَقِيقَةِ الْحُكْمِ، وَفَنٌّ فِي أَقْسَامِهِ، وَفَنٌّ فِي أَرْكَانِهِ وَفَنٌّ فِيمَا يُظْهِرُهُ الْفَنُّ الْأَوَّلُ: فِي حَقِيقَتِهِ وَيَشْتَمِلُ عَلَى تَمْهِيدٍ وَثَلَاثِ مَسَائِلَ. أَمَّا التَّمْهِيدُ فَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَنَا عِبَارَةٌ عَنْ خِطَابِ الشَّرْعِ إذَا تَعَلَّقَ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، فَالْحَرَامُ هُوَ الْمَقُولُ فِيهِ " اُتْرُكُوهُ وَلَا تَفْعَلُوهُ "، وَالْوَاجِبُ هُوَ الْمَقُولُ فِيهِ " افْعَلُوهُ وَلَا تَتْرُكُوهُ "، وَالْمُبَاحُ هُوَ الْمَقُولُ فِيهِ " إنْ شِئْتُمْ فَافْعَلُوهُ وَإِنْ شِئْتُمْ فَاتْرُكُوهُ "؛ فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ هَذَا الْخِطَابُ مِنْ الشَّارِعِ فَلَا حُكْمَ، فَلِهَذَا قُلْنَا الْعَقْلُ لَا يُحَسِّنُ وَلَا يُقَبِّحُ وَلَا يُوجِبُ شُكْرَ الْمُنْعِمِ، وَلَا حُكْمَ لِلْأَفْعَالِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ. فَلْنَرْسُمْ كُلَّ مَسْأَلَةٍ بِرَأْسِهَا. مَسْأَلَةٌ: ذَهَبَتْ الْمُعْتَزِلَةُ إلَى أَنَّ الْأَفْعَالَ تَنْقَسِمُ إلَى حَسَنَةٍ وَقَبِيحَةٍ. ، فَمِنْهَا مَا يُدْرَكُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ كَحُسْنِ إنْقَاذِ الْغَرْقَى وَالْهَلْكَى وَشُكْرِ الْمُنْعِمِ وَمَعْرِفَةِ حُسْنِ الصِّدْقِ وَكَقُبْحِ الْكُفْرَانِ وَإِيلَامِ الْبَرِيءِ وَالْكَذِبِ الَّذِي لَا غَرَضَ فِيهِ، وَمِنْهَا مَا يُدْرَكُ بِنَظَرِ الْعَقْلِ كَحُسْنِ الصِّدْقِ الَّذِي فِيهِ ضَرَرٌ وَقُبْحُ الْكَذِبِ الَّذِي فِيهِ نَفْعٌ، وَمِنْهَا مَا يُدْرَكُ بِالسَّمْعِ كَحُسْنِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ؛ وَزَعَمُوا أَنَّهَا مُتَمَيِّزَةٌ بِصِفَةِ ذَاتِهَا عَنْ غَيْرِهَا بِمَا فِيهَا مِنْ اللُّطْفِ الْمَانِعِ مِنْ الْفَحْشَاءِ الدَّاعِي إلَى الطَّاعَةِ لَكِنَّ الْعَقْلَ لَا يَسْتَقِلُّ بِدَرَكِهِ، فَنَقُولُ: قَوْلُ الْقَائِلِ هَذَا حَسَنٌ وَهَذَا قَبِيحٌ لَا يُحَسُّ بِفَهْمِ مَعْنَاه مَا لَمْ يُفْهَمْ مَعْنَى الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ، فَإِنَّ الِاصْطِلَاحَاتِ فِي إطْلَاقِ لَفْظِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ مُخْتَلِفَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ تَلْخِيصِهَا. وَالِاصْطِلَاحَاتُ فِيهِ ثَلَاثَةٌ: الْأَوَّلُ: الِاصْطِلَاحُ الْمَشْهُورُ الْعَامِّيُّ. وَهُوَ أَنَّ الْأَفْعَالَ تَنْقَسِمُ إلَى مَا يُوَافِقُ غَرَضَ الْفَاعِلِ، وَإِلَى مَا يُخَالِفُهُ وَمَا لَا يُوَافِقُ وَلَا يُخَالِفُ. فَالْمُوَافِقُ يُسَمَّى حَسَنًا، وَالْمُخَالِفُ يُسَمَّى قَبِيحًا، وَالثَّالِثُ يُسَمَّى عَبَثًا وَعَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ إذَا كَانَ الْفِعْلُ مُوَافِقًا لِشَخْصٍ مُخَالِفًا لِآخَرَ فَهُوَ حَسَنٌ فِي حَقِّ مَنْ وَافَقَهُ، قَبِيحٌ فِي حَقِّ مَنْ خَالَفَهُ، حَتَّى إنَّ قَتْلَ الْمَلِكِ الْكَبِيرِ يَكُونُ حَسَنًا فِي حَقِّ أَعْدَائِهِ قَبِيحًا فِي حَقِّ أَوْلِيَائِهِ؛ وَهَؤُلَاءِ لَا يَتَحَاشَوْنَ عَنْ تَقْبِيحِ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى إذَا خَالَفَ غَرَضَهُمْ، وَلِذَلِكَ يَسُبُّونَ الدَّهْر وَالْفَلَكَ وَيَقُولُونَ خَرِبَ الْفَلَكُ وَتَعِسَ الدَّهْرُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْفَلَكَ مُسَخَّرٌ لَيْسَ إلَيْهِ شَيْءٌ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ» فَإِطْلَاقُ اسْمِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ عَلَى الْأَفْعَالِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ كَإِطْلَاقِهِ عَلَى الصُّوَرِ، فَمَنْ مَالَ طَبْعُهُ إلَى صُورَةٍ أَوْ صَوْتِ شَخْصٍ قَضَى بِحُسْنِهِ، وَمَنْ نَفَرَ طَبْعُهُ عَنْ

شَخْصٍ اسْتَقْبَحَهُ. وَرُبَّ شَخْصٍ يَنْفِرُ عَنْهُ طَبْعٌ وَيَمِيلُ إلَيْهِ طَبْعٌ فَيَكُونُ حَسَنًا فِي حَقِّ هَذَا قَبِيحًا فِي حَقِّ ذَاكَ، حَتَّى يَسْتَحْسِنَ سُمْرَةَ اللَّوْنِ جَمَاعَةٌ وَيَسْتَقْبِحَهَا جَمَاعَةٌ، فَالْحُسْنُ وَالْقُبْحُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُوَافَقَةِ وَالْمُنَافَرَةِ وَهُمَا أَمْرَانِ إضَافِيَّانِ لَا كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ أَسْوَدَ فِي حَقِّ زَيْدٍ أَبْيَضَ فِي حَقِّ عَمْرٍو. الِاصْطِلَاحُ الثَّانِي: التَّعْبِيرُ بِالْحُسْنِ عَمَّا حَسَّنَهُ الشَّرْعُ بِالثَّنَاءِ عَلَى فَاعِلِهِ، فَيَكُونُ فِعْلُ اللَّه تَعَالَى حَسَنًا فِي كُلِّ حَالٍ خَالَفَ الْغَرَضَ أَوْ وَافَقَهُ، وَيَكُونُ الْمَأْمُورُ بِهِ شَرْعًا - نَدْبًا كَانَ أَوْ إيجَابًا - حَسَنًا وَالْمُبَاحُ لَا يَكُونُ حَسَنًا. الِاصْطِلَاحُ الثَّالِثُ: التَّعْبِيرُ بِالْحَسَنِ عَنْ كُلِّ مَا لِفَاعِلِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ، فَيَكُونُ الْمُبَاحُ حَسَنًا مَعَ الْمَأْمُورَاتِ وَفِعْلُ اللَّهِ يَكُونُ حَسَنًا بِكُلِّ حَالٍ. وَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ كُلُّهَا أَوْصَافٌ إضَافِيَّةٌ وَهِيَ مَعْقُولَةٌ، وَلَا حَجْرَ عَلَى مَنْ يَجْعَلُ لَفْظَ الْحَسَنِ عِبَارَةً عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا، فَلَا مُشَاحَّةَ فِي الْأَلْفَاظِ. فَعَلَى هَذَا إذَا لَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ لَا يَتَمَيَّزُ فِعْلٌ عَنْ غَيْرِهِ إلَّا بِالْمُوَافَقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِالْإِضَافَاتِ وَلَا يَكُونُ صِفَةً لِلذَّاتِ. فَإِنْ قِيلَ: نَحْنُ لَا نُنَازِعُكُمْ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ وَلَا فِي هَذِهِ الِاصْطِلَاحَاتِ الَّتِي تَوَاضَعْتُمْ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ نَدَّعِي الْحُسْنَ وَالْقُبْحَ وَصْفًا ذَاتِيًّا لِلْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ مُدْرَكًا بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ كَالظُّلْمِ وَالْكَذِبِ وَالْكُفْرَانِ وَالْجَهْلِ؛ وَلِذَلِكَ لَا نُجَوِّزُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى لِقُبْحِهِ وَنُحَرِّمُهُ عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ؛ لِأَنَّهُ قَبِيحٌ لِذَاتِهِ، وَكَيْفَ يُنْكَرُ ذَلِكَ وَالْعُقَلَاءُ بِأَجْمَعِهِمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْقَضَاءِ بِهِ مِنْ غَيْرِ إضَافَةٍ إلَى حَالٍ دُونُ حَالٍ؟ قُلْنَا: أَنْتُمْ مُنَازَعُونَ فِيمَا ذَكَرْتُمُوهُ فِي ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا فِي كَوْنِ الْقُبْحِ وَصْفًا ذَاتِيًّا. وَالثَّانِي فِي قَوْلِكُمْ إنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَعْلَمُهُ الْعُقَلَاءُ بِالضَّرُورَةِ. وَالثَّالِثُ: فِي ظَنِّكُمْ أَنَّ الْعُقَلَاءَ لَوْ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ لَكَانَ ذَلِكَ حُجَّةً مَقْطُوعًا بِهَا وَدَلِيلًا عَلَى كَوْنِهِ ضَرُورِيًّا. أَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ دَعْوَى كَوْنِهِ وَصْفًا ذَاتِيًّا فَهُوَ تَحَكُّمٌ بِمَا لَا يُعْقَلُ، فَإِنَّ الْقَتْلَ عِنْدَهُمْ قَبِيحٌ لِذَاتِهِ بِشَرْطِ أَنْ لَا تَسْبِقَهُ جِنَايَةٌ وَلَا يَعْقُبَهُ عِوَضٌ حَتَّى جَازَ إيلَامُ الْبَهَائِمِ وَذَبْحُهَا وَلَمْ يَقْبُحْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُثِيبُهَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ. وَالْقَتْلُ فِي ذَاتِهِ لَهُ حَقِيقَةٌ وَاحِدَةٌ لَا تَخْتَلِفُ بِأَنْ تَتَقَدَّمهُ جِنَايَةٌ أَوْ تَتَعَقَّبَهُ لَذَّةٌ إلَّا مِنْ حَيْثُ الْإِضَافَةُ إلَى الْفَوَائِدِ وَالْأَغْرَاضِ، وَكَذَلِكَ الْكَذِبُ كَيْفَ يَكُونُ قُبْحُهُ ذَاتِيًّا وَلَوْ كَانَ فِيهِ عِصْمَةُ دَمِ نَبِيٍّ بِإِخْفَاءِ مَكَانِهِ عَنْ ظَالِمٍ يَقْصِدُ قَتْلَهُ لَكَانَ حَسَنًا بَلْ وَاجِبًا يُعْصَى بِتَرْكِهِ؟ وَالْوَصْفُ الذَّاتِيُّ كَيْفَ يَتَبَدَّلُ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْأَحْوَالِ؟ وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ كَوْنُهُ مُدْرَكًا بِالضَّرُورَةِ، وَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ وَنَحْنُ نُنَازِعكُمْ فِيهِ وَالضَّرُورِيُّ لَا يُنَازِعُ فِيهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ الْعُقَلَاءِ وَقَوْلُكُمْ إنَّكُمْ مُضْطَرُّونَ إلَى الْمَعْرِفَةِ وَمُوَافِقُونَ عَلَيْهِ وَلَكِنَّكُمْ تَظُنُّونَ أَنَّ مُسْتَنَدَ مَعْرِفَتِكُمْ السَّمْعُ كَمَا ظَنَّ الْكَعْبِيُّ أَنَّ مُسْتَنَدَ عِلْمِهِ بِخَبَرِ التَّوَاتُرِ النَّظَرُ، وَلَا يَبْعُدُ الْتِبَاسُ مُدْرَكِ الْعِلْمِ وَإِنَّمَا يَبْعُدُ الْخِلَافُ فِي نَفْسِ الْمَعْرِفَةِ وَلَا خِلَافَ فِيهَا؛ قُلْنَا: هَذَا كَلَامٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّا نَقُولُ يَحْسُنُ مِنْ اللَّه تَعَالَى إيلَامُ الْبَهَائِمِ وَلَا نَعْتَقِدُ لَهَا جَرِيمَةً وَلَا ثَوَابًا فَدَلَّ أَنَّا نُنَازِعُكُمْ فِي نَفْسِ الْعِلْمِ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَهُوَ أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا اتِّفَاقَ الْعُقَلَاءِ عَلَى هَذَا أَيْضًا لَمْ تَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ، إذْ لَمْ يَسْلَمْ كَوْنُهُمْ مُضْطَرِّينَ إلَيْهِ بَلْ

يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الِاتِّفَاقُ مِنْهُمْ عَلَى مَا لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ فَقَدْ اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى إثْبَاتِ الصَّانِعِ وَجَوَازِ بِعْثَةِ الرُّسُلِ وَلَمْ يُخَالِفْ إلَّا الشَّوَاذُّ، فَلَوْ اتَّفَقَ أَنْ سَاعَدَهُمْ الشَّوَاذُّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ضَرُورِيًّا، فَكَذَلِكَ اتِّفَاقُ النَّاسِ عَلَى هَذَا الِاعْتِقَادِ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ عَنْ دَلِيلِ السَّمْعِ الدَّالِّ عَلَى قُبْحِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَبَعْضُهُ عَنْ تَقْلِيدِ مَفْهُومٍ مِنْ الْآخِذِينَ عَنْ السَّمْعِ وَبَعْضُهُ عَنْ الشُّبْهَةِ الَّتِي وَقَعَتْ لِأَهْلِ الضَّلَالِ، فَالْتِئَامُ الِاتِّفَاقِ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ لَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ ضَرُورِيًّا فَلَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ حُجَّةً لَوْلَا مَنْعُ السَّمْعِ عَنْ تَجْوِيزِ الْخَطَأِ عَلَى كَافَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ خَاصَّةً إذْ لَا يَبْعُدُ اجْتِمَاعُ الْكَافَّةِ عَلَى الْخَطَأِ عَنْ تَقْلِيدٍ وَعَنْ شُبْهَةٍ، وَكَيْفَ وَفِي الْمُلْحِدَةِ مَنْ لَا يَعْتَقِدُ قُبْحَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَلَا حُسْنَ نَقَائِضِهَا، فَكَيْفَ يُدَّعَى اتِّفَاقُ الْعُقَلَاءِ؟ احْتَجُّوا بِأَنَّا نَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ مَنْ اسْتَوَى عِنْدَهُ الصِّدْقُ وَالْكَذِبُ آثَرَ الصِّدْقَ وَمَالَ إلَيْهِ إنْ كَانَ عَاقِلًا وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِحُسْنِهِ، وَإِنَّ الْمَلِكَ الْعَظِيمَ الْمُسْتَوْلِي عَلَى الْأَقَالِيمِ إذَا رَأَى ضَعِيفًا مُشْرِفًا عَلَى الْهَلَاكِ يَمِيلُ إلَى إنْقَاذِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْتَقِدُ أَصْلَ الدِّينِ لِيَنْتَظِرَ ثَوَابًا وَلَا يَنْتَظِرُ مِنْهُ أَيْضًا مُجَازَاةً وَشُكْرًا، وَلَا يُوَافِقُ ذَلِكَ أَيْضًا غَرَضَهُ بَلْ رُبَّمَا يَتْعَبُ بِهِ بَلْ يَحْكُمُ الْعُقَلَاءُ بِحُسْنِ الصَّبْرِ عَلَى السَّيْفِ إذَا أُكْرِه عَلَى كَلِمَةِ الْكُفْرِ أَوْ عَلَى إفْشَاءِ السِّرِّ وَنَقْضِ الْعَهْدِ وَهُوَ عَلَى خِلَافِ غَرَضِ الْمُكْرَهِ وَعَلَى الْجُمْلَةِ اسْتِحْسَانُ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَإِفَاضَةُ النِّعَمِ مِمَّا لَا يُنْكِرُهُ عَاقِلٌ إلَّا عَنْ عِنَادٍ. وَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نُنْكِرُ اشْتِهَارَ هَذِهِ الْقَضَايَا بَيْنَ الْخَلْقِ وَكَوْنَهَا مَحْمُودَةً مَشْهُورَةً، وَلَكِنَّ مُسْتَنَدَهَا إمَّا التَّدَيُّنُ بِالشَّرَائِعِ وَإِمَّا الْأَغْرَاضُ؛ وَنَحْنُ إنَّمَا نُنْكِرُ هَذَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِانْتِفَاءِ الْأَغْرَاضِ عَنْهُ، فَأَمَّا إطْلَاقُ النَّاسِ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ فِيمَا يَدُورُ بَيْنَهُمْ فَيَسْتَمِرُّ مِنْ الْأَغْرَاضِ وَلَكِنْ قَدْ تَدِقُّ الْأَغْرَاضُ وَتَخْفَى فَلَا يَنْتَبِهُ لَهَا إلَّا الْمُحَقِّقُونَ؛ وَنَحْنُ نُنَبِّهُ عَلَى مُثَارَاتِ الْغَلَطِ فِيهِ وَهِيَ ثَلَاثُ مُثَارَاتٍ يَغْلَطُ الْوَهْمُ فِيهَا الْأُولَى: أَنَّ الْإِنْسَانَ يُطْلِقُ اسْمَ الْقُبْحِ عَلَى مَنْ يُخَالِفُ غَرَضَهُ وَإِنْ كَانَ يُوَافِقُ غَرَضَ غَيْرِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَلْتَفِتُ إلَى الْغَيْرِ، فَإِنَّ كُلَّ طَبْعٍ مَشْغُوفٌ بِنَفْسِهِ وَمُسْتَحْقِرٌ لِغَيْرِهِ فَيَقْضِي بِالْقُبْحِ مُطْلَقًا. وَرُبَّمَا يُضِيفُ الْقُبْحَ إلَى ذَاتِ الشَّيْءِ وَيَقُولُ: هُوَ بِنَفْسِهِ قَبِيحٌ، فَيَكُونُ قَدْ قَضَى بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ هُوَ مُصِيبٌ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا وَهُوَ أَصْلُ الِاسْتِقْبَاحِ وَمُخْطِئٌ فِي أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا إضَافَةُ الْقُبْحِ إلَى ذَاتِهِ، إذْ غَفَلَ. عَنْ كَوْنِهِ قَبِيحًا لِمُخَالَفَةِ غَرَضِهِ. وَالثَّانِي حُكْمُهُ بِالْقُبْحِ مُطْلَقًا، وَمُنْشَؤُهُ عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إلَى غَيْرِهِ بَلْ عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إلَى بَعْضِ أَحْوَالِ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَسْتَحْسِنُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ عَيْنَ مَا يَسْتَقْبِحُهُ إذَا اخْتَلَفَ الْغَرَضُ. الْغَلْطَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ مَا هُوَ مُخَالِفٌ لِلْغَرَضِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ إلَّا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ نَادِرَةٍ قَدْ لَا يَلْتَفِتُ الْوَهْمُ إلَى تِلْكَ الْحَالَةِ النَّادِرَةِ بَلْ لَا يَخْطِرُ بِالْبَالِ فَيَرَاهُ مُخَالِفًا فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ، فَيَقْضِي بِالْقُبْحِ مُطْلَقًا لِاسْتِيلَاءِ أَحْوَالِ قُبْحِهِ عَلَى قَلْبِهِ وَذَهَابِ الْحَالَةِ النَّادِرَةِ عَنْ ذِكْرِهِ، كَحُكْمِهِ عَلَى الْكَذِبِ بِأَنَّهُ قَبِيحٌ مُطْلَقًا وَغَفْلَتُهُ عَنْ الْكَذِبِ الَّذِي تُسْتَفَادُ بِهِ عِصْمَةُ دَمِ نَبِيٍّ أَوْ وَلِيٍّ. وَإِذَا قَضَى بِالْقُبْحِ مُطْلَقًا وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ مُدَّةً وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ عَلَى سَمْعِهِ وَلِسَانِهِ انْغَرَسَ فِي نَفْسِهِ اسْتِقْبَاحٌ مُنَفِّرٌ، فَلَوْ وَقَعَتْ تِلْكَ الْحَالَةُ النَّادِرَةُ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ نُفْرَةً عَنْهُ لِطُولِ نُشُوِّهِ عَلَى الِاسْتِقْبَاحِ فَإِنَّهُ أُلْقِيَ إلَيْهِ مُنْذُ الصِّبَا عَلَى سَبِيلِ التَّأْدِيبِ وَالْإِرْشَادِ أَنَّ الْكَذِبَ قَبِيحٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْهِ

