Translate

السبت، 19 فبراير 2022

{تابع}ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/فصل/+المجلد الأول/الجزء الأول/الباب السابع +المجلد الأول/الجزء الأول/فصل: في هل على النافي دليل أو لا؟+/المجلد الأول/الجزء الأول/الباب الثامن/+المجلد الأول/الجزء الأول/الباب التاسع +



ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/فصل
فصل فيمن لم يبلغه الأمر من الشريعة
قال علي بن أحمد : اختلف الناس فيمن لم يبلغه الحكم الوارد من الله تعالى في الشريعة في خاص منها أو في جميعها .
فقالت طائفة : كل أحد مأمور منهي ساعة ورود الأمر والنهي ، إلا أنه معفو عنه غير مؤاخذ بما لم يبلغه من الأمر والنهي .
وقالت طائفة : إن الله تعالى لم يأمر قط بشيء من الدين إلا بعد بلوغ الأمر إلى المأمور ، وكذلك النهي ولا فرق ، وأما قبل انتهاء الأمر أو النهي إليه فإنه غير مأمور ولا منهي .
قال علي بن أحمد : وبهذا نقول لقول الله عز وجل : {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } : {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } .
ولإِخبار رسول الله ﷺ : أنه لا يسمع به يهودي أو نصراني فلم يؤمن به إلا وجبت له النار . حدثنا أحمد بن محمد بن عبدالله الطلمنكي ، ثنا ابن مفرج ، ثنا محمد بن أيوب الرقي ، أنبا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار ، ثنا محمد بن المثنى ، ثنا معاذ بن هشام الدستوائي ، ثنا أبو علي قتادة عن الأسود بن سريع/ عن النبي ﷺ قال : «يُعْرَضُ عَلَى الله تَبَارَكَ وَتَعَالى الأَصَمُّ الَّذِي لا يَسْمَعُ شَيْئاً ، وَالأَحْمَقُ وَالهَرِمُ ، وَرَجُلٌ مَاتَ فِي الفَتْرَةِ ، فَيَقُولُ الأَصَمُّ : رَبّ جَاءَ الإِسلامُ وَمَا أَسْمَعُ شَيْئاً ، وَيَقُولُ الأَحْمَقُ : رَبّ جَاءَ الإِسلامُ وَمَا أَعْقِلُ شَيْئاً ، وَيَقُولُ الَّذِي مَاتَ فِي الفَتْرَةِ : رَبّ مَا أَتَانِي لَكَ مِنْ رَسُولٍ ، فَيَأْخُذُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنّهُ ، فَيُرْسِلُ الله تَعَالى إِلَيْهِمْ : ادْخُلُوا النَّار ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ دَخَلُوها لكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْداً وَسَلاماً» .
وبه إلى قتادة عن الحسن البصري ، عن أبي رافع عن أبي هريرة بمثله وزاد في آخره: «وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْها دَخَلَ النَّارَ» .
فصح كما أوردنا أنه لا نذارة إلا بعد بلوغ الشريعة إلى المنذر ، وأنه لا يُكلف أحد ما ليس في وسعه، وليس في وسع أحد علم الغيب في أن يعرف شريعة قبل أن تبلغ إليه ، فصح يقيناً أن من لم تبلغه الشريعة لم يكلفها .
واحتجت الطائفة الأخرى بقول رسول الله ﷺ : «إِذَا اجْتهَدَ الحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» فسماه ﷺ مخطئاً ولا يكون المخطىء إلا من خالف ما أمر به .
قال أبو محمد : وهذا الخبر لا حجة لهم فيه ، بل هو حجة لنا وبه نقول ، لأنه قد يكون مخطئاً من لا يوافق الحق ، وإن لم يكن مأموراً بالعمل به كإنسان سمى آخر بغير اسمه غير عامد ، فهذا مخطىء ولا أمر يلزمه ها هنا ، وكمن أنشد بيت شعر فوهم فيه ، فهو مخطىء بلا شك ، وهذا المجتهد مخطىء بلا شك إذا حكم بخلاف ما ورد به الحكم من عند الله عز وجل ، وأدخل في الدين ما ليس منه ، وإن كان غير مأمور بالحكم بما لم يبلغه فإنه منهي عن الحكم بما ظن أنه حق ، وهو غير حق ، وأما إذا بلغه فإنه مأمور به وإن نسيه لأنه قد بلغه ولزمه .
فإن قال قائل : لو كان ما قلتم لكان الدين لازماً لبعض الناس لا لكلهم .
قلنا وبالله التوفيق : ليس كذلك بل الدين لازم للجن والإِنس إذا بلغهم ، نعم ولكل من لم يخلق بعد إذا خُلق وبلغه وبلغ حد التكليف لا قبل ذلك ، وأنتم لا تخالفوننا في الشريعة أنها لا تلزم من لم يخلق قبل أن يخلق ، ولا من لم يبلغ قبل أن يبلغ .
فإن قالوا : فكيف حال من لم يبلغه الأمر ، أهو مأمور بما هو عليه من خلاف ما أمره الله تعالى به مما لم يبلغه ، ولا سبيل إلى قسم ثالث ؟
فإن قلتم : هو مأمور بما أمره الله تعالى به ، وإن لم يبلغه فهو قولنا ؛ وإن قلتم : هو غير مأمور بما أمره الله تعالى به ، أو أنه مأمور بما هو عليه من خلاف ما أمر الله تعالى به كان ذلك شغباً بشيعاً .
قلنا وبالله التوفيق : لسنا نقول بواحد من هذين الجوابين لكنا نقول : هو غير مأمور في ذلك بشيء أصلاً حتى يبلغه ، وحاله في ذلك كحال من لم يبلغ حد التكليف حتى يبلغ .
فإن قالوا : فكيف حكمه إن خالف ما يرى أنه الحق عامداً فوافق بذلك ما أمر الله تعالى به .
قلنا لهم : هذا السؤال لازم لكم ولنا .
فأما نحن فنقول وبالله التوفيق : إنه ليس في ذلك مطيعاً ولا عاصياً ، لكنه مستسهل لمخافة الحق ، هام بترك الحق ، إلا أنه لم يفعل ذلك بعد . هذه صفته على الحقيقة إلا أنه لم يخالف بفعله ذلك حقًّا ولا واقع باطلاً .
قال أبو محمد : أهل هذه الصفة ينقسمون ثلاثة أقسام :
فقسم شهدوا ورود الأمر من الله تعالى ثم نسخ ولم يشهدوا الناسخ ، وليس أحد من هؤلاء موجوداً بعد موت رسول الله ﷺ ، لأن النسخ بطل بعد موته ﷺ واستقرت الشرائع .
وقسم ثان : علموا المنسوخ ولم يبلغهم الناسخ ، أو بلغهم المجمل ولم يبلغهم المخصص .
وقسم ثالث : بلغهم الناسخ والمنسوخ والمجمل والخاص ثم نسوا الخاص والناسخ ، أو تأولوا فيهما تأويلاً قاصدين إلى الحق .
فإما من كان في عصر رسول الله ﷺ فبلغه المنسوخ ولم يبلغه الناسخ ، فهؤلاء خاصة لا يسقط عنهم الأمر بالمنسوخ حتى يبلغ إليهم الناسخ ، لأنه قد لزمهم الذي بلغهم بيقين لا شك فيه ، ولا يسقط اليقين إلا بيقين .
برهان هذا : أنه قد صح وثبت عند جميع أهل العلم أن المسلمين كانوا بأرض الحبشة ، وبأقصى جزيرة العرب ، فنزل الأمر من الله تعالى على رسوله ﷺ ما لم يكن فيه قبل ذلك أمر كالصوم والزكاة ، وتحريم بعض ما لم يكن حراماً كالحق ، وإمساك المشركات وغير ذلك . فلا شك في أنه لم يأثم أحد منهم بتماديه على ما لم يعلم نزول الحكم فيه .
وكذلك كان ينزل الأمر مما تقدم فيه حكم بخلاف هذا النازل كتحويل القبلة عن بيت المقدس وغير ذلك ، فلا شك أيضاً في أنهم لم يأثموا ببقائهم على العمل بالمنسوخ ، بل كان فرضاً عليهم الصلاة كما أمروا وعرفوا حتى يبلغهم نسخه هذا ما لا يختلف فيه اثنان فصح قولنا ، والحمد لله يقيناً لا مجال للشك فيه .
وهكذا بقي أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أزيد من عشرة أعوام مقرين لليهود والنصارى والمجوس بجزيرة العرب ، إذ لم يبلغهما نهي النبي ﷺ عن إقرارهم فيها ، فلم يختلف أحد في أنهما لم يعصيا بذلك ، بل فعلا ما أمرا به .
ولو قال قائل : إن هذا إجماع صحيح متيقن لما بعد عن الصدق ، لأنه لم ينكر ذلك عليهما أحد من الصحابة ، وليس منهم أحد خفي عليه إقرارهما لهم قبل بلوغ النهي إليهما ، وبالله تعالى التوفيق .
فإن قيل : فهلا قلتم إنه سقط عنهم استقبال بيت المقدس ، ولم يؤمروا باستقبال الكعبة بقول الله تعالى : {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } .
قلنا : لا لما قد ذكرنا من أن الحكم لا يلزم حتى يبلغ ، وإنما خاطب الله بهذا الأمر من بلغه ومن لم يخلق إذا خلق وبلغه ، ولا دليل على سقوط ما قد ثبت عليهم من استقبال بيت المقدس إلا ببلوغ الأمر إليهم بتركه .
قال أبو محمد : ولو كانوا مأمورين باستقبال الكعبة حين نزول الأمر من قبل أن يبلغهم لكان من أقدم منهم فصلى إلى الكعبة عامداً قبل أن يبلغهم الأمر جائز الصلاة ، وهذا باطل ، وأما لو أن إنساناً اليوم خفيت عليه دلائل القبلة ، فاستدل فأداه استدلاله إلى جهة ما ، وقطع بذلك ثم تعمد الصلاة إلى خلاف تلك الجهة ، فلما سلم إذا به الى القبلة فإن صلاته باطلة ، وهو بذلك فاسق ، لأنه تعمد العمل في صلاته بما ليس عالماً أنه أمر به فيها ، فقصد العمل بما يرى أنه ليس من صلاته ، فقد قصد إفساد صلاته فبطلت بذلك .
قال أبو محمد : وأما من كان بعد رسول الله ﷺ فلم يبلغه الناسخ ولا الخالص ، فإنه أيضاً مأمور بما يعتقد من المنسوخ ومن عموم المخصوص ، لأن الله تعالى لم يكلفه قط خلاف ذلك ، بل افترض عليه خلافاً لذلك طاعة أمره تعالى جملة ، والمنسوخ من أمره فلا شك، فهو لازم لكل من بلغه بعموم الأمر المذكور حتى يبلغه نسخه وبالله تعالى التوفيق .
ومن المحال الممتنع أن يكون الله تعالى يورد على عبده أمراً يأمره به ثم ينهاه عنه ولا يعلمه بنهيه عنه ، وهو تعالى قد تكفل لنا بالبيان ، قال عز وجل {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
فلو ورد أمر الله تعالى ثم نهاه عنه ، ولم يبلغه نهيه لكان ذلك إضلالاً والتباساً ، ولكان الرشد غير مبين من الغي وحاشا لله من هنا يقيناً.
وأما من بلغه الناسخ والخاص ، ثم نسيهما أو تأول فيهما بمبلغ طاقته فهو مأمور بما بلغه من ذلك ، لأنه منذ بلغه منهي عما هو عليه ، لأنه قد بلغه النهي إلا أنه معذور مأجور مرة ، مأجور بقصده الخير ، ومعذور بجهله ونسيانه ، فهذا حكم هذا الباب بالبرهان الصحيح، وبالله تعالى التوفيق .
فإن احتج محتج بحديث رسول الله ﷺ إذ فرضت الصلاة ليلة الإِسراء ، وفيه قول موسى عليه السلام : «كَمْ فَرَضَ الله عَلَى أُمَّتِكَ؟ قَالَ خَمْسِينَ صَلاةً أَوْ نَحْوَها» فأخبر النبيان عليهما السلام أن الله تعالى فرض علينا قبل أن يبلغنا خمسين صلاة .
قلنا : إنما معنى هذا أنه متى بلغنا الأمر لزمنا .
وبرهان ذلك : أن ذلك لا يلزم من لم يخلق حتى يخلق ، ولا من لم يبلغ حتى يبلغ ، ولا من لم يأت عليه وقت الصلاة حتى يأتي وقتها . هذا ما لا خلاف فيه . فصح أن الفرض المذكور إنما هو بعد الخلق وبعد البلوغ ، وبعد انتهاء الشرع إليه ، وبعد دخول الوقت : وبهذا تتألف الأخبار كلها ، وبالله تعالى التوفيق .
برهان ذلك : أنه لم يعص قط أحد من المسلمين بتركه الخمسين صلاة ، ولو وجبت وتركها تارك لكان عاصياً لله تعالى ، فصح أنه يلزمنا إلا ما بلغنا من الدين ، وأما من بلغ إليه خبر غير صحيح عن النبي ﷺ وصححه له متأول أو جاهل أو فاسق لم يعلم هو بفسقه ؛ فهذا هو مبلغ ، فهو إن عمل بما بلغه من ذلك الباطل فمعذور بجهله لا إثم عليه ، لأنه لم يتجانف لإِثم ، والأعمال بالنيات ، فهو مجتهد مأجور مرة في قصده بنيته إلى الخير ، وإلى طاعة الله ورسوله ﷺ ، فلو خالف ما بلغه من ذلك فإنما عليه إثم المستسهل ، بخلاف الرسول ، إما بعلمه فقط فهو فاسق ، وإما بنيته فهو كافر، وبالله تعالى التوفيق .
=====
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/الباب السابع
في أصول الأحكام في الديانة وأقسام المعارف وهل على النافي دليل أو لا ؟
قال علي : قد ذكرنا فيما خلا من هذا الكتاب وفي غيره من كتبنا :
أنه لا طريق إلى العلم أصلاً إلاَّ من وجهين :
أحدهما ما أوجبته بديهة العقل ، وأوائل الحس .
والثاني مقدمات راجعة إلى بديهة العقل وأوائل الحس .
وقد بيّنا كل ذلك في غير هذا المكان ، فأغنى عن ترداده ؛ وقد بينا أيضاً أن بالمقدمات الصحاح الضرورية المذكورة علمنا صحة التوحيد ، وصحة نبوة محمد وصدقه في كل ما قال ، وأن القرآن الذي أتى به هو عهد الله تعالى إلينا ، فلما كان فيما ذكر لنا عن ربه تعالى ، وجوب أشياء ألزمناها اجتهاد هذا الإِنسان لم يكلفه الله تعالى أكثر ما في وسعه ؛ والانتهاء عن أشياء منعنا منها ووعد بالنعيم الأبدي من أطاعه ، وبالعذاب الشديد من عصاه ، وتيقَّنا وجوب صدقه في ذلك لزمنا الانقياد لما أمرنا له بالانقياد له ، وتيقنّا صحة كل ما ذكر لنا ضرورة ولا محيد للنفس عنها بما نقلته الكواف مما أظهر من المعجزات التي لا يقدر عليها إلا الخالق الأول تعالى ، والشاهد لنبيه بها على صحة ما أتى به عنه تعالى ، فوجب علينا تفهم القرآن والأخذ بما فيه ، فوجدنا فيه التنبيه على صحة ما كنا متوصلين به إلى معرفة الأشياء على ما هي عليه من مدارك العقل والحواس ، ولسنا نعني بذلك أننا نصحح بالقرآن شيئاً كنا نشك فيه من صحة ما أدركه العقل والحواس ، ولو فعلنا ذلك لكنا مبطلين للحقائق ، ولسلكنا برهان الدور الذي لا يثبت به شيء أصلاً .
وذلك أننا كنا نسأل فيقال لنا : بم عرفتم أن القرآن حق ؟ فلا بد أن نقول بمقدمات صحاح يشهد لها العقل والحس .
ثم يقال لنا : بماذا عرفتم صحة العقل والحس المصححين لتلك المقدمات ؟ فكنا نقول بالقرآن ، فهذا استدلال فاسد مبطل للحقائق .
ولكنا قلنا : إن في القرآن التنبيه لأهل الجهل والغفلة وحسم شغب أهل العناد ، وذلك أن قوماً من أهل ملتنا يبطلون حجج العقول ويصححون حجج القرآن فأريناهم أن في القرآن إبطال قولهم ، وإفساد مذاهبهم ، وأن الله تعالى قد علم أن سيكون في العالم أمثالهم ، فأخبرنا بما يبطل به شغبهم ، ويزيل شكوكهم ، كما قال تعالى : {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ }
فمما أمرنا فيه تعالى باستعمال دلائل العقل والحواس قوله تعالى : {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } وصدق الله تعالى ما شكره من إبطال دلائل سمعه وبصره وعقله .
وقال تعالى : {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ } .
وذمّ تعالى من لم يستعمل دلائلها ، فقال حاكياً عن قوم معذبين ، ولإعراضهم عن الاستدلال المؤدي الى معرفة الحقائق ، قال الله تعالى : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * وَللَّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } إلى قوله : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * وَللَّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } وقال تعالى حاكياً عن مثلهم : {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } فصدقهم الله عز وجل في قولهم ذلك فقال تعالى : {فَاعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ } وقال تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِه مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } فذم تعالى من لم ينتفع بما أعطاه من الحواس والعقل .
قال أبو محمد : أترى هؤلاء المقرين على أنفسهم أنهم كانوا لا يسمعون ولا يعقلون ، ولو سمعوا أو عقلوا ما دخلوا النار، أكانت صمخ آذانهم ذات آفات مانعة من تأدية الأصوات ؟ أو كانوا جاهلين بأمور دنياهم وأحكام حرثهم وغراستهم ؟ والقيام على مواشيهم ونفقات أموالهم وإنمائها ، وبنيان منازلهم وعمارة بساتينهم ، وتدبير متاجرهم وصناعاتهم ، وحفظ أموالهم ، وطلب الجاه والرياسة ؟ كلا والذي عذبهم وأخزاهم وذمهم ؟ بل كانوا أعلم بذلك كله ، وأشد اهتبالاً به ، وأشغل نفوساً فيه ، وأبصر لنموه وتكثيره وحياطته من أهل الفضل ، المقتصرين من ذلك مما يضيع العيال والجسم بتركه أو ما جاءهم من ذلك على ما لا بد منه عفواً ، وكان غير شاغل لهم عما هو آكد عليهم ، المقبلين على طلب معرفة الحقائق ، والوقوف على العلم والعمل ، الموصلين إلى معرفة الآخرة والسعادة في دار البقاء في الجنة التي وعدها الله تعالى أولياءه والمبعدين من الهلاك والقرار في دار العذاب في النار التي وعدها الله عز وجل لأعدائه المشتغلين بذلك عما تهافت عليه أهل الجهل والنقصان .
كما ثنا عبدالله بن يوسف بن نامي ، عن أحمد بن فتح ، عن عبدالوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد ، عن أحمد بن علي ، عن مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد ، وكلاهما عن أسود بن عامر قال : ثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة وثابت البناني : هشام عن أبيه عن عائشة ، وثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ قال : «أَنْتُمْ أَعْلَمْ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ» في حديث قوله ﷺ في تلقيح النخل فتركوه فخرج شيصاً ، ولكن هؤلاء المعذبون أضربوا عن استعمال السمع والبصر ، واللمس والذوق الشم ، والعقل في الاستدلال على الخالق تعالى ، ولم يقرب منه من عقد وقول وعمل وصرفوا كل ذلك في حطام فان ، لا يجدي ولا يغني، بل يثقل ويندم ، وبالله تعالى التوفيق .
قال أبو محمد : ووجدنا في القرآن إلزامنا الطاعة لما أمرنا به ربنا تعالى فيه ، ولما أمرنا نبيه ، مما نقله عنه الثقات ، أو جاء عنه بتواتر أجمع عليه جميع علماء المسلمين على نقله عنه ﷺ ، فوجدناه تعالى قد ساوى بين هذه الجمل الثلاث في وجوب طاعتها علينا ، فنظرنا فيها فوجدنا منها جملاً إذا اجتمعت قام منها حكم منصوص على معناه ، فكان ذلك كأنه وجه رابع ، إلا أنه غير خارج عن الأصول الثلاثة التي ذكرنا وذلك نحو قوله ﷺ : {كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ} فأنتج ذلك كل مسكر حرام فهذا منصوص على معناه نصاً جلياً ضرورياً . لأن المسكر هو الخمر ، والخمر هي المسكر ، والخمر حرام ، فالمسكر الذي هو هي حرام.
ومثل قوله تعالى : {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } .
وقد تيقنا بالفعل الذي به علمنا الأشياء على ما هي عليه أن كل معدود فهو ثلث وثلثان ، فإذا كان للأم الثلث فقط وهي والأب وارثان فقط فالثلثان للأب ، وهذا علم ضروري لا محيد عنه للعقل، ووجدنا ذلك منصوصاً على المعنى وإن لم ينص على اللفظ .
ومثل إجماع المسلمين على أن الله تعالى حكم بأن دم زيد حرام لإسلامه ثم قال قائل : قد حل دمه فقلنا : قد تيقنا بالنص وجوب الطاعة للإجماع ، وقد صح نقل الإجماع على أن دمه حرام ، فلا يجوز لنا خلاف ذلك إلا بنص منقول بالثقات أو بتواتر أو بإجماع ناقل لنا.
فهذا منصوص على معناه.
ومثل أن يدعي زيد على عمرو بمال فنقول : إن الله تعالى نص على إيجاب اليمين على عمرو ، لأن النص قد جاء بإيجاب اليمين على من ادعي عليه ، وعمرو مدعى عليه فقد أوجب النص اليمين على عمرو ، فلا سبيل إلى معرفة شيء من أحكام الديانة أصلاً إلا من أحد هذه الوجوه الأربعة ، وهي كلها راجعة إلى النص، والنص معلوم وجوبه ، ومفهوم معناه بالعقل على التدريج الذي ذكرناه .
وقد ادعى قوم : أن من الشرائع ما لا سبيل في القدرة إلى تغييره ، فأتوا بأمر عظيم ، وأدى قولهم هذا الفاسد إلى أن ربهم تعالى مضطر إلى الأمر بما أمر من ذلك : فمن التزم منهم ما توجبه مقدمته الفاسدة كفر ، ومن جبن عن التزامه تناقض وقضى بفساد معتقده الذي هو ثابت عليه ، إلا أنهم استعظموا أن يطلقوا ما يوجبه مذهبهم فحسنوه بعبارة كنوا بها عنه فقالوا : لا سبيل في العقل إلى تغييره .
قال أبو محمد : والعقل لا يوجب على الباري تعالى حكماً ، بل الباري تعالى خالق العقل بعد أن لم يكن ، ومرتب له وفيه ما قد رتب مما لو شاء أن يخترعه ويرتبه على خلاف ذلك لفعل . وإنما العقل مفهم عن الله تعالى مراده ، ومميز للأشياء التي قد رتبها الباري تعالى على ما هي عليه فقط .
فقال هؤلاء : إن الكفر والظلم لا يتوهم جواز استباحته .
قال أبو محمد : ولا دليل على ما ذكروا، بل قد كان ممكناً أن يأمرنا تعالى بالكفر به وبجحده وبعبادة الأوثان وبالظلم ، ولكنه تعالى قد أخبرنا أنه لا يفعل ذلك فعلمنا أن ذلك لا يكون أبداً ، ليس لأنه ممتنع منه عز وجل لو شاءه ، ولا أنه تعالى عاجز عن ذلك لو أراده ، ولكن لأنه لا يقول إلا الصدق ، وقد أخبرنا أن ذلك لا يكون ، وأنه لا يرضى لنا الكفر ، ولا يأمر أن نتخذ إلهين اثنين ، فلما أخبرنا بذلك منعنا من كونه ، كما منعنا أن يأتي رسول بعد محمد ﷺ وكما منعنا من عمارة مكان قفر قد رأيناه غير معمور إلى وقتنا هذا ، ومن خلاء مدينة قد عهدناها معمورة إلى وقتنا هذا ، وقد كان في الممكن خلاء تلك المدائن ، وعمران هذا القفر : ولكن الله تعالى لم يرد ذلك إلى الآن . فعلى هذا الوجه منعنا أن يأمر بالكفر به لا على أن العقل مانع من جواز ذلك لو شاءه عز وجل .
قال أبو محمد : وبرهان ذلك أننا واجدون بالمشاهدة أكثر أنواع الحيوان لم تتعبد بالإيمان بالله عز وجل ، ولا ركب فيها التمييز الذي لا يعرف الله عز وجل إلا به فلو شاء تعالى أن يجعل الإنسان غير مأمور لفعل .
ولما كان هنالك شيء يمنعه من ذلك تعالى وجهه ، ولا يوجب عليه فعل ما فعل ولا بد ، وهؤلاء الصبيان الذين بلغوا الأربعة عشر عاماً ولم يشعروا ولم يحتلموا بإجماع أكثر الأمة بالإيمان أمر إلزام ، ولا منهيين عن الكفر نهي تحريم ، فإذا احتلموا لزمهم الإيمان فرضاً ، وحرم عليهم الكفر حتماً ، ولم يكن بين تعريهم من الأوامر والنواهي ، وبين حلولها عليهم إلا نومة لعلها أقل من مقدار شَيّ بيضة ، ولم يزد التمييز الذي كان فيهم في تلك النومة شيئاً . بل هو على حسبه الذي كان عليه قبل أن ينامها ، ولا فرق .
هذا شيء يعلم بالحس والمشاهدة ، يعني تساوي التمييز فيهم في ذينك الوقتين . وهذا شيء قد يشهد النص به ولا خلاف فيه بين جمهور أهل الملة التي وضعنا كتابنا هذا في أحكامهم وعبادتهم ، اختلافهم في معنى براءة من لم يشعر ولم يحتلم ، ولا حاض إن كان امرأة ، ولا بلغ خمسة عشر عاماً من جميع الأوامر الواردة من الله تعالى ولزومها لمن احتلم وبلغ خمسة عشر عاماً مع الاحتلام ، أو حاض إن كان امرأة في هذه السن ، ولا فرق في العقل بين جواز عدم الأمر بالإيمان في كلتا الحالتين المذكورتين ، وبين جواز وجود الأمر به في كلتيهما .
فإن شغب مشغب بتعلم الصبيان الصلاة وضربهم عليها؛ وأراد بذلك غرور الضعفاء المقلدين، فليعلم أنه لا خلاف عند الحاضرين من خصومنا في أن ذلك على سبيل التدريب وتعليم الخير، لا على سبيل الإيجاب لذلك عليهم، وكذلك دعاؤنا إياهم إلى الإسلام .
وبرهان ذلك : أننا لا نقتلهم إن ارتدوا حتى يحتلموا، ولا نقتلهم إن قتلوا، ولا نحدهم إن زنوا، ولا يحرم الميراث وإن ارتد قبل بلوغه من موروثه المسلم.
فإن ادعى مدع : أن البهائم متعبدة ، واختار اللحاق بأحمد بن حابط والخروج عن إجماع المسلمين ، فحسبه مفارقة الإسلام واللحاق بالكفر ، وليس هذا مكان محاجة أهل هذا المذهب ، وقد بينا ذلك في كتاب الفصل . وإنما قصدنا في كتابنا هذا بيان جمل الأحكام فقط فمن أراد أن يقف على هدم ما ذكرنا من الشغب فليقرأ كتابنا المرسوم بكتاب الفصل إن شاء الله تعالى .
قال أبو محمد : فإذ قد بينا أقسام المعارف جملة ، ثم بينَّا أقسام الأصول التي لا يعرف شيء من الشرائع إلا منها ، وأنها أربعة وهي : نص القرآن ، ونص كلام رسول الله ﷺ ، الذي إنما هو عن الله تعالى مما صح عنه ﷺ نقل الثقات أو التواتر ، وإجماع جميع علماء الأمة ، أو دليل منها لا يحتمل إلا وجهاً واحداً ، فلنصف بحول الله وقوته كيف يستعمل المناظران أو المتعلم أو العالم السبيل إلى معرفة الحقائق مما ذكره .
فنقول وبالله تعالى التوفيق : أول ذلك سؤال السائل مسؤوله عن مذهبه في مسألة كذا ، إما مستفهماً أو مناظراً ، فإذا أجابه سأله: ما دليلك على كذا ؟ فإذا أجابه فقد وصلا إلى ميدان المعارضة ، فإن لم يكن هنالك إلا أن يصف كل واحد منهما مذهبه ، ولم يزد المسؤول على ذكر مذهبه فقط ، ولم يأت بدليل فقد سقط وبطل واكتفى بذلك عن تكلف إبطاله ، إذ قد بينا فيما تقدم من كتابنا هذا إبطال كل قول لم يقم عليه دليل ، فإن عارض المسؤول السائل بدليل ، مثل أن يستدل أحدهما على صحة مذهبه بآية ، فيحتج عليه الآخر بآية أخرى ، هي في ظاهرها مخالفة الحكم للتي احتج بها خصمه أو بحديث كذلك .
أو احتج أحدهما بحديث فعارضه الآخر بآية هي ظاهرها مخالفة الحكم لذلك الحديث أو بحديث كذلك . فسنفرد لذلك باباً موعباً في كتابنا هذا إن شاء الله عز جل عند كلامنا في الأخبار، وإن أمدنا الله بمده وقوته فسنفرد لكل هذه الوجوه كتباً مفردة في أشخاص الأحاديث والآي التي ظاهرها التعارض ، ونحن نبين بحول الله وقوته نفي الاختلاف عن كل ذلك وبالله تعالى نعتصم ونتأيد .
وقد ذكر مخالفونا تعارض العلل.
قال أبو محمد : وسنبين في آخر كتابنا هذا إن شاء الله تعالى بطلان العلل في الشرائع بالجملة ، وإن أمدنا الله تعالى بمده وعون من قبله عز وجل فسنفرد في المسائل النظرية ، وهي التي دلائلها نتائج مأخوذة من مقدمات نصية أو إجماعية ديواناً موعباً نتقصى فيه إن شاء الله تعالى الأدلة الصحيحة ، وبطلان علل أصحاب القياس ومفاسدها بالجملة ، وبالله تعالى التوفيق .
ثم رأينا كتابنا المعروف بالإيصال جامع لكل ذلك مغن عن إفراد كتب لكل صنف منها.
قال أبو محمد : وكل من قال بقبول خبر الواحد ، ثم صح عنده خبر عن النبي متكامل الشروط التي بوجودها يصح عنده الخبر جملة. فإن تركه لحديث آخر فهو مجتهد ، إما مخطىء ، وإما مصيب ، وكذلك إن تركه لنص قرآن ، وكذلك إن ترك نص قرآن لحديث آخر ، أو نص قرآن ، إلا أنه إن كان قد ترك في مكان آخر مثل تلك الآية التي أخذ بها الآن أو الحديث الذي أخذ به أو أخذ بمثل الحديث أو الآية اللذين ترك ههنا ، وخالف ترتيب أخذه في المسائل ، فإن كان لم يتنبه لذلك فهو غافل معذور بالجهل ، فإن نبه على ذلك فتمادى على خطأه فهو فاسق لإقراره في مكان ما بأن مثل ذلك العمل الذي استعمل ههنا باطل ، فهو مقدم على الأخذ بما يدري أنه باطل .
وذلك مثل من أخذ بقول رسول الله ﷺ : «لا قَطْعَ إلا فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِداً» وترك ظاهر قول الله تعالى : {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } : ثم إنه ترك قول رسول الله ﷺ : «لا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ والرَّضْعَتَانِ»
وأخذ بظاهر قوله عز وجل : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }
فهذا إذا وقف على تناقض فعله وتمادى عليه فهو فاسق . لأنه في أحد الموضعين مقر بأن ترك ظاهر القرآن للحديث خطأ لا يحل ، وفي الموضع الثاني استعمل ما أقر أنه لا يحل ، فهو مقدم على ما لا يجوز له بإقراره ، فإن علل حديث الرضعتين أريناه في حديث السارق مثل تلك العلل بعينها ، فإن تمادى على الأخذ بأحدهما وترك الآخر ، فهو فاسق متلاعب بدينه .
وإن ترك نصًّا لقياس بعد قيام الحجة عليه بإبطال القياس فهو فاسق أيضاً وإن ترك نصًّا لقول صاحب فمن دونه ، فإن كان يعتقد أن عند ذلك الصاحب علماً عن النبي ﷺ وقامت عليه الحجة ببطلان ذلك، فتمادى ولم يتب فهو فاسق ، فإن كان يعتقد أن لأحد بعد موت النبي ﷺ أن يحرم شيئاً كان حلالاً إلى حين موته ﷺ ، أو يحل شيئاً كان حراماً إلى حين موته ﷺ ، أو يوجب حدًّا لم يكن واجباً إلى حين موته ﷺ ، أو يشرع شريعة لم تكن في حياته ﷺ ، فهو كافر مشرك حلال الدم والمال حكمه حكم المرتد ولا فرق .
وقد ظن قوم مثل هذا في المنع من بيع أمهات الأولاد ، وفي حلّ الخمر، وفي إسقاط ست قراءات كانت على عهد النبي ﷺ مباحة ، فمن لم تقم عليه الحجة في بطلان هذا المعتقد فهو معذور بالجهل . وأما من قامت عليه وتمادى على مذهبه في ذلك فهو كافر مشرك مرتد حلال الدم والمال كما ذكرنا . وسنبين بحول الله وقوته وجوه هذه المسائل الثلاث في كلامنا في الإِجمال من كتابنا هذا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال أبو محمد : وكل ما قلنا فيه إنه يفسق فاعله أو يكفر بعد قيام الحجة عليه ، فهو ما لم تقم عليه الحجة معذور مأجور وإن كان مخطئاً ، وصفة قيام الحجة عليه هو أن تبلغه فلا يكون عنده شيء يقاومها ، وبالله تعالى التوفيق .
قال أبو محمد : والوجه الذي ذكرنا آنفاً ، وهو الذي فيه ظاهر تعارض بين آي وآي ، وبين حديث وحديث ، وبين حديث وآي ، فلسنا نقطع فيه على أننا مصيبون للحق ، ولا أننا علمناه يقيناً ، ولا كنا نقول فيه هذا هو الحق عندنا .
ونبين كل مسألة من ذلك في موضعها إن شاء الله تعالى ، وهذه هي المتشابهات التي أخبر بها النبي ﷺ في قوله : «الحَلالُ بَيِّنٌ والحرام بينٌ وَبَيْنَهُما مُتَشَابِهَاتٌ لا يَعْلَمُها كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ» وليس هذا من المتشابه الذي ذكر الله عز وجل في قوله : {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ }
وسنبين ذلك كله في باب مفرد في آخر كتابنا هذا إن شاء الله تعالى عز وجل.
إلا أننا قاطعون باتوّن على أن علم الحقيقة فيما أشكل علينا موجود عند غيرنا ولا بد لقول الله تعالى : {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
ولقول رسول الله ﷺ: «اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ» . قالوا : اللهم نعم ، قال ﷺ «اللَّهُمَّ اشْهَدْ» .
وأما كل حديث صح عندنا أنه ناسخ ولم يأت له معارض ، وكل آية وردت كذلك لا معارض لها .
أو كل نص من حديث صحيح أو آية عارضهما نص آخر منهما . فإن الزائد في حكمه على الآخر هو الحق المتيقن .
لأنه شرع وارد من عند الله تعالى لا يحل تركه إلا بنص يبين أنه منسوخ أو مخصوص ، فما كان هكذا من النصوص كلها فنحن موقنون بأننا فى اعتقاد موجبها محقون عند الله عز وجل وأن مخالفنا فيها مخطىء عند الله عز وجل . وكل إجماع صح وتيقن على نقله عن النبي ﷺ فنحن قاطعون أيضاً على أننا فيه محقون عند الله عز وجل .
وإن حدث بعد الإجماع اختلاف في فرع من فروع المسألة .
وإن استدلَّ المخالف بحديث مرسل أو نقل ضعيف ، لم نتبعه ولم نقطع على أنه مبطل عند الله عز وجل .
بل نقول : هذا الحق عندنا إلا أن نتيقن أن ذلك الخبر لم يأت قط مسنداً من طريق يصح، فنقطع حينئذ على أنه باطل عند الله تعالى على ما نبين بعد هذا في باب الكلام في الأخبار إن شاء الله تعالى .
فإن لم يحتج في ذلك بشيء من نص ، لكن بتقليد أو قياس ، فنحن قاطعون بأنه مخطىء عند الله تعالى ، وأننا محقون عنده تعالى ، ولكل استدلال ما عدا ما ذكرناه من تقليد صاحب فمن دونه ، أو قياس أو استحسان ، فهو باطل بيقين عند الله عز وجل وبالله تعالى التوفيق .
==============
[أغلق]
* اقرأ * * نزّل * استشهد * شارك في ويكي مصدر *
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/فصل: في هل على النافي دليل أو لا؟
< ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام‏ | المجلد الأول‏ | الجزء الأولاذهب إلى التنقلاذهب إلى البحث
في أصول الأحكام في الديانة وأقسام المعارف وهل على النافي دليل أو لا ؟ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام فصل : في هل على النافي دليل أو لا ؟
المؤلف: ابن حزمفي البيان ومعناه
فصل : في هل على النافي دليل أو لا ؟
قال علي بن أحمد : اختلف الناس في هذا على قسمين :
فطائفة قالت : الدليل على من أوجب شيئاً ، أو ثبت حكماً أو قضية . وليس على النافي دليل .
وقالت طائفة: الدليل يلزم إقامته النافي والموجب معاً.
قال علي: والصحيح من ذلك أنا وجدنا الله تعالى أنكر على من حقق شيئاً بغير علم وأنكر على من كذب بغير علم ، فقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .
فقد حرَّم الله تعالى بنص هذه الآية أن يقول أحد على الله عز وجل شيئاً لا يعلم صحته ، وعلم صحة كل شيء مما دون أوائل العقل وبداءة الحس لا يعلم إلا بدليل. فلزم بهذه الآية من ادعى إثبات شيء أن يأتي عليه بدليل وإلا فقد أتى محرماً عليه .
وقال تعالى : {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ } فأنكر تعالى تكذيب المرء ما لا يعلم أنه كذب، وقال تعالى : {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فأوجب تعالى على كل مدَّع المصدق أن يأتي ببرهان ، وإلا فقوله ساقط، ووجدنا كل ناف مدعياً للصدق في نفيه ما نفى ، ووجدنا كل مثبت مدعياً للصدق في إثباته ما أثبت، فلزم كلتا الطائفتين أن تأتي بالبرهان على دعواها إن كانت صادقة .
قال علي : وأما من احتج من أصحابنا في إسقاط الدليل عن النافي بإيجاب رسول الله ﷺ «البَيِّنةُ عَلَى المُدَّعِي وَاليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» ، فإنما في الأحكام فإنه لا خلاف بين أهل الملة في أنه لا يمين على من أنكر شيئاً في المناظرة في غير الأحكام.
قال علي : فإذا اختلف المختلفان ، فأثبت أحدهما شيئاً ونفاه الآخر ، فعلى كل واحد منهما أن يأتي بالدليل على صحة دعواه كما بيناه آنفاً بحكم كلام الله عز وجل ، فأيهما أقام البرهان صح قوله ، ولا يجوز أن يقيماه معاً لأن الحق لا يكون في ضدين ، ومن الممتنع أن يكون الشيء باطلاً صحيحاً في حال واحدة من وجه واحد ، فإن عجز كلاهما عن إقامة الدليل ، وهذا ممكن ، فحكم ذلك الشيء أن يتوقف فيه فلا يوجب ولا ينفي ، لكن يترك في حد الإِمكان لأنه لو أقام الدليل موجبه ، لكان الشيء موجباً حقاً ، ولو أقام الدليل نافيه لكان الشيء باطلاً منفياً .
فإن لم يقمه واحد منهما قيل في ذلك الشيء هذا ممكن أن يكون حقًّا ، وممكن أن يكون باطلاً إلا أننا لا نقول به ولا نحكم به ولا نقطع على أنه باطل، وهكذا نص قوله تعالى : {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } .
وقد روي عن النبي ﷺ في حديث أهل الكتاب : «لا نُصَدِّقُ وَلا نُكَذِّبُ، وَلَكِنْ نَقُولُ الله أعْلَمُ» .
قال علي : وإنما أوقع أصحابنا في الكلام في هذه المسألة اختلافهم في القياس ، ولا معنى للتطول فيها والشغب ، لأن البراهين على صحة قولنا في إبطال القياس كثيرة جدًّا واضحة ، فلا معنى لمدافعة القائلين به بمثل هذا ، بل نقول لهم علينا البرهان في صحة قولنا بإبطاله ، فإذا أثبتناه سألناكم عن أدلتكم على إثباته ، ولا نقنع بأن نقول إن الشيء أنه باطل فلا معنى لتكلف إقامة الحجة على ضد ما تيقنت صحته ، وإن كان هذا قولا صحيحاً .
ولكنا نقول لهم : هاتوا كل ما تحتجون به في إثباته ، ثم علينا نقضه كله بحول الله تعالى وقوته ، ثقة منا بوضوح الأمر في إبطاله ، وسهولة المأخذ في ذلك ، وأنه ليس من الغامض الخفي لكن من الواضح الجلي ، وقد استوعبنا ذلك ولله الحمد ، في باب الكلام في القياس والعلل من كتابنا هذا ، وفي كتابنا المرسوم بكتاب التقريب أيضاً ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وإحجاجنا لهم بكل ما شغبوا به وزدناهم احتجاجاً بما لم يحتجوا به لأنفسهم ، وبينَّا بطلان كل ما يمكن أن يموه به ذلك مموه ، وبالله تعالى التوفيق .
