Translate

الجمعة، 20 مايو 2022

ج8. الروض الأنف للسهيلي إقْرَارُ الرّسُولِ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ عَلَى السّدَانَةِ

 

ج8. الروض الأنف   

 إقْرَارُ الرّسُولِ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ عَلَى السّدَانَةِ

 ---------
ثُمّ جَلَسَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمَسْجِدِ فَقَامَ إلَيْهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمِفْتَاحُ الْكَعْبَةِ فِي يَدِهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ اجْمَعْ لَنَا الْحِجَابَةَ مَعَ السّقَايَةِ صَلّى اللّهُ عَلَيْك ؛ فَقَالَ رَسُولُ [ ص 172 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أَيْنَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ ؟ " فَدُعِيَ لَهُ فَقَالَ هَاكَ مِفْتَاحَك يَا عُثْمَانُ ، الْيَوْمُ يَوْمُ بِرّ وَوَفَاءٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَذَكَرَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِعَلِيّ إنّمَا أُعْطِيكُمْ مَا تُرْزَءُونَ لَا مَا تَرْزَءُونَ .
طَمْسُ الصّوَرِ الّتِي بِالْبَيْتِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَخَلَ الْبَيْتَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَرَأَى فِيهِ صُوَرَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرَهُمْ فَرَأَى إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ مُصَوّرًا فِي يَدِهِ الْأَزْلَامُ يَسْتَقْسِمُ بِهَا ، فَقَالَ قَاتَلَهُمْ اللّهُ جَعَلُوا شَيْخَنَا يَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ مَا شَأْنُ إبْرَاهِيمَ وَالْأَزْلَامِ { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّا وَلَا نَصْرَانِيّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ آلِ عِمْرَانَ : 67 ] ثُمّ أَمَرَ بِتِلْكَ الصّوَرِ كُلّهَا فَطُمِسَتْ .
دُخُولُ الْكَعْبَةِ وَالصّلَاةُ فِيهَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ وَمَعَهُ بِلَالٌ ثُمّ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَخَلّفَ بِلَالٌ فَدَخَلَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ عَلَى بِلَالٍ فَسَأَلَهُ أَيْنَ صَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ؟ وَلَمْ يَسْأَلْهُ كَمْ صَلّى ، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا دَخَلَ الْبَيْتَ مَشَى قِبَلَ وَجْهِهِ وَجَعَلَ الْبَابَ قِبَلَ ظَهْرِهِ حَتّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ قَدْرُ ثَلَاثِ أَذْرُعٍ ، ثُمّ يُصَلّي يَتَوَخّى بِذَلِكَ الْمَوْضِعَ الّذِي قَالَ لَهُ بِلَالٌ .
Sالصّلَاةُ فِي الْكَعْبَةِ
[ ص 172 ] الْكَعْبَةَ وَصَلَاتُهُ فِيهَا ، فَحَدِيثُ بِلَالٍ أَنّهُ صَلّى فِيهَا ، وَحَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ لَمْ يُصَلّ فِيهَا ، وَأَخَذَ النّاسُ بِحَدِيثِ بِلَالٍ لِأَنّهُ أَثْبَتَ الصّلَاةَ وَابْنُ عَبّاسٍ نَفَى ، وَإِنّمَا يُؤْخَذُ بِشَهَادَةِ الْمُثْبِتِ لَا بِشَهَادَةِ النّافِي ، وَمَنْ تَأَوّلَ قَوْلَ بِلَالٍ أَنّهُ صَلّى ، أَيْ دَعَا ، فَلَيْسَ بِشَيْءِ لِأَنّ فِي حَدِيثِ عُمَرَ أَنّهُ صَلّى فِيهَا رَكْعَتَيْنِ وَلَكِنّ رِوَايَةَ ابْنِ عَبّاسٍ وَرِوَايَةَ بِلَالٍ صَحِيحَتَانِ لِأَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ دَخَلَهَا يَوْمَ النّحْرِ فَلَمْ يُصَلّ وَدَخَلَهَا مِنْ الْغَدِ فَصَلّى ، وَذَلِكَ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ ، وَهُوَ حَدِيثٌ مَرْوِيّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ بِإِسْنَادِ حَسَنٍ خَرّجَهُ الدّارَقُطْنِيّ ، وَهُوَ مِنْ فَوَائِدِهِ .

إسْلَامُ عَتّابٍ وَالْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ
[ ص 173 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَخَلَ الْكَعْبَةَ عَامَ الْفَتْحِ وَمَعَهُ بِلَالٌ فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذّنَ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْب ٍ وَعَتّابُ بْنُ أَسِيدٍ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ جُلُوسٌ بِفِنَاءِ الْكَعْبَةِ ، فَقَالَ عَتّابُ بْنُ أَسِيدٍ : لَقَدْ أَكْرَمَ اللّهُ أَسِيدًا أَلَا يَكُونُ سَمِعَ هَذَا ، فَيَسْمَعُ مِنْهُ مَا يَغِيظُهُ . فَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ : أَمَا وَاَللّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنّهُ مُحِقّ لَاتّبَعْته ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ لَا أَقُولُ شَيْئًا : لَوْ تَكَلّمْت لَأَخْبَرَتْ عَنّي هَذِهِ الْحَصَى ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ قَدْ عَلِمْت الّذِي قُلْتُمْ ثُمّ ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُمْ فَقَالَ الْحَارِثُ وَعَتّابٌ نَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللّهِ وَاَللّهِ مَا اطّلَعَ عَلَى هَذَا أَحَدٌ كَانَ مَعَنَا ، فَنَقُولُ أَخْبَرَك .
Sعَنْ إسْلَامِ أَبِي سُفْيَانَ وَصَاحِبَيْهِ
فَصْلٌ
[ ص 173 ] وَذَكَرَ كَسْرَ الْأَصْنَامِ وَطَمْسَ التّمَاثِيلِ وَمَقَالَةَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ حِينَ اجْتَمَعَ هُوَ وَأَبُو سُفْيَانَ وَعَتّابُ بْنُ أَسِيدٍ ، فَتَكَلّمُوا فَأَخْبَرَهُمْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَمَا أَخْبَرَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ بِاَلّذِي قَالُوهُ فَصَحّ بِذَلِكَ يَقِينُهُمْ وَحَسُنَ إسْلَامُهُمْ وَفِي التّرْمِذِيّ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ لَعَنَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْحَارِثَ وَأَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَصَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } الْآيَةَ [ آلِ عِمْرَانَ : 128 ] قَالَ فَتَابُوا بَعْدُ وَحَسُنَ إسْلَامُهُمْ وَرُوِينَا بِإِسْنَادِ مُتّصِلٍ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ، قَالَ خَرَجَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَلَى أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَلَمّا نَظَرَ إلَيْهِ أَبُو سُفْيَانَ قَالَ فِي نَفْسِهِ لَيْتَ شِعْرِي بِأَيّ شَيْءٍ غَلَبْتنِي ، فَأَقْبَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى ضَرَبَ بِيَدِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَقَالَ بِاَللّهِ غَلَبْتُك يَا أَبَا سُفْيَانَ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ أَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللّهِ مِنْ مُسْنَدِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ ، وَرَوَى الزّبَيْرُ [ ص 174 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُمَازِحُ أَبَا سُفْيَانَ فِي بَيْتِ أُمّ حَبِيبَةَ وَأَبُو سُفْيَانَ يَقُولُ لَهُ تَرَكْتُك ، فَتَرَكَتْك الْعَرَبُ ، وَلَمْ تَنْتَطِحْ بَعْدَهَا جَمّاءُ وَلَا قَرْنَاءُ وَالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَضْحَكُ وَيَقُولُ أَنْتَ تَقُولُ هَذَا يَا أَبَا حَنْظَلَة وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ جَلّ وَعَزّ { عَسَى اللّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدّةً } [ الْمُمْتَحِنَةِ 7 ] قَالَ هِيَ مُعَاهَدَةُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأَبِي سُفْيَانَ . وَقَالَ أَهْلُ التّفْسِيرِ رَأَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي الْمَنَامِ أَسِيدَ بْنَ أَبِي الْعِيصِ وَالِيًا عَلَى مَكّةَ مُسْلِمًا ، فَمَاتَ عَلَى الْكُفْرِ فَكَانَتْ الرّؤْيَا لِوَلَدِهِ عَتّابٍ حِينَ أَسْلَمَ ، فَوَلّاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ ، وَهُوَ ابْنُ إحْدَى وَعِشْرِينَ سَنَةً وَرَزَقَهُ كُلّ يَوْمٍ دِرْهَمًا ، فَقَالَ أَيّهَا النّاسُ أَجَاعَ اللّهُ كَبِدَ مَنْ جَاعَ عَلَى دِرْهَمٍ الْحَدِيثَ وَقَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ وَاَللّهِ مَا اكْتَسَبْت فِي وِلَايَتِي كُلّهَا إلّا قَمِيصًا مُعَقّدًا كَسَوْته غُلَامِي كَيْسَانَ وَكَانَ قَدْ قَالَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ وَسَمِعَ بِلَالًا يُؤَذّنُ عَلَى الْكَعْبَةِ ، لَقَدْ أَكْرَمَ اللّهُ أَسِيدًا ، يَعْنِي : أَبَاهُ أَنْ لَا يَكُونَ سَمِعَ هَذَا فَيَسْمَعُ مَعَهُ مَا يَغِيظُهُ وَكَانَتْ تَحْتَ عَتّابٍ جُوَيْرِيّةُ بِنْتُ أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ وَهِيَ الّتِي خَطَبَهَا عَلِيّ عَلَى فَاطِمَةَ فَشَقّ ذَلِكَ عَلَى فَاطِمَةَ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا آذَنُ ثُمّ لَا آذَنُ إنّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنّي الْحَدِيثَ فَقَالَ عَتّابٌ أَنَا أُرِيحُكُمْ مِنْهَا فَتَزَوّجَهَا ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الرّحْمَنِ الْمَقْتُولَ يَوْمَ الْجَمَلِ يُرْوَى أَنّ عَتّابًا طَارَتْ بِكَفّهِ يَوْمَ قُتِلَ وَفِي الْكَفّ خَاتَمُهُ فَطَرَحَتْهَا بِالْيَمَامَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَعُرِفَتْ بِالْخَاتَمِ . [ ص 175 ]
الْحَنْفَاءُ بِنْتُ أَبِي جَهْلٍ
وَكَانَتْ لِأَبِي جَهْلٍ بِنْتٌ أُخْرَى ، يُقَالُ لَهَا : الْحَنْفَاءُ كَانَتْ تَحْتَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو ، يُقَالُ إنّهَا وَلَدَتْ لَهُ ابْنَهُ أَنَسًا الّذِي كَانَ يَضْعُفُ وَفِيهِ جَرَى الْمَثَلُ أَسَاءَ سَمْعًا فَأَسَاءَ إجَابَةً وَيُقَالُ إنّهُ نَظَرَ يَوْمًا إلَى رَجُلٍ عَلَى نَاقَةٍ يَتْبَعُهَا خَرُوفٌ فَقَالَ يَا أَبَتْ أَذَاكَ الْخَرُوفُ مِنْ تِلْكَ النّاقَةِ ؟ فَقَالَ أَبُوهُ صَدَقَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ ، وَكَانَتْ حِينَ خَطَبَهَا قَالَتْ إنْ جَاءَتْ مِنْهُ حَلِيلَتُهُ بِوَلَدِ أَحْمَقَتْ وَإِنْ أَنْجَبَتْ فَعَنْ خَطَأٍ مَا أَنْجَبَتْ وَقَدْ قِيلَ فِي بِنْتِ أَبِي جَهْلٍ الْحَنْفَاءِ إنّ اسْمَهَا صَفِيّةُ فَاَللّهُ أَعْلَمُ . [ ص 176 ]
إسْلَامُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ
وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ ، وَقَدْ قِيلَ لَهُ أَلَا تَرَى مَا يَصْنَعُ مُحَمّدٌ مِنْ كَسْرِ الْآلِهَةِ وَنِدَاءِ هَذَا الْعَبْدِ الْأَسْوَدِ عَلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ إنْ كَانَ اللّهُ يَكْرَهُ هَذَا ، فَسَيُغَيّرُهُ ثُمّ حَسُنَ إسْلَامُهُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ بَعْدُ وَهَاجَرَ إلَى الشّامِ ، فَلَمْ يَزَلْ جَاهِدًا مُجَاهِدًا ، حَتّى اُسْتُشْهِدَ هُنَالِكَ رَحِمَهُ اللّهُ .
إسْلَامُ بِنْتِ أَبِي جَهْلٍ
وَأَمّا بِنْتُ أَبِي جَهْلٍ فَقَالَتْ حِينَ سَمِعَتْ الْأَذَانَ عَلَى الْكَعْبَةِ ، فَلَمّا قَالَ الْمُؤَذّنُ أَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ قَالَتْ عَمْرِي لَقَدْ أَكْرَمَك اللّهُ وَرَفَعَ ذِكْرَك ، فَلَمّا سَمِعَتْ حَيّ عَلَى الصّلَاةِ قَالَتْ أَمّا الصّلَاةُ فَسَنُؤَدّيهَا ، وَلَكِنْ وَاَللّهِ مَا تُحِبّ قُلُوبُنَا مَنْ قَتَلَ الْأَحِبّةَ ثُمّ قَالَتْ إنّ هَذَا الْأَمْرَ لَحَقّ ، وَقَدْ كَانَ الْمَلَكُ جَاءَ بِهِ أَبِي ، وَلَكِنْ كَرِهَ مُخَالَفَةَ قَوْمِهِ وَدِينَ آبَائِهِ . وَأَمّا أَبُو مَحْذُورَةَ الْجُمَحِيّ ، وَاسْمُهُ سَلَمَةُ بْنُ مِعْيَرٍ وَقِيلَ سَمُرَةُ فَإِنّهُ لَمّا سَمِعَ الْأَذَانَ وَهُوَ مَعَ فِتْيَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ خَارِجَ مَكّةَ أَقْبَلُوا يَسْتَهْزَؤُونَ وَيَحْكُونَ صَوْتَ الْمُؤَذّنِ غَيْظًا ، فَكَانَ أَبُو مَحْذُورَةَ مِنْ أَحْسَنِهِمْ صَوْتًا ، فَرَفَعَ صَوْتَهُ مُسْتَهْزِئًا بِالْأَذَانِ فَسَمِعَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَمَرَ [ ص 177 ] فَمَثَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يَظُنّ أَنّهُ مَقْتُولٌ فَمَسَحَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَاصِيَتَهُ وَصَدْرَهُ بِيَدِهِ قَالَ فَامْتَلَأَ قَلْبِي وَاَللّهِ إيمَانًا وَيَقِينًا وَعَلِمْت أَنّهُ رَسُولُ اللّهِ فَأَلْقَى عَلَيْهِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الْأَذَانَ وَعَلّمَهُ إيّاهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذّنَ لِأَهْلِ مَكّةَ ، وَهُوَ ابْنُ سِتّ عَشْرَةَ سَنَةً فَكَانَ مُؤَذّنَهُمْ حَتّى مَاتَ ثُمّ عَقِبَهُ بَعْدَهُ يَتَوَارَثُونَ الْأَذَانَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ وَفِي أَبِي مَحْذُورَةَ يَقُولُ الشّاعِرُ
أَمَا وَرَبّ الْكَعْبَةِ الْمَسْتُورَهْ ... وَمَا تَلَا مُحَمّدٌ مِنْ سُورَهْ
وَالنّغَمَاتِ مِنْ أَبِي مَحْذُورَهْ ... لَأَفْعَلَن فِعْلَةً مَذْكُورَهْ
هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ
وَأَمّا هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ ، فَإِنّ مِنْ حَدِيثِهَا يَوْمَ الْفَتْحِ أَنّهَا بَايَعَتْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ عَلَى الصّفَا ، وَعُمَرُ دُونَهُ بِأَعْلَى الْعَقَبَةِ ، فَجَاءَتْ فِي نِسْوَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ يُبَايِعْنَ عَلَى الْإِسْلَامِ وَعُمَرُ يُكَلّمُهُنّ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا أَخَذَ عَلَيْهِنّ أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاَللّهِ شَيْئًا قَالَتْ هِنْدُ : قَدْ عَلِمْت أَنّهُ لَوْ كَانَ مَعَ اللّهِ غَيْرُهُ لَأَغْنَى عَنّا ، فَلَمّا قَالَ وَلَا يَسْرِقْنَ قَالَتْ وَهَلْ تَسْرِقُ الْحُرّةُ ، لَكِنْ يَا رَسُولَ اللّهِ أَبُو سُفْيَانَ رَجُلٌ مَسِيكٌ رُبّمَا أَخَذْت مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ مَا يُصْلِحُ وَلَدَهُ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ " ، ثُمّ قَالَ إنّك لَأَنْتِ هِنْدُ ؟ " قَالَتْ نَعَمْ يَا رَسُولَ اللّهِ اُعْفُ عَنّي ، عَفَا اللّهُ عَنْك ، وَكَانَ أَبُو سُفْيَانَ حَاضِرًا ، فَقَالَ " أَنْتِ فِي حِلّ مِمّا أَخَذْت فَلَمّا قَالَ " وَلَا يَزْنِينَ " ، قَالَتْ وَهَلْ تَزْنِي الْحُرّةُ
يَا رَسُولَ اللّهِ فَلَمّا قَالَ " وَلَا يَعْصِينَك فِي مَعْرُوفٍ " ، قَالَتْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي مَا أَكْرَمَك ، وَأَحْسَنَ مَا دَعَوْت إلَيْهِ فَلَمّا سَمِعَتْ " وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنّ " ، قَالَتْ وَاَللّهِ قَدْ رَبّيْنَاهُمْ صِغَارًا ، حَتّى قَتَلْتهمْ أَنْتَ وَأَصْحَابُك بِبَدْرِ كِبَارًا ، قَالَ فَضَحِكَ عُمَرُ مِنْ قَوْلِهَا حَتّى مَالَ .

خِرَاشٌ وَابْنُ الْأَثْوَعِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَنْدَرَ الْأَسْلَمِيّ ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ . قَالَ . كَانَ مَعَنَا رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أَحْمَرُ بَأْسًا ، وَكَانَ رَجُلًا شُجَاعًا ، وَكَانَ إذَا نَامَ غَطّ غَطِيطًا مُنْكَرًا لَا يَخْفَى مَكَانَهُ فَكَانَ إذَا بَاتَ فِي حَيّهِ بَاتَ مُعْتَنِزًا ، فَإِذَا بُيّتَ الْحَيّ صَرَخُوا يَا أَحْمَرُ فَيَثُورُ مِثْلَ الْأَسَدِ لَا يَقُومُ لِسَبِيلِهِ شَيْءٌ . فَأَقْبَلَ غَزِيّ مِنْ هُذَيْلٍ يُرِيدُونَ حَاضِرَهُ حَتّى إذَا دَنَوْا مِنْ الْحَاضِرِ قَالَ ابْنُ الْأَثْوَعِ الْهُذَلِيّ : لَا تَعْجَلُوا عَلَيّ حَتّى أَنْظُرَ ، فَإِنْ كَانَ فِي الْحَاضِرِ أَحْمَرُ فَلَا سَبِيلَ إلَيْهِمْ فَإِنّ لَهُ غَطِيطًا لَا يَخْفَى ، قَالَ فَاسْتَمَعَ فَلَمّا سَمِعَ غَطِيطَهُ مَشَى إلَيْهِ [ ص 174 ] وَضَعَ السّيْفَ فِي صَدْرِهِ ثُمّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ حَتّى قَتَلَهُ ثُمّ أَغَارُوا عَلَى الْحَاضِرِ فَصَرَخُوا يَا أَحْمَرُ وَلَا أَحْمَرَ لَهُمْ فَلَمّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ وَكَانَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ أَتَى ابْنُ الْأَثْوَعِ الْهُذَلِيّ حَتّى دَخَلَ مَكّةَ يَنْظُرُ وَيَسْأَلُ عَنْ أَمْرِ النّاسِ وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ فَرَأَتْهُ خُزَاعَةُ ، فَعَرَفُوهُ فَأَحَاطُوا بِهِ وَهُوَ إلَى جَنْبِ جِدَارٍ مِنْ جُدُرِ مَكّةَ ، يَقُولُونَ أَأَنْتَ قَاتِلُ أَحْمَرَ ؟ قَالَ نَعَمْ أَنَا قَاتِلُ أَحْمَرَ فَمَه ؟ قَالَ إذْ أَقْبَلَ خِرَاشُ بْنُ أُمَيّةَ مُشْتَمِلًا عَلَى السّيْفِ فَقَالَ هَكَذَا عَنْ الرّجُلِ وَوَاللّهِ مَا نَظُنّ إلّا أَنّهُ يُرِيدُ أَنْ يُفْرِجَ النّاسُ عَنْهُ . فَلَمّا انْفَرَجْنَا عَنْهُ حَمَلَ عَلَيْهِ فَطَعَنَهُ بِالسّيْفِ فِي بَطْنِهِ . فَوَاَللّهِ لَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَيْهِ وَحِشْوَتُهُ تَسِيلُ مِنْ بَطْنِهِ وَإِنّ عَيْنَيْهِ لَتُرَنّقَانِ فِي رَأْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ أَقَدْ فَعَلْتُمُوهَا يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ ؟ حَتّى انْجَعَفَ فَوَقَعَ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ عَنْ الْقَتْلِ فَقَدْ كَثُرَ الْقَتْلُ إنْ نَفَعَ لَقَدْ قَتَلْتُمْ قَتِيلًا لَأَدِيَنه قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ حَرْمَلَةَ الْأَسْلَمِيّ ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ ، قَالَ لَمّا بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا صَنَعَ خِرَاشُ بْنُ أُمَيّةَ ، قَالَ إنّ خِرَاشًا لَقَتّالٌ يَعِيبُهُ بِذَلِكَ . [ ص 175 ]
بَيْنَ أَبِي شُرَيْحٍ وَابْنِ سَعْدٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيّ ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيّ قَالَ لَمّا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ الزّبَيْرِ مَكّةَ لِقِتَالِ أَخِيهِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ ، جِئْته ، فَقُلْت لَهُ يَا هَذَا ، إنّا كُنّا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ افْتَتَحَ مَكّةَ ، فَلَمّا كَانَ الْغَدُ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ عَدَتْ خُزَاعَةُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ هُذَيْلٍ فَقَتَلُوهُ وَهُوَ مُشْرِكٌ فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِينَا خَطِيبًا ، فَقَالَ يَا أَيّهَا النّاسُ إنّ اللّهَ حَرّمَ مَكّةَ يَوْمَ خَلَقَ السّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَهِيَ حَرَامٌ مِنْ حَرَامٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا يَحِلّ لِامْرِئِ يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ فِيهَا دَمًا وَلَا يَعْضِدَ فِيهَا شَجَرًا ، لَمْ تُحْلَلْ لِأَحَدِ كَانَ قَبْلِي ، وَلَا تَحِلّ لِأَحَدِ يَكُونُ بَعْدِي ، وَلَمْ تُحْلَلْ لِي إلّا هَذِهِ السّاعَةَ غَضَبًا عَلَى أَهْلِهَا أَلَا : ثُمّ قَدْ رَجَعَتْ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ فَلْيُبَلّغْ الشّاهِدُ مِنْكُمْ الْغَائِبَ فَمَنْ قَالَ لَكُمْ أَنّ رَسُولَ اللّهِ قَاتَلَ فِيهَا ، فَقُولُوا : إنّ اللّهَ قَدْ أَحَلّهَا لِرَسُولِهِ وَلَمْ يُحْلِلْهَا لَكُمْ يَا مَعْشَرَ خُزَاعَةَ ارْفَعُوا أَيْدِيَكُمْ عَنْ الْقَتْلِ فَلَقَدْ كَثُرَ الْقَتْلُ إنْ نَفَعَ لَقَدْ قَتَلْتُمْ قَتِيلًا لَأَدِيَنه ، فَمَنْ قُتِلَ بَعْدَ مُقَامِي هَذَا فَأَهْلُهُ بِخَيْرِ النّظَرَيْنِ إنْ شَاءُوا فَدَمُ قَاتِلِهِ وَإِنْ شَاءُوا فَعَقْلُهُ ثُمّ وَدَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَلِكَ الرّجُلَ الّذِي قَتَلَتْهُ خُزَاعَةُ ، فَقَالَ عَمْرٌو لِأَبِي شُرَيْحٍ انْصَرِفْ أَيّهَا الشّيْخُ فَنَحْنُ أَعْلَمُ بِحُرْمَتِهَا مِنْك ، إنّهَا لَا تَمْنَعُ سَافِكَ دَمٍ وَلَا خَالِعَ طَاعَةٍ وَلَا مَانِعَ جِزْيَةٍ فَقَالَ أَبُو شُرَيْحٍ إنّي كُنْت شَاهِدًا وَكُنْت غَائِبًا ، وَلَقَدْ أَمَرَنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُبَلّغَ شَاهِدُنَا غَائِبَنَا ، وَقَدْ أَبْلَغْتُك ، فَأَنْتَ وَشَأْنُك .
أَوّلُ مَنْ وُدِيَ يَوْمَ الْفَتْحِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَبَلَغَنِي أَنّ أَوّلَ قَتِيلٍ وَدَاهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ جُنَيْدِبُ بْنُ الْأَكْوَعِ قَتَلَتْهُ بَنُو كَعْبٍ ، فَوَدَاهُ بِمِائَةِ نَاقَةٍ .
Sعَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ لَا عَمْرُو بْنُ الزّبَيْرِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيّ وَاسْمُهُ خُوَيْلِدُ بْنُ عَمْرٍو ، وَقِيلَ عَمْرُو بْنُ خُوَيْلِدٍ ، وَقِيلَ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو ، وَقِيلَ هَانِئُ بْنُ عَمْرٍو ، قَالَ لَمّا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ الزّبَيْرِ [ ص 178 ] لِقِتَالِ أَخِيهِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ بِمَكّةَ هَذَا وَهْمٌ مِنْ ابْنِ هِشَامٍ ، وَصَوَابُهُ عَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ ، وَهُوَ الْأَشْدَقُ وَيُكَنّى أَبَا أُمَيّةَ وَهُوَ الّذِي كَانَ يُسَمّى لَطِيمَ الشّيْطَانِ وَكَانَ جَبّارًا شَدِيدَ الْبَأْسِ حَتّى خَافَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ عَلَى مَكّةَ ، فَقَتَلَهُ بِحِيلَةِ فِي خَبَرٍ طَوِيلٍ وَرَأَى رَجُلٌ عِنْدَ مَوْتِهِ فِي الْمَنَامِ قَائِلًا يَقُولُ
أَلَا يَا لَقَوْمِي لِلسّفَاهَةِ وَالْوَهْنِ ... وَلِلْعَاجِزِ الْمَوْهُونِ وَالرّأْيِ فِي الْأَفْنِ
وَلِابْنِ سَعِيدٍ بَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ ... عَلَى قَدَمَيْهِ خَرّ لِلْوَجْهِ وَالْبَطْنِ
رَأَى الْحِصْنَ مَنْجَاةً مِنْ الْمَوْتِ فَالْتَجَا ... إلَيْهِ فَزَارَتْهُ الْمَنِيّةُ فِي الْحِصْنِ
فَقَصّ رُؤْيَاهُ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُمَهَا ، حَتّى كَانَ مِنْ قَتْلِهِ مَا كَانَ وَهُوَ الّذِي خَطَبَ بِالْمَدِينَةِ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَرَعَفَ حَتّى سَالَ الدّمُ إلَى أَسْفَلِهِ فَعُرِفَ بِذَلِكَ مَعْنَى حَدِيثِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ الّذِي يُرْوَى عَنْهُ كَأَنّي بِجَبّارِ مِنْ بَنِي أُمَيّةَ يَرْعُفُ عَلَى مِنْبَرِي هَذَا حَتّى يَسِيلَ الدّمُ إلَى أَسْفَلِهِ أَوْ كَمَا قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَعُرِفَ الْحَدِيثُ فِيهِ فَالصّوَابُ إذًا عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ لَا عَمْرُو بْنُ الزّبَيْرِ ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَهَكَذَا وَقَعَ فِي الصّحِيحَيْنِ . ذَكَرَ هَذَا التّنْبِيهَ عَلَى ابْنِ هِشَامٍ أَبُو عُمَرَ - رَحِمَهُ اللّهُ - فِي كِتَابِ الْأَجْوِبَةِ عَنْ الْمَسَائِلِ الْمُسْتَغْرَبَةِ وَهِيَ مَسَائِلُ مِنْ كِتَابِ الْجَامِعِ لِلْبُخَارِيّ تَكَلّمَ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ وَإِنّمَا دَخَلَ الْوَهْمُ عَلَى ابْنِ هِشَامٍ أَوْ عَلَى الْبَكّائِيّ فِي رِوَايَتِهِ مِنْ أَجْلِ أَنّ عَمْرَو بْنَ الزّبَيْرِ ، كَانَ مُعَادِيًا لِأَخِيهِ عَبْدِ اللّهِ وَمُعِينًا لِبَنِي أُمَيّةَ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْفِتْنَةِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

الْأَنْصَارُ يَتَخَوّفُونَ مِنْ بَقَاءِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي مَكّةَ
[ ص 176 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَبَلَغَنِي عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ افْتَتَحَ مَكّةَ وَدَخَلَهَا ، قَامَ عَلَى الصّفَا يَدْعُو اللّهَ وَقَدْ أَحْدَقَتْ بِهِ الْأَنْصَارُ ، فَقَالُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَتَرَوْنَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذْ فَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِ أَرْضَهُ وَبَلَدَهُ يُقِيمُ بِهَا ؟ فَلَمّا فَرَغَ مِنْ دُعَائِهِ قَالَ مَاذَا قُلْتُمْ ؟ " قَالُوا : لَا شَيْءَ يَا رَسُولَ اللّهِ فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتّى أَخْبَرُوهُ فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَاذَ اللّهِ الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ

كَسْرُ الْأَصْنَامِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الرّوَايَةِ فِي إسْنَادٍ لَهُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَكّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ عَلَى رَاحِلَتِهِ فَطَافَ عَلَيْهَا وَحَوْلَ الْبَيْتِ أَصْنَامٌ مَشْدُودَةٌ بِالرّصَاصِ فَجَعَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يُشِيرُ بِقَضِيبِ فِي يَدِهِ إلَى الْأَصْنَامِ وَيَقُولُ { جَاءَ الْحَقّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا } [ الْإِسْرَاءِ 81 ] فَمَا أَشَارَ إلَى صَنَمٍ مِنْهَا فِي وَجْهِهِ إلّا وَقَعَ لِقَفَاهُ وَلَا أَشَارَ إلَى قَفَاهُ إلّا وَقَعَ لِوَجْهِهِ حَتّى مَا بَقِيَ مِنْهَا صَنَمٌ إلّا وَقَعَ فَقَالَ تَمِيمُ بْنُ أَسَدٍ الْخُزَاعِيّ فِي ذَلِكَ
وَفِي الْأَصْنَامِ مُعْتَبَرٌ وَعِلْمٌ ... لِمَنْ يَرْجُو الثّوَابَ أَوْ الْعِقَابَا

قِصّةُ إسْلَامِ فَضَالَةَ
[ ص 177 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي أَنّ فَضَالَةَ بْنَ عُمَيْرِ بْنِ الْمُلَوّحِ اللّيْثِيّ أَرَادَ قَتْلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عَامَ الْفَتْحِ فَلَمّا دَنَا مِنْهُ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أَفَضَالَةَ ؟ " قَالَ نَعَمْ فَضَالَةَ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ " مَا كَانَتْ تُحَدّثُ بِهِ نَفْسَك ؟ " قَالَ لَا شَيْءَ كُنْت أَذْكُرُ اللّهَ قَالَ فَضَحِكَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ قَالَ " اسْتَغْفِرْ اللّهَ " ، ثُمّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ فَسَكَنَ قَلْبُهُ فَكَانَ فَضَالَةُ يَقُولُ وَاَللّهِ مَا رَفَعَ يَدَهُ عَنْ صَدْرِي حَتّى مَا مِنْ خَلْقِ اللّهِ شَيْءٌ أَحَبّ إلَيّ مِنْهُ [ ص 178 ] قَالَ فَضَالَةُ فَرَجَعْت إلَى أَهْلِي ، فَمَرَرْت بِامْرَأَةِ كُنْت أَتَحَدّثُ إلَيْهَا ، فَقَالَتْ هَلُمّ إلَى الْحَدِيثِ فَقُلْت : لَا . وَانْبَعَثَ فَضَالَةُ يَقُولُ
قَالَتْ هَلُمّ إلَى الْحَدِيثِ فَقُلْت لَا ... يَأْبَى عَلَيْك اللّهُ وَالْإِسْلَامُ
لَوْ مَا رَأَيْت مُحَمّدًا وَقَبِيلَهُ ... بِالْفَتْحِ يَوْمَ تُكْسَرُ الْأَصْنَامُ
لَرَأَيْت دِينَ أَضْحَى بَيّنًا ... وَالشّرْكُ يَغْشَى وَجْهَهُ الْإِظْلَامُ

أَمَانُ الرّسُولِ لِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ
[ ص 179 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، قَالَ خَرَجَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ يُرِيدُ جُدّةَ لِيَرْكَبَ مَعَهَا إلَى الْيَمَنِ ، فَقَالَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ يَا نَبِيّ اللّهِ إنّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ سَيّدُ قَوْمِهِ وَقَدْ خَرَجَ هَارِبًا مِنْك لِيَقْذِفَ نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ فَأَمّنْهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْك ؛ قَالَ " هُوَ آمِنٌ " ؟ قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ فَأَعْطِنِي آيَةً يَعْرِفُ بِهَا أَمَانَك ؛ فَأَعْطَاهُ [ ص 180 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِمَامَتَهُ الّتِي دَخَلَ فِيهَا مَكّةَ ، فَخَرَجَ بِهَا عُمَيْرٌ حَتّى أَدْرَكَهُ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَرْكَبَ فِي الْبَحْرِ فَقَالَ يَا صَفْوَانُ فِدَاك أَبِي وَأُمّي ، اللّهَ اللّهَ فِي نَفْسِك أَنْ تُهْلِكَهَا ، فَهَذَا أَمَانٌ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ جِئْتُك بِهِ قَالَ وَيْحَك اُغْرُبْ عَنّي فَلَا تُكَلّمْنِي ؛ قَالَ أَيْ صَفْوَانُ فِدَاك أَبِي وَأُمّي ، أَفْضَلُ النّاسِ وَأَبَرّ النّاسِ وَأَحْلَمُ النّاسِ وَخَيْرُ النّاسِ ابْنُ عَمّك ، عِزّهُ عِزّك ، وَشَرَفُهُ شَرَفُك ، وَمُلْكُهُ مُلْكُك ؛ قَالَ إنّي أَخَافُهُ عَلَى نَفْسِي ، قَالَ هُوَ أَحْلَمُ مِنْ ذَاكَ وَأَكْرَمُ فَرَجَعَ مَعَهُ حَتّى وَقَفَ بِهِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ صَفْوَانُ إنّ هَذَا يَزْعُمُ أَنّك قَدْ أَمّنْتنِي ، قَالَ " صَدَقَ " ، قَالَ فَاجْعَلْنِي فِيهِ بِالْخِيَارِ شَهْرَيْنِ قَالَ أَنْتَ بِالْخِيَارِ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ صَفْوَانَ قَالَ لِعُمَيْرِ وَيْحَك اُغْرُبْ عَنّي ، فَلَا تُكَلّمْنِي ، فَإِنّك كَذّابٌ لِمَا كَانَ صَنَعَ بِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي آخِرِ حَدِيثِ يَوْمِ بَدْرٍ . [ ص 181 ]
إسْلَامُ عِكْرِمَةَ وَصَفْوَانَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي الزّهْرِيّ : أَنّ أُمّ حَكِيمٍ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَفَاخِتَةَ بِنْتَ الْوَلِيدِ - وَكَانَتْ فَاخِتَةُ عِنْدَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ ، وَأُمّ حَكِيمٍ عِنْدَ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ أَسْلَمَتَا ؛ فَأَمّا أُمّ حَكِيمٍ فَاسْتَأْمَنَتْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِعِكْرِمَةَ فَأَمّنَهُ فَلَحِقَتْ بِهِ بِالْيَمَنِ فَجَاءَتْ بِهِ فَلَمّا أَسْلَمَ عِكْرِمَةُ وَصَفْوَانُ أَقَرّهُمَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عِنْدَهُمَا عَلَى النّكَاحِ الْأَوّلِ .
Sأُمّ حَكِيمٍ بِنْتُ الْحَارِثِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ أُمّ حَكِيمٍ بِنْتَ الْحَارِثِ وَكَانَتْ تَحْتَ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ ، وَأَنّهَا اتّبَعَتْهُ [ ص 179 ] فَرّ مِنْ الْإِسْلَامِ فَاسْتَأْمَنَتْ لَهُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَاسْتُشْهِدَ عِكْرِمَةُ بِالشّامِ فَخَطَبَهَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ . وَخَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ ، فَخُطِبَتْ إلَى خَالِدٍ فَتَزَوّجَهَا ، فَلَمّا أَرَادَ الْبِنَاءَ بِهَا ، وَجُمُوعُ الرّومِ قَدْ احْتَشَدَتْ قَالَتْ لَهُ لَوْ أَمْهَلْت حَتّى يَفُضّ اللّهُ جَمْعَهُمْ قَالَ إنّ نَفْسِي تُحَدّثُنِي أَنّي أُصَابُ فِي جُمُوعِهِمْ فَقَالَتْ دُونَك ، فَابْتَنَى بِهَا ، فَلَمّا أَصْبَحَ الْتَقَتْ الْجُمُوعُ وَأَخَذَتْ السّيُوفُ مِنْ كُلّ فَرِيقٍ مَأْخَذَهَا فَقُتِلَ خَالِدٌ وَقَاتَلَتْ يَوْمَئِذٍ أُمّ حَكِيمٍ وَإِنّ عَلَيْهَا لِلرّدْعِ الْخَلُوقَ وَقَتَلَتْ سَبْعَةً مِنْ الرّومِ بِعَمُودِ الْفُسْطَاطِ بِقَنْطَرَةِ تُسَمّى إلَى الْيَوْمِ بِقَنْطَرَةِ أُمّ حَكِيمٍ وَذَلِكَ فِي غَزْوَةِ أَجْنَادِينَ .

دَمُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ
وَذَكَرَ فِي خُطْبَةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلَا كُلّ مَأْثُرَةٍ أَوْ دَمٍ أَوْ مَالٍ يُدَعّى ، فَهُوَ تَحْتَ قَدَمَيّ هَاتَيْنِ وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ الْحَدِيثِ وَأَوّلُ دَمٍ أَضَعُهُ دَمُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ . كَانَ لِرَبِيعَةَ ابْنٌ قُتِلَ فِي الْجَاهِلِيّةِ اسْمُهُ آدَمُ وَقِيلَ تَمّامٌ وَهُوَ رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، مَاتَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ .
حَوْلَ التّخْيِيرِ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَبَيْنَ الدّيَةِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ فِي حَدِيثِ ابْنِ شُرَيْحٍ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ فَمَنْ قُتِلَ بَعْدَ مُقَامِي هَذَا ، فَأَهْلُهُ بِخَيْرِ النّظَرَيْنِ . إنْ شَاءُوا فَدَمُ قَاتِلِهِ وَإِنْ شَاءُوا فَعَقْلُه وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ فِيهِ أَلْفَاظُ الرّوَاةِ وَظَاهِرُهُ عَلَى هَذِهِ الرّوَايَةِ أَنّ وَلِيّ الدّمِ هُوَ الْمُخَيّرُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الدّيَةَ وَهُوَ الْعَقْلُ وَإِنْ شَاءَ قَتَلَ وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي فَصْلٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنْ يَخْتَارَ وَلِيّ الْمَقْتُولِ أَخْذَ الدّيَةِ وَيَأْبَى الْقَاتِلُ إلّا أَنْ يُقْتَصّ مِنْهُ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَلَا اخْتِيَارَ لِلْقَاتِلِ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ يُقْتَلُ الْقَاتِلُ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى إعْطَاءِ الْمَالِ وَتَأَوّلُوا الْحَدِيثَ وَهِيَ [ ص 180 ] ابْنِ الْقَاسِمِ ، وَقَالَ بِهَا طَائِفَةٌ مِنْ السّلَفِ وَقَالَ آخَرُونَ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُ الشّافِعِيّ ، وَأَشْهَبَ وَمَنْشَأُ الِاخْتِلَافِ مِنْ الِاحْتِمَالِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ } [ الْبَقَرَةِ 178 ] فَاحْتَمَلَتْ الْآيَةُ عِنْدَ قَوْمٍ أَنْ تَكُونَ مِنْ وَاقِعَةً عَلَى وَلِيّ الْمَقْتُولِ وَمِنْ أَخِيهِ أَيْ مِنْ وَلِيّهِ الْمَقْتُولِ أَيْ مِنْ دِيَتِهِ وَعُفِيَ لَهُ أَيْ يُسّرَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ وَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ مِنْ وَاقِعَةً عَلَى الْقَاتِلِ وَعُفِيَ مِنْ الْعَفْوِ عَنْ الدّمِ وَلَا خِلَافَ أَنّ الْمُتّبِعَ بِالْمَعْرُوفِ هُوَ وَلِيّ الدّمِ وَأَنّ الْمَأْمُورَ بِأَدَاءِ بِإِحْسَانِ هُوَ الْقَاتِلُ وَإِذَا تَدَبّرْت الْآيَةَ عَرَفْت مَنْشَأَ الْخِلَافِ مَعَهَا ، وَلَاحَ مِنْ سِيَاقَةِ الْكَلَامِ أَيّ الْقَوْلَيْنِ أَوْلَى بِالصّوَابِ . وَأَمّا مَا ذَكَرْت مِنْ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِ النّقَلَةِ فِي الْحَدِيثِ فَيَحْصُرُهَا سَبْعَةُ أَلْفَاظٍ أَحَدُهَا : إمّا أَنْ يَقْتُلَ وَإِمّا أَنْ يُفَادِيَ . وَالثّانِي : إمّا أَنْ يُعْقَلَ أَوْ يُقَادَ . الثّالِثُ إمّا أَنْ يَفْدِيَ وَإِمّا أَنْ يُقْتَلَ . الرّابِعُ إمّا أَنْ تُعْطَى الدّيَةُ أَوْ يُقَادَ أَهْلُ الْقَتِيلِ . الْخَامِسُ إمّا أَنْ يَعْفُوَ أَوْ يَقْتُلَ . السّادِسُ يُقْتَلُ أَوْ يُفَادَى . السّابِعُ مَنْ قَتَلَ مُتَعَمّدًا دُفِعَ إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ فَإِنْ شَاءُوا قَتَلُوا وَإِنْ شَاءُوا أَخَذُوا الدّيَةَ . خَرّجَهُ التّرْمِذِيّ . وَرِوَايَةُ ابْنِ إسْحَاقَ فِي السّيرَةِ ثَامِنَةٌ وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الرّوَايَاتِ قُوّةٌ لِرِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ ، وَفِي بَعْضِهَا قُوّةٌ لِرِوَايَةِ أَشْهَبَ فَتَأَمّلْهَا . [ ص 181 ]
النّهْيُ عَنْ اشْتِمَالِ الصّمّاءِ وَالِاحْتِبَاءِ
وَخُطْبَتُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ أَطْوَلُ مِمّا ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ ، وَفِيهَا مِنْ رِوَايَةِ الشّيْبَانِيّ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ : نَهْيُهُ عَنْ صِيَامِ يَوْمَيْنِ وَصَلَاةِ سَاعَتَيْنِ يَعْنِي طُلُوعَ الشّمْسِ وَغُرُوبَهَا ، وَأَنْ لَا يَتَوَارَثَ أَهْلُ مِلّتَيْنِ وَعَنْ لُبْسَتَيْنِ وَطُعْمَتَيْنِ وَفُسّرَتَا فِي الْحَدِيثِ فَقَالَ اللّبْسَتَانِ اشْتِمَالُ الصّمّاءِ وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرّجُلُ وَلَيْسَ بَيْنَ عَوْرَتِهِ وَالسّمَاءِ حِجَابٌ وَالطّعْمَتَانِ الْأَكْلُ بِالشّمَالِ وَأَنْ يَأْكُلَ مُنْبَطِحًا عَلَى بَطْنِهِ .

إسْلَامُ ابْنِ الزّبَعْرَى وَشِعْرُهُ فِي ذَلِكَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ حَسّانِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ رَمَى حَسّانُ ابْنَ الزّبَعْرَى وَهُوَ بِنَجْرَانَ بِبَيْتِ وَاحِدٍ مَا زَادَهُ عَلَيْهِ
لَا تَعْدَمْنَ رَجُلًا أَحَلّك بُغْضُهُ ... نَجْرَانَ فِي عَيْشٍ أَحَذّ لَئِيمِ
فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ الزّبَعْرَى خَرَجَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَسْلَمَ فَقَالَ حِينَ أَسْلَمَ [ ص 182 ]
يَا رَسُولَ الْمَلِيكِ إنّ لِسَانِي ... رَاتِقٌ مَا فَتَقْت إذْ أَنَا بُورُ
إذْ أُبَارِي الشّيْطَانَ فِي سُنَنِ الْغَيّ ... وَمَنْ مَالَ مَيْلُهُ مَثْبُورُ
آمَنَ اللّحْمُ وَالْعِظَامُ لِرَبّي ... ثُمّ قَلْبِي الشّهِيدُ أَنْتَ النّذِيرُ
إنّنِي عَنْك زَاجِرٌ ثَمّ حَيّا ... مِنْ لُؤَيّ وَكُلّهُمْ مَغْرُورُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الزّبَعْرَى أَيْضًا حِينَ أَسْلَمَ [ ص 183 ]
مَنَعَ الرّقَادَ بَلَابِلٌ وَهُمُومُ ... وَاللّيْلُ مُعْتَلِجُ الرّوَاقِ بَهِيمُ
مِمّا أَتَانِي أَنّ أَحْمَدَ لَامَنِي ... فِيهِ فَبِتّ كَأَنّنِي مَحْمُومُ
يَا خَيْرَ مَنْ حَمَلَتْ عَلَى أَوْصَالِهَا ... عَيْرَانَةٌ سُرُحُ الْيَدَيْنِ غَشُومُ
إنّي لَمُعْتَذِرٌ إلَيْك مِنْ الّذِي ... أَسْدَيْت إذْ أَنَا فِي الضّلَالِ أَهِيمُ
أَيّامَ تَأْمُرُنِي بِأَغْوَى خُطّةٍ ... سَهْمٌ وَتَأْمُرُنِي بِهَا مَخْزُومُ
وَأَمُدّ أَسْبَابَ الرّدَى وَيَقُودُنِي ... أَمْرُ الْغُوَاةِ وَأَمْرُهُمْ مَشْئُومُ
فَالْيَوْمَ آمَنَ بِالنّبِيّ مُحَمّدٍ ... قَلْبِي وَمُخْطِئُ هَذِهِ مَحْرُومُ
مَضَتْ الْعَدَاوَةُ وَانْقَضَتْ أَسْبَابُهَا ... وَدَعَتْ أَوَاصِرُ بَيْنَنَا وَحُلُومُ
فَاغْفِرْ فِدًى لَك وَالِدِيّ كِلَاهُمَا ... زَلَلِي ، فَإِنّك رَاحِمٌ مَرْحُومُ
وَعَلَيْك مِنْ عِلْمِ الْمَلِيكِ عَلَامَةُ ... نُورٍ أَغَرّ وَخَاتَمٌ مَخْتُومُ
أَعْطَاك بَعْدَ مَحَبّةٍ بُرْهَانَهُ ... شَرَفًا وَبُرْهَانُ الْإِلَهِ عَظِيمُ
وَلَقَدْ شَهِدْت بِأَنّ دِينَك صَادِقٌ ... حَقّ وَأَنّك فِي الْعِبَادِ جَسِيمُ
وَاَللّهُ يَشْهَدُ أَنّ أَحْمَدَ مُصْطَفًى ... مُسْتَقْبَلٌ فِي الصّالِحِينَ كَرِيمُ
قَرْمٌ عَلَا بُنْيَانَهُ مِنْ هَاشِمٍ ... فَرْعٌ تَمَكّنَ فِي الذّرَا وَأُرُومُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ يُنْكِرُهَا لَهُ .
Sشِعْرُ ابْنِ الزّبَعْرَى
فَصْلٌ
وَذَكَرَ شِعْرَ ابْنِ الزّبَعْرَى : الزّبَعْرَى : الْبَعِيرُ الْأَزَبّ مَعَ قِصَرٍ وَفِيهِ رَاتِقٌ مَا فَتَقْت إذْ أَنَا بُورُ
[ ص 182 ] فَتَقْت يَعْنِي : فِي الدّينِ فَكُلّ إثْمٍ فَتْقٌ وَتَمْزِيقٌ وَكُلّ تَوْبَةٍ رَتْقٌ وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قِيلَ لِلتّوْبَةِ نَصُوحٌ مِنْ نَصَحْت إذَا خِطْته ، وَالنّصَاحُ الْخَيْطُ وَيَشْهَدُ لِصِحّةِ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ إبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ
نُرَقّعُ دُنْيَانَا بِتَمْزِيقِ دِينِنَا ... فَلَا دِينُنَا يَبْقَى ، وَلَا مَا نُرَقّعُ
وَقَوْلُهُ إذْ أَنَا بُورُ أَيْ هَالِكٌ يُقَالُ رَجُلٌ بُورٌ وَبَائِرٌ وَقَوْمٌ بُورٌ وَهُوَ جَمْعُ بَائِرٍ كَانَ الْأَصْلُ فِيهِ فُعُلٌ بِتَحْرِيكِ الْوَاوِ وَأَمّا رَجُلٌ بُورٌ فَوَزْنُهُ فُعْلٌ بِالسّكُونِ لِأَنّهُ وَصْفٌ بِالْمَصْدَرِ وَمِنْهُ قِيلَ أَرْضٌ بُورٌ مِنْ الْبَوَارِ وَهُوَ هَلَاكُ الْمَرْعَى وَيُبْسُهُ . وَقَوْلُ ابْنِ الزّبَعْرَى : وَاللّيْلُ مُعْتَلِجُ الرّوَاقِ بَهِيمُ
الِاعْتِلَاجُ شِدّةٌ وَقُوّةٌ وَقَدْ تَقَدّمَ شَرْحُهَا . وَالْبَهِيمُ الّذِي لَيْسَ فِيهِ لَوْنٌ يُخَالِطُ لَوْنَهُ . وَقَوْلُهُ سُرُحُ الْيَدَيْنِ غَشُومُ . الْغَشُومُ الّتِي لَا تُرَدّ عَنْ وَجْهِهَا ، وَيُرْوَى سَعُومُ وَهِيَ الْقَوِيّةُ عَلَى السّيْرِ . [ ص 183 ]

بَقَاءُ هُبَيْرَةَ عَلَى كُفْرِهِ وَشِعْرُهُ فِي إسْلَامِ زَوْجِهِ أُمّ هَانِئٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَمّا هُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ الْمَخْزُومِيّ فَأَقَامَ بِهَا حَتّى مَاتَ كَافِرًا ، وَكَانَتْ عِنْدَهُ أُمّ هَانِئٍ بِنْتُ أَبِي طَالِبٍ ، وَاسْمُهَا هِنْدٌ ، وَقَدْ قَالَ حِينَ بَلَغَهُ إسْلَامُ أُمّ هَانِئٍ
أَشَاقَتْك هِنْدٌ أَمْ أَتَاك سُؤَالُهَا ... كَذَاك النّوَى أَسْبَابُهَا وَانْفِتَالُهَا
وَقَدْ أَرَقّتْ فِي رَأْسِ حِصْنٍ مُمَنّعٍ ... بِنَجْرَانَ يَسْرِي بَعْدَ لَيْلٍ خَيَالُهَا
وَعَاذِلَةٍ هَبّتْ بِلَيْلِ تَلُومُنِي ... وَتَعْذِلُنِي بِاللّيْلِ ضَلّ ضَلَالُهَا
وَتَزْعُمُ أَنّي إنْ أَطَعْت عَشِيرَتِي ... سَأَرْدَى . وَهَلْ يُرْدِينِ إلّا زِيَالُهَا
فَإِنّي لَمِنْ قَرْمٍ إذَا جَدّ جَدّهُمْ ... عَلَى أَيّ حَالٍ أَصْبَحَ الْيَوْمَ حَالُهَا
وَإِنّي لَحَامٍ مِنْ وَرَاءِ عَشِيرَتِي ... إذَا كَانَ مِنْ تَحْتِ الْعَوَالِي مَجَالُهَا
وَصَارَتْ بِأَيْدِيهَا السّيُوفُ كَأَنّهَا ... مَخَارِيقُ وِلْدَانٍ وَمِنْهَا ظِلَالُهَا
وَإِنّي لَأَقْلَى الْحَاسِدِينَ وَفِعْلَهُمْ ... عَلَى اللّهِ رِزْقِي نَفْسُهَا وَعِيَالُهَا
وَإِنّ كَلَامَ الْمَرْءِ فِي غَيْرِ كُنْهِهِ ... لَكَالنّبْلِ تَهْوِي لَيْسَ فِيهَا نِصَالُهَا
فَإِنْ كُنْت قَدْ تَابَعْت دِينَ مُحَمّدٍ ... وَعَطَفَتْ الْأَرْحَامَ مِنْك حِبَالُهَا
فَكُونِي عَلَى أَعْلَى سَحِيقٍ بِهَضْبَةِ ... مُلَمْلَمَةٍ غَبْرَاءَ يَبْسٍ بِلَالُهَا
[ ص 184 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَيُرْوَى : وَقَطَعَتْ الْأَرْحَامَ مِنْك حِبَالُهَا

عُدّةُ مَنْ شَهِدَ فَتْحَ مَكّةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ جَمِيعُ مَنْ شَهِدَ فَتْحَ مَكّةَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَشْرَةَ آلَافٍ . وَمِنْ بَنِي سُلَيْمٍ سَبْعُ مِائَةٍ وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ أَلْفٌ وَمِنْ بَنِي غِفَارٍ أَرْبَعُ مِائَةٍ وَمِنْ أَسْلَمَ أَرْبَعُ مِائَةٍ وَمِنْ مُزَيْنَةَ أَلْفٌ وَثَلَاثَةُ نَفَرٍ وَسَائِرُهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ وَحُلَفَائِهِمْ وَطَوَائِفُ الْعَرَبِ مِنْ تَمِيمٍ وَقَيْسٍ وَأَسَدٍ .