أَحَدٌ، وَلَا يُنَبَّهُ عَلَى حُسْنِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ خِيفَةً مِنْ أَنْ لَا تَسْتَحْكِمَ نُفْرَتُهُ عَنْ الْكَذِبِ فَيُقْدِمُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَبِيحٌ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ، وَالسَّمَاعُ فِي الصِّغَرِ كَالنَّقْشِ فِي الْحَجَرِ، فَيَنْغَرِسُ فِي النَّفْسِ وَيَحِنُّ إلَى التَّصْدِيقِ بِهِ مُطْلَقًا وَهُوَ صِدْقٌ لَكِنْ لَا عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ فِي أَكْثَرِ الْأَحْوَالِ؛ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذِكْرِهِ إلَّا أَكْثَرُ الْأَحْوَالِ فَهُوَ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ كُلُّ الْأَحْوَالِ فَلِذَلِكَ يَعْتَقِدُهُ مُطْلَقًا. الْغَلْطَةُ الثَّالِثَةُ: سَبَبُهَا سَبْقُ الْوَهْمِ إلَى الْعَكْسِ، فَإِنَّ مَا يُرَى مَقْرُونًا بِالشَّيْءِ يُظَنُّ أَنَّ الشَّيْءَ أَيْضًا - لَا مَحَالَةَ - مَقْرُونٌ بِهِ مُطْلَقًا وَلَا يَدْرِي أَنَّ الْأَخَصَّ أَبَدًا مَقْرُونُ بِالْأَعَمِّ وَالْأَعَمُّ لَا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ مَقْرُونًا بِالْأَخَصِّ وَمِثَالُهُ نُفْرَةُ نَفْسِ السَّلِيمِ وَهُوَ الَّذِي نَهَشَتْهُ الْحَيَّةُ عَنْ الْحَبْلِ الْمُبَرْقَشِ اللَّوْنِ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ الْأَذَى مَقْرُونًا بِهَذِهِ الصُّورَةِ فَتَوَهَّمَ أَنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ مَقْرُونَةٌ بِالْأَذَى، وَكَذَلِكَ تَنْفِرُ النَّفْسُ عَنْ الْعَسَلِ إذَا شُبِّهَ بِالْعَذِرَةِ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ الْأَذَى وَالِاسْتِقْذَارَ مَقْرُونًا بِالرَّطْبِ الْأَصْفَرِ فَتَوَهَّمَ أَنَّ الرَّطْبَ الْأَصْفَرَ مَقْرُونٌ بِهِ الِاسْتِقْذَارُ، وَيَغْلِبُ الْوَهْمُ حَتَّى يَتَعَذَّرَ الْأَكْلُ وَإِنَّ حُكْمَ الْعَقْلِ يُكَذِّبُ الْوَهْمَ؛ لَكِنْ خُلِقَتْ قُوَى النَّفْسِ مُطِيعَةً لِلْأَوْهَامِ وَإِنْ كَانَتْ كَاذِبَةً حَتَّى إنَّ الطَّبْعَ لَيَنْفِرُ عَنْ حَسْنَاءَ سُمِّيَتْ بِاسْمِ الْيَهُودِ، إذْ وُجِدَ الِاسْمُ مَقْرُونًا بِالْقُبْحِ فَظَنَّ أَنَّ الْقُبْحَ أَيْضًا مُلَازِمٌ لِلِاسْمِ؛ وَلِذَا تُورَدُ عَلَى بَعْضِ الْعَوَامّ مَسْأَلَةٌ عَقْلِيَّةٌ جَلِيلَةٌ فَيَقْبَلُهَا، فَإِذَا قُلْتَ هَذَا مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ أَوْ الْحَنْبَلِيِّ أَوْ الْمُعْتَزِلِيِّ نَفَرَ عَنْهُ إنْ كَانَ يُسِيءُ الِاعْتِقَادَ فِيمَنْ نِسْبَتُهُ إلَيْهِ. وَلَيْسَ هَذَا طَبْعُ الْعَامِّيِّ خَاصَّةً بَلْ طَبْعُ أَكْثَرِ الْعُقَلَاءِ الْمُتَسَمِّينَ بِالْعُلُومِ إلَّا الْعُلَمَاءَ الرَّاسِخِينَ الَّذِينَ أَرَاهُمْ اللَّهُ الْحَقَّ حَقًّا وَقَوَّاهُمْ عَلَى اتِّبَاعِهِ. وَأَكْثَرُ الْخَلْقِ قُوَى نُفُوسِهِمْ مُطِيعَةٌ لِلْأَوْهَامِ الْكَاذِبَةِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِكَذِبِهَا، وَأَكْثَرُ إقْدَامِ الْخَلْقِ وَإِحْجَامِهِمْ بِسَبَبِ هَذِهِ الْأَوْهَامِ، فَإِنَّ الْوَهْمَ عَظِيمُ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى النَّفْسِ؛ وَلِذَلِكَ يَنْفِرُ طَبْعُ الْإِنْسَانِ عَنْ الْمَبِيتِ فِي بَيْتٍ فِيهِ مَيِّتٌ مَعَ قَطْعِهِ بِأَنَّهُ لَا يَتَحَرَّكُ وَلَكِنَّهُ كَأَنَّهُ يَتَوَهَّمُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ حَرَكَتَهُ وَنُطْقَهُ فَإِذَا تَنَبَّهْتَ لِهَذِهِ الْمُثَارَاتِ فَنَرْجِعُ وَنَقُولُ: إنَّمَا يَتَرَجَّحُ الْإِنْقَاذُ عَلَى الْإِهْمَالِ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْتَقِدُ الشَّرَائِعَ لِدَفْعِ الْأَذَى الَّذِي يَلْحَقُ الْإِنْسَانَ مِنْ رِقَّةِ الْجِنْسِيَّةِ وَهُوَ طَبْعٌ يَسْتَحِيلُ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ، وَسَبَبُهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ يُقَدِّرُ نَفْسَهُ فِي تِلْكَ الْبَلِيَّةِ وَيُقَدِّرُ غَيْرَهُ مُعْرِضًا عَنْهُ وَعَنْ إنْقَاذِهِ فَيَسْتَقْبِحُهُ مِنْهُ بِمُخَالَفَةِ غَرَضِهِ، فَيَعُودُ وَيُقَدِّرُ ذَلِكَ الِاسْتِقْبَاحَ مِنْ الْمُشْرِفِ عَلَى الْهَلَاكِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَيَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ الْقُبْحَ الْمُتَوَهَّمَ. فَإِنْ فَرَضَ فِي بَهِيمَةٍ أَوْ فِي شَخْصٍ لَا رِقَّةَ فِيهِ فَهُوَ بَعِيدٌ تَصَوُّرُهُ، وَلَوْ تُصُوِّرَ فَيَبْقَى أَمْرٌ آخَرُ وَهُوَ طَلَبُ الثَّنَاءِ عَلَى إحْسَانِهِ، فَإِنْ فُرِضَ حَيْثُ لَا يُعْلَمُ أَنَّهُ الْمُنْقِذُ فَيُتَوَقَّعُ أَنْ يُعْلَمَ فَيَكُونُ ذَلِكَ التَّوَقُّعُ بَاعِثًا، فَإِنْ فَرَضَ فِي مَوْضِعٍ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُعْلَمَ فَيَبْقَى مَيْلُ النَّفْسِ وَتَرَجُّحٌ يُضَاهِي نُفْرَةَ طَبْعِ السَّلِيمِ عَنْ الْحَبْلِ الْمُبَرْقَشِ؛ وَذَلِكَ أَنَّهُ رَأَى هَذِهِ الصُّورَةَ مَقْرُونَةً بِالثَّنَاءِ فَظَنَّ أَنَّ الثَّنَاءَ مَقْرُونٌ بِهَا بِكُلِّ حَالٍ، كَمَا أَنَّهُ لَمَّا رَأَى الْأَذَى مَقْرُونًا بِصُورَةِ الْحَبْلِ وَطَبْعُهُ يَنْفِرُ عَنْ الْأَذَى فَنَفَرَ عَنْ الْمَقْرُونِ بِالْأَذَى فَالْمَقْرُونُ بِاللَّذِيذِ لَذِيذٌ وَالْمَقْرُونُ بِالْمَكْرُوهِ مَكْرُوهٌ، بَلْ الْإِنْسَانُ إذَا جَالَسَ مَنْ عَشِقَهُ فِي مَكَان فَإِذَا انْتَهَى إلَيْهِ أَحَسَّ فِي نَفْسه تَفْرِقَةً بَيْنَ ذَلِكَ الْمَكَانِ وَغَيْرِهِ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ الشَّاعِرُ: أَمُرُّ عَلَى الدِّيَارِ دِيَارِ لَيْلَى ... أُقَبِّلُ ذَا الْجِدَارَ وَذَا الْجِدَارَا وَمَا تِلْكَ الدِّيَارُ شَغَفْنَ قَلْبِي ... وَلَكِنْ حُبُّ مَنْ سَكَنَ الدِّيَارَا

وَقَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ مُنَبِّهًا عَلَى سَبَبِ حُبِّ الْأَوْطَانِ: وَحَبَّبَ أَوْطَانَ الرِّجَال إلَيْهِمْ ... مَآرِبُ قَضَّاهَا الشَّبَابُ هُنَالِكَا إذَا ذَكَرُوا أَوْطَانَهُمْ ذَكَرَتْهُمْ ... عُهُودُ الصِّبَا فِيهَا فَحَنُّوا لِذَلِكَا وَشَوَاهِدُ ذَلِكَ مِمَّا يَكْثُرُ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ حُكْمِ الْوَهْمِ. وَأَمَّا الصَّبْرُ عَلَى السَّيْفِ فِي تَرْكِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ مَعَ طُمَأْنِينَةِ النَّفْسِ فَلَا يَسْتَحْسِنُهُ جَمِيعُ الْعُقَلَاءِ لَوْلَا الشَّرْعُ، بَلْ رُبَّمَا اسْتَقْبَحُوهُ؛ وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَهُ مَنْ يَنْتَظِرُ الثَّوَابَ عَلَى الصَّبْرِ أَوْ مَنْ يَنْتَظِرُ الثَّنَاءَ عَلَيْهِ بِالشَّجَاعَةِ وَالصَّلَابَةِ فِي الدِّينِ، وَكَمْ مِنْ شُجَاعٍ يَرْكَبُ مَتْنَ الْخَطَرِ وَيَتَهَجَّمُ عَلَى عَدَدٍ هُمْ أَكْثَرُ مِنْهُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُطِيقُهُمْ وَيَسْتَحْقِرُ مَا يَنَالُهُ مِنْ الْأَلَمِ لِمَا يَعْتَاضُهُ مِنْ تَوَهُّمِ الثَّنَاءِ وَالْحَمْدِ وَلَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ. وَكَذَلِكَ إخْفَاءُ السِّرِّ وَحِفْظُ الْعَهْدِ إنَّمَا تَوَاصَى النَّاسُ بِهِمَا لِمَا فِيهِمَا مِنْ الْمَصَالِحِ وَأَكْثَرُوا الثَّنَاءَ عَلَيْهِمَا، فَمَنْ يَحْتَمِلُ الضَّرَرَ فِيهِ فَإِنَّمَا يَحْتَمِلُهُ لِأَجْلِ الثَّنَاءِ، فَإِنْ فَرَضَ حَيْثُ لَا ثَنَاءَ فَقَدْ وُجِدَ مَقْرُونًا بِالثَّنَاءِ فَيَبْقَى مَيْلُ الْوَهْمِ إلَى الْمَقْرُونِ بِاللَّذِيذِ وَإِنْ كَانَ خَالِيًا عَنْهُ فَإِنْ فُرِضَ مَنْ لَا يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ هَذَا الْوَهْمُ وَلَا يَنْتَظِرُ الثَّوَابَ وَالثَّنَاءَ فَهُوَ مُسْتَقْبَحٌ لِلسَّعْيِ فِي هَلَاكِ نَفْسِهِ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ وَيُسْتَحْمَقُ مَنْ يَفْعَلُ ذَاكَ قَطْعًا، فَمَنْ يُسَلِّمُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا يُؤْثِرُ الْهَلَاكَ عَلَى الْحَيَاةِ وَعَلَى هَذَا يَجْرِي الْجَوَابُ عَنْ الْكَذِبِ وَعَنْ جَمِيعِ مَا يَفْرِضُونَهُ. ثُمَّ نَقُولُ: نَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ أَهْلَ الْعَادَةِ يَسْتَقْبِحُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ الظُّلْمَ وَالْكَذِبَ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي الْقُبْحِ وَالْحُسْنِ بِالْإِضَافَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَمَنْ قَضَى بِهِ فَمُسْتَنَدُهُ قِيَاسُ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ وَكَيْفَ يَقِيسُ وَالسَّيِّدُ لَوْ تَرَكَ عَبِيدَهُ وَإِمَاءَهُ وَبَعْضُهُمْ يَمُوج فِي بَعْضٍ وَيَرْتَكِبُونَ الْفَوَاحِشَ وَهُوَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِمْ وَقَادِرٌ عَلَى مَنْعِهِمْ لَقَبُحَ مِنْهُ، وَقَدْ فَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِعِبَادِهِ وَلَمْ يَقْبُحْ مِنْهُ. وَقَوْلُهُمْ: إنَّهُ تَرَكَهُمْ لِيَنْزَجِرُوا بِأَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَحِقُّوا الثَّوَابَ هَوَسٌ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَا يَنْزَجِرُونَ فَلْيَمْنَعْهُمْ قَهْرًا، فَكَمْ مِنْ مَمْنُوعٍ عَنْ الْفَوَاحِشِ بِعُنَّةٍ أَوْ عَجْزٍ، وَذَلِكَ أَحْسَنُ مِنْ تَمْكِينِهِمْ مَعَ الْعِلْمِ لِأَنَّهُمْ لَا يَنْزَجِرُونَ. [مَسْأَلَةٌ شُكْرُ الْمُنْعِمِ] مَسْأَلَةٌ: لَا يَجِبُ شُكْرُ الْمُنْعِمِ عَقْلًا لَا يَجِبُ شُكْرُ الْمُنْعِمِ عَقْلًا خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ. وَدَلِيلُهُ أَنْ لَا مَعْنَى لِلْوَاجِبِ إلَّا مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَرَ بِهِ وَتَوَعَّدَ بِالْعِقَابِ عَلَى تَرْكِهِ، فَإِذَا لَمْ يَرِدْ خِطَابٌ فَأَيُّ مَعْنًى لِلْوُجُوبِ؟ ثُمَّ تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ الْعَقْلَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُوجِبَ ذَلِكَ لِفَائِدَةٍ أَوْ لَا لِفَائِدَةٍ، وَمُحَالٌ أَنْ يُوجِبَ لَا لِفَائِدَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ عَبَثٌ وَسَفَه وَإِنْ كَانَ لِفَائِدَةِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَرْجِعَ إلَى الْمَعْبُودِ وَهُوَ مُحَالٌ إذْ يَتَعَالَى وَيَتَقَدَّسُ عَنْ الْأَغْرَاضِ، أَوْ إلَى الْعَبْدِ وَذَلِكَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا فَائِدَةَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ بَلْ يَتْعَبُ بِالنَّظَرِ وَالْفِكْرِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالشُّكْرِ وَيُحْرِمُ بِهِ عَنْ الشَّهَوَات وَاللَّذَّات، وَلَا فَائِدَة لَهُ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّ الثَّوَابَ تَفَضُّلٌ مِنْ اللَّهِ يُعْرَفُ بِوَعْدِهِ وَخَبَرِهِ فَإِذَا لَمْ يُخْبِرْ عَنْهُ فَمِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ أَنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهِ؟ فَإِنْ قِيلَ: يَخْطِرُ لَهُ أَنَّهُ إنْ كَفَرَ وَأَعْرَضَ رُبَّمَا يُعَاقَبُ وَالْعَقْلُ يَدْعُو إلَى سُلُوكِ طَرِيقِ الْأَمْنِ. قُلْنَا: لَا بَلْ الْعَقْلُ يَعْرِفُ طَرِيقَ الْأَمْنِ ثُمَّ الطَّبْعُ يَسْتَحِثُّ عَلَى سُلُوكِهِ، إذْ كُلُّ إنْسَانٍ مَجْبُولٌ عَلَى حُبِّ نَفْسِهِ وَعَلَى كَرَاهَةِ الْأَلَمِ فَقَدْ غَلِطْتُمْ فِي قَوْلِكُمْ إنَّ الْعَقْلَ دَاعٍ بَلْ الْعَقْلُ هَادٍ وَالْبَوَاعِثُ وَالدَّوَاعِي تَنْبَعِثُ مِنْ النَّفْسِ تَابِعَةً لِحُكْمِ الْعَقْلِ، وَغَلِطْتُمْ أَيْضًا فِي قَوْلِكُمْ إنَّهُ يُثَابُ عَلَى جَانِبِ الشُّكْرِ وَالْمَعْرِفَةِ خَاصَّةً؛ لِأَنَّ هَذَا الْخَاطِر مُسْتَنَده تَوَهُّم غَرَض فِي جَانِبِ الشُّكْرِ يَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ الْكُفْرِ وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ بِالْإِضَافَةِ إلَى

جَلَالِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ إنْ فُتِحَ بَابُ الْأَوْهَامِ فَرُبَّمَا يَخْطِرْ لَهُ أَنَّ اللَّهَ يُعَاقِبُهُ لَوْ شَكَرَهُ وَنَظَرَ فِيهِ لِأَنَّهُ أَمَدَّهُ بِأَسْبَابِ النِّعَمِ فَلَعَلَّهُ خَلَقَهُ لِيُتْرِفَهُ وَلِيَتَمَتَّعَ، فَإِتْعَابُهُ نَفْسَهُ تَصَرُّفٌ فِي مَمْلَكَتِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ. وَلَهُمْ شُبْهَتَانِ إحْدَاهُمَا قَوْلُهُمْ: اتِّفَاقُ الْعُقَلَاءِ عَلَى حُسْنِ الشُّكْرِ وَقُبْحِ الْكُفْرَانِ لَا سَبِيلَ إلَى إنْكَارِهِ. وَذَلِكَ مُسَلَّمٌ لَكِنْ فِي حَقِّهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَهْتَزُّونَ وَيَرْتَاحُونَ لِلشُّكْرِ وَيَغْتَمُّونَ بِالْكُفْرَانِ، وَالرَّبُّ تَعَالَى يَسْتَوِي فِي حَقِّهِ الْأَمْرَانِ فَالْمَعْصِيَةُ وَالطَّاعَةُ فِي حَقِّهِ سِيَّانِ؛ وَيَشْهَدُ لَهُ أَمْرَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُتَقَرِّبَ إلَى السُّلْطَان بِتَحْرِيكِ أُنْمُلَتِهِ فِي زَاوِيَةِ بَيْتِهِ وَحُجْرَتِهِ مُسْتَهِينٌ بِنَفْسِهِ وَعِبَادَةُ الْعِبَادِ بِالنِّسْبَةِ إلَى جَلَالِ اللَّهِ دُونَهُ فِي الرُّتْبَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ بِكِسْرَةِ خُبْزٍ فِي مَخْمَصَةٍ فَأَخَذَ يَدُورُ فِي الْبِلَادِ وَيُنَادِي عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ بِشُكْرِهِ كَانَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَلِكِ قَبِيحًا وَافْتِضَاحًا. وَجُمْلَةُ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَقْدُورَاتِهِ دُونَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى خَزَائِنِ الْمَلِكِ؛ لِأَنَّ خِزَانَةَ الْمَلِكِ تَفْنَى بِأَمْثَالِ تِلْكَ الْكَثْرَةِ لِتَنَاهِيهَا وَمَقْدُورَاتُ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَتَنَاهَى بِأَضْعَافِ مَا أَفَاضَهُ عَلَى عَبْدِهِ. الشُّبْهَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُمْ حَصْرُ مَدَارِكِ الْوُجُوبِ فِي الشَّرْعِ يُفْضِي إلَى إفْحَامِ الرُّسُلِ، فَإِنَّهُمْ إذَا أَظْهَرُوا الْمُعْجِزَاتِ قَالَ لَهُمْ الْمُدَّعُونَ لَا يَجِبُ عَلَيْنَا النَّظَرُ فِي مُعْجِزَاتِكُمْ إلَّا بِالشَّرْعِ، وَلَا يَسْتَقِرُّ الشَّرْعُ إلَّا بِنَظَرِنَا فِي مُعْجِزَاتِكُمْ، فَثَبِّتُوا عَلَيْنَا وُجُوبَ النَّظَرِ حَتَّى نَنْظُرَ وَلَا نَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ مَا لَمْ نَنْظُرْ فَيُؤَدِّي إلَى الدَّوْرِ. وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا: مِنْ حَيْثُ التَّحْقِيقُ، وَهُوَ أَنَّكُمْ غَلِطْتُمْ فِي ظَنِّكُمْ بِنَا أَنَّا نَقُولُ اسْتِقْرَارُ الشَّرْعِ مَوْقُوفٌ عَلَى نَظَرِ النَّاظِرِينَ، بَلْ إذَا بُعِثَ الرَّسُولُ وَأُيِّدَ بِمُعْجِزَتِهِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ بِهَا إمْكَانُ الْمَعْرِفَةِ لَوْ نَظَرَ الْعَاقِلُ فِيهَا فَقَدْ ثَبَتَ الشَّرْعُ وَاسْتَقَرَّ وُرُودُ الْخِطَابِ بِإِيجَابِ النَّظَرِ، إذْ لَا مَعْنَى لِلْوَاجِبِ إلَّا مَا تَرَجَّحَ فِعْلُهُ عَلَى تَرْكِهِ بِدَفْعِ ضَرَرٍ مَعْلُومٍ أَوْ مَوْهُومٍ، فَمَعْنَى الْوُجُوبِ رُجْحَانُ الْفِعْلِ عَلَى التَّرْكِ وَالْمُوجَبُ هُوَ الْمُرَجَّحُ وَاَللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْمُرَجِّحُ وَهُوَ الَّذِي عَرَّفَ رَسُولَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يُعَرِّفَ النَّاسَ أَنَّ الْكُفْرَ سُمٌّ مُهْلِكٌ وَالْمَعْصِيَةَ دَاءٌ وَالطَّاعَةَ شِفَاءٌ؛ فَالْمُرَجِّحُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالرَّسُولُ هُوَ الْمُخْبِرُ، وَالْمُعْجِزَةُ سَبَبٌ يُمَكِّنُ الْعَاقِلَ مِنْ التَّوَصُّلِ إلَى مَعْرِفَةِ التَّرْجِيحِ، وَالْعَقْلُ هُوَ الْآلَةُ الَّتِي بِهَا يُعْرَفُ صِدْقُ الْمُخْبِرِ عَنْ التَّرْجِيحِ، وَالطَّبْعُ الْمَجْبُولُ عَلَى التَّأَلُّمِ بِالْعَذَابِ وَالتَّلَذُّذِ بِالثَّوَابِ هُوَ الْبَاعِثُ الْمُسْتَحِثُّ عَلَى الْحَذَرِ مَنْ الضَّرَرِ. وَبَعْدَ وُرُودِ الْخِطَابِ حَصَلَ الْإِيجَابُ الَّذِي هُوَ التَّرْجِيحُ، وَبِالتَّأْيِيدِ بِالْمُعْجِزَةِ حَصَلَ الْإِمْكَانُ فِي حَقِّ الْعَاقِلِ النَّاظِرِ إذْ قَدَرَ بِهِ عَلَى مَعْرِفَةِ الرُّجْحَانِ، فَقَوْلُهُ: لَا أَنْظُرُ مَا لَمْ أَعْرِفْ وَلَا أَعْرِفُ مَا لَمْ أَنْظُرْ، مِثَالُهُ مَا لَوْ قَالَ الْأَبُ لِوَالِدِهِ: الْتَفِتْ فَإِنَّ وَرَاءَكَ سَبْعًا عَادِيًا هُوَ ذَا يَهْجُمُ عَلَيْكَ إنْ غَفَلْتَ عَنْهُ، فَيَقُولُ: لَا أَلْتَفِتُ مَا لَمْ أَعْرِفْ وُجُوبَ الِالْتِفَاتِ وَلَا يَجِبُ الِالْتِفَاتُ مَا لَمْ أَعْرِفْ السَّبْعَ وَلَا أَعْرِفُ السَّبْعَ مَا لَمْ أَلْتَفِتْ، فَيَقُولُ لَهُ: لَا جَرَمَ تَهْلَكُ بِتَرْكِ الِالْتِفَاتِ وَأَنْتَ غَيْرُ مَعْذُورٍ لِأَنَّكَ قَادِرٌ عَلَى الِالْتِفَاتِ وَتَرْكِ الْعِنَادِ. فَكَذَلِكَ النَّبِيُّ يَقُولُ: الْمَوْتُ وَرَاءَكَ وَدُونَهُ الْهَوَامُّ الْمُؤْذِيَةُ وَالْعَذَابُ الْأَلِيمُ إنْ تَرَكْتَ الْإِيمَانَ وَالطَّاعَةَ، وَتَعْرِفُ ذَلِكَ بِأَدْنَى نَظَرٍ فِي مُعْجِزَتِي، فَإِنْ نَظَرْتَ وَأَطَعْتَ نَجَوْتَ وَإِنْ غَفَلْتَ وَأَعْرَضْتَ فَاَللَّهُ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْكَ وَعَنْ عَمَلِكَ، وَإِنَّمَا أَضْرَرْتَ بِنَفْسِكَ. فَهَذَا أَمْرٌ مَعْقُولٌ لَا تَنَاقُضَ فِيهِ الْجَوَابُ الثَّانِي: الْمُقَابَلَةُ بِمَذْهَبِهِمْ فَإِنَّهُمْ قَضَوْا بِأَنَّ الْعَقْلَ هُوَ الْمُوجِبُ، وَلَيْسَ يُوجِبُ بِجَوْهَرِهِ إيجَابًا ضَرُورِيًّا لَا يَنْفَكُّ مِنْهُ أَحَدٌ، إذْ لَوْ كَانَ

كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ عَقْلُ عَاقِلٍ عَنْ مَعْرِفَةِ الْوُجُوبِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ تَأَمُّلٍ وَنَظَرٍ، وَلَوْ لَمْ يَنْظُرْ لَمْ يَعْرِفْ وُجُوبَ النَّظَرِ، وَإِذَا لَمْ يَعْرِفْ وُجُوبَ النَّظَرِ فَلَا يَنْظُرْ، فَيُؤَدِّي أَيْضًا إلَى الدَّوْرِ كَمَا سَبَقَ فَإِنْ قِيلَ: الْعَاقِلُ لَا يَخْلُو عَنْ خَاطِرَيْنِ يَخْطِرَانِ لَهُ أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ إنْ نَظَرَ وَشَكَرَ أُثِيبَ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ إنْ تَرَكَ النَّظَرَ عُوقِبَ، فَيَلُوحُ لَهُ عَلَى الْقُرْبِ وُجُوبُ سُلُوكِ طَرِيقِ الْأَمْنِ. قُلْنَا: كَمْ مِنْ عَاقِلٍ انْقَضَى عَلَيْهِ الدَّهْرُ وَلَمْ يَخْطِرْ لَهُ هَذَا الْخَاطِرُ، بَلْ قَدْ يَخْطِرُ لَهُ أَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ فَكَيْفَ أُعَذِّبُ نَفْسِي بِلَا فَائِدَةٍ تَرْجِعُ إلَيَّ وَلَا إلَى الْمَعْبُودِ؟ ثُمَّ إنْ كَانَ عَدَمُ الْخُلُوِّ عَنْ الْخَاطِرِ بَعْدَ إنْذَارِ النَّبِيِّ وَتَحْذِيرِهِ، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا اسْتَشْعَرَ الْمَخَافَةَ اسْتَحَثَّهُ طَبْعُهُ عَلَى الِاحْتِرَازِ، فَإِنَّ الِاسْتِشْعَارَ إنَّمَا يَكُونُ بِالتَّأَمُّلِ الصَّادِرِ عَنْ الْعَقْلِ. فَإِنْ سَمَّى مُسَمٍّ مُعْتَرِفَ الْوُجُوبِ مُوجِبًا فَقَدْ تَجَوَّزَ فِي الْكَلَامِ، بَلْ الْحَقُّ الَّذِي لَا مَجَازَ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ مُوجِبٌ أَيْ: مُرَجِّحٌ عَلَى التَّرْكِ وَالنَّبِيُّ مُخْبِرٌ وَالْعَقْلُ مُعَرِّفٌ وَالطَّبْعُ بَاعِثٌ وَالْمُعْجِزَةُ مُمَكِّنَةٌ مِنْ التَّعْرِيفِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. [مَسْأَلَةٌ الْأَفْعَالُ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ عَلَى الْإِبَاحَةِ] ِ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ إلَى أَنَّ الْأَفْعَالَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْحَظْرِ وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَلَى الْوَقْفِ. وَلَعَلَّهُمْ أَرَادُوا بِذَلِكَ فِيمَا لَا يَقْضِي الْعَقْلُ فِيهِ بِتَحْسِينٍ وَلَا تَقْبِيحٍ ضَرُورَةً أَوْ نَظَرًا كَمَا فَصَّلْنَاهُ مِنْ مَذْهَبِهِمْ. وَهَذِهِ الْمَذَاهِبُ كُلُّهَا بَاطِلَةٌ، أَمَّا إبْطَالُ مَذْهَبِ الْإِبَاحَةِ فَهُوَ أَنَّا نَقُولُ: الْمُبَاحُ يَسْتَدْعِي مُبِيحًا كَمَا يَسْتَدْعِي الْعِلْمُ وَالذِّكْرُ ذَاكِرًا وَعَالِمًا. وَالْمُبِيحُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى إذْ خَيَّرَ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ بِخِطَابِهِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ خِطَابٌ لَمْ يَكُنْ تَخْيِيرٌ فَلَمْ تَكُنْ إبَاحَةٌ. وَإِنْ عَنَوْا بِكَوْنِهِ مُبَاحًا أَنَّهُ لَا حَرَجَ فِي فِعْلِهِ وَلَا تَرْكِهِ فَقَدْ أَصَابُوا فِي الْمَعْنَى وَأَخْطَئُوا فِي اللَّفْظِ؛ فَإِنَّ فِعْلَ الْبَهِيمَةِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ مُبَاحًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي فِعْلِهِمْ وَتَرْكِهِمْ حَرَجٌ. وَالْأَفْعَالُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، أَعْنِي مَا يَصْدُرُ مِنْ اللَّهِ، لَا تُوصَفُ بِأَنَّهَا مُبَاحَةٌ وَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِهَا؛ لَكِنَّهُ مَتَى انْتَفَى التَّخْيِيرُ مِنْ الْمُخَيِّرِ انْتَفَتْ الْإِبَاحَةُ، فَإِنْ اسْتَجْرَأَ مُسْتَجْرِئٌ عَلَى إطْلَاقِ اسْمِ الْمُبَاحِ عَلَى أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يُرِدْ بِهِ إلَّا نَفْيَ الْحَرَجِ فَقَدْ أَصَابَ فِي الْمَعْنَى، وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ مُسْتَكْرَهًا. فَإِنْ قِيلَ: الْعَقْلُ هُوَ الْمُبِيحُ لِأَنَّهُ خَيَّرَ بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ إذْ حَرَّمَ الْقَبِيحَ وَأَوْجَبَ الْحَسَنَ وَخَيَّرَ فِيمَا لَيْسَ بِحَسَنٍ وَلَا قَبِيحٍ. قُلْنَا تَحْسِينُ الْعَقْلِ قَدْ أَبْطَلْنَاهُ وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَيْهِ فَيَبْطُلُ، ثُمَّ تَسْمِيَةُ الْعَقْلِ مُبِيحًا مَجَازٌ كَتَسْمِيَتِهِ مُوجِبًا، فَإِنَّ الْعَقْلَ يُعَرِّفُ التَّرْجِيحَ وَيُعَرِّفُ انْتِفَاءَ التَّرْجِيحِ وَيَكُونُ مَعْنَى وُجُوبِهِ رُجْحَانَ فِعْلِهِ عَلَى تَرْكِهِ وَالْعَقْلُ يُعَرِّفُ ذَلِكَ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ مُبَاحًا انْتِفَاءُ التَّرْجِيحِ، وَالْعَقْلُ مُعَرِّفٌ لَا مُبِيحٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُرَجِّحِ، وَلَا مُسَوٍّ، لَكِنَّهُ مُعَرِّفٌ لِلرُّجْحَانِ وَالِاسْتِوَاءِ. ثُمَّ نَقُولُ: بِمَ تُنْكِرُونَ عَلَى أَصْحَابِ الْوَقْفِ إذَا أَنْكَرُوا اسْتِوَاءَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ وَقَالُوا مَا مِنْ فِعْلٍ مِمَّا لَا يُحَسِّنُهُ الْعَقْلُ وَلَا يُقَبِّحهُ إلَّا وَيَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِإِيجَابِهِ، فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُتَمَيِّزٌ بِوَصْفٍ ذَاتِيٍّ لِأَجْلِهِ يَكُونُ لُطْفًا نَاهِيًا عَنْ الْفَحْشَاءِ دَاعِيًا إلَى الْعِبَادَةِ وَلِذَلِكَ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْعَقْلُ لَا يَسْتَقِلُّ بِدَرْكِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِتَحْرِيمِهِ، فَيَدُلّ عَلَى أَنَّهُ مُتَمَيِّزٌ بِوَصْفٍ ذَاتِيٍّ يَدْعُو بِسَبَبِهِ إلَى الْفَحْشَاءِ لَا يُدْرِكُهُ الْعَقْلُ وَقَدْ اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ؟ هَذَا مَذْهَبُهُمْ. ثُمَّ يَقُولُونَ: بِمَ تُنْكِرُونَ عَلَى أَصْحَابِ الْحَظْرِ إذْ قَالُوا لَا نُسَلِّمُ اسْتِوَاءَ الْفِعْلِ وَتَرْكِهِ، فَإِنَّ التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ قَبِيحٌ، وَاَللَّهُ