قال علي : كل أمر ثبت بيقين إما بحس ، وإما ببديهة عقل ، وإما بمقدمات راجعة إليهما مما وجد في نص قرآن أو نص سنة أو إجماع ، ثم ادعى مدع أن ذلك الحكم قد بطل وانتقل ، فعليه الدليل ههنا وليس هذا على الثابت على ما قد صح ، لأن الدليل قد ثبت بصحة قوله ، وما ثبت دليله فالقائل به غير مكلف تحديده في كل وقت ، وهذا شيء يقضي العقل بفساده كمن ادعى أن في الدنيا بلاداً فيها ناس يمشون على أربع لا على رجلين ، ورؤوسهم على أسافلهم . أو ادعى أن في الناس قوماً لهم حاسة سادسة غير حواسنا ، أو ادعى أن فلاناً الذي عهدناه حيًّا مات ، فأراد قسم ميراثه ونكاح نسائه ، أو أن فلاناً طلَّق امرأته التي عهدنا صحة زوجيته معها ، أو أن هذا الرجل الذي عهدنا عدالته قد فسق ، أو أن فلاناً الذي عهدنا فسقه قد تعدل ، أو أن فلاناً الذي عهدناه غير والٍ قد ولي الحكم في بلد كذا ، أو أن فلاناً الذي عهدناه والياً قد عزل ، وأن الله تعالى قد ألزمكم أمر كذا ، أو حرم عليكم أمر كذا ، أو أحل لكم أمراً عهدناه حراماً، أو أسقط عنكم أمراً عهدناه لازماً، فكما ذكرنا من دعوى انتقال حال معلومة فعلى مدعي انتقالها الدليل، ولا تكلف مبطل هذا القول دليلاً على بطلان قول خصمه ، إذا قام الدليل على صحة قوله ، ولا يلزم التكرار للدليل بلا خلاف ما كل ما ذكرنا حاشا مسائل الإِلزام والتحريم والإِحلال والإِسقاط، فخصومنا موافقون لنا على القول بقولنا فيها بلا خلاف، ومستخفون بمن خالفنا .
وأما هذه المسائل الأربعة المذكورة ، فدليلنا على صحة قولنا هو قوله تعالى : {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ } فصح بنص الآية أن ما لم ينزل بنص القرآن وجوبه أو تحريمه فهو ساقط معفو عنه .
وأما بطلان قول من ادَّعى سقوط شيء قد ثبت بنص أو إجماع أو إحلال ما قد حرم بنص أو إجماع ، فقد أبطل ذلك ربنا تعالى بقوله : {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .
وقال تعالى : {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } .
وقال تعالى : {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } .
قال علي : فبيَّن الله تعالى بياناً جليًّا لا إشكال فيه ، أنه لا يحل تحريف كلام الله تعالى ولا تعدي حدوده ، ولا أن نترك ما أوحي إلينا ، وأن من خرج عن شيء من ذلك فهو ظالم مفتر على الله تعالى ، فوجدنا الله عز وجل قد ألزمنا طاعة ما جاء في القرآن وطاعة ما جاء عن نبيه ﷺ ، لأنه إنما ينطق عنه عز وجل ، وطاعة ما أجمع عليه جميع المسلمين عن نبيهم ﷺ ، وأن هذه حدود الله تعالى . فمن أراد إخراجنا عما ثبت بشيء منها ، وأن يعدى بنا عنها فقد حرَّف كلام الله تعالى وظلم ، وأراد الفتنة عن الوحي وتكلف القربة إلا أن يأتي بنص أو إجماع على دعواه؛ وإلا فنحن باقون على تلك الحدود ، غير متعدين لها ولا مفترين غيرها ولا محرفين لما قد ثبت بها ، وبالله تعالى التوفيق.
وأيضاً فإن من طرد هذا الأصل لزمه أن : إن ادَّعى مدَّع على آخر أنه قتل وأنكر ذلك المدعى عليه أن يكلف المدعي عليه الدليل على براءته وإلا قتله، ومن ادعى وجوب صيام مفترض غير رمضان وغير ما جاء في النص من الكفارات والنسك والنذر والقضاء ، أن يكلف المانع من ذلك الدليل، وهذا خروج عن الإِسلام مع ما فيه من مخالفة العقول .
وكذلك القول فيمن قال بصحة الإِلهام قول الرافضة في الإِمام ، ومن ادعى الغول والعنقاء والنسناس وجميع الخرافات ، فإن كل ذلك لا يحل القول بشيء منه ، ولا الإِقرار به ، وهو كله على الدفع والرد والإِبطال بلا دليل يكلفه مبطله ، وإنما البرهان على من حقق شيئاً من ذلك أو أوجبه . وهكذا كل دعوى أراد مدعيها إثبات شيء لم يثبت ، أو إبطال شيء قد ثبت لا تحاشي شيئاً فإنه لا برهان على من امتنع من القول بشيء من ذلك ، لأنه فعل ما يلزمه من ذلك ، وإنما البرهان على من أراد إلزام شيء من ذلك فقط ، فإن أتى به صحت دعواه ، وإلا فواجب تركها وردها ، وإن كانت ممكنة غير ممتنعة ، وفيما ذكرنا من نص كلام الله تعالى كفاية توجب ضرورة العلم بما ذكرنا ، وبالله تعالى التوفيق .
=============
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/الباب الثامن
في البيان ومعناه
قال علي : قد بيّنا في باب تفسير الألفاظ الدائرة بين أهل النظر حد البيان وتفسيره .
ونحن نقول : إن التخصيص أو الاستثناء نوعان من أنواع البيان ، لأن بيان الجملة قد يكون بتفسير كيفياتها وكمياتها دون أو يخرج من لفظها شيء يقتضيه في اللغة ، كقوله تعالى : {وآتوا الزكاة}
فبيَّن رسول الله ﷺ ماهية هذه الزكاة المأمور بإيتائها ، دون أن يخرج من لفظ الزكاة شيئاً ، وكذلك فسر ﷺ من صفات النكاح والحج وغير ذلك ، وقد يكون باستثناء مثل ما روي عن نهيه ﷺ عن بيع الرطب بالتمر ، ثم استثنى العرايا فيما دون خمسة أوسق ، فكان هذا مخرجاً بحكم العرايا من جملة النهي المتقدم ، وقد يكون الاستثناء بألفاظ الاستثناء مثل : إلا وخلا وحاشا وما لم ، وما أشبه ذلك .
وقد يكون حكماً وارداً بلفظ الأمر ، أو بلفظ الخبر ، مستثنى من جملة أخرى ، وهذا يسمى التخصيص، كتحريمه تعالى نكاح المشركات جملة ، ثم جاءت إباحة نكاح نساء أهل الكتاب والزواج، فكان هذا تخصيصاً من الجملة المذكورة .
وأما النسخ ، فهو رفع الحكم أو بعضه جملة ، والفرق بينه وبين الاستثناء والتخصيص أن الجملة الواردة التي جاء التخصيص أو الاستثناء منها لم يرد الله تعالى قط إلزامها لنا على عمومها وقتاً من الدهر ، كالذي ذكرنا من تحريم المشركات ، فإنه لم يرد قط بذلك نكاح نساء الكتابيين بالزواج ، وكذلك القول في العرايا وأما النسخ فإننا مكلفون الجملة الأولى على عمومها مدة ما لم يأت أمر بإبطالها عنا ، أو إبطال بعضها على ما تبين في باب النسخ إذا بلغنا إليه إن شاء الله تعالى .
فإما وجوه البيان التي ذكرنا من التفسير والاستثناء والتخصيص ، فقد يكون بالقرآن للقرآن ، وبالحديث للقرآن ، وبالإِجماع للقرآن ، وقد يكون بالقرآن للحديث ، وبالحديث للحديث ، وبالإِجماع المنقول للحديث .
وقولنا : الحديث ، إنما نعني به الأمر والفعل والإِقرار والإِشارة ، فكل ذلك يكون بياناً للقرآن ، ويكون القرآن بياناً له ، وإنما فرقنا آنفاً بين التخصيص والاستثناء وبين النسخ لأنه قد تيقنَّا وجوب طاعة الله عز وجل ورسوله ﷺ علينا ؛ فحرام علينا الخروج عن طاعتهما في شيء مما أمرا به ، أو أن نقول في شيء مما ألزمنا إنه منسوخ ساقط بعد وجوبه إلا بيان جليّ لا شك فيه ، وإذا وجدنا الحكم سقط بعضه بالاستثناء أو التخصيص فنحن على يقين من أنه لا يلزمنا فلا يحل لأحد أن يقول إنه لزم ثم سقط، فيكون قد قفا ما ليس له به علم ، وقال بشك لا بيقين ، وذلك حرام .
ولا يجوز بأن نقول بأن حكم كذا لزمنا إلا بيقين ، ولا يسقط بعد لزومه إلا بيقين ، فلهذا قلنا بالفرق المذكور بين النسخ وبين الاستثناء والتخصيص ، لأننا إذا قلنا في ذلك إنه نسخ فقد أقررنا أنه لزم ثم سقط، وهذا لا يحل قوله إلا بيقين , وبالله تعالى التوفيق .
ومما خص من القرآن بالقرآن قوله تعالى : {ذلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } فاستثنى تعالى الأزواج وملك اليمين من جملة ما حظر من إطلاق الفروج ، ثم خص تعالى الجمع بين الأختين وبين الأم والابنة ، والربيبة والزانية ، والحريمة بالقرابة ، والشركة بالقرآن ، وخص الحريمة بالرضاع بالسنة ، والذكور والبهائم ، والأَمَة المشركة بالإِجماع المأخوذ من معنى دليل النص الثابت لا يحتمل إلا وجهاً واحداً بالحظر من جملة المباح بملك اليمين .
فإِن قال قائل : لا يجوز أن يبين القرآن إلا بالسنّة ، لأن الله تعالى يقول : {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } .
قيل له : وبالله تعالى التوفيق : ليس في الآية التي ذكرت أنه ﷺ لا يبيِّن إلا بوحي لا يتلى ، بل فيها بيان جليّ ، ونص ظاهر أنه أنزل تعالى عليه الذكر ليبينه للناس، والبيان هو بالكلام ، فإذا تلاه النبي ﷺ فقد بينه ، ثم إن كان مجملاً لا يفهم معناه من لفظه بينه حينئذ بوحي يوحى إليه ، إما متلو أو غير متلو ، كما قال تعالى : {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } فأخبر تعالى أن بيان القرآن عليه عز وجل ، وإذا كان عليه فبيانه من عنده تعالى ، والوحي كله ، متلوه وغير متلوه ، فهو من عند الله عز وجل : {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وقال تعالى مخبراً عن القرآن : {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلآءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } .
فصح بهذه الآية أنه تكون آية متلوه بياناً لأخرى ، ولا معنى لإنكار هذا وقد وجد، فقد ذكر تعالى الطلاق مجملاً ، ثم فسره في سورة الطلاق وبيّنه .
ومما أُجمل في السنة وبينه القرآن ما حدثناه عبدالله بن يوسف عن أحمد بن فتح ، عن عبد الوهاب بن عيسى ، عن أحمد بن محمد ، عن أحمد بن علي عن مسلم ، ثنا زهير بن حرب ، حدثنا إسماعيل بن علية ، ثنا أبو حيان ، ثنا يزيد بن حيان أنه سمع زيد بن أرقم يقول: خطبنا رسول الله ﷺ بماء يدعى خماً بين مكة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال : «أَمَّا بَعْدُ أَلا يَا أَيُّها النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ أَوَّلُهما كِتَابُ الله فِيهِ الهُدَى وَالنُّورُ فَخُذُوا بِكِتَابِ الله عزَّ وَجَلَّ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ...
ثم قال ﷺ : وَأَهلُ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمْ الله في أهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ الله فِي أَهْلِ بَيْتِي» .
قال علي : وفسر زيد بن أرقم أنهم بنو هاشم .
قال علي : والتقليد باطل ، فوجب طلب من هم أهل بيته ﷺ في الكتاب والسنَّة ، فوجدنا الله تعالى قال : {ينِسَآءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَآءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَـاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيــراً * وَاذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَى فِي بُيُوتِكُـنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْــمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } .
قال علي : فرفعت هذه الآية الشك ، وبيَّنت أن أهل بيته ﷺ هن نساؤه فقط ، وأما بنو هاشم فإنهم آل محمد وذوو القربى بنص القرآن والسنة ، فهم في قسمه الخمس ، وتحريم الصدقة .
وقد أجمل ﷺ قوله : «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إِلهَ إِلاَّ الله» ثم فسر الله تعالى ذلك وبينه بقوله في سورة براءة: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
فإن قال قائل : ما بيَّن هذا الحديث إلا حديث ابن عمر وأبي هريرة : «إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ المُشْرِكِينَ حَتَّى يَقُولُوا لا إِلهَ إِلاَّ الله، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَيُؤْمِنُوا بِمَا أُرْسِلْتُ بِهِ» .
قيل له ، وبالله تعالى التوفيق : هذا الخبر الذي ذكرت هو موافق لما في براءة ، فصح أن الله تعالى أنزل ذلك عليه في القرآن ، ثم أخبر به ﷺ أصحابه بلفظ فكان بياناً مردداً تفسيراً مؤكداً ، فخبر أبي هريرة وابن عمر إنما هو حكاية لما في براءة .
يعلم ذلك ببديهة العقل عند قراءة الآية والحديث المذكور .
قال علي : وقد يرد البيان بالإِشارة على ما في حديث كعب بن مالك مع أبي حدرد إذ أشار إليه ﷺ بيده : أن ضع النصف .
==========
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/الباب التاسع
في تأخير البيان
قال علي : واختلفوا في نوع من أنواع البيان :
فقالت طائفة : إنما يرد المجمل ثم يرد المفسر .
وقال آخرون: لا يردان إلا معاً .
وقال آخرون: جائز ورود المجمل قبل المفسر ، والمفسر قبل المجمل ، وورودهما معاً ، كل ذلك جائز .
قال علي : وبهذا نقول : إلا أنه لا يجوز أن يتأخر البيان عن وقت إيجاب العمل البتة ، ولا يجوز أن يؤخره النبي ﷺ بعد وروده عليه طرفة عين ، ولسنا نقول بهذا لأن العقل يمنع ذلك ، لكن لأن النص قد ورد بذلك ، وإنما منعنا من تأخير الله البيان عن وقت وجوب العمل لقول الله تعالى : {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }
وقد علمنا أنه ليس في وسع أحد أن يعمل بما لا يعرف به ، وإنما منعنا من تأخير النبي ﷺ البيان عن ساعة وروده ﷺ لقول الله تعالى : {يَـأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } فلو أخر ﷺ البيان عن ساعة وروده عليه لكان ﷺ في تلك المدة ، وإن قلت مستحقاً لاسم أنه لم يبلغ ، ولو أنه لم يبلغ لكان عاصياً ، ولا ينسب هذا إلى النبي ﷺ إلا جاهل ، ومن تمادى على نسبة المعصية إليه في طي الشريعة وترك تبليغها فهو كافر بإجماع الأمة .
قال علي : وقد نزلت الصلوات الخمس مفسرة بمكة ، ثم جاءت آيات كثيرة مدنيات فيها : أقيموا الصلاة فقط ، فصح بذلك ما ذكرنا من أنه قد ينزل المفسر قبل المجمل ، وأما نزول المجمل قبل المفسر فقد نزل ذلك في الصيام وتحريم حشيش مكة ثم جاء تخصيص الإذخر .
قال علي : وأما قولنا بتأخير الله عز وجل البيان ما لم يأت وقت إيجابه تعالى العمل به ، فهو منصوص في قوله تعالى : {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ }
وقد أنزل الله عز وجل آيات كثيرة فيها : قصة موسى ، وقصة عيسى عليهما السلام ، وقصة عاد وثمود وإبراهيم عليهم السلام ، بعضها قبل بعض ، وبعضها بمكة ، وبعضها بالمدينة ، وبعضها أكمل من بعض ، فهلا اعترض المانعون ربهم تعالى من أن يفعل ما يشاء بغير نص منه تعالى أنه لا يفعله على ربهم فيما ذكرنا فيقولون : هلا نزلت هذه القصص كاملة في مكان واحد ، فتكون أتم للوعظ ، وأشفى للخبر ، ثم يؤكدها كذلك إن شاء .
وليت شعري إذ أقر هؤلاء بأن التأكيد حكمة ، فماذا يقولون في قصص كثيرة ومواعظ لم يذكرها عز وجل في القرآن إلا مرة واحدة ؟ أتراها عريت عن الحكمة إذ لم تكرر ولا وكدت ؟ .
وأيضاً فإن أكد تعالى تكرار مسألة موسى عليه السلام عشرين مرة مثلاً ما الفرق بين عشرين مرة ، وبين إحدى وعشرين مرة أو تسع عشر مرة ؟ فإن ادعى أن هذا العدد أبلغ في الحكمة ادعى القحة وبانت قلة الحياء في وجهه ، وقال ما يعلم أنه بخلاف ما يقول ، وسألناه أيضاً عن قصص أخر كررت أقل من تكرار قصة موسى عليه السلام . فإن قال اكتفى بتكرار قصة موسى .
قيل له : ما الفرق أن يكتفي بتكرار قصة موسى عن تكرار قصة إبراهيم . ولا يكتفي بتكرار قصة إبراهيم عن تكرار قصة موسى ؟ وما الفرق بين ذكره تعالى ما ذكر من قصص الأنبياء عليهم السلام ، وبين ما أمسك عنه تعالى من ذكره لبعضهم ؟ وما الفرق بين ذلك وبين أن لو ذكر من أمسك عنه وأمسك عمن ذكر، وقد ذكر من لا شريعة له غير شريعة من قبله كثيراً ، كإلياس واليسع وذي الكفل ، وغيرهم ، ولعل من أمسك عنه تعالى ولم يذكره من الرسل أعظم آية ، وأبلغ في الوعظ ممن ذكر .
قال علي : وأنا أقطع ولا أمتري أن ملقي هذه النكتة إلى ضعفاء المسلمين مغمور في دينه ، ضعيف في عقله ، كائد للشريعة ، ولا شك في ذلك ، ثم تهافت بالتقليد مع من تهافت ، وبالله تعالى التوفيق .
ومما سأل عنه المانعون من تأخير البيان جملة أن قالوا : ما تقولوا فيمن سمع آية قطع السارق ، ولم يسمع الحديث المبين للتوقيت في ذلك ، أيقطع كل سارق لفلس من ذهب ؟ وفيمن سمع آية الزنى ولم يسمع حكم الرجم ، وفيمن سمع آية الرضاع ولم يسمع الحديث في التوقيت في ذلك ، أيجلد المحصن ولا يرجم ؟ ويجلد الأمة مائة ويحرم برضعة واحدة أم كيف يفعل ؟
فإن قلتم : ينفذ ما سمع على جملته ، كنتم قد أمرتموه بالباطل .
وإن قلتم : لا يفعل ، أمرتموه بمعصية ما سمع من القرآن .
فالجواب : أننا لم نجد قط تأخير ورود البيان عن وقت وجوب العمل ، وأما قبل وجوبه فليس يلزمه إلا الإقرار بالجملة ، وأن يقول : سمعت وأطعت ، ولا مزيد إذا لم تكن مبينة مفهومة مثل قوله تعالى : {وَآتُواْ الزَّكَاةَ} فهذا ليس عليه إلا الإقرار بتصديق ذلك كما قلنا فقط .
إذ لم يأته بيان ما كلف من ذلك ، وأما إن كان النص مفهوماً بيناً فعليه العمل به حتى يبلغه نسخه ، أو تخصيصه ولا بد ، إذاً من قال : لا يلزمه العمل بما بلغه من ذلك فقد قال له : لا تطع ربك ، ولا تعمل بما أمرك .
فلعل ههنا نصاً ناسخاً لهذا النص ، أو نصاً مخصصاً له ، وهذا خلاف أمر الله تعالى في القرآن بطاعته .
ومن طرد هذا القول السخيف لزمه ألا يعمل بشيء من القرآن ، ولا السنن أبداً .
حتى يستوعب معرفة جميع أحكام القرآن ، وضبط جميع السنن ، وفي هذا الخروج عن الإسلام وإبطال الشريعة .
قال علي : ونسألهم في ردّ هذا السؤال عليهم فنقول : ما الذي يلزم من سمع أمراً ما ، والرسول ﷺ حي مما جاء النسخ بعد ذلك فيه ، أيعتقد في ذلك الأمر التأييد فيكون معتقداً للباطل .
أو يعتقد فيه السقوط بعد حين فيعتقد المعصية لما سمع ؟ فجوابهم ها هنا جوابنا آنفاً فيما سألونا عنه ، وأنه يلزم من سمع ذلك الإقرار والطاعة والاعتقاد أنه حق لازم ما لم يأت ما ينسخه فهو على التأييد ، وإن جاء ما ينسخه فهو متروك للناسخ .
قال علي : وتأخير الاستثناء والتخصيص عندنا جائز كتأخير البيان جملة ولا فرق ، وهو جائز ما لم يأت وقت إيجاب العمل ، وبالله تعالى التوفيق .
قال علي : ومما يبين صحة قولنا قوله تعالى : {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } وثم توجب مهلة وقوله تعالى في قصة الملائكة القائلين لإبراهيم عليه السلام : {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ * وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ * أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِيءُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىءُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ * وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَآئِهِ أُوْلَـئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ * فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ }
فعموا في أول الأمر وأخروا البيان حتى وقع السؤال عن لوط فأجابوا بأنهم لم يعنوه بالهلاك حاشا امرأته فقط .
وقد اعترض في هذا بعض من منع من تأخير البيان جملة بأن قال : قد كان يجب أن يعلم إبراهيم عليه السلام أن لوطاً خارج عن العذاب لقولهم: {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ } ولوط ليس ظالماً ، قيل لهم ، وبالله تعالى التوفيق .
يمكن أن يحدث من لوط ما يستحق به الظلم ، فأشفق إبراهيم عليه السلام من ذلك فسأل عنه ، وقد أجمل لنوح عليه السلام خلاص أهله ، فظن أن الأهل هم القرابة حتى بيّن له بعد ذلك أن المراد بأهله أهل دينه .
فإن قال قائل : فما المراد من المجمل الوارد قبل ورود بيانه ؟ قيل له وبالله تعالى التوفيق : المراد منا فيه هو المراد منا في المتشابه الذي أمرنا بأن نبحث عنه ، ولا نبتغي تأويله ، وأن يقول كل من عند ربنا ، وأما المراد فيه فالذي يأتي به البيان إذا أتى ويبين قولنا قول الله تعالى : {يبين الله لكم أن تضلوا} فإنما يبين لنا لئلا نضل ولا ضلال في ورود الأمر ما لم يأت وقت وجوب العمل به ، فأما إذا جاء وقت وجوب العمل به فلو تركنا نعمل بغير ما أريد منا لكنا قد ضللنا ، وقد أخبرنا تعالى بأن ذلك لا يكون ، وقوله تعالى صدق وحق بالله تعالى التوفيق .
فعلى هذا الوجه منعنا من تأخير البيان عند وجوب العمل ، وإلا فليس في العقل ما يمنع من ذلك لو شاء تعالى ، ولو فعل الله تعالى ذلك لكان تعنيتاً لنا ، وقد أخبرنا تعالى فقال : {ولو شاء الله لأعنتكم} فأخبر تعالى أنه لو أراد أن يكلفنا العنت فعل ، وهذا نفس قولنا وبالله تعالى التوفيق .
قال علي : يختلف في الوضوح ، فيكون بعضه جلياً ، وبعضه خفياً ، فيختلف الناس في فهمه فيفهمه بعضهم ويتأخر بعضهم عن فهمه ، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : إلا أن يؤتي الله رجلاً فهماً في دينه ، وكما تعذر على عمر رضي الله عنه ، وهو الغاية في العلم بنص النبي على ذلك فيه فَهْم آية الكلالة فمات وهو يقر أنه لم يفهمها وفهمها غيره من الصحابة رضي الله عنهم ، وانتهره ﷺ وأخبره بأنها بينة يكفي من فهمها الآية التي نزلت في الصيف ، وكما عرض لعدي في توهمه أن الخيط الأبيض والأسود من خيوط الناس حتى زاده الله تعالى بياناً في أن ذلك من الفجر ، وقد اكتفى غير عدي بالآية نفسها ، وعلم أن المراد الفجر .
وكما توهم ابن أم مكتوم أنه ملوم في تأخره عن الغزو ، فزاده الله بياناً باستثناء أولي الضرر ، وقد اكتفى غير ابن أم مكتوم بسائر النصوص الواردة في رفع الحرج ، وأن لا حرج على مريض ولا أعمى ، وأن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها .
قال علي : فهذه حقائق الكلام في البيان وتأخيره مجموعة باستيعاب وإيجاز وبالله تعالى التوفيق .
والتأكيد نوع من أنواع البيان ، قال الله عز وجل: { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} وقال تعالى : { فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } بعد أن ذكر تعالى ثلاثين ليلة وعشراً ، فإن قال قائل : إن الله تعالى علمنا الحساب بذلك فقد افترى ، لأننا كنا نعلم الحساب قبل نزول القرآن ، نعني النوع الإنسان جملة ، وبالله تعالى التوفيق .
وقد أتى بعض أهل القياس المتحذلقين المتنطعين في قوله تعالى : {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } بآبدة فقال معنى قوله تعالى : {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } ، دليل على أن الهدي الذي عوض منه الصوم في التمتع لا يكون إلا كاملاً .
قال علي : وأول ما في هذا القول الدعوى بلا دليل ، وهذا حرام لاسيما على الله عز وجل ، وأيضاً فإنه قد جل الله تعالى عن أن يريد أن يكون الهدي كاملاً فيترك أن يصفه بذلك ، ويقتصر على أن يقول : { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } ثم ينبه على كمال الهدي بذكر أن تكون العشرة الأيام في الصوم كاملةٌ ، فبان كذب هذا القائل ، وصح أن قوله تعالى : { عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } كقول رسول الله ﷺ في حديث الزكاة ، «فَابْنُ لَبْونٍ ذَكَرٌ» ، وكقوله ﷺ في حديث الفرائض : «فَما أَبْقَتِ الفَرَائِضُ فَلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» وإنما هذا توكيد وبيان زائد فقط .
قال علي : ومما يبين أن الله تعالى يؤخر البيان قبل أن يريد منا تعالى العمل بالحديث الوارد عن النبي ﷺ بأن الله تعالى يعرض في الخمر ، فمن كان عنده منها شيء فليبعها ، فما أتى الوقت الذي أراد الله تعالى أن يوجب علينا اجتنابها أنزل الآيات في تحريمها، وتلا ذلك رسول الله ﷺ على الناس من وقته وقد يزيد ﷺ بياناً بعد تقدم البيان قبله ، فيكون تأكيداً وإخباراً لمن يبلغه الخبر الأول ، كما نزلت الصلوات الخمس بمكة مبينة بأوقاتها ، ثم سأل السائل بالمدينة عن أوقاتها وأوائلها وأواخرها فأراه ﷺ ذلك بالعمل ، وقد بينها أيضاً بكلامه ﷺ لغير ذلك السائل .
وكما أخر الله تعالى عن النبي ﷺ بيان المناسك قبل أن يأتي وقت وجوب عملها ، فلما أتى وقت وجوبها بينها له ﷺ , فبينها ﷺ بفعله غير مؤخر لها ، ومن ادعى أنه ﷺ كان عنده بيان المناسك وكتمها عن أصحابه ، ومنعهم الأجر بالعلم بها وبالإقرار بجملتها ، فقد افترى وكذب نبيه ﷺ إذ يقول : «إِنَّ حَقّاً عَلَى كُلِّ نَبِيَ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى أَحْسَنِ ما يُعَلِّمُهُ لَهُمْ»
ومن قال بهذا فقد أكذب ربه تعالى إذ يقول عز وجل واصفاً لنبيه ﷺ : {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }
وإذا كتمهم ما يستعجلون الأجر بالإقرار به ويزدادون علماً بفهمه ، فقد خالف الصفة التي ذكرها الله تعالى ، ومن قال ذلك فقد فارق الإسلام .
فإن قال قائل : فأنت تصف الآن محمداً ﷺ بأنه يريد أن يزداد أهل الأرض خيراً ، وهذا خلاف قولك إن الله عز وجل لم يرد هذا بكل الناس، فقد وصفت محمداً ﷺ بأفضل مما وصفت به الله عز وجل ، وبأنه أرأف بنا من الله تعالى .
قال علي : فنقول وباللـه التوفيق : هذه شغبية ضعيفة ، وإنما يماثل بين الشيئين أو يفاضل بينهما ، إذا كانا واقعين تحت نوع واحد ، أو تحت جنس واحد ، وليس صفتنا للـه تعالى من نوع صفتنا للمخلوقين ، ورحمة محمد ﷺ بالناس هي من جنس تراحمنا بعضنا لبعض ، إلا أنها أعلى من كل رحمة لإنسي ، وأكمل وأتم وأدوم ، وليس اللـه تعالى واقعاً معنا تحت نوع البشرية كوقوع محمد ﷺ معنا تحتها ، وإن كان أفضل من كل من دونه ، ولا يثنى على اللـه عز وجل بما يثني به على خلقه ، ألا ترى أننا نصف اللـه عز وجل مثنين عليه بأنه جبار متكبر ؟ وهذا في كل مخلوق دونه تعالى ذم شديد ، واستنقاص عظيم ، ونصفه تعالى بأنه ذو غضب شديد ، أنه يفعل ما يريد ، وأنه ذو مكر لا يؤمن . وكل هذا لو وصفنا به مخلوقاً لكان ذمَّاً ونقصاً . ونمدح المخلوقين بالعقل والكيس ، والنبل والنجدة والعفة وكل هذا لا يجوز أن يوصف به اللـه عز وجل ، فمن أراد أن يقيس رحمة اللـه تعالى لخلقه برحمة نبيه لـهم فقد ألحد في وصفه لربه تعالى ، وقد علمنا يقيناً أن اللـه عز وجل لم يرد قط أن يهدي أبا طالب ولو شاء أن يؤمن لشرح صدره للإسلام ، بل أراد أن يعذبه في نار جهنم أبداً ، وعلمنا يقيناً أن محمداً ﷺ كان من أبعد آمالـه أن يؤمن أبو طالب ، وقد كفانا اللـه تعالى ذلك بقولـه: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } .
فأما من آمن باللـه فاللـه أرأف به من نفسه بنفسه ، ومن محمد ﷺ ومن أبيه وأمه اللذين ولداه . لأنه جازاه على ذلك بما لو ملك الاختيار لم يبلغ مقدار ما أعطاه اللـه تعالى في الجنة ، ولا سمح لـه أبواه بذلك ، ولأنه تعالى غفر لـه ما لو فعلـه عاصياً لأبيه ما غفر لـه ذلك ، فإن الرجل يزني بأمة اللـه تعالى فيغفر لـه بالتوبة ، وبموازنة حسناته لسيئاته ، ولو زنى بأمة أبيه لقطعه .
وأما من لم يؤمن فما أراد اللـه به خيراً قط ، ولو أراد به خيراً لأماته سقطاً ، فمن قال : إن اللـه تعالى لم يقدر على ذلك فقد ألحد ووصف ربه تعالى بغاية النقص ، ومن قال : إن اللـه تعالى أراد الخير بفرعون فنحن نباهلـه .
ونقول : اللـهم لا ترد بنا من الخير ما أردته بفرعون ، فليدع ربه تعالى أن يريد به من الخير ما أراده بفرعون .
فإن شغب مشغب فقال : إنك الآن تصف محمداً ﷺ بأنه أراد غير ما أراد اللـه عز وجل ، وباللـه تعالى التوفيق : وهذه شغبية ضعيفة كالتي قبلـها.