شِعْرُ حَسّانٍ فِي فَتْحِ مَكّةَ
وَكَانَ مِمّا قِيلَ مِنْ الشّعْرِ فِي يَوْمِ الْفَتْحِ قَوْلُ حَسّانِ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيّ [ ص 185 ] [ ص 186 ] [ ص 187 ] [ ص 188 ]
عَفَتْ ذَاتُ الْأَصَابِعِ فَالْجِوَاءُ ... إلَى عَذْرَاءَ مَنْزِلُهَا خِلَاءُ
دِيَارٌ مِنْ بَنِي الْحَسْحَاسِ قَفْرٌ ... تُعْفِيهَا الرّوَامِسُ وَالسّمَاءُ
وَكَانَتْ لَا يَزَالُ بِهَا أَنِيسٌ ... خِلَالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ
فَدَعْ هَذَا وَلَكِنْ مِنْ لِطَيْفِ ... يُؤَرّقُنِي إذَا ذَهَبَ الْعِشَاءُ
لِشَعْثَاءَ الّتِي قَدْ تَيّمَتْهُ ... فَلَيْسَ لِقَلْبِهِ مِنْهَا شِفَاءُ
كَأَنّ خَبِيئَةً مِنْ بَيْتِ رَأْسٍ ... يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءُ
إذَا مَا الْأَشْرِبَاتُ ذُكِرْنَ يَوْمًا ... فَهُنّ لِطَيّبِ الرّاحِ الْفِدَاءُ
فَوَلِيّهَا الْمَلَامَةَ إنْ أَلَمْنَا ... إذَا مَا كَانَ مَغْثٌ أَوْ لَحَاءُ
وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا ... وَأُسْدًا مَا يُنَهْنِهُنَا اللّقَاءُ
عَدِمْنَا خَيْلَنَا إنْ لَمْ تَرْوِهَا ... تُثِيرُ النّقْعَ مَوْعِدُهَا كَدَاءُ
يُنَازِعْنَ الْأَعِنّةَ مُصْغِيَاتٍ ... عَلَى أَكْتَافِهَا الْأَسَلُ الظّمَاءُ
تَظَلّ جِيَادُنَا مُتَمَطّرَاتٍ ... يَلْطُمُهُنّ بِالْخُمُرِ النّسَاءُ
فَإِمّا تُعْرِضُوا عَنّا اعْتَمَرْنَا ... وَكَانَ الْفَتْحُ وَانْكَشَفَ الْغِطَاءُ
وَإِلّا فَاصْبِرُوا لِجِلَادِ يَوْمٍ ... يُعِينُ اللّهُ فِيهِ مَنْ يَشَاءُ
وَجِبْرِيلُ رَسُولُ اللّهِ فِينَا ... وَرُوحُ الْقُدْسِ لَيْسَ لَهُ كِفَاءُ
وَقَالَ اللّهُ قَدْ أَرْسَلْت عَبْدًا ... يَقُولُ الْحَقّ إنْ نَفَعَ الْبَلَاءُ
شَهِدْت بِهِ فَقُومُوا صَدّقُوهُ ... فَقُلْتُمْ لَا نَقُومُ وَلَا نَشَاءُ
وَقَالَ اللّهُ قَدْ سَيّرْت جُنْدًا ... هُمْ الْأَنْصَارُ عُرْضَتُهَا اللّقَاءُ
لَنَا فِي كُلّ يَوْمٍ مِنْ مَعَدّ ... سِبَابٌ أَوْ قِتَالٌ أَوْ هِجَاءُ
فَنُحْكِمُ بِالْقَوَافِي مَنْ هَجَانَا ... وَنَضْرِبُ حِينَ تَخْتَلِطُ الدّمَاءُ
أَلَا أَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنّي ... مُغَلْغَلَةً فَقَدْ بَرِحَ الْخَفَاءُ
[ ص 189 ] ... وَعَبْدُ الدّارِ سَادَتُهَا الْإِمَاءُ
هَجَوْت مُحَمّدًا وَأَجَبْت عَنْهُ ... وَعِنْدَ اللّهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ
أَتَهْجُوهُ وَلَسْت لَهُ بِكُفْءِ ... فَشَرّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ
هَجَوْت مُبَارَكًا بَرّا حَنِيفًا ... أَمِينَ اللّهِ شِيمَتُهُ الْوَفَاءُ
أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللّهِ مِنْكُمْ ... وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ ؟
فَإِنّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِي ... لِعَرْضِ مُحَمّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ
لِسَانِي صَارِمٌ لَا عَيْبَ فِيهِ ... وَبَحْرِي لَا تُكَدّرُهُ الدّلَاءُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَالَهَا حَسّانُ يَوْمَ الْفَتْحِ وَيُرْوَى : لِسَانِي صَارِمٌ لَا عَتْبَ فِيهِ " وَبَلَغَنِي عَنْ الزّهْرِيّ أَنّهُ قَالَ لَمّا رَأَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ النّسَاءَ يَلْطِمْنَ الْخَيْلَ بِالْخُمُرِ تَبَسّمَ إلَى أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
Sحَوْلَ شِعْرِ حَسّانٍ
[ ص 184 ] وَذَكَرَ شِعْرَ حَسّانٍ يَوْمَ الْفَتْحِ وَأَوّلُهُ عَفَتْ ذَاتُ الْأَصَابِعِ فَالْجِوَاءُ
ذَاتُ الْأَصَابِعِ : مَوْضِعٌ بِالشّامِ وَالْجِوَاءُ كَذَلِكَ وَبِالْجِوَاءِ كَانَ مَنْزِلُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ ، وَكَانَ حَسّانُ كَثِيرًا مَا يَرِدُ عَلَى مُلُوكِ غَسّانَ بِالشّامِ يَمْدَحُهُمْ فَلِذَلِكَ يَذْكُرُ هَذِهِ الْمَنَازِلَ . وَقَوْلُهُ إلَى عَذْرَاءَ ، هِيَ قَرْيَةٌ عِنْدَ دِمَشْقَ ، فِيهَا قُتِلَ حُجْرُ بْنُ عَدِيّ وَأَصْحَابُهُ . وَقَوْلُهُ نَعَمٌ وَشَاءُ . النّعَمُ الْإِبِلُ فَإِذَا قِيلَ أَنْعَامٌ دَخَلَ فِيهَا الْغَنَمُ وَالْبَقَرُ وَالْإِبِلُ . وَالشّاءُ وَالشّوِيّ : اسْمٌ لِلْجَمِيعِ كَالضّأْنِ وَالضّئِينِ وَالْإِبِلِ وَالْإِبِيلِ وَالْمَعْزِ وَالْمَعِيزِ وَأَمّا الشّاةُ فَلَيْسَتْ مِنْ لَفْظِ الشّاءِ لِأَنّ لَامَ الْفِعْلِ مِنْهَا هَاءٌ . وَبَنُو الْحَسْحَاسِ : حَيّ مِنْ بَنِي أَسَدٍ . [ ص 185 ] وَنَحْوِهِ وَلَا مِنْ قَوْلِهِ
إذَا سَقَطَ السّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ ... رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا
لِأَنّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ مَطَرَ السّمَاءِ فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَلَكِنْ إنّمَا عَرَفْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِمْ فِي جَمْعِهِ سُمَيّ وَهُمْ يَقُولُونَ فِي جَمْعِ السّمَاءِ سَمَوَاتٌ وَأَسْمِيَةٌ فَعَلِمْنَا أَنّهُ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ . وَقَوْلُهُ وَلَكِنْ مَنْ لِطَيْفِ . الطّيْفُ مَصْدَرُ طَافَ الْخَيَالُ يَطِيفُ طَيْفًا ، وَلَكِنْ لَا يُقَالُ لِلْخَيَالِ هُوَ طَائِفٌ عَلَى وَزْنِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ طَافَ لِأَنّهُ لَا حَقِيقَةَ لِلْخَيَالِ فَيَرْجِعُ الْأَمْرُ إلَى أَنّهُ هُوَ الطّيْفُ وَهُوَ تَوَهّمٌ وَتَخَيّلٌ فَإِنْ كَانَ شَيْءٌ لَهُ حَقِيقَةٌ قُلْت فِيهِ طَائِفٌ وَفِي مَصْدَرِهِ طَيْفٌ كَمَا فِي التّنْزِيلِ { طَائِفٌ مِنَ الشّيْطَانِ } [ الْأَعْرَافِ 201 ] وَقَدْ قُرِئَ أَيْضًا " طَيْفٌ مِنْ الشّيْطَان " ، لِأَنّ غُرُورَ الشّيْطَانِ وَأَمَانِيّهُ تُشَبّهُ بِالْخَيَالِ وَمَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ . وَأَمّا قَوْلُهُ فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبّك [ الْقَلَمِ 19 ] فَلَيْسَ فِيهِ إلّا اسْمُ الْفَاعِلِ دُونَ الْمَصْدَرِ لِأَنّ الّذِي طَافَ عَلَيْهَا لَهُ حَقِيقَةٌ وَهُوَ فَاعِلٌ مَعْرُوفٌ بِالْفِعْلِ يُقَالُ إنّهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ ، فَتَحَصّلَ مِنْ هَذَا ثَلَاثُ مَرَاتِبَ الْخَيَالُ وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ فَلَا يُعَبّرُ عَنْهُ إلّا بِالطّيْفِ وَحَدِيثُ الشّيْطَانِ وَوَسْوَسَتُهُ يُقَالُ فِيهِ طَائِفٌ وَطَيْفٌ وَكُلّ طَائِفٍ سِوَى هَذَيْنِ فَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ لَا يُعَبّرُ عَنْهُ بِطَيْفِ وَلَا بِطَوَافِ فَقِفْ عَلَى هَذِهِ النّكْتَةِ فِيهِ . وَقَوْلُهُ يُؤَرّقُنِي إذَا ذَهَبَ الْعِشَاءُ
أَيْ يُسَهّرُنِي ، فَيُقَالُ كَيْفَ يُسَهّرُهُ الطّيْفُ وَالطّيْفُ حُلْمٌ فِي الْمَنَامِ ؟ . فَالْجَوَابُ أَنّ الّذِي يُؤَرّقُهُ لَوْعَةٌ يَجِدُهَا عِنْدَ زَوَالِهِ كَمَا قَالَ [ حَبِيبُ بْنُ أَوْسٍ أَبُو تَمّامٍ ] الطّائِيّ :
ظَبْيٌ تَقَنّصْتُهُ لَمّا نَصَبْت لَهُ ... مِنْ آخِرِ اللّيْلِ أَشْرَاكًا مِنْ الْحُلْمِ
ثُمّ انْثَنَى ، وَبِنَا مِنْ ذِكْرِهِ سَقَمٌ ... بَاقٍ وَإِنْ كَانَ مَعْسُولًا مِنْ السّقَمِ
وَقَدْ أَحْسَنَ فِي قَوْلِهِ مِنْ آخِرِ اللّيْلِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنّهُ سَهِرَ لَيْلَهُ كُلّهُ إلّا سَاعَةً جَاءَ الْخَيَالُ مِنْ آخِرِهِ فَكَأَنّهُ مُسْتَرَقٌ مِنْ قَوْلِ حَسّانٍ وَخَيَالٌ إذَا تَقُومُ النّجُومُ
[ ص 186 ] الْبُحْتُرِيّ
أَلَمّتْ بِنَا بَعْدَ الْهُدُوّ فَسَامَحَتْ ... بِوَصْلِ مَتَى تَطْلُبْهُ فِي الْجِدّ تَمْنَعْ
وَوَلّتْ كَأَنّ الْبَيْنَ يَخْلُجُ شَخْصَهَا ... أَوَانَ تَوَلّتْ مِنْ حِشَائِي وَأَضْلُعِي
وَقَوْلُهُ لِشَعْثَاءَ الّتِي قَدْ تَيّمَتْهُ
شَعْثَاءُ الّتِي يُشَبّبُ بِهَا حَسّانُ هِيَ بِنْتُ سَلّامِ بْنِ مِشْكَمٍ الْيَهُودِيّ وَرُوِيَ أَنّهُ قَالَ يَا مَعْشَرَ يَهُودَ قَدْ عَلِمْتُمْ أَنّ مُحَمّدًا نَبِيّ ، وَلَوْلَا أَنْ تُعَيّرَ بِهَا شَعْثَاءُ ابْنَتِي لَتَبِعْته ، وَقَدْ كَانَتْ تَحْتَ حَسّانٍ أَيْضًا امْرَأَةٌ اسْمُهَا شَعْثَاءُ بِنْتُ كَاهِنٍ الْأَسْلَمِيّةُ وَلَدَتْ لَهُ أُمّ فِرَاسٍ . وَقَوْلُهُ كَأَنّ خَبِيئَةً مِنْ بَيْتِ رَأْسٍ
إلَى آخِرِهِ خَبَرُ كَأَنّ فِي هَذَا الْبَيْتِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ كَأَنّ فِي فِيهَا خَبِيئَةً وَمِثْلُ هَذَا الْمَحْذُوفِ فِي النّكِرَاتِ حَسَنٌ كَقَوْلِهِ إنّ مَحَلّا وَإِنّ مُرْتَحِلًا
أَيْ إنّ لَنَا مَحَلّا ، وَكَقَوْلِ الْآخَرِ وَلَكِنّ زِنْجِيّا طَوِيلًا مَشَافِرُهْ
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيّ فِي صِفَةِ الدّجّالِ أَعْوَرَ كَأَنّ عِنَبَةً طَافِيَةً أَيْ كَأَنّ فِي عَيْنِهِ وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنّ بَعْدَ هَذَا الْبَيْتِ بَيْتًا فِيهِ الْخَبَرُ وَهُوَ
عَلَى أَنْيَابِهَا أَوْ طَعْمُ غَضّ ... مِنْ التّفّاحِ هَصَرَهُ اجْتِنَاءُ
وَهَذَا الْبَيْتُ مَوْضُوعٌ لَا يُشْبِهُ شِعْرَ حَسّانٍ وَلَا لَفْظَهُ . [ ص 187 ] نُوَلّيهَا الْمَلَامَةَ إنْ أَلَمْنَا
أَيْ إنْ أَتَيْنَا بِمَا نُلَامُ عَلَيْهِ صَرَفْنَا اللّوْمَ إلَى الْخَمْرِ وَاعْتَذَرْنَا بِالسّكْرِ . وَالْمَغْتُ الضّرْبُ بِالْيَدِ وَاللّحَاءُ الْمُلَاحَاةُ بِاللّسَانِ وَيُرْوَى أَنّ حَسّانًا مَرّ بِفِتْيَةِ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ فِي الْإِسْلَامِ فَنَهَاهُمْ فَقَالُوا : وَاَللّهِ لَقَدْ أَرَدْنَا تَرْكَهَا فَيُزَيّنُهَا لَنَا قَوْلُك : وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا
فَقَالَ وَاَللّهِ لَقَدْ قُلْتهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ وَمَا شَرِبْتهَا مُنْذُ أَسْلَمْت ، وَكَذَلِكَ قِيلَ إنّ بَعْضَ هَذِهِ الْقَصِيدَةِ قَالَهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ وَقَالَ آخِرَهَا فِي الْإِسْلَامِ . مَعْنَى التّفْضِيلِ فِي شَرّكُمَا : وَفِيهَا يَقُولُ لِأَبِي سُفْيَانَ فَشَرّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الْفِدَاءُ
وَفِي ظَاهِرُ اللّفْظِ بَشَاعَةٌ لِأَنّ الْمَعْرُوفَ أَنْ لَا يُقَالَ هُوَ شَرّهُمَا إلّا وَفِي كِلَيْهِمَا شَرّ ، وَكَذَلِكَ شَرّ مِنْك ، وَلَكِنّ سِيبَوَيْهِ قَالَ فِي كِتَابِهِ تَقُولُ مَرَرْت بِرَجُلِ شَرّ مِنْك ، إذَا نَقَصَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ وَهَذَا يَدْفَعُ الشّنَاعَةَ عَنْ الْكَلَامِ الْأَوّلِ وَنَحْوٌ مِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ شَرّ صُفُوفِ الرّجَالِ آخِرُهَا يُرِيدُ نُقْصَانَ حَظّهِمْ عَنْ حَظّ الْأَوّلِ كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ التّفْضِيلَ فِي الشّرّ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
يَلْطِمُ أَوْ يُطَلّمُ
[ ص 188 ] يَلْطِمُهُنّ بِالْخُمُرِ النّسَاءُ
قَالَ ابْنُ دُرَيْدٍ فِي الْجَمْهَرَةِ كَانَ الْخَلِيلُ رَحِمَهُ اللّهُ يَرْوِي بَيْتَ حَسّانٍ يُطَلّمُهُنّ بِالْخُمُرِ وَيُنْكِرُ يُلَطّمُهُنّ وَيَجْعَلُهُ بِمَعْنَى : يَنْفُضُ النّسَاءُ بِخُمُرِهِنّ مَا عَلَيْهِنّ مِنْ غُبَارٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَأَتْبَعَ بِذَلِكَ ابْنُ دُرَيْدٍ قَوْلُهُ الطّلْمُ ضَرْبُك خُبْزَةَ الْمَلّةِ بِيَدِك لِتَنْفُضَ مَا عَلَيْهَا مِنْ الرّمَادِ وَالطّلْمَةُ الْخُبْزَةُ وَمَعَهُ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرَرْنَا بِقَوْمِ يُعَالِجُونَ طَلْمَةً لَهُمْ فَنَفَرْنَاهُمْ عَنْهَا ، فَاقْتَسَمْنَاهَا ، فَأَصَابَتْنِي مَعَهَا كِسْرَةٌ وَكُنْت أَسْمَعُ فِي بَلَدِي أَنّهُ مَنْ أَكَلَ الْخُبْزَ سَمِنَ فَجَعَلْت أَنْظُرُ فِي عِطْفِي : هَلْ ظَهَرَ فِيّ السّمَنُ بَعْدُ . وَمِمّا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رُئِيَ يَمْسَحُ وَجْهَ فَرَسِهِ بِرِدَائِهِ فَقَالَ عُوتِبْت اللّيْلَةَ فِي الْخَيْلِ وَفِيهَا : وَنُحْكِمُ بِالْقَوَافِي مَنْ هَجَانَا
[ ص 189 ] حَكَمَةِ الدّابّةِ وَهُوَ لِجَامُهَا ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى أَيْضًا : نُفْحِمُهُمْ وَنُخْرِسُهُمْ فَتَكُونُ قَوَافِينَا لَهُمْ كَالْحَكَمَاتِ لِلدّوَابّ قَالَ زُهَيْرٌ قَدْ أُحْكِمَتْ حَكَمَاتِ الْقَدّ وَالْأَبْقَا
وَفِي هَذِهِ الْقَصِيدَةِ مَوْعِدُهَا كَدَاءُ ، وَفِي رِوَايَةِ الشّيْبَانِيّ يَسِيلُ بِهَا كُدَيّ أَوْ كَدَاءُ . وَقَدْ ذَكَرْنَا كُدَيّا وَكَدَاءَ ، وَذَكَرْنَا مَعَهُمَا كُدًى ، وَزَادَ الشّيْبَانِيّ فِي رِوَايَتِهِ أَبْيَاتًا فِي هَذِهِ الْقَصِيدَةِ وَهِيَ
وَهَاجَتْ دُونَ قَتْلِ بَنِي لُؤَيّ ... جَذِيمَةُ إنّ قَتْلَهُمْ شِفَاءُ
وَحِلْفُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ ... وَحِلْفُ قُرَيْظَةَ فِينَا سَوَاءُ
أُولَئِكَ مَعْشَرٌ أَلّبُوا عَلَيْنَا ... فَفِي أَظْفَارِنَا مِنْهُمْ دِمَاءُ
سَتُبْصِرُ كَيْفَ نَفْعَلُ بِابْنِ حَرْبٍ ... بِمَوْلَاك الّذِينَ هُمْ الرّدَاءُ

شِعْرُ أَنَسِ بْنِ زُنَيْمٍ فِي الِاعْتِذَارِ إلَى الرّسُولِ
مِمّا قَالَ ابْنُ سَالِمٍ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ أَنَسُ بْنُ زُنَيْمٍ الدّيلِيّ يَعْتَذِرُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِمّنْ كَانَ قَالَ فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ سَالِمٍ الْخُزَاعِيّ :
أَأَنْتَ الّذِي تُهْدِي مَعَدّ بِأَمْرِهِ ... بَلْ اللّهُ يَهْدِيهِمْ وَقَالَ لَك اشْهَدْ
وَمَا حَمَلَتْ مِنْ نَاقَةٍ فَوْقَ رَحْلِهَا ... أَبَرّ وَأَوْفَى ذِمّةً مِنْ مُحَمّدِ
أَحَثّ عَلَى خَيْرٍ وَأَسْبَغَ نَائِلًا ... إذَا رَاحَ كَالسّيْفِ الصّقِيلِ الْمُهَنّدِ
وَأَكْسَى لِبُرْدِ الْخَالِ قَبْلَ ابْتِذَالِهِ ... وَأَعْطَى لِرَأْسِ السّابِقِ الْمُتَجَرّدِ
تَعَلّمْ رَسُولَ اللّهِ أَنّك مُدْرِكِي ... وَأَنّ وَعِيدًا مِنْك كَالْأَخْذِ بِالْيَدِ
تَعَلّمْ رَسُولَ اللّهِ أَنّك قَادِرٌ ... عَلَى كُلّ صِرْمٍ مُتْهِمِينَ وَمُنْجِدِ
تَعَلّمْ بِأَنّ الرّكْبَ رَكْبُ عُوَيْمِرٍ ... هُمْ الْكَاذِبُونَ الْمُخْلِفُو كُلّ مَوْعِدِ
ونَبّوْا رَسُولَ اللّهِ أَنّي هَجَوْته ... فَلَا حَمَلَتْ سَوْطِي إلَيّ إذَنْ يَدِي
سِوَى أَنّنِي قَدْ قُلْت وَيْلَ أُمّ فِتْيَةٍ ... أُصِيبُوا بِنَحْسِ لَا يُطْلَقُ وَأَسْعُدِ
أَصَابَهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ لِدِمَائِهِمْ ... كِفَاءُ فَعَزّتْ عِبْرَتِي وَتَبَلّدِي
فَإِنّك قَدْ أَخْفَرْت إنْ كُنْت سَاعِيًا ... بِعَبْدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ وَابْنَةِ مَهْوَدِ
ذُؤَيْبٌ وَكُلْثُومٌ وَسَلْمَى تَتَابَعُوا ... جَمِيعًا فَإِلّا تَدْمَعْ الْعَيْنُ أَكْمَدْ
وَسَلْمَى وَسَلْمَى لَيْسَ حَيّ كَمِثْلِهِ ... وَإِخْوَتِهِ وَهَلْ مُلُوكٌ كَأَعْبُدِ ؟
فَإِنّي لَا دِينًا فَتَقْت وَلَا دَمًا ... هَرَقْت تَبِين عَالِمَ الْحَقّ وَاقْصِدْ
شِعْرُ بُدَيْلٍ فِي الرّدّ عَلَى ابْنِ زُنَيْمٍ
[ ص 191 ] بُدَيْلُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ ابْنُ أُمّ أَصْرَمَ ، فَقَالَ
بَكَى أَنَسٌ رَزْنًا فَأَعْوَلَهُ اُلْبُكَا ... فَأَلّا عَدِيّا إذْ تُطَلّ وَتُبْعَدُ
بَكَيْت أَبَا عَبْسٍ لِقُرْبِ دِمَائِهَا ... فَتُعْذِرَ إذْ لَا يُوقِدُ الْحَرْبَ مُوقَدُ
أَصَابَهُمْ يَوْمَ الْخَنَادِمِ فِتْيَةٌ ... كِرَامٌ فَسَلْ مِنْهُمْ نُفَيْلُ وَمَعْبَدُ
هُنَالِكَ إنْ تَسْفَحْ دُمُوعُك لَا تُلَمْ ... عَلَيْهِمْ وَإِنْ لَمْ تَدْمَعْ الْعَيْنُ فَاكْمَدُوا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ .
Sحَوْلَ شِعْرِ أَنَسِ بْنِ سُلَيْمٍ
فَصْلٌ
[ ص 190 ] وَذَكَرَ شِعْرَ أَنَسِ بْنِ سُلَيْمٍ الدّيلِيّ وَفِيهِ وَأَكْسَى لِبُرْدِ الْخَالِ قَبْلَ ابْتِذَالِهِ
الْخَالُ مِنْ بُرُودِ الْيَمَنِ وَهُوَ مِنْ رَفِيعِ الثّيَابِ وَأَحْسَبُهُ سُمّيَ بِالْخَالِ الّذِي بِمَعْنَى الْخُيَلَاءِ كَمَا قَالَ زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ : الْبَرّ أَبْغِي لَا الْخَالَ وَفِيهِ
تَعَلّمْ رَسُولَ اللّهِ أَنّك مُدْرِكِي ... وَأَنّ وَعِيدًا مِنْك كَالْأَخْذِ بِالْيَدِ
وَهَذَا الْبَيْتُ سَقَطَ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي جَعْفَرِ بْنِ الْوَرْدِ كَذَا أَلْفَيْته فِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ رَحِمَهُ اللّهُ وَمَعْنَاهُ مِنْ أَحْسَنِ الْمَعَانِي يُنْظَرُ إلَى قَوْلِ النّابِغَةِ
فَإِنّك كَاللّيْلِ الّذِي هُوَ مُدْرِكِي ... وَإِنْ خِلْت أَنّ الْمُنْتَأَى عَنْك وَاسِعُ
خَطَاطِيفُ حُجْنٍ فِي حِبَالٍ مَتِينَةٍ ... تُمَدّ بِهَا أَيْدٍ إلَيْك نَوَازِعُ
[ ص 191 ] النّابِعَةِ وَالْقَسِيمُ الثّانِي كَالْبَيْتِ الثّانِي ، لَكِنّهُ أَطْبَعُ مِنْهُ وَأَوْجَزُ . وَقَوْلُ النّابِغَةِ كَاللّيْلِ فِيهِ مِنْ حُسْنِ التّشْبِيهِ مَا لَيْسَ فِي قَوْلِ الدّيلِيّ إلّا أَنّهُ يَسْمُجُ مِثْلُ هَذَا التّشْبِيهِ فِي النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِأَنّهُ نُورٌ وَهُدًى ، فَلَا يُشَبّهُ بِاللّيْلِ وَإِنّمَا حَسُنَ فِي قَوْلِ النّابِغَةِ أَنْ يَقُولَ كَاللّيْلِ وَلَمْ يَقُلْ كَالصّبْحِ لِأَنّ اللّيْلَ تُرْهَبُ غَوَائِلُهُ وَيُحْذَرُ مِنْ إدْرَاكِهِ مَا لَا يَحْذَرُ مِنْ النّهَارِ وَقَدْ أَخَذَ بَعْضُ الأندلسيين هَذَا الْمَعْنَى ، فَقَالَ فِي هَرَبِهِ مِنْ ابْنِ عَبّادٍ
كَأَنّ بِلَادَ اللّهِ وَهِيَ عَرِيضَةٌ ... تَشُدّ بِأَقْصَاهَا عَلَيّ الْأَنَامِلَا
فَأَيْنَ مَفَرّ الْمَرْءِ عَنْك بِنَفْسِهِ ... إذَا كَانَ يَطْوِي فِي يَدَيْك الْمَرَاحِلَا
وَهَذَا كُلّهُ مَعْنًى مُنْتَزَعٌ مِنْ الْقُدَمَاءِ . رَوَى الطّبَرِيّ أَنّ " منوشهر بْنَ إيرج بْنِ أفريدون بْنِ أَثَفَيَانِ " وَهُوَ الّذِي بُعِثَ مُوسَى عَلَيْهِ السّلَامُ فِي زَمَانِهِ أَعْنِي زَمَانَ منوشهر قَالَ حِينَ عَقَدَ التّاجَ عَلَى رَأْسِهِ فِي خُطْبَةٍ لَهُ طَوِيلَةٍ " أَيّهَا النّاسُ إنّ الْخَلْقَ لِلْخَالِقِ وَإِنّ الشّكْرَ لِلْمُنْعِمِ وَإِنّ التّسْلِيمَ لِلْقَادِرِ وَإِنّهُ لَا أَضْعَفَ مِنْ مَخْلُوقٍ طَالِبًا أَوْ مَطْلُوبًا ، وَلَا أَقْوَى مِنْ طَالِبٍ طِلْبَتُهُ فِي يَدِهِ وَلَا أَعْجَزَ مِنْ مَطْلُوبٍ هُوَ فِي يَدِ طَالِبِهِ " .

شِعْرُ بُجَيْرٍ فِي يَوْمِ الْفَتْحِ
[ ص 192 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى فِي يَوْمِ الْفَتْحِ [ ص 193 ]
نَفَى أَهْلَ الْحَبَلّقِ كُلّ فَجّ ... مُزَيْنَةُ غُدْوَةً وَبَنُو خِفَافِ
ضَرَبْنَاهُمْ بِمَكّةَ يَوْمَ فَتْحِ النّ ... صَبَحْنَاهُمْ بِسَبْعِ مِنْ سُلَيْمٍ ... وَأَلْفٍ مِنْ بَنِي عُثْمَانَ وَافِ
نَطَا أَكْتَافَهُمْ ضَرْبًا وَطَعْنًا ... وَرَشْقًا بِالْمَرِيشَةِ اللّطَافِ
نَرَى بَيْنَ الصّفُوفِ لَهَا حَفِيفًا ... كَمَا انْصَاعَ الْفُوَاقُ مِنْ الرّصَافِ
فَرُحْنَا وَالْجِيَادُ تَجُولُ فِيهِمْ ... بِأَرْمَاحِ مُقَوّمَةِ الثّقَافِ
فَأُبْنَا غَانِمِينَ بِمَا اشْتَهَيْنَا ... وَآبُوا نَادِمِينَ عَلَى الْخِلَافِ
وَأَعْطَيْنَا رَسُولَ اللّهِ مِنّا ... مَوَاثِقَنَا عَلَى حُسْنِ التّصَافِي
وَقَدْ سَمِعُوا مَقَالَتَنَا فَهَمّوا ... غَدَاةَ الرّوْعِ مِنّا بِانْصِرَافِ
Sحَوْلَ شِعْرِ بُجَيْرِ بْنِ زُهَيْرٍ
192 وَأَنْشَدَ لِبُجَيْرِ بْنِ زُهَيْرٍ
نَفَى أَهْلَ الْحَبَلّقِ كُلّ فَجّ ... مُزَيْنَةُ غُدْوَةً وَبَنُو خِفَافِ
ا لْحَبَلّقُ أَرْضٌ يَسْكُنُهَا قَبَائِلُ مِنْ مُزَيْنَةَ ، وَقَيْسٍ : وَالْحَبَلّقُ الْغَنَمُ الصّغَارُ وَلَعَلّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ أَهْلَ الْحَبَلّقِ أَصْحَابَ الْغَنَمِ وَبَنُو عُثْمَانَ هُمْ مُزَيْنَةُ وَهُمْ بَنُو عُثْمَانَ بْنِ لَاطِمِ بْنِ أَدّ بْنِ طَابِخَةَ وَمُزَيْنَةُ أُمّهُمْ بِنْتُ كَلْبِ بْنِ وَبَرَةَ بْنِ تَغْلِبَ بْنِ حُلْوَانَ بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ ، وَأُخْتُهَا : الْحَوْأَبُ الّتِي عُرِفَ بِهَا مَاءُ الْحَوْأَبِ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَأَصْلُ الْحَوْأَبِ فِي اللّغَةِ الْقَدَحُ الضّخْمُ الْوَاسِعُ وَبَنُو خِفَافٍ بَطْنٌ مِنْ سُلَيْمٍ وَقَوْلُهُ
ضَرَبْنَاهُمْ بِمَكّةَ يَوْمَ فَتْحِ النّ ... فِي الْبَيْتِ مُدَاخَلَةٌ وَهُوَ انْتِهَاءُ الْقَسِيمِ الْأَوّلِ فِي بَعْضِ كَلِمَةٍ مِنْ الْقَسِيمِ الثّانِي ، وَهُوَ عَيْبٌ عِنْدَهُمْ إلّا فِي الْخَفِيفِ وَالْهَزَجِ وَمَعْنَى الْخَيْرِ أَيْ ذُو الْخَيْرِ وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ الْخَيّرَ فَخَفّفَ كَمَا يُقَالُ هَيْنٌ وَهَيّنٌ . وَفِي التّنْزِيلِ { خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } [ الرّحْمَنِ 70 ] . وَقَوْلُهُ كَمَا انْصَاعَ الْفُوَاقُ مِنْ الرّصَافِ
أَيْ ذَهَبَ وَالرّصَافُ عَصَبَةٌ تُلْوَى عَلَى فَوْقِ السّهْمِ وَأَرَادَ بِالْفُوَاقِ الْفَوْقَ وَهُوَ غَرِيبٌ . [ ص 193 ] وَذَكَرَ صَاحِبُ الْعَيْنِ فِي الْفُوَاقِ صَوْتَ الصّدْرِ وَهُوَ بِالْهَمْزِ فِي قَوْلِ ابْنِ الْأَعْرَابِيّ ، لِأَنّهُ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ .

شِعْرُ ابْنِ مِرْدَاسٍ فِي فَتْحِ مَكّةَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَ ابْنُ مِرْدَاسٍ السّلَمِيّ فِي فَتْحِ مَكّةَ :
مِنّا بِمَكّةَ يَوْمَ فَتْحِ مُحَمّدٍ ... أَلْفٌ تَسْهِيلُ بِهِ الْبِطَاحُ مُسَوّمُ
نَصَرُوا الرّسُولَ وأشاهدا أَيّامِهِ ... وَشِعَارُهُمْ يَوْمَ اللّقَاءِ مُقَدّمُ
فِي مَنْزِلٍ ثَبَتَتْ بِهِ أَقْدَامُهُمْ ... ضَنْكٍ كَأَنّ الْهَامَ فِيهِ الْحَنْتَمُ
اللّهُ مُسَكّنُهُ لَهُ وَأَذَلّهُ ... حُكْمُ السّيُوفِ لَنَا وَجْدٌ مُزْحِم
عُودُ الرّيَاسَةِ شَامِخٌ عُرَنِيّتُهُ ... مُتَطَلّعٌ ثَغْرَ الْمَكَارِمِ خَضْرَمُ
إسْلَامُ عَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَكَانَ إسْلَامُ عَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ فِيمَا حَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ وَحَدِيثُهُ أَنّهُ كَانَ لِأَبِيهِ مِرْدَاسٍ وَثَنٌ يَعْبُدُهُ وَهُوَ حَجَرٌ كَانَ يُقَالُ لَهُ ضِمَارٌ ، فَلَمّا [ ص 194 ] حَضَرَ مِرْدَاسٌ قَالَ لِعَبّاسِ أَيْ بُنَيّ اُعْبُدْ ضَمَارِ فَإِنّهُ يَنْفَعُك وَيَضُرّك ، فَبَيْنَا عَبّاسٌ يَوْمًا عِنْدَ ضَمَارِ ، إذْ سَمِعَ مِنْ جَوْفِ ضَمَارِ مُنَادِيًا يَقُولُ
قُلْ لِلْقَبَائِلِ مِنْ سُلَيْمٍ كُلّهَا ... أَوْدَى ضِمَارٌ وَعَاشَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ
إنّ الّذِي وَرِثَ النّبُوّةَ وَالْهُدَى ... بَعْدَ ابْنِ مَرْيَمَ مِنْ قُرَيْشٍ مُهْتَدِي
أَوْدَى ضِمَارٌ وَكَانَ يُعْبَدُ مُدّةً ... قَبْلَ الْكِتَابِ إلَى النّبِيّ مُحَمّدِ
فَحَرَقَ عَبّاسٌ ضَمَارِ ، وَلَحِقَ بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَسْلَمَ .
Sعَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ وَاَلّذِينَ حَرّمُوا الْخَمْرَ
وَذَكَرَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ وَيُكَنّى أَبَا الْفَضْلِ وَقِيلَ أَبَا الْهَيْثَمِ وَمِنْ ذُرّيّتِهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ حَبِيبٍ فَقِيهُ الْأَنْدَلُسِ وَنَسَبُهُ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسِ بْنِ أَبِي عَامِرِ بْنِ جَارِيَةَ بْنِ عَبْدِ بْنِ عَبّاسِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ بُهْثَةَ بْنِ سُلَيْمٍ السّلَمِيّ كَانَ أَبُوهُ حَاجِبًا لِحَرْبِ بْنِ أُمَيّةَ وَقَتَلَتْهُمَا الْجِنّ فِي خَبَرٍ مَشْهُورٍ وَعَبّاسٌ مِمّنْ حَرّمَ عَلَى نَفْسِهِ الْخَمْرَ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَحَرّمَهَا أَيْضًا عَلَى نَفْسِهِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ وَعُثْمَانُ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ ، وَقَيْسُ بْنُ [ ص 194 ] ، وَقَبْلَ هَؤُلَاءِ حَرّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ عَبْدُ الْمُطّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ وَوَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ جُدْعَانَ وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ، وَمِنْ قُدَمَاءِ الْجَاهِلِيّةِ عَامِرُ بْنُ الظّرِبِ الْعُدْوَانِيّ . وَذَكَرَ فِي سَبَبِ إسْلَامِ عَبّاسٍ مَا سَمِعَ مِنْ جَوْفِ الصّنَمِ الّذِي كَانَ يَعْبُدُهُ وَهُوَ ضَمَارِ بِكَسْرِ الرّاءِ وَهُوَ مِثْلُ حَذَامِ وَرَقَاشِ وَلَا يَكُونُ مِثْلُ هَذَا الْبِنَاءِ إلّا فِي أَسْمَاءِ الْمُؤَنّثِ وَكَانُوا يَجْعَلُونَ آلِهَتَهُمْ إنَاثًا كَاَللّاتِي وَالْعُزّى وَمَنَاةَ لِاعْتِقَادِهِمْ الْخَبِيثَ فِي الْمَلَائِكَةِ أَنّهَا بَنَاتٌ . وَفِي ضَمَارِ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ ، وَبَنِيّ تَمِيمٍ الْبِنَاءُ عَلَى الْكَسْرِ لَا غَيْرُ مِنْ أَجْلِ أَنّ آخِرَهُ رَاءٌ وَمَا لَمْ يَكُنْ فِي آخِرِهِ رَاءٌ كَحَذَامِ وَرَقَاشِ فَهُوَ مَبْنِيّ فِي لُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَمُعْرَبٌ غَيْرُ مُجْرًى فِي لُغَةِ غَيْرِهِمْ كَذَلِكَ قَالَ سِيبَوَيْهِ . وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي الدّنْيَا فِي سَبَبِ إسْلَامِ عَبّاسٍ حَدِيثًا أَسْنَدَهُ عَنْ رِجَالِهِ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَنَسٍ السّلْمَانِيّ عَنْ عَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ أَنّهُ كَانَ فِي لِقَاحٍ لَهُ نِصْفَ النّهَارِ فَاطّلَعَتْ عَلَيْهِ نَعَامَةٌ بَيْضَاءُ عَلَيْهَا رَاكِبٌ عَلَيْهِ ثِيَابٌ بَيَاضٌ فَقَالَ لِي : يَا عَبّاسُ أَلَمْ تَرَ أَنّ السّمَاءَ كَفّتْ أَحْرَاسَهَا ، وَأَنّ الْحَرْبَ جَرَعَتْ أَنْفَاسَهَا ، وَأَنّ الْخَيْلَ وَضَعَتْ أَحْلَاسَهَا ، وَأَنّ الّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ الْبِرّ وَالتّقَى يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لَيْلَةَ الثّلَاثَاءِ صَاحِبَ النّاقَةِ الْقَصْوَاءِ . قَالَ فَخَرَجْت مَرْعُوبًا قَدْ رَاعِنِي مَا رَأَيْت ، وَسَعَيْت ، حَتّى جِئْت وَثَنًا لِي ، يُقَالُ لَهُ الضّمَارِ كُنّا نَعْبُدُهُ وَنُكَلّمُ مِنْ جَوْفِهِ فَكَنَسْت مَا حَوْلَهُ ثُمّ تَمَسّحْت بِهِ فَإِذَا صَائِحٌ يَصِيحُ مِنْ جَوْفِهِ
قُلْ لِلْقَبَائِلِ مِنْ قُرَيْشٍ كُلّهَا ... هَلَكَ الضّمَارُ وَفَازَ أَهْلُ الْمَسْجِد
هَلَكَ الضّمَارُ وَكَانَ يُعْبَدُ مُدّةً ... قَبْلَ الصّلَاةِ عَلَى النّبِيّ مُحَمّدِ
إنّ الّذِي وَرِثَ النّبُوّةَ وَالْهُدَى ... بَعْدَ ابْنِ مَرْيَمَ مِنْ قُرَيْشٍ مُهْتَدِي
قَالَ فَخَرَجْت مَذْعُورًا حَتّى جِئْت قَوْمِي ، فَقَصَصْت عَلَيْهِمْ الْقِصّةَ وَأَخْبَرْتهمْ الْخَبَرَ فَخَرَجْت فِي ثَلَاثِمِائَةٍ مِنْ قَوْمِي مِنْ بَنِي جَارِيَةَ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْمَدِينَةِ فَدَخَلْنَا الْمَسْجِدَ فَلَمّا [ ص 195 ] رَآنِي النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَبَسّمَ وَقَالَ " إلَيّ يَا عَبّاسُ كَيْفَ إسْلَامُك ؟ " فَقَصَصْت عَلَيْهِ الْقِصّةَ فَقَالَ صَدَقْت ، فَأَسْلَمْت أَنَا وَقَوْمِي .

شِعْرُ جَعْدَةَ فِي يَوْمِ الْفَتْحِ
[ ص 195 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَ جَعْدَةُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْخُزَاعِيّ يَوْمَ فَتْحِ مَكّةَ :
أَكَعْبُ بْنُ عَمْرٍو دَعْوَةٌ غَيْرُ بَاطِلٍ ... لِحَيْنِ لَهُ يَوْمَ الْحَدِيدِ مُتَاحِ
أُتِيحَتْ لَهُ مِنْ أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ ... لِتَقْتُلَهُ لَيْلًا بِغَيْرِ سِلَاحِ
وَنَحْنُ الْأُلَى سَدّتْ غَزَالَ خُيُولُنَا ... وَلَفْتًا سَدَدْنَاهُ وَفَجّ طِلَاحِ
خَطَرْنَا وَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ بِجَحْفَلِ ... ذَوِي عَضُدٍ مِنْ خَيْلِنَا وَرِمَاحِ
وَهَذِهِ الْأَبْيَاتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ .
شِعْرُ بُجَيْدٍ فِي يَوْمِ الْفَتْحَ
وَقَالَ بُجَيْدُ بْنُ عِمْرَانَ الْخُزَاعِيّ :
وَقَدْ أَنْشَأَ اللّهُ السّحَابَ بِنَصْرِنَا ... رُكَامَ صِحَابِ الْهَيْدَبِ الْمُتَرَاكِبِ
وَهِجْرَتُنَا فِي أَرْضِنَا عِنْدَنَا بِهَا ... كِتَابٌ أَتَى مِنْ خَيْرِ مُمْلٍ وَكَاتِبِ
وَمِنْ أَجْلِنَا حَلّتْ بِمَكّةَ حُرْمَةٌ ... لِنُدْرِكَ ثَأْرًا بِالسّيُوفِ الْقَوَاضِبِ
Sشِعْرُ جَعْدَةَ
فَصْلٌ وَذَكَرَ فِي شِعْرِ جَعْدَةَ الْخُزَاعِيّ غَزَالَ ، وَهُوَ اسْمُ طَرِيقٍ غَيْرُ مَصْرُوفٍ وَقَالَ كُثَيّرُ فِي قَصِيدَتِهِ الْمَشْهُورَةِ يَذْكُرُ غَزَالَ :
أُنَادِيك مَا حَجّ الْحَجِيجُ وَكَبّرَتْ ... بِفَيْفَا غَزَالٍ رُفْقَةٌ وَأَهَلّتْ
وَكَذَلِكَ لَفْتٌ اسْمُ مَوْضِعٍ وَفِي لَفْتٍ يَقُولُ مَعْقِلُ بْنُ خُوَيْلِدٍ
لَعَمْرُك مَا خَشِيت وَقَدْ بَلَغْنَا ... جِبَالَ الْجَوْزِ مِنْ بَلَدٍ تَهَامِ
نَزِيعًا مُحْلِبًا مِنْ أَهْلِ لَفْتٍ ... لِحَيّ بَيْنَ أُثْلَةَ وَالنّجَامِ
وَقَدْ تَقَدّمَ هَذَا الْبَيْتُ الْأَخِيرُ فِي بَابِ الْهِجْرَةِ .

مَسِيرُ خَالِدِ بْنِ الْوَلَيدِ بَعْدَ الْفَتْحِ إلَى بَنِي جَذِيمَةَ
مِنْ كِنَانَةَ وَمَسِيرُ عَلِيّ لِتَلَافِي خَطَأَ خَالِدٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا حَوْلَ مَكّةَ السّرَايَا تَدْعُو إلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِقِتَالِ وَكَانَ مِمّنْ بَعَثَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ بِأَسْفَلَ تِهَامَةَ دَاعِيًا ، وَلَمْ يَبْعَثْهُ مُقَاتِلًا ، فَوَطِئَ بَنِي جَذِيمَةَ فَأَصَابَ مِنْهُمْ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السّلَمِيّ فِي ذَلِكَ
فَإِنْ تَكُ قَدْ أَمّرْت فِي الْقَوْمِ خَالِدًا ... وَقَدّمْته فَإِنّهُ قَدْ تَقَدّمَا
بِجُنْدِ هَدَاهُ اللّهُ أَنْتَ أَمِيرُهُ ... نُصِيبُ بِهِ فِي الْحَقّ مَنْ كَانَ أَظْلَمَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ فِي حَدِيثِ يَوْمِ حُنَيْنٍ ، سَأَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللّهُ فِي مَوْضِعِهَا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي حَكِيمُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ عَبّادِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمّدِ بْنِ عَلِيّ ، قَالَ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ حِينَ افْتَتَحَ مَكّةَ دَاعِيًا ، وَلَمْ يَبْعَثْهُ مُقَاتِلًا ، وَمَعَهُ قَبَائِلُ مِنْ الْعَرَبِ : سُلَيْمُ بْنُ مَنْصُورٍ وَمُدْلِجُ بْنُ مُرّةَ فَوَطِئُوا بَنِي جَذِيمَةَ بْنَ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ فَلَمّا رَآهُ الْقَوْمُ أَخَذُوا السّلَاحَ فَقَالَ خَالِدٌ ضَعُوا السّلَاحَ فَإِنّ النّاسَ قَدْ أَسْلَمُوا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ قَالَ لَمّا أَمَرَنَا خَالِدٌ أَنْ نَضَعَ السّلَاحَ قَالَ رَجُلٌ مِنّا يُقَالُ لَهُ جَحْدَمٌ وَيْلَكُمْ يَا بَنِي جَذِيمَةَ إنّهُ خَالِدٌ وَاَللّهِ مَا بَعْدَ وَضْعِ السّلَاحِ إلّا الْإِسَارُ وَمَا بَعْدَ الْإِسَارِ إلّا ضَرْبُ الْأَعْنَاقِ وَاَللّهِ لَا أَضَعُ سِلَاحِي أَبَدًا . قَالَ فَأَخَذَهُ رِجَالٌ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالُوا : يَا جَحْدَمُ أَتُرِيدُ أَنْ تَسْفِكَ دِمَاءَنَا ؟ إنّ النّاسَ قَدْ أَسْلَمُوا وَوَضَعُوا السّلَاحَ وَوُضِعَتْ الْحَرْبُ وَأَمِنَ النّاسُ فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتّى نَزَعُوا سِلَاحَهُ وَوَضَعَ الْقَوْمُ السّلَاحَ لِقَوْلِ خَالِدٍ .
بَرَاءَةُ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ عَمَلِ خَالِدٍ
[ ص 197 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي حَكِيمُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمّدِ بْنِ عَلِيّ ، قَالَ فَلَمّا وَضَعُوا السّلَاحَ أَمَرَ بِهِمْ خَالِدٌ عِنْدَ ذَلِكَ فَكُتّفُوا ، ثُمّ عَرَضَهُمْ عَلَى السّيْفِ فَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ فَلَمّا انْتَهَى الْخَبَرُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَفَعَ يَدَيْهِ إلَى السّمَاءِ ثُمّ قَالَ اللّهُمّ إنّي أَبْرَأُ إلَيْك مِمّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ [ ص 198 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّهُ حُدّثَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ جَعْفَرٍ الْمَحْمُودِيّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَأَيْت كَأَنّي لَقَمْت لُقْمَةً مِنْ حَيْسٍ فَالْتَذَذْت طَعْمَهَا ، فَاعْتَرَضَ فِي حَلْقِي مِنْهَا شَيْءٌ حِينَ ابْتَلَعْتهَا ، فَأَدْخَلَ عَلِيّ يَدَهُ فَنَزَعَهُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَا رَسُولَ اللّهِ هَذِهِ سَرِيّةٌ مِنْ سَرَايَاك تَبْعَثُهَا ، فَيَأْتِيك مِنْهَا بَعْضُ مَا تُحِبّ ، وَيَكُونُ فِي بَعْضِهَا اعْتِرَاضٌ فَتَبْعَثُ عَلِيّا فَيُسَهّلُهُ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي أَنّهُ انْفَلَتَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ فَأَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَلْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ؟ فَقَالَ نَعَمْ قَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ رَجُلٌ أَبْيَضُ رَبْعَةٌ فَنَهَمَهُ خَالِدٌ فَسَكَتَ عَنْهُ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ طَوِيلٌ مُضْطَرِبٌ فَرَاجَعَهُ فَاشْتَدّتْ مُرَاجَعَتُهُمَا ؛ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ : أَمّا الْأَوّلُ يَا رَسُولَ اللّهِ فَابْنِي عَبْدُ اللّهِ وَأَمّا الْآخَرُ فَسَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي حَكِيمُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمّدِ بْنِ عَلِيّ قَالَ ثُمّ دَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ فَقَالَ يَا عَلِيّ ، اُخْرُجْ إلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ فَانْظُرْ فِي أَمْرِهِمْ وَاجْعَلْ أَمْرَ الْجَاهِلِيّةِ تَحْتَ قَدَمَيْك . فَخَرَجَ عَلِيّ حَتّى جَاءَهُمْ وَمَعَهُ مَالٌ قَدْ بَعَثَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَوَدَى لَهُمْ الدّمَاءَ وَمَا أُصِيبَ لَهُمْ مِنْ الْأَمْوَالِ حَتّى إنّهُ لَيُدْنِي لَهُمْ مِيلَغَةَ الْكَلْبِ حَتّى إذَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ دَمٍ وَلَا مَالٍ إلّا وَدَاهُ بَقِيَتْ مَعَهُ بَقِيّةٌ مِنْ الْمَالِ فَقَالَ لَهُمْ عَلِيّ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ حِينَ فَرَغَ مَعَهُمْ هَلْ بَقِيَ لَكُمْ بَقِيّةٌ مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ لَمْ يُودَ لَكُمْ ؟ قَالُوا : لَا . قَالَ فَإِنّي أُعْطِيكُمْ هَذِهِ الْبَقِيّةَ مِنْ هَذَا الْمَالِ احْتِيَاطًا لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِمّا يَعْلَمُ وَلَا تَعْلَمُونَ فَفَعَلَ . ثُمّ رَجَعَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ فَقَالَ أَصَبْت وَأَحْسَنْت . قَالَ ثُمّ قَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ قَائِمًا شَاهِرًا يَدَيْهِ حَتّى إنّهُ لَيُرَى مِمّا تَحْتَ مَنْكِبَيْهِ يَقُولُ اللّهُمّ إنّي أَبْرَأُ إلَيْك مِمّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ثَلَاثَ مَرّاتٍ
Sسَرِيّةُ خَالِدٍ إلَى بَنِي جَذِيمَةَ
[ ص 196 ] وَذَكَرَ سَرِيّةَ خَالِدٍ إلَى بَنِي جَذِيمَةَ وَتُعْرَفُ بِغَزْوَةِ الْغَميْطِ وَهُوَ اسْمُ مَاءٍ لِبَنِي جَذِيمَةَ .

الِاعْتِذَارُ عَنْ خَالِدٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَنْ يَعْذُرُ خَالِدًا إنّهُ قَالَ مَا قَاتَلْت حَتّى أَمَرَنِي بِذَلِكَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ حُذَافَةَ السّهْمِيّ ، وَقَالَ إنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ أَمَرَك أَنْ تُقَاتِلَهُمْ لِامْتِنَاعِهِمْ مِنْ الْإِسْلَامِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَالَ أَبُو عَمْرٍو الْمَدَنِيّ : لَمّا أَتَاهُمْ خَالِدٌ قَالُوا : صَبَأْنَا صَبَأْنَا .
بَيْنَ خَالِدٍ وَبَيْنَ ابْنِ عَوْفٍ
[ ص 199 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَ جَحْدَمُ قَالَ لَهُمْ حِينَ وَضَعُوا السّلَاحَ وَرَأَى مَا يَصْنَعُ خَالِدٌ بِبَنِي جَذِيمَةَ يَا بَنِي جَذِيمَةَ ضَاعَ الضّرْبُ ، قَدْ كُنْت حَذّرْتُكُمْ مَا وَقَعْتُمْ فِيهِ . قَدْ كَانَ بَيْنَ خَالِدٍ وَبَيْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، فِيمَا بَلَغَنِي ، الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ : عَمِلْت بِأَمْرِ الْجَاهِلِيّةِ فِي الْإِسْلَامِ . فَقَالَ إنّمَا ثَأَرْت بِأَبِيك . فَقَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ كَذَبْت ، قَدْ قَتَلْت قَاتِلَ أَبِي ، وَلَكِنّك ثَأَرْت بِعَقّك الْفَاكِهَ بْنَ الْمُغِيرَةِ ، حَتّى كَانَ بَيْنَهُمَا شَرّ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ مَهْلًا يَا خَالِدُ دَعْ عَنْك أَصْحَابِي ، فَوَاَللّهِ لَوْ كَانَ لَك أُحُدٌ ذَهَبًا ثُمّ أَنْفَقْته فِي سَبِيلِ اللّهِ مَا أَدْرَكْت غُدْوَةَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِي وَلَا رَوْحَتَهُ
بَيْنَ قُرَيْشٍ وَبَنِيّ جَذِيمَةَ
وَكَانَ الْفَاكِهُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ ، وَعَوْفُ بْنُ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ وَعَفّانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ قَدْ خَرَجُوا تُجّارًا إلَى الْيَمَنِ ، وَمَعَ عَفّانَ ابْنُهُ عُثْمَانُ وَمَعَ عَوْفٍ ابْنُهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ فَلَمّا أَقْبَلُوا حَمَلُوا مَالَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ بْنِ عَامِرٍ كَانَ هَلَكَ بِالْيَمَنِ إلَى وَرَثَتِهِ فَادّعَاهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ خَالِدُ بْنُ هِشَامٍ وَلَقِيَهُمْ بِأَرْضِ بَنِي جَذِيمَةَ قَبْلَ أَنْ يَصِلُوا إلَى أَهْلِ الْمَيّتِ فَأَبَوْا عَلَيْهِ فَقَاتَلَهُمْ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى الْمَالِ لِيَأْخُذُوهُ وَقَاتَلُوهُ فَقُتِلَ عَوْفُ بْنُ عَبْدِ عَوْفٍ وَالْفَاكِهُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ، وَنَجَا عَفّانُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ وَابْنُهُ عُثْمَانُ وَأَصَابُوا مَالَ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَمَالَ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ عَوْفٍ فَانْطَلَقُوا بِهِ وَقَتَلَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ خَالِدَ بْنَ هِشَامٍ قَاتِلَ أَبِيهِ فَهَمّتْ قُرَيْشٌ بِغَزْوِ بَنِي جَذِيمَةَ فَقَالَتْ بَنُو جَذِيمَةَ : مَا كَانَ مُصَابُ أَصْحَابِكُمْ عَلَى مَلَإِ مِنّا ، إنّمَا عَدَا عَلَيْهِمْ قَوْمٌ بِجَهَالَةِ فَأَصَابُوهُمْ وَلَمْ نَعْلَمْ فَنَحْنُ نَعْقِلُ لَكُمْ مَا كَانَ لَكُمْ قِبَلَنَا مِنْ دَمٍ أَوْ مَالٍ فَقَبِلَتْ قُرَيْشٌ ذَلِكَ وَوَضَعُوا الْحَرْبَ .