تَعَالَى هُوَ الْمَالِكُ وَلَمْ يَأْذَنْ؟ فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ قَبِيحًا لَنُهِيَ عَنْهُ وَوَرَدَ السَّمْعُ بِهِ، فَعَدَم وُرُودِ السَّمْعِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ قُبْحِهِ. قُلْنَا لَوْ كَانَ حَسَنًا لَأُذِنَ فِيهِ وَوَرَدَ السَّمْعُ بِهِ، فَعَدَمُ وُرُودِ السَّمْعِ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ حُسْنِهِ فَإِنْ قِيلَ: إذَا أَعْلَمَنَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ نَافِعٌ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ فَقَدْ أَذِنَ فِيهِ. قُلْنَا: فَإِعْلَامُ الْمَالِكِ إيَّانَا أَنَّ طَعَامَهُ نَافِعٌ لَا ضَرَرَ فِيهِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إذْنًا. فَإِنْ قِيلَ الْمَلِكُ مِنَّا يَتَضَرَّرُ وَاَللَّهُ لَا يَتَضَرَّرُ فَالتَّصَرُّفُ فِي مَخْلُوقَاتِهِ بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِ يَجْرِي مَجْرَى التَّصَرُّفِ فِي مِرْآةِ الْإِنْسَانِ بِالنَّظَرِ فِيهَا وَفِي حَائِطِهِ بِالِاسْتِظْلَالِ بِهِ وَفِي سِرَاجِهِ بِالِاسْتِضَاءَةِ بِهِ قُلْنَا لَوْ كَانَ قُبْحُ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لِتَضَرُّرِهِ لَا لِعَدَمِ إذْنِهِ لَقَبُحَ وَإِنْ أَذِنَ إذَا كَانَ مُتَضَرِّرًا، كَيْفَ وَمَنْعُ الْمَالِكِ مِنْ الْمِرْآةِ وَالظِّلِّ وَالِاسْتِضَاءَةِ بِالسِّرَاجِ قَبِيحٌ، وَقَدْ مَنَعَ اللَّهُ عِبَادَهُ مِنْ جُمْلَةٍ مِنْ الْمَأْكُولَاتِ وَلَمْ يَقْبُحْ؟ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لِضَرَرِ الْعَبْدِ فَمَا مِنْ فِعْلٍ إلَّا وَيُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ ضَرَرٌ خَفِيٌّ لَا يُدْرِكُهُ الْعَقْلُ وَيَرِدُ التَّوْقِيفُ بِالنَّهْيِ عَنْهُ. ثُمَّ نَقُولُ: قَوْلُكُمْ إنَّهُ إذَا كَانَ لَا يَتَضَرَّرُ الْبَارِي بِتَصَرُّفِنَا فَيُبَاحُ، فَلِمَ قُلْتُمْ ذَلِكَ؟ فَإِنَّ نَقْلَ مِرْآةِ الْغَيْرِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ صَاحِبُهَا يَحْرُمُ، وَإِنَّمَا يُبَاحُ النَّظَرُ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ لَيْسَ تَصَرُّفًا فِي الْمِرْآةِ كَمَا أَنَّ النَّظَرَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِلَى السَّمَاءِ لَيْسَ تَصَرُّفًا فِي الْمَنْظُورِ، وَلَا فِي الِاسْتِظْلَالِ تَصَرُّفٌ فِي الْحَائِطِ وَلَا فِي الِاسْتِضَاءَة تَصَرُّفٌ فِي السِّرَاجِ، فَلَوْ تَصَرَّفَ فِي نَفْسِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ رُبَّمَا يَقْضِي بِتَحْرِيمِهِ إلَّا إذَا دَلَّ السَّمْعُ عَلَى جَوَازِهِ. فَإِنْ قِيلَ: خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الطُّعُومَ فِيهَا وَالذَّوْقَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ انْتِفَاعَنَا بِهَا فَقَدْ كَانَ قَادِرًا عَلَى خَلْقِهَا عَارِيَّةً عَنْ الطُّعُومِ قُلْنَا: الْأَشْعَرِيَّةُ وَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ مُطْبِقُونَ عَلَى اسْتِحَالَةِ خُلُوِّهَا عَنْ الْأَعْرَاضِ الَّتِي هِيَ قَابِلَةٌ لَهَا فَلَا يَسْتَقِيمُ ذَلِكَ وَإِنْ سَلِمَ، فَلَعَلَّهُ خَلَقَهَا لَا لِيَنْتَفِعَ بِهَا أَحَدٌ بَلْ خَلَقَ الْعَالَمَ بِأَسْرِهِ لَا لِعِلَّةٍ، أَوْ لَعَلَّهُ خَلَقَهَا لِيُدْرَكَ ثَوَابُ اجْتِنَابهَا مَعَ الشَّهْوَةِ كَمَا يُثَابُ عَلَى تَرْكِ الْقَبَائِحِ الْمُشْتَهَاةِ وَأَمَّا مَذْهَبُ أَصْحَابِ الْحَظْرِ فَأَظْهَرَ بُطْلَانًا إذْ لَا يُعْرَفُ حَظْرُهَا بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ وَلَا بِدَلِيلِهِ؛ وَمَعْنَى الْحَظْرِ تَرْجِيحُ جَانِبِ التَّرْكِ عَلَى جَانِبِ الْفِعْلِ لِتَعَلُّقِ ضَرَرٍ بِجَانِبِ الْفِعْلِ، فَمِنْ أَيْنَ يُعْلَمُ ذَلِكَ وَلَمْ يَرِدْ سَمْعٌ وَالْعَقْلُ لَا يَقْضِي بِهِ بَلْ رُبَّمَا يَتَضَرَّرُ بِتَرْكِ اللَّذَّاتِ عَاجِلًا؟ فَكَيْف يَصِيرُ تَرْكُهَا أَوْلَى مِنْ فِعْلِهَا؟ وَقَوْلُهُمْ إنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَهُوَ قَبِيحٌ فَاسِدٌ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ قُبْحَ ذَلِكَ لَوْلَا تَحْرِيمُ الشَّرْعِ وَنَهْيُهُ وَلَوْ حَكَّمَ فِيهِ الْعَادَةَ فَذَلِكَ يَقْبُحُ فِي حَقِّ مَنْ تَضَرَّرَ بِالتَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ، بَلْ الْقَبِيحُ الْمَنْعُ مِمَّا لَا ضَرَرَ فِيهِ. ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حَقِيقَةَ دَرْكِ الْقُبْحِ تَرْجِعُ إلَى مُخَالَفَةِ الْغَرَضِ وَأَنَّ ذَلِكَ لَا حَقِيقَةَ لَهُ. وَأَمَّا مَذْهَبُ الْوَقْفِ إنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّ الْحُكْمَ مَوْقُوفٌ قَبْل وُرُودِ السَّمْعِ وَلَا حُكْمَ فِي الْحَال فَصَحِيحٌ، إذْ مَعْنَى الْحُكْمِ الْخِطَابُ وَلَا خِطَابَ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ؛ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّا نَتَوَقَّفُ فَلَا نَدْرِي أَنَّهَا مَحْظُورَةٌ أَوْ مُبَاحَةٌ فَهُوَ خَطَأٌ لِأَنَّا نَدْرِي أَنَّهُ لَا حَظْرَ، إذْ مَعْنَى الْحَظْرِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى لَا تَفْعَلُوهُ، وَلَا إبَاحَةَ إذْ مَعْنَى الْإِبَاحَةِ قَوْلُهُ إنْ شِئْتُمْ فَافْعَلُوهُ وَإِنْ شِئْتُمْ فَاتْرُكُوهُ وَلَمْ يَرِدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ. [الْفَنُّ الثَّانِي فِي أَقْسَامِ الْأَحْكَامِ] ِ وَيَشْتَمِلُ عَلَى تَمْهِيدٍ وَمَسَائِلَ خَمْس عَشْرَةَ: أَمَّا التَّمْهِيدُ فَإِنَّ أَقْسَامَ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ لِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ خَمْسَةٌ: الْوَاجِبُ وَالْمَحْظُورُ وَالْمُبَاحُ وَالْمَنْدُوبُ وَالْمَكْرُوهُ. وَوَجْهُ هَذِهِ الْقِسْمَةِ أَنَّ خِطَابَ الشَّرْعِ إمَّا أَنْ يَرِدَ بِاقْتِضَاءِ الْفِعْلِ

أَوْ اقْتِضَاءِ التَّرْكِ أَوْ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ، فَإِنْ وَرَدَ بِاقْتِضَاءِ الْفِعْلِ فَهُوَ أَمْرٌ، فَإِمَّا أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ الْإِشْعَارُ بِعِقَابٍ عَلَى التَّرْكِ فَيَكُونَ وَاجِبًا أَوْ لَا يَقْتَرِنَ فَيَكُونَ نَدْبًا. وَاَلَّذِي وَرَدَ بِاقْتِضَاءِ التَّرْكِ، فَإِنْ أَشْعَرَ بِالْعِقَابِ عَلَى الْفِعْلِ فَحَظْرٌ وَإِلَّا فَكَرَاهِيَةٌ، وَإِنْ وَرَدَ بِالتَّخْيِيرِ فَهُوَ مُبَاحٌ. وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ حَدِّ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الرَّسْمِ؛ فَأَمَّا حَدُّ الْوَاجِبِ فَقَدْ ذَكَرنَا طَرَفًا مِنْهُ فِي مُقَدِّمَةِ الْكِتَابِ؛ نَذْكُر الْآنَ مَا قِيلَ فِيهِ، فَقَالَ قَوْمٌ: إنَّهُ الَّذِي يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ. فَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْوَاجِبَ قَدْ يُعْفَى عَنْ الْعُقُوبَةِ عَلَى تَرْكِهِ وَلَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ وَاجِبًا؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ نَاجِزٌ وَالْعِقَابَ مُنْتَظَرٌ. وَقِيلَ: مَا تُوُعِّدَ بِالْعِقَابِ عَلَى تَرْكِهِ. فَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَوْ تَوَعَّدَ لَوَجَبَ تَحْقِيقُ الْوَعِيدِ، فَإِنَّ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى صِدْقٌ وَيُتَصَوَّرُ أَنْ يُعْفَى عَنْهُ وَلَا يُعَاقَبَ. وَقِيلَ: مَا يُخَافُ الْعِقَابُ عَلَى تَرْكِهِ. وَذَلِكَ يَبْطُلُ بِالْمَشْكُوكِ فِي تَحْرِيمِهِ وَوُجُوبِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَيُخَافُ الْعِقَابُ عَلَى تَرْكِهِ وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْأَوْلَى فِي حَدِّهِ أَنْ يُقَالَ هُوَ الَّذِي يُذَمُّ تَارِكُهُ وَيُلَامُ شَرْعًا بِوَجْهٍ مَا؛ لِأَنَّ الذَّمَّ أَمْرٌ نَاجِزٌ وَالْعُقُوبَةَ مَشْكُوكٌ فِيهَا. وَقَوْلُهُ " بِوَجْهٍ مَا " قَصَدَ أَنْ يَشْمَلَ الْوَاجِبَ الْمُخَيَّرَ، فَإِنَّهُ يُلَامُ عَلَى تَرْكِهِ مَعَ بَدَلِهِ وَالْوَاجِبُ الْمُوَسَّعُ فَإِنَّهُ يُلَامُ عَلَى تَرْكِهِ مَعَ تَرْكِ الْعَزْمِ عَلَى امْتِثَالِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ مِنْ فَرْقٍ بَيْنَ الْوَاجِبِ وَالْفَرْضِ؟ قُلْنَا: لَا فَرْقَ عِنْدَنَا بَيْنَهُمَا بَلْ هُمَا مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُتَرَادِفَةِ كَالْحَتْمِ وَاللَّازِمِ وَأَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ اصْطَلَحُوا عَلَى تَخْصِيصِ اسْمِ الْفَرْضِ بِمَا يُقْطَعُ بِوُجُوبِهِ وَتَخْصِيصِ اسْمِ الْوَاجِبِ بِمَا لَا يُدْرَك إلَّا ظَنًّا، وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ انْقِسَامَ الْوَاجِبِ إلَى مَقْطُوعٍ وَمَظْنُونٍ وَلَا حَجْرَ فِي الِاصْطِلَاحَاتِ بَعْدَ فَهْمِ الْمَعَانِي. وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي لَوْ أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا شَيْئًا وَلَمْ يَتَوَعَّدْ بِعِقَابٍ عَلَى تَرْكِهِ لَوَجَبَ، فَالْوُجُوبُ إنَّمَا هُوَ بِإِيجَابِهِ لَا بِالْعِقَابِ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مَا اسْتَوَى فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ فِي حَقِّنَا فَلَا مَعْنَى لِوَصْفِهِ بِالْوُجُوبِ، إذْ لَا نَعْقِلُ وُجُوبًا إلَّا أَنْ يَتَرَجَّحَ فِعْلُهُ عَلَى تَرْكِهِ بِالْإِضَافَةِ إلَى أَغْرَاضِنَا، فَإِذَا انْتَفَى التَّرْجِيحُ فَلَا مَعْنَى لِلْوُجُوبِ أَصْلًا، وَإِذَا عَرَفْتَ حَدَّ الْوَاجِبِ فَالْمَحْظُورُ فِي مُقَابَلَتِهِ وَلَا يَخْفَى حَدُّهُ. وَأَمَّا حَدُّ الْمُبَاحِ فَقَدْ قِيلَ فِيهِ: مَا كَانَ تَرْكُهُ وَفِعْلُهُ سِيَّيْنِ، وَيَبْطُلُ بِفِعْلِ الطِّفْلِ وَالْمَجْنُونِ وَالْبَهِيمَةِ، وَيَبْطُلُ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَثِيرٌ مِنْ أَفْعَالِهِ يُسَاوِي التَّرْكَ فِي حَقِّنَا وَهُمَا فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى أَبَدًا سِيَّانِ، وَكَذَلِكَ الْأَفْعَالُ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ تُسَاوِي التَّرْكَ وَلَا يُسَمَّى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مُبَاحًا، بَلْ حَدُّهُ أَنَّهُ الَّذِي وَرَدَ الْإِذْنُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بِفِعْلِهِ وَتَرْكِهِ غَيْرَ مَقْرُونٍ بِذَمِّ فَاعِلِهِ وَمَدْحِهِ وَلَا بِذَمِّ تَارِكِهِ وَمَدْحِهِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُحَدَّ بِأَنَّهُ الَّذِي عَرَّفَ الشَّرْعُ أَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِهِ وَلَا فِعْلِهِ وَلَا نَفْعَ مِنْ حَيْثُ فِعْلُهُ وَتَرْكُهُ؛ احْتِرَازًا عَمَّا إذَا تَرَكَ الْمُبَاحَ بِمَعْصِيَةٍ فَإِنَّهُ يَتَضَرَّرُ لَا مِنْ حَيْثُ تَرْكُ الْمُبَاحِ بَلْ مِنْ حَيْثُ ارْتِكَابُ الْمَعْصِيَةِ. وَأَمَّا حَدُّ النَّدْبِ فَقِيلَ فِيهِ: إنَّهُ الَّذِي فِعْلُهُ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ مِنْ غَيْرِ ذَمٍّ يَلْحَقُ بِتَرْكِهِ. وَيَرِدُ عَلَيْهِ الْأَكْلُ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، فَإِنَّهُ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ اللَّذَّةِ وَبَقَاءِ الْحَيَاةِ. قَالَتْ الْقَدَرِيَّةُ: هُوَ الَّذِي إذَا فَعَلَهُ فَاعِلُهُ اسْتَحَقَّ الْمَدْحَ وَلَا يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ بِتَرْكِهِ. وَيَرِدُ عَلَيْهِ فِعْلُ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ لَا يُسَمَّى نَدْبًا مَعَ أَنَّهُ يُمْدَحُ عَلَى كُلِّ فِعْلٍ وَلَا يُذَمُّ، فَالْأَصَحُّ فِي حَدِّهِ أَنَّهُ الْمَأْمُورُ بِهِ الَّذِي لَا يَلْحَقُ الذَّمُّ بِتَرْكِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ تَرْكٌ لَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى بَدَلٍ احْتِرَازًا عَنْ الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ وَالْمُوَسَّعِ. وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ فَهُوَ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ بَيْنَ مَعَانٍ أَحَدِهَا: الْمَحْظُورُ، فَكَثِيرًا مَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - " وَأَكْرَهُ كَذَا "

وَهُوَ يُرِيدُ التَّحْرِيمَ الثَّانِي: مَا نُهِيَ عَنْهُ نَهْيَ تَنْزِيهٍ، وَهُوَ الَّذِي أَشْعَرَ بِأَنَّ تَرْكَهُ خَيْرٌ مِنْ فِعْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عِقَابٌ كَمَا أَنَّ النَّدْبَ هُوَ الَّذِي أَشْعَرَ بِأَنَّ فِعْلَهُ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ الثَّالِثِ: تَرْكُ مَا هُوَ الْأَوْلَى وَإِنْ لَمْ يُنْهَ عَنْهُ، كَتَرْكِ صَلَاةِ الضُّحَى مَثَلًا لَا لِنَهْيٍ وَرَدَ عَنْهُ وَلَكِنْ لِكَثْرَةِ فَضْلِهِ وَثَوَابِهِ قِيلَ: فِيهِ إنَّهُ مَكْرُوهٌ تَرْكُهُ. الرَّابِعِ: مَا وَقَعَتْ الرِّيبَةُ وَالشُّبْهَةُ فِي تَحْرِيمِهِ كَلَحْمِ السَّبُعِ وَقَلِيلِ النَّبِيذِ. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ مَنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى تَحْرِيمِهِ فَهُوَ عَلَيْهِ حَرَامٌ وَمَنْ أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَى حِلِّهِ فَلَا مَعْنَى لِلْكَرَاهِيَةِ فِيهِ إلَّا إذَا كَانَ مِنْ شُبْهَةِ الْخَصْمِ حَزَازَةٌ فِي نَفْسِهِ وَوَقَعَ فِي قَلْبِهِ فَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْإِثْمُ حَزَّازُ الْقَلْبِ» فَلَا يَقْبُحُ إطْلَاقُ لَفْظِ الْكَرَاهَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ خَوْفِ التَّحْرِيمِ وَإِنْ كَانَ غَالِبُ الظَّنِّ الْحِلَّ. وَيَتَّجِهُ هَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَقُولُ الْمُصِيبُ وَاحِدٌ، فَأَمَّا مَنْ صَوَّبَ كُلَّ مُجْتَهِدٍ فَالْحِلُّ عِنْدَهُ مَقْطُوعٌ بِهِ إذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ الْحِلُّ. وَإِذْ فَرَغْنَا مِنْ تَمْهِيدِ الْأَقْسَامِ فَلْنَذْكُرْ الْمَسَائِلَ الْمُتَشَعِّبَةَ عَنْهَا. [مَسْأَلَةٌ الْوَاجِبُ يَنْقَسِمُ إلَى مُعَيَّنٍ وَإِلَى مُبْهَمٍ بَيْنَ أَقْسَامٍ مَحْصُورَةٍ] ٍ الْوَاجِبُ يَنْقَسِمُ إلَى مُعَيَّنٍ وَإِلَى مُبْهَمٍ بَيْنَ أَقْسَامٍ مَحْصُورَةٍ وَيُسَمَّى وَاجِبًا مُخَيَّرًا كَخَصْلَةٍ مِنْ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ مِنْ جُمْلَتِهَا وَاحِدٌ لَا بِعَيْنِهِ. وَأَنْكَرَتْ الْمُعْتَزِلَةُ ذَلِكَ وَقَالُوا: لَا مَعْنَى لِلْإِيجَابِ مَعَ التَّخْيِيرِ فَإِنَّهُمَا مُتَنَاقِضَانِ، وَنَحْنُ نَدَّعِي أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ عَقْلًا، وَوَاقِعٌ شَرْعًا أَمَّا دَلِيلُ جَوَازِهِ عَقْلًا فَهُوَ أَنَّ السَّيِّدَ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ: أَوْجَبْتُ عَلَيْكَ خِيَاطَةَ هَذَا الْقَمِيصِ أَوْ بِنَاءَ هَذَا الْحَائِطِ فِي هَذَا الْيَوْمِ أَيُّهُمَا فَعَلْتَ اكْتَفَيْتُ بِهِ وَأَثَبْتُك عَلَيْهِ، وَإِنْ تَرَكْتَ الْجَمِيعَ عَاقَبْتُكَ وَلَسْتُ أُوجِبُ الْجَمِيعَ وَإِنَّمَا أُوجِبُ وَاحِدًا لَا بِعَيْنِهِ أَيَّ وَاحِدٍ أَرَدْتَ، فَهَذَا كَلَامٌ مَعْقُولٌ. وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ عَرَّضَهُ لِلْعِقَابِ بِتَرْكِ الْجَمِيعِ فَلَا يَنْفَكُّ عَنْ الْوُجُوبِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ أَوْجَبَ وَاحِدًا لَا بِعَيْنِهِ. وَأَمَّا دَلِيلُ وُقُوعِهِ شَرْعًا فَخِصَالُ الْكَفَّارَةِ، بَلْ إيجَابُ إعْتَاقِ الرَّقَبَةِ فَإِنَّهُ بِالْإِضَافَةِ إلَى أَعْيَانِ الْعَبِيدِ مُخَيَّرٌ، وَكَذَلِكَ تَزْوِيجُ الْبِكْرِ الطَّالِبَةِ لِلنِّكَاحِ مِنْ أَحَدِ الْكُفُؤَيْنِ الْخَاطِبَيْنِ وَاجِبٌ وَلَا سَبِيل إلَى إيجَابِ الْجَمْعِ، وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْإِمَامَةِ لِأَحَدِ الْإِمَامَيْنِ الصَّالِحَيْنِ لِلْإِمَامَةِ وَاجِبٌ وَالْجَمْعُ مُحَالٌ. فَإِنْ قِيلَ: الْوَاجِبُ جَمِيعُ خِصَالِ الْكَفَّارَةِ فَلَوْ تَرَكَهَا عُوقِبَ عَلَى الْجَمِيعِ، وَلَوْ أَتَى بِجَمِيعِهَا وَقَعَ الْجَمِيعُ وَاجِبًا، وَلَوْ أَتَى بِوَاحِدٍ سَقَطَ عَنْهُ الْآخَرُ وَقَدْ يَسْقُطُ الْوَاجِبُ بِأَسْبَابٍ دُونَ الْأَدَاءِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُحَالٍ. قُلْنَا: هَذَا لَا يَطَّرِدُ فِي الْإِمَامَيْنِ وَالْكُفُؤَيْنِ فَإِنَّ الْجَمْعَ فِيهِ حَرَامٌ فَكَيْفَ يَكُونُ الْكُلُّ وَاجِبًا؟ ثُمَّ هُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ إذْ الْأُمَّةُ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ الْجَمِيعَ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْخِصَالَ الثَّلَاثَةَ إنْ كَانَتْ مُتَسَاوِيَةَ الصِّفَاتِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِضَافَةِ إلَى صَلَاحِ الْعَبْدِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْجَمِيعُ تَسْوِيَةً بَيْنَ الْمُتَسَاوِيَاتِ وَأَنْ تُمَيِّزَ بَعْضَهَا بِوَصْفٍ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُوَ الْوَاجِبُ وَلَا يُجْعَلَ مُبْهَمًا بِغَيْرِهِ كَيْ لَا يَلْتَبِسَ بِغَيْرِهِ قُلْنَا: وَمَنْ سَلَّمَ لَكُمْ أَنَّ لِلْأَفْعَالِ أَوْصَافًا فِي ذَوَاتِهَا لِأَجْلِهَا يُوجِبُهَا اللَّهُ تَعَالَى؟ بَلْ الْإِيجَابُ إلَيْهِ وَلَهُ أَنْ يُعَيِّنَ وَاحِدَةً مِنْ الثَّلَاثِ الْمُتَسَاوِيَاتِ فَيُخَصِّصَهَا بِالْإِيجَابِ دُونَ غَيْرِهَا وَلَهُ أَنْ يُوجِبَ وَاحِدًا لَا بِعَيْنِهِ وَيَجْعَلَ مَنَاطَ التَّعْيِينِ اخْتِيَارَ الْمُكَلَّفِ لِفِعْلِهِ حَتَّى لَا يَتَعَذَّر عَلَيْهِ الِامْتِثَال احْتَجُّوا بِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِيجَابُ، وَإِذَا كَانَ الْوَاجِبُ وَاحِدًا مِنْ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْإِيجَابُ فَيَتَمَيَّزُ ذَلِكَ فِي عِلْمِهِ فَكَانَ هُوَ الْوَاجِبَ قُلْنَا: إذَا أَوْجَبَ وَاحِدًا لَا بِعَيْنِهِ