نعم كذلك نقول في هذا المكان مقرين بما قال ربنا عز وجل من أن محمداً ﷺ أحب أن يهتدي قوم لم يحب الله تعالى أن يهديهم ، وليس في اختلاف ما أراد الله تعالى ههنا وما أراد نبيه ﷺ , عيب على نبيه ﷺ لأنه إنما يمدح النبي ﷺ فمن دونه من المخلوقين بالائتمار لربه تعالى فقط ، لا بأن يوافق ربه فيما لم يكلفه ، ألا ترى أننا نمدح أنفسنا بالنكاح والأولاد وهما منفيان عن الله عز وجل لم يردهما لنفسه قط ، ونمدح بالصدقة على المحتاج الذي لم يرد الله أن يغنيه ، ولو أراد أن يغنيه لكان قادراً عز وجل على ذلك فلم نؤمن نحن قط أن تريد ما أراده الله عز وجل في كل وقت ، بل نهينا عن ذلك فقد أراد الله عز وجل قتل من سلط عليه الكفار من المؤمنين ، ولو أردنا نحن ذلك لفسقنا ، وإنما أريد منا الائتمار لما أمرنا به والانتهاء عما نهينا عنه ، وقول خصومنا يؤول إلى قول بعض أهل
الإلحاد : أن الواجب علينا التشبه بالله عز وجل ، وهذا كفر عندنا ، لأن الله تعالى لا يشبهه شيء ، فلا يروم التشبه به إلا كافر ملحد . وهذا بيّن ، وبالله تعالى التوفيق .
ثم نرجع إلى بقية الكلام في تأخير البيان ، فإن احتج بعض من يجيز تأخير البيان عن وقت وجوب الأمر بقصة موسى والخضر عليهما السلام فلا سواء ، فموسى عليه السلام لم يلزمه قط أمر في تلك القصة يلزمه التقصير إن لم يأته ، وإنما سأله ناسياً والنسيان مرفوع ، وكذلك كان سؤال نوح عليه السلام في ابنه ناسياً ، لأن الله تعالى قد كان بيّن له أن يحمل أهله إلا من سبق عليه القول منهم ، فنسي نوح عليه السلام هذا الاستثناء ، وقد كان كافيه لأن ابنه كان كافراً قد سبق عليه القول في جملة من كفر .
واحتجوا أيضاً بأمر بقرة بني إسرائيل ، وأنه تعالى أخر عنهم بيان الصفات التي زادهم بعد ذلك .
قال علي: وهذا لا حجة لهم فيه ، لأن تلك الصفات إنما هي زيادات شرائع لو لم يسألوا عنها لم يزادوهم ؛ ولو ذبحوا في أول ما أمروا بقرة بيضاء أو حمراء أو بلقاء لأجزت عنهم؛ لكنهم لما زادوا سؤالاً زيدوا شرعاً ، ودخلوا بذلك في جملة من ذم الله تعالى على لسان نبيه ﷺ ؛ إذ يقول: «إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ جُرْماً فِي الإِسلامِ مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحَرَّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» . وفي قوله ﷺ : «إِنَّما هَلكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةَ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ» . ويبين صحة قولنا هذا قوله عز وجل : {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ }
فأخبر تعالى بنص ما قلنا وله الحمد ، وبين لنا أن الأشياء معفوة ساقطة عنا قبل أن نسأل عنها ، فإذا سألنا عنها لزمتنا ؛ ولعلنا نعصي حينئذ فنهلك ، وكل ذلك قد سبق في علمه عز وجل .
وأما تأخر نزول : {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } في قصة ابن الزبعرى إذ اعترض على النبي ﷺ في تلاوة : {اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
فقال : نحن نعبد الملائكة والنصارى يعبدون عيسى ، فهم في جهنم معنا ، فإن ابن الزبعرى كان مغفلاً عن تدبر الآية الأولى وقد كان له فيها كفاية له عقل ، ولكن الثانية أتت مؤكدة لها فقط وهي إخباره تعالى عن سؤاله الملائكة فقال تعالى : {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَـؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } فأخبر تعالى عن الملائكة الصادقين المقدسين أنهم قالُوا : {قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْـثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ }
فليس قول القائل : أنا أعبد الملائكة ، ولا قول النصارى : نحن نعبد المسيح موجب لصدقهم ، لأن العبادة إنما هى الاتباع والانقياد مأخوذة من العبودية ، وإنما يعبد المرء من ينقاد له ، ومن يتبع أمره ، وأما من يعصي ويخالف فليس عابداً له وهو كاذب في ادعائه أنه يعبده .
فالقائلون نحن نعبد الملائكة والمسيح كذبة في دعواهم لذلك ما عبدوهم قط ، وإنما عبدوا الشياطين لانقيادهم لأمرهم واتباعهم إغواءهم ، ولو اتبعوا الملائكة والمسيح عليه السلام ما أمروهم إلا بعبادة الله عز وجل ، وبأن يقولوا : إننا لا نعبد شيئاً من دون الله عز وجل، بل كانوا ينهونهم عن الكذب وهذا عين الكذب ، وقد بيّن ﷺ معنى قول ربه تعالى : {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }
فقال قائل : يا رسول الله ما كنا نعبدهم ، فأخبرهم ﷺ أنهم إذا أطاعوهم في تحريم ما حرموا ، وتحليل ما أحلوا ، فقد اتخذوهم أرباباً ، ونحن إنما أطعنا أمر نبينا ﷺ لعلمنا أنه كله من عند الله عز وجل ، وأنه لا يقول من تلقاء نفسه شيئاً . قال الله عز وجل : {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } .
فإن قال قائل : فعلى قولك فمن عصى منا لم يعبد الله عز وجل ؟
قيل له : نعم ، لم يعبد الله تعالى لتلك المعصية ولا فيها، ولكن عبده في سائر طاعته وإقراره بالتوحيد.
فإن قال قائل: فعلى قولك إننا إذا أطعنا الرسول لقد عبدناه .
قيل له وبالله تعالى التوفيق : إن طاعة الرسول توجب ألا يطلق لفظ العبادة ولا معناها إلا لله عز وجل وحده لا شريك له ، وتوجب أن من أطاع الشيطان في الكفر فقد عبده ، وهذه معان شرعية لا يتجاوز فيها ما أتت به الشريعة فقط ، وأما من ادعى بيان كون أن السلب للقاتل نزل بعد آية قسم الغنائم، فدعوى لا يقوم عليها دليل ولا روي ذلك قط من وجه يصح ، وكذلك القول في بيان سهم ذي القربى وأن بيان كون بني هاشم وبني عبد المطلب هم ذو القربى ، دون بني عبد شمس وبني نوفل ، نزل متأخراً عن الآية دعوى لا تصح أصلاً .
فإن قال قائل : فإنّ عثمان رضي الله عنه ، وجبير بن مطعم جهلا هذا .
قيل له : نعم ، وما في هذا علينا من الحجة ، ومتى منعنا أن يخفى على الصاحب والصاحبين والعشرة والأكثر منهم فهم آية أو آيات من القرآن .
وقد كان في قسمة رسول الله ﷺ لبني المطلب دونهما ما يكفي، لأنهما كانا يوقنان بلا شك أن رسول الله ﷺ لا يمنع ذا حق حقه ، ولا يعطي أحداً غير حقه ؛ فكان في هذا كفاية ، لأنه لو كان لبني عبد شمس ، وبني نوفل حق في سهم ذوي القربى ما منعهم إياه رسول الله ﷺ ، ولوكان بنو عبد المطلب خارجين من ذوي القربى ما أعطاهم النبي ﷺ حقًّا ليس لهم ، ولكن عثمان وجبير رضي الله عنهما أرادا علم السبب الذي من أجله استحق بنو المطلب الدخول فيما خرج قومهما منه ، والخصلة التي بان بها بنو عبد المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل ، وقد قال عثمان رضي الله عنه في الجمع بين الأختين بملك اليمين : أحلتهما آية وحرمتهما آية ، فأخبر رضي الله عنه أنه خفيت عليه رتبة هاتين الآيتين ، ولم يدر أيهما يغلب ويستثني من الأخرى ، ولا يجوز عند ذي فهم ولُب أن يعتقد الشيء حراماً حلالاً في وقت واحد ، على شخص واحد، فيكون يحل له أن يفعله ولا يحل له أن يفعله ، فيفعل ولا يفعل ، وهذا محال ظاهر الامتناع ، ومن بلغ ههنا كفانا نفسه ، وأما العرايا فقد جاء الحديث موصولاً في استثنائها من التمر بالرطب ، وبالله تعالى التوفيق .
=======
[أغلق]
* اقرأ * * نزّل * استشهد * شارك في ويكي مصدر *
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/الباب العاشر
< ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام‏ | المجلد الأول‏ | الجزء الأولاذهب إلى التنقلاذهب إلى البحث
في تأخير البيانابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام في الأخذ بموجب القرآن
المؤلف: ابن حزمفي الكلام في الأخبار وهي السنن المنقولة عن رسول اللـه
في الأخذ بموجب القرآن
قال علي : ولما تبين بالبراهين والمعجزات ، أن القرآن هو عهد الله إلينا والذي ألزمنا الإِقرار به ، والعمل بما فيه ، وصح بنقل الكافة الذي لا مجال للشك فيه ، أن هذا القرآن هو المكتوب في المصاحف ، المشهورة في الآفاق كلها ، وجب الانقياد لما فيه فكان هو الأصل المرجوع إليه .
لأننا وجدنا فيه : {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } فما في القرآن من أمر أو نهي فواجب الوقوف عنده ، وسنذكر إن شاء الله تعالى في باب الأخبار التالي لهذا الباب كيف العمل في بناء آي القرآن خاصها مع عامها ، وبناء السنن عليها ، وسنذكر إن شاء الله تعالى في باب الأوامر والنواهي ، كيف العمل في حمل أوامر القرآن ونواهيه على الظاهر ، والوجوب ، والفور ، ونذكر إن شاء تعالى في باب العموم والخصوص ، ما يقتضيه ذلك الباب من أخذ آي القرآن على عمومها ، ونوعب الرد على كل من خالف الحق في ذلك إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق .
قال علي : ولا خلاف بين أحد من الفرق المنتمية إلى المسلمين من أهل السنَّة والمعتزلة والخوارج والمرجئة والزيدية في وجوب الأخذ بما في القرآن ، وأنه هو المتلو عندنا نفسه ، وإنما خالف في ذلك قوم من غلاة الروافض هم كفار بذلك مشركون عند جميع أهل الإِسلام ، وليس كلامنا مع هؤلاء ، وإنما كلامنا في هذا الكتاب مع أهل ملتنا ، إذا قد أحكمنا بطلان سائر الملل في كتاب الفصل وبالله تعالى التوفيق .
ونذكر إن شاء الله تعالى في باب الإِجماع من هذا الكتاب بالبرهان الصحيح أن القراءات السبع التي نزل بها القرآن باقية عندنا كلها ، وبطلان قول من ظن أن عثمان رضي الله عنه جمع الناس على قراءة واحدة منها أو على بعض الأحرف السبعة دون بعض وبالله تعالى التوفيق .
=======

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

البرص و العميان-أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ

البرص و العميان-أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ  المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله عليه محمد وسلم وهب الله لك حسن الاستماع وأشعر ...