شِعْرُ سَلْمَى فِيمَا بَيْنَ جَذِيمَةَ وَقُرَيْشٍ
وَقَالَ قَائِلٌ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا سَلْمَى :
وَلَوْلَا مَقَالُ الْقَوْمِ لِلْقَوْمِ أَسْلِمُوا ... لَلَاقَتْ سُلَيْمٌ يَوْمَ ذَلِكَ نَاطِحَا
لَمَاصَعَهُمْ بُسْرٌ وَأَصْحَابُ جَحْدَمٍ ... وَمُرّةُ حَتّى يَتْرُكُوا الْبَرْكَ ضَابِحَا
فَكَائِنٌ تَرَى يَوْمَ الْعَمِيصَاءِ مِنْ فَتًى ... أُصِيبَ وَلَمْ يُجْرَحْ وَقَدْ كَانَ جَارِحَا
أَلَظّتْ بِخُطّابِ الْأَيَامَى وَطَلّقَتْ ... غَدَاتَئِذٍ مِنْهُنّ مَنْ كَانَ نَاكِحَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْلُهُ " بُسْرٌ " " وَأَلَظّتْ بِخُطّابِ " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ .
شِعْرُ ابْنِ مِرْدَاسٍ فِي الرّدّ عَلَى سَلْمَى
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَجَابَهُ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ وَيُقَالُ بَلْ الْجَحّافُ بْنُ حَكِيمٍ السّلَمِيّ :
دَعِي عَنْك تَقْوَالَ الضّلَالِ كَفَى بِنَا ... لِكَبْشِ الْوَغَى فِي الْيَوْمِ وَالْأَمْسِ نَاطِحَا
فَخَالِدُ أَوْلَى بِالتّعَذّرِ مِنْكُمْ ... غَدَاةَ عَلَا نَهْجًا مِنْ الْأَمْرِ وَاضِحَا
مُعَانًا بِأَمْرِ اللّهِ يُزْجِي إلَيْكُمْ ... سَوَانِحٌ لَا تَكْبُو لَهُ وَبَوَارِحَا
نَعَوْا مَالِكًا بِالسّهْلِ لَمّا هَبَطْنَهُ ... عَوَابِسَ فِي كَابِي الْغُبَارِ كَوَالِحَا
فَإِنْ نَكُ أَثْكَلْنَاك سَلْمَى فَمَالِكٌ ... تَرَكْتُمْ عَلَيْهِ نَائِحَاتٍ وَنَائِحَا
الْجَحّافُ يَرُدّ عَلَى سَلْمَى
قَالَ الْجَحّافُ بْنُ حَكِيمٍ السّلَمِيّ :
شَهِدْنَ مَعَ النّبِيّ مُسَوّمَاتٍ ... حُنَيْنًا وَهِيَ دَامِيَةُ الْكَلَامِ
وَغَزْوَةَ خَالِدٍ شَهِدَتْ وَجَرّتْ ... سَنَابِكَهُنّ بِالْبَلَدِ الْحَرَامِ
نَعْرِضُ لِلطّعَانِ إذَا الْتَقَيْنَا ... وُجُوهًا لَا تُعَرّضُ لِلّطَامِ
وَلَسْت بِخَالِعِ عَنّي ثِيَابِي ... إذَا هَزّ الْكُمَاةُ وَلَا أُرَامِي
وَلَكِنّي يَجُولُ الْمُهْرُ تَحْتِي ... إلَى الْعَلَوَاتِ بِالْعَضْبِ الْحُسَامِ
حَدِيثُ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ يَوْمَ الْفَتْحِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ عَنْ الزّهْرِيّ ، عَنْ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيّ قَالَ كُنْت يَوْمَئِذٍ فِي خَيْلِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ ، فَقَالَ لِي فَتًى مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ وَهُوَ فِي سِنّي ، وَقَدْ جُمِعَتْ يَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ بِرُمّةِ وَنِسْوَةٌ مُجْتَمِعَاتٌ غَيْرَ بَعِيدٍ مِنْهُ يَا فَتَى ، فَقُلْت : مَا تَشَاءُ ؟ قَالَ هَلْ أَنْتَ آخِذٌ بِهَذِهِ الرّمّةِ فَقَائِدِي إلَى هَؤُلَاءِ [ ص 201 ] بَدَا لَكُمْ ؟ قَالَ قُلْت : وَاَللّهِ لَيَسِيرٌ مَا طَلَبْت . فَأَخَذْت بِرُمّتِهِ فَقُدْته بِهَا ، حَتّى وَقَفَ عَلَيْهِنّ فَقَالَ اسْلَمِي حُبَيْشُ عَلَى نَفَدٍ مِنْ الْعَيْشِ
أَرَيْتُك إذْ طَالَبْتُكُمْ فَوَجَدْتُكُمْ ... بِحَلْيَةَ أَوْ أَلْفَيْتُكُمْ بِالْخَوَانِقِ
أَلَمْ يَكُ أَهْلًا أَنْ يُنَوّلَ عَاشِقٌ ... تَكَلّفَ إدْلَاجَ السّرَى وَالْوَدَائِقِ
فَلَا ذَنْبَ لِي قَدْ قُلْت إذْ أَهْلُنَا مَعًا ... أَثِيبِي بِوُدّ قَبْلَ إحْدَى الصّفَائِقِ
أَثِيبِي بِوُدّ قَبْلَ أَنْ تُشْحَطَ النّوَى ... وَيَنْأَى الْأَمِيرُ بِالْحَبِيبِ الْمُفَارِقِ
فَإِنّيَ لَا ضَيّعْت سِرّ أَمَانَةٍ ... وَلَا رَاقَ عَيْنِي عَنْك بُعْدَك رَائِقِ
سِوَى أَنّ مَا نَالَ الْعَشِيرَةَ شَاغِلٌ ... عَنْ الْوُدّ إلّا أَنْ يَكُونَ التّوَامُقِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ يُنْكِرُ الْبَيْتَيْنِ الْآخَرَيْنِ مِنْهَا لَهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ ابْنِ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيّ قَالَتْ
وَأَنْت فَحُيّيت سَبْعًا وَعَشْرًا ... وِتْرًا وَثَمَانِيًا تَتْرَى
قَالَ ثُمّ انْصَرَفْت بَهْ فَضَرَبْت عُنُقَهُ . [ ص 202 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي أَبُو فِرَاسِ بْنُ أَبِي سُنْبُلَةَ الْأَسْلَمِيّ عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْهُمْ عَمّنْ كَانَ حَضَرَهَا مِنْهُمْ قَالُوا : فَقَامَتْ إلَيْهِ حِينَ ضُرِبَتْ عُنُقُهُ فَأَكَبّتْ عَلَيْهِ فَمَا زَالَتْ تُقَبّلُهُ حَتّى مَاتَتْ عِنْدَهُ .
S[ ص 197 ] وَذَكَرَ شِعْرَ امْرَأَةٍ اسْمُهَا : سَلْمَى ، وَفِيهِ وَمُرّةُ حَتّى يَتْرُكُوا الْبَرْكَ ضَابِحَا
الْبَرْكُ : جَمَاعَةُ الْإِبِلِ وَمَاصَعَ جَالَدَ وَقَاتَلَ وَضَابِحَا مِنْ الضّبْحِ وَهُوَ نَفْسُ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ إذَا عُيّيَتْ وَفِي التّنْزِيلِ وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا وَفِي الْخَبَرِ : مَنْ سَمِعَ ضَبْحَةً بِلَيْلِ فَلَا يَخْرُجُ مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَهُ شَرّ . قَالَ الرّاجِزُ نَحْنُ نَطَحْنَاهُمْ غَدَاةَ الْجَمْعَيْنِ
بِالضّابِحَاتِ فِي غُبَارِ النّقْعَيْنِ
نَطْحًا شَدِيدًا لَا كَنَطْحِ الطّورَيْنِ
وَالضّبْحُ وَالضّبْيُ مَصْدَرُ ضَبَحَتْ وَضُبِيَتْ أَيْ شُوِيَتْ وَقُلِيَتْ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ . قَالَ وَالْمَضَابِي وَالْمَضَابِحُ هُوَ الْمَقَالِي . وَذَكَرَ تَبَرّؤَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِمّا فَعَلَ خَالِدٌ وَهَذَا نَحْوٌ مِمّا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ حِينَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا : إنّ فِي سَيْفِ خَالِدٍ رَهَقًا . إنّ فِي سَيْفِ خَالِدٍ رَهَقًا فَاقْتُلْهُ وَذَلِكَ حِينَ قَتَلَ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ ، وَجَعَلَ رَأْسَهُ تَحْتَ قِدْرٍ حَتّى طُبِخَ بِهِ وَكَانَ مَالِكٌ ارْتَدّ ثُمّ رَاجَعَ الْإِسْلَامَ وَلَمْ يُظْهِرْ ذَلِكَ لِخَالِدِ وَشَهِدَ عِنْدَهُ رَجُلَانِ مِنْ الصّحَابَةِ بِرُجُوعِهِ إلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَقْبَلْهُمَا ، وَتَزَوّجَ امْرَأَتَهُ فَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ لِأَبِي بَكْرٍ اُقْتُلْهُ فَقَالَ لَا أَفْعَلُ لِأَنّهُ مُتَأَوّلٌ فَقَالَ اعْزِلْهُ فَقَالَ لَا أَغْمِدُ سَيْفًا سَلّهُ اللّهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَلَا أَعْزِلُ وَالِيًا وَلّاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَذَكَرَ قَوْلَ الرّجُلِ لِلْمَرْأَةِ اسْلِمِي حُبَيْشُ عَلَى نَفَدِ الْعَيْشِ النّفَدُ مَصْدَرُ نَفِدَ إذَا فَنِيَ وَهُوَ النّفَادُ وَحُبَيْشٌ مُرَحّمٌ مِنْ حُبَيْشَةَ . [ ص 198 ] [ ص 199 ] [ ص 200 ] شِعْرُ أَبِي حَدْرَدٍ وَحَلْيَةُ وَالْخَوَانِقُ : مَوْضِعَانِ وَالْوَدَائِقُ جَمْعُ وَدِيقَةٍ وَهُوَ شِدّةُ الْحَرّ فِي الظّهِيرَةِ [ ص 201 ] وَنَحْوِهِ وَقَالَ الرّاجِزُ
وَقَامَ مِيزَانُ النّهَارِ فَاعْتَدَلْ ... وَسَالَ لِلشّمْسِ لُعَابٌ فَنَزَلْ
وَقَالَ الْأَحْوَلُ يُقَالُ وَدَقَ إذَا دَنَا مِنْ الْأَرْضِ وَيُقَالُ هُوَ وَادِقُ السّرّةِ إذَا كَانَتْ مَائِلَةً إلَى جِهَةِ الْأَرْضِ وَأَنْشَدَ وَادِقًا سُرّاتُهَا
فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْوَدِيقَةُ مِنْ وَدَقَتْ الشّمْسُ إذَا دَنَتْ مِنْ الْأُفُقِ فَاشْتَدّ حَرّهَا ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ . [ ص 202 ] فَنَهَمَهُ خَالِدٌ أَيّ زَجَرَهُ وَنَجَهَهُ وَرَوَى النّسَائِيّ فِي قِصّةِ الْمَرْأَةِ الّتِي مَاتَتْ [ ص 203 ] قَالَ حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَلِيّ بْنِ حَرْبٍ عَنْ عَلِيّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَافِدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ يَزِيدَ النّحْوِيّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعَثَ سَرِيّةً قَالَ فَغَنِمُوا وَفِيهِمْ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُمْ إنّي لَسْت مِنْهُمْ عَشِقْت امْرَأَةً فَلَحِقْتهَا ، فَدَعَوْنِي أَنْظُرُ إلَيْهَا نَظْرَةً ثُمّ اصْنَعُوا بِي مَا بَدَا لَكُمْ قَالَ فَإِذَا امْرَأَةٌ طَوِيلَةٌ أَدْمَاءُ فَقَالَ لَهَا : اسْلِمِي حُبَيْشُ قَبْلَ نَفَدِ الْعَيْشِ وَذَكَرَ الْبَيْتَيْنِ الْأَوّلِينَ مِنْ الْقِطْعَةِ الْقَافِيّةِ أَوّلَ هَذَا الْخَبَرِ نَاقِصِي الْوَزْنِ وَبَعْدَهُمَا قَالَتْ نَعَمْ فَدَيْتُك ، فَقَدّمُوهُ فَضَرَبُوا عُنُقَهُ فَجَاءَتْ الْمَرْأَةُ فَوَقَفَتْ عَلَيْهِ فَشَهِقَتْ شَهْقَةً أَوْ [ ص 204 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ ، فَقَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَحِيمٌ . خَرّجَهُ النّسَوِيّ فِي بَابِ قَتْلِ الْأُسَارَى مِنْ مُصَنّفِهِ .

شِعْرُ جَذِيمِيّ فِي الْفَتْحِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ
جَزَى اللّهُ عَنّا مُدْلِجًا حَيْثُ أَصْبَحَتْ ... جَزَاءَةَ بُوسَى حَيْثُ سَارَتْ وَحَلّتْ
أَقَامُوا عَلَى أَقْضَاضِنَا يَقْسِمُونَهَا ... وَقَدْ نَهِلَتْ فِينَا الرّمَاحُ وَعَلّتْ
فَوَاَللّهِ لَوْلَا دِينُ آلِ مُحَمّدٍ ... لَقَدْ هَرَبَتْ مِنْهُمْ خُيُولٌ فَشُلّتْ
وَمَا ضَرّهُمْ أَنْ لَا يُعِينُوا كَتِيبَةً ... كَرِجْلِ جَرَادٍ أُرْسِلَتْ فَاشْمَعَلّتِ
فَإِمّا يَنْبُوَا أَوْ يَثُوبُوا لِأَمْرِهِمْ ... فَلَا نَحْنُ نَجْزِيهِمْ بِمَا قَدْ أَضَلّتْ
وَهْبٌ يَرُدّ عَلَى الْجَذِيمِيّ
فَأَجَابَهُ وَهْبٌ رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ فَقَالَ
دَعَوْنَا إلَى الْإِسْلَامِ وَالْحَقّ عَامِرًا ... فَمَا ذَنْبُنَا فِي عَامِرٍ إذْ تَوَلّتْ
وَمَا ذَنْبُنَا فِي عَامِرٍ لَا أَبَا لَهُمْ ... لِأَنْ سَفِهَتْ أَحْلَامُهُمْ ثُمّ ضَلّتْ
وَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ
لِيَهْنِئْ بَنِي كَعْبٍ مُقَدّمِ خَالِدٍ ... وَأَصْحَابِهِ إذْ صَبّحَتْنَا الْكَتَائِبُ
فَلَا تِرَةٌ يَسْعَى بِهَا ابْنُ خُوَيْلِدٍ ... وَقَدْ كُنْت مَكْفِيّا لَوْ انّكَ غَائِبُ
فَلَا قَوْمُنَا يَنْهَوْنَ عَنّا غُوَاتَهُمْ ... وَلَا الدّاءَ مِنْ يَوْمِ الْغُمَيْصَاءِ ذَاهِبُ
شِعْرُ غُلَامٍ جَذِيمِيّ هَارِبٍ أَمَامَ خَالِدٍ
وَقَالَ غُلَامٌ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ وَهُوَ يَسُوقُ بِأُمّهِ وَأُخْتَيْنِ لَهُ وَهُوَ هَارِبٌ بِهِنّ مِنْ جَيْشِ خَالِدٍ
رَخّينَ أَذْيَالَ الْمُرُوطِ وَأَرْبِعَنْ ... مَشْيَ حَيِيّاتٍ كَأَنْ لَمْ يُفْزَعَنْ
إنْ تُمْنَعْ الْيَوْمَ نِسَاءٌ تُمْنَعُنْ
ارْتِجَازُ بَنِي مُسَاحِقٍ حِينَ سَمِعُوا بِخَالِدٍ
[ ص 203 ] وَقَالَ غِلْمَةٌ مِنْ بَنِي جَذِيمَةَ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو مُسَاحِقٍ يَرْتَجِزُونَ حِينَ سَمِعُوا بِخَالِدٍ فَقَالَ أَحَدُهُمْ
قَدْ عَلِمَتْ صَفْرَاءُ بَيْضَاءُ الْإِطِلْ ... يَحُوزُهَا ذُو ثَلّةٍ وَذُو إبِلْ
لَأُغْنِيَنّ الْيَوْمَ مَا أَغْنَى رَجُلْ
وَقَالَ الْآخَرُ
قَدْ عَلِمَتْ صَفْرَاءُ تُلْهِي الْعِرْسَا ... لَا تَمْلَأْ الْحَيْزُومَ مِنْهَا نَهْسَا
لَأَضْرِبَنّ الْيَوْمَ ضَرْبًا وَعْسَا ... ضَرْبَ الْمُحِلّينَ مَخَاضًا قُعْسَا
وَقَالَ الْآخَرُ
أَقْسَمْت مَا إنْ خَادِرٌ ذُو لِبْدَةٍ ... شَثْنُ الْبَنَانِ فِي غَدَاةٍ بَرْدَةٍ
جَهْمُ الْمُحَيّا ذُو سِبَالٍ وَرْدَةٍ ... يُرْزِمُ بَيْنَ أَيْكَةٍ وَجَحْدَةٍ
ضَارٍ بِتَأْكَالِ الرّجَالِ وَحْدَةٍ ... بِأَصْدَقِ الْغَدَاةِ مِنّي نَجْدَةٍ

مَسِيرُ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ لِهَدْمِ الْعُزّى
ثُمّ بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إلَى الْعُزّى ، وَكَانَتْ بِنَخْلَةَ وَكَانَتْ بَيْتًا يُعَظّمُهُ هَذَا الْحَيّ مِنْ قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ وَمُضَرَ كُلّهَا ، وَكَانَتْ سَدَنَتُهَا وَحُجّابُهَا بَنِي شَيْبَانَ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ حُلَفَاءِ بَنِي هَاشِمٍ فَلَمّا سَمِعَ صَاحِبُهَا السّلَمِيّ بِمَسِيرِ خَالِدٍ إلَيْهَا ، عَلّقَ عَلَيْهَا سَيْفَهُ وَأَسْنَدَ فِي الْجَبَلِ الّذِي هِيَ فِيهِ وَهُوَ يَقُولُ
أَيَا عُزّ شُدّي شَدّةً لَا شَوَى لَهَا ... عَلَى خَالِدٍ أَلْقِي الْقِنَاعَ وَشَمّرِي
يَا عُزّ إنْ لَمْ تَقْتُلِي الْمَرْءَ خَالِدًا ... فَبُوئِي بِإِثْمٍ عَاجِلٍ أَوْ تُنْصَرِي
فَلَمّا انْتَهَى إلَيْهَا خَالِدٌ هَدَمَهَا ، ثُمّ رَجَعَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . [ ص 204 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ أَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَكّةَ بَعْدَ فَتْحِهَا خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً يَقْصُرُ الصّلَاةَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ فَتْحُ مَكّةَ لِعَشْرِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَمَانٍ .

غَزْوَةُ حُنَيْنٍ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ بَعْدَ الْفَتْحِ
[ ص 205 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا سَمِعَتْ هَوَازِنُ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَا فَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِ مِنْ مَكّةَ ، جَمَعَهَا مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النّضْرِيّ فَاجْتَمَعَ إلَيْهِ مَعَ هَوَازِنَ ثَقِيفٌ كُلّهَا ، وَاجْتَمَعَتْ نَصْرٌ وَجُشَمٌ كُلّهَا ، وَسَعْدُ بْنُ بَكْرٍ ، وَنَاسٌ مِنْ بَنِي هِلَالٍ وَهُمْ قَلِيلٌ وَلَمْ يَشْهَدْهَا مِنْ قَيْسِ عَيْلَانَ إلّا هَؤُلَاءِ وَغَابَ عَنْهَا فَلَمْ يَحْضُرْهَا مِنْ هَوَازِنَ كَعْبٌ وَلَا كِلَابٌ وَلَمْ يَشْهَدْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ لَهُ اسْمٌ وَفِي بَنِي جُشَمٍ دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ إلّا التّيَمّنُ بِرَأْيِهِ وَمَعْرِفَتِهِ بِالْحَرْبِ وَكَانَ شَيْخًا مُجَرّبًا ، وَفِي ثَقِيفٍ سَيّدَانِ لَهُمْ . فِي الْأَحْلَافِ قَارِبُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ مُعَتّبٍ وَفِي بَنِي مَالِكٍ ذُو الْخِمَارِ سُبَيْعُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكٍ وَأَخُوهُ أَحْمَرُ بْنُ الْحَارِثِ وَجِمَاعُ أَمْرِ النّاسِ إلَى مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النّصْرِيّ . فَلَمّا أَجْمَعَ السّيْرَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَطّ مَعَ النّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ فَلَمّا نَزَلَ بِأَوْطَاسٍ [ ص 206 ] دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ فِي شِجَارٍ لَهُ يُقَادُ بِهِ فَلَمّا نَزَلَ قَالَ " بِأَيّ وَادٍ [ ص 207 ] قَالُوا : بِأَوْطَاسٍ قَالَ " نِعْمَ مَجَالُ الْخَيْلِ لَا حَزْنٌ ضَرِسْ وَلَا سَهْلٌ دَهِسْ مَا لِي أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ وَنُهَاقَ الْحَمِيرِ وَبُكَاءَ الصّغِيرِ وَيُعَارَ الشّاءِ ؟ " قَالُوا : سَاقَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ مَعَ النّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ . قَالَ " أَيْنَ مَالِكٌ ؟ " قِيلَ هَذَا مَالِكٌ وَدُعِيَ لَهُ فَقَالَ " يَا مَالِكُ إنّك قَدْ أَصْبَحْت رَئِيسَ قَوْمِك ، وَإِنّ هَذَا يَوْمٌ كَائِنٌ لَهُ مَا بَعْدَهُ مِنْ الْأَيّامِ . مَا لِي أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ وَنُهَاقَ الْحَمِيرِ وَبُكَاءَ الصّغِيرِ وَيُعَارَ الشّاءِ ؟ " قَالَ سُقْت مَعَ النّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ قَالَ " وَلِمَ ذَاكَ ؟ " قَالَ أَرَدْت أَنْ أَجْعَلَ خَلْفَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَهْلُهُ وَمَالُهُ لِيُقَاتِلَ عَنْهُمْ قَالَ " فَأَنْقَضَ بِهِ " . ثُمّ قَالَ رَاعِي ضَأْنٍ وَاَللّهِ وَهَلْ يَرُدّ الْمُنْهَزِمَ شَيْءٌ ؟ إنّهَا إنْ كَانَتْ لَك لَمْ يَنْفَعْك إلّا رَجُلٌ بِسَيْفِهِ وَرُمْحِهِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْك فُضِحْت فِي أَهْلِك وَمَالِك ، ثُمّ قَالَ مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلَابٌ ؟ قَالُوا : لَمْ يَشْهَدْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ ، قَالَ " غَابَ الْحَدّ وَالْجَدّ ، وَلَوْ كَانَ يَوْمَ عَلَاءٍ وَرِفْعَةٍ لَمْ تَغِبْ عَنْهُ كَعْبٌ وَلَا كِلَابٌ وَلَوَدِدْت أَنّكُمْ فَعَلْتُمْ مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلَابٌ فَمَنْ شَهِدَهَا مِنْكُمْ ؟ " قَالُوا : عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ ، وَعَوْفُ بْنُ عَامِرٍ ، قَالَ " ذَانَك الْجَذَعَانِ مِنْ عَامِرٍ لَا يَنْفَعَانِ وَلَا يَضُرّانِ يَا مَالِكُ إنّك لَمْ تَصْنَعْ بِتَقْدِيمِ الْبَيْضَةِ بَيْضَةِ هَوَازِنَ إلَى نُحُورِ الْخَيْلِ شَيْئًا ، ارْفَعْهُمْ إلَى مُتَمَنّعِ بِلَادِهِمْ وَعُلْيَا قَوْمِهِمْ ثُمّ أَلْقِ الصّبّاءَ عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ فَإِنْ كَانَتْ لَهُ لَحِقَ بِك مَنْ وَرَاءَك ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْك أَلْفَاك ذَلِكَ قَدْ أَحْرَزْت أَهْلَك وَمَالَك " ، قَالَ وَاَللّهِ لَا أَفْعَلُ ذَلِكَ إنّك قَدْ كَبِرْت وَكَبِرَ عَقْلُك . وَاَللّهِ لَتُطِيعُنّنِي يَا مَعْشَرَ هَوَازِنَ أَوْ لَأَتّكِئَنّ عَلَى هَذَا السّيْفِ حَتّى يَخْرُجَ مِنْ ظَهْرِي . وَكَرِهَ أَنْ يَكُونَ لِدُرَيْدِ بْنِ الصّمّةِ فِيهَا ذِكْرٌ أَوْ رَأْيٌ فَقَالُوا : أَطَعْنَاك ؛ فَقَالَ دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ : هَذَا يَوْمٌ لَمْ أَشْهَدْهُ وَلَمْ يَفُتْنِي :
يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ ... أَخُبّ فِيهَا وَأَضَعْ
أَقُودُ وَطْفَاءَ الزّمَعْ ... كَأَنّهَا شَاةٌ صَدَعْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ قَوْلَهُ " يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ
" [ ص 208 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ قَالَ مَالِكٌ لِلنّاسِ إذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَاكْسِرُوا جُفُونَ سُيُوفِكُمْ ثُمّ شُدّوا شَدّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ . قَالَ وَحَدّثَنِي أُمَيّةُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ أَنّهُ حَدّثَ أَنّ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ بَعَثَ عُيُونًا مِنْ رِجَالِهِ ، فَأَتَوْهُ وَقَدْ تَفَرّقَتْ أَوْصَالُهُمْ فَقَالَ وَيْلَكُمْ مَا شَأْنُكُمْ ؟ فَقَالُوا : رَأَيْنَا رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ فَوَاَللّهِ مَا تَمَاسَكْنَا أَنْ أَصَابَنَا مَا تَرَى ، فَوَاَللّهِ مَا رَدّهُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِهِ أَنْ مَضَى عَلَى مَا يُرِيدُ .
Sذِكْرُ غَزْوَةِ حُنَيْنٍ
[ ص 205 ] وَحُنَيْنٌ الّذِي عُرِفَ بَهْ الْمَوْضِعُ هُوَ حُنَيْنُ بْنُ قَانِيَةَ بْنِ مَهْلَايِلَ كَذَا قَالَ الْبَكْرِيّ ، وَقَدْ قَدّمْنَا أَنّهُ قَالَ فِي خَيْبَرَ مِثْلَ هَذَا أَنّهُ ابْنُ قَانِيَةَ فَاَللّهُ أَعْلَمُ .
مِنْ الْبَلَاغَةِ النّبَوِيّةِ
وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا : غَزْوَةُ أَوْطَاسٍ سُمّيَتْ بِالْمَوْضِعِ الّذِي كَانَتْ فِيهِ الْوَقْعَةُ وَهُوَ مِنْ وَطَسْت الشّيْءَ وَطْسًا إذَا كَدّرْته ، وَأَثّرْت فِيهِ . وَالْوَطِيسُ نَقْرَةٌ فِي حُجَرٍ تُوقَدُ حَوْلَهُ النّارُ فَيُطْبَخُ بِهِ [ ص 206 ] غَزْوَةِ أَوْطَاسٍ قَالَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ وَذَلِكَ حِينَ اسْتَعَرْت الْحَرْبُ وَهِيَ مِنْ الْكَلِمِ الّتِي لَمْ يُسْبَقْ إلَيْهَا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَمِنْهَا هَذِهِ . وَمِنْهَا : مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ قَالَهَا فِي فَضْلِ مَنْ مَاتَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ عَنْهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَتِيكٍ ، قَالَ ابْنُ عَتِيكٍ وَمَا سَمِعْت هَذِهِ الْكَلِمَةَ يَعْنِي : حَتْفَ أَنْفِهِ مِنْ أَحَدِ الْعَرَبِ قَبْلَهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَمِنْهَا : لَا يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ مَرّتَيْنِ قَالَهَا لِأَبِي عَزّةَ الْجُمَحِيّ يَوْمَ أُحُدٍ ، وَقَدْ مَضَى حَدِيثُهُ . وَمِنْهَا : لَا يَنْتَطِحُ فِيهَا عَنْزَانِ وَسَيَأْتِي سَبَبُهُمَا . وَمِنْهَا : قَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ يَا خَيْلَ اللّهِ ارْكَبِي قَالَهَا يَوْمَ حُنَيْنٍ أَيْضًا فِي حَدِيثٍ خَرّجَهُ مُسْلِمٌ وَقَالَ الْجَاحِظُ فِي كِتَابِ الْبَيَانِ عَنْ يُونُسَ بْنِ حَبِيبٍ لَمْ يَبْلُغْنَا مِنْ رَوَائِعِ الْكَلَامِ مَا بَلَغَنَا عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَغَلِطَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَنُسِبَ إلَى التّصْحِيفِ وَإِنّمَا قَالَ الْقَائِلُ مَا بَلَغَنَا عَنْ الْبَتّيّ يُرِيدُ عُثْمَانَ الْبَتّيّ فَصَحّفَهُ الْجَاحِظُ ، وَالنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَجَلّ مِنْ أَنْ يُخْلَطَ مَعَ غَيْرِهِ مِنْ الْفُصَحَاءِ حَتّى يُقَالَ مَا بَلَغَنَا عَنْهُ مِنْ الْفَصَاحَةِ أَكْثَرُ مِنْ الّذِي بَلَغَنَا عَنْ غَيْرِهِ كَلَامُهُ أَجَلّ مِنْ ذَلِك ، وَأَعْلَى ، صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ .
ابْنُ الصّمّةِ وَالْخَنْسَاءُ
فَصْلٌ وَذَكَرَ دُرَيْدَ بْنَ الصّمّةِ الْجُشَمِيّ أَحَدَ بَنِي جُشَمِ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ ، وَفِيهِ تَقُولُ الْخَنْسَاءُ حِينَ خَطَبَهَا : مَا كُنْت تَارِكَةً بَنِي عَمّي ، كَأَنّهُمْ صُدُورُ الرّمَاحِ ومرتتة شَيْخًا مِنْ بَنِي جُشَمٍ وَهُوَ دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ خُزَاعَةَ بْنِ غَزِيّةَ بْنِ جُشَمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ ، يُكَنّى أَبَا قُرّةَ وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ زِيَادٍ يُقَالُ كَانَ يَوْمَئِذٍ ابْنَ سِتّينَ وَمِائَةٍ وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ كَاتِبُ اللّيْثِ عَنْ اللّيْثِ قَالَ كَانَ دُرَيْدٌ يَوْمَئِذٍ ابْنَ عِشْرِينَ وَمِائَةٍ . وَقَوْلُهُ فِي شِجَارٍ لَهُ الشّجَارُ مِثْلُ الْهَوْدَجِ وَفِي الْعَيْنِ الشّجَارُ خَشَبُ الْهَوْدَجِ . [ ص 207 ] فَأَنْقَصَ بِهِ أَيْ صَوّتَ بِلِسَانِهِ فِي فَمِهِ مِنْ النّقِيضِ وَهُوَ الصّوْتُ وَقِيلَ الْإِنْقَاضُ بِالْإِصْبَعِ الْوُسْطَى وَالْإِبْهَامِ كَأَنّهُ يَدْفَعُ بِهِمَا شَيْئًا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْبَرْقِيّ . وَقَوْلُهُ رَاعِي ضَأْنٍ يُجَهّلُهُ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ الشّاعِرُ
أَصْبَحْت هُزُءَ الرّاعِي الضّأْنِ أُعْجِبُهُ ... مَاذَا يَرِيبُك مِنّي رَاعِيَ الضّانِ
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - لِرَجُلٍ قُمْ فَمَا نَفَعَك صِدَاغٌ وَلَا رَاعِي ضَأْنٍ . وَالدّرَيْدُ فِي اللّغَةِ تَصْغِيرُ أَدْرَدَ وَهُوَ تَصْغِيرُ التّرْخِيمِ وَالصّمّةُ الشّجَاعُ وَجَمْعُهُ صِمَمٌ . [ ص 208 ] حَدْرَدٍ وَذَكَرَ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ النّصْرِيّ رَئِيسَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ حُنَيْنٍ ، وَهُوَ مَالِكُ بْنُ عَوْفِ بْنِ سَعْدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ يَرْبُوعَ بْنِ وَاثِلَةَ بْنِ دُهْمَانَ بْنِ نَصْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ هَوَازِنَ النّصْرِي .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا سَمِعَ بِهِمْ نَبِيّ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَعَثَ إلَيْهِمْ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أَبِي حَدْرَدٍ الْأَسْلَمِيّ وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْخُلَ فِي النّاسِ فَيُقِيمَ فِيهِمْ حَتّى يَعْلَمَ عِلْمَهُمْ ثُمّ يَأْتِيهِ بِخَبَرِهِمْ . فَانْطَلَقَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ فَدَخَلَ فِيهِمْ فَأَقَامَ فِيهِمْ حَتّى سَمِعَ وَعَلِمَ مَا قَدْ أَجْمَعُوا لَهُ مِنْ حَرْبِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسَمِعَ مِنْ مَالِكٍ وَأَمْرَ هَوَازِنَ مَا هُمْ عَلَيْهِ ثُمّ أَقْبَلَ حَتّى أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ فَقَالَ عُمَرُ كَذَبَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ فَقَالَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ " إنّ أَكْذَبْتنِي فَرُبّمَا كَذَبْت بِالْحَقّ يَا عُمَرُ فَقَدْ كَذّبْت مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنّي ، فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللّهِ أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ كُنْت ضَالّا فَهَدَاك اللّهُ يَا عُمَرُ .
اسْتِعَارَةُ أَدْرُعِ صَفْوَانَ
فَلَمّا أَجْمَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ السّيْرَ إلَى هَوَازِنَ لِيَلْقَاهُمْ ذُكِرَ لَهُ أَنّ عِنْدَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ أَدْرَاعًا لَهُ وَسِلَاحًا ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ فَقَالَ يَا أَبَا أُمَيّةَ أَعِرْنَا سِلَاحَك هَذَا نَلْقَ فِيهِ عَدُوّنَا غَدًا " ، فَقَالَ صَفْوَانُ أَغَصْبًا يَا مُحَمّدُ ؟ قَالَ " بَلْ عَارِيّةً وَمَضْمُونَةً حَتّى نُودِيهَا إلَيْك فَقَالَ لَيْسَ بِهَذَا بَأْسٌ فَأَعْطَاهُ مِائَةَ دُرْعٍ بِمَا يَكْفِيهَا مِنْ السّلَاحِ فَزَعَمُوا [ ص 209 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَأَلَهُ أَنْ يَكْفِيَهُمْ حَمْلَهَا ، فَفَعَلَ . قَالَ ثُمّ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَهُ أَلْفَانِ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ مَعَ عَشْرَةِ آلَافٍ مِنْ أَصْحَابِهِ الّذِينَ خَرَجُوا مَعَهُ فَفَتَحَ اللّهُ بِهِمْ مَكّةَ ، فَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا ، وَاسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَتّابَ بْنَ أَسِيدِ بْنِ أَبِي الْعِيصِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ " عَلَى مَكّةَ أَمِيرًا عَلَى مَنْ تَخَلّفَ عَنْهُ مِنْ النّاسِ " ، ثُمّ مَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى وَجْهِهِ يُرِيدُ لِقَاءَ هَوَازِنَ .
Sوَذَكَرَ بَعْثَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَبْدَ اللّهِ بْنَ أَبِي حَدْرَدٍ عَيْنًا إلَى هَوَازِنَ ، وَهُوَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ سَعْدٍ وَسَلَامَةُ هُوَ أَبُو حَدْرَدٍ وَهُوَ مِنْ بَنِي هَوَازِنَ بْنِ أَسْلَمَ بْن أَفْصَى بْنِ حَارِثَةَ وَهُمْ إخْوَةُ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ ، أَعْنِي بَنِي أَسْلَمَ بْنِ أَفْصَى ، مَاتَ عَبْدُ اللّهِ سَنَةَ إحْدَى وَسَبْعِينَ وَهُوَ الْعَامُ الّذِي قُتِلَ فِيهِ مُصْعَبُ بْنُ الزّبَيْرِ . شَهِدَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ مَعَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الْحُدَيْبِيَةَ ، وَمَا بَعْدَهَا ، وَفَاتَهُ مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ .

قَصِيدَةُ ابْنِ مِرْدَاسٍ
فَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السّلَمِيّ
أَصَابَتْ الْعَامَ رِعْلًا غُولُ قَوْمِهِمْ ... وَسَطَ الْبُيُوتِ وَلَوْنُ الْغُولِ أَلْوَانُ
يَا لَهْفَ أُمّ كِلَابٍ إذْ تُبَيّتُهُمْ ... خَيْلُ ابْنِ هَوْذَةَ لَا تُنْهَى وَإِنْسَانُ
لَا تَلْفِظُوهَا وَشُدّوا عِقْدَ ذِمّتِكُمْ ... إنّ ابْنَ عَمّكُمْ سَعْدٌ وَدَهْمَانُ
[ ص 210 ] كَانَتْ مُجَلّلَةً ... مَا دَامَ فِي النّعَمِ الْمَأْخُوذِ أَلْبَانُ
شَنْعَاءُ جَلّلَ مِنْ سَوْآتِهَا حَضَنٌ ... وَسَالَ ذُو شَوْغَرٍ مِنْهَا وَسُلْوَانُ
لَيْسَتْ بِأَطْيَبَ مِمّا يَشْتَوِي حَذَفٌ ... إذْ قَالَ كُلّ شِوَاءِ الْعِيرِ جُوفَانُ
[ ص 211 ] ... دَاءُ الْيَمَانِي فَإِنْ لَمْ يَغْدِرُوا خَانُوا
فِيهِمْ أَخٌ لَوْ وَفَوْا أَوْ بَرّ عَهْدَهُمْ ... وَلَوْ نَهَكْنَاهُمْ بِالطّعْنِ قَدْ لَانُوا
أَبْلِغْ هَوَازِنَ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا ... مِنّي رِسَالَةَ نُصْحٍ فِيهِ تِبْيَانُ
أَنّي أَظُنّ رَسُولَ اللّهِ صَابِحَكُمْ ... جَيْشًا لَهُ فِي فَضَاءِ الْأَرْضِ أَرْكَانُ
فِيهِمْ أَخُوكُمْ سُلَيْمٌ غَيْرَ تَارِكِكُمْ ... وَالْمُسْلِمُونَ عِبَادُ اللّهِ غَسّانُ
وَفِي عِضَادَتِهِ الْيُمْنَى بَنُو أَسَدٍ ... وَالْأَجْرَبَانِ بَنُو عَبْسٍ وَذُبْيَانُ
تَكَادُ تَرْجُفُ مِنْهُ الْأَرْضُ رَهْبَتَهُ ... وَفِي مُقَدّمِهِ أَوْسٌ وَعُثْمَانُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : أَوْسٌ وَعُثْمَانُ قَبِيلَا مُزَيْنَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : مِنْ قَوْلِهِ " أَبْلِغْ هَوَازِنَ أَعْلَاهَا وَأَسْفَلَهَا " إلَى آخِرِهَا ، فِي هَذَا الْيَوْمِ وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْيَوْمِ وَهُمَا مَفْصُولَتَانِ وَلَكِنّ ابْنَ إسْحَاقَ جَعَلَهُمَا وَاحِدَةً .
Sحَوْلَ قَصِيدَةِ عَبّاسٍ النّونِيّةِ
[ ص 209 ] وَذَكَرَ شِعْرَ عَبّاسٍ وَفِيهِ أَصَابَتْ الْعَامَ رِعْلًا . وَهِيَ قَبِيلَةٌ مِنْ سُلَيْمٍ وَفِي الْحَدِيثِ " قَنَتَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ شَهْرَيْنِ يَدْعُو عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَعَصِيّةَ " ، وَهُمْ الّذِينَ غَدَرُوا بِأَصْحَابِ بِئْرِ مَعُونَةَ . وَقَوْلُهُ خَيْلُ ابْنِ هَوْذَةَ لَا تُنْهَى وَإِنْسَانُ
إنْسَانُ قَبِيلَةٌ مِنْ قَيْسٍ ، ثُمّ مِنْ بَنِي نَصْرٍ قَالَهُ الْبَرْقِيّ ، وَقِيلَ هُمْ مِنْ بَنِي جُشَمِ بْنِ بَكْرٍ وَمِنْ بَنِي إنْسَانَ شَيْطَانُ بْنُ مُدْلِجٍ صَاحِبُ حَمِيدَةَ وَهِيَ فَرَسٌ لَهُ تَضْرِبُ بِهَا الْعَرَبُ الْمَثَلَ فِي الشّؤْمِ فَيُقَالُ أَشْأَمُ مِنْ حَمِيدَةَ وَسَبَبُ ذَلِكَ خَبَرٌ يَطُولُ ذَكَرَهُ الْأَصْبَهَانِيّ فِي الْأَمْثَالِ .
سَعْدٌ وَدَهْمَانُ
وَسَعْدٌ وَدَهْمَانُ ابْنَا نَصْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ كَذَا وَجَدْته فِي بَعْضِ الْمُعَلّقَاتِ وَالْمَعْرُوفُ فِي قَيْسٍ : دُهْمَانَ بْنُ أَشْجَعَ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ وَالِدُ نَصْرِ بْنِ دُهْمَانَ الّذِي عَاشَ [ ص 210 ] فَكَانَ أُعْجُوبَةً فِي الْعَالَمِ وَقَالَ الشّاعِرُ
لِنَصْرِ بْنِ دُهْمَانَ الْهُنَيْدَةُ عَاشَهَا ... وَتِسْعِينَ حَوْلًا ثُمّ قُوّمَ فَانْصَاتَا
وَعَادَ سَوَادُ الرّأْسِ بَعْدَ ابْيِضَاضِهِ ... وَلَكِنّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ قَدْ مَاتَا
وَمِمّنْ ذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ أَبُو الْحَسَنِ الدّارَقُطْنِيّ رَحِمَهُ اللّهُ . وَحُنَيْنٌ : اسْمُ جَبَلٍ وَمِنْهُ الْمَثَلُ أَنْجَدَ مَنْ رَأَى حُنَيْنًا . وَقَوْلُهُ مِمّا يَشْتَوِي حَذَفٌ . الْحَذَفُ غَنَمٌ سُودٌ صِغَارٌ تَكُونُ بِالْيَمَنِ وَفِي الْحَدِيثِ سَوّوا صُفُوفَكُمْ لَا تَخَلّلَكُمْ الشّيَاطِينُ كَأَنّهَا بَنَاتُ حَذَفٍ يَعْنِي فِي الصّفّ فِي الصّلَاةِ هَكَذَا قَالَ الْبَرْقِيّ فِي تَفْسِيرِ هَذَا الْبَيْتِ وَاَلّذِي أَرَادَ الشّاعِرُ إنّمَا هُوَ رَجُلٌ فَلَعَلّهُ كَانَ يُسَمّى بِحَذَفٍ وَالْحَذَفُ هِيَ الْغَنَمُ السّودُ الّتِي ذَكَرْنَا . وَقَوْلُهُ كُلّ شِوَاءِ الْعِيرِ جُوفَانُ . يُقَالُ إنّهُ شُوِيَ لَهُ غُرْمُولُ حِمَارٍ فَأَكَلَهُ فِي الشّوَاءِ فَوَجَدَهُ أَجْوَفَ وَقِيلَ لَهُ إنّهُ الْقُنْبُ أَيْ وِعَاءُ الْقَضِيبِ فَقَالَ كُلّ شِوَاءِ الْعِيرِ جُوفَانُ فَضُرِبَ هَذَا الْكَلَامُ مَثَلًا ، وَقِيلَ كَانَ فَزَارِيّ وَتَغْلِبِيّ وَكَلْبِيّ اجْتَمَعُوا فِي سِرّ وَقَدْ اشْتَوَوْا حِمَارَ وَحْشٍ فَغَابَ الْفَزَارِيّ فِي بَعْضِ حَاجَاتِهِ فَأَكَلَ صَاحِبُهُ الْعِيرَ وَاخْتَبَآ لَهُ غُرْمُولَهُ فَلَمّا جَاءَ قَالَا لَهُ هَذَا خَبْؤُنَا لَك ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ وَلَا يُسِيغُهُ فَضَحِكَا مِنْهُ فَاخْتَرَطَ سَيْفَهُ وَقَالَ لَأَقْتُلَنّكُمَا إنْ لَمْ تَأْكُلَاهُ فَأَبَى أَحَدُهُمَا فَضَرَبَهُ بِالسّيْفِ فَأَبَانَ رَأْسَهُ وَكَانَ اسْمُهُ مِرْقَمَهْ فَقَالَ صَاحِبُهُ طَاحَ مِرْقَمَهْ فَقَالَ الْفَزَارِيّ ، وَأَنْتَ إنْ لَمْ تَلْقُمْهُ أَرَادَ تَلْقُمَهَا ، فَطَرَحَ حَرَكَةَ الْهَاءِ عَلَى الْمِيمِ وَحَذَفَ الْأَلِفَ كَمَا قَدْ قِيلَ فِي الْحِيرَةِ أَيّ رِجَالٍ بِهِ أَيْ بِهَا ، وَقَدْ عُيّرَتْ فَزَارَةُ بِهَذَا الْخَبَرِ حَتّى قَالَ سَالِمُ بْنُ دَارَةَ
لَا تَأْمَنَن فَزَارِيّا خَلَوْت بِهِ ... عَلَى قُلُوصِك ، وَاكْتُبْهَا بِأَسْيَارِ
لَا تَأْمَنَنهُ وَلَا تَأْمَنْ بَوَائِقَهُ ... بَعْدَ الّذِي امْتَلّ أَيْرَ الْعَيْرِ فِي النّارِ
أَطْعَمْتُمْ الضّيْفَ غُرْمُولًا مُخَاتَلَةً ... فَلَا سَقَاكُمْ إلَهِي الْخَالِقُ الْبَارِي
[ ص 211 ] لِلْأَصْبَهَانِيّ . فَهَذَا الْفَزَارِيّ هُوَ حَذَفٌ الْمَذْكُورُ فِي الْبَيْتِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَقَوْلُهُ وَالْأَجْرَبَانِ بَنُو عَبْسٍ وَذُبْيَانُ
سَمّاهُمَا بِالْأَجْرَبَيْنِ تَشْبِيهًا بِالْأَجْرَبِ الّذِي لَا يُقْرَبُ وَقَالَ مَجْذُومٌ مِنْ الْعَرَبِ :
بِأَيّ فَعَالٍ رَبّ أُوتِيت مَا أَرَى ... أَظَلّ كَأَنّي كُلّمَا قُمْت أَجْرَبُ
أَيْ يُفَرّ مِنّي ، وَفِي الْخَبَرِ أَنّ عُمَرَ لَمّا نُهِيَ النّاسُ عَنْ مُجَالَسَةِ ضَبِيغِ بْنِ عَسَلٍ كَانَ كُلّمَا حَلّ مَوْضِعًا تَفَرّقَ النّاسُ عَنْهُ كَأَنّهُ بَعِيرٌ أَجْرَبُ وَمَنْ رَوَاهُ الْأَجْرَبَانُ بِضَمّ النّونِ فَهُوَ جَائِزٌ فِي كُلّ اثْنَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ كَالْجَلَمَيْنِ يُقَالُ فِيهِمَا : الْجَلَمَانُ بِضَمّ النّونِ وَكَذَلِكَ الْقَمَرَانِ وَرُوِيَ أَنّ فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - نَادَتْ ابْنَيْهَا فِي لَيْلَةِ ظُلْمَةٍ يَا حَسَنَانُ يَا حُسَيْنَانُ بِضَمّ النّونِ قَالَهُ الْهَرَوِيّ فِي الْغَرِيبَيْنِ .

ذَاتُ أَنْوَاطٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ الدّؤَلِيّ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللّيْثِيّ أَنّ الْحَارِثَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ " خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى حُنَيْنٍ وَنَحْنُ حَدِيثُو عَهْدٍ بِالْجَاهِلِيّةِ قَالَ فَسِرْنَا مَعَهُ إلَى حُنَيْنٍ ، قَالَ وَكَانَتْ كُفّارُ قُرَيْشٍ وَمَنْ سِوَاهُمْ مِنْ الْعَرَبِ لَهُمْ شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ خَضْرَاءُ يُقَالُ لَهَا : ذَاتُ أَنْوَاطٍ ، يَأْتُونَهَا كُلّ سَنَةٍ فَيُعَلّقُونَ أَسْلِحَتَهُمْ عَلَيْهَا ، وَيَذْبَحُونَ عِنْدَهَا ، وَيَعْكُفُونَ عَلَيْهَا يَوْمًا . قَالَ فَرَأَيْنَا وَنَحْنُ نَسِيرُ مَعَ [ ص 212 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سِدْرَةً خَضْرَاءَ عَظِيمَةً قَالَ فَتَنَادَيْنَا مِنْ جَنَبَاتِ الطّرِيقِ يَا رَسُولَ اللّهِ اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أَنْوَاطٍ . قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اللّهُ أَكْبَرُ قُلْتُمْ وَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى : اجْعَلْ لَنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إنّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إنّهَا السّنَنُ لَتَرْكَبُنّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ .

ثَبَاتُ الرّسُولِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ ، عَنْ أَبِيهِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ، قَالَ لَمّا اسْتَقْبَلْنَا وَادِيَ حُنَيْنٍ انْحَدَرْنَا فِي وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ تِهَامَةَ أَجْوَفَ حَطُوطٍ إنّمَا نَنْحَدِرُ فِيهِ انْحِدَارًا ، قَالَ وَفِي عَمَايَةِ الصّبْحِ وَكَانَ الْقَوْمُ قَدْ سَبَقُونَا إلَى الْوَادِي ، فَكَمَنُوا لَنَا فِي شِعَابِهِ وَأَحْنَائِهِ وَمَضَايِقِهِ وَقَدْ أَجْمَعُوا وَتَهَيّئُوا وَأَعَدّوا ، فَوَاَللّهِ مَا رَاعَنَا وَنَحْنُ مُنْحَطّونَ إلّا الْكَتَائِبُ قَدْ شَدّوا عَلَيْنَا شَدّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَانْشَمَرَ النّاسُ رَاجِعِينَ لَا يَلْوِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَانْحَازَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَاتَ الْيَمِينِ ثُمّ قَالَ أَيْنَ أَيّهَا النّاسُ ؟ هَلُمّوا إلَيّ أَنَا رَسُولُ اللّهِ أَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ . قَالَ فَلَا شَيْءَ حَمَلَتْ الْإِبِلُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فَانْطَلَقَ النّاسُ إلّا أَنّهُ قَدْ بَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَفَرٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ .
الّذِينَ ثَبَتُوا
وَفِيمَنْ ثَبَتَ مَعَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَمِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ وَابْنُهُ وَالْفَضْلُ بْنُ الْعَبّاسِ وَرَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَأَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ ، قُتِلَ يَوْمَئِذٍ . [ ص 213 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : اسْمُ ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ جَعْفَرٌ وَاسْمُ أَبِي سُفْيَانَ الْمُغِيرَةُ وَبَعْضُ النّاسِ يَعُدّ فِيهِمْ قُثَمَ بْنَ الْعَبّاسِ ، وَلَا يَعُدّ ابْنَ أَبِي سُفْيَانَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ جَابِرٍ ، عَنْ أَبِيهِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ، قَالَ وَرَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أَحْمَرُ بِيَدِهِ رَايَةٌ سَوْدَاءُ فِي رَأْسِ رُمْحٍ لَهُ طَوِيلٍ أَمَامَ هَوَازِنَ ، وَهَوَازِنُ خَلْفَهُ إذَا أَدْرَكَ طَعَنَ بِرُمْحِهِ وَإِذَا فَاتَهُ النّاسُ رَفَعَ رُمْحَهُ لِمَنْ وَرَاءَهُ فَأَتْبَعُوهُ .
الشّمَاتَةَ بِالْمُسْلِمِينَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا انْهَزَمَ النّاسُ وَرَأَى مَنْ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ جُفَاةِ أَهْلِ مَكّةَ الْهَزِيمَةَ تَكَلّمَ رِجَالٌ مِنْهُمْ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ الضّغْنِ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ لَا تَنْتَهِي هَزِيمَتُهُمْ دُونَ الْبَحْرِ ، وَإِنّ الْأَزْلَامَ لَمَعَهُ فِي كِنَانَتِهِ وَصَرَخَ جَبَلَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : كَلَدَةُ بْنُ الْحَنْبَلِ - وَهُوَ مَعَ أَخِيهِ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ مُشْرِكٌ فِي الْمُدّةِ الّتِي جَعَلَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَلَا بَطَلَ السّحْرُ الْيَوْمَ فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ اُسْكُتْ فَضّ اللّهُ فَاك ، فَوَاَللّهِ لَأَنْ يَرُبّنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبّ إلَيّ مِنْ أَنْ يَرُبّنِي رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ .
شِعْرُ حَسّانَ فِي هِجَاءِ كَلَدَةَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَهْجُو كَلَدَةَ
رَأَيْت سَوَادًا مِنْ بِعِيدٍ فَرَاعِنِي ... أَبُو حَنْبَلٍ يَنْزُو عَلَى أُمّ حَنْبَلِ
كَأَنّ الّذِي يَنْزُو بِهِ فَوْقَ بَطْنِهَا ... ذِرَاعُ قَلُوصٍ مِنْ نِتَاجِ ابْنِ عِزْهِلِ
أَنْشَدَنَا أَبُو زَيْدٍ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ وَذَكَرَ لَنَا أَنّهُ هَجَا بِهِمَا صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ ، وَكَانَ أَخَا كَلَدَةَ لِأُمّهِ .
Sأَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبْ
[ ص 212 ] وَذَكَرَ قَوْلَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَيْنَ أَيّهَا النّاسُ ؟ أَنَا مُحَمّدٌ أَنَا رَسُولُ اللّهِ وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الرّوَايَةِ أَنَا النّبِيّ لَا كَذِبْ أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطّلِب [ ص 213 ] أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبْ قَالَ إنّمَا خَصّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ بِالذّكْرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ وَقَدْ انْهَزَمَ النّاسُ تَشْبِيهًا لِنُبُوّتِهِ وَإِزَالَةً لِلشّكّ لِمَا اشْتَهَرَ وَعُرِفَ مِنْ رُؤْيَا عَبْدِ الْمُطّلِبِ الْمُبَشّرَةِ بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ تَقَدّمَ ذِكْرُهَا ، وَلِمَا أَنْبَأَتْ بِهِ الْأَحْبَارُ وَالرّهْبَانُ فَكَأَنّهُ يَقُولُ أَنَا ذَاكَ فَلَا بُدّ مِمّا وُعِدْت بِهِ لِئَلّا يَنْهَزِمُوا عَنْهُ وَيَظُنّوا أَنّهُ مَقْتُولٌ وَمَغْلُوبٌ فَاَللّهُ أَعْلَمُ أَأَرَادَ ذَلِكَ رَسُولُهُ أَمْ لَا .