فَإِنَّا نَعْلَمُهُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، وَلَوْ خَاطَبَ السَّيِّدُ عَبْدَهُ بِأَنِّي أَوْجَبْتُ عَلَيْكَ الْخِيَاطَةَ أَوْ الْبِنَاءَ فَكَيْفَ يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يَعْلَمُهُ إلَّا عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ نَعْتِهِ، وَنَعْتُهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ فَيَعْلَمُهُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ كَمَا هُوَ عَلَيْهِ. وَهَذَا التَّحْقِيقُ وَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ لَيْسَ لَهُ وَصْفٌ ذَاتِيٌّ مِنْ تَعَلُّقِ الْإِيجَابِ بِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ إضَافَةٌ إلَى الْخِطَابِ وَالْخِطَابُ بِحَسَبِ النُّطْقِ وَالذِّكْرِ وَخَلْقِ السَّوَادِ فِي أَحَدِ الْجِسْمَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ وَخَلْقِ الْعِلْمِ فِي أَحَدِ الشَّخْصَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ فَأَمَّا ذِكْرُ وَاحِدٍ مِنْ اثْنَيْنِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ فَمُمْكِنٌ، كَمَنْ يَقُولُ لِزَوْجَتَيْهِ: إحْدَاكُمَا طَالِقٌ، فَالْإِيجَابُ قَوْلٌ يَتْبَعُ النُّطْقَ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُوجِبُ طَالِبٌ وَمَطْلُوبُهُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَمَيَّزَ عِنْدَهُ. قُلْنَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ طَلَبُهُ مُتَعَلِّقًا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ، كَمَا تَقُولُ الْمَرْأَةُ: زَوِّجْنِي مِنْ أَحَدِ الْخَاطِبَيْنِ أَيُّهُمَا كَانَ وَأَعْتِقْ رَقَبَةً مِنْ هَذِهِ الرِّقَابِ أَيُّهَا كَانَتْ وَبَايِعْ أَحَدَ هَذَيْنِ الْإِمَامَيْنِ أَيُّهُمَا كَانَ؛ فَيَكُونُ الْمَطْلُوبُ أَحَدَهُمَا لَا بِعَيْنِهِ وَكُلُّ مَا تُصُوِّرَ طَلَبُهُ تُصُوِّرَ إيجَابُهُ. فَإِنْ قِيلَ: إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَعْلَمُ مَا سَيَأْتِي بِهِ الْمُكَلَّفُ وَيَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ فَيَكُونُ مُعَيَّنًا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى. قُلْنَا: يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى غَيْرَ مُعَيَّنٍ ثُمَّ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِفِعْلِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَيَّنًا قَبْلَ فِعْلِهِ، ثُمَّ لَوْ أَتَى بِالْجَمِيعِ أَوْ لَمْ يَأْتِ بِالْجَمِيعِ فَكَيْفَ يَتَعَيَّنُ وَاحِدٌ فِي عِلْمِ اللَّه تَعَالَى؟ فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُوجِبَ عَلَى أَحَدِ شَخْصَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ؟ وَلِمَ قُلْتُمْ بِأَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ عَلَى الْجَمِيعِ مَعَ أَنَّ الْوُجُوبَ يَسْقُطُ بِفِعْلِ وَاحِدٍ؟ قُلْنَا: لِأَنَّ الْوُجُوبَ يَتَحَقَّقُ بِالْعِقَابِ، وَلَا يُمْكِنُ عِقَابُ أَحَدِ الشَّخْصَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ يُعَاقَبُ عَلَى أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ لَا بِعَيْنِهِ. [مَسْأَلَةٌ الْوَاجِبُ يَنْقَسِمُ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْوَقْتِ إلَى مُضَيَّقٍ وَمُوَسَّعٍ] ٍ الْوَاجِبُ يَنْقَسِمُ بِالْإِضَافَةِ إلَى الْوَقْتِ إلَى مُضَيَّقٍ وَمُوَسَّعٍ وَقَالَ قَوْمٌ: التَّوَسُّعُ يُنَاقِضُ الْوُجُوبَ وَهُوَ بَاطِلٌ عَقْلًا وَشَرْعًا؛ أَمَّا الْعَقْلُ فَإِنَّ السَّيِّدَ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ خِطْ هَذَا الثَّوْبَ فِي بَيَاضِ هَذَا النَّهَارِ إمَّا فِي أَوَّلِهِ أَوْ فِي أَوْسَطِهِ أَوْ فِي آخِرِهِ كَيْفَمَا أَرَدْتَ فَمَهْمَا فَعَلْتَ فَقَدْ امْتَثَلْتَ إيجَابِي، فَهَذَا مَعْقُولٌ. وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُقَالَ لَمْ يُوجِبْ شَيْئًا أَصْلًا أَوْ أَوْجَبَ شَيْئًا مُضَيَّقًا وَهُمَا مُحَالَانِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنَّهُ أَوْجَبَ مُوَسَّعًا. وَأَمَّا الشَّرْعُ فَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ عِنْدَ الزَّوَالِ وَأَنَّهُ مَهْمَا صَلَّى كَانَ مُؤَدِّيًا لِلْفَرْضِ وَمُمْتَثِلًا لِأَمْرِ الْإِيجَابِ مَعَ أَنَّهُ لَا تَضْيِيقَ. فَإِنْ قِيلَ: حَقِيقَةُ الْوَاجِبِ مَا لَا يَسَعُ تَرْكُهُ بَلْ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ وَالصَّلَاةُ وَالْخِيَاطَةُ إنْ أُضِيفَا إلَى آخِرِ الْوَقْتِ فَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ فَيَكُونُ وُجُوبُهُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ أَمَّا قَبْلَهُ فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ، وَفِعْلُهُ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ وَهَذَا حَدُّ النَّدْبِ قُلْنَا كَشْفُ الْغِطَاءِ عَنْ هَذَا أَنَّ الْأَقْسَامَ فِي الْعَقْلِ ثَلَاثَةٌ: فِعْلٌ لَا عِقَابَ عَلَى تَرْكِهِ مُطْلَقًا وَهُوَ النَّدْبُ، وَفِعْلٌ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ مُطْلَقًا وَهُوَ الْوَاجِبُ، وَفِعْلٌ يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ بِالْإِضَافَةِ إلَى مَجْمُوعِ الْوَقْتِ وَلَكِنْ لَا يُعَاقَبُ بِالْإِضَافَةِ إلَى بَعْضِ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ، وَهَذَا قِسْمُ ثَالِث فَيَفْتَقِرُ إلَى عِبَارَةٍ ثَالِثَةٍ، وَحَقِيقَتُهُ لَا تَعْدُو النَّدْبَ وَالْوُجُوبَ، فَأَوْلَى الْأَلْقَابِ بِهِ الْوَاجِبُ الْمُوَسَّعُ أَوْ النَّدْبُ الَّذِي لَا يَسَعُ تَرْكُهُ. وَقَدْ وَجَدْنَا الشَّرْعَ يُسَمِّي هَذَا الْقِسْمَ وَاجِبًا بِدَلِيلِ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى نِيَّةِ الْفَرْضِ فِي ابْتِدَاءِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَعَلَى أَنَّهُ يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ ثَوَابَ الْفَرْضِ لَا ثَوَابَ النَّدْبِ. فَإِذًا الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ لَا يُنْكِرُهَا الْعَقْلُ وَالنِّزَاعُ يَرْجِعُ إلَى اللَّفْظِ، وَاَلَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى. فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ هَذَا قِسْمًا ثَالِثًا بَلْ هُوَ بِالْإِضَافَةِ إلَى أَوَّل الْوَقْتِ نَدْبٌ إذْ يَجُوزُ تَرْكُهُ، وَبِالْإِضَافَةِ إلَى آخِرِ الْوَقْت حَتْمٌ إذْ لَا

يَسَعُ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ. وَقَوْلكُمْ إنَّهُ يَنْوِي الْفَرْضَ فَمُسَلَّمٌ، لَكِنَّهُ فَرْضٌ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَصِيرُ فَرْضًا كَمُعَجِّلِ الزَّكَاةِ يَنْوِي فَرْضَ الزَّكَاةِ وَيُثَابُ ثَوَابَ مُعَجِّلِ الْفَرْضِ لَا ثَوَابَ النَّدْبِ وَلَا ثَوَابَ الْفَرْضِ الَّذِي لَيْسَ بِمُعَجَّلٍ. قُلْنَا: قَوْلُكُمْ إنَّهُ بِالْإِضَافَةِ إلَى أَوَّلِ الْوَقْتِ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ فَهُوَ نَدْبٌ خَطَأٌ، إذْ لَيْسَ هَذَا حَدَّ النَّدْب بَلْ النَّدْبُ مَا يَجُوزُ تَرْكُهُ مُطْلَقًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ إلَّا بِشَرْطٍ، وَهُوَ الْفِعْلُ بَعْدَهُ أَوْ الْعَزْمُ عَلَى الْفِعْلِ وَمَا جَازَ تَرْكُهُ بِبَدَلٍ وَشَرْطٍ فَلَيْسَ بِنَدْبٍ، بِدَلِيلِ مَا لَوْ أَمَرَ بِالْإِعْتَاقِ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ عَبْدٍ إلَّا وَيَجُوزُ لَهُ تَرْكُ إعْتَاقِهِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَعْتِقَ عَبْدًا آخَر. وَكَذَلِكَ خِصَالُ الْكَفَّارَةِ مَا مِنْ وَاحِدَةٍ إلَّا وَيَجُوزُ تَرْكُهَا لَكِنْ بِبَدَلٍ، وَلَا يَكُونُ نَدْبًا بَلْ كَمَا يُسَمَّى ذَلِكَ وَاجِبًا مُخَيَّرًا يُسَمَّى هَذَا وَاجِبًا غَيْرَ مُضَيَّقٍ. وَإِذَا كَانَ حَظُّ الْمَعْنَى مِنْهُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ وَهُوَ الِانْقِسَامُ إلَى الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ فَلَا مَعْنَى لِلْمُنَاقَشَةِ وَمَا جَازَ تَرْكُهُ بِشَرْطٍ يُفَارِقُ مَا لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ مُطْلَقًا وَمَا يَجُوزُ تَرْكُهُ مُطْلَقًا فَهُوَ قِسْمٌ ثَالِثٌ. وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ أَنَّهُ تَعْجِيلٌ لِلْفَرْضِ فَلِذَلِكَ سُمِّيَ فَرْضًا فَمُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ، إذْ يَجِبُ نِيَّةُ التَّعْجِيلِ فِي الزَّكَاة وَمَا نَوَى أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ فِي الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ إلَّا مَا نَوَاهُ فِي آخِرهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا أَصْلًا وَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَالَ قَوْمٌ: يَقَعُ نَفْلًا وَيَسْقُطُ الْفَرْضُ عِنْدَهُ وَقَالَ قَوْمٌ: يَقَعُ مَوْقُوفًا فَإِنْ بَقِيَ بِنَعْتِ الْمُكَلَّفِينَ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ تَبَيَّنَ وُقُوعُهُ فَرْضًا وَإِنْ مَاتَ أَوْ جُنَّ وَقَعَ نَفْلًا. قُلْنَا لَوْ كَانَ يَقَعُ نَفْلًا لَجَازَتْ بِنِيَّةِ النَّفْلِ بَلْ اسْتَحَالَ وُجُودُ نِيَّةِ الْفَرْضِ مِنْ الْعَالِمِ بِكَوْنِهِ نَفْلًا، إذْ النِّيَّةُ قَصْدٌ يَتْبَعُ الْعِلْمَ وَالْوَقْفُ بَاطِلٌ، إذْ الْأُمَّةُ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ فِي وَسَطِ الْوَقْتِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ مَاتَ مُؤَدِّيًا فَرْضَ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا نَوَاهُ وَأَدَّاهُ إذَا قَالَ نَوَيْتُ أَدَاءَ فَرْضِ اللَّهِ تَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ: بَنَيْتُمْ كَلَامَكُمْ عَلَى أَنَّ تَرْكَهُ جَائِزٌ بِشَرْطٍ وَهُوَ الْعَزْمُ عَلَى الِامْتِثَالِ أَوْ الْفِعْلِ، وَلِيس كَذَلِكَ فَإِنَّ الْوَاجِبَ الْمُخَيَّرَ مَا خُيِّرَ فِيهِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ كَخِصَالِ الْكَفَّارَةِ وَمَا خَيَّرَ الشَّرْعُ بَيْنَ فِعْلِ الصَّلَاةِ وَالْعَزْمِ؛ وَلِأَنَّ مُجَرَّد قَوْلِهِ صَلِّ فِي هَذَا الْوَقْتِ لَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِلْعَزْمِ، فَإِيجَابُهُ زِيَادَةٌ عَلَى مُقْتَضَى الصِّيغَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ غَفَلَ وَخَلَا عَنْ الْعَزْمِ وَمَاتَ فِي وَسَطِ الْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ عَاصِيًا. قُلْنَا: أَمَّا قَوْلُكُمْ لَوْ ذَهِلَ لَا يَكُونُ عَاصِيًا فَمُسَلَّمٌ، وَسَبَبُهُ أَنَّ الْغَافِلَ لَا يُكَلَّفُ، أَمَّا إذَا لَمْ يَغْفُلْ عَنْ الْأَمْرِ فَلَا يَخْلُو عَنْ الْعَزْمِ إلَّا بِضِدِّهِ وَهُوَ الْعَزْمُ عَلَى التَّرْكِ مُطْلَقًا وَذَلِكَ حَرَامٌ وَمَا لَا خَلَاصَ مِنْ الْحَرَامِ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. فَهَذَا الدَّلِيلُ قَدْ دَلَّ عَلَى وُجُوبِهِ وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ مُجَرَّدُ الصِّيغَةِ مِنْ حَيْثُ وَضْعُ اللِّسَانِ، وَدَلِيلُ الْعَقْلِ أَقْوَى مِنْ دَلَالَةِ الصِّيغَةِ؛ فَإِذًا يَرْجِعُ حَاصِلُ الْكَلَامِ إلَى أَنَّ الْوَاجِبَ الْمُوَسَّعَ كَالْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ بِالْإِضَافَةِ إلَى أَوَّلِ الْوَقْتِ وَبِالْإِضَافَةِ إلَى آخِرِهِ أَيْضًا، فَإِنَّهُ لَوْ أُخْلِيَ عَنْهُ فِي آخِرِهِ لَمْ يَعْصِ إذَا كَانَ قَدْ فَعَلَ فِي أَوَّلِهِ [مَسْأَلَةٌ إذَا مَاتَ فِي أَثْنَاءِ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَجْأَةً بَعْدَ الْعَزْمِ عَلَى الِامْتِثَالِ] ِ إذَا مَاتَ فِي أَثْنَاءِ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَجْأَةً بَعْدَ الْعَزْمِ عَلَى الِامْتِثَالِ لَا يَكُونُ عَاصِيًا وَقَالَ بَعْضُ مَنْ أَرَادَ تَحْقِيقَ مَعْنَى الْوُجُوبِ: إنَّهُ يَعْصِي. وَهُوَ خِلَافُ إجْمَاعِ السَّلَف، فَإِنَّا نَعْلَمَ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُؤَثِّمُونَ مَنْ مَاتَ فَجْأَةً بَعْدَ انْقِضَاءِ مِقْدَارِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ مِنْ وَقْتِ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَ انْقِضَاءِ مِقْدَارِ رَكْعَتَيْنِ مِنْ أَوَّل الصُّبْحِ، وَكَانُوا لَا يَنْسُبُونَهُ إلَى تَقْصِيرٍ لَا سِيَّمَا إذَا اشْتَغَلَ بِالْوُضُوءِ أَوْ نَهَضَ إلَى الْمَسْجِدِ فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ، بَلْ مُحَالٌ أَنْ يَعْصِيَ وَقَدْ جُوِّزَ لَهُ التَّأْخِيرُ فَمَنْ فَعَلَ مَا يَجُوزُ لَهُ كَيْفَ يُمْكِنُ تَعْصِيَتُهُ. فَإِنْ قِيلَ: جَازَ لَهُ التَّأْخِيرُ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْعَاقِبَةِ.