شَيْبَةَ يُحَاوِلُ قَتْلَ الرّسُولِ
[ ص 214 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، أَخُو بَنِي عَبْدِ الدّارِ . قُلْت : الْيَوْمَ أُدْرِكُ ثَأْرِي مِنْ مُحَمّدٍ وَكَانَ أَبُوهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ ، الْيَوْمَ أَقْتُلُ مُحَمّدًا . قَالَ فَأَرَدْت بِرَسُولِ اللّهِ لِأَقْتُلَهُ فَأَقْبَلَ شَيْءٌ حَتّى تَغَشّى فُؤَادِي ، فَلَمْ أُطِقْ ذَاكَ وَعَلِمْت أَنّهُ مَمْنُوعٌ مِنّي . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ مَكّةَ ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ حِينَ فَصَلَ مِنْ مَكّةَ إلَى حُنَيْنٍ ، وَرَأَى كَثْرَةَ مَنْ مَعَهُ مِنْ جُنُودِ اللّهِ لَنْ نُغْلَبَ الْيَوْمَ مِنْ قِلّةٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَزَعَمَ بَعْضُ النّاسِ أَنّ رَجُلًا مِنْ بَنِي بَكْرٍ قَالَهَا .
Sشَيْبَةُ وَمُحَاوَلَةُ قَتْلِ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
[ ص 214 ] وَذَكَرَ قِصّةَ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ حِينَ أَرَادَ قَتْلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ فَجَاءَ شَيْءٌ حَتّى تَغَشّى فُؤَادِي ، وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ فِي تَارِيخِهِ قَالَ شَيْبَةُ الْيَوْمَ آخُذُ بِثَأْرِي ، فَجِئْت النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ خَلْفِهِ فَلَمّا هَمَمْت بِهِ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ خَنْدَقٌ مِنْ نَارٍ وَسُوَرٌ مِنْ حَدِيدٍ قَالَ فَالْتَفَتَ إلَيّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَتَبَسّمَ وَعَرَفَ الّذِي أَرَدْت ، فَمَسَحَ صَدْرِي ، وَذَهَبَ عَنّي الشّكّ ، أَوْ كَمَا قَالَ ذَهَبَ عَنّي بَعْضُ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ .

الِانْتِصَارُ بَعْدَ الْهَزِيمَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي الزّهْرِيّ ، عَنْ كَثِيرِ بْنِ الْعَبّاسِ عَنْ أَبِيهِ الْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، قَالَ إنّي لَمَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ آخُذُ بِحَكَمَةِ بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ قَدْ شَجَرْتهَا بِهَا ، قَالَ وَكُنْت امْرَأً جَسِيمًا شَدِيدَ الصّوْتِ قَالَ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ حِينَ رَأَى مَا رَأَى مِنْ النّاسِ " أَيْنَ أَيّهَا النّاسُ ؟ " فَلَمْ أَرَ النّاسَ يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ فَقَالَ يَا عَبّاسُ اُصْرُخْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ : يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ السّمُرَةِ قَالَ فَأَجَابُوا : لَبّيْكَ لَبّيْكَ قَالَ فَيَذْهَبُ الرّجُلُ لِيُثْنِيَ بَعِيرَهُ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فَيَأْخُذُ دُرْعَهُ فَيَقْذِفُهَا فِي عُنُقِهِ وَيَأْخُذُ سَيْفَهُ وَتُرْسَهُ وَيَقْتَحِمُ عَنْ بَعِيرِهِ وَيُخَلّي سَبِيلَهُ فَيَؤُمّ الصّوْتَ حَتّى يَنْتَهِيَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . حَتّى إذَا اجْتَمَعَ إلَيْهِ مِنْهُمْ مِائَةٌ اسْتَقْبَلُوا النّاسَ فَاقْتَتَلُوا ، وَكَانَتْ الدّعْوَى أَوّلَ مَا كَانَتْ يَا لِلْأَنْصَارِ . ثُمّ خَلَصَتْ أَخِيرًا : يَا لِلْخَزْرَجِ . وَكَانُوا صَبْرًا عِنْدَ الْحَرْبِ فَأَشْرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي رَكَائِبِهِ . فَنَظَرَ إلَى مُجْتَلَدِ الْقَوْمِ وَهُمْ يَجْتَلِدُونَ فَقَالَ الْآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ . [ ص 215 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْن جَابِرٍ عَنْ أَبِيهِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ ، قَالَ بَيْنَا ذَلِكَ الرّجُلُ مِنْ هَوَازِنَ صَاحِبُ الرّايَةِ عَلَى جَمَلِهِ يَصْنَعُ مَا يَصْنَعُ إذْ هَوَى لَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللّهِ عَلَيْهِ وَرَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يُرِيدَانِهِ قَالَ فَيَأْتِيهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ مِنْ خَلْفِهِ فَضَرَبَ عُرْقُوبَيْ الْجَمَلِ فَوَقَعَ عَلَى عَجُزِهِ وَوَثَبَ الْأَنْصَارِيّ عَلَى الرّجُلِ فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً أَطَنّ قَدَمَهُ بِنِصْفِ سَاقِهِ فَانْجَعَفَ عَنْ رَحْلِهِ قَالَ وَاجْتَلَدَ النّاسُ فَوَاَللّهِ مَا رَجَعَتْ رَاجِعَةُ النّاسِ مِنْ هَزِيمَتِهِمْ حَتّى وَجَدُوا الْأُسَارَى مُكَتّفِينَ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ وَالْتَفَتَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَكَانَ مِمّنْ صَبَرَ يَوْمَئِذٍ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَ حَسَنَ الْإِسْلَامِ حِينَ أَسْلَمَ ، وَهُوَ آخِذٌ بِثَفَرِ بَغْلَتِهِ فَقَالَ " مَنْ هَذَا ؟ " قَالَ أَنَا ابْنُ أُمّك يَا رَسُولَ اللّهِ .
رَأْيُ أُمّ سُلَيْمٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْتَفَتَ فَرَأَى أُمّ سُلَيْمٍ بِنْتَ مِلْحَانَ ، وَكَانَتْ مَعَ زَوْجِهَا أَبِي طَلْحَةَ وَهِيَ حَازِمَةٌ وَسَطَهَا بِبُرْدٍ لَهَا ، وَإِنّهَا لَحَامِلٌ بِعَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ وَمَعَهَا جَمَلُ أَبِي طَلْحَةَ وَقَدْ خَشِيَتْ أَنْ يَعُزّهَا الْجَمَلُ فَأَدْنَتْ رَأْسَهُ مِنْهَا ، فَأَدْخَلَتْ يَدَهَا فِي خِزَامَتِهِ مَعَ الْخِطَامِ فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أُمّ سُلَيْمٍ ؟ " قُلْت : نَعَمْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي يَا رَسُولَ اللّهِ اُقْتُلْ هَؤُلَاءِ الّذِينَ يَنْهَزِمُونَ عَنْك كَمَا تَقْتُلُ الّذِينَ يُقَاتِلُونَك ، فَإِنّهُمْ لِذَلِكَ أَهْلٌ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوَيَكْفِي اللّهُ يَا أُمّ سُلَيْمٍ ؟ " قَالَ وَمَعَهَا خِنْجَرٌ فَقَالَ لَهَا أَبُو طَلْحَةَ مَا هَذَا الْخِنْجَرُ مَعَك يَا أُمّ سُلَيْمٍ ؟ قَالَتْ خِنْجَرٌ أَخَذْته ، إنْ دَنَا مِنّي أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بَعَجْته بِهِ . قَالَ يَقُولُ أَبُو طَلْحَةَ أَلَا تَسْمَعُ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا تَقُولُ أُمّ سُلَيْمٍ الرّمَيْصَاءُ .
Sأُمّ سُلَيْمٍ وَالْفِرَارُ يَوْمَ حُنَيْنٍ
[ ص 215 ] وَذَكَرَ أُمّ سُلَيْمٍ وَهِيَ مُلَيْكَةُ بِنْتُ مِلْحَانَ وَقَالَ فِي اسْمِهَا رُمَيْلَةَ وَيُقَالُ سُهَيْلَةُ وَتُعْرَفُ بِالْغُمَيْصَاءِ وَالرّمَيْصَاءِ لِرَمَصٍ كَانَ فِي عَيْنَيْهَا ، وَأَبُو طَلْحَةَ بَعْلُهَا هُوَ زَيْدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ حَرَامٍ وَهُوَ الْقَائِلُ
أَنَا أَبُو طَلْحَةَ وَاسْمِي : زَيْدٌ ... وَكُلّ يَوْمٍ فِي سِلَاحِي صَيْدٌ
وَقَوْلُ أُمّ سُلَيْمٍ : يَا رَسُولَ اللّهِ اُقْتُلْ هَؤُلَاءِ الّذِينَ يَنْهَزِمُونَ عَنْك . [ ص 216 ] قِيلَ كَيْفَ فَرّ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْهُ حَتّى لَمْ يَبْقَ مَعَهُ مِنْهُمْ إلّا ثَمَانِيَةٌ وَالْفِرَارُ مِنْ الزّحْفِ مِنْ الْكَبَائِرِ وَقَدْ أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ مَا أَنْزَلَ . قُلْنَا : لَمْ يُجْمِعْ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ إلّا فِي يَوْمِ بَدْرٍ وَكَذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ وَنَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلّ عَلَى هَذَا ، فَإِنّهُ قَالَ { وَمَنْ يُوَلّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } [ الْأَنْفَالُ 16 ] فَيَوْمَئِذٍ إشَارَةٌ إلَى يَوْمِ بَدْرٍ ثُمّ نَزَلَ التّحْقِيقُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فِي الْفَارّينَ يَوْمَ أُحُدٍ وَهُوَ قَوْلُهُ { وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ } [ آلُ عِمْرَانَ : 155 ] وَكَذَلِكَ أَنْزَلَ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ : { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } إلَى قَوْلِهِ { غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ التّوْبَةُ 25 ] وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ سَلَامٍ وَكَانَ الْفِرَارُ مِنْ الزّحْفِ يَوْمَ بَدْرٍ مِنْ الْكَبَائِرِ وَكَذَلِك يَكُونُ مِنْ الْكَبَائِرِ فِي مَلْحَمَةِ الرّومِ الْكُبْرَى ، وَعِنْدَ الدّجّالِ وَأَيْضًا فَإِنّ الْمُنْهَزِمِينَ عَنْهُ عَلَيْهِ السّلَامُ رَجَعُوا لِحِينِهِمْ وَقَاتَلُوا مَعَهُ حَتّى فَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِمْ .

شِعْرُ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ فِي الْهَزِيمَةِ
[ ص 216 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ وَجّهَ إلَى حُنَيْنٍ ، قَدْ ضَمّ بَنِي سُلَيْمٍ الضّحّاكِ بْنِ سُفْيَانَ الْكِلَابِيّ ، فَكَانُوا إلَيْهِ وَمَعَهُ وَلَمّا انْهَزَمَ النّاسُ قَالَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ يَرْتَجِزُ بِفَرَسِهِ
أَقْدِمْ مُحَاجُ إنّهُ يَوْمٌ نُكُرْ ... مِثْلِي عَلَى مِثْلِك يَحْمِي وَيَكِرّ
إذَا أُضِيعَ الصّفّ يَوْمًا وَالدّبُرْ ... ثُمّ احْزَأَلّتْ زُمَرٌ بَعْدَ زُمَرْ
كَتَائِبٌ يُكِلّ فِيهِنّ الْبَصَرْ ... قَدْ أَطْعُنُ الطّعْنَةَ تَقْذِي بِالسّبُرْ
حِينَ يُذَمّ الْمُسْتَكِينُ الْمُنْجَحِرْ ... وَأَطْعَنُ النّجْلَاءَ تَعْوِي وَتَهِرْ
[ ص 217 ] مُنْهَمِرْ ... تَفْهَقُ تَارَاتٍ وَحِينًا تَنْفَجِرْ
وَثَعْلَبُ الْعَامِلُ فِيهَا مُنْكَسِرْ ... يَا زَيْدُ يَا ابْنَ هَمْهَمٍ أَيْنَ تَفِرّ
قَدْ نَفِدَ الضّرْسُ وَقَدْ طَالَ الْعُمُرْ ... قَدْ عَلِمَ الْبِيضُ الطّوِيلَاتُ الْخُمُرْ
أَنّي قَدْ امْثَالُهَا غَيْرُ غَمِرْ ... إذْ تُخْرَجُ الْحَاصِنُ مِنْ تَحْتِ السّتُرْ
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ أَيْضًا :
أَقْدِمْ مُحَاجُ إنّهَا الْأَسَاوِرَهْ ... وَلَا تَغُرّنّكَ رِجْلٌ نَادِرَهْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ لِغَيْرِ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْيَوْمِ .
Sحَوْلَ رَجَزٍ مَالِكٍ
وَقَوْلُ مَالِكٍ فِي رَجَزِهِ قَدْ أَطْعُنُ الطّعْنَةَ تَقْذِي بِالسّبُرْ
السّبُرُ جَمْعُ سَابِرٍ وَهُوَ الْفَتِيلُ الّذِي يُسْبَرُ بِهِ الْجُرْحُ أَيْ يُجْبَرُ . [ ص 217 ] أَقْدِمْ مُحَاجُ إنّهَا الْأَسَاوِرَهْ
وَقَوْلُ ابْنِ هِشَامٍ : هُمَا لِغَيْرِ مَالِكٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْيَوْمِ يَعْنِي يَوْمَ الْقَادِسِيّةِ ، وَكَانَتْ الدّوْلَةُ فِيهِ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الْفُرْسِ ، وَالْأَسَاوِرَةُ مُلُوكُ الْفُرْسِ ، وَقُتِلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ رُسْتُمُ مَلِكُهُمْ دُونَ الْمَلِكِ الْأَكْبَرِ وَكَانَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ بِمَ سُمّيَتْ الْقَادِسِيّةُ . وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي قَتَادَةَ فِي سَلَبِ الْقَتِيلِ قَالَ فَاشْتَرَيْت بِثَمَنِهِ مَخْرَفًا فَإِنّهُ لَأَوّلُ مَالٍ اعْتَقَدْته ، يُقَالُ اعْتَقَدْت مَالِي ، أَيْ اتّخَذْت مِنْهُ عُقْدَةً كَمَا تَقُولُ نُبْذَةٌ أَوْ قِطْعَةٌ وَالْأَصْلُ فِيهِ مِنْ الْعَقْدِ وَأَنّ مَنْ مَلَكَ شَيْئًا عَقَدَ عَلَيْهِ وَأَنْشَدَ أَبُو عَلِيّ [ الْقَالِي ] :
وَلَمّا رَأَيْت الدّهْرَ أَنْحَتْ صُرُوفُهُ ... عَلَيّ وَأَوْدَتْ بِالذّخَائِرِ وَالْعُقَدْ
حَذَفْت فُضُولَ الْعَيْشِ حَتّى رَدَدْتهَا ... إلَى الْقُوتِ خَوْفًا أَنْ أُجَاءَ إلَى أَحَدْ
وَيُرْوَى : تَأَثّلْته ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْمُوَطّأِ وَيُقَالُ مَخْرَفٌ بِفَتْحِ الرّاءِ وَكَسْرِهَا ، وَأَمّا كَسْرُ الْمِيمِ فَإِنّمَا هُوَ لِلْمِخْرَفِ وَهِيَ الْآلَةُ الّتِي تُخْتَرَفُ بِهَا التّمْرَةُ أَيْ تُجْتَنَى بِفَتْحِ الْمِيمِ مَعْنَاهُ الْبُسْتَانُ مِنْ النّخْلِ هَكَذَا فَسّرُوهُ وَفَسّرَهُ الْحَرْبِيّ ، وَأَجَادَ فِي تَفْسِيرِهِ فَقَالَ الْمَخْرَفُ نَخْلَةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ نَخَلَاتٌ يَسِيرَةٌ إلَى عَشْرٍ فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ فَهُوَ بُسْتَانٌ أَوْ حَدِيقَةٌ وَيُقَوّي مَا قَالَهُ [ ص 218 ] الْحَرْبِيّ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ الْمَخْرَفُ مِثْلُ الْخَرُوفَةِ وَالْخَرُوفَةُ هِيَ النّخْلَةُ يَخْتَرِفُهَا الرّجُلُ لِنَفْسِهِ وَلِعِيَالِهِ وَأَنْشَدَ مِثْلُ الْمَخَارِفِ مِنْ خَيْلَانَ أَوْ هَجَرَا
قَالَ وَيُقَالُ الْخَرُوفَةُ خَرِيفَةٌ أَيْضًا .

مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ
[ ص 218 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ ، أَنّهُ حَدّثَ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيّ قَالَ وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ مِنْ أَصْحَابِنَا ، عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى بَنِي غِفَارٍ أَبِي مُحَمّدٍ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ ، قَالَا : قَالَ أَبُو قَتَادَةَ : رَأَيْت يَوْمَ حُنَيْنٍ رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ مُسْلِمًا وَمُشْرِكًا ، قَالَ وَإِذَا رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُرِيدُ أَنْ يُعِينَ صَاحِبَهُ الْمُشْرِكَ عَلَى الْمُسْلِمِ . قَالَ فَأَتَيْته فَضَرَبْت يَدَهُ فَقَطَعْتهَا ، وَاعْتَنَقَنِي بِيَدِهِ الْأُخْرَى ، فَوَاَللّهِ مَا أَرْسَلَنِي حَتّى وَجَدْت رِيحَ الدّمِ . وَيُرْوَى : رِيحَ الْمَوْتِ فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَكَادَ يَقْتُلُنِي ، فَلَوْلَا أَنّ الدّمَ نَزَفَهُ لَقَتَلَنِي ، فَسَقَطَ فَضَرَبْته فَقَتَلْته ، وَأَجْهَضَنِي عَنْهُ الْقِتَالُ وَمَرّ بِهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ فَسَلَبَهُ فَلَمّا وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا وَفَرَغْنَا مِنْ الْقَوْمِ ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ ، فَقُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ وَاَللّهِ لَقَدْ قَتَلْت قَتِيلًا ذَا سَلَبٍ فَأَجْهَضَنِي عَنْهُ الْقِتَالُ فَمَا أَدْرِي مَنْ اسْتَلَبَهُ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ : صَدَقَ يَا رَسُولَ اللّهِ وَسَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي ، فَأَرْضِهِ عَنّي مِنْ سَلَبِهِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ لَا وَاَللّهِ لَا يُرْضِيهِ مِنْهُ تَعْمِدُ إلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللّهِ يُقَاتِلُ عَنْ دِينِ اللّهِ تُقَاسِمُهُ سَلَبَهُ اُرْدُدْ عَلَيْهِ سَلَبَ قَتِيلِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ صَدَقَ فَارْدُدْ عَلَيْهِ سَلَبَهُ . فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ : فَأَخَذْته مِنْهُ فَبِعْته ، فَاشْتَرَيْت مِنْهُ مَخْرَفًا ، فَإِنّهُ لَأَوّلُ مَالٍ اعْتَقَدْته . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ إسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ لَقَدْ اسْتَلَبَ أَبُو طَلْحَةَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَحْدَهُ عِشْرِينَ رَجُلًا .
Sالسّلَبُ لِلْقَاتِلِ
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ الْفِقْهِ أَنّ السّلَبَ لِلْقَاتِلِ حُكْمًا شَرْعًا جَعَلَ ذَلِكَ الْإِمَامُ لَهُ أَوْ يَجْعَلُهُ وَهُوَ قَوْلُ الشّافِعِيّ ، وَقَالَ مَالِكٌ إنّمَا ذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ لَهُ أَنْ يَقُولَ بَعْدَ مَعْمَعَةِ الْحَرْبِ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ ، وَيَكْرَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللّهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقِتَالِ لِئَلّا يُخَالِطَ النّيّةَ غَرَضٌ آخَرُ غَيْرُ احْتِسَابِ نَفْسِهِ لِلّهِ تَعَالَى ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا .

نُزُولُ الْمَلَائِكَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ [ ص 219 ] أَبِي إسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ ، أَنّهُ حَدّثَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، قَالَ لَقَدْ رَأَيْت قَبْلَ هَزِيمَةِ الْقَوْمِ وَالنّاسُ يَقْتَتِلُونَ مِثْلَ الْبِجَادِ الْأَسْوَدِ أَقْبَلَ مِنْ السّمَاءِ حَتّى سَقَطَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ فَنَظَرْت ، فَإِذَا نَمْلٌ أَسْوَدُ مَبْثُوثٌ قَدْ مَلَأَ الْوَادِيَ لَمْ أَشُكّ أَنّهَا الْمَلَائِكَةُ ثُمّ لَمْ يَكُنْ إلّا هَزِيمَةُ الْقَوْمِ .
هَزِيمَةُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ حُنَيْنٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا هَزَمَ اللّهُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ حُنَيْنٍ ، وَأَمْكَنَ رَسُولَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْهُمْ قَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
قَدْ غَلَبَتْ خَيْلُ اللّهِ خَيْلَ اللّاتِ ... وَاَللّهُ أَحَقّ بِالثّبَاتِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالرّوَايَةِ لِلشّعْرِ
غَلَبَتْ خَيْلُ اللّهِ خَيْلَ اللّاتِ ... وَخَيْلُهُ أَحَقّ بِالثّبَاتِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا انْهَزَمَتْ هَوَازِنُ اسْتَحَرّ الْقَتْلُ مِنْ ثَقِيفٍ فِي بَنِي مَالِكٍ فَقُتِلَ مَعَهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا تَحْتَ رَايَتِهِمْ فِيهِمْ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ حَبِيبٍ وَكَانَتْ رَايَتُهُمْ مَعَ ذِي الْخِمَارِ فَلَمّا قُتِلَ أَخَذَهَا عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ فَقَاتَلَ بِهَا حَتّى قُتِلَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ وَهْبِ بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ لَمّا بَلَغَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَتْلُهُ قَالَ أَبْعَدَهُ اللّهُ فَإِنّهُ كَانَ يُبْغِضُ قُرَيْشًا . [ ص 220 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ . أَنّهُ قُتِلَ مَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ غُلَامٌ لَهُ نَصْرَانِيّ أَغْرَلُ قَالَ فَبَيْنَا رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ يَسْلُبُ قَتْلَى ثَقِيفٍ ، إذْ كَشَفَ الْعَبْدَ يَسْلُبُهُ فَوَجَدَهُ أَغْرَل . قَالَ فَصَاحَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ يَعْلَمُ اللّهُ أَنّ ثَقِيفًا غُرْلٌ . قَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ : فَأَخَذْت بِيَدِهِ وَخَشِيت أَنْ تَذْهَبَ عَنّا فِي الْعَرَبِ ، فَقُلْت : لَا تَقُلْ ذَاكَ فِدَاك أَبِي وَأُمّي ، إنّمَا هُوَ غُلَامٌ لَنَا نَصْرَانِيّ . قَالَ ثُمّ جَعَلْت أَكْشِفُ لَهُ عَنْ الْقَتْلَى ، وَأَقُولُ لَهُ أَلَا تَرَاهُمْ مُخْتَنِينَ كَمَا تَرَى قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَتْ رَايَةُ الْأَحْلَافِ مَعَ قَارِبِ بْنِ الْأَسْوَدِ ، فَلَمّا انْهَزَمَ النّاسُ أَسْنَدَ رَايَتَهُ إلَى شَجَرَةٍ وَهَرَبَ هُوَ وَبَنُو عَمّهِ وَقَوْمُهُ مِنْ الْأَحْلَافِ ، فَلَمْ يُقْتَلْ مِنْ الْأَحْلَافِ غَيْرَ رَجُلَيْنِ رَجُلٌ مِنْ غِيَرَةَ يُقَالُ لَهُ وَهْبٌ وَآخَرُ مِنْ بَنِي كُبّةَ يُقَالُ لَهُ الْجُلَاحُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ بَلَغَهُ قَتْلُ الْجُلَاحِ قُتِلَ الْيَوْمَ سَيّدُ شَبَابِ ثَقِيفٍ إلّا مَا كَانَ مِنْ ابْنِ هُنَيْدَةَ يَعْنِي بِابْنِ هُنَيْدَةَ الْحَارِثَ بْنَ أُوَيْسٍ .
Sنُزُولُ الْمَلَائِكَةِ وَقَوْلُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ
[ ص 219 ] رَآهُ يَنْزِلُ مِنْ السّمَاءِ . قَالَ لَمْ أَشُكّ أَنّهَا الْمَلَائِكَةُ وَقَدْ قَدّمَ ابْنُ إسْحَاقَ قَوْلَ الْآخَرِ رَأَيْت رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ وَكَانَتْ الْمَلَائِكَةُ فَأَرَاهُمْ اللّهُ لِذَلِكَ الْهَوْاَزنِيّ عَلَى صُوَرِ الْخَيْلِ وَالرّجَالِ تَرْهِيبًا لِلْعَدُوّ وَرَآهُمْ جُبَيْرٌ عَلَى صُورَةِ النّمْلِ الْمَبْثُوثِ إشْعَارًا بِكَثْرَةِ عَدَدِهَا ، إذْ النّمْلُ لَا يُسْتَطَاعُ عَدّهَا مَعَ أَنّ النّمْلَةَ يُضْرَبُ بِهَا الْمَثَلُ فِي الْقُوّةِ فَيُقَالُ أَقْوَى مِنْ النّمْلَةِ لِأَنّهَا تَحْمِلُ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ جِرْمِهَا بِأَضْعَافٍ وَقَدْ قَالَ رَجُلٌ لِبَعْضِ الْمُلُوكِ جَعَلَ اللّهُ قُوّتَك قُوّةَ النّمْلَةِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ فَقَالَ لَيْسَ فِي الْحَيَوَانِ مَا يَحْمِلُ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ إلّا النّمْلَةُ وَهَذَا الْمَثَلُ قَدْ ذَكَرَهُ الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابِ الْأَعْمَالِ مَقْرُونًا بِهَذَا الْخَبَرِ ، وَقَدْ أُهْلِكَ بِالنّمْلِ أُمّةٌ مِنْ الْأُمَمِ وَهُمْ جُرْهُمٌ .

رَائِيّةُ ابْنِ مِرْدَاسٍ
فَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السّلَمِيّ يَذْكُرُ قَارِبَ بْنَ الْأَسْوَدِ وَفِرَارَهُ مِنْ بَنِي أَبِيهِ وَذَا الْخِمَارِ وَحَبْسَهُ قَوْمَهُ لِلْمَوْتِ [ ص 221 ]
أَلَا مِنْ مُبْلِغٍ غَيْلَانَ عَنّي ... وَسَوْفَ - إخَالُ - يَأْتِيهِ الْخَبِيرُ
وَعُرْوَةُ إنّمَا أُهْدِي جَوَابًا ... وَقَوْلًا غَيْرَ قَوْلِكُمَا يَسِيرُ
بِأَنّ مُحَمّدًا عَبْدٌ رَسُولٌ ... لِرَبّ لَا يَضِلّ وَلَا يَجُورُ
وَجَدْنَاهُ نَبِيّا مِثْلَ مُوسَى ... فَكُلّ فَتًى يُخَايِرُهُ مُخِيرُ
وَبِئْسَ الْأَمْرُ أَمْرُ بَنِي قَسِيّ ... بِوَجّ إذْ تُقُسّمَتْ الْأُمُورُ
أَضَاعُوا أَمْرَهُمْ وَلِكُلّ قَوْمٍ ... أَمِيرٌ وَالدّوَائِرُ قَدْ تَدُورُ
فَجِئْنَا أُسْدَ غَابَاتٍ إلَيْهِمْ ... جُنُودُ اللّهِ ضَاحِيَةً تَسِيرُ
يَؤُمّ الْجَمْعَ جَمْعَ بَنِي قَسِيّ ... عَلَى حَنَقٍ نَكَادُ لَهُ نَطِيرُ
وَأُقْسِمُ لَوْ هُمْ مَكَثُوا لَسِرْنَا ... إلَيْهِمْ بِالْجُنُودِ وَلَمْ يَغُورُوا
فَكُنّا أُسْدَ لَيّةَ ثَمّ حَتّى ... أَبَحْنَاهَا وَأَسْلَمَتْ النّصُورُ
وَيَوْمٌ كَانَ قَبْلُ لَدَى حُنَيْنٍ ... فَأَقْلَعَ وَالدّمَاءُ بِهِ تَمُورُ
مِنْ الْأَيّامِ لَمْ تَسْمَعْ كَيَوْمٍ ... وَلَمْ يَسْمَعْ بِهِ قَوْمٌ ذُكُورُ
قَتَلْنَا فِي الْغُبَارِ بَنِي حُطَيْطٍ ... عَلَى رَايَاتِهَا وَالْخَيْلُ زُورُ
وَلَمْ يَكُ ذُو الْخِمَارِ رَئِيسَ قَوْمٍ ... لَهُمْ عَقْلٌ يُعَاقِبُ أَوْ مُكِيرُ
أَقَامَ بِهِمْ عَلَى سُنَنِ الْمَنَايَا ... وَقَدْ بَانَتْ لِمُبْصِرِهَا الْأُمُورُ
فَأَفْلَتْ مَنْ نَجَا مِنْهُمْ حَرِيضًا ... وَقُتّلَ مِنْهُمْ بَشَرٌ كَثِيرُ
وَلَا يُغْنِي الْأُمُورَ أَخُو الْتَوَانِي ... وَلَا الْغَلِقُ الصّرَيّرَةِ الْحَصُورُ
أَحَانَهُمُ وَحَانَ وَمَلّكُوهُ ... أُمُورَهُمْ وَأَفْلَتَتْ الصّقُورُ
بَنُو عَوْفٍ تَمِيحُ بِهِمْ جِيَادٌ ... أُهِينَ لَهَا الْفَصَافِصُ وَالشّعِيرُ
فَلَوْلَا قَارِبٌ وَبَنُو أَبِيهِ ... تَقَسّمَتْ الْمَزَارِعُ وَالْقُصُورُ
وَلَكِنّ الرّيَاسَةَ عَمّمُوهَا ... عَلَى يَمَنٍ أَشَارَ بِهِ الْمُشِيرُ
أَطَاعُوا قَارِبًا وَلَهُمْ جُدُودٌ ... وَأَحْلَامٌ إلَى عِزّ تَصِيرُ
فَإِنْ يُهْدَوْا إلَى الْإِسْلَامِ يُلْفَوْا ... أُنُوفَ النّاسِ مَا سَمَرُ السّمِيرُ
وَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا فَهُمْ أَذَانٌ ... بِحَرْبِ اللّهِ لَيْسَ لَهُمْ نَصِيرُ
كَمَا حَكّتْ بَنِي سَعْدٍ وَحَرْبٌ ... بِرَهْطِ بَنِي غَزِيّةَ عَنْقَفِيرُ
كَأَنّ بَنِي مُعَاوِيَةَ بْنِ بَكْرٍ ... إلَى الْإِسْلَامِ ضَائِنَةٌ نَخُورُ
فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إنّا أَخُوكُمْ ... وَقَدْ بَرَأَتْ مِنْ الْإِحَنِ الصّدُورُ
كَأَنّ الْقَوْمَ إذْ جَاءُوا إلَيْنَا ... مِنْ الْبَغْضَاءِ بَعْدَ السّلْمِ عُورُ
[ ص 222 ] [ ص 223 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : غَيْلَانُ غَيْلَانُ بْنُ سَلَمَةَ الثّقَفِيّ ، وَعُرْوَةُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثّقَفِيّ .
Sحَوْلَ قَصِيدَةِ ابْنِ مِرْدَاسٍ
فَصْلٌ
[ ص 220 ] وَذَكَرَ قَوْلَ عَبّاسٍ وَسَوْفَ إخَالُ يَأْتِيك الْخَبِيرُ
الْفِعْلُ الْمُسْتَقْبَلُ هُوَ يَأْتِيك ، وَإِنْ كَانَ حَرْفُ سَوْفَ دَاخِلًا عَلَى إخَالُ فِي اللّفْظِ فَإِنّ مَا يَدُلّ عَلَيْهِ مِنْ الِاسْتِقْبَالِ إنّمَا هُوَ الْفِعْلُ الثّانِي كَمَا قَالَ وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إخَالُ أَدْرِي
[ ص 221 ] يَخَالَ الْآنَ أَنْ سَيَكُونُ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ
فَإِنْ يُهْدَوْا إلَى الْإِسْلَامِ يُلْفَوْا ... أُنُوفَ النّاسِ مَا سَمَرُ السّمِيرُ
[ ص 222 ] نَكِرَةٌ لَمْ يَتَعَرّفْ بِالْإِضَافَةِ لِأَنّهُ لَمْ يَرِدْ الْأُنُوفُ بِأَعْيَانِهَا ، وَلَكِنّ أَشْرَافًا ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ بِمُنْجَرَدٍ قَيْدِ الْأَوَابِدِ
لِأَنّهُ جَعَلَهُ كَالْقَيْدِ وَمِثْلُهُ مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ فِي : نَصْبِ غَمَائِمَ الْأَبْصَارِ عَلَى الْحَالِ وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ مَا مَنَعَهُ سِيبَوَيْهِ حِينَ قَالَ مُعْتَرِضًا عَلَى الْخَلِيلِ لَوْ قُلْت مَرَرْت بِقَصِيرٍ الطّوِيلَ تُرِيدُ مِثْلَ الطّوِيلِ لَمْ يَجُزْ وَاَلّذِي أَرَادَهُ الْخَلِيلُ هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ اسْتِعَارَةِ الْكَلِمَةِ عَلَى جِهَةِ التّشْبِيهِ نَحْوَ قَيْدِ الْأَوَابِدِ وَأُنُوفِ النّاسِ تُرِيدُ أَشْرَافَهُمْ فَمِثْلُ هَذَا يَكُونُ وَصْفًا لِلنّكِرَةِ وَحَالًا مِنْ الْمَعْرِفَةِ وَقَدْ أَلْحَقَ بِهَذَا الْبَابِ لَهُ صَوْتٌ صَوْتُ الْحِمَارِ عَلَى الصّفّةِ وَضَعّفَهُ سِيبَوَيْهِ فِي الْحَالِ وَهُوَ فِي الصّفّةِ أَقْبَحُ وَإِنّمَا أَلْحَقَهُ الْخَلِيلُ بِمَا تَنَكّرَ وَهُوَ مُضَافٌ إلَى مُعْرِفَةٍ مِنْ أَجْلِ تُكَرّرْ اللّفْظِ فِيهِ فَحَسُنَ لِذَلِك . وَقَوْلُهُ وَأُسْلِمَتْ النّصُورُ . ذَكَرَ الْبَرْقِيّ أَنّ النّصُورَ هَاهُنَا جَمْعُ : نَاصِرٍ وَلَيْسَ هُوَ عِنْدِي كَذَلِك . فَإِنّ فَاعِلًا قَلّ مَا يُجْمَعُ عَلَى فَعُولٍ وَإِنْ جُمِعَ فَلَيْسَ هُوَ بِالْقِيَاسِ الْمُطّرِدِ وَإِنّمَا هُمْ بَنُو نَصِيرٍ مِنْ هَوَازِنَ رَهْطُ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ النّصْرِيّ يُقَال لَهُمْ النّصُورُ كَمَا يُقَال لِبَنِي الْمُهَلّبِ الْمَهَالِبَةُ وَلِبَنِي الْمُنْذِرِ الْمَنَاذِرَةِ ، وَكَمَا يُقَال الْأَشْعَرُونَ وَهُمْ بَنُو أَشْعَرَ بْنِ أُدَدٍ وَالتّوَتْيَاتُ لِبَنِي تُوَبْتِ بْنِ أَسَدٍ .
جَمْعُ أَخ وَابْنٍ
وَقَوْلُهُ إنّا أَخُوكُمْ جَمَعَ أَخًا جَمْعًا مُسْلَمًا بِالْوَاوِ وَالنّونِ ثُمّ حُذِفَتْ النّونُ لِلْإِضَافَةِ كَمَا أَنْشَدُوا :
وَلَمّا تَبَيّنّ أَصْوَاتَنَا بَكَيْنَ ... وَفَدّيْنَنَا بِالْأَبِينَا
[ ص 223 ] يَكُونَ وَضْعُ الْوَاحِدِ مَوْضِعَ الْجَمِيعِ كَمَا تَقَدّمَ فِي قَوْلِهِ أَنْتُمْ الْوَلَدُ وَنَحْنُ الْوُلْدُ [ ص 224 ] [ ص 225 ]
مِنْ وَصْفِ الزّبَيْرِ
وَقَوْلُهُ فِي صِفَةِ الزّبَيْرِ طَوِيلُ الْبَادّ أَيْ الْفَخْرِ وَالْبَدَدُ تَبَاعُدُ مَا بَيْنَ الْفَخِذَيْنِ .

مَصْرَعُ دُرَيْدٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا انْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ أَتَوْا الطّائِفَ وَمَعَهُمْ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ وَعَسْكَرَ بَعْضُهُمْ بِأَوْطَاسٍ وَتَوَجّهَ بَعْضُهُمْ نَحْوَ نَخْلَةَ ، وَلَمْ يَكُنْ فِيمَنْ تَوَجّهَ نَحْوَ نَخْلَةَ إلّا بَنُو غِيَرَةَ مِنْ ثَقِيفٍ ، وَتَبِعَتْ خَيْلُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَنْ سَلَكَ فِي نَخْلَةَ مِنْ النّاسِ وَلَمْ تَتْبَعْ مَنْ سَلَكَ الثّنَايَا . فَأُدْرِكَ رَبِيعَةُ بْنُ رَفِيعِ بْنِ أُهْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ يَرْبُوعِ بْنِ سَمّانِ بْنِ عَوْفِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ وَكَانَ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الدّغُنّةِ وَهِيَ أُمّهُ فَغَلَبَتْ عَلَى اسْمِهِ وَيُقَالُ ابْنُ لَذْعَةَ فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ - دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ ، فَأُخِذَ بِخِطَامِ جَمَلِهِ وَهُوَ يُظَنّ أَنّهُ امْرَأَةٌ وَذَلِكَ أَنّهُ فِي شِجَارٍ لَهُ فَإِذَا بِرَجُلٍ فَأَنَاخَ بِهِ فَإِذَا شَيْخٌ كَبِيرٌ وَإِذَا هُوَ دُرَيْدُ بْنُ الصّمّةِ وَلَا يَعْرِفُهُ الْغُلَامُ فَقَالَ لَهُ دُرَيْدٌ مَا تُرِيدُ بِي ؟ قَالَ أَقْتُلُك . قَالَ وَمَنْ أَنْتَ ؟ قَالَ أَنَا رَبِيعَةُ بْنُ رَفِيعٍ السّلَمِيّ ثُمّ ضَرَبَهُ بِسَيْفِهِ فَلَمْ يُغْنِ شَيْئًا ، فَقَالَ بِئْسَ مَا سَلّحَتْك أُمّك خُذْ سَيْفِي هَذَا مِنْ مُؤَخّرِ الرّحْلِ وَكَانَ الرّحْلُ فِي الشّجَارِ ثُمّ اضْرِبْ بِهِ وَارْفَعْ عَنْ الْعِظَامِ وَاخْفِضْ عَنْ الدّمَاغِ فَإِنْ كُنْت كَذَلِكَ أَضْرَبَ الرّجَالِ ثُمّ إذَا أَتَيْت أُمّك فَأَخْبِرْهَا أَنّك قَتَلْت دُرَيْدَ بْنَ الصّمّةِ ، فَرُبّ وَاَللّهِ يَوْمٌ قَدْ مُنِعْت فِيهِ نِسَاءَك . فَزَعَمَ بَنُو سُلَيْمٍ أَنّ رَبِيعَةَ لَمّا ضَرَبَهُ فَوَقَعَ تَكَشّفَ فَإِذَا عِجَانُهُ وَبُطُونُ فَخِذَيْهِ مِثْلُ الْقِرْطَاسِ مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ أَعْرَاءً فَلَمّا رَجَعَ رَبِيعَةُ إلَى أُمّهِ أَخْبَرَهَا بِقَتْلِهِ إيّاهُ فَقَالَتْ أَمَا وَاَللّهِ لَقَدْ أَعْتَقَ أُمّهَاتٍ لَك ثَلَاثًا . فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ دُرَيْدٍ فِي قَتْلِ رَبِيعَةَ دُرَيْدًا [ ص 224 ]
لَعَمْرُك مَا خَشِيت عَلَى دُرَيْدٍ ... بِبَطْنِ سُمَيْرَةٍ جَيْشَ الْعَنَاقِ
جَزَى عَنْهُ الْإِلَهُ بَنِي سُلَيْمٍ ... وَعَقّتْهُمْ بِمَا فَعَلُوا عَقَاقُ
وَأَسْقَانَا إذَا قُدْنَا إلَيْهِمْ ... دِمَاءَ خِيَارِهِمْ عِنْدَ التّلَاقِي
فَرُبّ عَظِيمَةٍ دَافَعَتْ عَنْهُمْ ... وَقَدْ بَلَغَتْ نُفُوسَهُمْ التّرَاقِي
وَرُبّ كَرِيمَةٍ أَعْتَقْت مِنْهُمْ ... وَأُخْرَى قَدْ فَكَكْت مِنْ الْوَثَاقِ
وَرُبّ مُنَوّهٍ بِك مِنْ سُلَيْمٍ ... أَجَبْت وَقَدْ دَعَاك بِلَا رَمَاقِ
فَكَانَ جَزَاؤُنَا مِنْهُمْ عُقُوقًا ... وَهَمّا مَاعَ مِنْهُ مُخّ سَاقِي
عَفَتْ آثَارُ خَيْلِك بَعْدَ أَيْنٍ ... بِذِي بَقَرٍ إلَى فَيْفِ النّهَاقِ
وَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ دُرَيْدٍ أَيْضًا :
قَالُوا قَتَلْنَا دُرَيْدًا قُلْت قَدْ صَدَقُوا ... فَظَلّ دَمْعِي عَلَى السّرْبَالِ يَنْحَدِرُ
لَوْلَا الّذِي قَهَرَ الْأَقْوَامَ كُلّهِمْ ... رَأَتْ سُلَيْمٌ وَكَعْبٌ كَيْفَ تَأْتَمِرُ
إذَنْ لَصَبّحَهُمْ غِبّا وَظَاهِرَةً ... حَيْثُ اسْتَقَرّتْ نَوَاهُمْ جَحْفَلٌ ذَفِرِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ اسْمُ الّذِي قَتَلَ دُرَيْدًا : عَبْدُ اللّهِ بْنُ قُنَيْعِ بْنِ أُهْبَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ .

مَصْرَعُ أَبِي عَامِرٍ الْأَشْعَرِيّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي آثَارِ مَنْ تَوَجّهَ قِبَلَ أَوْطَاسٍ أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيّ ، فَأَدْرَكَ مِنْ النّاسِ بَعْضَ مَنْ انْهَزَمَ فَنَاوَشُوهُ الْقِتَالَ فَرُمِيَ أَبُو عَامِرٍ بِسَهْمٍ فَقُتِلَ فَأَخَذَ الرّايَةَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ ، وَهُوَ ابْنُ عَمّهِ فَقَاتَلَهُمْ فَفَتَحَ اللّهُ عَلَى يَدَيْهِ وَهَزَمَهُمْ . فَيَزْعُمُونَ أَنّ سَلَمَةَ بْنَ دُرَيْدٍ هُوَ الّذِي رَمَى أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيّ بِسَهْمٍ فَأَصَابَ رُكْبَتَهُ فَقَتَلَهُ فَقَالَ
إنْ تَسْأَلُوا عَنّي فَإِنّي سَلَمَهْ ... ابْنُ سَمَادِيرَ لِمَنْ تَوَسّمَهْ
أَضْرِبُ بِالسّيْفِ رُءُوسَ الْمُسْلِمَهْ
وَسَمَادِيرُ أُمّهُ .
حَالُ بَنِي رِئَابٍ فِي الْمَعْرَكَةِ
وَاسْتَحَرّ الْقَتْلُ مِنْ بَنِي نَصْرٍ فِي بَنِي رِئَابٍ فَزَعَمُوا أَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ قَيْسٍ - وَهُوَ الّذِي يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْعَوْرَاءِ وَهُوَ أَحَدُ بَنِي وَهْبِ بْنِ رِئَابٍ - قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ هَلَكَتْ بَنُو رِئَابٍ فَزَعَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ اللّهُمّ اُجْبُرْ مُصِيبَتَهُمْ
مَوْقِفُ قَوْمِ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ
وَخَرَجَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ عِنْدَ الْهَزِيمَةِ فَوَقَفَ فِي فَوَارِسَ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى ثَنِيّةٍ مِنْ الطّرِيقِ وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ قِفُوا حَتّى تَمْضِيَ ضُعَفَاؤُكُمْ وَتَلْحَقَ أُخْرَاكُمْ فَوَقَفَ هُنَاكَ حَتّى [ ص 225 ] كَانَ لَحِقَ بِهِمْ مِنْ مُنْهَزِمَةِ النّاسِ ؟ فَقَالَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ فِي ذَلِكَ
وَلَوْلَا كَرّتَانِ عَلَى مُحَاجٍ ... لَضَاقَ عَلَى الْعَضَارِيطِ الطّرِيقُ
وَلَوْلَا كَرّ دُهْمَانَ بْنِ نَصْرٍ ... لَدَى النّخَلَاتِ مُنْدَفِعَ الشّدِيقِ
لَآبَتْ جَعْفَرٌ وَبَنُو هِلَالٍ ... خَزَايَا مُحْقِبِينَ عَلَى شُقُوقِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هَذِهِ الْأَبْيَاتُ لِمَالِكِ بْنِ عَوْفٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْيَوْمِ . وَمِمّا يَدُلّك عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ دُرَيْدِ بْنِ الصّمّةِ فِي صَدْرِ هَذَا الْحَدِيثِ مَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلَابٌ ؟ فَقَالُوا لَهُ لَمْ يَشْهَدْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ . وَجَعْفَرُ بْنُ كِلَابٍ . وَقَالَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ فِي هَذِهِ الْأَبْيَاتِ " لَآبَتْ جَعْفَرٌ وَبَنُو هِلَالٍ " . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَبَلَغَنِي أَنّ خَيْلًا طَلَعَتْ وَمَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى الثّنِيّةِ ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ مَاذَا تَرَوْنَ ؟ فَقَالُوا : نَرَى قَوْمًا وَاضِعِي رِمَاحَهُمْ بَيْنَ آذَانِ خَيْلِهِمْ طَوِيلَةً بَوَادّهُمْ فَقَالَ هَؤُلَاءِ بَنُو سُلَيْمٍ ، وَلَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ فَلَمّا أَقْبَلُوا سَلَكُوا بَطْنَ الْوَادِي . ثُمّ طَلَعَتْ خَيْلٌ أُخْرَى تَتْبَعُهَا ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ مَاذَا تَرَوْنَ ؟ قَالُوا : نَرَى قَوْمًا عَارِضِي رِمَاحَهُمْ أَغْفَالًا عَلَى خَيْلِهِمْ فَقَالَ هَؤُلَاءِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ ، وَلَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ فَلَمّا انْتَهَوْا إلَى أَصْلِ الثّنِيّةِ سَلَكُوا طَرِيقَ بَنِي سُلَيْمٍ . ثُمّ طَلَعَ فَارِسٌ ؛ قَفّال لِأَصْحَابِهِ مَاذَا تَرَوْنَ ؟ قَالُوا : نَرَى فَارِسًا طَوِيلَ الْبَادّ وَاضِعًا رُمْحَهُ عَلَى عَاتِقِهِ عَاصِبًا رَأْسَهُ بِمُلَاءَةٍ حَمْرَاءَ ، فَقَالَ هَذَا الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ وَأَحْلِفُ بِاللّاتِ لَيُخَالِطَنّكُمْ فَاثْبُتُوا لَهُ . فَلَمّا انْتَهَى الزّبَيْرُ إلَى أَصْلِ الثّنِيّةِ أَبْصَرَ الْقَوْمَ فَصَمَدَ لَهُمْ فَلَمْ يَزَلْ يُطَاعِنُهُمْ حَتّى أَزَاحَهُمْ عَنْهَا .
شِعْرُ سَلَمَةَ فِي فِرَارِهِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ دُرَيْدٍ وَهُوَ يَسُوقُ بِامْرَأَتِهِ حَتّى أَعْجَزَهُمْ
نَسّيْتنِي مَا كُنْت غَيْرَ مُصَابَةٍ ... وَلَقَدْ عَرَفْت غَدَاةَ نَعْفَ الْأَظْرُبِ
أَنّي مَنَعْتُك وَالرّكُوبُ مُحَبّبٌ ... وَمَشَيْت خَلْفَك مِثْلَ مَشْيِ الْأَنْكَبِ
إذْ فَرّ كُلّ مُهَذّبٍ ذِي لِمّةٍ ... عَنْ أُمّهِ وَخَلِيلِهِ لَمْ يَعْقُبْ
عَوْدٌ إلَى حَدِيثِ مَصْرَعِ أَبِي عَامِرٍ
[ ص 226 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ وَحَدِيثِهِ أَنّ أَبَا عَامِرٍ الْأَشْعَرِيّ لَقِيَ يَوْمَ أَوْطَاسٍ عَشْرَةَ إخْوَةً مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمْ فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو عَامِرٍ وَهُوَ يَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَيَقُولُ اللّهُمّ اشْهَدْ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ أَبُو عَامِرٍ ثُمّ حَمَلَ عَلَيْهِ آخَرُ فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو عَامِرٍ وَهُوَ يَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَيَقُولُ اللّهُمّ اشْهَدْ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ أَبُو عَامِرٍ . ثُمّ جَعَلُوا يَحْمِلُونَ عَلَيْهِ رَجُلًا رَجُلًا ، وَيَحْمِلُ أَبُو عَامِرٍ وَهُوَ يَقُولُ ذَلِكَ حَتّى قَتَلَ تِسْعَةً وَبَقِيَ الْعَاشِرُ فَحَمَلَ عَلَى أَبِي عَامِرٍ وَحَمَلَ عَلَيْهِ أَبُو عَامِرٍ وَهُوَ يَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَيَقُولُ اللّهُمّ اشْهَدْ عَلَيْهِ فَقَالَ الرّجُلُ اللّهُمّ لَا تَشْهَدْ عَلَيّ فَكَفّ عَنْهُ أَبُو عَامِرٍ فَأَفْلَتْ ثُمّ أَسْلَمَ بَعْدُ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ . فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا رَآهُ قَالَ هَذَا شَرِيدُ أَبِي عَامِرٍ وَرَمَى أَبَا عَامِرٍ أَخَوَانِ الْعَلَاءُ وَأَوْفَى ابْنَا الْحَارِثِ مِنْ بَنِي جُشَمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ ، فَأَصَابَ أَحَدُهُمَا قَلْبَهُ وَالْآخَرُ رُكْبَتَهُ فَقَتَلَاهُ وَوَلِيَ النّاسَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ فَحَمَلَ عَلَيْهِمَا فَقَتَلَهُمَا ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي جُشَمِ بْنِ مُعَاوِيَةَ يَرْثِيهِمَا :
إنّ الرّزِيّةَ قَتْلُ الْعَلَاءِ ... وَأَوْفَى جَمِيعًا وَلَمْ يُسْنَدَا
هُمَا الْقَاتِلَانِ أَبَا عَامِرٍ ... وَقَدْ كَانَ ذَا هِبَةٍ أَرْبَدَا
هُمَا تَرَكَاهُ لَدَى مَعْرَكٍ ... كَأَنّ عَلَى عِطْفِهِ مُجْسَدَا
فَلَمْ تَرَ فِي النّاسِ مِثْلَيْهِمَا ... أَقَلّ عِثَارًا وَأَرْمَى يَدَا
Sحُكْمُ رَفْعِ الْيَدِ فِي الدّعَاءِ
وَذَكَرَ فِيمَنْ اُسْتُشْهِدَ أَبَا عَامِرٍ وَاسْمُهُ عُبَيْدُ بْنُ سُلَيْمِ بْنِ حَصّارٍ وَهُوَ عَمّ أَبِي مُوسَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ قَيْسٍ الْأَشْعَرِيّ ، وَهُوَ الّذِي اسْتَغْفَرَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ قُتِلَ رَافِعًا يَدَيْهِ جِدّا ، يَقُولُ اللّهُمّ اغْفِرْ لِعُبَيْدٍ أَبِي عَامِرٍ ثَلَاثًا ، وَفِيهِ مِنْ الْفِقْهِ رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي الدّعَاءِ وَقَدْ كَرِهَهُ قَوْمٌ رَوَى عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ أَنّهُ رَأَى قَوْمًا يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ فِي الدّعَاءِ فَقَالَ أَوَقَدْ رَفَعُوهَا ؟ قَطَعَهَا اللّهُ وَاَللّهِ لَوْ كَانُوا بِأَعْلَى شَاهِقٍ مَا ازْدَادُوا مِنْ اللّهِ بِذَلِكَ قُرْبًا ، وَذُكِرَ لِمَالِكٍ أَنّ عَامِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ كَانَ يَدْعُو بِإِثْرِ كُلّ صَلَاةٍ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ فَقَالَ ذَلِكَ حَسَنٌ وَلَا أَرَى أَنْ يَرْفَعَهُمَا جِدّا . وَحُجّةُ مَنْ رَأَى الرّفْعَ أَحَادِيثُ مِنْهَا مَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا ، وَمِنْهَا حَدِيثٌ تَقَدّمَ فِي سَرِيّةِ الْغُمَيْصَاءِ حِينَ رَفَعَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَدَيْهِ وَقَالَ اللّهُمّ إنّي أَبْرَأُ إلَيْك مِمّا صَنَعَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ثَلَاثَ مَرّاتٍ وَلِكُلّ شَيْءٍ وَجْهٌ فَمَنْ كَرِهَ فَإِنّمَا كَرِهَ الْإِفْرَاطَ فِي الرّفْعِ كَمَا كُرِهَ رَفْعُ الصّوْتِ بِالدّعَاءِ جِدّا . قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْبِعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ فَإِنّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمّ وَلَا غَائِبًا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ الّذِي قَدّمْنَاهُ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ .

النّهْيُ عَنْ قَتْلِ الضّعَفَاءِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَرّ يَوْمَئِذٍ بِامْرَأَةٍ وَقَدْ قَتَلَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ، وَالنّاسُ مُتَقَصّفُونَ عَلَيْهَا ، فَقَالَ " مَا هَذَا ؟ " فَقَالُوا : امْرَأَةٌ قَتَلَهَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِبَعْضِ مَنْ مَعَهُ أَدْرِكْ خَالِدًا ، فَقُلْ لَهُ : إنّ رَسُولَ اللّهِ يَنْهَاك أَنْ تَقْتُلَ وَلِيدًا أَوْ امْرَأَةً أَوْ عَسِيفًا
Sمِنْ أَحْكَامِ الْقِتَالِ
[ ص 226 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَنْهَاك أَنْ تَقْتُلَ وَلِيدًا ، أَوْ امْرَأَةً أَوْ عَسِيفًا الْعَسِيفُ الْأَجِيرُ وَهَذَا مُنْتَزَعٌ مِنْ كِتَابِ اللّهِ تَعَالَى ، لِأَنّهُ يَقُولُ { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ الّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ } [ الْبَقَرَةُ 190 ] فَاقْتَضَى دَلِيلُ الْخِطَابِ أَلَا تُقْتَلَ الْمَرْأَةُ إلّا أَنْ [ ص 227 ] أَخْطَأَ مَنْ قَاسَ مَسْأَلَةَ الْمُرْتَدّةِ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنّ الْمُرْتَدّةَ لَا تُسْتَرَقّ وَلَا تُسْبَى ، كَمَا تُسْبَى نِسَاءُ الْحَرْبِ وَذَرَارِيّهُمْ فَتَكُونُ مَالًا لِلْمُسْلِمِينَ فَنَهَى عَنْ قَتْلِهِنّ لِذَلِكَ .