قُلْنَا: هَذَا مُحَالٌ، فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ مَسْتُورَةٌ عَنْهُ، فَإِذَا سَأَلَنَا وَقَالَ الْعَاقِبَةُ مَسْتُورَةٌ عَنِّي وَعَلَيَّ صَوْمُ يَوْمٍ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُؤَخِّرَهُ إلَى غَدٍ فَهَلْ يَحِلُّ لِي التَّأْخِيرُ مَعَ الْجَهْلِ بِالْعَاقِبَةِ أَمْ أَعْصِي بِالتَّأْخِيرِ؟ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ جَوَابٍ؛ فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَعْصِي فَلِمَ أَثِمَ بِالْمَوْتِ الَّذِي لَيْسَ إلَيْهِ، وَإِنْ قُلْنَا: يَعْصِي، فَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ فِي الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ، وَإِنْ قُلْنَا: إنْ كَانَ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّكَ تَمُوتُ قَبْلَ الْغَدِ فَأَنْتَ عَاصٍ وَإِنْ كَانَ فِي عِلْمِهِ أَنْ تَحْيَا فَلَكَ التَّأْخِيرُ، فَيَقُول وَمَا يُدْرِينِي مَاذَا فِي عِلْمِ اللَّهِ فَمَا فَتْوَاكُمْ فِي حَقِّ الْجَاهِلِ؟ فَلَا بُدَّ مِنْ الْجَزْمِ بِالتَّحْلِيلِ أَوْ التَّحْرِيمِ. فَإِنْ قِيلَ: فَإِنْ جَازَ تَأْخِيرُهُ أَبَدًا وَلَا يَعْصِي إذَا مَاتَ فَأَيُّ مَعْنًى لِوُجُوبِهِ؟ قُلْنَا تَحَقَّقَ الْوُجُوبُ بِأَنَّهُ لَمْ يَجُزْ التَّأْخِيرُ إلَّا بِشَرْطِ الْعَزْمِ وَلَا يَجُوزُ الْعَزْمُ عَلَى التَّأْخِيرِ إلَّا إلَى مُدَّةٍ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ الْبَقَاءُ إلَيْهَا، كَتَأْخِيرِهِ الصَّلَاةَ مِنْ سَاعَةٍ إلَى سَاعَةٍ وَتَأْخِيرِهِ الصَّوْمَ مِنْ يَوْمٍ إلَى يَوْمٍ مَعَ الْعَزْمِ عَلَى التَّفَرُّغِ لَهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَتَأْخِيرُهُ الْحَجَّ مِنْ سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ، فَلَوْ عَزَمَ الْمَرِيضُ الْمُشْرِفُ عَلَى الْهَلَاكِ عَلَى التَّأْخِيرِ شَهْرًا أَوْ الشَّيْخُ الضَّعِيفُ عَلَى التَّأْخِيرِ سِنِينَ وَغَالِبُ ظَنِّهِ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ إلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ عَصَى بِهَذَا التَّأْخِيرِ وَإِنْ لَمْ يَمُتْ وَوُفِّقَ لِلْعَمَلِ لَكِنَّهُ مَأْخُوذٌ بِمُوجِبِ ظَنِّهِ، كَالْمُعَزَّرِ إذَا ضُرِبَ ضَرْبًا يُهْلِكُ أَوْ قَاطِعُ سِلْعَةٍ وَغَالِبُ ظَنِّهِ الْهَلَاكُ أَثِمَ وَإِنْ سَلِمَ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ إلَى سَنَةٍ لَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ، وَأَمَّا تَأْخِيرُ الصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ إلَى شَهْرٍ وَشَهْرَيْنِ فَجَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ الْمَوْتُ إلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَرَى الْبَقَاءَ إلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ غَالِبًا عَلَى الظَّنِّ فِي حَقِّ الشَّابِّ الصَّحِيح دُونَ الشَّيْخِ وَالْمَرِيضِ. ثُمَّ الْمُعَزَّرُ إذَا فَعَلَ مَا غَالِبُ ظَنِّهِ السَّلَامَةُ فَهَلَكَ ضَمِنَ لَا؛ لِأَنَّهُ آثِمٌ لَكِنْ؛ لِأَنَّهُ أَخْطَأَ فِي ظَنِّهِ وَالْمُخْطِئُ ضَامِنٌ غَيْرُ آثِمٍ. [مَسْأَلَةٌ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ هَلْ يُوصَف بِالْوُجُوبِ] مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ هَلْ يُوصَف بِالْوُجُوبِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ هَلْ يُوصَف بِالْوُجُوبِ؟ وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذَا أَنَّ هَذَا يَنْقَسِمُ إلَى مَا لَيْسَ إلَى الْمُكَلَّفِ كَالْقُدْرَةِ عَلَى الْفِعْلِ وَكَالْيَدِ فِي الْكِتَابَةِ وَكَالرِّجْلِ فِي الْمَشْي، فَهَذَا لَا يُوصَفُ بِالْوُجُوبِ بَلْ عَدَمُهُ يَمْنَعُ الْإِيجَابَ إلَّا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يُجَوِّزُ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ، وَكَذَلِكَ تَكْلِيفُ حُضُورِ الْإِمَامِ الْجُمُعَةَ وَحُضُورِ تَمَامِ الْعَدَدِ فَإِنَّهُ لَيْسَ إلَيْهِ فَلَا يُوصَفُ بِالْوُجُوبِ بَلْ يَسْقُطُ بِتَعَذُّرِهِ الْوَاجِبُ. وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ فَيَنْقَسِمُ إلَى الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ وَإِلَى الْحِسِّيِّ، فَالشَّرْعِيُّ كَالطَّهَارَةِ فِي الصَّلَاةِ يَجِبُ وَصْفُهَا بِالْوُجُوبِ عِنْدَ وُجُوب الصَّلَاةِ، فَإِنَّ إيجَابَ الصَّلَاةِ إيجَابٌ لِمَا يَصِيرُ بِهِ الْفِعْلُ صَلَاةً. وَأَمَّا الْحِسِّيُّ فَكَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ وَكَالْمَشْيِ إلَى الْحَجِّ وَإِلَى مَوَاضِعِ الْمَنَاسِكِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُوصَفَ أَيْضًا بِالْوُجُوبِ إذْ أَمْرُ الْبَعِيدِ عَنْ الْبَيْتِ بِالْحَجِّ أَمْرٌ بِالْمَشْيِ إلَيْهِ لَا مَحَالَةَ، وَكَذَلِكَ إذَا وَجَبَ غَسْلُ الْوَجْهِ وَلَمْ يُمْكِنْ إلَّا بِغَسْلِ جُزْءٍ مِنْ الرَّأْسِ، وَإِذَا وَجَبَ الصَّوْمُ وَلَمْ يُمْكِنْ إلَّا بِالْإِمْسَاكِ جُزْءًا مِنْ اللَّيْلِ قَبْلَ الصُّبْحِ فَيُوصَفُ ذَلِكَ بِالْوُجُوبِ. وَنَقُول: مَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْوَاجِبِ إلَّا بِهِ وَهُوَ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ فَهُوَ وَاجِبٌ. وَهَذَا أَوْلَى مِنْ أَنْ نَقُولَ يَجِبُ التَّوَصُّلُ إلَى الْوَاجِبِ بِمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ، إذْ قَوْلُنَا: " يَجِبُ فِعْلُ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ " مُتَنَاقِضٌ، وَقَوْلُنَا: " مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ صَارَ وَاجِبًا " غَيْرُ مُتَنَاقِضٍ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ؛ لَكِنَّ الْأَصْلَ وَجَبَ بِالْإِيجَابِ قَصْدًا إلَيْهِ، وَالْوَسِيلَةَ وَجَبَتْ بِوَاسِطَةِ وُجُوبِ الْمَقْصُودِ وَقَدْ وَجَبَ كَيْفَمَا كَانَ وَإِنْ كَانَ عِلَّةُ وُجُوبِهِ غَيْرَ عِلَّةِ وُجُوبِ الْمَقْصُودِ فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ وَاجِبًا

لَكَانَ مُقَدَّرًا، فَمَا الْمِقْدَارُ الَّذِي يَجِبُ غَسْلُهُ مِنْ الرَّأْسِ وَإِمْسَاكُهُ مِنْ اللَّيْلِ؟ قُلْنَا: قَدْ وَجَبَ التَّوَصُّلُ بِهِ إلَى الْوَاجِبِ وَهُوَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، بَلْ يَجِبُ مَسْحُ الرَّأْسِ وَيَكْفِي أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ وَهُوَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ، فَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ أَقَلُّ مَا يُمْكِنُ بِهِ غَسْلُ الْوَجْهِ. وَهَذَا التَّقْدِيرُ كَافٍ فِي الْوُجُوبِ. فَإِنْ قِيلَ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَكَانَ يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ، وَتَارِكُ الْوُضُوءِ لَا يُعَاقَبُ عَلَى مَا تَرَكَهُ مِنْ غَسْلِ الرَّأْسِ بَلْ مِنْ غَسْلِ الْوَجْهِ، وَتَارِكُ الصَّوْمِ لَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِ الْإِمْسَاكِ لَيْلًا. قُلْنَا: وَمَنْ أَنْبَأَكُمْ بِذَلِكَ؟ وَمِنْ أَيْنَ عَرَفْتُمْ أَنَّ ثَوَابَ الْبَعِيدِ عَنْ الْبَيْتِ لَا يَزِيدُ عَلَى ثَوَابِ الْقَرِيبِ فِي الْحَجِّ، وَأَنَّ مَنْ زَادَ عَمَلُهُ لَا يَزِيدُ ثَوَابُهُ وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقِ التَّوَصُّلِ؟ وَأَمَّا الْعِقَابُ فَهُوَ عِقَابٌ عَلَى تَرْكِ الصَّوْمِ وَالْوُضُوءِ وَلِيس يَتَوَزَّعُ عَلَى أَجْزَاءِ الْفِعْلِ، فَلَا مَعْنَى لِإِضَافَتِهِ إلَى التَّفَاصِيلِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ قَدَرَ عَلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى غَسْل الْوَجْهِ لَمْ يُعَاقَبْ، قُلْنَا: هَذَا مُسَلَّمٌ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْعَاجِزِ أَمَّا الْقَادِرُ فَلَا وُجُوبَ عَلَيْهِ. [مَسْأَلَة إذَا اخْتَلَطَتْ مَنْكُوحَةٌ بِأَجْنَبِيَّةٍ] مَسْأَلَة قَالَ قَائِلُونَ إذَا اخْتَلَطَتْ مَنْكُوحَةٌ بِأَجْنَبِيَّةٍ قَالَ قَائِلُونَ: إذَا اخْتَلَطَتْ مَنْكُوحَةٌ بِأَجْنَبِيَّةٍ وَجَبَ الْكَفُّ عَنْهُمَا. لَكِنَّ الْحَرَامَ هِيَ الْأَجْنَبِيَّةُ وَالْمَنْكُوحَةُ حَلَالٌ وَيَجِبُ الْكَفُّ عَنْهَا. وَهَذَا مُتَنَاقِضٌ، بَلْ لَيْسَ الْحُرْمَة وَالْحِلّ وَصْفًا ذَاتِيًّا لَهُمَا بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالْفِعْلِ، فَإِذَا حُرِّمَ فِعْلُ الْوَطْءِ فِيهِمَا فَأَيُّ مَعْنًى لِقَوْلِنَا وَطْءُ الْمَنْكُوحَةِ حَلَالٌ وَوَطْءُ الْأَجْنَبِيَّةِ حَرَامٌ؟ بَلْ هُمَا حَرَامَانِ إحْدَاهُمَا بِعِلَّةِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَالْأُخْرَى بِعِلَّةِ الِاخْتِلَاطِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ، فَالِاخْتِلَافُ فِي الْعِلَّةِ لَا فِي الْحُكْمِ. وَإِنَّمَا وَقَعَ هَذَا فِي الْأَوْهَامِ مِنْ حَيْثُ ضَاهَى الْوَصْفُ بِالْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ الْوَصْفَ بِالْعَجْزِ وَالْقُدْرَةِ وَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ وَالصِّفَاتِ الْحِسِّيَّةِ، وَذَلِكَ وَهْمٌ نَبَّهْنَا عَلَيْهِ إذْ لَيْسَتْ الْأَحْكَامُ صِفَاتٍ لِلْأَعْيَانِ أَصْلًا؛ بَلْ نَقُولُ: إذَا اشْتَبَهَتْ رَضِيعَةٌ بِنِسَاءِ بَلْدَةٍ فَنَكَحَ وَاحِدَةً حَلَّتْ وَاحْتُمِلَ أَنْ تَكُونَ هِيَ الرَّضِيعَةُ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى؛ وَلَا نَقُولُ إنَّهَا لَيْسَتْ فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى زَوْجَةً لَهُ، إذْ لَا مَعْنَى لِلزَّوْجَةِ إلَّا مَنْ حَلَّ وَطْؤُهَا بِنِكَاحٍ، وَهَذِهِ قَدْ حَلَّ وَطْؤُهَا فَهِيَ حَلَالٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَا نَقُولُ هِيَ حَرَامٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَحَلَالٌ عِنْدَهُ فِي ظَنِّهِ، بَلْ إذَا ظَنَّ الْحِلَّ فَهِيَ حَلَالٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ هَذَا فِي مَسْأَلَةِ تَصْوِيبِ الْمُجْتَهِدِ. أَمَّا إذَا قَالَ لِزَوْجَتَيْهِ: " إحْدَاكُمَا طَالِقٌ " فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ يَحِلُّ وَطْؤُهُمَا وَالطَّلَاقُ غَيْرُ وَاقِعٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ لَهُ مَحَلًّا فَصَارَ كَمَا إذَا بَاعَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ حُرِّمَتَا جَمِيعًا فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ مَحَلِّ الطَّلَاقِ ثُمَّ عَلَيْهِ التَّعْيِينُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ، وَالْمُتَّبَعُ فِي ذَلِكَ مُوجِبُ ظَنِّ الْمُجْتَهِدِ أَمَّا الْمَصِيرُ إلَى أَنَّ إحْدَاهُمَا مُحَرَّمَةٌ وَالْأُخْرَى مَنْكُوحَةٌ كَمَا تَوَهَّمُوهُ فِي اخْتِلَاطِ الْمَنْكُوحَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ فَلَا يَنْقَدِحُ هَهُنَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ جَهْلٌ مِنْ الْآدَمِيِّ عَرَضَ بَعْدَ التَّعْيِينِ، وَأَمَّا هُنَا فَلَيْسَ مُتَعَيِّنًا فِي نَفْسِهِ بَلْ يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى مُطْلَقًا لِإِحْدَاهُمَا لَا بِعَيْنِهَا. فَإِنْ قِيلَ: إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ التَّعْيِينُ فَاَللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا سَيُعَيِّنُهُ فَتَكُونُ هِيَ الْمُحَرَّمَةُ الْمُطَلَّقَةُ بِعَيْنِهَا فِي عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا هُوَ مُشْكِلٌ عَلَيْنَا. قُلْنَا: اللَّه تَعَالَى يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، فَلَا يَعْلَمُ الطَّلَاقَ الَّذِي لَمْ يُعَيَّنْ مَحَلُّهُ مُتَعَيِّنًا بَلْ يَعْلَمُهُ قَابِلًا لِلتَّعْيِينِ إذَا عَيَّنَهُ الْمُطَلِّقُ، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ سَيُعَيِّنُ زَيْنَبَ مَثَلًا، فَيَتَعَيَّن الطَّلَاقُ بِتَعْيِينِهِ إذَا عَيَّنَ لَا قَبْلَهُ. وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ: اللَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ مَا سَيَفْعَلُهُ الْعَبْدُ مِنْ خِلَالِ الْكَفَّارَةِ وَلَا يَعْلَمُهُ وَاجِبًا بِعَيْنِهِ بَلْ وَاجِبًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ فِي الْحَالِ، ثُمَّ يَعْلَمُ صَيْرُورَتَهُ مُتَعَيِّنًا بِالتَّعْيِينِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ يَمُوتُ

قَبْلَ التَّكْفِيرِ وَقَبْلَ التَّعْيِينِ فَيَعْلَمُ الْوُجُوبَ وَالطَّلَاقَ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ مَنْ عَدَمِ التَّعْيِينِ. [مَسْأَلَةٌ الْوَاجِبِ الَّذِي لَا يَتَقَدَّرُ بِحَدٍّ مَحْدُودٍ] مَسْأَلَةٌ اخْتَلَفُوا فِي الْوَاجِبِ الَّذِي لَا يَتَقَدَّرُ بِحَدٍّ مَحْدُودٍ اخْتَلَفُوا فِي الْوَاجِبِ الَّذِي لَا يَتَقَدَّرُ بِحَدٍّ مَحْدُودٍ كَمَسْحِ الرَّأْسِ وَالطُّمَأْنِينَةِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَمُدَّةِ الْقِيَامِ أَنَّهُ إذَا زَادَ عَلَى أَقَلِّ الْوَاجِبِ هَلْ تُوصَفُ الزِّيَادَةُ بِالْوُجُوبِ؟ فَلَوْ مَسَحَ جَمِيعَ الرَّأْسِ هَلْ يَقَعُ فِعْلُهُ بِجُمْلَتِهِ وَاجِبًا أَوْ الْوَاجِبُ الْأَقَلُّ وَالْبَاقِي نَدْبٌ؟ فَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ الْكُلَّ يُوصَفُ بِالْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ نِسْبَة الْكُلِّ إلَى الْأَمْرِ وَاحِدٌ وَالْأَمْرُ فِي نَفْسِهِ أَمْرٌ وَاحِدٌ وَهُوَ أَمْرُ إيجَابٍ وَلَا يَتَمَيَّزُ الْبَعْضُ مِنْ الْبَعْضِ فَالْكُلُّ امْتِثَالٌ. وَالْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ: الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَقَلِّ نَدْبٌ، فَإِنَّهُ لَمْ يَجِبْ إلَّا أَقَلُّ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَهَذَا فِي الطُّمَأْنِينَةِ وَالْقِيَامِ وَمَا وَقَعَ مُتَعَاقِبًا أَظْهَرُ، وَكَذَلِكَ الْمَسْحُ إذَا وَقَعَ مُتَعَاقِبًا وَمَا وَقَعَ مِنْ جُمْلَتِهِ مَعًا وَإِنْ كَانَ لَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ بِالْإِشَارَةِ وَالتَّعْيِينِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ قَدْرُ الْأَقَلِّ مِنْهُ وَاجِبٌ وَالْبَاقِي نَدْبٌ وَإِنْ لَمْ يَتَمَيَّزْ بِالْإِشَارَةِ الْمَنْدُوبُ عَنْ الْوَاجِبِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَقَلِّ لَا عِقَابَ عَلَى تَرْكِهَا مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ بَدَلٍ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ حَدُّ الْوُجُوبِ. [مَسْأَلَةٌ الْوُجُوبُ يُبَايِنُ الْجَوَازَ وَالْإِبَاحَةَ بِحِدَّةٍ] ِ الْوُجُوبُ يُبَايِنُ الْجَوَازَ وَالْإِبَاحَةَ بِحَدِّهِ. فَلِذَلِكَ قُلْنَا: يُقْضَى بِخَطَإِ مَنْ ظَنَّ أَنَّ الْوُجُوبَ إذَا نُسِخَ بَقِيَ الْجَوَازُ، بَلْ الْحَقُّ أَنَّهُ إذَا نُسِخَ رَجَعَ الْأَمْرُ إلَى مَا كَانَ قَبْلَ الْوُجُوبِ مِنْ تَحْرِيمٍ أَوْ إبَاحَةٍ وَصَارَ الْوُجُوبُ بِالنَّسْخِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ. فَإِنْ قِيلَ كُلُّ وَاجِبٍ فَهُوَ جَائِزٌ وَزِيَادَةٌ، إذْ الْجَائِزُ مَا لَا عِقَابَ عَلَى فِعْلِهِ وَالْوَاجِبُ أَيْضًا لَا عِقَابَ عَلَى فِعْلِهِ وَهُوَ مَعْنَى الْجَوَازِ، فَإِذَا نُسِخَ الْوُجُوبُ فَكَأَنَّهُ أَسْقَطَ الْعِقَابَ عَلَى تَرْكِهِ فَيَبْقَى سُقُوطُ الْعِقَابِ عَلَى فِعْلِهِ وَهُوَ مَعْنَى الْجَوَازِ. قُلْنَا: هَذَا كَقَوْلِ الْقَائِلِ كُلُّ وَاجِبٍ فَهُوَ نَدْبٌ وَزِيَادَةٌ، فَإِذَا نُسِخَ الْوُجُوبُ بَقِيَ النَّدْبُ وَلَا قَائِلَ بِهِ. وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ وَكِلَاهُمَا وَهْمٌ، بَلْ الْوَاجِبُ لَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْجَوَازِ فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْجَوَازِ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ وَالتَّسَاوِي بَيْنَهُمَا بِتَسْوِيَةِ الشَّرْعِ وَذَلِكَ مَنْفِيٌّ عَنْ الْوَاجِبِ. وَذِكْرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هَهُنَا أَوْلَى مِنْ ذِكْرِهَا فِي كِتَابِ النَّسْخِ، فَإِنَّهُ نَظَرَ فِي حَقِيقَةِ الْوُجُوبِ وَالْجَوَازِ لَا فِي حَقِيقَةِ النَّسْخِ. [مَسْأَلَةٌ الْجَائِزُ لَا يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ وَالْمُبَاحُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ] كَمَا فَهِمْتَ أَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَتَضَمَّنُ الْجَوَازَ فَافْهَمْ أَنَّ الْجَائِزَ لَا يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ وَأَنَّ الْمُبَاحَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ لِتَنَاقُضِ حَدَّيْهِمَا كَمَا سَبَق، خِلَافًا لِلْبَلْخِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ: الْمُبَاحُ مَأْمُورٌ بِهِ لَكِنَّهُ دُونَ النَّدْبِ، كَمَا أَنَّ النَّدْبَ مَأْمُورٌ بِهِ لَكِنَّهُ دُونَ الْوَاجِبِ. وَهَذَا مُحَالٌ إذْ الْأَمْرُ اقْتِضَاءٌ وَطَلَبٌ وَالْمُبَاحُ غَيْرُ مَطْلُوبٍ بَلْ مَأْذُونٌ فِيهِ وَمُطْلَقٌ لَهُ، فَإِنْ اُسْتُعْمِلَ لَفْظُ الْأَمْرِ فِي الْإِذْنِ فَهُوَ تَجَوُّزٌ. فَإِنْ قِيلَ: تَرْكُ الْحَرَامِ وَاجِبٌ وَالسُّكُوتُ الْمُبَاحُ يُتْرَكُ بِهِ الْحَرَامُ مِنْ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ، وَالسُّكُوتُ الْمُبَاحُ أَوْ الْكَلَامُ الْمُبَاحُ يُتْرَكُ بِهِ الْكُفْرُ وَالْكَذِبُ، وَتَرْكُ الْكُفْرِ وَالْكَذِبِ وَالزِّنَا مَأْمُورٌ بِهِ. قُلْنَا قَدْ يُتْرَكُ بِالنَّدْبِ حَرَامٌ فَلْيَكُنْ وَاجِبًا، وَقَدْ يُتْرَكُ بِالْحَرَامِ حَرَامٌ آخَرُ فَلْيَكُنْ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ وَاجِبًا حَرَامًا، وَهُوَ تَنَاقُضٌ، وَيَلْزَمُ هَذَا عَلَى مَذْهَبِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ وَالنَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِأَحَدِ أَضْدَادِهِ، بَلْ يَلْزَمُ عَلَيْهِ كَوْنُ الصَّلَاةِ حَرَامًا إذَا تَحَرَّمَ بِهَا مَنْ تَرَكَ الزَّكَاةَ

الْوَاجِبَةَ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ أَضْدَادِ الْوَاجِبِ وَكُلُّ ذَلِكَ قِيَاسُ مَذْهَبِ هَؤُلَاءِ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا بِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَالْمُبَاحُ هَلْ يَدْخُل تَحْتَ التَّكْلِيفِ وَهَلْ هُوَ مِنْ التَّكَالِيفِ؟ قُلْنَا: إنْ كَانَ التَّكْلِيفُ عِبَارَةً عَنْ طَلَبِ مَا فِيهِ كُلْفَةٌ فَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْمُبَاحِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ مَا عُرِفَ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ إطْلَاقُهُ وَالْإِذْنُ فِيهِ فَهُوَ تَكْلِيفٌ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ أَنَّهُ الَّذِي كُلِّفَ اعْتِقَادُ كَوْنِهِ مِنْ الشَّرْعِ فَقَدْ كُلِّفَ ذَلِكَ لَكِنْ لَا بِنَفْسِ الْإِبَاحَةِ بَلْ بِأَصْلِ الْإِيمَانِ. وَقَدْ سَمَّاهُ الْأُسْتَاذُ أَبُو إِسْحَاقَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَكْلِيفًا بِهَذَا التَّأْوِيلِ الْأَخِيرِ، وَهُوَ بَعِيدٌ مَعَ أَنَّهُ نِزَاعٌ فِي اسْمٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ الْمُبَاحُ حَسَنٌ؟ قُلْنَا: إنْ كَانَ الْحَسَنُ عِبَارَةً عَمَّا لِفَاعِلِهِ أَنْ يَفْعَلَهُ فَهُوَ حَسَنٌ، وَإِنْ كَانَ عِبَارَةً عَمَّا أُمِرَ بِتَعْظِيمِ فَاعِلِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ أَوْ وَجَبَ اعْتِقَادُ اسْتِحْقَاقِهِ لِلثَّنَاءِ وَالْقَبِيحِ مَا يَجِبُ اعْتِقَادُ اسْتِحْقَاقِ صَاحِبِهِ لِلذَّمِّ أَوْ الْعِقَابِ فَلَيْسَ الْمُبَاحُ بِحَسَنٍ. وَاحْتَرَزْنَا بِاعْتِقَادِ الِاسْتِحْقَاقِ عَنْ مَعَاصِي الْأَنْبِيَاءِ فَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى وُقُوعِهَا مِنْهُمْ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِإِهَانَتِهِمْ وَذَمِّهِمْ، لَكِنَّا نَعْتَقِدُ اسْتِحْقَاقَهُمْ لِذَلِكَ مَعَ تَفَضُّلِ اللَّهِ تَعَالَى بِإِسْقَاطِ الْمُسْتَحَقِّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَنَا بِتَعْظِيمِهِمْ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ [مَسْأَلَةٌ الْمُبَاحُ مِنْ الشَّرْعِ] ِ الْمُبَاحُ مِنْ الشَّرْعِ وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الشَّرْعِ، إذْ مَعْنَى الْمُبَاحِ رَفْعُ الْحَرَجِ عَنْ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ وَذَلِكَ ثَابِتٌ قَبْلَ السَّمْعِ، فَمَعْنَى إبَاحَةِ الشَّرْعِ شَيْئًا أَنَّهُ تَرَكَهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْل وُرُودِ السَّمْعِ وَلَمْ يُغَيِّرْ حُكْمَهُ وَكُلُّ مَا لَمْ يَثْبُتْ تَحْرِيمُهُ وَلَا وُجُوبُهُ بَقِيَ عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ فَعُبِّرَ عَنْهُ بِالْمُبَاحِ وَهَذَا لَهُ غَوْرٌ. وَكَشْفُ الْغِطَاءِ عَنْهُ أَنَّ الْأَفْعَالَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ قِسْمٌ بَقِيَ عَلَى الْأَصْلِ فَلَمْ يَرِد فِيهِ مِنْ الشَّرْعِ تَعَرُّضٌ لَا بِصَرِيحِ اللَّفْظِ وَلَا بِدَلِيلٍ مِنْ أَدِلَّةِ السَّمْعِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ اسْتَمَرَّ فِيهِ مَا كَانَ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ السَّمْعُ فَلَيْسَ فِيهِ حُكْمٌ. وَقِسْمٌ صَرَّحَ الشَّرْعُ فِيهِ بِالتَّخْيِيرِ وَقَالَ إنْ شِئْتُمْ فَافْعَلُوهُ وَإِنْ شِئْتُمْ فَاتْرُكُوهُ فَهَذَا خِطَابٌ وَالْحُكْمُ لَا مَعْنَى لَهُ إلَّا الْخِطَابُ وَلَا سَبِيلَ إلَى إنْكَارِهِ وَقَدْ وَرَدَ. وَقِسْمٌ ثَالِثٌ لَمْ يَرِد فِيهِ خِطَابٌ بِالتَّخْيِيرِ لَكِنْ دَلَّ دَلِيلُ السَّمْعِ عَلَى نَفْيِ الْحَرَجِ عَنْ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ فَقَدْ عُرِفَ بِدَلِيلِ السَّمْعِ، وَلَوْلَا هَذَا الدَّلِيلُ لَكَانَ يُعْرَفُ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ نَفْيُ الْحَرَجِ عَنْ فَاعِلِهِ وَبَقَاؤُهُ عَلَى النَّفْيِ الْأَصْلِيِّ؛ فَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ إذَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ دَلِيلُ الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ، وَفِي الطَّرَفَيْنِ الْآخَرَيْنِ أَيْضًا نَظَرٌ إذْ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ قَوْلُ الشَّارِعِ إنْ شِئْت فَقُمْ وَإِنْ شِئْت فَاقْعُدْ لَيْسَ بِتَجْدِيدِ حُكْمٍ هُوَ تَقْرِيرٌ لِلْحُكْمِ السَّابِقِ. وَمَعْنَى تَقْرِيرِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ بَلْ يَتْرُكُهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَلَيْسَ ذَلِكَ أَمْرًا حَادِثًا بِالشَّرْعِ فَلَا يَكُونُ شَرْعِيًّا. وَأَمَّا الطَّرَفُ الْآخَرُ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَرِدْ فِيهِ خِطَابٌ وَلَا دَلِيلٌ فَيُمْكِن أَيْضًا إنْكَارُهُ بِأَنْ يُقَالَ قَدْ دَلَّ السَّمْعُ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يَرِد فِيهِ طَلَبٌ وَلَا طَلَبُ تَرْكٍ، فَالْمُكَلَّفُ فِيهِ مُخَيَّرٌ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى الْعُمُومِ فِيمَا لَا يَتَنَاهَى مِنْ الْأَفْعَالِ، فَلَا يَبْقَى فِعْل إلَّا مَدْلُولًا عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ فَتَكُونُ إبَاحَتُهُ مِنْ الشَّرْعِ وَإِلَّا عُورِضَ أَنَّ الْإِبَاحَةَ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ تَقْرِيرٌ لَا تَغْيِيرٌ، وَلِيس مَعَ التَّقْرِيرِ تَجْدِيدُ أَمْرٍ بَلْ بَيَانُ أَنَّهُ لَمْ يُجَدِّدْ فِيهِ أَمْرًا بَلْ كَفَّ عَنْ التَّعَرُّضِ لَهُ. وَسَيَأْتِي لِهَذَا تَحْقِيقٌ فِي مَسْأَلَةِ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى النَّافِي. [مَسْأَلَةٌ الْمَنْدُوبُ مَأْمُورٌ بِهِ] ِ الْمَنْدُوبُ مَأْمُورٌ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُبَاحُ مَأْمُورًا بِهِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ اقْتِضَاءٌ وَطَلَبٌ وَالْمُبَاحُ غَيْرُ مُقْتَضًى. أَمَّا الْمَنْدُوبُ فَإِنَّهُ مُقْتَضَى لَكِنْ مَعَ إسْقَاطِ الذَّمِّ عَنْ تَارِكِهِ، وَالْوَاجِبُ مُقْتَضَى لَكِنْ مَعَ ذَمِّ تَارِكِهِ إذَا تَرَكَهُ مُطْلَقًا أَوْ تَرَكَهُ وَبَدَّلَهُ وَقَالَ قَوْمٌ: الْمَنْدُوبُ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ

الْأَمْرِ. وَهُوَ فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ شَاعَ فِي لِسَانِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْأَمْرَ يَنْقَسِمُ إلَى أَمْرِ إيجَابٍ وَأَمْر اسْتِحْبَابٍ وَمَا شَاعَ أَنَّهُ يَنْقَسِمُ إلَى أَمْرِ إبَاحَةٍ وَأَمْرِ إيجَابٍ مَعَ أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ قَدْ تُطْلَقُ لِإِرَادَةِ الْإِبَاحَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] {فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} [الجمعة: 10] وَالثَّانِي: أَنَّ فِعْلَ الْمَنْدُوبِ طَاعَةٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَلَيْسَ طَاعَةً لِكَوْنِهِ مُرَادًا إذْ الْأَمْرُ عِنْدنَا يُفَارِقُ الْإِرَادَةَ. وَلَا لِكَوْنِهِ مَوْجُودًا أَوْ حَادِثًا أَوْ لِذَاتِهِ أَوْ صِفَةِ نَفْسِهِ، إذْ يَجْرِي ذَلِكَ فِي الْمُبَاحَاتِ. وَلَا لِكَوْنِهِ مُثَابًا عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمَأْمُورَ وَإِنْ لَمْ يُثَبْ وَلَمْ يُعَاقَبْ إذَا امْتَثَلَ كَانَ مُطِيعًا. وَإِنَّمَا الثَّوَابُ لِلتَّرْغِيبِ فِي الطَّاعَةِ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يُحْبِطُ بِالْكُفْرِ ثَوَابَ طَاعَتِهِ وَلَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ مُطِيعًا. فَإِنْ قِيلَ: الْأَمْرُ عِبَارَةٌ عَنْ اقْتِضَاءٍ جَازِمٍ لَا تَخْيِيرَ مَعَهُ وَالنَّدْبُ مَقْرُونٌ بِتَجْوِيزِ التَّرْكِ وَالتَّخْيِيرِ فِيهِ، وَقَوْلُكُمْ إنَّهُ يُسَمَّى مُطِيعًا يُقَابِلهُ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ لَا يُسَمَّى عَاصِيًا. قُلْنَا: النَّدْبُ اقْتِضَاءٌ جَازِمٌ لَا تَخْيِيرَ فِيهِ؛ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ عِبَارَةٌ عَنْ التَّسْوِيَةِ فَإِذَا رَجَّحَ جِهَةَ الْفِعْلِ بِرَبْطِ الثَّوَابِ بِهِ ارْتَفَعَتْ التَّسْوِيَةُ وَالتَّخْيِيرُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي الْمُحَرَّمَاتِ أَيْضًا {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُظَنَّ أَنَّ الْأَمْرَ اقْتِضَاءٌ جَازِمٌ بِمَعْنَى أَنَّ الشَّرْعَ يَطْلُبُ مِنْهُ شَيْئًا لِنَفْسِهِ بَلْ يَطْلُبُ مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحِهِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقْتَضِي مِنْ عِبَادِهِ مَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ وَلَا يَرْضَى الْكُفْرَ لَهُمْ، وَكَذَلِكَ يَقْتَضِي النَّدْبَ لِنَيْلِ الثَّوَابِ، وَيَقُولُ: الْفِعْلُ وَالتَّرْكُ سِيَّانِ بِالْإِضَافَةِ إلَيَّ أَمَّا فِي حَقِّكَ فَلَا مُسَاوَاةَ وَلَا خِيَرَة إذْ فِي تَرْكِهِ تَرْكُ صَلَاحِكَ وَثَوَابِكَ، فَهُوَ اقْتِضَاء جَازِم. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إنَّهُ لَا يُسَمَّى عَاصِيًا، فَسَبَبُهُ أَنَّ الْعِصْيَانَ اسْم ذَمٍّ وَقَدْ أُسْقِطَ الذَّمُّ عَنْهُ، نَعَمْ يُسَمَّى مُخَالِفًا وَغَيْرَ مُمْتَثِلٍ كَمَا يُسَمَّى فَاعِلُهُ مُوَافِقًا وَمُطِيعًا مَسْأَلَةٌ: إذَا عَرَفْت أَنَّ الْحَرَامَ ضِدُّ الْوَاجِبِ ؛ لِأَنَّهُ الْمُقْتَضَى تَرْكُهُ وَالْوَاجِبُ هُوَ الْمُقْتَضَى فِعْلُهُ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا حَرَامًا طَاعَةً مَعْصِيَةً؛ لَكِنْ رُبَّمَا تَخْفَى عَلَيْكَ حَقِيقَةُ الْوَاحِدِ، فَالْوَاحِدُ يَنْقَسِمُ إلَى وَاحِدٍ بِالنَّوْعِ وَإِلَى وَاحِدٍ بِالْعَدَدِ. أَمَّا الْوَاحِدُ بِالنَّوْعِ كَالسُّجُودِ مَثَلًا، فَإِنَّهُ نَوْعٌ وَاحِدٌ مِنْ الْأَفْعَالِ؛ فَيَجُوزُ أَنْ يَنْقَسِمَ إلَى الْوَاجِبِ وَالْحَرَامِ وَيَكُونُ انْقِسَامُهُ بِالْأَوْصَافِ وَالْإِضَافَاتِ كَالسُّجُودِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالسُّجُودِ لِلصَّنَمِ، إذْ أَحَدُهُمَا وَاجِبٌ وَالْآخَرُ حَرَامٌ وَلَا تَنَاقُضَ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ إلَى تَنَاقُضٍ، فَإِنَّ السُّجُودَ نَوْعٌ وَاحِدٌ مَأْمُورٌ بِهِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُنْهَى عَنْهُ، بَلْ السَّاجِدُ لِلصَّنَمِ عَاصٍ بِقَصْدِ تَعْظِيمِ الصَّنَمِ لَا بِنَفْسِ السُّجُودِ. وَهَذَا خَطَأٌ فَاحِشٌ، فَإِنَّهُ إذَا تَغَايَرَ مُتَعَلَّقُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَمْ يَتَنَاقَضْ، وَالسُّجُودُ لِلصَّنَمِ غَيْرُ السُّجُودِ لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْإِضَافَاتِ وَالصِّفَاتِ يُوجِبُ الْمُغَايَرَةَ إذْ الشَّيْءُ لَا يُغَايِرُ نَفْسَهُ. وَالْمُغَايَرَةُ تَارَةً تَكُونُ بِاخْتِلَافِ النَّوْعِ وَتَارَةً بِاخْتِلَافِ الْوَصْفِ وَتَارَةً بِاخْتِلَافِ الْإِضَافَةِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ} [فصلت: 37] ، وَلَيْسَ الْمَأْمُورُ بِهِ هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّ السَّاجِدَ لِلشَّمْسِ عَاصٍ بِنَفْسِ السُّجُودِ وَالْقَصْدِ جَمِيعًا. فَقَوْلُهُمْ: إنَّ السُّجُودَ نَوْعٌ وَاحِدٌ لَا يُغْنِي مَعَ انْقِسَامِ هَذَا النَّوْعِ إلَى أَقْسَامٍ مُخْتَلِفَةِ الْمَقَاصِدِ، إذْ الْمَقْصُودُ بِهَذَا السُّجُودِ تَعْظِيمُ الصَّنَمِ دُونَ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَاخْتِلَافُ وُجُوهِ الْفِعْلِ كَاخْتِلَافِ نَفْسِ الْفِعْلِ فِي حُصُولِ الْغَيْرِيَّة الرَّافِعَةِ لِلتَّضَادِّ، فَإِنَّ التَّضَادَّ إنَّمَا يَكُونُ بِالْإِضَافَةِ إلَى وَاحِدٍ وَلَا وَحْدَةَ مَعَ الْمُغَايَرَةِ