شَأْنُ الشّيْمَاءِ وَبِجَادٍ
[ ص 227 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ يَوْمَئِذٍ إنْ قَدَرْتُمْ عَلَى بِجَادٍ ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ، فَلَا يُفْلِتَنّكُمْ وَكَانَ قَدْ أَحْدَثَ حَدَثًا ، فَلَمّا ظَفِرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ سَاقُوهُ وَأَهْلَهُ وَسَاقُوا مَعَهُ الشّيْمَاءَ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى أُخْتَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الرّضَاعَةِ فَعَنُفُوا عَلَيْهَا فِي السّيَاقِ فَقَالَتْ لِلْمُسْلِمِينَ تَعْلَمُوا وَاَللّهِ أَنّي لَأُخْتُ صَاحِبِكُمْ مِنْ الرّضَاعَةِ فَلَمْ يُصَدّقُوهَا حَتّى أَتَوْا بِهَا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ السّعْدِيّ ، قَالَ فَلَمّا اُنْتُهِيَ بِهَا إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي أُخْتُك مِنْ الرّضَاعَةِ قَالَ " وَمَا عَلَامَةُ ذَلِكَ ؟ " قَالَتْ عَضّةٌ عَضَضْتَنِيهَا فِي ظَهْرِي وَأَنَا مُتَوَرّكَتُك ؛ قَالَ فَعَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْعَلَامَةَ فَبَسَطَ لَهَا [ ص 228 ] وَقَالَ إنْ أَحْبَبْت فَعِنْدِي مَحَبّةُ مَكْرَمَةٍ وَإِنْ أَحْبَبْت أَنْ أُمَتّعَك وَتَرْجِعِي إلَى قَوْمِك فَعَلْت " ؟ فَقَالَتْ بَلْ تُمَتّعُنِي وَتَرُدّنِي إلَى قَوْمِي ، فَمَتّعَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرَدّهَا إلَى قَوْمِهَا فَزَعَمَتْ بَنُو سَعْدٍ أَنّهُ أَعْطَاهَا غُلَامًا لَهُ يُقَالُ لَهُ مَكْحُولٌ ، وَجَارِيَةٌ فَزَوّجَتْ أَحَدُهُمَا الْأُخْرَى ، فَلَمْ يَزَلْ فِيهِمْ مِنْ نَسْلِهِمَا بَقِيّةٌ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } إلَى قَوْلِهِ { وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ }

شُهَدَاءُ يَوْمِ حُنَيْنٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَهَذِهِ تَسْمِيَةُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ يَوْمَ حُنَيْنٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ ثُمّ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ : أَيْمَنُ بْنُ عُبَيْدٍ . وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى : يَزِيدُ بْنُ زَمَعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدٍ ، جَمَحَ بِهِ فَرَسٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ الْجُنَاحُ فَقُتِلَ . وَمِنْ الْأَنْصَارِ : سُرَاقَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَدِيّ مِنْ بَنِي الْعَجْلَانِ . وَمِنْ الْأَشْعَرِيّينَ : أَبُو عَامِرٍ الْأَشْعَرِيّ .

الْحَفْنَةُ وَشَاهَتْ الْوُجُوهُ
فَصْلٌ
[ ص 228 ] غَزْوَةِ حُنَيْنٍ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ الْحَفْنَةُ الّتِي أَخَذَهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْبَطْحَاءِ ، وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ فَرَمَى بِهَا أَوْجُهَ الْكُفّارِ وَقَالَ شَاهَتْ الْوُجُوهُ فَانْهَزَمُوا . وَالْمُسْتَقْبَلُ مِنْ شَاهَتْ تَشَاهُ لِأَنّ وَزْنَهُ فَعَلَ وَفِيهِ أَنّ الْبَغْلَةَ حَضَجَتْ بِهِ إلَى الْأَرْضِ حِينَ أَخَذَ الْحَفْنَةَ ثُمّ قَامَتْ بِهِ وَفَرّوا حَضَجَتْ أَيْ ضَرَبَتْ بِنَفْسِهَا إلَى الْأَرْضِ وَأَلْصَقَتْ بَطْنَهَا بِالتّرَابِ وَمِنْهُ الْحِضَاجُ وَهُوَ زِقّ مَمْلُوءٌ قَدْ أُسْنِدَ إلَى شَيْءٍ وَأَمِيلُ إلَيْهِ وَالْبَغْلَةُ الّتِي كَانَ عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ هِيَ الّتِي تُسَمّى الْبَيْضَاءَ وَهِيَ الّتِي أَهْدَاهَا إلَيْهِ فَرْوَةُ بْنُ نُفَاثَةَ وَقَدْ تَقَدّمَ ذِكْرُ الْأُخْرَى ، وَاسْمُهَا : دُلْدُلُ وَذِكْرُ مَنْ أَهْدَاهَا إلَيْهِ .
نِدَاءُ أَصْحَابِ الشّجَرَةِ
وَذَكَرَ نِدَاءَ الْعَبّاسِ يَا مَعْشَرَ أَصْحَابِ السّمُرَةِ وَكَانَ الْعَبّاسُ صِيّتَا جَهِيرًا . [ ص 229 ] بَيْعَةِ الرّضْوَانِ الّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَ الشّجَرَةِ ، وَكَانَتْ الشّجَرَةُ سَمُرَةً .

سَبَايَا حُنَيْنٍ يُجْمَعُونَ
[ ص 229 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَبَايَا حُنَيْنٍ وَأَمْوَالُهَا وَكَانَ عَلَى الْمَغَانِمِ مَسْعُودُ بْنُ عَمْرٍو الْغِفَارِيّ ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَسَلّمَ بِالسّبَايَا وَالْأَمْوَالِ إلَى الْجِعِرّانَةِ ، فَحُبِسَتْ بِهَا .

شِعْرُ بُجَيْرٍ يَوْمَ حُنَيْنٍ
وَقَالَ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ :
لَوْلَا الْإِلَهُ وَعَبْدُهُ وَلّيْتُمْ ... حِينَ اسْتَخَفّ الرّعْبُ كُلّ جَبَانٍ
بِالْجِزْعِ يَوْمَ حَبَا لَنَا أَقْرَانُنَا ... وَسَوَابِحٌ يَكْبُونَ لِلْأَذْقَانِ
مِنْ بَيْنِ سَاعٍ ثَوْبُهُ فِي كَفّهِ ... وَمُقَطّرٍ بِسَنَابِكِ وَلِبَانِ
وَاَللّهُ أَهْلَكَهُمْ وَفَرّقَ جَمْعَهُمْ ... وَأَذَلّهُمْ بِعِبَادَةِ الشّيْطَانِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيَرْوِي فِيهَا بَعْضُ الرّوَاةِ
إذْ قَامَ عَمّ نَبِيّكُمْ وَوَلِيّهُ ... يَدْعُونَ يَا لَكَتِيبَةِ الْإِيمَانِ
أَيْنَ الّذِينَ هُمْ أَجَابُوا رَبّهُمْ ... يَوْمَ الْعَرِيضِ وَبَيْعَةِ الرّضْوَانِ

شِعْرٌ لِعَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ :
إنّي وَالسّوَابِحُ يَوْمَ جَمْعٍ ... وَمَا يَتْلُو الرّسُولُ مِنْ الْكِتَابِ
لَقَدْ أَحْبَبْت مَا لَقِيَتْ ثَقِيفٌ ... بِجَنْبِ الشّعْبِ أَمْسِ مِنْ الْعَذَابِ
هُمْ رَأْسُ الْعَدُوّ مِنْ أَهْل نَجْدٍ ... فَقَتْلُهُمْ أَلَذّ مِنْ الشّرَابِ
هَزَمْنَا الْجَمْعَ جَمْعَ بَنِي قَسِيّ ... وَحَكّتْ بَرْكَهَا بِبَنِي رِئَابِ
وَصِرْمًا مِنْ هِلَالٍ غَادَرَتْهُمْ ... بِأَوْطَاسٍ تُعَفّرُ بِالتّرَابِ
وَلَوْ لَاقَيْنَ جَمْعَ بَنِي كِلَابٍ ... لَقَامَ نِسَاؤُهُمْ وَالنّقْعُ كَابِي
رَكَضْنَا الْخَيْلَ فِيهِمْ بَيْنَ بُسّ ... إلَى الْأَوْرَالِ تَنْحِطُ بِالنّهَابِ
[ ص 230 ] ... كَتِيبَتُهُ تَعَرّضُ لِلضّرَابِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْلُهُ " تُعَفّرُ بِالتّرَابِ " : عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ .
ابْنُ عَفِيفٍ يَرُدّ عَلَى ابْنِ مِرْدَاسٍ
فَأَجَابَهُ عَطِيّةُ بْنُ عَفِيفٍ النّصْرِيّ ، فِيمَا حَدّثَنَا ابْنُ هِشَامٍ ، فَقَالَ
أَفَاخِرَةٌ رِفَاعَةُ فِي حُنَيْنٍ ... وَعَبّاسُ ابْنُ رَاضِعَةِ اللّجَابِ
فَإِنّك وَالْفِجَارَ كَذَاتِ مِرْطٍ ... لِرَبّتِهَا وَتَرْفُلُ فِي الْإِهَابِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : قَالَ عَطِيّةُ بْنُ عَفِيفٍ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ لَمّا أَكْثَرَ عَبّاسٌ عَلَى هَوَازِنَ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ وَرِفَاعَةُ مِنْ جُهَيْنَةَ .

شِعْرٌ آخَرُ لِعَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا [ ص 231 ]
يَا خَاتَمَ النّبَاءِ إنّك مُرْسَلٌ ... بِالْحَقّ كُلّ هُدَى السّبِيلِ هُدَاكَا
إنّ الْإِلَهَ بَنَى عَلَيْك مَحَبّةً ... فِي خَلْقِهِ وَمُحَمّدًا سَمّاكَا
ثُمّ الّذِينَ وَفَوْا بِمَا عَاهَدْتهمْ ... جُنْدٌ بَعَثْت عَلَيْهِمْ الضّحّاكَا
رَجُلًا بِهِ ذَرَبُ السّلَاحِ كَأَنّهُ ... لَمّا تَكَنّفَهُ الْعَدُوّ يَرَاكَا
يَغْشَى ذَوِي النّسَبِ الْقَرِيبِ وَإِنّمَا ... يَبْغِي رِضَا الرّحْمَنِ ثُمّ رِضَاكَا
أُنْبِيكَ أَنّي قَدْ رَأَيْت مَكَرّهُ ... تَحْتَ الْعَجَاجَةِ يَدْمَغُ الْإِشْرَاكَا
طَوْرًا يُعَانِقُ بِالْيَدَيْنِ وَتَارَةً ... يَفْرِي الْجَمَاجِمَ صَارِمًا بَتّاكًا
يَغْشَى بِهِ هَامَ الْكُمَاةِ وَلَوْ تَرَى ... مِنْهُ الّذِي عَايَنْت كَانَ شَفَاكَا
وَبَنُو سُلَيْمٍ مُعْنِقُونَ أَمَامَهُ ... ضَرْبًا وَطَعْنًا فِي الْعَدُوّ دِرَاكًا
يَمْشُونَ تَحْتَ لِوَائِهِ وَكَأَنّهُمْ ... أُسْدُ الْعَرِينِ أَرَدْنَ ثَمّ عِرَاكَا
مَا يَرْتَجُونَ مِنْ الْقَرِيبِ قَرَابَةً ... إلّا لِطَاعَةِ رَبّهِمْ وَهَوَاكَا
هَذِي مَشَاهِدُنَا الّتِي كَانَتْ لَنَا ... مَعْرُوفَةً وَوَلِيّنَا مَوْلَاكَا
Sالضّحّاكُ بْنُ سُفْيَانَ
فَصْلٌ وَذَكَرَ [ ص 230 ] الضّحّاكَ بْنَ سُفْيَانَ الْكِلَابِيّ ، وَهُوَ الضّحّاكُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عَوْفِ بْنِ كَعْبِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ كِلَابٍ الْكِلَائِيّ يُكَنّى أَبَا سَعِيدٍ وَكَانَ يَقُومُ عَلَى رَأْسِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مُتَوَشّحًا بِالسّيْفِ وَكَانَ يُعَدّ وَحْدَهُ بِمِائَةِ فَارِسٍ ، وَكَانَتْ بَنُو سُلَيْمٍ يَوْمَ حُنَيْنٍ تِسْعَمِائَةٍ فَأَمّرَهُ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَخْبَرَهُ أَنّهُ قَدْ تَمّمَهُمْ بِهِ أَلْفًا ، وَإِيّاهُ أَرَادَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ بِقَوْلِهِ جُنْدٌ بَعَثْت عَلَيْهِمْ الضّحّاكَا [ ص 231 ] الضّحّاكُ بْنُ سُفْيَانَ هَذَا بِالْكِلَابِيّ إنّمَا هُوَ الضّحّاكُ بْنُ سُفْيَانَ السّلَمِيّ . وَذَكَرَ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ الْبَكّائِيّ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ نَسَبَهُ مَرْفُوعًا إلَى بُهْثَةَ بْنِ سُلَيْمٍ وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو عُمَرَ فِي الصّحَابَةِ إلّا الْأَوّلُ وَهُوَ الْكِلَابِيّ فَاَللّهُ أَعْلَمُ .

وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا [ ص 232 ]
إمّا تَرَى يَا أُمّ فَرْوَةَ خَيْلُنَا ... مِنْهَا مُعَطّلَةً نُقَادُ وَظُلّعُ
أَوْهَى مُقَارَعَةُ الْأَعَادِي دَمّهَا ... فِيهَا نَوَافِذُ مِنْ جِرَاحٍ تَنْبُعُ
فَلَرُبّ قَائِلَةٍ كَفَاهَا وَقْعُنَا ... أَزْمَ الْحُرُوبِ فَسِرْبُهَا لَا يُفْزَعُ
لَا وَفْدَ كَالْوَفْدِ الْأُلَى عَقَدُوا لَنَا ... سَبَبًا بِحَبْلِ مُحَمّدٍ لَا يُقْطَعُ
وَفْدُ أَبُو قُطْنٍ حُزَابَةُ مِنْهُمْ ... وَأَبُو الْغُيُوثِ وَوَاسِعٌ وَالْمِقْنَعُ
وَالْقَائِدُ الْمِئَةَ الّتِي وَفّى بِهَا ... تِسْعَ الْمِئِينَ فَتَمّ أَلْفٌ أَقْرَعُ
جَمَعَتْ بَنُو عَوْفٍ وَرَهْطُ مُخَاشِنٍ ... سِتّا وَأَحْلَبُ مِنْ خِفَافٍ أَرْبَعُ
فَهُنَاكَ إذْ نُصِرَ النّبِيّ بِأَلْفِنَا ... عَقَدَ النّبِيّ لَنَا لِوَاءً يَلْمَعُ
فُزْنَا بِرَايَتِهِ وَأَوْرَثَ عِقْدُهُ ... مَجْدُ الْحَيَاةِ وَسُؤْدُدًا لَا يُنْزَعُ
وَغَدَاةَ نَحْنُ مَعَ النّبِيّ جُنَاحُهُ ... بِبِطَاحِ مَكّةَ وَالْقَنَا يَتَهَزّعُ
كَانَتْ إجَابَتُنَا لِدَاعِي رَبّنَا ... بِالْحَقّ مِنّا حَاسِرٌ وَمُقَنّعُ
فِي كُلّ سَابِغَةٍ تَخَيّرَ سَرْدَهَا ... دَاوُدُ إذْ نَسَجَ الْحَدِيدَ وَتُبّعُ
وَلَنَا عَلَى بِئْرَيْ حُنَيْنٍ مَوْكِبٌ ... دَمَغَ النّفَاقَ وَهَضْبَةٌ مَا تُقْلَعُ
نُصِرَ النّبِيّ بِنَا وَكُنّا مَعْشَرًا ... فِي كُلّ نَائِبَةٍ نَضُرّ وَنَنْفَعُ
ذُدْنَا غَدَاتَئِذٍ هَوَازِنَ بِالْقَنَا ... وَالْخَيْلُ يَغْمُرُهَا عَجَاجٌ يَسْطَعُ
إذْ خَافَ حَدّهُمْ النّبِيّ وَأَسْنَدُوا ... جَمْعًا تَكَادُ الشّمْسُ مِنْهُ تَخْشَعُ
تُدْعَى بَنُو جُشَمٍ وَتُدْعَى وَسْطَهُ ... أَفْنَاءَ نَصْرٍ وَالْأَسِنّةُ شُرّعُ
حَتّى إذَا قَالَ الرّسُولُ مُحَمّدٌ ... أَبَنِي سُلَيْمٍ قَدْ وَفَيْتُمْ فَارْفَعُوا
رُحْنَا وَلَوْلَا نَحْنُ أَجْحَفَ بَأْسُهُمْ ... بِالْمُؤْمِنِينَ وَأَحْرَزُوا مَا جَمّعُوا

وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ
[ ص 232 ] [ ص 233 ] [ ص 234 ]
عَفَا مِجْدَلٌ مِنْ أَهْلِهِ فَمُتَالِعُ ... فَمِطْلَا أَرِيكٍ قَدْ خَلَا فَالْمَصَانِعُ
دِيَارٌ لَنَا يَا جُمْلُ إذْ جُلّ عَيْشِنَا ... رَخِيّ وَصَرْفُ الدّارِ لِلْحَيّ جَامِعُ
حُبَيّبَهٌ أَلَوَتْ بِهَا غُرْبَةُ النّوَى ... لِبَيْنٍ فَهَلْ مَاضٍ مِنْ الْعَيْشِ رَاجِعُ
فَإِنّ تَبْتَغِي الْكُفّارُ غَيْرَ مَلُومَةٍ ... فَإِنّي وَزِيرٌ لِلنّبِيّ وَتَابِعُ
دَعَانَا إلَيْهِمْ خَيْرُ وَفْدٍ عَلِمَتْهُمْ ... خُزَيْمَةُ وَالْمَرّارُ مِنْهُمْ وَوَاسِعُ
فَجِئْنَا بِأَلْفٍ مِنْ سُلَيْمٍ عَلَيْهِمْ ... لَبُوسٌ لَهُمْ مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ رَائِعُ
نُبَايِعُهُ بِالْأَخْشَبَيْنِ وَإِنّمَا ... يَدُ اللّهِ الْأَخْشَبَيْنِ نُبَايِعُ
فَجُسْنَا مَعَ الْمَهْدِيّ مَكّةَ عَنْوَةً ... بِأَسْيَافِنَا وَالنّقْعُ كَابٍ وَسَاطِعُ
عَدَنِيّةٌ وَالْخَيْلُ يَغْشَى مُتُونَهَا ... حَمِيمٌ وَآنٍ مِنْ دَمِ الْجَوْفِ نَاقِعُ
وَيَوْمُ حُنَيْنٍ حِينَ سَارَتْ هَوَازِنُ ... إلَيْنَا وَضَاقَتْ بِالنّفُوسِ الْأَضَالِعُ
صَبَرْنَا مَعَ الضّحّاكِ لَا يَسْتَفِزّنَا ... قِرَاعُ الْأَعَادِي مِنْهُمْ وَالْوَقَائِعُ
أَمَامَ رَسُولِ اللّهِ يَخْفُقُ فَوْقَنَا ... لِوَاءٌ كَخُذْرُوفِ السّحَابَةِ لَامِعُ
عَشِيّةَ ضَحّاكُ بْنُ سُفْيَانَ مُعْتَصٍ ... بِسَيْفِ رَسُولِ اللّهِ وَالْمَوْتُ كَانِعُ
نَذُودُ أَخَانَا عَنْ أَخِينَا وَلَوْ نَرَى ... مَصَالًا لَكُنّا الْأَقْرَبِينَ نُتَابِعُ
وَلَكِنّ دِينَ اللّهِ دِينُ مُحَمّدٍ ... رَضِينَا بِهِ فِيهِ الْهُدَى وَالشّرَائِعُ
أَقَامَ بِهِ بَعْدَ الضّلَالَةِ أَمْرَنَا ... وَلَيْسَ لِأَمْرِ حَمّهُ اللّهُ دَافِعُ
Sقَصِيدَةُ ابْنِ مِرْدَاسٍ الْعَيْنِيّةُ
وَذَكَرَ شِعْرَ عَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ الّذِي أَوّلُهُ عَفَا مِجْدَلٌ مِنْ أَهْلِهِ فَمُتَالِعُ الْمِجْدَلُ الْقَصْرُ وَهُوَ فِي هَذَا الْبَيْتِ اسْمُ عَلَمٍ لِكَانَ . وَفِيهِ فَمِطْلَا أَرِيكٍ . الْمِطْلُ يُمَدّ وَيُقْصَرُ وَهِيَ أَرْضٌ تَعْقِلُ الرّجُلَ عَنْ الْمَشْيِ فَقِيلَ إنّهَا مِفْعَالٌ مِنْ الطّلْيِ وَهُوَ الْجَرْيُ يُطْلَى ، أَيْ تُعْقَلُ رِجْلُهُ وَقِيلَ إنّ الْمِطْلَاءَ فِعْلَاءُ مِنْ مَطَلْت إذَا مَدَدْت ، وَجَمْعُهُ مِطَالٌ فِي الْأَمَالِي :
أَمَا تَسْأَلَانِ اللّهَ أَنّ يَسْقِيَ الْحِمَى ... أَلَا فَسَقَى اللّهُ الْحِمَى فَالْمَطَالِيَا
[ ص 233 ]
تَذُودُ أَخَانَا عَنْ أَخِينَا ، وَلَوْ نَرَى ... مَصَالًا لَكُنّا الْأَقْرَبِينَ نُتَابِعُ
يُرِيدُ أَنّهُ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ وَسُلَيْمٌ مِنْ قَيْسٍ ، كَمَا أَنّ هَوَازِنَ مِنْ قَيْسٍ ، كِلَاهُمَا ابْنُ مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصَفَةَ بْنِ قَيْسٍ ، فَمَعْنَى الْبَيْتِ نُقَاتِلُ إخْوَتَنَا ، وَنَذُودُهُمْ عَنْ إخْوَتِنَا مِنْ سُلَيْمٍ وَلَوْ نَرَى فِي حُكْمِ الدّينِ مَصَالًا مُفْعِلًا مِنْ الصّوْلَةِ لَكُنّا مَعَ الْأَقْرَبِينَ هَوَازِنُ :
وَلَكِنّ دِينَ اللّهِ دِينُ مُحَمّدٍ ... رَضِينَا بِهِ فِيهِ الْهُدَى وَالشّرَائِعُ
وَفِيهِ قَوْلُهُ
دَعَانَا إلَيْهِ خَيْرُ وَفْدٍ عَلِمَتْهُمْ ... خُزَيْمَةُ وَالْمَدّارُ مِنْهُمْ وَوَاسِعُ
هَؤُلَاءِ وَفْدُ بَنِي سُلَيْمٍ وَفَدُوا عَلَى النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَأَسْلَمُوا ، ثُمّ دَعَوْا قَوْمَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَذَكَرَ فِيهِمْ الْمَدّارَ السّلَمِيّ وَوَاسِعًا السّلَمِيّ وَخُزَيْمَةَ ، وَهُوَ خُزَيْمَةُ بْنُ جُزَيّ أَخُو حِبّانَ بْنِ جُزَيّ وَكَانَ الدّارَقُطْنِيّ يَقُولُ فِيهِ جِزَيّ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَالزّايِ . وَفِيهَا : يَدَ اللّهِ بَيْنَ الْأَخْشَبَيْنِ نُبَايِعُ [ ص 234 ] { إِنّ الّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنّمَا يُبَايِعُونَ اللّهَ يَدُ اللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } [ الْفَتْحُ 10 ] أَقَامَ يَدَ رَسُول اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَقَامَ يَدِهِ كَمَا قَالَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ : " هُوَ يَمِينُ اللّهِ فِي الْأَرْضِ " ، أَقَامَهُ فِي الْمُصَافَحَةِ وَالتّقْبِيلِ مَقَامَ يَمِينِ الْمَلِكِ الّذِي يُصَافِحُ بِهَا ، لِأَنّ الْحَاجّ وَافِدٌ عَلَى الْمَلِكِ الْأَعْلَى وَزَائِرٌ بَيْتَهُ فَجَعَلَ تَقْبِيلَهُ الْحَجَرَ مُصَافَحَةً لَهُ وَكَمَا جُعِلَتْ يَمِينُ السّائِلِ الْآخِذِ لِلصّدَقَةِ الْمُتَقَبّلَةِ يَمِينَ الرّحْمَنِ سُبْحَانَهُ تَرْغِيبًا فِي الصّدَقَةِ وَتَبْشِيرًا بِقَبُولِهَا ، وَتَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ مَنْ أُعْطِيَتْ لَهُ فَإِنّمَا أَعْطَاهَا الْمُتَصَدّقُ لِلّهِ سُبْحَانَهُ وَإِيّاهُ سُبْحَانَهُ أَفْرَضَ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَيَأْخُذُ الصّدَقَاتِ } [ التّوْبَةُ 104 ] وَقَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " إنّمَا يَضَعُهَا فِي كَفّ الرّحْمَنِ يُرَبّيهَا لَه " الْحَدِيثُ . شِعْرُ عَبّاسٍ الْكَافِي : وَقَوْلُ عَبّاسٍ فِي الشّعْرِ الْكَافِي :
إنّ الْإِلَهَ بَنَى عَلَيْك مَحَبّةً ... فِي خَلْقِهِ وَمُحَمّدًا سَمّاكَا
مَعْنًى دَقِيقٌ وَغَرَضٌ نَبِيلٌ وَتَفَطّنٌ لِحِكْمَةٍ نَبَوِيّةٍ قَدْ بَيّنّاهَا فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ فِي تَسْمِيَةِ اللّهِ تَعَالَى لِنَبِيّهِ مُحَمّدًا وَأَحْمَدَ وَأَنّهُ اسْمٌ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ قَوْمِهِ قَبْلَهُ وَأَنّ أُمّهُ أُمِرَتْ فِي الْمَنَامِ أَنْ تُسَمّيَهُ مُحَمّدًا ، فَوَافَقَ مَعْنَى الِاسْمِ صِفَةَ الْمُسَمّى بِهِ مُوَافَقَةً تَامّةً قَدْ بَيّنّا شَرْحَهَا هُنَالِكَ وَلِذَلِك قَالَ بَنَى عَلَيْك مَحَبّةً لِأَنّ الْبِنَاءَ تَرْكِيبٌ عَلَى أُسّ فَأَسّسَ لَهُ سُبْحَانَهُ مُقَدّمَاتٍ لِنُبُوّتِهِ مِنْهَا : تَسْمِيَتُهُ بِمُحَمّدٍ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ ثُمّ لَمْ يَزَلْ يُدْرِجُهُ فِي مَحَامِدِ الْأَخْلَاقِ وَمَا تُحِبّهُ الْقُلُوبُ مِنْ الشّيَمِ حَتّى بَلَغَ إلَى أَعْلَى الْمَحَامِدِ مَرْتَبَةً وَتَكَامَلَتْ لَهُ الْمَحَبّةُ مِنْ الْخَالِقِ وَالْخَلِيقَةِ ، وَظَهَرَ مَعْنَى اسْمِهِ فِيهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَهُوَ اللّبِنَةُ الّتِي اسْتَتَمّ بِهَا الْبِنَاءُ كَمَا أَخْبَرَ عَلَيْهِ السّلَامُ وَهَذَا كُلّهُ مَعْنَى بَيْتِ عَبّاسٍ حَيْثُ قَالَ إنّ الْإِلَهَ بَنَى عَلَيْك ، الْبَيْتُ . [ ص 235 ] الدّامّاءُ وَالدّأْمَاءُ وَقَوْلُهُ فِي الْعَيْنِيّةِ الْأُخْرَى يَصِفُ الْخَيْلَ أَوْهَى مُقَارَعَةُ الْأَعَادِي دَمّهَا يُرِيدُ شَحْمَهَا ، يُقَالُ أَدْمِمْ قِدْرَك بِوَدَكٍ وَدَمَمْت الشّيْءَ طَلَيْته ، وَمِنْهُ الدّامّاءُ أَحَدُ جُحْرَةِ الْيَرْبُوعِ لِأَنّهُ يَدُمّ بَابَهُ بِقِشْرٍ رَقِيقٍ مِنْ الْأَرْضِ فَلَا يَرَاهُ الصّائِدُ فَإِذَا طَلَبَ مِنْ الْقَاصِعَاءِ أَوْ الرّاهِطَاءِ أَوْ النّافِقَاءِ أَوْ الْعَانُقَاءِ وَهِيَ الْأَبْوَابُ الْأُخَرُ نَطَحَ بِرَأْسِهِ بَابَ الدّامّاءِ فَخَرَقَهُ وَأَمّا الدّأْمَاءُ بِالتّخْفِيفِ فَهُوَ الْبَحْرُ وَهُوَ فَعْلَاءُ لِأَنّهُ يُهْمَزُ فَيُقَالُ دَأْمَاءُ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ .

[ ص 235 ] وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ [ ص 236 ] [ ص 237 ]
تَقَطّعَ بَاقِي وَصْلِ أُمّ مُؤَمّلٍ ... بِعَاقِبَةٍ وَاسْتَبْدَلَتْ نِيّةً خُلْفَا
وَقَدْ حَلَفَتْ بِاَللّهِ لَا تَقْطَعُ الْقُوَى ... فَمَا صَدَقَتْ فِيهِ وَلَا بَرّتْ الْحَلْفَا
خُفَافِيّةٌ بَطْنُ الْعَقِيقِ مَصِيفُهَا ... وَتَحْتَلّ فِي الْبَادِينَ وَجْرَةَ فَالْعُرْفَا
فَإِنْ تَتْبَعْ الْكُفّارَ أُمّ مُؤَمّلٍ ... فَقَدْ زَوّدَتْ قَلْبِي عَلَى نَأْيِهَا شَغَفَا
وَسَوْفَ يُنْبِيهَا الْخَبِيرُ بِأَنّنَا ... أَبَيْنَا وَلَمْ نَطْلُبْ سِوَى رَبّنَا حِلْفَا
وَأَنّا مَعَ الْهَادِي النّبِيّ مُحَمّدٍ ... وَفِينَا وَلَمْ يَسْتَوْفِهَا مَعْشَرٌ أَلْفَا
بِفِتْيَانِ صِدْقٍ مِنْ سُلَيْمٍ أَعِزّةٍ ... أَطَاعُوا فَمَا يَعْصُونَ مِنْ أَمْرِهِ حَرْفَا
خِفَافٌ وَذَكْوَانُ وَعَوْفٌ تَخَالُهُمْ ... مَصَاعِبُ زَافَتْ فِي طَرُوقَتِهَا كُلْفَا
كَأَنّ النّسِيجَ الشّهْبَ وَالْبِيضَ مُلْبَسٌ ... أَسُودًا تَلَاقَتْ فِي مَرَاصِدِهَا غُضْفَا
بِنَا عَزّ دِينُ اللّهِ غَيْرَ تَنَحّلٍ ... وَزُدْنَا عَلَى الْحَيّ الّذِي مَعَهُ ضِعْفَا
بِمَكّةَ إذْ جِئْنَا كَأَنّ لِوَاءَنَا ... عُقَابٌ أَرَادَتْ بَعْدَ تَحْلِيقِهَا خَطْفَا
عَلَى شُخّصِ الْأَبْصَارِ تَحْسَبُ بَيْنَهَا ... إذَا هِيَ جَالَتْ فِي مَرَاوِدِهَا عَزْفَا
غَدَاةَ وَطِئْنَا الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ نَجِدْ ... لِأَمْرِ رَسُولِ اللّهِ عَدْلًا وَلَا صَرْفَا
بِمُعْتَرَكٍ لَا يَسْمَعُ الْقَوْمُ وَسْطَهُ ... لَنَا زَجْمَةً إلّا التّذَامُرَ وَالنّقْفَا
بِبِيضٍ نُطِيرُ الْهَامَ عَنْ مُسْتَقَرّهَا ... وَنَقْطِفُ أَعْنَاقَ الْكُمَاةِ بِهَا قَطْفَا
فَكَائِن تَرَكْنَا مِنْ قَتِيلٍ مُلَحّبٍ ... وَأَرْمَلَةٍ تَدْعُو عَلَى بَعْلِهَا لَهْفَا
رِضَا اللّهِ نَنْوِي لَا رِضَا النّاسِ نَبْتَغِي ... وَلِلّهِ مَا يَبْدُو جَمِيعًا وَمَا يَخْفَى
Sشِعْرُ عَبّاسٍ الْفَاوِيّ وَذَكَرَ شِعْرَ عَبّاسٍ الْفَاوِيّ وَفِيهِ بِعَاقِبَةٍ وَاسْتَبْدَلَتْ نِيّةً خُلْفَا النّيّةُ مِنْ النّوَى وَهُوَ الْبُعْدُ . وَخُلْفَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ أَيْ فَعَلْت ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ الْخُلْفِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مُؤَكّدًا لِلِاسْتِبْدَالِ لِأَنّ اسْتِبْدَالَهَا بِهِ خُلْفٌ مِنْهَا لِمَا وَعَدَتْهُ بِهِ وَيُقَوّي هَذَا الْبَيْتَ الْبَيْتُ الّذِي بَعْدَهُ وَقَدْ حَلَفَتْ بِاَللّهِ لَا تَقْطَعُ الْقُوَى يَعْنِي : قُوَى الْحَبْلِ وَالْحَبْلُ هُنَا : هُوَ الْعَهْدُ ثُمّ قَالَ فَمَا صَدَقَتْ فِيهِ وَلَا بَرّتْ الْحَلْفَا وَهَذَا هُوَ الْخُلْفُ الْمُتَقَدّمُ ذِكْرُهُ . [ ص 236 ] وَفِينَا وَلَمْ يَسْتَوْفِهَا مَعْشَرٌ أَلْفَا أَيْ وَفِينَا أَلْفًا وَلَمْ يَسْتَوْفِهَا غَيْرُنَا ، أَيْ لَمْ يَسْتَوْفِ هَذِهِ الْعُدّةَ غَيْرُنَا مِنْ الْقَبَائِلِ . وَقَوْلُهُ إذَا هِيَ جَالَتْ فِي مَرَاوِدِهَا عَزْفَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ مِرْوَدٍ وَهُوَ الْوَتَدُ كَمَا قَالَ الْآخَرُ يَصِفُ طَعْنَةً
وَمُسْتَنّةٌ كَاسْتِنَانِ الْخَرُو ... فِ قَدْ قَطَعَ الْحَبْلَ بِالْمِرْوَدِ
وَالْخَرُوفُ هَاهُنَا فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ الْمُهْرُ وَقَالَ آخَرُونَ وَالْفَرَسُ يُسَمّى خَرُوفًا ، وَمَعْنَاهُ عِنْدِي فِي هَذَا الْبَيْتِ أَنّهَا صِفَةٌ مِنْ خَرَفْت الثّمَرَةَ إذَا جَنَيْتهَا فَالْفَرَسُ خَرُوفٌ لِلشّجَرِ وَالنّبَاتِ لَا نَقُولُ إنّ الْفَرَسَ يُسَمّى خَرُوفًا فِي عُرْفِ اللّغَةِ وَلَكِنْ خَرُوفٌ فِي مَعْنَى أَكُولٍ لِأَنّهُ يَخْرُفُ أَيْ يَأْكُلُ فَهُوَ صِفَةٌ لِكُلّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ مِنْ الدّوَابّ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَرَاوِدِهَا جَمْعُ مُرَادٍ وَهُوَ حَيْثُ تَرُودُ الْخَيْلِ تَذْهَبُ وَتَجِيءُ فَمُرَادُ وَمَرَاوِدُ مِثْلُ مَقَامٍ وَمَقَاوِمَ وَمَنَارٍ وَمَنَاوِرَ . [ ص 237 ] لَنَا زَجْمَةً إلّا التّذَامُرَ وَالنّقْفَا يُقَالُ مَا زَجَمَ زَجْمَةً أَيْ مَا نَبَسَ بِكَلِمَةٍ وَقَوْسٌ زَجُومٌ أَيْ ضَعِيفَةُ الْإِرْنَانِ . وَقَوْلُهُ إلّا التّذَامُرَ أَيْ يَذْمُرُ بَعْضُنَا بَعْضًا ، وَيُحَرّضُهُ عَلَى الْقَتْلِ وَالنّقْفُ كَسْرُ الرّءُوسِ وَنَاقِفُ الْحَنْظَلَةِ كَاسِرُهَا وَمُسْتَخْرِجُ مَا فِيهَا .
النّسَبُ إلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ وَتَصْغِيرُهَا
قَالَ الْمُؤَلّفُ وَإِنّمَا قُلْنَا فِي هَذِهِ الْقَصِيدَةِ وَفِي الّتِي بَعْدَهَا الْغَاوِيَةُ وَالرّاوِيَةُ لِأَنّ النّسَبَ إلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ الّتِي أَوَاخِرُهَا أَلِفٌ هَكَذَا ، هُوَ بِالْوَاوِ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَغَيْرُهُ وَفِي التّصْغِيرِ تُقْلَبُ أَلِفُهَا يَاءً تَقُولُ فِي تَصْغِيرِ بَاءٍ بُيَيّةٌ وَخَاءٍ خُيَيّةٌ وَمَا كَانَ آخِرُهُ حَرْفًا سَالِمًا مِنْ هَذِهِ الْحُرُوفِ قُلِبَتْ أَلِفُهُ وَاوًا فِي التّصْغِيرِ فَتَقُولُ فِي الذّالِ ذُوَيْلَةُ وَفِي الضّادِ ضُوَيْدَةُ وَكَذَلِكَ قَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ وَقِيَاسُ الْوَاوِ فِي النّحْوِ أَنْ تُصَغّرَ أُوَيّةٌ بِهَمْزَةٍ [ فِي ] أَوّلِهَا .

وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاس ٍ أَيْضًا [ ص 238 ] [ ص 239 ]
مَا بَالُ عَيْنِك فِيهَا عَائِرٌ سَهَرٌ ... مِثْلُ الْحَمَاطَةِ أَغْضَى فَوْقَهَا الشّفُرُ
عَيْنٌ تَأَوّبَهَا مِنْ شَجْوِهَا أَرَقٌ ... فَالْمَاءُ يَغْمُرُهَا طَوْرًا وَيَنْحَدِرُ
كَأَنّهُ نَظْمُ دُرّ عِنْدَ نَاظِمَةٍ ... تَقَطّعَ السّلْكُ مِنْهُ فَهُوَ مُنْتَثِرُ
يَا بُعْدَ مَنْزِلِ مَنْ تَرْجُو مَوَدّتَهُ ... وَمَنْ أَتَى دُونَهُ الصّمّانُ فَالْحُفَرُ
دَعْ مَا تَقَدّمَ مِنْ عَهْدِ الشّبَابِ فَقَدْ ... وَلّى الشّبَابُ وَزَارَ الشّيْبُ وَالزّعَرُ
وَاذْكُرْ بَلَاءَ سُلَيْمٍ فِي مَوَاطِنِهَا ... وَفِي سُلَيْمٍ لِأَهْلِ الْفَخْرِ مُفْتَخَرُ
قَوْمٌ هُمْ نَصَرُوا الرّحْمَنَ وَاتّبَعُوا ... دِينَ الرّسُولِ وَأَمْرُ النّاسِ مُشْتَجَرُ
لَا يَغْرِسُونَ فَسِيلَ النّخْلِ وَسْطَهُمْ ... وَلَا تُخَاوِرُ فِي مَشْتَاهُمْ الْبَقَرُ
إلّا سَوَابِحَ كَالْعِقْبَانِ مَقْرَبَةً ... فِي دَارَةٍ حَوْلَهَا الْأَخْطَارُ وَالْعُكَرُ
تُدْعَى خِفَافٌ وَعَوْفٌ فِي جَوَانِبِهَا ... وَحَيّ ذَكْوَانَ لَا مَيْلُ وَلَا ضُجُرُ
الضّارِبُونَ جُنُودَ الشّرْكِ ضَاحِيَةً ... بِبَطْنِ مَكّةَ وَالْأَرْوَاحُ تَبْتَدِرُ
حَتّى دَفَعْنَا وَقَتْلَاهُمْ كَأَنّهُمْ ... نَخْلٌ بِطَاهِرَةِ الْبَطْحَاءِ مُنْقَعِرُ
وَنَحْنُ يَوْمَ حُنَيْنٍ كَانَ مَشْهَدُنَا ... لِلدّينِ عِزّا وَعِنْدَ اللّهِ مُدّخَرُ
إذْ نَرْكَبُ الْمَوْتَ مُخْضَرّا بَطَائِنُهُ ... وَالْخَيْلُ يَنْجَابُ عَنْهَا سَاطِعٌ كَدِرُ
تَحْتَ اللّوَاءِ مَعَ الضّحّاكِ يَقْدُمُنَا ... كَمَا مَشَى اللّيْثُ فِي غَابَاتِهِ الْخَدِرُ
فِي مَأْزِقٍ مِنْ مَجَرّ الْحَرْبِ كَلْكَلُهَا ... تَكَادُ تَأْفُلُ مِنْهُ الشّمْسُ وَالْقَمَرُ
وَقَدْ صَبَرْنَا بِأَوْطَاسٍ أَسِنّتَنَا ... لِلّهِ نَنْصُرُ مَنْ شِئْنَا وَنَنْتَصِرُ
حَتّى تَأَوّبَ أَقْوَامٌ مَنَازِلَهُمْ ... لَوْلَا الْمَلِيكُ وَلَوْلَا نَحْنُ مَا صَدَرُوا
فَمَا تَرَى مَعْشَرٌ قَلّوا وَلَا كَثُرُوا ... إلّا قَدْ اصْبَحَ مِنّا فِيهِمْ أَثَرُ
Sالْقَصِيدَةُ الرّاوِيَةُ
وَقَوْلُ عَبّاسٍ فِي الْقَصِيدَةِ الرّاوِيَةُ مِثْلُ الْحَمَاطَةِ أَغْضَى فَوْقَهَا الشّفُرُ الْحَمَاطَةُ مِنْ وَرَقِ الشّجَرِ مَا فِيهِ خُشُونَةٌ وَحُرُوشَةٌ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ الْحُمَاطُ وَرَقُ التّينِ الْجَبَلِيّ . وَقَالَ أَيْضًا فِي بَاب الْقَطَانِيّ الْحَمَاطُ تِبْنُ الذّرَةِ إذَا ذُرّيَتْ وَلَهُ أُكَالٌ فِي [ ص 238 ]
حَتّى شَئَاهَا كَلِيلٌ مُوهِمًا عَمَلُ ... بَاتَتْ طِرَابًا وَبَاتَ اللّيْلُ لَمْ يَنَمْ
شَئَاهَا : شَاقّهَا ، يُقَالُ شَاهَ وَشَاءَهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ أَيْ شَاقّهُ وَأَنْشَدَ وَلَقَدْ عَهِدْت تَشَاءُ بِالْأَظْعَانِ فَتَأَمّلْهُ فَإِنّهُ بَدِيعٌ مِنْ الْمَعَانِي . وَقَوْلُهُ الصّمّانُ وَالْحَفَرُ : هُمَا مَوْضِعَانِ وَإِلَيْهِ يُنْسَبُ أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيّ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ . وَالْعَكَرُ جَمْعُ عَكَرَةٍ وَهِيَ الْقِطْعَةُ الضّخْمَةُ مِنْ الْمَالِ . وَعَكَرَةُ اللّسَانِ أَيْضًا : أَصْلُهُ وَمَا غَلُظَ مِنْهُ وَعَكَدَتُهُ أَيْضًا بِالدّالِ .

وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا [ ص 240 ] [ ص 241 ]
يَا أَيّهَا الرّجُلُ الّذِي تَهْوِي بِهِ ... وَجْنَاةُ مُجْمَرَةُ الْمَنَاسِمِ عِرْمِسُ
إمّا أَتَيْت عَلَى النّبِيّ فَقُلْ لَهُ ... حَقّا عَلَيْك إذَا اطْمَأَنّ الْمَجْلِسُ
يَا خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطِيّ وَمَنْ مَشَى ... فَوْقَ التّرَابِ إذَا تُعَدّ الْأَنْفُسُ
إنّا وَفَيْنَا بِاَلّذِي عَاهَدْتنَا ... وَالْخَيْلُ تُقْدَعُ بِالْكُمَاةِ وَتُضْرَسُ
إذْ سَالَ مِنْ أَفْنَاءِ بُهْثَةَ كُلّهَا ... جَمْعٌ تَظِلّ بِهِ الْمَخَارِمُ تَرْجِسُ
حَتّى صَبَحْنَا أَهْلَ مَكّةَ فَيْلَقًا ... شَهْبَاءَ يَقْدُمُهَا الْهُمَامُ الْأَشْوَسُ
مِنْ كُلّ أَغْلَبَ مِنْ سُلَيْمٍ فَوْقَهُ ... بَيْضَاءَ مُحْكِمَةَ الدّخَالِ وَقَوْنَسُ
يَرْوِي الْقَنَاةَ إذَا تَجَاسَرَ فِي الْوَغَى ... وَتَخَالُهُ أَسَدًا إذَا مَا يَعْبِسُ
يَغْشَى الْكَتِيبَةَ مُعْلِمًا وَبِكَفّهِ ... عَضْبٌ يَقُدّ بِهِ وَلَدْنٌ مِدْعَسُ
وَعَلَى حُنَيْنٍ قَدْ وَفَى مِنْ جَمْعِنَا ... أَلْفٌ أُمِدّ بِهِ الرّسُولُ عَرَنْدَسُ
كَانُوا أَمَامَ الْمُؤْمِنِينَ دَرِيئَةً ... وَالشّمْسُ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهِمْ أَشْمَسُ
نَمْضِي وَيَحْرُسُنَا الْإِلَهُ بِحِفْظِهِ ... وَاَللّهُ لَيْسَ بِضَائِعٍ مَنْ يَحْرُسُ
وَلَقَدْ حُبِسْنَا بِالْمَنَاقِبِ مَحْبِسًا ... رَضِيَ الْإِلَهُ بِهِ فَنِعْمَ الْمَحْبِسُ
وَغَدَاةَ أَوْطَاسٍ شَدَدْنَا شَدّةً ... كَفَتْ الْعَدُوّ وَقِيلَ مِنْهَا يَا احْبِسُوا
تَدْعُو هَوَازِنَ بِالْإِخَاوَةِ بَيْنَنَا ... ثَدْيٌ تَمُدّ بِهِ هَوَازِنُ أَيْبَسُ
حَتّى تَرَكْنَا جَمْعَهُمْ وَكَأَنّهُ ... عِيرٌ تُعَاقِبُهُ السّبَاعُ مُفَرّسُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي خَلَفٌ الْأَحْمَرُ قَوْلَهُ " وَقِيلَ مِنْهَا يَا احْبِسُوا " .
S[ ص 239 ] قَصِيدَةُ عَبّاسٍ السّينِيّةُ وَقَوْلُهُ فِي السّينِيّةِ وَجْنَاءُ مُجْمَرَةُ الْمَنَاسِمِ عِرْمِسُ وَجْنَاءُ غَلِيظَةُ الْوَجَنَاتِ بَارِزَتُهَا ، وَذَلِكَ يَدُلّ عَلَى غُثُورِ عَيْنَيْهَا ، وَهُمْ يَصِفُونَ الْإِبِلَ بِغُئُورِ الْعَيْنَيْنِ عِنْدَ طُولِ السّفَارِ وَيُقَالُ هِيَ الْوَجْنَةُ فِي الْآدَمِيّينَ رَجُلٌ مُوجَنٌ وَامْرَأَةٌ مُوجَنَةٌ وَلَا يُقَالُ وَجْنَاءُ . قَالَهُ يَعْقُوبُ . وَمُجْمَرَةُ الْمَنَاسِمِ أَيْ نَكَبَتْ مَنَاسِمَهَا الْجِمَارُ وَهِيَ الْحِجَارَةُ وَالْعِرْمِسُ الصّخْرَةُ الصّلْبَةُ وَتُشَبّهُ بِهَا النّاقَةُ الْجَلْدَةُ وَقَدْ يُرِيدُ بِمُجْمَرَةٍ أَيْضًا أَنّ مَنَاسِمَهَا مُجْتَمِعَةٌ مُنْضَمّةٌ فَذَلِكَ أَقْوَى لَهَا ، وَقَدْ حُكِيَ أَجْمَرَتْ الْمَرْأَةُ شَعْرَهَا إذَا ظَفّرَتْهُ وَأَجْمَرَ الْأَمِيرُ الْجَيْشَ أَيْ حَبَسَهُ عَنْ الْقُفُولِ قَالَ الشّاعِرُ
مُعَاوِيَ إمّا أَنْ يُجَهّزَ أَهْلُنَا ... إلَيْنَا ، وَإِمّا أَنّ نَئُوبَ مُعَاوِيَا
أَأَجْمَرْتنَا إجْمَارَ كِسْرَى جُنُودَهُ ... وَمَنّيْتنَا حَتّى نَسِينَا الْأَمَانِيَا
[ ص 240 ] كَانُوا أَمَامَ الْمُؤْمِنِينَ دَرِيئَةً الدّرِيئَةُ الْحَلْقَةُ الّتِي يُتَعَلّمُ عَلَيْهَا الرّمْيُ أَيْ كَانُوا كَالدّرِيئَةِ لِلرّمَاحِ وَقَوْلُهُ وَالشّمْسُ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهِمْ أَشْمَسُ يُرِيدُ لَمَعَانَ الشّمْسِ فِي كُلّ بَيْضَةٍ مِنْ بَيْضَاتِ الْحَدِيدِ وَالسّيُوفِ كَأَنّهَا شَمْسٌ وَهُوَ مَعْنًى صَحِيحٌ وَتَشْبِيهٌ مَلِيحٌ . وَفِيهَا قَوْلُهُ وَالْخَيْلُ تَقْرَعُ بِالْكُمَاةِ وَتُضْرَسُ أَيْ تَضْرِبُ أَضْرَاسَهَا بِاللّجُمِ . تَقُولُ ضَرَسَتْهُ أَيْ ضَرَبَتْ أَضْرَاسَهُ كَمَا تَقُولُ رَأَسْته ، أَيْ أَصَبْت رَأْسَهُ . [ ص 241 ]

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا :
نَصَرْنَا رَسُولَ اللّهِ مِنْ غَضَبٍ لَهُ ... بِأَلْفِ كَمِيّ لَا تُعَدّ حَوَاسِرُهْ
حَمَلْنَا لَهُ فِي عَامِلِ الرّمْحِ رَايَةً ... يَذُودُ بِهَا فِي حَوْمَةِ الْمَوْتِ نَاصِرُهْ
وَنَحْنُ خَضَبْنَاهَا دَمًا فَهْوَ لَوْنُهَا ... غَدَاةَ حُنَيْنٍ يَوْمَ صَفْوَانَ شَاجِرُهْ
وَكُنّا عَلَى الْإِسْلَامِ مَيْمَنَةً لَهُ ... وَكَانَ لَنَا عَقْدُ اللّوَاءِ وَشَاهِرُهْ
وَكُنّا لَهُ دُونَ الْجُنُودِ بِطَانَةً ... يُشَاوِرُنَا فِي أَمْرِهِ وَنُشَاوِرُهْ
دَعَانَا فَسَمّانَا الشّعَارَ مُقَدّمًا ... وَكُنّا لَهُ عَوْنًا عَلَى مَنْ يُنَاكِرُهْ
جَزَى اللّهُ خَيْرًا مِنْ نَبِيّ مُحَمّدًا ... وَأَيّدَهُ بِالنّصْرِ وَاَللّهُ نَاصِرُهْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي مِنْ قَوْلِهِ " وَكُنّا عَلَى الْإِسْلَامِ " إلَى آخِرِهَا ، بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ وَلَمْ يَعْرِفْ الْبَيْتَ الّذِي أَوّلُهُ حَمَلْنَا لَهُ فِي عَامِلِ الرّمْحِ رَايَةً وَأَنْشَدَنِي بَعْدَ قَوْلِهِ
وَكَانَ لَنَا عَقْدُ اللّوَاءِ وَشَاهِرُهْ ... وَنَحْنُ خَضَبْنَاهُ دَمًا فَهْوَ لَوْنُهُ

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَيْضًا [ ص 242 ]
مَنْ مُبْلِغُ الْأَقْوَامِ أَنّ مُحَمّدًا ... رَسُولُ الْإِلَهِ رَاشِدٌ حَيْثُ يَمّمَا
دَعَا رَبّهُ وَاسْتَنْصَرَ اللّهَ وَحْدَهُ ... فَأَصْبَحَ قَدْ وَفّى إلَيْهِ وَأَنْعَمَا
سَرَيْنَا وَوَاعَدْنَا قُدَيْدًا مُحَمّدًا ... يَؤُمّ بِنَا أَمْرًا مِنْ اللّهِ مُحْكَمَا
تَمَارَوْا بِنَا فِي الْفَجْرِ حَتّى تَبَيّنُوا ... مَعَ الْفَجْرِ فِتْيَانًا وِغَابًا مُقَوّمَا
عَلَى الْخَيْلِ مَشْدُودًا عَلَيْنَا دُرُوعُنَا ... وَرَجْلًا كَدُفّاعِ الْأَتِيّ عَرَمْرَمَا
فَإِنّ سَرَاةَ الْحَيّ إنْ كُنْت سَائِلًا ... سُلَيْمٌ وَفِيهِمْ مِنْهُمْ مَنْ تَسَلّمَا
وَجُنْدٌ مِنْ الْأَنْصَارِ لَا يَخْذُلُونَهُ ... أَطَاعُوا فَمَا يَعْصُونَهُ مَا تَكَلّمَا
فَإِنْ تَكُ قَدْ أَمّرْت فِي الْقَوْمِ خَالِدًا ... وَقَدّمْته فَإِنّهُ قَدْ تَقَدّمَا
بِجُنْدٍ هَدَاهُ اللّهُ أَنْتَ أَمِيرُهُ ... تُصِيبُ بِهِ فِي الْحَقّ مَنْ كَانَ أَظْلَمَا
حَلَفْت يَمِينًا بَرّةً لِمُحَمّدٍ ... فَأَكْمَلْتهَا أَلْفًا مِنْ الْخَيْلِ مُلْجَمَا
وَقَالَ نَبِيّ الْمُؤْمِنِينَ تَقَدّمُوا ... وَحُبّ إلَيْنَا أَنْ نَكُونَ الْمُقَدّمَا
وَبِتْنَا بِنَهْيِ الْمُسْتَدِيرِ وَلَمْ يَكُنْ ... بِنَا الْخَوْفُ إلّا رَغْبَةً وَتَحَزّمَا
أَطَعْنَاك حَتّى أَسْلَمَ النّاسُ كُلّهُمْ ... وَحَتّى صَبَحْنَا الْجَمْعَ أَهْلَ يَلَمْلَمَا
يَضِلّ الْحِصَانُ الْأَبْلَقُ الْوَرْدُ وَسْطُهُ ... وَلَا يَطْمَئِنّ الشّيْخُ حَتّى يُسَوّمَا
سَمَوْنَا لَهُمْ وِرْدَ الْقَطَا زَفّهُ ضُحًى ... وَكُلّ تَرَاهُ عَنْ أَخِيهِ قَدْ احْجَمَا
لَدُنْ غُدْوَةٍ حَتّى تَرَكْنَا عَشِيّةً ... حُنَيْنًا وَقَدْ سَالَتْ دَوَافِعُهُ دَمَا
إذَا شِئْت مِنْ كُلّ رَأَيْت طِمِرّةً ... وَفَارِسُهَا يَهْوِي وَرُمْحًا مُحَطّمَا
وَقَدْ أَحْرَزَتْ مِنّا هَوَازِنُ سِرْبَهَا ... وَحُبّ إلَيْهَا أَنْ نَخِيبَ وَنُحْرَمَا
Sقَصِيدَةُ عَبّاسٍ الْمِيمِيّةِ
وَقَوْلُهُ [ ص 242 ] تَسَلّمَا . يُرِيدُ وَفِي سُلَيْمٍ مِنْ اعْتَزَى إلَيْهِمْ مِنْ حُلَفَائِهِمْ فَتَسَلّمَ بِذَلِكَ كَمَا تَقُولُ تَقَيّسَ الرّجُلُ إذَا اعْتَزَى إلَى قَيْسٍ . أَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : وَقَيْسُ عَيْلَانَ وَمَنْ تَقَيّسَا