مَسْأَلَةٌ: مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْوَاحِدِ بِالنَّوْعِ ظَاهِرٌ، أَمَّا الْوَاحِدُ بِالتَّعْيِينِ كَصَلَاةِ زَيْدٍ فِي دَارٍ مَغْصُوبَةٍ مِنْ عَمْرٍو فَحَرَكَتُهُ فِي الصَّلَاةِ فِعْلُ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ هُوَ مُكْتَسِبُهُ وَمُتَعَلَّقُ قُدْرَتِهِ؛ فَاَلَّذِينَ سَلَّمُوا فِي النَّوْعِ الْوَاحِدِ نَازَعُوا هَهُنَا فَقَالُوا: لَا تَصِحُّ هَذِهِ الصَّلَاةُ، إذْ يُؤَدِّي الْقَوْلُ بِصِحَّتِهَا إلَى أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ الْوَاحِدَةُ مِنْ الْأَفْعَالِ حَرَامًا وَاجِبًا، وَهُوَ مُتَنَاقِضٌ فَقِيلَ لَهُمْ: هَذَا خِلَافُ إجْمَاعِ السَّلَفِ، فَإِنَّهُمْ مَا أَمَرُوا الظَّلَمَة عِنْدَ التَّوْبَةِ بِقَضَاءِ الصَّلَوَاتِ الْمُؤَدَّاةِ فِي الدُّورِ الْمَغْصُوبَةِ مَعَ كَثْرَةِ وُقُوعِهَا، وَلَا نَهُوا الظَّالِمِينَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْأَرَاضِي الْمَغْصُوبَةِ، فَأَشْكَلَ الْجَوَابُ عَلَى الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ: يَسْقُطُ الْوُجُوبُ عِنْدهَا لَا بِهَا بِدَلِيلِ الْإِجْمَاع وَلَا يَقَعُ وَاجِبًا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مَا يُثَابُ عَلَيْهِ. وَكَيْفَ يُثَابُ عَلَى مَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ وَفِعْلُهُ وَاحِدٌ هُوَ كَوْنٌ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ وَسُجُودُهُ وَرُكُوعُهُ أَكْوَانٌ اخْتِيَارِيَّةٌ هُوَ مُعَاقَبٌ عَلَيْهَا وَمَنْهِيٌّ عَنْهَا؟ وَكُلُّ مَنْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْكَلَامُ قَطَعَ بِهَذَا نَظَرًا إلَى اتِّحَادِ أَكْوَانِهِ فِي حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِهِ وَأَنَّ الْحَادِثَ مِنْهُ الْأَكْوَانُ لَا غَيْرُهَا وَهُوَ مُعَاقَبٌ عَلَيْهَا عَاصٍ بِهَا، فَكَيْفَ يَكُونُ مُتَقَرِّبًا بِمَا هُوَ مُعَاقَبٌ عَلَيْهِ وَمُطِيعًا بِمَا هُوَ بِهِ عَاصٍ؟ وَهَذَا غَيْرُ مَرْضِيِّ عِنْدَنَا، بَلْ نَقُولُ: الْفِعْلُ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فِي نَفْسِهِ فَإِذَا كَانَ لَهُ وَجْهَانِ مُتَغَايِرَانِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَطْلُوبًا مِنْ أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ مَكْرُوهًا مِنْ الْوَجْهِ الْآخَرِ، وَإِنَّمَا الْمُحَالُ أَنْ يُطْلَبَ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يُكْرَهُ بِعَيْنِهِ، وَفِعْلُهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ صَلَاةٌ مَطْلُوبٌ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ غَصْبٌ مَكْرُوهٌ، وَالْغَصْبُ مَعْقُولٌ دُونَ الصَّلَاةِ وَالصَّلَاةُ مَعْقُولَةٌ دُون الْغَصْبِ، وَقَدْ اجْتَمَعَ الْوَجْهَانِ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ وَمُتَعَلَّقُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الْوَجْهَانِ الْمُتَغَايِرَانِ. وَكَذَلِكَ يُعْقَلُ مِنْ السَّيِّدِ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ: " صَلِّ الْيَوْمَ أَلْف رَكْعَةٍ وَخِطْ هَذَا الثَّوْبَ وَلَا تَدْخُلْ هَذِهِ الدَّارَ، فَإِنْ ارْتَكَبْتَ النَّهْيَ ضَرَبْتُك وَإِنْ امْتَثَلْتَ الْأَمْرَ أَعْتَقْتُكَ ". فَخَاطَ الثَّوْبَ فِي الدَّارِ وَصَلَّى أَلْفَ رَكْعَةٍ فِي تِلْكَ الدَّارِ، فَيَحْسُنُ مِنْ السَّيِّدِ أَنْ يَضْرِبَهُ وَيُعْتِقَهُ وَيَقُولَ أَطَاعَ بِالْخِيَاطَةِ وَالصَّلَاةِ وَعَصَى بِدُخُولِ الدَّارِ، فَكَذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ. فَالْفِعْلُ وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فَقَدْ تَضَمَّنَ تَحْصِيلَ أَمْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ يَطْلُبُ أَحَدَهُمَا وَيَكْرَهُ الْآخَرَ. وَلَوْ رَمَى سَهْمًا وَاحِدًا إلَى مُسْلِمٍ بِحَيْثُ يَمْرُقُ إلَى كَافِرٍ أَوْ إلَى كَافِرٍ بِحَيْثُ يَمْرُقُ إلَى مُسْلِمٍ، فَإِنَّهُ يُثَابُ وَيُعَاقَبُ وَيَمْلِكُ سَلَبَ الْكَافِرِ وَيُقْتَلُ بِالْمُسْلِمِ قِصَاصًا لِتَضَمُّنِ فِعْلِهِ الْوَاحِدِ أَمْرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. فَإِنْ قِيلَ: ارْتِكَاب الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إذَا أَخَلَّ بِشَرْطِ الْعِبَادَةِ أَفْسَدَهَا بِالِاتِّفَاقِ، وَنِيَّةُ التَّقَرُّبِ بِالصَّلَاةِ شَرْطٌ، وَالتَّقَرُّبُ بِالْمَعْصِيَةِ مُحَالٌ، فَكَيْفَ يَنْوِي التَّقَرُّبَ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلِ: أَنَّ الْإِجْمَاعَ إذَا انْعَقَدَ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الصَّلَاةِ فَلْيَعْلَمْ بِهِ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ نِيَّةَ التَّقَرُّبِ لَيْسَ بِشَرْطٍ أَوْ نِيَّةَ التَّقَرُّبِ بِهَذِهِ الصَّلَاةِ مُمْكِنٌ، وَأَبُو هَاشِمٍ الْجُبَّائِيُّ وَمَنْ خَالَفَ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ مَسْبُوقٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ عَلَى تَرْكِ تَكْلِيفِ الظَّلَمَةِ قَضَاءَ الصَّلَوَاتِ مَعَ كَثْرَتِهِمْ، وَكَيْفَ يُنْكِرُ سُقُوطَ نِيَّةِ التَّقَرُّبِ؟ وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِرَاطِ نِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ وَنِيَّةِ الْإِضَافَةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجِبُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الظُّهْرَ أَوْ الْعَصْرَ فَهُوَ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ. وَقَدْ ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ الصَّلَاةَ تَجِبُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَالصَّبِيُّ إذَا صَلَّى فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ ثُمَّ بَلَغَ آخِرَهُ أَجْزَأَهُ، وَلَوْ بَلَغَ فِي وَسَطِ الْوَقْتِ مَعَ أَنَّهُ لَا تَتَحَقَّقُ الْفَرْضِيَّةُ فِي حَقِّهِ. فَإِنْ قِيلَ مَنْ نَوَى الصَّلَاةَ فَقَدْ تَضَمَّنَتْ نِيَّتُهُ الْقُرْبَةَ قُلْنَا: إذَا صَحَّتْ الصَّلَاةُ بِالْإِجْمَاعِ وَاسْتَحَالَ نِيَّةُ التَّقَرُّبُ فَتُلْغَى تِلْكَ النِّيَّة. وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ تَعَلَّقَتْ نِيَّةُ التَّقَرُّبِ بِبَعْضِ أَجْزَاءِ

الصَّلَاةِ مِنْ الذِّكْرِ وَالْقِرَاءَةِ وَمَا لَا يُزَاحِمُ حَقَّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ، فَإِنَّ الْأَكْوَانَ هِيَ الَّتِي تَتَنَاوَلُ مَنَافِعَ الدَّارِ. ثُمَّ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ هَذَا وَعِنْدَهُمْ لَا يُعْلَمُ الْمَأْمُورُ كَوْنُهُ مَأْمُورًا وَلَا كَوْنُ الْعِبَادَةِ وَاجِبَةً قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الِامْتِثَالِ كَمَا سَيَأْتِي؟ فَكَيْفَ يَنْوِي التَّقَرُّبَ بِالْوَاجِبِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ وُجُوبَهُ؟ الْجَوَابُ الثَّانِي، وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ يَنْوِي التَّقَرُّبَ بِالصَّلَاةِ وَيَعْصِي بِالْغَصْبِ. وَقَدْ بَيَّنَّا انْفِصَالَ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ؛ وَلِذَلِكَ يَجِدُ الْمُصَلِّي مِنْ نَفْسِهِ نِيَّةَ التَّقَرُّبِ بِالصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ فِي دَارٍ مَغْصُوبَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَكَنَ وَلَمْ يَفْعَلْ لَكَانَ غَاصِبًا فِي حَالَةِ النَّوْمِ وَعَدَمِ اسْتِعْمَالِ الْقُدْرَةِ، وَإِنَّمَا يَتَقَرَّبُ بِأَفْعَالِهِ وَلَيْسَتْ تِلْكَ الْأَفْعَالُ شَرْطًا لِكَوْنِهِ غَاصِبًا فَإِنْ قِيلَ: هُوَ فِي حَالَةِ الْقُعُودِ وَالْقِيَامِ غَاصِبٌ بِفِعْلِهِ، وَلَا فِعْلَ لَهُ إلَّا قِيَامُهُ وَقُعُودُهُ، وَهُوَ مُتَقَرِّبٌ بِفِعْلِهِ فَيَكُونُ مُتَقَرِّبًا بِعَيْنِ مَا هُوَ عَاصٍ بِهِ. قُلْنَا: هُوَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُسْتَوْفٍ مَنَافِعَ الدَّارِ غَاصِبٌ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ أَتَى بِصُورَةِ الصَّلَاةِ مُتَقَرِّبٌ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي صُورَةِ الْخِيَاطَةِ، إذْ قَدْ يُعْقَلُ كَوْنُهُ غَاصِبًا وَلَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ مُصَلِّيًا، وَيُعْلَمُ كَوْنُهُ مُصَلِّيًا وَلَا يُعْلَمُ كَوْنُهُ غَاصِبًا. فَهُمَا وَجْهَانِ مُخْتَلِفَانِ وَإِنْ كَانَ ذَاتُ الْفِعْلِ وَاحِدًا. الْجَوَابُ الثَّالِثُ: هُوَ أَنَّا نَقُولُ: تُنْكِرُونَ عَلَى الْقَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ حَكَمَ بِأَنَّ الْفَرْضَ يَسْقُطُ عِنْدهَا لَا بِهَا بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ؟ فَسَلِمَ أَنَّهُ مَعْصِيَةٌ؛ وَلَكِنَّ الْأَمْرَ لَا يَدُلَّ عَلَى الْإِجْزَاءِ إذَا أَتَى بِالْمَأْمُورِ وَلَا النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْإِجْزَاءِ، بَلْ يُؤْخَذُ الْإِجْزَاءُ مَنْ دَلِيلٍ آخَرَ كَمَا سَيَأْتِي. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ اجْتِهَادِيَّةٌ أَمْ قَطْعِيَّةٌ؟ قُلْنَا: هِيَ قَطْعِيَّةٌ وَالْمُصِيبُ فِيهَا وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ مَنْ صَحَّحَ أَخَذَ مِنْ الْإِجْمَاعِ وَهُوَ قَاطِعٌ، وَمَنْ أَبْطَلَ أَخَذَ مِنْ التَّضَادِّ الَّذِي بَيْنَ الْقُرْبَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَيُدَّعَى كَوْنُ ذَلِكَ مُحَالًا بِدَلِيلِ الْعَقْلِ فَالْمَسْأَلَةُ قَطْعِيَّةٌ. فَإِنْ قِيلَ: ادَّعَيْتُمْ الْإِجْمَاعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَقَدْ ذَهَبَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إلَى بُطْلَانِ هَذِهِ الصَّلَاةِ وَبُطْلَانِ كُلِّ عَقْدٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ حَتَّى الْبَيْعَ فِي وَقْتِ النِّدَاءِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَكَيْفَ تَحْتَجُّونَ عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاعِ؟ قُلْنَا: الْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ، إذْ عَلِمْنَا أَنَّ الظَّلَمَةَ لَمْ يُؤْمَرُوا بِقَضَاءِ الصَّلَوَاتِ مَعَ كَثْرَةِ وُقُوعِهَا مَعَ أَنَّهُمْ لَوْ أُمِرُوا بِهِ لَانْتَشَرَ، وَإِذَا أُنْكِرَ هَذَا فَيَلْزَمُهُ أَظْهَرُ مِنْهُ وَهُوَ أَنْ لَا تَحِلُّ امْرَأَةٌ لِزَوْجِهَا وَفِي ذِمَّتِهِ دَانِقٌ ظَلَمَ بِهِ، وَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَلَا صَلَاتُهُ وَلَا تَصَرُّفَاتُهُ، وَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ التَّحْلِيلُ بِوَطْءِ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ؛ لِأَنَّهُ عَصَى بِتَرْكِ رَدِّ الْمَظْلِمَةِ وَلَمْ يَتْرُكْهَا إلَّا بِتَزْوِيجِهِ وَبَيْعِهِ وَصَلَاتِهِ وَتَصَرُّفَاتِهِ، فَيُؤَدِّي إلَى تَحْرِيمِ أَكْثَرِ النِّسَاءِ وَفَوَاتِ أَكْثَرِ الْأَمْلَاكِ، وَهُوَ خَرْقٌ لِلْإِجْمَاعِ قَطْعًا وَذَلِكَ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ [مَسْأَلَةٌ كَمَا يَتَضَادُّ الْحَرَامُ وَالْوَاجِبُ فَيَتَضَادُّ الْمَكْرُوهُ وَالْوَاجِبُ] ُ كَمَا يَتَضَادُّ الْحَرَامُ وَالْوَاجِبُ فَيَتَضَادُّ الْمَكْرُوهُ وَالْوَاجِبُ فَلَا يَدْخُلُ مَكْرُوهٌ تَحْتَ الْأَمْرِ حَتَّى يَكُونَ شَيْءٌ وَاحِدٌ مَأْمُورًا بِهِ مَكْرُوهًا، إلَّا أَنْ تَنْصَرِفَ الْكَرَاهِيَةُ عَنْ ذَاتِ الْمَأْمُورِ إلَى غَيْرِهِ كَكَرَاهِيَةِ الصَّلَاةِ فِي الْحَمَّامِ وَأَعْطَانِ الْإِبِلِ وَبَطْنِ الْوَادِي وَأَمْثَالِهِ، فَإِنَّ الْمَكْرُوهَ فِي بَطْنِ الْوَادِي التَّعَرُّضُ لِخَطَرِ السَّيْلِ وَفِي الْحَمَّامِ التَّعَرُّض لِلرَّشَّاشِ أَوْ لِتَخَبُّطِ الشَّيَاطِينِ وَفِي أَعْطَانِ الْإِبِلِ التَّعَرُّضُ لِنِفَارِهَا وَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَشْغَلُ الْقَلْبَ فِي الصَّلَاةِ. وَرُبَّمَا شَوَّشَ الْخُشُوعُ بِحَيْثُ لَا يَنْقَدِحُ صَرْفُ الْكَرَاهَةِ عَنْ الْمَأْمُورِ إلَى مَا هُوَ فِي جِوَارِهِ وَصُحْبَتِهِ لِكَوْنِهِ خَارِجًا عَنْ مَاهِيَّتِهِ وَشُرُوطِهِ وَأَرْكَانِهِ، فَلَا يَجْتَمِعُ الْأَمْرُ وَالْكَرَاهِيَةُ؛ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] لَا يَتَنَاوَلُ طَوَافَ الْمُحْدِث الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِهِ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ فِي مَسْأَلَةِ الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ انْفَصَلَ

عَنْ الْمَأْمُورِ، إذْ الْمَأْمُورُ بِهِ الصَّلَاةُ وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ الْغَصْبُ وَهُوَ فِي جِوَارِهِ. [مَسْأَلَةٌ الْمُتَّفِقُونَ عَلَى صِحَّةِ الصَّلَاة فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ] ِ يَنْقَسِمُ النَّهْيُ عِنْدَهُمْ إلَى مَا يَرْجِعُ إلَى ذَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَيُضَادُّ وُجُوبُهُ، وَإِلَى مَا يَرْجِعُ إلَى غَيْرِهِ فَلَا يُضَادُّ وُجُوبُهُ، وَإِلَى مَا يَرْجِعُ إلَى وَصْفِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لَا إلَى أَصْلِهِ. وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْقِسْمِ الثَّالِثِ؛ وَمِثَالُ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ ظَاهِرٌ، وَمِثَالُ الْقِسْمِ الثَّالِثِ يُوجِبُ الطَّوَافَ وَيَنْهَى عَنْ إيقَاعِهِ مَعَ الْحَدَثِ، أَوْ يَأْمُرُ بِالصَّوْمِ وَيَنْهَى عَنْ إيقَاعِهِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ. فَيُقَالُ: الصَّوْمُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ صَوْمٌ مَشْرُوعٌ مَطْلُوبٌ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ وَاقِعٌ فِي هَذَا الْيَوْمِ غَيْرُ مَشْرُوع، وَالطَّوَافُ مَشْرُوعٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ، وَلَكِنَّ وُقُوعَهُ فِي حَالَةِ الْحَدَثِ مَكْرُوهٌ. وَالْبَيْعُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بَيْعٌ مَشْرُوعٌ وَلَكِنْ مِنْ حَيْثُ وُقُوعُهُ مُقْتَرِنًا بِشَرْطٍ فَاسِدٍ أَوْ زِيَادَةٍ فِي الْعِوَضِ فِي الرِّبَوِيَّاتِ مَكْرُوهٌ، وَالطَّلَاقُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ طَلَاقٌ مَشْرُوعٌ وَلَكِنْ مِنْ حَيْثُ وُقُوعُهُ فِي الْحَيْضِ مَكْرُوهٌ، وَحِرَاثَةُ الْوَلَدِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا حِرَاثَةٌ مَشْرُوعَةٌ وَلَكِنَّهَا مِنْ حَيْثُ وُقُوعُهَا فِي غَيْرِ الْمَنْكُوحَةِ مَكْرُوهَةٌ، وَالسَّفَرُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَفَرٌ مَشْرُوعٌ وَلَكِنْ مِنْ حَيْثُ قَصْدُ الْإِبَاقِ بِهِ عَنْ السَّيِّدِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، فَجَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ هَذَا قِسْمًا ثَالِثًا، وَزَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ فَسَادَ الْوَصْفِ لَا انْتِفَاءَ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الْوَصْفِ لَا إلَى الْأَصْلِ وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَلْحَقَ هَذَا بِكَرَاهَةِ الْأَصْلِ وَلَمْ يَجْعَلْهُ قِسْمًا ثَالِثًا، وَحَيْثُ نَفَذَ الطَّلَاقُ فِي الْحَيْضِ صُرِفَ النَّهْيُ عَنْ أَصْلِهِ وَوَصْفِهِ إلَى تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ أَوْ لُحُوقِ النَّدَمَ عِنْدَ الشَّكِّ فِي الْوَلَدِ وَأَبُو حَنِيفَةَ حَيْثُ أَبْطَلَ صَلَاةَ الْمُحْدِثِ دُونَ طَوَافِ الْمُحْدِثِ زَعَمَ أَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ دَلَّ عَلَى كَوْنِ الطَّهَارَةِ شَرْطًا فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا صَلَاةَ إلَّا بِطُهُورٍ» فَهُوَ نَفْيٌ لِلصَّلَاةِ لَا نَهْيٌ وَفِي الْمَسْأَلَةِ نَظَرَانِ أَحَدُهُمَا: فِي مُوجِبِ مُطْلَقِ النَّهْيِ مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَذَلِكَ نَظَرٌ فِي مُقْتَضَى الصِّيغَةِ، وَهُوَ بَحْثٌ لُغَوِيٌّ نَذْكُرُهُ فِي كِتَاب الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي. وَالنَّظَرُ الثَّانِي نَظَرٌ فِي تَضَادِّ هَذِهِ الْأَوْصَافِ وَمَا يُعْقَلُ اجْتِمَاعُهُ وَمَا لَا يُعْقَلُ إذَا وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ مِنْ الْقَائِلِ، وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يُعْقَلُ أَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