شِعْرُ ضَمْضَمٍ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ
قَالَ [ ص 243 ] ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ ضَمْضَمُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ جُشَمِ بْنِ عَبْدِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ عَصِيّةَ السّلَمِيّ فِي يَوْمِ حُنَيْن ٍ ، وَكَانَتْ ثَقِيفٌ أَصَابَتْ كِنَانَةَ بْنَ الْحَكَمِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الشّرِيدِ ، فَقَتَلَ بِهِ مِحْجَنًا وَابْنَ عَمّ لَهُ وَهُمَا مِنْ ثَقِيفٍ :
نَحْنُ جَلَبْنَا الْخَيْلَ مِنْ غَيْرِ مَجْلَبٍ ... إلَى جُرَشٍ مِنْ أَهْلِ زَيّانَ وَالْغَمْ
نُقَتّلُ أَشْبَالَ الْأُسُودِ وَنَبْتَغِي ... طَوَاغِيَ كَانَتْ قَبْلَنَا لَمْ تُهْدَمْ
فَإِنْ تَفْخَرُوا بِابْنِ الشّرِيدِ فَإِنّنِي ... تَرَكْت بِوَجّ مَأْتَمًا بَعْدَ مَأْتَمِ
أَبَأْتهمَا بِابْنِ الشّرِيدِ وَغَرّهُ ... جِوَارَكُمْ وَكَانَ غَيْرَ مُذَمّمِ
تُصِيبُ رِجَالًا مِنْ ثَقِيفٍ رِمَاحُنَا ... وَأَسْيَافُنَا يَكْلُمْنَهُمْ كُلّ مَكْلَمِ
وَقَالَ ضَمْضَمُ بْنُ الْحَارِث ِ أَيْضًا [ ص 244 ]
أَبْلِغْ لَدَيْك ذَوِي الْحَلَائِلِ آيَةً ... لَا تَأْمَنَنّ الدّهْرَ ذَاتَ خِمَارِ
بَعْدَ الّتِي قَالَتْ لِجَارَةِ بَيْتِهَا ... قَدْ كُنْت لَوْ لَبِثَ الْغَزِيّ بِدَارِ
لَمّا رَأَتْ رَجُلًا تَسَفّعَ لَوْنَهُ ... وَغْرُ الْمَصِيفَةِ وَالْعِظَامُ عَوَارِي
مُشُطَ الْعِظَامِ تَرَاهُ آخِرَ لَيْلِهِ ... مُتَسَرْبِلًا فِي دُرْعِهِ لِغَوَارِ
إذْ لَا أُزَالُ عَلَى رِحَالَةِ نَهْدَةٍ ... جَرْدَاءَ تَلْحَقُ بِالنّجَادِ إزَارِي
يَوْمًا عَلَى أَثَرِ النّهَابِ وَتَارَةً ... كُتِبَتْ مُجَاهِدَةً مَعَ الْأَنْصَارِ
وَزُهَاءَ كُلّ خَمِيلَةٍ أَزْهَقْتهَا ... مَهْلًا تَمَهّلُهُ وَكُلّ خَبَارِ
كَيْمَا أُغَيّرُ مَا بِهَا مِنْ حَاجَةٍ ... وَتَوَدّ أَنّي لَا أَءُوبَ فَجَارِ
Sحَوْلَ قَصِيدَةِ ضَمْضَمِ بْنِ الْحَارِثِ
وَأَنْشَدَ [ ص 243 ] حُنَيْنًا مَعَ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ يَنْبَغِي لِأَبِي عُمَرَ رَحِمَهُ اللّهُ أَنْ يَذْكُرَهُ فِي الصّحَابَةِ لِأَنّهُ مِنْ شَرْطِهِ فَلَمْ يَفْعَلْ وَقَدْ أَنْشَدَ لَهُ ابْنُ إسْحَاقَ مَا يَدُلّ عَلَى أَنّهُ مِنْهُمْ لِقَوْلِهِ
يَوْمًا عَلَى أَثَرِ النّهَابِ وَتَارَةً ... كُتِبَتْ مُجَاهَدَةً مَعَ الْأَنْصَارِ
يَعْنِي : فَرَسَهُ وَكَذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ أَبُو عُمَرَ ضَمْضَمَ بْنَ قَتَادَةَ الْعِجْلِيّ وَلَهُ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ فِي قُدُومِهِ عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَذَلِكَ أَنّهُ قَالَ لَهُ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي قَدْ تَزَوّجْت امْرَأَةً فَوَلَدَتْ لِي غُلَامًا أَسْوَدَ فَقَالَ لَهُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - " هَلْ لَك مِنْ إبِلٍ " ، فَقَالَ نَعَمْ وَالْحَدِيثُ مَشْهُورٌ [ ص 244 ] الصّحِيحَيْنِ ، وَسُمّيَ فِي بَعْضِ الْمُسْنَدَاتِ وَذَكَرَهُ عَبْدُ الْغَنِيّ فِي الْمُبْهَمَاتِ وَذَكَرَ عَبْدُ الْغَنِيّ فِي الْحَدِيثِ زِيَادَةً حَسَنَةً قَالَ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ بَنِي عِجْلٍ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ عَجَائِزُ مِنْ عِجْلٍ فَسُئِلْنَ عَنْ الْمَرْأَةِ الّتِي وَلَدَتْ الْغُلَامَ الْأَسْوَدَ فَقُلْنَ كَانَ فِي آبَائِهَا رَجُلٌ أَسْوَدُ

رِثَاءُ أَبِي خِرَاشٍ لَابْن عَجْوَةَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ قَالَ أُسِرَ زُهَيْرُ بْنُ الْعَجْوَةِ الْهُذَلِيّ يَوْمَ حُنَيْنٍ ، فَكُتِفَ فَرَآهُ جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ الْجُمَحِيّ ، فَقَالَ لَهُ أَأَنْتَ الْمَاشِي لَنَا بِالْمَغَايِظِ ؟ فَضَرَبَ عُنُقَهُ فَقَالَ أَبُو خِرَاشٍ الْهُذَلِيّ يَرْثِيهِ وَكَانَ ابْنَ عَمّهِ [ ص 245 ]
عَجّفَ أَضْيَافِي جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ ... بِذِي فَجْرٍ تَأْوِي إلَيْهِ الْأَرَامِلُ
طَوِيلُ نِجَادِ السّيْفِ لَيْسَ بِجَيْدَرٍ ... إذَا اهْتَزّ وَاسْتَرْخَتْ عَلَيْهِ الْحَمَائِلُ
تَكَادُ يَدَاهُ تُسْلِمَانِ إزَارَهُ ... مِنْ الْجُودِ لَمّا أَذْلَقَتْهُ الشّمَائِلُ
إلَى بَيْتِهِ يَأْوِي الضّرِيكُ إذَا شَتَا ... وَمُسْتَنْبِحٌ بَالِي الدّرِيسَيْنِ عَائِلُ
تَرَوّحَ مَقْرُورًا وَهَبّتْ عَشِيّةً ... لَهَا حَدَبٌ تَحْتَثّهُ فَيُوَائِلُ
فَمَا بَالُ أَهْلِ الدّارِ لَمْ يَتَصَدّعُوا ... وَقَدْ بَانَ مِنْهَا اللّوْذَعِيّ الْحُلَاحِلُ
فَأُقْمِمَ لَوْ لَاقَيْته غَيْرَ مُوثَقٍ ... لِآبَك بِالنّعْفِ الضّبَاعِ الْجَيَائِلُ
وَإِنّك لَوْ وَاجَهْته إذْ لَقِيته ... فَنَازَلْته أَوْ كُنْت مِمّنْ يُنَازِلُ
لَظَلّ جَمِيلٌ أَفْحَشَ الْقَوْمِ صُرَعَةً ... وَلَكِنّ قَرْنَ الظّهْرِ لِلْمَرْءِ شَاغِلُ
فَلَيْسَ كَعَهْدِ الدّارِ يَا أُمّ ثَابِتٍ ... وَلَكِنْ أَحَاطَتْ بِالرّقَابِ السّلَاسِلُ
وَعَادَ الْفَتَى كَالشّيْخِ لَيْسَ بِفَاعِلٍ ... سِوَى الْحَقّ شَيْئًا وَاسْتَرَاحَ الْعَوَاذِلُ
وَأَصْبَحَ إخْوَانُ الصّفَاءِ كَأَنّمَا ... أَهَالَ عَلَيْهِمْ جَانِبَ التّرْبِ هَائِلُ
فَلَا تَحْسَبِي أَنّي نَسَبْت لَيَالِيًا ... بِمَكّةَ إذْ لَمْ نَعْدُ عَمّا نُحَاوِلُ
إذْ النّاسُ نَاسٌ وَالْبِلَادُ بِغِرّةٍ ... وَإِذْ نَحْنُ لَا تُثْنَى عَلَيْنَا الْمَدَاخِلُ
Sشِعْرُ أَبِي خِرَاشٍ
وَذَكَرَ شِعْرَ أَبِي خِرَاشٍ وَاسْمُهُ خُوَيْلِدُ بْنُ مُرّةَ شَاعِرٌ إسْلَامِيّ مَاتَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ رَحِمَهُ اللّهُ مِنْ نَهْشِ حَيّةٍ نَهَشَتْهُ كَانَ سَبَبُهَا أَضْيَافٌ نَزَلُوا بِهِ وَخَبَرُهُ بِذَلِكَ عَجِيبٌ وَلَهُ فِيهِ شِعْرٌ . وَالْخِرَاشُ وَسْمٌ لِإِبِلٍ يَكُونُ مِنْ الصّدْغِ إلَى الذّقْنِ فَقَوْلُهُ
تَكَادُ يَدَاهُ تُسْلَمَانِ إزَارَهُ ... مِنْ الْجُودِ لَمّا أَذْلَفَتْهُ الشّمَائِلُ
يُرِيدُ أَنّهُ مِنْ سَخَائِهِ يُرِيدُ أَنْ يَتَجَرّدَ مِنْ إزَارِهِ لِسَائِلِهِ فَيُسَلّمَهُ إلَيْهِ وَأَلْفَيْت بِخَطّ أَبِي الْوَلِيدِ الْوَقْشِيّ الْجُودُ هَاهُنَا ، وَعَلَى هَذِهِ الرّوَايَةِ وَبِهَذِهِ الرّتْبَةِ السّخَاءُ وَكَذَلِكَ فَسّرَهُ الْأَصْمَعِيّ وَالطّوسِيّ وَأَمّا عَلَى مَا وَقَعَ فِي شِعْرِ الْهُذَلِيّ وَفُسّرَ فِي الْغَرِيبِ الْمُصَنّفِ فَهُوَ الْجُوعُ وَمَوْضِعُهُ فِي الشّعْرِ الْمَذْكُورِ يَتْلُو قَوْلَهُ تَرَوّحَ مَقْرُورًا . وَفِي الْغَرِيبِ رِدَاءَهُ بَدَلَ إزَارِهِ . [ ص 245 ] وَلَكِنّ قَرْنَ الظّهْرِ لِلْمَرْءِ شَاغِلُ قَرْنٌ بِالْقَافِ جَمْعُهُ أَقْرَانٍ وَيُرْوَى : وَلَكِنّ أَقْرَانَ الظّهُورِ مَقَاتِلُ مَقَاتِلُ جَمْعُ مَقْتَلٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ مِثْلُ مِحْرَبٍ مِنْ الْحَرْبِ أَيْ مَنْ كَانَ قِرْنَ طُهْرٍ فَإِنّهُ قَاتِلٌ وَغَالِبٌ . وَقَوْلُهُ يَصِفُ الرّيحَ لَهَا حَدَبٌ تَحْتَثّهُ فَيُوَائِلُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَقَعَ فِي الْأَصْلِ وَقَدْ يُسَمّى انْحِدَارُ الْمَاءِ وَنَحْوُهُ حَدَبًا ، فَيَكُونُ هَذَا مِنْهُ وَإِلّا فَالْخَدَبُ بِالْخَاءِ الْمَنْقُوطَةِ أَشْبَهُ بِمَعْنَى الْبَيْتِ لِأَنّهُمْ يَقُولُونَ رِيحٌ خَدْبَاءُ كَانَ بِهَا خَدْبًا ، وَهُوَ الْهَوَجُ .

ابْنُ عَوْفٍ يَعْتَذِرُ عَنْ فِرَارِهِ
[ ص 246 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ وَهُوَ يَعْتَذِرُ يَوْمَئِذٍ مِنْ فِرَارِهِ
مَنَعَ الرّفَادَ فَمَا أُغَمّضُ سَاعَةً ... نَعَمٌ بِأَجْزَاعِ الطّرِيقِ مُخَضْرَمُ
سَائِلْ هَوَازِنَ هَلْ أَضَرّ عَدُوّهَا ... وَأُعِينَ غَارِمُهَا إذَا مَا يَغْرَمُ
وَكَتِيبَةٌ لَبّسْتهَا بِكَتِيبَةٍ ... فِئَتَيْنِ مِنْهَا حَاسِرٌ وَمُلْأَمُ
وَمُقَدّمٌ تَعْيَا النّفُوسُ لِضِيقِهِ ... قَدّمْته وَشُهُودُ قَوْمِي أَعْلَمُ
فَوَرَدْته وَتَرَكْت إخْوَانًا لَهُ ... يَرِدُونَ غَمْرَتَهُ وَغَمَرَتُهُ الدّمُ
فَإِذَا انْجَلَتْ غَمَرَاتُهُ أَوْرَثْنَنِي ... مَجْدَ الْحَيَاةِ وَمَجْدَ غُنْمِ يُقْسَمُ
كَلّفْتُمُونِي ذَنْبَ آلِ مُحَمّدٍ ... وَاَللّهُ أَعْلَمُ مَنْ أَعَقّ وَأَظْلَمُ
وَخَذَلْتُمُونِي إذْ أُقَاتِلُ وَاحِدًا ... وَخَذَلْتُمُونِي إذْ تُقَاتِلُ خَثْعَمُ
وَإِذَا بَنَيْت الْمَجْدَ يَهْدِمُ بَعْضُكُمْ ... لَا يَسْتَوِي بَانٍ وَآخَرُ يَهْدِمُ
وَأَقَبّ مِخْمَاصِ الشّتَاءِ مُسَارِعٌ ... فِي الْمَجْدِ يَنْمِي لِلْعُلَى مُتَكَرّمٌ
أَكْرَهْت فِيهِ أَلّةً يَزْنِيّةً ... سَحْمَاءَ يَقْدَمُهَا سِنَانٌ سَلْجَمُ
وَتَرَكْت حَنّتَهُ تَرُدّ وَلِيّهُ ... وَتَقُولُ لَيْسَ عَلَى فُلَانَةَ مَقْدَمُ
وَنَصَبْت نَفْسِي لِلرّمَاحِ مُدَجّجًا ... مِثْلَ الدّرِيئَةِ تُسْتَحَلّ وَتُشْرَمُ
Sمِنْ شِعْرِ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ
[ ص 246 ] وَذَكَرَ فِي آخِرِ بَيْتٍ مِنْ شِعْرِ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ : مِثْلَ الدّرِيئَةِ تُسْتَحَلّ وَتُشْرَمُ الدّرِيئَةُ
الْحَلْقَةُ الّتِي يُتَعَلّمُ عَلَيْهَا الطّعْنُ وَهُوَ مَهْمُوزٌ وَتُسْتَحَلّ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَقَعَ فِي الْأَصْلِ وَفِي غَيْرِهِ تُسْتَخَلّ بِالْخَاءِ مُعْجَمَةً وَهُوَ أَظْهَرُ فِي الْمَعْنَى مِنْ الْخِلَالِ وَقَدْ يَكُونُ لِتَسْتَحِلّ وَحَيّه مِنْ الْحَلّ إذْ بَعْدَهُ تُشْرَمُ وَكِلَاهُمَا قَرِيبٌ فِي الْمَعْنَى . [ ص 247 ] [ ص 248 ]

هَوَازِنِيّ يَذْكُرُ إسْلَامَ قَوْمِهِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ قَائِلٌ فِي هَوَازِنَ أَيْضًا ، يَذْكُرُ مَسِيرَهُمْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَعَ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ بَعْدَ إسْلَامِهِ [ ص 247 ]
أَذْكُرْ مَسِيرَهُمْ لِلنّاسِ إذْ جَمَعُوا ... وَمَالِكٌ فَوْقَهُ الرّايَاتِ تَخْتَفِقُ
وَمَالِكُ مَالِكٌ مَا فَوْقَهُ أَحَدٌ ... يَوْمَ حُنَيْنٍ عَلَيْهِ التّاجُ يَأْتَلِقُ
حَتّى لَقُوا الْبَاسَ حِينَ الْبَاسُ يَقْدُمهُمْ ... عَلَيْهِمْ الْبِيضُ وَالْأَبْدَانُ وَالدّرَقُ
فَضَارَبُوا النّاسَ حَتّى لَمْ يَرَوْا أَحَدًا ... حَوْلَ النّبِيّ وَحَتّى جَنّهُ الْغَسَقُ
ثُمّتَ نُزّلَ جِبْرِيلُ بِنَصْرِهِمْ ... مِنْ السّمَاءِ فَمَهْزُومٌ وَمُعْتَنِقُ
مِنّا وَلَوْ غَيْرَ جِبْرِيلِ يُقَاتِلُنَا ... لَمَنّعَتْنَا إذَنْ أَسْيَافُنَا الْعُتُقُ
وَفَاتَنَا عُمَرُ الْفَارُوقُ إذْ هُزِمُوا ... بِطَعْنَةٍ بَلّ مِنْهَا سَرْجَهُ الْعَلَقُ
جُشَمِيّةٌ تَرْثِي أَخَوَيْهَا
وَقَالَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي جُشَمٍ تَرْثِي أَخَوَيْنِ لَهَا أُصِيبَا يَوْمَ حُنَيْنٍ :
أَعَيْنِيّ جُودَا عَلَى مَالِكٍ ... مَعًا وَالْعَلَاءِ وَلَا تَجْمُدَا
هُمَا الْقَاتِلَانِ أَبَا عَامِرٍ ... وَقَدْ كَانَ ذَا هِبَةٍ أَرْبَدَا
هُمَا تَرَكَاهُ لَدَى مُجْسَدٍ ... يَنُوءُ نَزِيفًا وَمَا وُسّدَا
أَبُو ثَوَابٍ يَهْجُو قُرَيْشًا
وَقَالَ أَبُو ثَوَابٍ زَيْدُ بْنُ صُحَارٍ ، أَحَدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ :
أَلَا هَلْ أَتَاك أَنْ غَلَبَتْ قُرَيْشٌ ... هَوَازِنَ وَالْخُطُوبُ لَهَا شُرُوطُ
وَكُنّا يَا قُرَيْشُ إذَا غَضِبْنَا ... يَجِيءُ مِنْ الْغِضَابِ دَمٌ عَبِيطُ
وَكُنّا يَا قُرَيْشُ إذَا غَضِبْنَا ... كَأَنّ أُنُوفَنَا فِيهَا سَعُوطُ
فَأَصْبَحْنَا تُسَوّقُنَا قُرَيْشٌ ... سِيَاقَ الْعِيرِ يَحْدُوهَا النّبِيطُ
فَلَا أَنَا إنْ سُئِلْت الْخَسْفَ آبٍ ... وَلَا أَنَا أَنْ أَلِينَ لَهُمْ نَشِيطُ
سَيُنْقَلُ لَحْمُهَا فِي كُلّ فَجّ ... وَتُكْتَبُ فِي مَسَامِعِهَا الْقُطُوطُ
وَيُرْوَى " الْخُطُوطُ " ، وَهَذَا الْبَيْتُ فِي رِوَايَةِ أَبِي سَعْدٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ أَبُو ثَوَابٍ زِيَادُ بْنُ ثَوَابٍ . وَأَنْشَدَنِي خَلَفٌ الْأَحْمَرُ قَوْلَهُ يَجِيءُ مِنْ الْغِضَابِ دَمٌ عَبِيطُ
[ ص 248 ] ابْنِ إسْحَاقَ .
ابْنُ وَهْبٍ يَرُدّ عَلَى ابْنِ أَبِي ثَوَابٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَجَابَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ ، ثُمّ مِنْ بَنِي أَسَدٍ ، فَقَالَ
بِشَرْطِ اللّهِ نَضْرِبُ مَنْ لَقِينَا ... كَأَفْضَلَ مَا رَأَيْت مِنْ الشّرُوطِ
وَكُنّا يَا هَوَازِنُ حِينَ نَلْقَى ... نَبُلّ الْهَامَ مِنْ عَلَقٍ عَبِيطِ
بِجَمْعِكُمْ وَجَمْعِ بَنِي قَسِيّ ... نَحُكّ الْبَرْكَ كَالْوَرِقِ الْخَبِيطِ
أَصَبْنَا مِنْ سُرَاتِكُمُ وَمِلْنَا ... بِقَتْلٍ فِي الْمَبَايِنِ وَالْخَلِيطِ
بِهِ الْمُلْتَاثُ مُفْتَرِشٌ يَدَيْهِ ... يَمُجّ الْمَوْتَ كَالْبِكْرِ النّحِيطِ
فَإِنْ تَكُ قَيْسُ عَيْلَانَ غِضَابًا ... فَلَا يَنْفَكّ يُرْغِمُهُمْ سَعُوطِي
شِعْرُ خَدِيجٍ فِي يَوْمِ حُنَيْنٍ
وَقَالَ خَدِيجُ بْنُ الْعَوْجَاءِ النّصْرِيّ :
لَمّا دَنَوْنَا مِنْ حُنَيْنٍ وَمَائِهِ ... رَأَيْنَا سَوَادًا مُنْكَرَ اللّوْنِ أَخْصَفَا
بِمَلْمُومَةٍ شَهْبَاءَ لَوْ قَدَفُوا بِهَا ... شَمَارِيخَ مِنْ عُزْوَى إذَنْ عَادَ صَفْصَفَا
وَلَوْ إنّ قَوْمِي طَاوَعَتْنِي سَرَاتُهُمْ ... إذَنْ مَا لَقِينَا الْعَارِضَ الْمُتَكَشّفَا
إذَنْ مَا لَقِينَا جُنْدَ آلِ مُحَمّدٍ ... ثَمَانِينَ أَلْفًا وَاسْتَمَدّوا بِخَنْدَقَا

ذِكْرُ غَزْوَةِ الطّائِفِ بَعْدَ حُنَيْنٍ فِي سَنَةِ ثَمَانٍ
[ ص 249 ] ثَقِيفٍ الطّائِفَ أَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ مَدِينَتِهَا ، وَصَنَعُوا الصّنَائِعَ لِلْقِتَالِ .
Sغَزْوَةُ الطّائِفِ
[ ص 249 ] ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ النّسَبِ أَنّ الدّمُونَ بْنَ الصّدَفِ ، وَاسْمُ الصّدَفِ : مَلَكُ بْنُ مَالِكِ بْنِ مُرَتّعِ بْنِ كِنْدَةَ مِنْ حَضْرَمَوْتَ أَصَابَ دَمًا مِنْ قَوْمِهِ فَلَحِقَ بِثَقِيفٍ فَأَقَامَ فِيهِمْ وَقَالَ لَهُمْ أَلَا أَبْنِي لَكُمْ حَائِطًا يُطِيفُ بِبَلَدِكُمْ فَبَنَاهُ فَسُمّيَ بِهِ الطّائِفُ ، ذَكَرَهُ الْبَكْرِيّ هَكَذَا قَالَ وَإِنّمَا هُوَ الدّمُونُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَالِكِ بْنِ دَهْقَلٍ وَهُوَ مِنْ الصّدَفِ ، وَلَهُ ابْنَانِ أَدْرَكَا النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَبَايَعَاهُ اسْمُ أَحَدِهِمَا : الْهُمَيْلُ وَالْآخَرُ قَبِيصَةُ ، وَلَمْ يَذْكُرْهُمَا أَبُو عُمَرَ فِي الصّحَابَةِ وَذَكَرَهُمَا غَيْرُهُ . وَذَكَرَ أَنّ أَصْلَ أَعْنَابِهَا أَنّ قَيْسَ بْنَ مُنَبّهٍ وَهُوَ ثَقِيفٌ أَصَابَ دَمًا فِي قَوْمِهِ أَيْضًا ، وَهُمْ إيَادٌ فَفَرّ إلَى الْحِجَازِ ، فَمَرّ بِامْرَأَةٍ يَهُودِيّةٍ فَآوَتْهُ وَأَقَامَ عِنْدَهَا زَمَانًا ، ثُمّ انْتَقَلَ عَنْهَا ، فَأَعْطَتْهُ قُضُبًا مِنْ الْحُبْلَةِ وَأَمَرَتْهُ أَنْ يَغْرِسَهَا فِي أَرْضٍ وَصَفَتْهَا لَهُ فَأَتَى بِلَادَ عَدْوَانَ ، وَهُمْ سُكّانُ الطّائِفِ فِي ذَلِكَ الزّمَانِ فَمَرّ بِسُخَيْلَةَ جَارِيَةِ عَامِرِ بْنِ الظّرِبِ الْعَدْوَانِيّ وَهِيَ تَرْعَى غَنَمًا ، فَأَرَادَ سِبَاءَهَا ، وَأَخَذَ الْغَنَمَ فَقَالَتْ لَهُ أَلَا أَدُلّك عَلَى خَيْرٍ مِمّا هَمَمْت بِهِ اقْصِدْ إلَى سَيّدِي وَجَاوِرْهُ فَهُوَ أَكْرَمُ النّاسِ فَأَتَاهُ فَزَوّجَهُ مِنْ بِنْتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ عَامِرٍ فَلَمّا جَلَتْ عَدْوَانُ عَنْ الطّائِفِ بِالْحُرُوبِ الّتِي وَقَعَتْ بَيْنَهَا أَقَامَ قَسِيّ ، وَهُوَ ثَقِيفٌ ، فَمِنْهُ تَنَاسَلَ أَهْلُ الطّائِفِ ، وَسُمّيَ قَسِيّا بِقَسْوَةِ قَلْبِهِ حِينَ قَتَلَ أَخَاهُ أَوْ ابْنَ عَمّهِ وَقِيلَ سمي ثقيفا لِقَوْلِهِمْ فِيهِ مَا أَثْقَفَهُ حِينَ ثَقِفَ عَامِرًا حَتّى أَمّنَهُ وَزَوّجَهُ بِنْتَه . [ ص 250 ] وَذَكَرَ بَعْضُ الْمُفَسّرِينَ وَجْهًا آخَرَ فِي تَسْمِيَتِهَا بِالطّائِفِ فَقَالَ فِي الْجَنّةِ الّتِي ذَكَرَهَا اللّهُ سُبْحَانَهُ فِي سُورَةِ " ن " حَيْثُ يَقُولُ { فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ } [ الْقَلَمُ 19 ] . قَالَ كَانَ الطّائِفُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ اقْتَلَعَهَا مِنْ مَوْضِعِهَا ، فَأَصْبَحَتْ كَالصّرِيمِ وَهُوَ اللّيْلُ أَصْبَحَ مَوْضِعُهَا كَذَلِكَ ثُمّ سَارَ بِهَا إلَى مَكّةَ ، فَطَافَ بِهَا حَوْلَ الْبَيْتِ ثُمّ أَنْزَلَهَا حَيْثُ الطّائِفُ الْيَوْمَ فَسُمّيَتْ بِاسْمِ الطّائِفِ الّذِي طَافَ عَلَيْهَا ، وَطَافَ بِهَا ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْجَنّةُ بِضَرْوَانَ عَلَى فَرَاسِخَ مِنْ صَنْعَاءَ ، وَمِنْ ثَمّ كَانَ الْمَاءُ وَالشّجَرُ بِالطّائِفِ دُونَ مَا حَوْلَهَا مِنْ الْأَرَضِينَ وَكَانَتْ قِصّةُ أَصْحَابِ الْجَنّةِ بَعْدَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ صَلّى اللّهُ عَلَى نَبِيّنَا وَعَلَيْهِ وَسَلّمَ بِيَسِيرٍ ذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ النّقّاشُ وَغَيْرُهُ . فَإِنْ قِيلَ فَإِذَا كَانَ ثَقِيفٌ هُوَ قَسِيّ بْنُ مُنَبّهٍ كَمَا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ وَغَيْرُهُ فَكَيْفَ قَالَ سِيبَوَيْهِ حَاكِيًا عَنْ الْعَرَبِ : ثَقِيفُ بْنُ قَسِيّ فَجَعَلَهُ ابْنًا لِقَسِيّ ؟ قِيلَ إنّمَا أَرَادَ سِيبَوَيْهِ أَنّ الْحَيّ سُمّيَ ثَقِيفًا ، وَهُمْ بَنُو قَسِيّ كَمَا قَالُوا : بَاهِلَةُ بْنُ أَعْصَرَ وَإِنّمَا هِيَ أُمّهُمْ وَلَكِنْ سُمّيَ الْحَيّ بِهَا ، ثُمّ قِيلَ فِيهِ ابْنُ أَعْصَرَ كَذَلِكَ قَالُوا : ثَقِيفُ بْنُ قَسِيّ عَلَى هَذَا ، وَيُقَوّي هَذَا أَنّ سِيبَوَيْهِ إنّمَا قَالَ حَاكِيًا : هَؤُلَاءِ ثَقِيفُ بْنُ قَسِيّ .

[ ص 250 ] حُنَيْنًا وَلَا حِصَارَ الطّائِفِ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ وَلَا غَيْلَانُ بْنُ سَلَمَةَ كَانَا بِجُرَشٍ يَتَعَلّمَانِ صَنْعَةَ الدّبّابَاتِ وَالْمَجَانِيقِ وَالضّبُورِ .Sآلَاتُ الْحَرْبِ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي الطّائِفِ
فَصْلٌ " وَذَكَرَ تَعَلّمَ أَهْلِ الطّائِفِ صَنْعَةَ الدّبّابَاتِ وَالْمَجَانِيقِ وَالضّبُورِ . الدّبّابَةُ آلَةٌ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ يَدْخُلُ فِيهَا الرّجَالُ فَيَدُبّونَ بِهَا إلَى الْأَسْوَارِ لِيَنْقُبُوهَا ، وَالضّبُورُ مِثْلُ رُءُوسِ الْأَسْفَاطِ يُتّقَى بِهَا فِي الْحَرْبِ عِنْدَ الِانْصِرَافِ وَفِي الْعَيْنِ الضّبْرُ جُلُودٌ يُغْشَى بِهَا خَشَبٌ يُتّقَى بِهَا فِي الْحَرْبِ . وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ الزّهْرِيّ أَنّ اللّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حِينَ مَسَخَ بَنِي إسْرَائِيلَ قِرَدَةً مَسَخَ رُمّانَهُمْ الْمَظّ وَبُرّهُمْ الذّرَةَ وَعِنَبَهُمْ الْأَرَاكَ ، وَجَوْزَهُمْ الضّبْرَ وَهُوَ مِنْ شَجَرِ الْبَرِيّةِ وَلَهُ ثَمَرٌ كَالْجَوْزِ لَا نَفْعَ فِيهِ فَهَذَا مَعْنًى آخَرُ غَيْرَ الْأَوّلِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الضّبْرِ إنّهُ كَالْجَوْزِ يُنَوّرُ وَلَا يُطْعَمُ . قَالَ وَيُقَالُ أَظَلّ الظّلَالِ ظِلّ الضّبْرَةِ وَظِلّ التّنْعِيمَةِ وَظِلّ الْحَجَرِ ، قَالَ وَوَرَقُهَا كَدَارٍ كَثِيفَةٍ فَكَانَ ظِلّهَا لِذَلِكَ أَلْمَى كَثِيفًا ، وَأَمّا الْمَظّ الّذِي تَقَدّمَ ذِكْرُهُ فِي الْحَدِيثِ فَهُوَ وَرُمّانُ الْبَرّ يُنَوّرُ وَلَا يُثْمِرُ وَلَهُ جُلّنَارُ كَمَا لِلرّمّانِ يُمْتَصّ مِنْهُ الْمَذَخُ وَهُوَ عَسَلٌ كَثِيرٌ يُشْبِعُ مَنْ امْتَصّهُ حَتّى يَمْلَأَ بَطْنَهُ ذَكَرَهُ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ النّبَاتِ " . [ ص 251 ] الْعَرَبُ . قَالَ كُرَاعٌ كُلّ كَلِمَةٍ فِيهَا جِيمٌ وَقَافٌ أَوْ جِيمٌ وَكَافٌ فَهِيَ أَعْجَمِيّةٌ وَذَلِكَ كَالْجُوَالِقِ وَالْجَوْلَقِ وَجِلّقٍ وَالْكَيْلَجَةِ وَهِيَ مِكْيَالٌ صَغِيرٌ وَالْكَفْجَلَارُ وَهِيَ الْمِغْرَفَةُ وَالْقَبْجُ وَهُوَ الْحَجَلُ وَمَا كَانَ نَحْوَ ذَلِكَ وَالْمِيمُ فِي مَنْجَنِيقٍ أَصْلِيّةٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَالنّونُ زَائِدَةٌ وَلِذَلِكَ سَقَطَتْ فِي الْجَمْعِ .

[ ص 251 ] سَارَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الطّائِفِ حِينَ فَرَغَ مِنْ حُنَيْنٍ ؛ فَقَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ ، حِينَ أَجْمَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ السّيْرَ إلَى الطّائِفِ : [ ص 252 ]
شِعْرُ كَعْبٍ
قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلّ رَيْبٍ ... وَخَيْبَرَ ثُمّ أَجْمَمْنَا السّيُوفَا
فَلَسْت لِحَاضِنٍ إنْ لَمْ تَرَوْهَا ... بِسَاحَةِ دَارِكُمْ مِنّا أُلُوفَا
وَنَنْتَزِعُ الْعُرُوشَ بِبَطْنِ وَجّ ... وَتُصْبِحُ دُورُكُمْ مِنْكُمْ خُلُوفَا
وَيَأْتِيكُمْ لَنَا سُرْعَانُ خَيْلٍ ... يُغَادِرُ خَلْفَهُ جَمْعًا كَثِيفَا
إذَا نَزَلُوا بِسَاحَتِكُمْ سَمِعْتُمْ ... لَهَا مِمّا أَنَاخَ بِهَا رَجِيفَا
بِأَيْدِيهِمْ قَوَاضِبُ مُرْهِفَاتٍ ... يَزُرْنَ الْمُصْطَلِينَ بِهَا الْحُتُوفَا
كَأَمْثَالِ الْعَقَائِقِ أَخْلَصَتْهَا ... قُيُونُ الْهِنْدِ لَمْ تَضْرِبْ كَتِيفَا
تَخَالُ جَدِيّةِ الْأَبْطَالِ فِيهَا ... غَدَاةَ الزّحْفِ جَادِيّا مَدُوفَا
أَجَدّهُمْ أَلَيْسَ لَهُمْ نَصِيحٌ ... مِنْ الْأَقْوَامِ كَانَ بِنَا عَرِيفَا
يُخَبّرُهُمْ بِأَنّا قَدْ جَمَعْنَا ... عِتَاقَ الْخَيْلِ وَالنّجُبَ الطّرُوفَا
وَأَنّا قَدْ أَتَيْنَاهُمْ بِزَحْفٍ ... يُحِيطُ بِسُورِ حِصْنِهِمْ صُفُوفَا
رَئِيسُهُمْ النّبِيّ وَكَانَ صُلْبًا ... نَقِيّ الْقَلْبِ مُصْطَبِرًا عَزُوفَا
رَشِيدُ الْأَمْرِ ذُو حُكْمٍ وَعِلْمٍ ... وَحِلْمٍ لَمْ يَكُنْ نَزِقًا خَفِيفَا
نُطِيعُ نَبِيّنَا وَنُطِيعُ رَبّا ... هُوَ الرّحْمَنُ كَانَ بِنَا رَءُوفَا
فَإِنْ تُلْقُوا إلَيْنَا السّلَمَ نَقْبَلْ ... وَنَجْعَلُكُمْ لَنَا عَضُدًا وَرِيفَا
وَإِنْ تَابُوا نُجَاهِدْكُمْ وَنَصْبِرْ ... وَلَا يَكُ أَمْرُنَا رَعَشًا ضَعِيفَا
نُجَالِدُ مَا بَقِينَا أَوْ تُنِيبُوا ... إلَى الْإِسْلَامِ إذْعَانًا مُضِيفَا
نُجَاهِدُ لَا نُبَالِي مَنْ لَقِينَا ... أَأَهّكْنَا التّلَادَ أَمْ الطّرِيفَا
وَكَمْ مِنْ مَعْشَرٍ أَلَبُوا عَلَيْنَا ... صَمِيمَ الْجِذْمِ مِنْهُمْ وَالْحَلِيفَا
أَتَوْنَا لَا يَرَوْنَ لَهُمْ كِفَاءً ... فَجَدّعْنَا الْمَسَامِعَ وَالْأَنُوفَا
بِكُلّ مُهَنّدٍ لَيْنٍ صَقِيلٍ ... يَسُوقُهُمْ بِهَا سَوْقًا عَنِيفَا
لِأَمْرِ اللّهِ وَالْإِسْلَامِ حَتّى ... يَقُومَ الدّينُ مُعْتَدِلًا حَنِيفَا
وَتُنْسَى اللّاتُ وَالْعُزّى وَوَدّ ... وَنَسْلُبُهَا الْقَلَائِدَ وَالشّنُوفَا
فَأَمْسَوْا قَدْ أَقَرّوا وَاطْمَأَنّوا ... وَمَنْ لَا يَمْتَنِعْ يَقْبَلْ خُسُوفَا
كِنَانَةُ يَرُدّ عَلَى كَعْبٍ
[ ص 253 ] عَبْدِ يَالَيْلَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ ، فَقَالَ [ ص 254 ]
مَنْ كَانَ يَبْغِينَا يُرِيدُ قِتَالَنَا ... فَإِنّا بِدَارِ مُعَلّمٍ لَا نَرِيمُهَا
وَجَدْنَا بِهَا الْآبَاءَ مِنْ قَبْلِ مَا تَرَى ... وَكَانَتْ لَنَا أَطْوَاؤُهَا وَكُرُومُهَا
وَقَدْ جَرّبَتْنَا قَبْلَ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ... فَأَخْبَرَهَا ذُو رَأْيِهَا وَحَلِيمُهَا
وَقَدْ عَلِمَتْ إنْ قَالَتْ الْحَقّ أَنّنَا ... إذَا مَا أَبَتْ صُعْرُ الْخُدُودِ نُقِيمُهَا
نُقَوّمُهَا حَتّى يَلِينَ شَرِيسُهَا ... وَيُعْرَفُ لِلْحَقّ الْمُبِينِ ظَلُومُهَا
عَلَيْنَا دِلَاصٌ مِنْ تُرَاثٍ مُحَرّقٍ ... كَلَوْنِ السّمَاءِ زَيّنَتْهَا نُجُومُهَا
نُرَفّهُهَا عَنّا بِبِيضٍ صَوَارِمٍ ... إذَا جُرّدَتْ فِي غَمْرَةٍ لَا نَشِيمُهَا
قَصِيدَةُ شَدّادٍ فِي الْمَسِيرِ إلَى الطّائِفِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ شَدّادُ بْنُ عَارِضٍ الْجُشَمِيّ فِي مَسِيرِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى الطّائِفِ :
لَا تَنْصُرُوا اللّاتَ إنّ اللّهَ مُهْلِكُهَا ... وَكَيْفَ يُنْصَرُ مَنْ هُوَ لَيْسَ يَنْتَصِرُ
إنّ الّتِي حُرّقَتْ بِالسّدّ فَاشْتَغَلَتْ ... وَلَمْ يُقَاتِلْ لَدَى أَحْجَارِهَا هَدَرُ
إنّ الرّسُولَ مَتَى يَنْزِلْ بِلَادَكُمْ ... يَظْعَنْ وَلَيْسَ بِهَا مِنْ أَهْلِهَا بَشَرُ
Sحَوْلَ شِعْرِ كَعْبٍ
وَذَكَرَ شِعْرَ كَعْبٍ وَفِيهِ وَكَمْ مِنْ مَعْشَرٍ أَلَبُوا عَلَيْنَا
أَيْ جَمَعُوا ، وَصَمِيمُ الْجِذْم مَفْعُولٌ بِأَلَبُوا ، وَفِيهِ يَصِفُ السّيُوفَ
كَأَمْثَالِ الْعَقَائِقِ أَخْلَصَتْهَا ... قُيُونُ الْهِنْدِ لَمْ تَضْرِبْ كَتِيفَا
الْعَقَائِقُ جَمْعُ عَقِيقَةٍ وَهُوَ الْبَرْقُ تَنْعَقُ عَنْهُ السّحَابُ . وَقَوْلُهُ لَمْ تَضْرِبْ كَتِيفًا ، جَمْعُ كَتِيفَةٍ وَهِيَ صَحِيفَةٌ مِنْ حَدِيدٍ صَغِيرَةٌ وَأَصْلُ الْكَتِيفِ الضّيّقُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ . - شِعْرُ كِنَانَةَ 252 [ ص 253 ] وَذَكَرَ شِعْرَ كِنَانَةَ بْنِ عَبْدِ يَالَيْلَ الثّقَفِيّ ، وَفِيهِ وَكَانَتْ لَنَا أَطْوَاؤُهَا وَكُرُومُهَا
الْأَطْوَاءُ جَمْعُ طَوِيّ وَهِيَ الْبِئْرُ جُمِعَتْ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ تَوَهّمُوا سُقُوطَ يَاءَ فَعِيلٍ مِنْهَا إذْ كَانَتْ زَائِدَةً . وَفِيهَا : وَقَدْ جَرّبَتْنَا قَبْلَ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ
إنّمَا قَالَ هَذَا جَوَابًا لِلْأَنْصَارِ لِأَنّهُمْ بَنُو حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ، وَعَمْرٍو وَهُوَ مُزَيْقِيَاءُ وَعَامِرٌ هُوَ مَاءُ السّمَاءِ وَلَمْ يَرِدْ أَنّ الْأَنْصَار جَرّبَتْهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ وَإِنّمَا أَرَادَ إخْوَتَهُمْ وَهُمْ خُزَاعَةُ لِأَنّهُمْ بَنُو رَبِيعَةَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَقَدْ كَانُوا حَارَبُوهُمْ عِنْدَ نُزُولِهِمْ مَكّةَ ، وَقَالَ الْبَكْرِيّ فِي مَعْنَى هَذَا الْبَيْتِ إنّمَا أَرَادَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ ، وَكَانُوا مُجَاوِرِينَ لِثَقِيفٍ وَأُمّهُمْ عَمْرَةُ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ الظّرِبِ الْعَدْوَانِيّ وَأُخْتُهَا زَيْنَبُ كَانَتْ تَحْتَ ثَقِيفٍ ، وَأَكْثَرُ قَبَائِلِ ثَقِيفٍ مِنْهَا ، وَكَانَتْ ثَقِيفٌ قَدْ أَنْزَلَتْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ فِي أَرْضِهِمْ لِيَعْمَلُوا فِيهَا ، وَيَكُونَ لَهُمْ النّصْفُ فِي الزّرْعِ وَالثّمَرِ ثُمّ إنّ ثَقِيفًا مَنَعَتْهُمْ ذَلِكَ وَتَحَصّنُوا مِنْهُمْ بِالْحَائِطِ الّذِي بَنَوْهُ حَوْلَ حَاضِرِهِمْ فَحَارَبَتْهُمْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ ، فَلَمْ يَظْفَرُوا مِنْهُمْ بِشَيْءٍ وَجَلَوْا عَنْ تِلْكَ الْبِلَادِ وَلِذَلِكَ يَقُولُ كِنَانَةُ وَقَدْ جَرّبَتْنَا قَبْلَ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ
[ ص 254 ] ذَكَرَهُ الْبَكْرِيّ فِي خَبَرٍ طَوِيلٍ لَخّصْته .

الطّرِيقُ إلَى الطّائِفِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَسَلَكَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى نَخْلَةَ الْيَمَانِيّةِ ، ثُمّ عَلَى قَرْنٍ ، ثُمّ عَلَى الْمُلَيْحِ ، ثُمّ عَلَى بُحْرَةِ الرّغَاءِ مِنْ لَهِيّةَ فَابْتَنَى بِهَا مَسْجِدًا فَصَلّى فِيهِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ : أَنّهُ أَقَادَ يَوْمَئِذٍ بِبُحْرَةِ الرّغَاءِ حِينَ نَزَلَهَا ، بِدَمٍ وَهُوَ أَوّلُ دَمٍ أُقِيدَ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ ، فَقَتَلَهُ بِهِ وَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ بِلِيّةَ بِحِصْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ فَهُدِمَ ثُمّ سَلَكَ فِي طَرِيقٍ يُقَالُ لَهَا : الضّيّقَةُ ، فَلَمّا تَوَجّهَ فِيهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ سَأَلَ عَنْ اسْمِهَا ، فَقَالَ " مَا اسْم هَذِهِ الطّرِيقِ ؟ " فَقِيلَ لَهُ الضّيّقَةُ ، فَقَالَ " بَلْ هِيَ الْيُسْرَى " ، ثُمّ خَرَجَ مِنْهَا عَلَى نَخْبٍ حَتّى نَزَلَ تَحْتَ سِدْرَةٍ يُقَالُ لَهَا : الصّادِرَةُ ، قَرِيبًا مِنْ مَالِ رَجُلٍ مِنْ ثَقِيفٍ ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إمّا أَنْ تُخْرِجَ وَإِمّا أَنْ نُخَرّبَ عَلَيْك حَائِطَك فَأَبَى أَنْ يُخْرِجَ فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِإِخْرَابِهِ . ثُمّ مَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى نَزَلَ قَرِيبًا مِنْ الطّائِفِ ، فَضَرَبَ بِهِ عَسْكَرَهُ فَقُتِلَ بِهِ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالنّبْلِ وَذَلِكَ أَنّ الْعَسْكَرَ اقْتَرَبَ مِنْ حَائِطِ الطّائِفِ ، فَكَانَتْ النّبْلُ تَنَالُهُمْ وَلَمْ يَقْدِرْ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنْ يَدْخُلُوا حَائِطَهُمْ أَغْلَقُوهُ دُونَهُمْ فَلَمّا أُصِيبَ أُولَئِكَ النّفَرُ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالنّبْلِ وَضَعَ عَسْكَرَهُ عِنْدَ مَسْجِدِهِ الّذِي بِالطّائِفِ الْيَوْمَ فَحَاصَرَهُمْ بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً . [ ص 255 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ سَبْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمَعَهُ امْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِهِ إحْدَاهُمَا أُمّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيّةَ ضَرَبَ لَهُمَا قُبّتَيْنِ ثُمّ صَلّى بَيْنَ الْقُبّتَيْنِ . ثُمّ أَقَامَ فَلَمّا أَسْلَمَتْ ثَقِيفٌ بَنَى عَلَى مُصَلّى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ بْنِ وَهْبِ بْنِ مُعَتّبِ بْنِ مَالِكٍ مَسْجِدًا ، وَكَانَتْ فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ سَارِيَةٌ فِيمَا يَزْعُمُونَ لَا تَطْلُعُ الشّمْسُ عَلَيْهَا يَوْمًا مِنْ الدّهْرِ إلّا سُمِعَ لَهَا نَقِيضٌ فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَاتَلَهُمْ قِتَالًا شَدِيدًا ، وَتَرَامَوْا النّبْلَ .

أَوّلُ مَنْ رَمَى بِالْمَنْجَنِيقِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَرَمَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْمَنْجَنِيقِ . حَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَوّلُ مَنْ رَمَى فِي الْإِسْلَامِ بِالْمَنْجَنِيقِ رَمَى أَهْلَ الطّائِفِ .
يَوْمَ الشّدْخَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَتّى إذَا كَانَ يَوْمَ الشّدْخَةِ عِنْدَ جِدَارِ الطّائِفِ ، دَخَلَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَحْتَ دَبّابَةٍ ثُمّ زَحَفُوا بِهَا إلَى جِدَارِ الطّائِفِ لِيُحَرّقُوهُ فَأَرْسَلَتْ عَلَيْهِمْ ثَقِيفٌ سِكَكَ الْحَدِيدِ مُحْمَاةً بِالنّارِ فَخَرَجُوا مِنْ تَحْتِهَا ، فَرَمَتْهُمْ ثَقِيفٌ بِالنّبْلِ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ رِجَالًا ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِقَطْعِ أَعْنَابِ ثَقِيفٍ ، فَوَقَعَ النّاسُ فِيهَا يَقْطَعُونَ .
Sأَوّلُ مَنْ رَمَى بِالْمَنْجَنِيقِ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَالْإِسْلَامِ
[ ص 255 ] وَذَكَرَ حِصَارَ الطّائِفِ ، وَأَنّ أَوّلَ مَنْ رَمَى بِالْمَنْجَنِيقِ فِي الْإِسْلَامِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ الْمُؤَلّفُ وَأَمّا فِي الْجَاهِلِيّةِ فَيُذْكَرُ أَنّ جَذِيمَةَ بْنَ مَالِكِ بْنِ فَهْمِ بْنِ غَنْمِ بْنِ دَوْسٍ ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِالْأَبْرَشِ أَوّلُ مَنْ رَمَى بِالْمَنْجَنِيقِ وَكَانَ مِنْ مُلُوكِ الطّوَائِفِ وَكَانَ يُرْعَفُ بِالْوَضّاحِ وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا : مُنَادِمُ الْفَرْقَدَيْنِ لِأَنّهُ رَبَأَ بِنَفْسِهِ عَنْ مُنَادَمَةِ النّاسِ فَكَانَ إذَا شَرِبَ نَادَمَ الْفَرْقَدَيْنِ عَجَبًا بِنَفْسِهِ ثُمّ نَادَمَ بَعْدَ ذَلِكَ مَالِكًا وَعُقَيْلًا اللّذَيْنِ يَقُولُ فِيهِمَا مُتَمّمُ [ بْنُ نُوَيْرَةَ يَرْثِي أَخَاهُ مَالِكًا ] :
وَكُنّا كَنَدْمَانَيْ جَذِيمَةَ حِقْبَةً ... مِنْ الدّهْرِ حَتّى قِيلَ لَنْ يَتَصَدّعَا
وَيُذْكَرُ أَيْضًا أَنّهُ أَوّلُ مَنْ أَوْقَدَ الشّمْعَ .

بَيْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَثَقِيفٍ
[ ص 256 ] أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ إلَى الطّائِفِ ، فَنَادَيَا ثَقِيفًا : أَنْ أَمّنُونَا حَتّى نُكَلّمَكُمْ فَأَمّنُوهُمَا ، فَدَعَوَا نِسَاءً مِنْ نِسَاءٍ مِنْ قُرَيْشٍ وَبَنِيّ كِنَانَةَ لَيَخْرُجُنّ إلَيْهِمَا ، وَهُمَا يَخَافَانِ عَلَيْهِنّ السّبَاءَ فَأَبَيْنَ مِنْهُنّ آمِنَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ كَانَتْ عِنْدَ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ لَهُ مِنْهَا دَاوُدُ بْنُ عُرْوَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ إنّ أُمّ دَاوُدَ مَيْمُونَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ ، وَكَانَتْ عِنْدَ أَبِي مُرّةَ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ فَوَلَدَتْ لَهُ دَاوُدَ بْنَ أَبِي مُرّةَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَالْفِرَاسِيّةُ بِنْتُ سُوَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ ثَعْلَبَةَ ، لَهَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنِ قَارِبٍ ، وَالْفَقِيمِيّةُ أُمَيْمَةُ بِنْتُ النّاسِئِ أُمَيّة بْن قُلْع ؛ فَلَمّا أَبَيْنَ عَلَيْهِمَا ، قَالَ لَهُمَا ابْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ يَا أَبَا سُفْيَانَ وَيَا مُغِيرَةُ أَلَا أَدُلّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمّا جِئْتُمَا لَهُ إنّ مَالَ بَنِي الْأَسْوَدِ بْنِ مَسْعُودٍ حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمَا ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطّائِفِ ، نَازِلًا بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ الْعَقِيقُ ، إنّهُ لَيْسَ بِالطّائِفِ مَالٌ أَبْعَدُ رِشَاءً وَلَا أَشَدّ مُؤْنَةً وَلَا أَبْعَدُ عِمَارَةً مِنْ مَالِ بَنِي الْأَسْوَدِ وَإِنّ مُحَمّدًا إنْ قَطَعَهُ لَمْ يُعْمَرْ أَبَدًا ، فَكَلّمَاهُ فَلْيَأْخُذْ لِنَفْسِهِ أَوْ لِيَدْعُهُ لِلّهِ وَلِلرّحِمِ فَإِنّ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ مِنْ الْقَرَابَةِ مَا لَا يُجْهَلُ فَزَعَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَرَكَهُ لَهُمْ

تَفْسِيرُ أَبِي بَكْرٍ لِرُؤْيَا الرّسُولِ
[ ص 257 ] رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ وَهُوَ مُحَاصِرٌ ثَقِيفًا : يَا أَبَا بَكْرٍ ، إنّي رَأَيْت أَنّي أُهْدِيَتْ لِي قُعْبَةٌ مَمْلُوءَةٌ زَيْدًا ، فَنَقَرَهَا دِيكٌ فَهَرَاقَ مَا فِيهَا . فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : مَا أَظُنّ أَنْ تُدْرِكَ مِنْهُمْ يَوْمَك هَذَا مَا تُرِيدُ . فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنَا لَا أَرَى ذَلِكَ
سَبَبُ ارْتِحَالِ الْمُسْلِمِينَ
ثُمّ إنّ خُوَيْلَةَ بِنْتَ حَكِيمِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ الْأَوْقَصِ السّلَمِيّةَ وَهِيَ امْرَأَةُ عُثْمَانَ قَالَتْ يَا رَسُولَ اللّهِ أَعْطِنِي إنْ فَتَحَ اللّهُ عَلَيْك الطّائِفَ حُلِيّ بَادِيَةَ ابْنَةَ غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ أَوْ حُلِيّ الْفَارِعَةِ بِنْتِ عُقَيْلٍ وَكَانَتَا مِنْ أَحْلَى نِسَاءِ ثَقِيفٍ . [ ص 258 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَهَا : وَإِنْ كَانَ لَمْ يُؤْذَنْ لِي فِي ثَقِيفٍ يَا خُوَيْلَةُ ؟ " فَخَرَجَتْ خُوَيْلَةُ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِعُمَرِ بْنِ الْخَطّابِ فَدَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ مَا حَدِيثٌ حَدّثَتْنِيهِ خُوَيْلَةُ زَعَمَتْ أَنّك قُلْته ؟ قَالَ " قَدْ قُلْته " ؛ قَالَ أَوَمَا أُذِنَ لَك فِيهِمْ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ " لَا " . قَالَ أَفَلَا أُؤَذّنُ بِالرّحِيلِ ؟ قَالَ " بَلَى " . قَالَ فَأَذّنَ عُمَرُ بِالرّحِيلِ
Sغَيْلَانُ بْنُ سَلَمَةَ
[ ص 256 ] وَذَكَرَ حُلِيّ بَادِيَةَ بِنْتِ غَيْلَانَ وَهُوَ غَيْلَانُ بْنُ سَلَمَةَ الثّقَفِيّ ، وَهُوَ الّذِي أَسْلَمَ ، وَعِنْدَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ فَأَمَرَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يُمْسِكَ أَرْبَعًا ، وَيُفَارِقَ سَائِرَهُنّ فَقَالَ فُقَهَاءُ الْحِجَازِ : يَخْتَارُ أَرْبَعًا ، وَقَالَ فُقَهَاءُ الْعِرَاقِ : بَلْ يُمْسِكُ الّتِي تَزَوّجَ أَوّلًا ، ثُمّ الّتِي تَلِيهَا إلَى الرّابِعَةِ وَاحْتَجّ فُقَهَاءُ الْحِجَازِ بِأَنّ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يَسْتَفْصِلْهُ أَيّتَهنّ تَزَوّجَ أَوّلَ وَتَرْكُهُ لِلِاسْتِفْصَالِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّهُ مُخَيّرٌ حَتّى جَعَلَ الْأُصُولِيّونَ مِنْهُمْ هَذَا أَصْلًا مِنْ أُصُولِ الْعُمُومِ فَقَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي كِتَابِ الْبُرْهَانِ تَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ فِي حِكَايَاتِ الْأَحْوَالِ مَعَ الِاحْتِمَالِ يَتَنَزّلُ مَنْزِلَةَ الْعُمُومِ فِي الْمَقَالِ كَحَدِيثِ غَيْلَانَ . وَغَيْلَانُ هَذَا هُوَ الّذِي قُدّمَ عَلَى كِسْرَى ، فَسَأَلَهُ أَيّ وَلَدِهِ أَحَبّ إلَيْهِ ؟ فَقَالَ غَيْلَانُ الْغَائِبُ حَتّى يَقْدَمَ وَالْمَرِيضُ حَتّى يُفِيقَ وَالصّغِيرُ حَتّى يَكْبُرَ فَقَالَ لَهُ كِسْرَى : مَا غِذَاؤُك فِي بَلَدِك ؟ قَالَ الْخُبْزُ . قَالَ هَذَا عَقْلُ الْخُبْزِ تَفْضِيلًا لِعَقْلِهِ عَلَى عُقُولِ أَهْلِ الْوَرّ [ ص 257 ] وَنَسَبَ الْمُبَرّدُ هَذِهِ الْحِكَايَةَ مَعَ كِسْرَى إلَى هَوْذَةَ بْنِ عَلِيّ الْحَنَفِيّ ، وَالصّحِيحُ عِنْدَ الْإِخْبَارِيّينَ مَا قَدّمْنَاهُ وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْفَرَجِ .
بَادِيَةُ بِنْتُ غَيْلَانَ
وَأَمّا بَادِيَةُ ابْنَتُهُ فَقَدْ قِيلَ فِيهَا : بَادِنَةُ بِالنّونِ وَالصّحِيحُ بِالْيَاءِ وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ وَهِيَ الّتِي قَالَ فِيهَا هِيتٌ الْمُخَنّثُ لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي أُمَيّةَ إنْ فَتَحَ اللّهُ عَلَيْكُمْ الطّائِفَ ، فَإِنّي أَدُلّك عَلَى بَادِيَةَ بِنْتِ غَيْلَانَ فَإِنّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ فَسَمِعَهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ " قَاتَلَك اللّهُ لَقَدْ أَمْعَنْت النّظَرَ وَقَالَ لَا يَدْخُلَنّ هَؤُلَاءِ عَلَيْكُنّ " ثُمّ نَفَاهُ إلَى رَوْضَةِ خَاخٍ فَقِيلَ إنّهُ يَمُوتُ بِهَا جُوعًا فَأَذِنَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ الْمَدِينَةَ كُلّ جُمُعَةٍ يَسْأَلُ النّاسَ وَيُرْوَى فِي الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ لَمْ تَقَعْ فِي الصّحِيحِ بَعْدَ قَوْلِهِ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ مَعَ ثَغْرٍ كَالْأُقْحُوَانِ إنْ قَامَتْ تَثَنّتْ وَإِنْ قَعَدَتْ تَبَنّتْ وَإِنْ تَكَلّمَتْ تَغَنّتْ يَعْنِي مِنْ الْغُنّةِ وَالْأَصْلُ تَغَنّنَتْ فَقُلِبَتْ إحْدَى النّونَيْنِ يَاءً وَهِيَ هَيْفَاءُ شَمُوعٌ نَجْلَاءُ كَمَا قَالَ قَيْسُ بْنُ الْخَطِيمِ
بَيْضَاءُ فَرْعَاءٌ يُسْتَضَاءُ بِهَا ... كَأَنّهَا خُوطُ بَانَةٍ قَصِفُ
تَنْتَرِقُ الطّرْفَ وَهِيَ لَاهِيَةٌ ... كَأَنّمَا شَفّ وَجْهَهَا نُزَفُ
تَنَامُ عَنْ كِبْرِ شَأْنِهَا فَإِذَا قَا ... مَتْ رُوَيْدًا تَكَادُ تَنْغَرِفُ
[ ص 258 ] دُرَيْدٍ أَعْنِي قَوْلَهُ تُغْتَرَقُ فَقَالَ هُوَ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ حَتّى هُجّيَ بِذَلِكَ فَقِيلَ
أَلَسْت قِدْمًا جَعَلْت تَعْتَرِقُ الْ ... طَرْفَ بِجَهْلِ مَكَانٍ تَغْتَرِقُ
وَقُلْت : كَانَ الْخِبَاءُ مِنْ أَدَمٍ ... وَهُوَ حِبَاءٌ يُهْدَى وَيُصْطَدَقُ
وَكَانَ صَحّفَ أَيْضًا قَوْلَ مُهَلْهَلٍ فَقَالَ فِيهِ الْخِبَاءُ وَبَادِيَةُ هَذِهِ كَانَتْ تَحْتَ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ ، فَوَلَدَتْ لَهُ جُوَيْرِيَةَ وَهِيَ امْرَأَةُ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ .
الْمُخَنّثُونَ الّذِينَ كَانُوا بِالْمَدِينَةِ
وَكَانَ الْمُخَنّثُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَرْبَعَةً هِيتٌ هَذَا ، وَهَرِمٌ وَمَاتِعٌ وَإِنْهٌ وَلَمْ يَكُونُوا يَزْنُونَ بِالْفَاحِشَةِ الْكُبْرَى ، وَإِنّمَا كَانَ تَأْنِيثُهُمْ لِينًا فِي الْقَوْلِ وَخِضَابًا فِي الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ كَخِضَابِ النّسَاءِ وَلَعِبًا كَلَعِبِهِنّ وَرُبّمَا لَعِبَ بَعْضُهُمْ بِالْكُرّجِ وَفِي مَرَاسِيلِ أَبِي دَاوُدَ أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ رَأَى لَاعِبًا يَلْعَبُ بِالْكُرّجِ فَقَالَ " لَوْلَا أَنّي رَأَيْت هَذَا يَلْعَبُ بِهِ عَلَى عَهْدِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَنَفَيْته مِنْ الْمَدِينَةِ " .

عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ
فَلَمّا اسْتَقَلّ النّاسُ نَادَى سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ أُسَيْدِ بْنِ أَبِي عَمْرِو بْنِ عَلّاجٍ أَلَا إنّ الْحَيّ مُقِيمٌ . قَالَ يَقُولُ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ : أَجَلْ وَاَللّهِ مُجِدّةً كِرَامًا ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَاتَلَك اللّهُ يَا عُيَيْنَةُ ، أَتَمْدَحُ الْمُشْرِكِينَ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ جِئْت تَنْصُرُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ إنّي وَاَللّهِ مَا جِئْت لِأُقَاتِلَ ثَقِيفًا مَعَكُمْ وَلَكِنّي أَرَدْت أَنْ يَفْتَحَ [ ص 259 ] الطّائِفَ ، فَأُصِيبَ مِنْ ثَقِيفٍ جَارِيَةً أَتّطِئُهَا ، لَعَلّهَا تَلِدُ لِي رَجُلًا ، فَإِنّ ثَقِيفًا قَوْمٌ مَنَاكِيرُ . وَنَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي إقَامَتِهِ مِمّنْ كَانَ مُحَاصَرًا بِالطّائِفِ عَبِيدٌ ، فَأَسْلَمُوا ، فَأَعْتَقَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
Sعُيَيْنَةُ
وَذَكَرَ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ ، وَاسْمُهُ حُذَيْفَةُ وَإِنّمَا قِيلَ لَهُ عُيَيْنَةُ لِشَتْرٍ كَانَ بِعَيْنِهِ .

الْعَبِيدُ الّذِينَ نَزَلُوا مِنْ حِصْنِ الطّائِفِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُكَدّمٍ عَنْ رِجَالٍ مِنْ ثَقِيفٍ ، قَالُوا : لَمّا أَسْلَمَ أَهْلُ الطّائِفِ تَكَلّمَ نَفَرٌ مِنْهُمْ فِي أُولَئِكَ الْعَبِيدِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا ، أُولَئِكَ عُتَقَاءُ اللّهِ وَكَانَ مِمّنْ تَكَلّمَ فِيهِمْ الْحَارِثُ بْنُ كَلَدَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَدْ سَمّى ابْنُ إسْحَاقَ مَنْ نَزَلَ مِنْ أُولَئِكَ الْعَبِيدِ .
Sالْعَبِيدُ الّذِينَ نَزَلُوا مِنْ حِصْنِ الطّائِفِ
[ ص 259 ] وَذَكَرَ الْعَبِيدَ الّذِينَ نَزَلُوا مِنْ الطّائِفِ ، وَلَمْ يُسَمّهِمْ وَمِنْهُمْ أَبُو بَكْرَةَ نُفَيْعُ بْنُ مَسْرُوحٍ تَدَلّى مِنْ سُوَرِ الطّائِفِ عَلَى بَكْرَةٍ فَكُنّيَ أَبَا بَكْرَةَ وَهُوَ مِنْ أَفَاضِلِ الصّحَابَةِ وَمَاتَ بِالْبَصْرَةِ وَمِنْهُمْ الْأَزْرَقُ وَكَانَ عَبْدًا لِلْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ الْمُتَطَبّبُ وَهُوَ زَوْجُ سُمَيّةَ مَوْلَاةِ الْحَارِثِ أُمّ زِيَادِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ وَأُمّ سَلَمَةَ بْنِ الْأَزْرَقِ وَبَنُو سَلَمَةَ بْنُ الْأَزْرَقِ وَلَهُمْ صِيتٌ وَذِكْرٌ بِالْمَدِينَةِ وَقَدْ انْتَسَبُوا إلَى غَسّانَ ، وَغَلِطَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي الْمَعَارِفِ فَجَعَلَ سُمَيّةَ هَذِهِ الْمَذْكُورَةَ أُمّ عَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ ، وَجَعَلَ سَلَمَةَ بْنَ الْأَزْرَقِ أَخَا عَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ لِأُمّهِ وَقَدْ ذَكَرَ أَنّ الْأَزْرَقَ خَرَجَ مِنْ الطّائِفِ ، فَأَسْلَمَ وَسُمَيّةُ قَدْ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ قَتَلَهَا أَبُو جَهْلٍ وَهِيَ إذْ ذَاكَ تَحْتَ يَاسِرٍ أَبِي عَمّارٍ كَمَا تَقَدّمَ فِي بَابِ الْمَبْعَثِ فَتَبَيّنَ غَلَطُ ابْنِ قُتَيْبَةَ وَوَهْمُهُ وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو عُمَرَ النّمِرِيّ كَمَا قُلْت . وَمِنْ أُولَئِكَ الْعَبِيدِ الْمُنْبَعِثُ وَكَانَ اسْمُهُ الْمُضْطَجِعُ فَبَدّلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اسْمَهُ وَكَانَ عَبْدًا لِعُثْمَانِ بْنِ عَامِرِ بْنِ مُعَتّبٍ . وَمِنْهُمْ يُحَنّسُ النّبّالُ وَكَانَ عَبْدًا لِبَعْضِ آلِ يَسَارٍ . [ ص 260 ] الْفُرَاتِ بْنِ زَيْدِ بْنِ وَرْدَان ، وَكَانَ لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ خَرَشَةَ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ جَابِرٍ وَكَانَ أَيْضًا لِخَرَشَةَ وَجَعَلَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَلَاءَ هَؤُلَاءِ الْعَبِيدِ لِسَادَتِهِمْ حِينَ أَسْلَمُوا . كُلّ هَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ . وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ فِيهِمْ نَافِعَ بْنَ مَسْرُوحٍ ، وَهُوَ أَخُو نُفَيْعِ أَبِي بَكْرَةَ وَيُقَالُ فِيهِ وَفِي أَخِيهِ ابْنِ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ . وَذَكَرَ ابْنُ سَلَامٍ فِيهِمْ نَافِعًا مَوْلَى غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ الثّقَفِيّ ، وَذَكَرَ أَنّ وَلَاءَهُ رَجَعَ إلَى غَيْلَانَ حِينَ أَسْلَمَ وَأَحْسَبُهُ وَهْمًا مِنْ ابْنِ سَلَامٍ أَوْ مِمّنْ رَوَاهُ عَنْهُ وَإِنّمَا الْمَعْرُوفُ نَافِعُ بْنُ غَيْلَانَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

شِعْرُ الضّحّاكِ وَمَوْضُوعُهُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 260 ] وَقَدْ كَانَتْ ثَقِيفٌ أَصَابَتْ أَهْلًا لِمَرْوَانَ بْنِ قَيْسٍ الدّوْسِيّ وَكَانَ قَدْ أَسْلَمَ ، وَظَاهَرَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى ثَقِيفٍ ، فَزَعَمَتْ ثَقِيفٌ ، وَهُوَ الّذِي تَزْعُمُ بِهِ ثَقِيفٌ أَنّهَا مِنْ قَيْسٍ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لِمَرْوَانَ بْنِ قَيْسٍ : خُذْ يَا مَرْوَانُ بِأَهْلِك أَوّلَ رَجُلٍ مِنْ قَيْسٍ تَلْقَاهُ فَلَقِيَ أُبَيّ بْنَ مَالِكٍ الْقُشَيْرِيّ ، فَأَخَذَهُ حَتّى يُؤَدّوا إلَيْهِ أَهْلَهُ فَقَامَ فِي ذَلِكَ الضّحّاكُ بْنُ سُفْيَانَ الْكِلَابِيّ ، فَكَلّمَ ثَقِيفًا حَتّى أَرْسَلُوا أَهْلَ مَرْوَانَ وَأَطْلَقَ لَهُمْ أُبَيّ بْنَ مَالِكٍ فَقَالَ الضّحّاكُ بْنُ سُفْيَانَ فِي شَيْءٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُبَيّ بْنِ مَالِكٍ
أَتَنْسَى بَلَائِي يَا أُبَيّ بْنَ مَالِكٍ ... غَدَاةَ الرّسُولُ مُعْرِضٌ عَنْك أَشْوَسُ
يَقُودُك مَرْوَانُ بْنُ قَيْسٍ بِحَبْلِهِ ... ذَلِيلًا كَمَا قِيدَ الذّلُولُ الْمُخَيّسُ
فَعَادَتْ عَلَيْك مِنْ ثَقِيفٍ عِصَابَةٌ ... مَتَى يَأْتِهِمْ مُسْتَقْبِسُ الشّرّ يُقْبَسُوا
فَكَانُوا هُمْ الْمَوْلَى فَعَادَتْ حُلُومُهُمْ ... عَلَيْك وَقَدْ كَادَتْ بِك النّفْسُ تَيْأَسُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : " يُقْبَسُوا " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ .

الشّهَدَاءُ فِي يَوْمِ الطّائِفِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : هَذِهِ تَسْمِيَةُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمَ الطّائِفِ : مِنْ قُرَيْشٍ ، ثُمّ مِنْ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ : سَعِيدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ ، وَعُرْفُطَةُ بْنُ جَنّابٍ حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ الْأَسَدِ بْنِ الْغَوْثِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ ابْنُ حُبَابٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرّةَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقُ ، رُمِيَ بِسَهْمٍ فَمَاتَ مِنْهُ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . [ ص 261 ] بَنِي مَخْزُومٍ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، مِنْ رَمْيَةٍ رُمِيَهَا يَوْمَئِذٍ . وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ : عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ ، حَلِيفٌ لَهُمْ . وَمِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرٍو : السّائِبُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ ، وَأَخُوهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْحَارِثِ . وَمِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ لَيْثٍ جُلَيْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ . وَاسْتُشْهِدَ مِنْ الْأَنْصَارِ : مِنْ بَنِي سَلِمَةَ ثَابِتُ بْنُ الْجَذَعِ . وَمِنْ بَنِي مَازِنِ بْنِ النّجّارِ الْحَارِثُ بْنُ سَهْلِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ . وَمِنْ بَنِي سَاعِدَةَ الْمُنْذِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ . وَمِنْ الْأَوْسِ : رُقَيْمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ لَوْذَان بْنِ مُعَاوِيَةَ . فَجَمِيعُ مَنْ اُسْتُشْهِدَ بِالطّائِفِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا ، سَبْعَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ ، وَأَرْبَعَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ ، وَرَجُلٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ .

قَصِيدَةُ بُجَيْرٍ فِي حُنَيْنٍ وَالطّائِفِ
فَلَمّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ الطّائِفِ بَعْدَ الْقِتَالِ وَالْحِصَارِ قَالَ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرِ بْن أَبِي سُلْمَى يَذْكُرُ حُنَيْنًا وَالطّائِفَ [ ص 262 ]
كَانَتْ عُلَالَةُ يَوْمَ بَطْنِ حُنَيْنٍ ... وَغَدَاةَ أَوْطَاسٍ وَيَوْمَ الْأَبْرَقِ
جَمَعَتْ بِإِغْوَاءٍ هَوَازِنُ جَمْعَهَا ... فَتَبَدّوْا كَالطّائِرِ الْمُتَمَزّقِ
لَمْ يَمْنَعُوا مِنّا مَقَامًا وَاحِدًا ... إلّا جِدَارَهُمْ وَبَطْنَ الْخَنْدَقِ
وَلَقَدْ تَعَرّضْنَا لِكَيْمَا يَخْرُجُوا ... فَتَحَصّنُوا مِنّا بِبَابٍ مُغْلَقِ
تَرْتَدّ حَسْرَانَا إلَى رَجْرَاجَةٍ ... شَهْبَاءَ تَلْمَعُ بِالْمَنَايَا فَيْلَقِ
مَلْمُومَةٌ خَضْرَاءَ لَوْ قَذَفُوا بِهَا ... حَضَنًا لَظَلّ كَأَنّهُ لَمْ يُخْلَقْ
مَشْيَ الضّرَاءِ عَلَى الْهَرَاسِ كَأَنّنَا ... قُدُرٌ تَفَرّقُ فِي الْقِيَادِ وَتَلْتَقِي
فِي كُلّ سَابِغَةٍ إذَا مَا اسْتَحْصَنَتْ ... كَالنّهْيِ هَبّتْ رِيحُهُ الْمُتَرَقْرِقِ
جُدُلٌ تَمَسّ فُضُولَهُنّ نِعَالُنَا ... مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ وَآلِ مُحَرّقِ
Sمِنْ نَسَبِ بُجَيْرِ بْنِ زُهَيْرٍ
[ ص 261 ] وَذَكَرَ شِعْرَ بُجَيْرِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى ، وَاسْمُ أَبِي سُلْمَى : رَبِيعَةُ ، وَهُوَ مِنْ بَنِي لَاطِمِ بْنِ عُثْمَانَ وَهِيَ مُزَيْنَةُ ، عُرِفُوا بِأُمّهِمْ وَقَدْ قَدّمْنَا أَنّهَا بِنْتُ كَلْبِ بْنِ وَبَرَةَ وَأَنّ أُخْتَهَا الْحَوْأَبُ وَبِهَا سُمّيَ مَاءُ الْحَوْأَبِ وَعُثْمَانُ هُوَ ابْنُ أَدّ بْنِ طَابِخَةَ .
حَوْلَ شِعْرِ بُجَيْرٍ
وَقَوْلُهُ كَانَتْ عُلَالَةُ يَوْمَ بَطْنِ حُنَيْنٍ
هَذَا مِنْ الْإِقْوَاءِ الّذِي تَقَدّمَ ذِكْرُهُ وَهُوَ أَنْ يُنْقِصَ حَرْفًا مِنْ آخِرِ الْقَسِيمِ الْأَوّلِ مِنْ الْكَامِلِ وَهُوَ الّذِي كَانَ الْأَصْمَعِيّ يُسَمّيهِ الْمُقْعَدُ . [ ص 262 ] كَانَتْ عُلَالَةَ . الْعُلَالَةُ جَرْيٌ بَعْدَ جَرْيٍ أَوْ قِتَالٌ بَعْدَ قِتَالٍ يُرِيدُ أَنّ هَوَازِنَ جَمَعَتْ جَمْعَهَا عُلَالَةً فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَحُذِفَ التّنْوِينُ مِنْ عُلَالَةَ ضَرُورَةً وَأُضْمِرَ فِي كَانَتْ اسْمُهَا ، وَهُوَ الْقِصّةُ وَإِنْ كَانَتْ الرّوَايَةُ بِخَفْضِ يَوْمٍ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْتِزَامِ الضّرُورَةِ الْقَبِيحَةِ بِالنّصْبِ وَلَكِنّ أَلْفِيّتَهُ فِي النّسْخَةِ الْمُقَيّدَةِ وَإِذَا كَانَ الْيَوْمُ مَخْفُوضًا بِالْإِضَافَةِ جَازَ فِي عُلَالَةَ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى خَبَرِ كَانَ فَيَكُونُ اسْمُهَا عَائِدًا عَلَى شَيْءٍ تَقَدّمَ ذِكْرُهُ وَيَجُوزُ الرّفْعُ فِي عُلَالَةَ مَعَ إضَافَتِهَا إلَى يَوْمٍ عَلَى أَنْ تَكُونَ كَانَ تَامّةً مُكْتَفِيَةً بِاسْمٍ وَاحِدٍ وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَهَا اسْمًا عَلَمًا لِلْمَصْدَرِ مِثْلَ بَرّةَ وَفَجَارِ وَيُنْصَبُ يَوْمٌ عَلَى الظّرْفِ كَمَا تَقَيّدَ فِي النّسْخَةِ . وَقَوْلُهُ تَرْتَدّ حَسْرَانَا ، جَمْعُ : حَسِيرٍ وَهُوَ الْكَلِيلُ . وَالرّجْرَاجَةُ الْكَتِيبَةُ الضّخْمَةُ مِنْ الرّجْرَجَةِ وَهِيَ شِدّةُ الْحَرَكَةِ وَالِاضْطِرَابِ . وَفَيْلَقٌ مِنْ الْفِلْقِ وَهِيَ الدّاهِيَةُ . وَالْهَرَاسُ شَوْكٌ مَعْرُوفٌ وَالضّرَاءُ الْكِلَابُ وَهِيَ إذَا مَشَتْ فِي الْهَرَاسِ ابْتَغَتْ لِأَيْدِيهَا مَوْضِعًا ، ثُمّ تَضَعُ أَرْجُلَهَا فِي مَوْضِعِ أَيْدِيهَا ، شَبّهَ الْخَيْلَ بِهَا . وَالْفُدُرُ الْوُعُولُ الْمُسِنّةُ . وَالنّهِيءُ الْغَدِيرُ ، سُمّيَ بِذَلِكَ لِأَنّهُ مَاءٌ نَهَاهُ مَا ارْتَفَعَ مِنْ الْأَرْضِ عَنْ السّيَلَانِ فَوَقَفَ . وَقَوْلُهُ جُدُلٌ جَمْعُ جَدْلَاءَ وَهِيَ الشّدِيدَةُ الْفَتْلِ وَمَنْ رَوَاهُ جَدْلٌ فَمَعْنَاهُ ذَاتُ جَدْلٍ . وَقَوْلُهُ وَآل مُحَرّقِ يَعْنِي عُمَرَ بْنِ هِنْدَ مَلِكَ الْحِيرَةِ ، وَقَدْ تَقَدّمَ فِي أَوّلِ الْكِتَابِ سَبَبُ تَسْمِيَتِهِ بِمُحَرّقٍ وَفِي زَمَانِهِ وُلِدَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيمَا ذَكَرُوا - وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

أَمْرُ أَمْوَالِ هَوَازِنَ وَسَبَايَاهَا وَعَطَايَا الْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ
مِنْهَا وَإِنْعَامُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِيهَا
[ ص 263 ] خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ انْصَرَفَ عَنْ الطّائِفِ عَلَى دَحْنَا حَتّى نَزَلَ الْجِعْرَانَةَ فِيمَنْ مَعَهُ مِنْ النّاسِ وَمَعَهُ مِنْ هَوَازِنَ سَبْيٌ كَثِيرٌ وَقَدْ قَالَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَوْمَ ظَعَنَ عَنْ ثَقِيفٍ : يَا رَسُولَ اللّهِ اُدْعُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اللّهُمّ اهْدِ ثَقِيفًا وَأْتِ بِهِمْ . ثُمّ أَتَاهُ وَفْدُ هَوَازِنَ بِالْجِعْرَانَةِ وَكَانَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ سَبْيِ هَوَازِنَ سِتّةُ آلَافٍ مِنْ الذّرَارِيّ وَالنّسَاءِ وَمِنْ الْإِبِلِ وَالشّاءِ مَا لَا يُدْرَى مَا عِدّتُهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو : [ ص 264 ] أَنّ وَفْدَ هَوَازِنَ أَتَوْا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَدْ أَسْلَمُوا ، فَقَالُوا : يَا رَسُولُ إنّا أَصْلٌ وَعَشِيرَةٌ ، وَقَدْ أَصَابَنَا مِنْ الْبَلَاءِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْك ، فَامْنُنْ عَلَيْنَا ، مَنّ اللّهُ عَلَيْك . قَالَ وَقَامَ رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ ، ثُمّ أَحَدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ، يُقَالُ لَهُ زُهَيْرٌ يُكَنّى أَبَا صُرَدٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّمَا فِي الْحَظَائِرِ عَمّاتُك وَخَالَاتُك وَحَوَاضِنُك اللّاتِي كُنّ يَكْفُلْنَك ، وَلَوْ أَنّا مَلَحْنَا لِلْحَارِثِ بْنِ أَبِي شَمِرٍ ، أَوْ النّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ ، ثُمّ نَزَلَ مِنّا بِمِثْلِ الّذِي نَزَلْت بِهِ رَجَوْنَا عَطْفَهُ وَعَائِدَتَهُ عَلَيْنَا ، وَأَنْتَ خَيْرُ الْمَكْفُولِينَ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُرْوَى : وَلَوْ أَنّا مَالَحْنَا الْحَارِثَ بْنَ أَبِي شَمِرٍ ، أَوْ النّعْمَانَ بْنَ الْمُنْذِرِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بْنَاؤُكُمْ وَنِسَاؤُكُمْ أَحَبّ إلَيْكُمْ أَمْ أَمْوَالُكُمْ ؟ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللّهِ خَيّرْتنَا بَيْنَ أَمْوَالِنَا وَأَحْسَابِنَا ، بَلْ تَرُدّ إلَيْنَا نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا ، فَهُوَ أَحَبّ إلَيْنَا ، فَقَالَ لَهُمْ أَمّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ وَإِذَا مَا أَنَا صَلّيْت الظّهْرَ بِالنّاسِ فَقُومُوا فَقُولُوا : إنّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللّهِ إلَى الْمُسْلِمِينَ وَبِالْمُسْلِمِينَ إلَى رَسُولِ اللّهِ فِي أَبْنَائِنَا وَنِسَائِنَا ، فَسَأُعْطِيكُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَأَسْأَلُ لَكُمْ فَلَمّا صَلّى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالنّاسِ الظّهْرَ قَامُوا فَتَكَلّمُوا بِاَلّذِي أَمَرَهُمْ بِهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَمّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ . فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ : وَمَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . وَقَالَتْ الْأَنْصَارُ : وَمَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . فَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ أَمّا أَنَا وَبَنُو تَمِيمٍ فَلَا . وَقَالَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ أَمّا أَنَا وَبَنُو فَزَارَةَ فَلَا . وَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ أَمّا أَنَا وَبَنُو سُلَيْمٍ فَلَا فَقَالَتْ بَنُو سُلَيْمٍ : بَلَى ، مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ يَقُولُ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ لِبَنِي سُلَيْمٍ وَهّنْتُمُونِي . [ ص 265 ] فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمّا مَنْ تَمَسّكَ مِنْكُمْ بِحَقّهِ مِنْ هَذَا السّبْيِ فَلَهُ بِكُلّ إنْسَانٍ سِتّ فَرَائِضَ مِنْ أَوّلِ سَبْيٍ أُصِيبُهُ فَرُدّوا إلَى النّاسِ أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ .
Sدَحْنَا وَمَسْحُ ظَهْرِ آدَمَ
[ ص 263 ] وَذَكَرَ انْصِرَافَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ الطّائِفِ عَلَى دَحْنَا . وَدَحْنَا هَذِهِ هِيَ الّتِي خُلِقَ مِنْ تُرْبِهَا آدَمُ صَلّى اللّهُ عَلَى نَبِيّنَا وَعَلَيْهِ وَفِي الْحَدِيثِ إنّ اللّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ دَحْنَا ، وَمَسَحَ ظَهْرَهُ بِنُعْمَانِ الْأَرَاكِ رَوَاهُ ابْنُ عَبّاسٍ ، وَكَانَ مَسْحُ ظَهْرِ آدَمَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ الْجَنّةِ بِاتّفَاقٍ مِنْ الرّوَايَاتِ وَاخْتَلَفَتْ الرّوَايَةُ فِي مَسْحِ ظَهْرِهِ فَرُوِيَ مَا تَقَدّمَ وَهُوَ أَصَحّ ، وَرُوِيَ أَنّ ذَلِكَ كَانَ فِي سَمَاءِ الدّنْيَا قَبْلَ هُبُوطِهِ إلَى الْأَرْضِ وَهُوَ قَوْلُ السّدّيّ ، وَكِلْتَا الرّوَايَتَيْنِ ذَكَرَهُمَا الطّبَرِيّ . وَقَوْلُهُ حَتّى نَزَلَ الْجِعْرَانَةَ ، بِسُكُونِ الْعَيْنِ فِيهَا هُوَ أَصَحّ الرّوَايَتَيْنِ وَقَدْ ذَكَرَ الْخَطّابِيّ أَنّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ يُشَدّدُونَ الرّاءَ وَقَدْ ذُكِرَ أَنّ الْمَرْأَةَ الّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوّةٍ كَانَتْ تُلَقّبُ بِالْجِعْرَانَةِ وَاسْمُهَا : رَيْطَةُ بِنْتُ سَعْدٍ وَأَنّ الْمَوْضِعَ يُسَمّى بِهَا ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
حَوْلَ قَوْلِ زُهَيْرٍ أَبِي صُرَدٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ زُهَيْرًا أَبَا صُرَدٍ وَقَوْلُهُ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَلَوْ أَنّا مَلَحْنَا لِلْحَارِثِ بْنِ أَبِي شَمِرٍ ، [ ص 264 ] أَرْضَعْنَا ، وَالْمِلْحُ الرّضَاعُ قَالَ الشّاعِرُ
فَلَا يُبْعِدُ اللّهُ رَبّ الْعِبَا ... دِ وَالْمِلْحُ مَا وَلَدَتْ خَالِدَهْ
هُمْ الْمُطْعِمُو الضّيْفَ شَحْمَ السّنَا ... مِ وَالْكَاسِرُ وَ اللّيْلَةِ الْبَارِدَهْ
وَهُمْ يَكْسِرُونَ صُدُورَ الْقَنَاِ ... بِالْخَيْلِ تُطْرَدُ أَوْ طَارِدَهْ
فَإِنْ يَكُنْ الْمَوْتُ أَفْنَاهُمْ ... فَلِلْمَوْتِ مَا تَلِدُ الْوَالِدَهْ
وَأَمّا زُهَيْرٌ الّذِي ذَكَرَهُ فَهُوَ ابْنُ صُرَدٍ يُكَنّى أَبَا صُرَدٍ وَقِيلَ أَبَا جَرْوَلَ ، وَكَانَ مِنْ رُؤَسَاءِ بَنِي جُشَمٍ وَلَمْ يَذْكُرْ ابْنُ إسْحَاقَ شِعْرَهُ فِي النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ذَلِكَ الْيَوْمَ فِي رِوَايَةِ الْبَكّائِيّ وَذَكَرَهُ فِي رِوَايَةِ إبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْهُ وَهُوَ [ ص 265 ]
أَمْنِنْ عَلَيْنَا رَسُولَ اللّهِ فِي كَرَمٍ ... فَإِنّك الْمَرْءُ نَرْجُوهُ وَنَنْتَظِرُ
اُمْنُنْ عَلَى بَيْضَةٍ قَدْ عَاقَهَا قَدَرٌ ... مُمَزّقٌ شَمْلَهَا فِي دَهْرِهَا غِيَرُ
يَا خَيْرَ طِفْلٍ وَمَوْلُودٍ وَمُنْتَخَبٍ ... فِي الْعَالَمِينَ إذَا مَا حُصّلَ الْبَشَرُ
إنْ لَمْ تُدَارِكْهُمْ نَعْمَاءُ تَنْشُرُهَا ... يَا أَرْجَحَ النّاسِ حِلْمًا حِينَ يُخْتَبَرُ
اُمْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْت تَرْضَعُهَا ... إذْ فُوك تَمْلَأُهُ مِنْ مَحْضِهَا الدّرَرُ
إذْ كُنْت طِفْلًا صَغِيرًا كُنْت تَرْضَعُهَا ... وَإِذْ يُزَيّنْكَ مَا تَأْتِي وَمَا تَدَرُ
لَا تَجْعَلَنّا كَمَنْ شَالَتْ نَعَامَتُهُ ... وَاسْتَبْقِ مِنّا مِنْهُ مَعْشَرٌ زُهْرُ
يَا خَيْرَ مَنْ مَرَحَتْ كُمْتُ الْجِيَادِ بِهِ ... عِنْدَ الْهِيَاجِ إذَا مَا اسْتَوْقَدَ الشّرَرُ
إنّا لَنَشْكُرُ آلَاءً وَإِنْ كُفِرَتْ ... وَعِنْدَنَا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ مُدّخَرُ
إنّا نُؤَمّلُ عَفْوًا مِنْك تَلْبَسُهُ ... هَذِي الْبَرِيّةِ إذْ تَعْفُو وَتَنْتَصِرُ
فَاغْفِرْ عَفَا اللّهُ عَمّا أَنْتَ رَاهِبُهُ ... يَوْمَ الْقِيَامَةِ إذْ يُهْدَى لَك الظّفَرُ
مِنْ أَحْكَامِ السّبَايَا
فَصْلٌ وَذَكَرَ رَدّ السّبَايَا إلَى هَوَازِنَ ، وَأَنّهُ مَنْ لَمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِالرّدّ عَوّضَهُ مِمّا كَانَ بِيَدِهِ وَاسْتَطَابَ نُفُوسَ الْبَاقِينَ وَذَلِكَ أَنّ الْمَقَاسِمَ كَانَتْ قَدْ وَقَعَتْ فِيهِمْ وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمُنّ عَلَى الْأَسْرَى بَعْدَ الْقَسْمِ وَيَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ الْمَقَاسِمِ كَمَا فَعَلَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِأَهْلِ خَيْبَرَ حِينَ مَنّ عَلَيْهِمْ وَتَرَكَهُمْ عُمّالًا لِلْمُسْلِمِينَ فِي أَرْضِهِمْ الّتِي افْتَتَحُوهَا عَنْوَةً كَذَلِكَ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ ، قَالَ وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَمُنّ عَلَيْهِمْ فَيَرُدّهُمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَلَكِنْ عَلَى أَنْ يُؤَدّوا الْجِزْيَةَ وَيَكُونُوا تَحْتَ حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ وَالْإِمَامُ مُخَيّرٌ فِي الْأَسْرَى بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْفِدَاءِ وَالْمَنّ وَالِاسْتِرْقَاقِ وَالْفِدَاءِ بِالنّفُوسِ لَا بِالْمَالِ كَذَلِكَ قَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ هَذَا فِي الرّجَالِ وَأَمّا الذّرَارِيّ وَالنّسَاءُ فَلَيْسَ إلّا الِاسْتِرْقَاقُ أَوْ الْمُفَادَاةُ بِالنّفُوسِ دُونَ الْمَالِ كَمَا تَقَدّمَ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي أَبُو وَجْزَةَ يَزِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ السّعْدِيّ : أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَعْطَى عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ جَارِيَةً يُقَالُ لَهَا : رَيْطَةُ بِنْتُ هِلَالِ بْنِ حَيّانَ بْنِ عُمَيْرَةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ نَاصِرَةَ بْنِ قُصَيّةَ بْنِ نَصْرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ، وَأَعْطَى عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ جَارِيَةً يُقَالُ لَهَا : زَيْنَبُ بِنْتُ حَيّانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَيّانَ ، وَأَعْطَى عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ جَارِيَةً فَوَهَبَهَا لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ ابْنِهِ . [ ص 266 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ ، قَالَ بَعَثْت بِهَا إلَى أَخْوَالِي مِنْ بَنِي جُمَحٍ لِيُصْلِحُوا لِي مِنْهَا ، وَيُهَيّئُوهَا ، حَتّى أَطُوفَ بِالْبَيْتِ ثُمّ آتِيهِمْ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُصِيبَهَا إذَا رَجَعْت إلَيْهَا . قَالَ فَخَرَجْت مِنْ الْمَسْجِدِ حِينَ فَرَغْت ، فَإِذَا النّاسُ يَشْتَدّونَ فَقُلْت : مَا شَأْنُكُمْ ؟ قَالُوا : رَدّ عَلَيْنَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا ؛ فَقُلْت : تِلْكُمْ صَاحِبَتُكُمْ فِي بَنِي جُمَحٍ فَاذْهَبُوا فَخُذُوهَا ، فَذَهَبُوا إلَيْهَا ، فَأَخَذُوهَا .S[ ص 266 ] وَذَكَرَ الْجَارِيَةَ الّتِي أُعْطِيَهَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ ، وَأَنّهُ بَعَثَ بِهَا إلَى أَخْوَالِهِ مِنْ بَنِي جُمَحٍ لِيُصْلِحُوا لَهُ مِنْهَا كَيْ يُصِيبَهَا ، وَهَذَا لِأَنّهَا كَانَتْ قَدْ أَسْلَمَتْ لِأَنّهُ لَا يَجُوزُ وَطْءُ وَثَنِيّةٍ وَلَا مَجُوسِيّةٍ بِمِلْكِ يَمِينٍ وَلَا بِنِكَاحٍ حَتّى تُسْلِمَ وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ فَلَا بُدّ أَيْضًا مِنْ اسْتِبْرَائِهَا ، وَأَمّا الْكِتَابِيّاتُ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ وَطْئِهِنّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ التّابِعِينَ مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ إبَاحَةُ وَطْءِ الْمَجُوسِيّةِ وَالْوَثَنِيّةِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَقَوْلُ اللّهِ تَعَالَى : { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتّى يُؤْمِنّ } [ الْبَقَرَةُ 221 ] تَحْرِيمٌ عَامّ إلّا مَا خَصّصَتْهُ آيَةُ الْمَائِدَةِ مِنْ الْكِتَابِيّاتِ وَالنّكَاحُ يَقَعُ عَلَى الْوَطْءِ بِالْعَقْدِ وَالْمِلْكِ .
حَوْلَ سَبْيِ حُنَيْنٍ
وَكَانَ سَبْيُ حُنَيْنٍ سِتّةَ آلَافِ رَأْسٍ وَكَانَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَدْ وَلّى أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ أَمْرَهُمْ وَجَعَلَهُ أَمِينًا عَلَيْهِمْ قَالَهُ الزّبَيْرُ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ ذَكَرَهُ الزّبَيْرُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ أَنّ أَبَا جَهْمِ بْنَ حُذَيْفَةَ الْعَدَوِيّ كَانَ عَلَى الْأَنْفَالِ يَوْمَ حُنَيْنٍ ، فَجَاءَهُ خَالِدُ بْنُ الْبَرْصَاءِ فَأَخَذَ مِنْ الْأَنْفَالِ زِمَامَ شَعْرٍ فَمَانَعَهُ أَبُو جَهْمٍ فَلَمّا تَمَانَعَا ضَرَبَهُ أَبُو جَهْمٍ بِالْقَوْسِ فَشَجّهُ مُنَقّلَةٌ فَاسْتَعْدَى عَلَيْهِ خَالِدٌ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ لَهُ خُذْ خَمْسِينَ شَاةً وَدَعْهُ فَقَالَ أَقِدْنِي مِنْهُ فَقَالَ خُذْ مِائَةً وَدَعْهُ فَقَالَ أَقِدْنِي مِنْهُ فَقَالَ خُذْ خَمْسِينَ وَمِائَةً وَدَعْهُ وَلَيْسَ لَك إلّا ذَلِكَ وَلَا أُقِصّكَ مِنْ وَالٍ عَلَيْك فَقُوّمَتْ الْخَمْسُونَ وَالْمِائَةُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ فَرِيضَةً مِنْ الْإِبِلِ فَمِنْ هُنَالِكَ جُعِلَتْ دِيَةُ الْمُنَقّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ فَرِيضَةً .
إعْطَاءُ الْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ الْغَنَائِمِ
فَصْلٌ وَأَمّا إعْطَاءُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ حَتّى تَكَلّمَتْ الْأَنْصَارُ فِي ذَلِكَ وَكَثُرَتْ مِنْهُمْ الْقَالَةُ وَقَالَتْ يُعْطِي صَنَادِيدَ الْعَرَبِ وَلَا يُعْطِينَا ، وَأَسْيَافُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ فَلِلْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَحَدُهَا أَنّهُ أَعْطَاهُمْ مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ وَهَذَا الْقَوْلُ مَرْدُودٌ لِأَنّ خُمْسَ الْخُمْسِ مِلْكٌ لَهُ وَلَا كَلَامَ لِأَحَدٍ فِيهِ . [ ص 267 ] الثّانِي : أَنّهُ أَعْطَاهُمْ مِنْ رَأْسِ الْغَنِيمَةِ وَأَنّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { قُلِ الْأَنْفَالُ لِلّهِ وَالرّسُولِ } [ الْأَنْفَالُ 1 ] وَهَذَا الْقَوْلُ أَيْضًا يَرُدّهُ مَا تَقَدّمَ مِنْ نُسَخِ هَذِهِ الْآيَةِ وَقَدْ تَقَدّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ غَيْرَ أَنّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ لِهَذَا الْقَوْلِ بِأَنّ الْأَنْصَارَ لَمّا انْهَزَمُوا يَوْمَ حُنَيْنٍ فَأَيّدَ اللّهُ رَسُولَهُ وَأَمَدّهُ بِمَلَائِكَتِهِ فَلَمْ يَرْجِعُوا حَتّى كَانَ الْفَتْحُ رَدّ اللّهُ تَعَالَى أَمْرَ الْمَغَانِمِ إلَى رَسُولِهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ فَلَمْ يُعْطِهِمْ مِنْهَا شَيْئًا وَقَالَ لَهُمْ أَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النّاسُ بِالشّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُوا بِرَسُولِ اللّهِ إلَى رِحَالِكُمْ فَطَيّبَ نُفُوسَهُمْ بِذَلِكَ بَعْدَمَا فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ . وَالْقَوْلُ الثّالِثُ وَهُوَ الّذِي اخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدٍ أَنّ إعْطَاءَهُمْ كَانَ مِنْ الْخُمْسِ حَيْثُ يَرَى أَنّ فِيهِ مَصْلَحَةً لِلْمُسْلِمِينَ . فَصْلٌ وَمِمّا لَمْ يَذْكُرْ ابْنُ إسْحَاقَ يَوْمَ حُنَيْنٍ أَنّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أُثْقِلَ بِالْجِرَاحَةِ يَوْمَئِذٍ فَأَتَاهُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ مَنْ يَدُلّنِي عَلَى رَحْلِ خَالِدٍ حَتّى دُلّ عَلَيْهِ فَوَجَدَهُ قَدْ أُسْنِدَ إلَى مُؤَخّرَةِ رَحْلِهِ فَنَفَثَ عَلَى جُرْحِهِ فَبَرِئَ ذَكَرَهُ الْكَشّيّ .

[ ص 267 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَمّا عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ فَأَخَذَ عَجُوزًا مِنْ عَجَائِزِ هَوَازِنَ ، وَقَالَ حِينَ أَخَذَهَا : أَرَى عَجُوزًا إنّي لَأَحْسَبُ لَهَا فِي الْحَيّ نَسَبًا ، وَعَسَى أَنْ يَعْظُمَ فِدَاؤُهَا فَلَمّا رَدّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ السّبَايَا بِسِتّ فَرَائِضَ أَبَى أَنْ يَرُدّهَا ، فَقَالَ لَهُ زُهَيْرٌ أَبُو صُرَدٍ خُذْهَا عَنْك ، فَوَاَللّهِ مَا فُوهَا بِبَارِدٍ وَلَا ثَدْيُهَا بِنَاهِدٍ وَلَا بَطْنُهَا بِوَالِدٍ وَلَا زَوْجُهَا بِوَاجِدٍ وَلَا دَرّهَا بِمَاكِدٍ . فَرَدّهَا بِسِتّ فَرَائِضَ حِينَ قَالَ لَهُ زُهَيْرٌ مَا قَالَ فَزَعَمُوا أَنّ عُيَيْنَةَ لَقِيَ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ فَشَكَا إلَيْهِ ذَلِكَ فَقَالَ إنّك وَاَللّهِ مَا أَخَذْتهَا بَيْضَاءَ غَرِيرَةً وَلَا نَصَفًا وَثِيرَةً .Sوَصْفُ عَجُوزِ ابْنِ حِصْنٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ وَقَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ صُرَدٍ لَهُ فِي الْعَجُوزِ الّتِي أَخَذَهَا : مَا فُوهَا بِبَارِدٍ وَلَا ثَدْيُهَا بِنَاهِدٍ وَلَا دَرّهَا بِمَاكِدٍ وَيُقَالُ أَيْضًا : بِنَاكِدٍ يُرِيدُ لَيْسَتْ بِغَزِيرَةِ الدّرّ وَالنّوقُ النّكْدُ الْغَزِيرَاتُ اللّبَنِ وَأَحْسَبُهُ مِنْ الْأَضْدَادِ لِأَنّهُ قَدْ يُقَالُ أَيْضًا نَكِدَ لَبَنُهَا إذَا نَقَصَ قَالَهُ صَاحِبُ الْعَيْنِ وَالصّحِيحُ عِنْدَ أَكْثَرِهِمْ أَنّ النّكِدَ هِيَ الْقَلِيلَاتُ اللّبَنِ مِنْ قَوْلِهِ عَزّ وَجَلّ { لَا يَخْرُجُ إِلّا نَكِدًا } [ الْأَعْرَافُ 58 ] وَأَنّ الْمُكْدَ بِالْمِيمِ هِيَ الْغَزِيرَاتُ اللّبَنِ قَالَ ابْنُ سِرَاجٍ لِأَنّهُ مِنْ مَكَدَ فِي الْمَكَانِ إذَا أَقَامَ فِيهِ وَقَدْ يُقَالُ أَيْضًا : نَكِدَ فِي مَعْنَى مَكَدَ أَيْ ثَبَتَ . [ ص 268 ]
الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ
وَذَكَرَ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ وَكَانَ مِنْ الْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ ثُمّ حَسُنَ إسْلَامُهُ بَعْدُ وَهُوَ الّذِي قَالَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ نَزَلَتْ { وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجّ الْبَيْتِ } [ آلُ عِمْرَانَ : 97 ] أَفِي كُلّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ قَالَ لَوْ قُلْتهَا لَوَجَبَتْ وَهُوَ الّذِي قَالَ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ أَقْطَعَ أَبْيَضَ بْنَ حَمّالٍ الْمَاءَ الّذِي بِمَأْرِبٍ أَتَدْرِي مَا أَقْطَعْته يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ إنّمَا أَقْطَعْته الْمَاءَ الْعِدّ فَاسْتَرْجَعَهُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ غَيْرَ أَنّهُ لَمْ يُسَمّ قَائِلَ هَذَا الْكَلَامَ فِيهِ إلّا الدّارَقُطْنِيّ فِي رِوَايَتِهِ وَزَادَ فِيهِ أَيْضًا : قَالَ أَبْيَضُ عَلَى أَنْ يَكُونَ صَدَقَةً مِنّي يَا رَسُولَ اللّهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ نَعَمْ وَأَمّا نَسَبُ الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ فَهُوَ ابْنُ حَابِسِ بْنِ عِقَالٍ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ مُجَاشِعِ [ بْنِ دَارِمٍ ] التّمِيمِيّ الْمُجَاشِعِيّ الدّارِمِيّ وَأَمّا عُيَيْنَةُ فَاسْمُهُ حُذَيْفَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيّ ، وَقَدْ تَقَدّمَ ذِكْرُهُ .

[ ص 268 ] وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِوَفْدِ هَوَازِنَ ، وَسَأَلَهُمْ عَنْ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ مَا فَعَلَ ؟ فَقَالُوا : هُوَ بِالطّائِفِ مَعَ ثَقِيفٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَخْبِرُوا مَالِكًا أَنّهُ إنْ أَتَانِي مُسْلِمًا رَدَدْت عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَأَعْطَيْته مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ فَأُتِيَ مَالِكٌ بِذَلِكَ فَخَرَجَ إلَيْهِ مِنْ الطّائِفِ . وَقَدْ كَانَ مَالِكٌ خَافَ ثَقِيفًا عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَعْلَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَهُ مَا قَالَ فَيَحْبِسُوهُ فَأَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَهُيّئَتْ لَهُ وَأَمَرَ بِفَرَسٍ لَهُ فَأُتِيَ بِهِ إلَى الطّائِفِ ، فَخَرَجَ لَيْلًا ، فَجَلَسَ عَلَى فَرَسِهِ فَرَكَضَهُ حَتّى أَتَى رَاحِلَتَهُ حَيْثُ أَمَرَ بِهَا أَنْ تُحْبَسَ فَرَكِبَهَا ، فَلَحِقَ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَدْرَكَهُ بِالْجِعْرَانَةِ أَوْ بِمَكّةَ فَرَدّ عَلَيْهِ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَأَعْطَاهُ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ وَأَسْلَمَ فَحَسُنَ إسْلَامُهُ فَقَالَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ حِينَ أَسْلَمَ :
مَا إنْ رَأَيْت وَلَا سَمِعْت بِمِثْلِهِ ... فِي النّاسِ كُلّهُمُ بِمِثْلِ مُحَمّدِ
أَوْفَى وَأَعْطَى لِلْجَزِيلِ إذَا اُجْتُدِيَ ... وَمَتَى تَشَأْ يُخْبِرْك عَمّا فِي غَدٍ
إذَا الْكَتِيبَةُ عَرّدَتْ أَنْيَابَهَا ... بِالسّمْهَرِيّ وَضَرْبِ كُلّ مُهَنّدِ
فَكَأَنّهُ لَيْثٌ عَلَى أَشْبَالِهِ ... وَسْطَ الْهَبَاءَةِ خَادِرٌ فِي مَرْصَدِ
فَاسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْ قَوْمِهِ وَتِلْكَ الْقَبَائِلُ ثُمَالَةُ وَسَلِمَةُ [ ص 269 ] فَكَانَ يُقَاتِلُ بِهِمْ ثَقِيفًا ، لَا يَخْرُجُ لَهُمْ سَرْحٌ إلّا أَغَار عَلَيْهِ حَتّى ضَيّقَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ أَبُو مِحْجَنِ بْنُ حَبِيبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الثّقَفِيّ :
هَابَتْ الْأَعْدَاءُ جَانِبَنَا ... ثُمّ تَغْزُونَا بَنُو سَلَمَهْ
وَأَتَانَا مَالِكٌ بِهِمْ ... نَاقِضًا لِلْعَهْدِ وَالْحُرْمَهْ
وَأَتَوْنَا فِي مَنَازِلِنَا ... وَلَقَدْ كُنّا أُولِي نِقْمَهْ
Sمَالِكُ بْنُ عَوْفٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ تَوْلِيَةَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ عَلَى ثُمَالَةَ وَبَنِيّ سَلِمَةَ وَفَهْمٍ . وَثُمَالَةُ هُمْ [ ص 269 ] أَسْلَمَ بْنُ أَحْجَنَ أُمّهُمْ ثُمَالَةُ وَقَوْلُ أَبِي مِحْجَنٍ فِيهِ
هَابَتْ الْأَعْدَاءُ جَانِبَنَا ... ثُمّ تَغْزُونَا بَنُو سَلَمَهْ
هَكَذَا تَقَيّدَ فِي النّسْخَةِ بِكَسْرِ اللّامِ وَالْمَعْرُوفُ فِي قَبَائِلِ قَيْسٍ : سَلَمَةُ بِالْفَتْحِ إلّا أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْأَزْدِ ، فَإِنّ ثُمَالَةَ الْمَذْكُورِينَ مَعَهُمْ حَيّ مِنْ الْأَزْدِ وَفَهْمٌ مِنْ دَوْسٍ ، وَهُمْ مِنْ الْأَزْدِ أَيْضًا ، وَأُمّهُمْ جَدِيلَةُ وَهِيَ مِنْ غَطَفَانَ بْنِ قَيْسِ بْنِ غَيْلَانَ عَلَى أَنّهُ لَا يُعْرَفُ فِي الْأَزْدِ سَلِمَةُ إلّا فِي الْأَنْصَارِ ، وَهُمْ مِنْ الْأَزْدِ وَسَلِمَةُ أَيْضًا فِي جُعْفَى هُمْ وَسَلِمَةُ بْنُ عَمْرِو بْنِ ذُهْلِ بْنِ مُرّانَ بْنُ جُعْفِيّ وَسَلِمَةُ فِي جُهَيْنَةَ أَيْضًا سَلِمَةُ بْنُ نَصْرِ بْنِ غَطَفَانَ بْنِ قَيْسِ بْنِ جُهَيْنَةَ وَجُعْفِيّ مِنْ مَذْحِجَ وَجُهَيْنَةُ مِنْ قُضَاعَةَ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا فَرَغَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ رَدّ سَبَايَا حُنَيْنٍ إلَى أَهْلِهَا ، رَكِبَ وَاتّبَعَهُ النّاسُ يَقُولُونَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَقْسِمْ عَلَيْنَا فَيْئَنَا مِنْ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ حَتّى أَلْجَئُوهُ إلَى شَجَرَةٍ فَاخْتَطَفَتْ عَنْهُ رِدَاءَهُ فَقَالَ أَدّوا عَلَيّ رِدَائِي أَيّهَا النّاسُ فَوَاَللّهِ أَنْ لَوْ كَانَ لَكُمْ بِعَدَدِ شَجَرِ تِهَامَةَ نَعَمًا لَقَسَمْته عَلَيْكُمْ ثُمّ مَا أَلْفَيْتُمُونِي بَخِيلًا وَلَا جَبَانًا وَلَا كَذّابًا ، ثُمّ قَامَ إلَى جَنْبِ بَعِيرٍ . فَأَخَذَ وَبَرَةً مِنْ سَنَامِهِ فَجَعَلَهَا بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ ثُمّ رَفَعَهَا ، ثُمّ قَالَ أَيّهَا النّاسُ وَاَللّهِ مَا لِي مِنْ فَيْئِكُمْ وَلَا هَذِهِ الْوَبَرَةِ إلّا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ . فَأَدّوا الْخِيَاطَ وَالْمُخْيَطَ فَإِنّ الْغُلُولَ يَكُونُ عَلَى أَهْلِهِ عَارًا وَنَارًا وَشَنَارًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ . قَالَ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ بِكُبّةٍ مِنْ خُيُوطِ شَعْرٍ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ أَخَذْت هَذِهِ الْكُبّةَ أَعْمَلُ بِهَا بَرْذعَةَ بَعِيرٍ لِي دَبِرٍ فَقَالَ أَمّا نَصِيبِي مِنْهَا فَلَك قَالَ أَمَا إذْ بَلَغَتْ هَذَا فَلَا حَاجَةَ لِي بِهَا ، ثُمّ طَرَحَهَا مِنْ يَدِهِ [ ص 270 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَذَكَرَ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ ، عَنْ أَبِيهِ أَنّ عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ دَخَلَ يَوْمَ حُنَيْنٍ عَلَى امْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ بِنْتِ شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، وَسَيْفُهُ مُتَلَطّخٌ دَمًا ، فَقَالَتْ إنّي قَدْ عَرَفْت أَنّك قَدْ قَتَلْت ، فَمَاذَا أَصَبْت مِنْ غَنَائِمِ الْمُشْرِكِينَ ؟ فَقَالَ دُونَك هَذِهِ الْإِبْرَةُ تَخِيطِينَ بِهَا ثِيَابَك ، فَدَفَعَهَا إلَيْهَا ، فَسَمِعَ مُنَادِي رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ مَنْ أَخَذَ شَيْئًا فَلْيَرُدّهُ حَتّى الْخِيَاطَ وَالْمُخْيَطَ . فَرَجَعَ عَقِيلٌ فَقَالَ مَا أَرَى إبْرَتَك إلّا قَدْ ذَهَبْت ، فَأَخَذَهَا ، فَأَلْقَاهَا فِي الْغَنَائِمِ .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَعْطَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمُؤَلّفَةَ قُلُوبُهُمْ وَكَانُوا أَشْرَافًا مِنْ أَشْرَافِ النّاسِ يَتَأَلّفُهُمْ وَيَتَأَلّفُ بِهِمْ قَوْمَهُمْ فَأَعْطَى أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ مِائَةَ بَعِيرٍ وَأَعْطَى ابْنَهُ مُعَاوِيَةَ مِائَةَ بَعِيرٍ وَأَعْطَى حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ مِائَةَ بَعِيرٍ وَأَعْطَى الْحَارِثَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ ، أَخَا بَنِي عَبْدِ الدّارِ مِائَةَ بَعِيرٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : نَصِيرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُهُ الْحَارِثَ أَيْضًا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَعْطَى الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ مِائَةَ بَعِيرٍ وَأَعْطَى سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو مِائَةَ بَعِيرٍ وَأَعْطَى حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ أَبِي قَيْسٍ مِائَةَ بَعِيرٍ وَأَعْطَى الْعَلَاءَ بْنَ جَارِيَةَ الثّقَفِيّ حَلِيفَ بَنِي زُهْرَةَ مِائَةَ بَعِيرٍ وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ مِائَةَ بَعِيرٍ وَأَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ التّمِيمِيّ مِائَةَ بَعِيرٍ . وَأَعْطَى مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ النّضْرِيّ مِائَةَ بَعِيرٍ وَأَعْطَى صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ مِائَةَ بَعِيرٍ فَهَؤُلَاءِ أَصْحَابُ الْمِئِينَ . وَأَعْطَى دُونَ الْمِائَةِ رِجَالًا مِنْ قُرَيْشٍ ، مِنْهُمْ مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ الزّهْرِيّ ، وَعُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيّ ، وَهِشَامُ بْنُ عَمْرٍو أَخُو بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ ، لَا أَحْفَظُ مَا أَعْطَاهُمْ وَقَدْ عَرَفْت أَنّهَا دُونَ الْمِائَةِ وَأَعْطَى سَعِيدَ بْنَ يَرْبُوعِ بْنِ عَنْكَثَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ مَخْزُومٍ خَمْسِينَ مِنْ الْإِبِلِ وَأَعْطَى السّهْمِيّ خَمْسِينَ مِنْ الْإِبِلِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاسْمُهُ عَدِيّ بْنُ قَيْسٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : [ ص 271 ] أَبَاعِرَ فَسَخِطَهَا ، فَعَاتَبَ فِيهَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ يُعَاتِبُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
كَانَتْ نِهَابًا تَلَافَيْتهَا ... بِكَرّي عَلَى الْمُهْرِ فِي الْأَجْرَعِ
وَإِيقَاظِي الْقَوْمِ أَنْ يَرْقُدُوا ... إذَا هَجَعَ النّاسُ لَمْ أَهْجَعْ
فَأَصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْبُ الْعَبِي ... دِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ
وَقَدْ كُنْت فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَإٍ ... فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعْ
إلّا أَفَائِلَ أُعْطِيتهَا ... عَدِيدَ قَوَائِمِهَا الْأَرْبَعِ
وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ ... يَفْوَقَانِ شَيْخِي فِي الْمَجْمَعِ
وَمَا كُنْت دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا ... وَمَنْ تَضَعُ الْيَوْمَ لَا يُرْفَعْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي يُونُسُ النّحْوِيّ :
فَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ ... يَفْوَقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ اذْهَبُوا بِهِ فَاقْطَعُوا عَنّي لِسَانَهُ فَأَعْطَوْهُ حَتّى رَضِيَ فَكَانَ ذَلِكَ قَطْعَ لِسَانِهِ الّذِي أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ عَبّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ أَتَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْتَ الْقَائِلُ فَأَصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْبُ الْعَبِيدِ بَيْنَ الْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةِ ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ : بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هُمَا وَاحِدٌ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَشْهَدُ أَنّك كَمَا قَالَ اللّهُ { وَمَا عَلّمْنَاهُ الشّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } [ يس : 69 ] . [ ص 272 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي إسْنَادٍ لَهُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ [ ص 273 ] ابْنِ عَبّاسٍ ، قَالَ بَايَعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ فَأَعْطَاهُمْ يَوْمَ الْجِعْرَانَةِ مِنْ غَنَائِمِ حُنَيْن ٍ . مِنْ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ : أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبِ بْنِ أُمَيّةَ ، وَطُلَيْقُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ أُمَيّةَ ، وَخَالِدُ بْنُ أُسَيْدِ بْنِ أَبِي الْعِيصِ بْنِ أُمَيّةَ . وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ : شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الدّارِ ، وَأَبُو السّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمِيلَةَ بْنِ السّبّاقِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ . وَمِنْ بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَخَالِدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَهِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَسُفْيَانُ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ ، وَالسّائِبُ بْنُ أَبِي السّائِبِ بْنِ عَائِذِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ . وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ : مُطِيعُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ نَضْلَةَ وَأَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ بْنِ غَانِمٍ . وَمِنْ بَنِي جُمَحِ بْنِ عَمْرٍو . صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ ، وَأُحَيْحَةُ بْنُ أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ ، وَعُمَيْرُ بْنُ وَهْبِ بْنِ خَلَفٍ . وَمِنْ بَنِي سَهْمٍ عَدِيّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ . وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ : حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ أَبِي قَيْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ وَهِشَامُ بْنُ عَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ حَبِيبٍ . وَمِنْ أَفْنَاءِ الْقَبَائِلِ مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ نَوْفَلُ بْنُ مُعَاوِيَةَ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ صَخْرِ بْنِ رَزْنِ بْنِ يَعْمَرَ بْنِ نُفَاثَةَ بْنِ عَدِيّ بْنِ الدّيلِ . وَمِنْ بَنِي قَيْسٍ ، ثُمّ مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ ثُمّ مِنْ بَنِي كِلَابِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ عَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ الْأَحْوَصِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ ، وَلَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ . وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ : خَالِدُ بْنُ هَوْذَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ وَحَرْمَلَةُ بْنُ هَوْذَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرٍو . وَمِنْ بَنِي نَصْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ مَالِكُ بْنُ عَوْفِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ يَرْبُوعٍ . وَمِنْ بَنِي سُلَيْمِ بْنِ مَنْصُورٍ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ ، أَخُو بَنِي الْحَارِثِ بْنِ بُهْثَةُ بْنُ سُلَيْمٍ . وَمِنْ بَنِي غَطَفَانَ ، ثُمّ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ . وَمِنْ بَنِي تَمِيمٍ ثُمّ مِنْ بَنِي حَنْظَلَةَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسِ بْنِ عِقَالٍ مِنْ بَنِي مُجَاشِعِ بْنِ دَارِمٍ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التّيْمِيّ : أَنّ قَائِلًا قَالَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ أَصْحَابِهِ يَا رَسُولَ اللّهِ أَعْطَيْت عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ وَالْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِائَةً وَتَرَكْت جُعَيْلَ بْنَ سُرَاقَةَ الضّمْرِيّ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَا وَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ لَجُعَيْلُ بْنُ سُرَاقَةَ خَيْرٌ مِنْ طِلَاعِ الْأَرْضِ كُلّهِمْ مِثْلَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَالْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ وَلَكِنّي تَأَلّفْتهمَا لِيَسْلَمَا ، وَوَكَلْت جُعَيْلَ بْنَ سُرَاقَةَ إلَى إسْلَامِهِ
Sوَأَمّا مِحْجَنٌ فَاسْمُهُ مَالِكُ بْنُ حَبِيبٍ ، وَقِيلَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ حَبِيبٍ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُقْدَةَ بْنِ غِيَرَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ قَيْسٍ الثّقَفِيّ وَقَدْ تَقَدّمَ نَسَبُ أُحْجَنَ عِنْدَ ذِكْرِنَا لَهَبَ بْنَ أُحْجَنَ قَبْلَ بَابِ الْمَبْعَثِ . وَذَكَرَ أَبَا السّنَابِلِ بْنَ بَعْكَكٍ وَاسْمُهُ حَبّةُ أَحَدُ بَنِي عَبْدِ الدّارِ وَكَانَ شَاعِرًا وَحَدِيثُهُ مَعَ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيّةِ حِينَ آمَتْ مِنْ زَوْجِهَا مَذْكُورٌ فِي الصّحَاحِ . [ ص 270 ] [ ص 271 ]
قَوْلُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِمِرْدَاسٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ قَوْلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لِعَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ أَنْتَ الْقَائِلُ فَأَصْبَحَ نَهْبِي وَنَهْبُ الْعَبِيدِ بَيْنَ الْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةِ ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ : بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالْأَقْرَعِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هُمَا وَاحِدٌ يَعْنِي فِي الْمَعْنَى ، وَأَمّا فِي الْفَصَاحَةِ فَاَلّذِي أُجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هُوَ الْأَفْصَحُ فِي تَنْزِيلِ الْكَلَامِ وَتَرْتِيبِهِ وَذَلِكَ أَنّ الْقَبْلِيّةَ تَكُونُ بِالْفَضْلِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى : { مِنَ النّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ } [ النّسَاءُ 69 ] وَتَكُونُ بِالرّتْبَةِ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى حِينَ ذَكَرَ الْيَهُودَ وَالنّصَارَى ، فَقَدِمَ الْيَهُودُ لِمُجَاوَرَتِهِمْ الْمَدِينَةَ ، فَهُمْ فِي الرّتْبَةِ قَبْلَ النّصَارَى ، وَقَبْلِيّةٌ بِالزّمَانِ نَحْوَ ذِكْرِ التّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بَعْدَهُ وَنُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَقَبْلِيّةٌ بِالسّبَبِ وَهُوَ أَنْ يَذْكُرَ مَا هُوَ عِلّةُ الشّيْءِ وَسَبَبُ وُجُودِهِ ثُمّ يَذْكُرُ الْمُسَبّبَ بَعْدَهُ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ مِثْلُ أَنْ يَذْكُرَ مَعْصِيَةً وَعِقَابًا أَوْ طَاعَةً وَثَوَابًا فَالْأَجْوَدُ فِي حُكْمِ الْفَصَاحَةِ تَقْدِيمُ السّبَبِ . [ ص 272 ]
الْقَبْلِيّةُ بَيْنَ الْأَقْرَعِ وَعُيَيْنَةَ
وَالْأَقْرَعُ وَعُيَيْنَةُ مِنْ بَابِ قَبْلِيّةِ الْمَرْتَبَةِ وَقَبْلِيّةِ الْفَضْلِ أَمّا قَبْلِيّةُ الرّتْبَةِ فَإِنّهُ مِنْ خِنْدِفٍ ، ثُمّ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ فَهُوَ أَقْرَبُ إلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ عُيَيْنَةَ فَتَرَتّبَ فِي الذّكْرِ قَبْلَهُ وَأَمّا قَبْلِيّةُ الْفَضْلِ فَإِنّ الْأَقْرَعَ حَسُنَ إسْلَامُهُ وَعُيَيْنَةَ لَمْ يَزَلْ مَعْدُودًا فِي أَهْلِ الْجَفَاءِ حَتّى ارْتَدّ وَآمَنَ بِطُلَيْحَةَ وَأُخِذَ أَسِيرًا فَجَعَلَ الصّبْيَانُ يَقُولُونَ لَهُ - وَهُوَ يُسَاقُ إلَى أَبِي بَكْرٍ - وَيْحَك يَا عَدُوّ [ ص 273 ] إيمَانِك ، فَيَقُولُ وَاَللّهِ مَا كُنْت آمَنْت ، ثُمّ أَسْلَمَ فِي الظّاهِرِ وَلَمْ يَزَلْ جَافِيًا أَحْمَقَ حَتّى مَاتَ وَبِحَسْبِك تَسْمِيَةُ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَهُ الْأَحْمَقُ الْمُطَاعُ وَمِمّا يُذْكَرُ مِنْ جَفَائِهِ أَنّ عَمْرَو بْنَ مَعْدِي كَرِبَ نَزَلَ بِهِ ضَيْفًا ، فَقَالَ لَهُ عُيَيْنَةُ هَلْ لَك فِي الْخَمْرِ نَتَنَادَمُ عَلَيْهَا ؟ فَقَالَ عَمْرٌو : أَلَيْسَتْ مُحَرّمَةً فِي الْقُرْآنِ ؟ فَقَالَ عُيَيْنَةُ إنّمَا قَالَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فَقُلْنَا نَحْنُ لَا ، فَشَرِبَا .

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ عَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ ، عَنْ مِقْسَمٍ أَبِي الْقَاسِمِ مَوْلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ ، قَالَ خَرَجْت أَنَا وَتَلِيدُ بْنُ كِلَابٍ اللّيْثِيّ حَتّى أَتَيْنَا عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ مُعَلّقًا نَعْلَهُ بِيَدِهِ فَقُلْنَا لَهُ هَلْ حَضَرْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ كَلّمَهُ التّمِيمِيّ يَوْمَ حُنَيْنٍ ؟ قَالَ [ ص 274 ] جَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ يُقَالُ لَهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُعْطِي النّاسَ فَقَالَ يَا مُحَمّدُ قَدْ رَأَيْت مَا صَنَعْت فِي هَذَا الْيَوْمِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أَجَلْ فَكَيْفَ رَأَيْت ؟ " فَقَالَ لَمْ أَرَك عَدَلْت ؛ قَالَ فَغَضِبَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ قَالَ " وَيْحَك إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَدْلُ عِنْدِي ، فَعِنْدَ مَنْ يَكُونُ ؟ " فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ : يَا رَسُولَ اللّهِ أَلَا أَقْتُلُهُ ؟ فَقَالَ " لَا ، دَعْهُ فَإِنّهُ سَيَكُونُ لَهُ شِيعَةٌ يَتَعَمّقُونَ فِي الدّينِ حَتّى يَخْرُجُوا مِنْهُ كَمَا يَخْرُجُ السّهْمُ مِنْ الرّمِيّةِ يَنْظُرُ فِي النّصْلِ فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ ثُمّ فِي الْقِدْحِ فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ ثُمّ فِي الْفُوقِ فَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدّم قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَلِيّ بْنِ الْحُسَيْنِ أَوْ جَعْفَرٌ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي عُبَيْدَةَ وَسَمّاهُ ذَا الْخُوَيْصِرَةِ .Sحَدِيثُ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ
[ ص 274 ] وَذَكَرَ حَدِيثَ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ التّمِيمِيّ ، وَمَا قَالَ فِيهِ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ وَفِي شِيعَتِهِ وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِهِ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ إلَى صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَكُمْ إلَى صِيَامِهِمْ يَمْرُقُونَ مِنْ الدّينِ كَمَا يَمْرُقُ السّهْمُ مِنْ الرّمِيّةِ الْحَدِيثُ فَكَانَ كَمَا قَالَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَظَهَرَ صِدْقُ الْحَدِيثِ فِي الْخَوَارِجِ ، وَكَانَ أَوّلُهُمْ مِنْ ضِئْضِئِي ذَلِكَ الرّجُلِ أَيْ مِنْ أَصْلِهِ وَكَانُوا مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ الّتِي قَالَ فِيهَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْهَا يَطْلُعُ قَرْنُ الشّيْطَانِ فَكَانَ بَدْؤُهُمْ مِنْ ذِي الْخُوَيْصِرَةِ وَكَانَ آيَتُهُمْ ذُو الثّدَيّةِ الّذِي قَتَلَهُ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَكَانَتْ إحْدَى يَدَيْهِ كَثَدْيِ الْمَرْأَةِ وَاسْمُ ذِي الثّدَيّةِ نَافِعٌ ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَغَيْرُهُ يَقُولُ اسْمُهُ حُرْقُوصُ [ بْنُ زُهَيْرٍ ] وَقَوْلُ أَبِي دَاوُدَ أَصَحّ ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ .

شِعْرُ حَسّانَ فِي حِرْمَانِ الْأَنْصَارِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ أَبِيهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَلَمّا أَعْطَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا أَعْطَى قُرَيْشًا وَقَبَائِلَ الْعَرَبِ ، وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ شَيْئًا ، قَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يُعَاتِبُهُ فِي ذَلِكَ [ ص 275 ]
زَادَتْ هُمُومٌ فَمَاءُ الْعَيْنِ مُنْحَدِرٌ ... سَحَا إذَا حَفَلَتْهُ عَبْرَةٌ دِرَرُ
وَجْدًا بِشَمّاءَ إذْ شَمّاءُ بَهْكَنَةٌ ... هَيْفَاءُ لَا ذَنَنٌ فِيهَا وَلَا خَوَرُ
دَعْ عَنْك شَمّاءَ إذْ كَانَتْ مَوَدّتُهَا ... نَزَرًا وَشَرّ وَصَالِ الْوَاصِلِ النّزَرُ
وَأْتِ الرّسُولَ فَقُلْ يَا خَيْرَ مُؤْتَمَنٍ ... لِلْمُؤْمِنِينَ إذَا مَا عُدّدَ الْبَشَرُ
عَلَامَ تُدْعَى سُلَيْمٌ وَهِيَ نَازِحَةٌ ... قُدّامَ قَوْمٍ هُمْ آوَوْا وَهُمْ نَصَرُوا
سَمّاهُمْ اللّهُ أَنْصَارًا بِنَصْرِهِمْ ... دِينَ الْهُدَى وَعَوَانُ الْحَرْبِ تَسْتَعِرُ
وَسَارَعُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَاعْتَرَفُوا ... لِلنّائِبَاتِ وَمَا خَامُوا وَمَا ضَجِرُوا
وَالنّاسُ أَلْبٌ عَلَيْنَا فِيك لَيْسَ لَنَا ... إلّا السّيُوفُ وَأَطْرَافُ الْقَنَا وَزَرُ
نُجَالِدُ النّاسَ لَا نُبْقِي عَلَى أَحَدٍ ... وَلَا نُضَيّعُ مَا تُوحِي بِهِ السّوَرُ
وَلَا تَهِرّ جُنَاةُ الْحَرْبِ نَادِيَنَا ... وَنَحْنُ حِينَ تَلَظّى نَارُهَا سُعُرُ
كَمَا رَدَدْنَا بِبَدْرٍ دُونَ مَا طَلَبُوا ... أَهْلَ النّفَاقِ وَفِينَا يَنْزِلُ الظّفَرُ
وَنَحْنُ جُنْدُك يَوْمَ النّعْفِ مِنْ أُحُدٍ ... إذْ حَزَبَتْ بَطَرًا أَحْزَابَهَا مُضَرُ
فَمَا وَنَيْنَا وَمَا خِمْنَا وَمَا خَبُرُوا ... مِنّا عِثَارًا وَكُلّ النّاسِ قَدْ عَثَرُوا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ قَالَ حَدّثَنَا ابْنُ إسْحَاقَ : قَالَ وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيَدٍ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ لَمّا أَعْطَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا أَعْطَى مِنْ تِلْكَ الْعَطَايَا ، فِي قُرَيْشٍ وَفِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ وَجَدَ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى كَثُرَتْ مِنْهُمْ الْقَالَةُ حَتّى قَالَ قَائِلُهُمْ لَقَدْ لَقِيَ وَاَللّهِ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَوْمَهُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ سَعْدُ بْنُ عِبَادَةَ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ قَدْ وَجَدُوا عَلَيْك فِي أَنْفُسِهِمْ لِمَا صَنَعْت فِي هَذَا الْفَيْءِ الّذِي أَصَبْت ، قَسَمْت فِي قَوْمِك ، وَأَعْطَيْت عَطَايَا عِظَامًا فِي قَبَائِلِ الْعَرَبِ ، وَلَمْ يَكُ فِي هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ مِنْهَا شَيْءٌ . قَالَ [ ص 276 ] فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ ذَلِكَ يَا سَعْدُ ؟ " قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا أَنَا إلّا مِنْ قَوْمِي ، قَالَ " فَاجْمَعْ لِي قَوْمَك فِي هَذِهِ الْحَظِيرَةِ " قَالَ فَخَرَجَ سَعْدٌ فَجَمَعَ الْأَنْصَارَ فِي تِلْكَ الْحَظِيرَةِ قَالَ فَجَاءَ رِجَالٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ فَتَرَكَهُمْ فَدَخَلُوا ، وَجَاءَ آخَرُونَ فَرَدّهُمْ فَلَمّا اجْتَمَعُوا لَهُ أَتَاهُ سَعْدٌ فَقَالَ قَدْ اجْتَمَعَ لَك هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمّ قَالَ " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ : مَا قَالَة بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجْدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا عَلَيّ فِي أَنْفُسِكُمْ ؟ أَلَمْ آتِكُمْ ضُلّالًا فَهُدَاكُمْ اللّه ، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمْ اللّهُ وَأَعْدَاءَ فَأَلّفَ اللّهُ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ " قَالُوا : بَلَى ، اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنّ وَأَفْضَلُ ثُمّ قَالَ " أَلَا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ؟ " قَالُوا : بِمَاذَا نُجِيبُك يَا رَسُولَ اللّهِ ؟ لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ الْمَنّ وَالْفَضْلُ قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " أَمَا وَاَللّهِ لَوْ شِئْتُمْ لَقُلْتُمْ فَلَصَدَقْتُمْ وَلَصُدّقْتُمْ أَتَيْتنَا مُكَذّبًا فَصَدّقْنَاك ، وَمَخْذُولًا فَنَصَرْنَاك ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاك ، وَعَائِلًا فَآسَيْنَاك . أَوَجَدْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ فِي أَنْفُسِكُمْ فِي لُعَاعَةٍ مِنْ الدّنْيَا تَأَلّفْت بِهَا قَوْمًا لِيُسْلِمُوا ، وَوَكَلْتُكُمْ إلَى إسْلَامِكُمْ أَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ، أَنْ يَذْهَبَ النّاسُ بِالشّاةِ وَالْبَعِيرِ وَتَرْجِعُوا بِرَسُولِ اللّهِ إلَى رِحَالِكُمْ ؟ فَوَاَلّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْت امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ ، وَلَوْ سَلَكَ النّاسُ شِعْبًا وَسَلَكَتْ الْأَنْصَارُ شِعْبًا ، لَسَلَكْت شِعْبَ الْأَنْصَارِ . اللّهُمّ ارْحَمْ الْأَنْصَارَ ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ " قَالَ فَبَكَى الْقَوْمُ حَتّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ وَقَالُوا : رَضِينَا بِرَسُولِ اللّهِ قَسْمًا وَحَظّا . ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَتَفَرّقُوا
Sشِعْرُ حَسّانَ فِي عِتَابِهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَذَكَرَ شِعْرَ حَسّانَ وَفِيهِ [ ص 275 ] هَيْفَاءُ لَا ذَنَنٌ فِيهَا وَلَا خَوَرُ
الذّنَنُ الْغَدْرُ وَالتّفْلُ وَالذّنِينُ الْمُخَاطُ وَالذّنَنُ أَيْضًا أَلّا يَنْقَطِعَ حَيْضُ الْمَرْأَةِ يُقَالُ امْرَأَةٌ دَنّاءُ وَلَوْ رُوِيَ بِالدّالِ الْمُهْمَلَةِ لَكَانَ جَيّدًا أَيْضًا ، فَإِنّ الدّنَنَ بِالدّالِ هُوَ قِصَرُ الْعُنُقِ وَتَطَامُنُهَا ، وَهُوَ عَيْبٌ . وَالْبَهْكَنَةُ الضّخْمَةُ . [ ص 276 ]
حَوْلَ عِتَابِ النّبِيّ لِلْأَنْصَارِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ قَوْلَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِلْأَنْصَارِ مَا قَالَة بَلَغَتْنِي عَنْكُمْ وَجْدَةٌ وَجَدْتُمُوهَا فِي أَنْفُسِكُمْ هَكَذَا الرّوَايَةُ جِدَةٌ وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَ أَهْلِ اللّغَةِ مَوْجِدَةٌ إذَا أَرَدْت الْغَضَبَ وَإِنّمَا الْجِدَةُ فِي الْمَالِ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي لُعَاعَةٍ مِنْ الدّنْيَا تَأَلّفْت بِهَا قَوْمًا ، لِيُسْلِمُوا . اللّعَاعَةُ بَقْلَةٌ نَاعِمَةٌ وَهَذَا نَحْوٌ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ الْمَالُ حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَاللّعَةُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى ، وَهِيَ الْمَرْأَةُ الْمَلِيحَةُ الْعَفِيفَةُ وَاللّعْلَعُ السّرَابُ وَلُعَاعُهُ بَصِيصُهُ .

جُعَيْلَ بْنُ سُرَاقَةَ
وَذَكَرَ جُعَيْلَ بْنَ سُرَاقَةَ وَقَوْلَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيهِ وَوَكَلْت جُعَيْلَ بْنَ سُرَاقَةَ إلَى إسْلَامِهِ . نَسَبَ ابْنُ إسْحَاقَ جُعَيْلًا إلَى ضَمْرَةَ وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي غِفَارٍ ، لِأَنّ غِفَارًا ، هُمْ بَنُو مُلَيْلِ بْنِ ضَمْرَةَ مِنْ بَنِي لَيْثِ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ . وَأَمّا حَدِيثُ التّمِيمِيّ الّذِي قَالَ لِلنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 277 ] أَرَك عَدَلْت ، فَغَضِبَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ قَالَ إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَدْلُ عِنْدِي ، فَعِنْدَ مَنْ يَكُونُ ؟ وَقَالَ أَيْضًا : إنّي أَرَى قِسْمَةَ مَا أُرِيدُ بِهَا وَجْهَ اللّهِ فَقَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَيَأْمَنُنِي اللّهُ فِي السّمَاءِ وَلَا تَأْمَنُونِي أَوْ كَمَا قَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَالرّجُلُ هُوَ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ كَذَلِكَ جَاءَ ذِكْرُهُ فِي الْحَدِيثِ . وَيُذْكَرُ عَنْ الْوَاقِدِيّ أَنّهُ قَالَ هُوَ حُرْقُوصُ بْنُ زُهَيْرٍ السّعْدِيّ مِنْ سَعْدِ تَمِيمٍ وَقَدْ كَانَ لِحُرْقُوصٍ هَذَا مَشَاهِدُ مَحْمُودَةٌ فِي حَرْبِ الْعِرَاقِ مَعَ الْفُرْسِ أَيّامَ عُمَرَ ثُمّ كَانَ خَارِجِيّا ، وَفِيهِ يَقُولُ نُحَيْبَةُ الْخَارِجِيّ حَتّى أُلَاقِيَ فِي الْفِرْدَوْسِ حُرْقُوصًا
وَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّهُ سَيَكُونُ مِنْ ضِئْضِئِهِ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ إلَى صَلَاتِهِمْ وَذَكَرَ صِفَةَ الْخَوَارِجِ ، وَلَيْسَ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ هَذَا ذَا النّدَيّةِ الّذِي قَتَلَهُ عَلِيّ بِالنّهَرِ وَأَنّ ذَلِكَ اسْمُهُ نَافِعٌ ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَكَلَامُ الْوَاقِدِيّ حَكَاهُ ابْنُ الطّلّاعِ فِي الْأَحْكَامِ لَهُ .

عُمْرَةُ الرّسُولِ مِنْ الْجِعْرَانَةِ
وَاسْتِخْلَافُهُ عَتّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكّةَ ، وَحَجّ عَتّابٌ بِالْمُسْلِمِينَ سَنَةَ ثَمَانٍ
اعْتِمَارُ الرّسُولِ وَاسْتِخْلَافُهُ ابْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكّةَ
[ ص 277 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ الْجِعْرَانَةِ مُعْتَمِرًا ، وَأَمَرَ بِبَقَايَا الْفَيْءِ فَحُبِسَ بِمَجَنّةَ بِنَاحِيَةِ مَرّ الظّهْرَانِ ، فَلَمّا فَرَغَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ عُمْرَتِهِ انْصَرَفَ رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ وَاسْتَخْلَفَ عَتّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكّةَ ، وَخَلّفَ مَعَهُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ ، يُفَقّهُ النّاسَ فِي الدّينِ وَيُعَلّمُهُمْ الْقُرْآنَ وَاتّبِعَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِبَقَايَا الْفَيْءِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَبَلَغَنِي عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنّهُ قَالَ لَمّا اسْتَعْمَلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَتّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكّةَ رَزَقَهُ كُلّ يَوْمٍ دِرْهَمًا ، فَقَامَ فَخَطَبَ النّاسَ فَقَالَ أَيّهَا النّاسُ أَجَاعَ اللّهُ كَبِدَ مَنْ جَاعَ عَلَى دِرْهَمٍ ، فَقَدْ رَزَقَنِي رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ دِرْهَمًا كُلّ يَوْمٍ فَلَيْسَتْ بِي حَاجَةٌ إلَى أَحَد
وَقْتُ الْعُمْرَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَتْ عُمْرَةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ فَقَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ فِي بَقِيّةِ ذِي الْقِعْدَةِ أَوْ فِي ذِي الْحِجّةِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ لِسِتّ لَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ فَمَا زَعَمَ أَبُو عَمْرٍو الْمَدَنِيّ . [ ص 278 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَجّ النّاسُ تِلْكَ السّنَةَ عَلَى مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَحُجّ عَلَيْهِ وَحَجّ بِالْمُسْلِمِينَ تِلْكَ السّنَةَ عَتّابُ بْنُ أَسِيدٍ ، وَهِيَ سَنَةُ ثَمَانٍ وَأَقَامَ أَهْلُ الطّائِفِ عَلَى شِرْكِهِمْ وَامْتِنَاعِهِمْ فِي طَائِفِهِمْ مَا بَيْنَ ذِي الْقِعْدَةِ إذْ انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى شَهْرِ رَمَضَانَ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ .

أَمْرُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ بَعْدَ الِانْصِرَافِ عَنْ الطّائِفِ
وَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ مُنْصَرَفِهِ عَنْ الطّائِفِ كَتَبَ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى إلَى أَخِيهِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ يُخْبِرُهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَتَلَ رِجَالًا بِمَكّةَ مِمّنْ كَانَ يَهْجُوهُ وَيُؤْذِيهِ وَأَنّ مَنْ بَقِيَ مِنْ شُعَرَاءِ قُرَيْشٍ ، ابْنُ الزّبَعْرَى وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ ، قَدْ هَرَبُوا فِي كُلّ وَجْهٍ فَإِنْ كَانَتْ لَك فِي نَفْسِك حَاجَةٌ فَطِرْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَإِنّهُ لَا يَقْتُلُ أَحَدًا جَاءَهُ تَائِبًا ، وَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَانْجُ إلَى نَجَائِك مِنْ الْأَرْضِ وَكَانَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ قَدْ قَالَ
أَلَا أَبْلِغَا عَنّي بُجَيْرًا رِسَالَةً ... فَهَلْ لَك فِيمَا قُلْت وَيْحَك هَلْ لَكَا ؟
فَبَيّنْ لَنَا إنْ كُنْت لَسْت بِفَاعِلٍ ... عَلَى أَيّ شَيْءٍ غَيْرَ ذَلِكَ دَلّكَا
عَلَى خُلُقٍ لَمْ أُلْفِ يَوْمًا أَبَالَهُ ... عَلَيْهِ وَمَا تُلْفِي عَلَيْهِ أَبَا لَكَا
فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَلَسْت بِآسِفٍ ... وَلَا قَائِلٍ إمّا عَثَرْت لَعًا لَكَا
سَقَاك بِهَا الْمَأْمُونُ كَأْسًا رَوِيّةً ... فَأَنْهَلَكَ الْمَأْمُونُ مِنْهَا وَعَلّكَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُرْوَى " الْمَأْمُورُ " . وَقَوْلُهُ " فَبَيّنْ لَنَا " عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ . [ ص 279 ]
مَنْ مُبْلِغٌ عَنّي بُجَيْرًا رِسَالَةً ... فَهَلْ لَك فِيمَا قُلْت بِالْخَيْفِ هَلْ لَكَا
شَرِبْت مَعَ الْمَأْمُونِ كَأْسًا رَوِيّةً ... فَأَنْهَلَكَ الْمَأْمُونُ مِنْهَا وَعَلّكَا
وَخَالَفْت أَسْبَابَ الْهُدَى وَاتّبَعْته ... عَلَى أَيّ شَيْءٍ وَيْبَ غَيْرِك دَلّكَا
عَلَى خُلُقٍ لَمْ تُلْفِ أُمّا وَلَا أَبًا ... عَلَيْهِ وَلَمْ تُدْرِكْ عَلَيْهِ أَخًا لَكَا
فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَلَسْت بِآسِفٍ ... وَلَا قَائِلٍ إمّا عَثَرْت لَعًا لَكَا
قَالَ وَبَعَثَ بِهَا إلَى بُجَيْرٍ فَلَمّا أَتَتْ بُجَيْرًا كَرِهَ أَنْ يَكْتُمَهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَنْشَدَهُ إيّاهَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا سَمِعَ سَقَاك بِهَا الْمَأْمُونُ صَدَقَ وَإِنّهُ لَكَذُوب أَنَا الْمَأْمُونُ : وَلَمّا سَمِعَ " عَلَى خُلُقٍ لَمْ تُلْفِ أُمّا وَلَا أَبًا عَلَيْهِ " قَالَ أَجَلْ لَمْ يُلْفِ عَلَيْهِ أَبَاهُ وَلَا أُمّهُ ثُمّ قَالَ بُجَيْرٌ لِكَعْبٍ
مَنْ مُبْلِغٌ كَعْبًا فَهَلْ لَك فِي الّتِي ... تَلُومُ عَلَيْهَا بَاطِلًا وَهِيَ أَحْزَمُ
إلَى اللّهِ ( لَا الْعُزّى وَلَا اللّاتِ ) وَحْدَهُ ... فَتَنْجُو إذَا كَانَ النّجَاءُ وَتَسْلَمُ
لَدَى يَوْمِ لَا يَنْجُو وَلَيْسَ بِمُفْلِتٍ ... مِنْ النّاسِ إلّا طَاهِرُ الْقَلْبِ مُسْلِمُ
فَدِينُ زُهَيْرٍ وَهُوَ لَا شَيْءَ دِينُهُ ... وَدِينُ أَبِي سُلْمَى عَلَيّ مُحَرّمُ
[ ص 280 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَإِنّمَا يَقُولُ كَعْبٌ " الْمَأْمُونُ " ، وَيُقَالُ " الْمَأْمُورُ " فِي قَوْلِ ابْنِ هِشَامٍ : لِقَوْلِ قُرَيْشٍ الّذِي كَانَتْ تَقُولُهُ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
Sشِعْرُ بُجَيْرٍ وَكَعْبٍ ابْنَيْ زُهَيْرٍ
فَصْلٌ
[ ص 278 ] وَذَكَرَ قِصّةَ بُجَيْرِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى ، وَاسْمُ أَبِي سُلْمَى : رَبِيعَةُ بْنُ رِيَاحٍ أَحَدُ بَنِي مُزَيْنَةَ . وَفِي شِعْرِ كَعْبٍ إلَى أَخِيهِ بُجَيْرٍ سَقَاك بِهِ الْمَأْمُونُ كَأْسًا رَوِيّةً
وَيُرْوَى : الْمَحْمُودُ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ ، أَرَادَ بِالْمَحْمُودِ مُحَمّدًا - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَكَذَلِكَ الْمَأْمُونُ وَالْأَمِينُ كَانَتْ قُرَيْشٌ تُسَمّي بِهِمَا النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَبْلَ النّبُوّةِ . [ ص 279 ] بُجَيْرٍ
عَلَى خُلُقٍ لَمْ تُلْفِ أُمّا وَلَا أَبًا ... عَلَيْهِ وَلَمْ تُدْرِكْ عَلَيْهِ أَخَا لَكَا
إنّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنّ أُمّهُمَا وَاحِدَةٌ وَهِيَ كَبْشَةُ بِنْتُ عَمّارٍ السّحَيْمِيّةُ فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ الْأَعْرَابِيّ عَنْ ابْنِ الْكَلْبِيّ . وَقَوْلُهُ إمّا عَثَرْت لَعًا لَكَا ، كَلِمَةٌ تُقَالُ لِلْعَاثِرِ دُعَاءً لَهُ بِالْإِقَالَةِ قَالَ الْأَعْشَى :
فَالتّعْسُ أَدْنَى لَهَا ... مِنْ أَنْ يُقَالَ لَعَا لَهَا
وَأَنْشَدَ أَبُو عُبَيْدٍ : فَلَا لَعَا لِبَنِي فَعْلَانَ إذْ عَثَرُوا
وَقَوْلُ بُجَيْرٍ وَدِينُ زُهَيْرٍ وَهُوَ لَا شَيْءَ دِينُهُ
[ ص 280 ] فَقَالَ وَهُوَ لَا شَيْءَ غَيْرُهُ وَفَسّرَهُ عَلَى التّقْدِيمِ وَالتّأْخِيرِ أَرَادَ وَدِينُ زُهَيْرٍ غَيْرُهُ وَهُوَ لَا شَيْءَ . وَرِوَايَةُ ابْنِ إسْحَاقَ أَبْعَدُ مِنْ الْإِشْكَالِ وَأَصَحّ ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَكَعْبٌ هَذَا مِنْ فُحُولِ الشّعَرَاءِ هُوَ وَأَبُوهُ زُهَيْرٌ وَكَذَلِكَ ابْنُهُ عُقْبَةُ بْنُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ يُعْرَفُ عُقْبَةُ بِالْمُضَرّبِ وَابْنُ عُقْبَةَ الْعَوّامُ شَاعِرٌ أَيْضًا ، وَهُوَ الّذِي يَقُولُ
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ تَغَيّرَ بَعْدَنَا ... مَلَاحَةُ عَيْنَيْ أُمّ عَمْرٍو وَجِيدُهَا
وَهَلْ بَلِيَتْ أَثْوَابُهَا بَعْدَ جِدّةٍ ... أَلَا حَبّذَ أَخْلَاقُهَا وَجَدِيدُهَا
وَمِمّا يُسْتَحْسَنُ وَيُسْتَجَادُ مِنْ قَوْلِ كَعْبٍ
لَوْ كُنْت أَعْجَبُ مِنْ شَيْءٍ لَأَعْجَبَنِي ... سَعْيُ الْفَتَى وَهُوَ مَخْبُوءٌ لَهُ الْقَدَرُ
يَسْعَى الْفَتَى لِأُمُورٍ لَيْسَ يُدْرِكُهَا ... فَالنّفْسُ وَاحِدَةٌ وَالْهَمّ مُنْتَشِرُ
وَالْمَرْءُ مَا عَاشَ مَمْدُودٌ لَهُ أَمَلٌ ... لَا تَنْتَهِي الْعَيْنُ حَتّى يَنْتَهِي الْأَثَرُ
وَقَوْلُهُ
إنْ كُنْت لَا تَرْهَبُ ذَمّي ... لِمَا تَعْرِفُ مِنْ صَفْحِي عَنْ الْجَاهِلْ
فَاخْشَ سُكُوتِي إذْ أَنَا مُنْصِتٌ ... فِيك لِمَسْمُوعِ خَنَا الْقَائِلْ
فَالسّامِعُ الذّمّ شَرِيكٌ لَهُ ... وَمُطْعِمُ الْمَأْكُولِ كَالْآكِلْ
مَقَالَةُ السّوءِ إلَى أَهْلِهَا ... أَسْرَعُ مِنْ مُنْحَدِرٍ سَائِلْ
وَمَنْ دَعَا النّاسَ إلَى ذَمّهِ ... ذَمّوهُ بِالْحَقّ وَبِالْبَاطِلْ

قُدُومُ كَعْبٍ عَلَى الرّسُولِ وَقَصِيدَتُهُ اللّامِيّةُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا بَلَغَ كَعْبًا الْكِتَابُ ضَاقَتْ بِهِ الْأَرْضُ وَأَشْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَرْجَفَ بِهِ مَنْ كَانَ فِي حَاضِرِهِ مِنْ عَدُوّهِ فَقَالُوا : هُوَ مَقْتُولٌ فَلَمّا لَمْ يَجِدْ مِنْ شَيْءٍ بُدّا ، قَالَ قَصِيدَتَهُ الّتِي يَمْدَحُ فِيهَا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَذَكَرَ فِيهَا خَوْفَهُ وَإِرْجَافَ الْوُشَاةِ بِهِ [ ص 281 ] خَرَجَ حَتّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ ، فَنَزَلَ عَلَى رَجُلٍ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَعْرِفَةٌ مِنْ جُهَيْنَةَ ، كَمَا ذُكِرَ لِي ، فَغَدَا بِهِ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حِينَ صَلّى الصّبْحَ فَصَلّى مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ثُمّ أَشَارَ لَهُ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ هَذَا رَسُولُ اللّهِ فَقُمْ إلَيْهِ فَاسْتَأْمِنْهُ . فَذُكِرَ لِي أَنّهُ قَامَ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى جَلَسَ إلَيْهِ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَا يَعْرِفُهُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ كَعْبَ بْنَ زُهَيْرٍ قَدْ جَاءَ لِيَسْتَأْمِنَ مِنْك تَائِبًا مُسْلِمًا ، فَهَلْ أَنْتَ قَابِلٌ مِنْهُ إنْ أَنَا جِئْتُك بِهِ ؟ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " نَعَمْ " ، قَالَ أَنَا يَا رَسُولَ اللّهِ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ : أَنّهُ وَثَبَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ دَعْنِي وَعَدُوّ اللّهِ أَضْرِبُ عُنُقَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ دَعْهُ عَنْك ، فَإِنّهُ قَدْ جَاءَ تَائِبًا ، نَازِعًا ( عَمّا كَانَ عَلَيْهِ ) فَقَالَ فَغَضِبَ كَعْبٌ عَلَى هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَنْصَارِ ، لِمَا صَنَعَ بِهِ صَاحِبُهُمْ وَذَلِكَ أَنّهُ لَمْ يَتَكَلّمْ فِيهِ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ إلّا بِخَيْرٍ

فَقَالَ فِي قَصِيدَتِهِ الّتِي قَالَ حِينَ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ ... مُتَيّمٌ إثْرَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ
وَمَا سُعَادُ غَدَاةَ الْبَيْنِ إذْ رَحَلُوا ... إلّا أَغَنّ غَضِيضُ الطّرْفِ مَكْحُولُ
هَيْفَاءُ مُقْبِلَةٌ عَجْزَاءُ مُدْبِرَةٌ ... لَا يُشْتَكَى قِصَرٌ مِنْهَا وَلَا طُولُ
تَجْلُو عَوَارِضَ ذِي ظَلْمٍ إذَا ابْتَسَمَتْ ... كَأَنّهُ مَنْهَلٌ بِالرّوْحِ مَعْلُولُ
شُجّتْ بِذِي شَيَمٍ مِنْ مَاءِ مَحْنِيَةٍ ... صَافٍ بِأَبْطَحَ أَضْحَى وَهُوَ مَشْمُولُ
[ ص 282 ]
تَنْفِي الرّيَاحُ الْقَذَى عَنْهُ وَأَفْرَطَهُ ... مِنْ صَوْبِ غَادِيَةٍ بِيضٌ يَعَالِيلُ
فَيَا لَهَا حُلّةٌ لَوْ أَنّهَا صَدَقَتْ ... بِوَعْدِهَا أَوْ لَوْ إنّ النّصْحَ مَقْبُولُ
لَكِنّهَا خُلّةٌ قَدْ سِيطَ مِنْ دَمِهَا ... فَجَعٌ وَوَلَعٌ وَإِخْلَافٌ وَتَبْدِيلُ
فَمَا تَدُومُ عَلَى حَالٍ تَكُونُ بِهَا ... كَمَا تَلَوّنَ فِي أَثْوَابِهَا الْغُولُ
وَمَا تَمَسّكَ بِالْعَهْدِ الّذِي زَعَمَتْ ... إلّا كَمَا يُمْسِكُ الْمَاءَ الْغَرَابِيلُ
فَلَا يَغُرّنّكَ مَا مَنّتْ وَمَا وَعَدَتْ ... إنّ الْأَمَانِيّ وَالْأَحْلَامَ تَضْلِيلُ
[ ص 283 ]
كَانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلًا ... وَمَا مَوَاعِيدُهَا إلّا الْأَبَاطِيلُ
أَرْجُو وَآمُلُ أَنْ تَدْنُو مَوَدّتُهَا ... وَمَا إخَالُ لَدَيْنَا مِنْك تَنْوِيلُ
أَمْسَتْ سُعَادُ بِأَرْضٍ لَا يُبَلّغُهَا ... إلّا الْعِتَاقُ النّجِيبَاتُ الْمَرَاسِيلُ
وَلَنْ يُبَلّغَهَا إلّا عُذَافِرَةٌ ... لَهَا عَلَى الْأَيْنِ إرْقَالٌ وَتَبْغِيلُ
مِنْ كُلّ نَضّاخَةِ الذّفْرَى إذَا عَرِقَتْ ... عُرْضَتُهَا طَامِسُ الْأَعْلَامِ مَجْهُولُ
تَرْمِي الْغُيُوبَ بِعَيْنَيْ مُفْرِدٍ لَهَقٍ ... إذَا تَوَقّدَتْ الْحِزّانُ وَالْمِيلُ
ضَخْمٌ مُقَلّدُهَا فَعْمٌ مُقَيّدُهَا ... فِي خَلْقِهَا عَنْ بَنَاتِ الْفَحْلِ تَفْضِيلُ
غَلْبَاءُ وَجْنَاءُ عُلْكُومٌ مُذّكّرَةٌ ... فِي دَفّهَا سَعَةٌ قُدّامُهَا مِيلُ
وَجِلْدُهَا مِنْ أُطُومٍ مَا يُؤَيّسُهُ ... طِلْحٌ بِضَاحِيَةِ الْمَتْنَيْنِ مَهْزُولُ
[ ص 284 ]
حَرْفٌ أَخُوهَا أَبُوهَا مِنْ مُهَجّنَةٍ ... وَعَمّهَا خَالُهَا قَوْدَاءُ شِمْلِيلُ
يَمْشِي الْقُرَادُ عَلَيْهَا ثُمّ يُزْلِقُهُ ... مِنْهَا لَبَانٌ وَأَقْرَابٌ زَهَالِيلُ
عَيْرَانَةٌ قُذِفَتْ بِالنّحْضِ عَنْ عُرُضٍ ... مِرْفَقُهَا عَنْ بَنَاتِ الزّوْرِ مَفْتُولُ
كَأَنّمَا فَاتَ عَيْنَيْهَا وَمَذْبَحُهَا ... مِنْ خَطْمِهَا وَمِنْ اللّحْيَيْنِ بِرْطِيلُ
تَمُرّ مِثْلَ عَسِيبِ النّخْلِ ذَا خُصَلٍ ... فِي غَارِزٍ لَمْ تَخَوّنُهُ الْأَحَالِيلُ
قَنْوَاءُ فِي حُرّتَيْهَا لِلْبَصِيرِ بِهَا ... عِتْقٌ مُبِينٌ وَفِي الْخَدّيْنِ تَسْهِيلُ
تَخْدِي عَلَى يَسَرَاتٍ وَهِيَ لَاحِقَةٌ ... ذَوَابِلٌ مَسّهُنّ الْأَرْضَ تَحْلِيلُ
سُمْرُ الْعُجَايَاتِ يَتْرُكْنَ الْحَصَى زِيَمًا ... لَمْ يَقِهِنّ رُءُوسُ الْأُكْمِ تَنْعِيلُ
[ ص 285 ]
كَأَنّ أَوْبَ ذِرَاعَيْهَا وَقَدْ عَرِقَتْ ... وَقَدْ تَلَفّعَ بِالْقُورِ الْعَسَاقِيلُ
يَوْمًا يَظَلّ بِهِ الْحِرْبَاءُ مُصْطَخِدًا ... كَأَنّ ضَاحِيَهُ بِالشّمْسِ مَمْلُولُ
وَقَالَ لِلْقَوْمِ حَادِيهِمْ وَقَدْ جُعِلَتْ ... وُرْقُ الْجَنَادِبِ يَرْكُضْنَ الْحَصَا قِيلُوا
شَدّ النّهَارُ ذِرَاعًا عَيْطَلٍ نَصَفٌ ... قَامَتْ فَجَاوَبَهَا نُكْدٌ مَثَاكِيلُ
نَوّاحَةٌ رَخْوَةُ الضّبَعَيْنِ لَيْسَ لَهَا ... لَمّا نَعَى بِكْرَهَا النّاعُونَ مَعْقُولُ
تَفْرِي اللّبَانَ بِكَفّيْهَا وَمِدْرَعِهَا ... مُشَقّقٌ عَنْ تَرَاقِيهَا رَعَابِيلُ
تَسْعَى الْغُوَاةُ جَنَابَيْهَا وَقَوْلُهُمْ ... إنّك يَا ابْنَ أَبِي سُلْمَى لَمَقْتُولُ
[ ص 286 ]
وَقَالَ كُلّ صَدِيقٍ كُنْت آمُلُهُ ... لَا أُلْهِيَنّكَ إنّي عَنْك مَشْغُولُ
فَقُلْت خَلّوا سَبِيلِي لَا أَبَا لَكُمْ ... فَكُلّ مَا قَدّرَ الرّحْمَنُ مَفْعُولُ
كُلّ ابْنِ أُنْثَى وَإِنْ طَالَتْ سَلَامَتُهُ ... يَوْمًا عَلَى آلَةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُولُ
نُبّئْت أَنّ رَسُولَ اللّهِ أَوْعَدَنِي ... وَالْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ مَأْمُولُ
مَهْلًا هَدَاك الّذِي أَعْطَاك نَافِلَةَ الْ ... قُرْآنِ فِيهَا مَوَاعِيظٌ وَتَفْصِيلُ
لَا تَأْخُذَنّي بِأَقْوَالِ الْوُشَاةِ وَلَمْ ... أُذْنِبْ وَلَوْ كَثُرَتْ فِيّ الْأَقَاوِيلُ
لَقَدْ أَقُومُ مَقَامًا لَوْ يَقُومُ بِهِ ... أَرَى وَأَسْمَعُ مَا لَوْ يَسْمَعُ الْفِيلُ
لَظَلّ يَرْعَدُ إلّا أَنْ يَكُونَ لَهُ ... مِنْ الرّسُولِ بِإِذْنِ اللّهِ تَنْوِيلُ
حَتّى وَضَعْت يَمِينِي مَا أُنَازِعُهُ ... فِي كَفّ ذِي نَقَمَاتٍ قِيلُهُ الْقِيلُ
[ ص 287 ]
فَلَهُوَ أَخَوْفُ عِنْدِي إذْ أُكَلّمُهُ ... وَقِيلَ إنّك مَنْسُوبٌ وَمَسْئُولُ
مِنْ ضَيْغَمٍ بِضَرّاءِ الْأَرْضِ مُخْدَرُهُ ... فِي بَطْنِ عَثّرَ غِيلٌ دُونَهُ غِيلُ
يَغْدُو فَيَلْحَمُ ضِرْغَامَيْنِ عَيْشُهُمَا ... لَحْمٌ مِنْ النّاسِ مَعْفُورٌ خَرَادِيلُ
إذَا يُسَاوِرُ قِرْنًا لَا يَحِلّ لَهُ ... أَنْ يَتْرُكَ الْقِرْنَ إلّا وَهُوَ مَفْلُولُ
مِنْهُ تَظَلّ سِبَاعُ الْجَوّ نَافِرَةً ... وَلَا تَمْشِي بِوَادِيهِ الْأَرَاجِيلُ
وَلَا يَزَالُ بِوَادِيهِ أَخُو ثِقَةٍ ... مُضَرّجُ الْبِزّ وَالدّرْسَانِ مَأْكُولُ
إنّ الرّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ ... مُهَنّدٌ مِنْ سُيُوفِ اللّهِ مَسْلُولُ
فِي عُصْبَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ ... بِبَطْنِ مَكّةَ لَمّا أَسْلَمُوا زُولُوا
زَالُوا فَمَا زَالَ أَنْكَاسٌ وَلَا كُشَفٌ ... عِنْدَ اللّقَاءِ وَلَا مِيلٌ مَعَازِيلُ
شُمّ الْعَرَانِينِ أَبْطَالٌ لَبُوسُهُمْ ... مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ فِي الْهَيْجَا سَرَابِيلُ
بِيضٌ سَوَابِغُ قَدْ شُكّتْ لَهَا حَلَقٌ ... كَأَنّهَا حَلَقُ الْقَفْعَاءِ مَجْدُولُ
[ ص 288 ]
لَيْسُوا مَفَارِيحَ إنْ نَالَتْ رِمَاحُهُمْ ... قَوْمًا وَلَيْسُوا مَجَازِيعًا إذَا نِيلُوا
يَمْشُونَ مَشْيَ الْجِمَالِ الزّهْرِ يَعْصِمُهُمْ ... ضَرْبٌ إذَا عَرّدَ السّودُ التّنَابِيلُ
لَا يَقَعُ الطّعْنُ إلّا فِي نُحُورِهِمْ ... وَمَا لَهُمْ عَنْ حِيَاضِ الْمَوْتِ تَهْلِيلُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَالَ كَعْبٌ هَذِهِ الْقَصِيدَةَ بَعْدَ قُدُومِهِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمَدِينَةَ وَبَيْتُهُ " حَرْفٌ أَخُوهَا أَبُوهَا " وَبَيْتُهُ " يَمْشِي الْقُرَادَ " وَبَيْتُهُ " عَيْرَانَةٌ قُذِفَتْ " ، وَبَيْتُهُ " تَمُرّ مِثْلَ عَسِيبِ النّخْلِ " ، وَبَيْتُهُ " تَفْرِي اللّبَانَ " وَبَيْتُهُ " إذَا يُسَاوِرُ قَرْنًا " وَبَيْتُهُ " وَلَا يَزَالُ بِوَادِي " : عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ .