Translate

السبت، 19 فبراير 2022

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/الباب الأول والثاني +المجلد الأول/الجزء الأول/الباب الثالث +المجلد الأول/الجزء الأول/الباب الرابع +المجلد الأول/الجزء الأول/الباب الخامس+المجلد الأول/الجزء الأول/الباب الخامس و فصل +المجلد الأول/الجزء الأول/الباب السادس +

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/الباب الأول والثاني 

 

 

 

مقدمة تشمل الباب الأول والثاني 
 
مقدمة المؤلف 
 
قال الفقيه الإمام أبو محمد ، علي بن أحمد ، رحمة الله عليه ورضوانه :
الحمد لله الذي امتن علينا بنعم عامة وخاصة، فعم النوع الآدمي بأن أرسل إليهم رسلاً مبشرين ومنذرين ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، وخصّ من شاء منهم بأن وفقه للحق وهداه له، ويسره لفهمه، وسدده لاختياره، وسهل عليه سبيله، وخذل منهم من شاء، فطبع على قلبه، ووعر عليه طريق الحق، ووفق قوماً في سبيل ما، ومنعهم التوفيق في سبيل أخرى، كما قال عز وجل : {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } و {وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } دون أن يجبر مريد حق على إرادته، أو يقسر قاصد باطل على قصده، أو يحول بين أحد وبين ما دعاه تعالى إليه، أو ندبه إليه، لكن كما قال عز وجل: {وَآعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَـكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } وكما قال تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } وقال تعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } لله ـ وكما قال النبيان الفاضلان صلى الله عليهما إبراهيم ويوسف إذ يقول إبراهيم {فَلَمَّآ رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ } ويقول يوسف {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ } وصلى الله على محمد عبده ورسوله إلى جميع الجن والإنس بالدين القيم بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
وبعد : فإن الله عز وجل ركب في النفس الإنسانية قوة مختلفة، فمنها عدل يزين لها الإنصاف، ويحبب إليها موافقة الحق. قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } ومنها غضب وشهوة يزينان لها الجور ويعميانها عن طريق الرشد، قال تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ } وقال تعالى : {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } فالفاضل يسر لمعرفته بمقدار ما منحه الله تعالى، والجاهل يسر لما لا يدري حقيقة وجهه ولما فيه وباله في أخراه وهلاكه في معاده.
ومنها فهم يليح لها الحق من قريب ، وينير لها في ظلمات المشكلات فترى به الصواب ظاهراً جلياً , ومنها جهل يطمس عليها الطرق ، ويساوي عندها بين السبل، فتبقى النفس في حيرة تتردد ، وفي ريب تتلدد ، ويهجم بها على أحد الطرق المجانبة للحق المنكبة عن الصواب تهوراً وإقداماً أو جبناً أو إحجاماً ، أو إلفاً وسوء اختيار ، قال تعالى : { هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } وقال تعالى: {إنّما يخشى الله من عباده العُلماءُ } .
ومنها قوة التمييز التي سماها الأوائل المنطق ، فجعل لها خالقها بهذه القوة سبيلاً إلى فهم خطابه عز وجل ، وإلى معرفة الأشياء ما هي عليه ، وإلى إمكان التفهم الذي به ترتقي درجة الفهم ويتخلص من ظلمة الجهل ، فيها تكون معرفة الحق من الباطل . قال تعالى : {فبَشّر عباد *الّذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه أولئك الذن هداهم الله و أولئك هم أولوا الألباب } . 
 
ومنها قوة العقل التي تعين النفس المميزة على نصر العدل ، وعلى إيثار ما دلت عليه صحة الفهم ، وعلى اعتقاد ذلك علماً ، وعلى إظهار باللسان وحركات الجسم فعلاً، وبهذه القوة التي هي العقل تتأيد النفس الموفقة لطاعته على كراهية الحود عن الحق ، وعلى رفض ما قاد إليه الجهل والشهوة ، والغضب المولد للعصبية، وحمية الجاهلية ، فمن اتبع ما أناره له العقل الصحيح نجا وفاز ، ومن عاج عنه هلك وربما أهلك قال تعالى : {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } . 
 
قال أبو محمد علي: أراد بذلك العقل ، وأما المضغة المسماة قلباً فهي لكل أحد متذكر ، وغير متذكر ، ولكن لما لم ينتفع غير العاقل بقلبه صار كمن لا قلب له ، قال تعالى ، شاهداً لما قلنا : {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَـكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } وقال بعض السلف الصالح : «ترى الرجل لبيباً داهياً فطناً ولا عقل له» فالعاقل من أطاع الله عز وجل .
قال أبو محمد علي: هذه كلمة جامعة كافية ، لأن طاعة الله عز وجل ، هي جماع الفضائل واجتناب الرذائل ، وهي السيرة الفاضلة على الحقيقة التي تخيرها لنا واهب النعم ، لا إله إلا هو ، فلا فضيلة إلا اتباع ما أمر الله عز وجل به ، أو حضّ عليه ، ولا رذيلة إلا ارتكاب ما نهى الله تعالى عنه أو نزّه منه ، وأما الكيس في أمور الدنيا لا يبالي المرء ما وفق في استجلاب حظه فيها ، من علو صوت ، أو عرض جاه ، أو نمو مال ، أو نيل لذة من طاعة أو معصية ، فليس ذلك عقلاً، بل هو سخف وحمق ونقص شديد وسوء اختيار ، وقائد إلى الهلاك في دار الخلود . 
 
وقد شهد ربنا تعالى أن متاع الدنيا غرور ، وقد علمنا أن تارك الحق ومتبع الغرور سخيف الاختيار ، ضعيف العقل ، فاسد التمييز وبرهان ذلك أن كل تمييز في إنسان بان به عن البهائم ، فهو يشهد أن اختيار الشيء القليل في عدده ، الضعيف في منفعته ، المشوب بالآلام والمكاره ، الفاني بسرعة ، على الكثير في عدده العظيم في منفعته ، الخالص من الكدر والمضار ، الخالد أبداً، حمق شديد وعدم للعقل البتة .
 
 
= ولو أن أمرأ خيّر في دنياه بين سكناه مائة عام في قصر أنيق ، واسع ذي بساتين وأنهار ورياض وأشجار ، ونواوير وأزهار ، وخدم وعبيد وأمن فاش وملك ظاهر ، ومال عريض ، إلا أن في طريقه إلى ذلك مشي يوم كامل في طريق فيها بعض الحزونة لا كلها ، وبين أن يمشي ذلك اليوم في طريق فيها مروج حسنة ، وفي خلالها مهالك ومخاوف وظلال طيبة ، وفي أثنائها أهوال ومتالف ، ثم يفضي عند تمام ذلك اليوم إلى دار ضيقة ، ومجلس ضنك ذي نكد وشقاء وخوف وفقر وإقلال ، فيسكنها مائة عام ، فاختار هذه الدار الحرجة لسرور يوم ممزوج بشوائب البلاء ، يلقاه في طريقه نحوها لكان عند كل من سمع خبره ذا آفة شديدة في تمييزه ، وفاسد العقل جدّاً ، ظاهر الحمق رديء الاختيار، مذموماً مدحوراً ملوماً .
وهذه حال من آثر عاجل دنياه على آجل أخراه. فكيف بمن اختار فانياً عن قريب على ما لا يتناهى أبداً . اللهم إلا أن يكون شاكاً في منقلبه ، متحيراً في مصيره ، فتلك أسوأ بل هي التي لا شوى لها ، نعوذ بالله من الخذلان ، ونسأله التوفيق والعصمة بمنه آمين .
وكل ما قلنا فلم نقله جزافاً ، بل لم نقل كلمة في ذلك كله إلا مما قاله الله تعالى شاهداً بصحته ، وميزه العقل ، عالماً بحقيقته ، والحمد لله رب العالمين.
وإن الله عز وجل ابتلى الأمم السالفة بأنبياء ابتعثهم إلى قومهم خاصة ، فمؤمن وكافر ، فريق في الجنة وفريق في السعير .
ثم إنه تعالى بعث نبيه المختار ، وعبده المنتخب من جميع ولد آدم ، محمداً الهاشمي المكي ، إلى جميع خلقه من الجن والإنس ، فنسخ بملته جميع الملل ، وختم به الرسل ، وخصه بهذه الكرامة وسوده على جميع أنبيائه ، واتخذ صفياً ونجياً وخليلاً ورسولاً فلا نبي بعده ، ولا شريعة بعد شريعته إلى انقضاء الدنيا .
وإذ قد تيقنا أن الدنيا ليست دار قرار ، ولكنها دار ابتلاء واختبار ومجاز إلى دار الخلود ، وصح بذلك أنه لا فائدة في الدنيا وفي الكون فيها إلا العلم بما امر به عز وجل وتعليمه أهل الجهل والعمل بموجب ذلك ، وإن ما عدا هذا مما يتنافس فيه الناس من بعد الصوت ، غرور ، وأن كل ما تَشْرهُ إليه النفوس الجاهلة من غرض خسيس ، خطأ ، إلا ما قصد به إظهار العدل وقمع الزور ، والحكم بأمر الله تعالى وبأمر رسوله ، وإحياء سنن الحق، وإماتة طوالع الجور .
وإن ما تميل إليه النفوس الخسيسة من اللذات بمناظر مألوفة متغيرة عما قليل ، وأصوات مستحسنة ، متقضية بهبوب الرياح ، ومشام مستطرفة ، منحلة بعيد ساعات ، ومذاوق مستعذبة، مستحلية في أقرب مدة أقبح استحالة ، وملابس معجبة ، متبدلة في أيسر زمان تبدلاً موحشاً ، باطلاً .
وإن كل ما يشغل به أهل فساد التمييز من كسب المال المنتقل عما قريب فضول ، إلا ما أقام القوت وأمسك الرمق ، وأنفق في وجوه البر الموصلة إلى الفوز في دار البقاء ، كان أفضل ما عاناه المرء العاقل بيان ما يرجو به هدى أهل نوعه ، وإنقاذهم من حيرة الشك وظلمة الباطل ، وإخراجهم إلى بيان الحق ونور اليقين . فقد أخبر رسول الله ﷺأن من هدى الله به رجلاً واحداً فهو خير له من حمر النعم. وأخبر ﷺ أن من سنّ سنة خير في الإسلام ، كان له مثل أجر كل من عمل بها ، لا ينتقص ذلك من أجورهم شيئاً . 
 
وغبط من تعلم الحكمة وعلمها.
فنظرنا بعون الله خالقنا تعالى لنا في هذه الطريق الفاضلة التي هي ثمرة بقائنا في هذه الدنيا فوجدناها على وجوه كثيرة : 
 
فمن أوكدها وأحسنها مغبة ، بيان الدين واعتقاده والعمل به الذي ألزمنا إياه خالقنا عز وجل على لسان رسوله ﷺ ، وشرح الجمل التي تجمع أصناف أحكامه ، والعبارات الواردة فيه ، فإن بمعرفة العقدة من عقد تلك الجمل يلوح الحق في ألوف من المسائل غلط فيها ألوف من الناس . 
 
فإثم من قلدهم إثمين: إثم التقليد ، وإثم الخطأ. ونقصت أجور من اتبعهم مجتهداً من كفلين إلى كفل واحد . 
 
ومن وفقه الله تعالى لبيان ما يتضاعف فيه أجر المعتقد والعامل بما عضده البرهان فقد عرضه لخير كثير ، وامتن عليه بتزايد الأجر، وهو في التراب رميم .
وذلك حظ لا يزهد فيه إلا محروم، فكتبنا كتابنا المرسوم بكتاب التقريب، وتكلمنا فيه على كيفية الاستدلال جملة، وأنواع البرهان الذي به يستبين الحق من الباطل في كل مطلوب ، وخلصناها مما يظن أنه برهان وليس ببرهان ، وبيّنا كل ذلك بياناً سهلاً لا إشكال فيه ، ورجونا بذلك الأجر من الله عز وجل ، فكان ذلك الكتاب أصلاً لمعرفة علامات الحق من الباطل ، وكتبنا أيضاً كتابنا المرسوم بالفصل ، فبينا فيه صواب ما اختلف الناس فيه من الملل والنحل بالبراهين التي أثبتنا جملها في كتاب التقريب . ولم ندع بتوفيق الله عز وجل لنا للشك في شيء من ذلك مساغاً ، والحمد لله كثيراً . 
 
ثم جمعنا كتابنا هذا وقصدنا فيه بيان الجمل في مراد الله عز وجل منا فيما كلفناه من العبادات ، والحكم بين الناس بالبراهين التي أحكمناها في الكتاب المذكور آنفاً .
وجعلنا هذا الكتاب بتأييد خالقنا عز وجل لنا ، موعباً للحكم فيما اختلف فيه الناس من أصول الأحكام في الديانة مستوفى ، مستقصى ، محذوف الفضول ، محكم الفصول ، راجين أن ينفعنا الله عز وجل به يوم فقرنا إلى ما يثقل به ميزاننا من الحسنات ، وأن ينفع به تعالى من يشاء من خلقه ، فيضرب لنا في ذلك بقسط ، ويتفضل علينا منه بحظ ، فهو الذي لا يخيب رجاء من قصده بأمله وهو القادر على كل شيء : لا إله إلا هو .
وهذا حين نبدأ في ذلك بحول الله وقوته فنقول وبالله تعالى التوفيق : إنه لما صح أن العالم مخلوق ، وأن له خالقاً لم يزل عز وجل ، وصح أنه ابتعث رسوله محمداً ﷺ إلى جميع الناس ، ليتخلص من أطاعه من أطباق النيران المحيطة بنا إلى الجنة المعدة لأوليائه عز وجل ، وليكب من عصاه في النار الحامية ، وصح أنه ألزمنا على لسان نبيه شرائع من أوامر ونواه وإباحات باستعمال تلك الشرائع، يوصل إلى الفوز ، وينجي من الهلاك ، وصح أنه أودع تلك الشرائع في الكلام الذي أمره به رسوله الله ﷺ بتبليغه إلينا ، وسماه قرآناً، وفي الكلام الذي أنطق به رسوله وسماه وحياً غير قرآن ، وألزمنا في كل ذلك طاعة نبيه ﷺ , لزمنا تتبع تلك الشرائع في هذين الكلامين لنتخلص بذلك من العذاب، ونحصل على السلامة والحظوة في دار الخلود ، ووجدناه تعالى قد ألزمنا ذلك بقوله في كتابه المنزل : {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } 
 
فوجب علينا أن ننفر لما استنفرنا له خالقنا عز وجل ، فوجدناه قد قال في القرآن الذي قد ثبت أنه من قبله عز وجل، والذي أودعه عهوده إلينا اللازمة لنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } .
قال أبو محمد: فنظرنا في هذه الآية فوجدناها جامعة لكل ما تكلم الناس فيه أولهم عن آخرهم، مما أجمعوا عليه واختلفوا فيه الأحكام والعبادات التي شرعها الله عز وجل ، لا يشذ عنها شيء من ذلك ، فكان كتابنا هذا كله في بيان العمل بهذه الآية وكيفيته وبيان الطاعتين المأمور بهما لله تعالى ولرسوله ﷺ وطاعة أولي الأمر ، ومن هم أولو الأمر ، وبيان التنازع الواقع منا ، وبيان ما يقع فيه التنازع بيننا ، وبيان رد ما تنوزع فيه إلى الله تعالى ورسوله ﷺ , وهذا هو جماع الديانة كلها.
ووجدناه قد قال تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
فأيقنا أن الدين قد كمل وتناهى، وكل ما كمل فليس لأحد أن يزيد فيه ولا أن ينقص منه ولا أن يبدله . 
 
فصح بهذه الآية يقيناً أن الدين كلـه لا يؤخذ إلا عن اللـه عز وجل، ثم على لسان رسول اللـه ﷺ فهو الذي يبلغ إلينا أمر ربنا عز وجل ونهيه وإباحته ، لا مبلغ إلينا شيئاً عن اللـه تعالى أحد غيره .
وهو ﷺ لا يقول شيئاً من عند نفسه لكن عن ربه تعالى، ثم على ألسنة أولي الأمر منا ، فهم الذين يبلغون إلينا جيلاً بعد جيل ما أتى به رسول اللـه ﷺ عن اللـه تعالى ، وليس لـهم أن يقولوا من عند أنفسهم شيئاً أصلاً ، لكن عن النبي ﷺ , هذه صفة الدين الحق الذي كل ما عداه فباطل ، وليس من الدين ، إذ ما لم يكن من عند اللـه تعالى ، فليس من دين اللـه أصلاً ، وما لم يبينه رسول اللـه ﷺ ، فليس من الدين أصلاً، وما لم يبلغه إلينا أولو الأمر منا عن رسول اللـه ﷺ فليس من الدين أصلاً.
فبينا بحول اللـه تعالى وقوته غلط من غلط في هذا الباب ، بأن ترك ما هو من الدين مخطئاً غير عامد للمعصية ، أو عامداً لـها ، أو أدخل فيه ما ليس منه كذلك ، فلا يخرج البتة الخطأ في أحكام الديانة عن هذين الوجهين : إما ترك ، وإما زيادة ، ولخصنا الحق تلخيصاً لا يشكل على نصح نفسه.
وقصد اللـه عز وجل بنيته وما توفيقنا إلا باللـه عز وجل . 
 
وجعلنا كتابنا هذا أبواباً لنقرب على من أراد النظر فيه، ويسهل عليه البحث عما أراد الوقوف عليه منه، رغبة منا في إيصال العلم إلى من طلبه، ورجاء ثواب اللـه عز وجل في ذلك ، وباللـه تعالى نتأيد.
باب ترتيب الأبواب ، وهو الباب الثاني ــــ إذ الباب الأول في صدر هذا الكتاب ، وذكر الغرض فيه وهو الذي تمّ قبل هذا الابتداء .
الباب الثاني : هذا الذي نحن فيه وهو ترتيب أبواب هذا الكتاب.
الباب الثالث : في إثبات حجج العقل وبيان ما يدركه على الحقيقة، وبيان غلط من ظن في العقل ما ليس فيه.
الباب الرابع : في كيفية ظهور اللغات التي يعبر بها عن جميع الأشياء ويتخاطب بها الناس.
الباب الخامس : في الألفاظ الدائرة بين أهل النظر.
الباب السادس : هل الأشياء في العقل على الحظر أو الإباحة. أو لا على واحد منها لكن على ترقب ما يرد فيها من خالقها عز وجل.
الباب السابع : في أصول أحكام الديانة وأقسام المعارف وهل على النافي دليل أو لا. 
 
الباب الثامن : في معنى البيان.
الباب التاسع : في تأخير البيان.
الباب العاشر : في القول بموجب القرآن.
الباب الحادي عشر : في الأخبار التي هي السنن ــــ وفي بعض فصول هذا الباب ــــ سبب الاختلاف الواقع بين الأئمة.
الباب الثاني عشر : في الأوامر والنواهي الواردة في القرآن والسنة والأخذ بالظاهر منهما وحمل كل ذلك على الوجوب والفور. أو الندب أو التراخي.
الباب الثالث عشر : في حملها على العموم أو الخصوص .
الباب الرابع عشر : في أقل الجمع الوارد فيها .
الباب الخامس عشر : في الاستثناء منها.
الباب السادس عشر : في الكتابة بالضمير .
الباب السابع عشر : في الكتابة بالإشارة .
الباب الثامن عشر : في المجاز والتشبيه .
الباب التاسع عشر : في أفعال رسول الله ﷺ وفي الشيء يراه أو يبلغه فيقره صامتاً عن الأمر به أو النهي عنه. 
 
الباب الموفي عشرين : في النسخ .
الباب الحادي والعشرون : في المتشابه من القرآن والمحكم ، والفرق بينه وبين المتشابه المذكور في الحديث بين الحلال والحرام.
الباب الثاني والعشرون : في الإجماع . 
 
الباب الثالث والعشرون : في استصحاب الحال وبطلان العقود والشروط إلا ما نص عليه منها أو أجمع على صحته، وهو باب من الدليل الإجماعي.
الباب الرابع والعشرون : في أقل ما قيل وهو أيضاً نوع من أنواع الدليل الإجماعي . 
 
الباب الخامس والعشرون : في ذم الاختلاف والنهي عنه.
الباب السادس والعشرون : في أن الحق في واحد وسائر الأقوال كلها خطأ . 
 
الباب السابع والعشرون : في الشذوذ ، ومعنى هذه اللفظة وإبطال التمويه بذكرها.
الباب الثامن والعشرون : في تسمية الفقهاء المعتد بهم في الخلاف بعد الصحابة رضي الله عنهم.
الباب التاسع والعشرون : في الدليل النظري والفرق بينه وبين القياس .
الباب الموفي ثلاثين : في لزوم الشريعة الإسلامية لكل مؤمن وكافر ووقت لزوم الشرائع للإنسان.
الباب الحادي والثلاثون : في صفة طلب الفقه ، وصفة المفتي، وصفة الاجتهاد وما يلزم لكل واحد طلبه من دينه.
الباب الثاني والثلاثون : في وجوب النيات في الأعمال والفرق بين الخطأ المقصود بلا نية الخطأ غير المقصود، والعمد المقصود بالفعل والنية جميعاً وحيث يلحق عمل المرء غيره من إثم وبر وحيث لا يلحق.
الباب الثالث والثلاثون : في شرائع الأنبياء قبل نبينا أتلزمنا أم لا.
الباب الرابع والثلاثون : في الاحتياط وقطع الذرائع 
 
الباب الخامس والثلاثون : في إبطال الاستحسان والاستنباط والرأي .
الباب السادس والثلاثون : في إبطال التقليد .
الباب السابع والثلاثون : في دليل الخطاب .
الباب الثامن والثلاثون : في إبطال القياس .
الباب التاسع والثلاثون : في إبطال العلل التي يدعيها أهل القياس والفرق بينها وبين العلل الطبيعية التي هي العلل على الحقيقة والكلام في الأسباب والأغراض والمعاني والعلامات والأمارات.
الباب الموفي أربعين : في الاجتهاد ما هو وبيانه ومن هو معذور باجتهاده ومن ليس معذوراً به، ومن يقطع عليه أنه أخطأ عند الله عز وجل فيما أداه إليه اجتهاده ومن لا يقطع عليه أنه مخطىء عند الله عز وجل وإن خالفناه.
=========
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/الباب الثالث
في إثبات حجج العقول
قال أبو محمد : قال قوم : لا يعلم شيء إلا بالإلهام ، وقال آخرون : لايعلم شيء إلا بقول الإمام، وهو عندهم رجل بعينه إلا أنه الآن منذ مائة عام وسبعين عاماً معدوم المكان، متلف العين، ضالة من الضوال.
وقال آخرون: لا يعلم شيء إلا بالخبر.
وقال آخرون: لا يعلم شيء إلا بالتقليد، واحتجوا في إبطال حجة العقل بأن قالوا: قد يرى الإنسان يعتقد بشيء ويجادل عنه، ولا يشك في أنه حق.
ثم يلوح له غير ذلك، فلو كانت حجج العقول صادقة لما تغيرت أدلتها.
قال أبو محمد : هذا تمويه فاسد، ولا حجة لهم على مثبتي حجج العقول في رجوع من رجع عن مذهب كان يعتقده، ويناضل عنه، لأننا لم نقل: إن كان معتقد لمذهب ما فهو محق فيه، ولا قلنا: إن كل ما استدل به مستدل ما على مذهبه فهو حق.
ولو قلنا ذلك لفارقنا حكم العقول.
لكن قلنا: إن من الاستدلال ما يؤدي إلى مذهب صحيح إذا كان الاستدلال صحيحاً مرتباً ترتيباً قويماً على ما قد بيّناه وأحكمناه غاية الإحكام في كتاب التقريب.
وقد يوقع الاستدلال إذا كان فاسداً على مذهب فاسد، وذلك إذا خولف به طريق الاستدلال الصحيح، وقد نبهنا على الشِّعاب والعوارض المعترضة في طريق الاستدلال وبيناها وحذرنا منها في الكتاب المذكور، ولم ندع هنالك في تبيين كل ما ذكرناه علقة وأوضحناه غاية الإِيضاح .
فالراجع عن مذهب إلى مذهب لا بد له ضرورة من أن يكون أحد استدلاليه فاسداً، إما الأول، وإما الثاني، وقد يكونان معاً فاسدين، فيتنقل من مذهب فاسد إلى مذهبه فاسد.
أو من مذهب صحيح إلى مذهب فاسد، أو من مذهب فاسد إلى مذهب صحيح .
لا بد من أحد هذه الوجوه، ولا يجوز أن يكونا صحيحين معاً البتة.
لأن الشيء لا يكون حقًّا بإطلاق في وقت واحد من وجه واحد. 
 
وقد يكون أقساماً كثيرة كلها باطل إلا واحداً فينتقل المرء من قسم فاسد منها إلى آخر فاسد، وهذا إنما يعرض لمن غبن عقله ولم ينعم النظر، فمال بهوى أو تهور بشهوة، أو أحجم لفرط جبنه، أو لمن كان جاهلاً بوجوه طرق الاستدلال الصحيحة لم يطالعها ولا تعلمها.
وأكثر ما يقع ذلك فيما يأخذ من مقدمات بعيدةٍ، فكان الطريق المؤدي من أوائل المعارف إلى صحة المذهب المطلوب طريقاً بعيداً كثير الشُّعب، فيكل فيها الذهن الكليل، ويدخل مع طول الأمر وكثرة العمل ودقته السآمة، فيتولد فيها الشك والخبال والسهو، كما يدخله ذلك على الحاسب في حسابه، على أن الحساب علم ضروري لا يتناقض فيجد أعداداً متفرقة في قرطاس، فإذا أراد الحاسب جمعها فإن كثرت جدًّا فربما غفل وغلط، حتى إذا حقق وتثبت ولم يشغل خاطره بشيء وقف على اليقين بلا شك.
هذا شيء يوجد حسًّا كما ترى، وقد يدخل أيضاً على الحواس، فيرى المرء بعينه شخصاً، فربما ظنه زيداً وكابر عليه، حتى إذا تثبت فيه علم أنه عمرو، وهكذا يعرض في الصوت المسموع وفي المشموم وفي الملموس وفي المذوق، وقد يعرض ذلك الشيء، يطلبه المرء وهو بين يديه في جملة أشياء كثيرة فيطول عناؤه في طلبه ويتعذر عليه وجوده، ثم يجده بعد ذلك، فلا يكون عدم وجوده إياه مبطلاً لكونه بين يديه حقيقة، فكذلك يعرض في الاستدلال، وليس شيء من ذلك بموجب بطلان صحة إدراك الحواس، ولا صحة إدراك العقل الذي به علمت صحة ما أدركته الحواس، ولولاه لم نعلم أصلاً، كما أن حواس المجنون المطبق والمغشي عليه لا يكاد ينتفع بها، وقل ما يعرض هذا في أعداد يسيرة ولا فيما أخذ بمقدمات قريبة من أوائل المعارف، ولا سبيل إلى أن يعرض ذلك فيما أوجبته أوائل المعارف إلا لسوفسطائي رقيع، يعلم يقيناً بقلبه أنه كاذب، وأنه مبطل وقاح، أو لمرور ممسوس ينبغي أن يعالج دماغه، فهذا معذور، وإنما نكلم الأنفس لسنا نقصد بكلامنا الألسنة.
ولا علينا قصر الألسنة بالحجة إلى الإذعان بالحق، وإنما علينا قسر الأنفس إلى تيقن معرفته فقط.
فهذا الذي ظنوه من رجوع من كان على مذهب ما إلى مذهب آخر أن ذلك كله حجج عقل تفاسدت، إنما هو خطأ صريح، فمن هنا دخلت عليهم الشبهة، وإنما بيان ذلك أن ما كان من الدلائل صحيحاً مسبوراً محققاً، فهو حجة العقل، وما كان منها بخلاف ذلك فليست حجة عقل، بل العقل يبطلها، فسقط ما ظنوا والحمد لله رب العالمين.
وقد أحكمنا هذا غاية الإحكام والحمد لله رب العالمين، في باب أفردناه لهذا المعنى في آخر كتابنا الموسوم بالفصل، ترجمته(باب الكلام على من قال بتكافؤ الأدلة).
وقد سألوا أيضاً فقالوا: بأي شيء عرفتم صحة حجة العقل؟ أبحجة عقل أم بغير ذلك؟ فإن قلتم: عرفناها بحجة العقل ففي ذلك نازعناكم، وإن قلتم بغير ذلك فهاتوه.
قال أبو محمد : وهذا سؤال مبطل الحقائق كلها.
والجواب على ذلك وبالله تعالى التوفيق: أن صحة ما أوجبه العقل عرفناه بلا واسطة وبلا زمان، ولم يكن بين أول أوقات فهمنا، وبين معرفتنا بذلك مهلة البتة، ففي أول أوقات فهمنا علمنا أن الكل أكثر من الجزء، وأن كل شخص فهو غير الشخص الآخر، وأن الشيء لا يكون قائماً قاعداً في حال واحدة، وأن الطويل أمد من القصير وبهذه القوة عرفنا صحة ما توجبه الحواس، وكلما لم يكن بين أول أوقات معرفة المرء وبين معرفته به مهلة ولا زمان، فلا وقت للاستدلال فيه، ولا يدري أحد كيف وقع له ذلك، إلا أنه فعل الله عز وجل في النفوس فقط. ثم من هذه المعرفة أنتجنا جميع الدلائل. ثم نقول له إن كنت مسلماً بالقرآن يوجب صحة حجج العقول على ما سنورده في آخر هذا الباب إن شاء الله تعالى، فإن كلامنا في هذا الديوان إنما هو مع أهل ملتنا.
وأما إن كان المكلم به لنا غير مسلم فقد أجبناه عن هذا السؤال في كتابنا الموسوم بالفصل، وكتابنا الموسوم بالتقريب، وتقصينا هذا الشك وبيّنا خطأه بعون الله تعالى، وليس كتابنا هذا مكان الكلام مع هؤلاء.
قال أبو محمد : ويقال لمن قال بإِلهام: ما الفرق بينك وبين من ادعى أنه ألهم بطلان قولك فلا سبيل له إلى الانفصال عنه.
والفرق بين هذه الدعوى ودعوى من ادعى أنه يدرك بعقله خلاف ما يدركه ببديهة العقل، وبين ما لا يدركه بأوائل العقل أن كل من في المشرق والمغرب إذا سئل عما ذكرناه أننا عرفناه بأوائل العقل أخبر بمثل ما نخبر سواء، وأن المدعين للإلهام، ولإدراك ما يدركه غيرهم بأوله عقله، لا يتفق اثنان منهم على ما يدعيه كل واحد منهم، إلهاماً أو إدراكاً، فصح بلا شك أنهم كذبة. وأن الذي بهم وسواس. وأيضاً فإن الإلهام دعوى مجردة من الدليل، ولو أعطي كل امرىء بدعواه المعراة لما ثبت حق، ولا بطل باطلٍ، ولا استقر ملك أحد على مال ولا انتصف من ظالم، ولا صحت ديانة أحد أبداً، لأنه لا يعجز أحد عن أن يقول: ألهمت أن دم فلان حلال، وأن ماله مباح لي أخذه، وأن زوجه مباح لي وطؤها، وهذا لا ينفك منه، وقد يقع في النفس وساوس كثيرة لا يجوز أن تكون حقًّا، وأشياء متضادة يكذب بعضها بعضاً، فلا بدّ من حاكم يميز الحق منها من الباطل، وليس ذلك إلا العقل الذي لا تتعارض دلائله. وقد بيّنا ذلك في كتاب التقريب.
قال أبو محمد : ويقال لمن قال بالإمام: بأي شيء عرفت صحة قول الإمام، أببرهان أم بمعجزة أم بإلهام؟ أم بقوله مجرداً ؟.
فإن قال ببرهان كلف بأن يأتي به، ولا سبيل له إليه، وإن قال بمعجزة ادعى البهتان لاسيما الآن وهم يقرون أنه قد خفي عنهم موضعه منذ مائة وسبعين عاماً، وإن قالوا بالإلهام سئلوا بما ذكرنا في إبطال الإلهام، وإن قالوا بقوله مجرداً سئلوا عن الفرق بين قوله وقول خصومهم في إبطال مذاهبهم دون دليل، ولا سبيل إلى وجه خامس أصلاً.
قال أبو محمد : ويقال لمن قال بالتقليد: ما الفرق بينك وبين من قلد غير الذي قلدت أنت، بل كفّر من قلدته أنت أو جهّله.
فإن أخذ يستدل في فضل من قلده كان قد ترك التقليد، وسلك في طريق الاستدلال من غير التقليد، وقد أفردنا في إبطال التقليد باباً ضخماً قرب آخر كتابنا هذا استوعبنا فيه إبطاله وبالله التوفيق.
قال أبو محمد : ويقال لمن قال لا يدرك شيء إلا من طريق الخبر، أخبرنا الخبر كله حق؟ أم كله باطل؟ أم منه حق وباطل ؟
فإن قال هو باطل كله كان قد أبطل ما ذكر أنه لا يعلم شيء إلا به، وفي هذا إبطال قوله وإبطال جميع العلم، وإن قال حق كله، عورض بأخبار مبطلة لمذهبه، فلزمه ترك مذهبه لذلك أو اعتقاد الشيء وضده في وقت واحد، وذلك ما لا سبيل إليه، وكل مذهب أدى إلى المحال وإلى الباطل فهو باطل ضرورة، فلم يبق إلا أن من الخبر حقًّا وباطلاً، فإذا كان كذلك بطل أن يعلم صحة الخبر بنفسه، إذ لا فرق بين صورة الحق منه وصورة الباطل فلا بد من دليل يفرق بينهما، وليس ذلك إلا لحجة العقل المفرقة بين الحق والباطل.
قال أبو محمد : ثم يقال لجميعهم: بأي شيء عرفتم صحة ما تدعون إليه، وصحة التوحيد والنبوة، ودينك الذي أنت عليه، أبعقل ذلك على صحة كل ذلك أم بغير عقل ؟ وبأي شيء عرفت فضل من قلدت، أو صحة ما ادعيت أنك ألهمته بعد أن لم تكن ملهماً إليه ولا مقلداً له برهة من دهرك ؟ وبأي شيء عرفت صحة ما بلغك من الأخبار بعد أن لم تكن بلغتك؟ وهل لك من عقل أم لا عقل لك ؟
فإن قال: عرفت كل ذلك بلا عقل ولا عقل لي فقد كفينا مؤنته، وبلغنا في نفسه أكثر مما رغبنا منه، فإننا إنما رغبنا منه الاعتراف بالخطأ، فقد زادنا في نفسه منزلة لم نرغبها منه، وسقط الكلام معه ولزمنا السكوت عنه، وإلا كنا في نصاب من يكلم السكارى الطافحين والمجانين المتعرين على الطرق.
فإن قال: لي عقل وبعقلي عرفت ما عرفت فقد أثبت العقل وترك مذهبه الفاسد ضرورة.
قال أبو محمد : واحتجوا في إبطال الجدال والمناظرة بآيات ذكروها وهي قوله تعالى { لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ * وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } .
قال أبو محمد : وهذه الآية مبينة وجه الجدال المذموم، وهو قوله تعالى : فيمن يحاج بعد ظهور الحق، وهذه صفة المعاند للحق، الآبي من قبول الحجة بعد ظهورها، وهذا مذموم عند كل ذي عقل.
ومنها قوله تعالى: {وَقَالُواْ أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } .
قال أبو محمد : وإنما ذمّ تعالى في هذه الآية من خاصم وجادل في الباطل، وعارض الآلهة التي كانوا يعبدون من حجارة لا تعقل بعيسى النبي العبد المؤيد بالمعجزات، من إحياء الموتى وغير ذلك. ومنها قوله تعالى: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } ، ومنها قوله تعالى: {فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } .
قال أبو محمد : قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً } فصح بهذه الآية أن كلام الله تعالى لا يتعارض ولا يختلف، فوجدناه تعالى أثنى على الجدال بالحق وأمر به، فعلمنا يقيناً أن الذي أمر به تعالى هو غير الذي نهى عنه بلا شك، فنظرنا في ذلك لنعلم وجه الجدال المنهي عنه المذموم، ووجه الجدال المأمور به المحمود، لأنا قد وجدناه تعالى قد قال: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ }
ووجدناه تعالى قد قال: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } فكان تعالى قد أوجب الجدال في هذه الآية، وعلم فيها تعالى جميع آداب الجدال كلها من الرفق والبيان، والتزام الحق والرجوع إلى ما أوجبته الحجة القاطعة.
وقال تعالى: {قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } .
ولم يأمر الله عز وجل رسوله أن يقول هذا شكًّا في صدق ما يدعو إليه، ولكن قطعاً لحجتهم وحسماً لدعواهم وإلزاماً لهم، مثل ما التزم لهم من رجوعه إلى الأهدى واتباعه الأمر الأصوب، وإعلاماً لنا أن من لم يأت بحجة على قوله يصير بها أهدى من قول خصمه، ويبين أن الذي يأتي به هو من عند الله عز وجل، فليس صادقاً وإنما هو متبع لهواه.
وقال تعالى: {قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بِهَـذَآ أَتقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ } .
قال أبو محمد : ففي هذه الآية بيان أنه لا يقبل قول أحد إلا بحجة، والسلطان ههنا بلا اختلاف من أهل العلم واللغة هو الحجة، وإن من لم يأت على قوله بحجة فهو مبطل بنص حكم الله عز وجل، وأنه مفتر على الله تعالى، وكاذب عليه عز وجل بنص الآية لا تأويل ولا تبديل، وأنه لا يفلح إذا قال قولة لا يقيم على صحتها حجة قاطعة، ووجدناه تعالى قد علمنا في هذه الآيات وجوه الإِنصاف الذي هو غاية العدل في المناظرة، وهو أنه من أتى ببرهان ظاهر وجب الانصراف إلى قوله.
وهكذا نقول نحن اتباعاً لربنا عز وجل بعد صحة مذاهبنا لا شكًّا فيها ولا خوفاً منه أن يأتينا أحد بما يفسدها، ولكن ثقة منا بأنه لا يأتي أحد بما يعارضها به أبداً؛ لأننا ولله الحمد أهل التخليص والبحث، وقطع العمر في طلب تصحيح الحجة واعتقاد الأدلة، قبل اعتقاد مدلولاتها، حتى وفقنا، ولله تعالى الحمد على ما ثلج اليقين، وتركنا أهل الجهل والتقليد في ريبهم يترددون.
وكذلك نقول فيما لم يصح عندنا حتى الآن فنقول مجدين مقرين إن وجدنا ما هو أهدى منه اتبعناه وتركنا ما نحن عليه.
وإنما هذا في مسائل تعارضت فيها الأحاديث والآي في ظاهر اللفظ، ولم يقم لنا بيان الناسخ من المنسوخ فيها فقط أو في مسائل وردت فيها أحاديث لم تثبت عندنا، ولعلها ثابتة في نقلها، فإن بلغنا ثباتها صرنا إلى القول بها، إلا أن هذا في أقوالنا قليل جداً والحمد لله رب العالمين.
وأما سائر مذاهبنا فنحن منها على غاية اليقين وقال تعالى: {وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُواْ آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـهُنَا وَإِلَـهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } فأمر عز وجل كما ترى بإيجاب المناظرة في رفق، وبالإنصاف في الجدال، وترك التعسف والبذاء والاستطالة إلا على من بدأ بشيء من ذلك، فيعارض حينئذ بما ينبغي.
وقال تعالى: {يمَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } والسلطان الحجة كما ذكرنا وقال تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } .
فذكر عز وجل تقدير إبراهيم عليه السلام قومه على نقله الكواكب والشمس والقمر التي كانوا يعبدون من دون الله، وأن ذلك لدليل على خلقها، وبرهان على حدوثها فقال عز وجل: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } .
وقد أمرنا تعالى في نص القرآن باتباع ملة إبراهيم عليه السلام، وخبرنا تعالى أن من ملة إبراهيم المحاجة والمناظرة، فمرة للملك ومرة لقومه، والاستدلال كما أخبرنا تعالى عنه، ففرض علينا اتباع المناظرة لنصرف أهل الباطل إلى الحق، وأن نطلب الصواب بالاستدلال فيما اختلف فيه المختلفون.
قال الله عز وجل: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ }
فنحن المتبعون لإبراهيم عليه السلام في المحاجة والمناظرة، فنحن أولى الناس به، وسائر الناس مأمورون بذلك.
قال الله تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } ومن ملته المناظرة كما ذكرنا، فمن نهى عن المناظرة والحجة فليعلم أنه عاصٍ لله عز وجل ومخالف لملة إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما.
قال الله عز وجل ، وقد أثنى على أصحاب الكهف : { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى* و ربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربّنا ربّ السموات و الأرض لن ندعوا من دونه الهاً لقد قلنا إذاً شططاً* هؤلاء قومنا اتّخذوا من دونه آلهة لولا يأتونَ عليهم بسلطان بيّن، فمن أظلم ممّن افترى على الله كذبا } فأثنى الله عز وجل عليهم في إنكارهم قول قومهم إذ لَم يقم قومهم على قولهم حجة بينة، وصدقهم تعالى في قولهم أن من ادعى قولاً بلا دليل فهو مفتر على الله عز وجل الكذب.
وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ } فلا أظلم ممن قامت عليه الحجة من كتاب الله تعالى، ومن كلام نبيه فأعرض عنه، وهو الحجة القاطعة والبرهان الصادع وقال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
وقال تعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَهْوَآءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } فأخبر تعالى كما تسمع أن ما اتبع قولاً وافقه بلا علم بصحته فهو ظالم، وإن من لم يرجع إلى ما يسمع من الحق فهو من أهل النار، وقال تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } أنكر الله تعالى أن يكذب المرء بما لا يعلم.
فقال تعالى : {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ } فصح بكل ما ذكرنا الوقوف عما لا نعلمُ والرجوع إلى ما أوجبته الحجة بعد قيامها.
وقال تعالى : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } .
قال أبو محمد : في هذه الآية كفاية في إيجاب ألا يصدق أحد بما لم تقم عليه حجة، وألا يأتي ما قامت عليه الحجة، فمن أظلم ممن عرف ما ذكرنا وأخذ بوسواس يقوم في نفسه، أو بخبر لم يقم على وجوب تصديقه برهان، أو قلد إنساناً مثله لعله عند الله تعالى على خلاف ما يظن، وعلى كل حال فهو معصوم لكن يخطىء ويصيب.
وقال تعالى : {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فأوجب تعالى أن من كان صادقاً في دعواه فعليه أن يأتي بالبرهان وإن لم يأت بالبرهان فهو كاذب مبطل، أو جاهل. وقال تعالى: {هأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } فلم يوجب تعالى المحاجة إلا بعلم، ومنع منها بغير علم.
وقال تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً } .
قال أبو محمد : فلما وجدنا الله تعالى قد أمر في الآيات التي ذكرنا بالحجاج والمناظرة، ولم يوجب قبول شيء إلا ببرهان، وجب علينا تطلب الحجاج المذموم على ما قدمناه فوجدناه قد قال: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُواْ آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُواً } ، فذمّ تعالى كما ترى الجدال بغير حجة والجدال في الباطل، وأبطل تعالى بذلك قول المجانين كل مفتون ملقن حجة، وبيّن تعالى أن المفتون هو الذي لا يلقن حجة، وأن المحق هو الملقن حجة على الحقيقة وهم أهل الحق.
وقال تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُـلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } .
فقد جمعت هذه الآيات بيان الجدال المذموم، والجدال المحمود الواجب، فالواجب هو الذي يجادل متوليه في إظهار الحق، والمذموم وجهان بنص الآيات التي ذكرنا : أحدهما من جادل بغير علم والثاني من جادل ناصراً للباطل بشغب وتمويه بعد ظهور الحق إليه، وفي هذا بيان أن الحق في واحد، وأنه لا شيء إلا ما قامت عليه حجة العقل، وهؤلاء المذمومون هم الذين قال الله تعالى فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ } وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ } وقوله تعالى: {ومِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ } وبقوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلاَدِ * كَـذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُـلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } فبيّن تعالى كما ترى أن الجدال المحرم هو الجدال الذي يجادل به لينصر الباطل ويبطل الحق بغير علم.
قال أبو محمد : ويقال لمن أبى عن مطالبته الجدال ومعاناة طلب البرهان أن فرعون قال: {يقَومِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَآءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَى وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ } {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُـمْ سَبِيـلَ الرَّشَـادِ } ، فبأي شيء يعرف المحق منهما من المبطل: هل يجوز أن يعرف ذلك إلا بدلائل غير كلامها ؟.
فهذا كلام العزيز الجبار الخالق البارىء قد نصصناه في اتباع البرهان، وتكذيب قول من لا حجة في يديه، وهو الذي لا يسع مسلماً خلافه.
لا قول من قال اذهب إلى شاك مثلك فناظره، فيقال له: أترى رسول الله كان شاكاً إذ علمه ربه تعالى مجادلة أهل الكتاب وأهل الكفر، وأمره بطلب البرهان، وإقامة الحجة على كل من خالفه، ولا قول من قال : أو كلما جاء رجل هو أجدل من رجل تركنا ما نحن عليه، أو كلاماً هذا معناه.
قال أبو محمد : وهذا كلام يستوي فيه مع قائله كل ملحد على ظهر الأرض، فلئن وسع هذا القائل ألا يدع ما وجد عليه سلفه بلا حجة لحجة ظاهرة واردة عليه، ليسعن اليهودي والنصراني ألا يدعا ما وجدا عليه سلفهما تقليداً بلا برهان، وألا يقبلا برهان الإسلام الواردة عليهما وحجته القاطعة.
قال الله عز وجل:{قَالُواْ يلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الْلَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ * فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ * وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ * وَيقَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ * قَالُواْ يشُعَيْبُ أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ * قَالَ يقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * وَيقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ * وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ * قَالُواْ يشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } .
قال أبو محمد : فإذاً قد حضّ الله تعالى على المجادلة بالحق وأمر بطلب البرهان فقد صح أن طلب الحجة هي سبيل الله عز وجل، بالنص الذي ذكرنا أن من نهى عن ذلك وصد عنه، فهو صاد عن سبيل الله تعالى، ظالم ملعون بلا تأويل إلا على عين النص الوارد من قبل الله تعالى وبالله نعتصم.
وقال تعالى: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } .
ولا غيظ أغيظ على الكفار والمبطلين من هتك أقوالهم بالحجة الصادعة، وقد تهزم العساكر الكبار، والحجة الصحيحة لا تغلب أبداً، فهي أدعى إلى الحق، وأنصر للدين من السلاح الشاكي، والأعداد الجمة، وأفاضل الصحابة الذين لا نظير لهم، إنما أسلموا بقيام البراهين على صحة نبوة محمد عندهم، فكانوا أفضل ممن أسلم بالغلبة بلا خلاف من أحد من المسلمين.
وأول ما أمر الله عزّ وجل نبيه محمداً أن يدعو له الناس بالحجة البالغة بلا قتال، فلما قامت الحجة وعاندوا الحق، أطلق الله تعالى السيف حينئذ وقال تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } .
وقال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } .
ولا شك في أن هذا إنما هو بالحجة لأن السيف مرة لنا ومرة علينا، وليس كذلك البرهان، بل هو لنا أبداً، ودامغ لقول مخالفينا، ومزهق له أبداً. ورب قوة باليد قد دمغت بالباطل حقاً كثيراً فأزهقته، منها يوم الحرة ويوم قتل عثمان رضي الله عنه، ويوم قتل الحسين وابن الزبير رضي الله عنهم، ولعن قتلتهم، وقد قتل أنبياء كثير وما غلبت حجتهم قط.
قال أبو محمد : وقد علمنا عز وجل الحجة على الدهرية في قوله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } .
وقوله تعالى: {لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً } وعلمنا الحجة على الثنويةَ بقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } وعلى النصارى وعلى جميع الملل، وقد بينا ذلك في كتابنا المرسوم بكتاب الفصل ورأينا فيه عظيم ما أفادنا الله تعالى في ذلك من الحكمة والعلم بالمحاجة وإظهار البرهان بغاية الإيجاز والاختصار.
وقد أمر الله بالجدال على لسان رسوله ﷺ ، كما اخبرنا عبد الله بن الربيع قال:أنبأنا محمد بن إسحاق بن السليم، حدثنا ابن الأعرابي، أنبأنا أبو داود، حدثنا أبو موسى بن إسماعيل، ثنا حماد هو ابن سلمة عن حميد عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله ﷺ : «جَاهِدُوا المُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ» .
قال أبو محمد : وهذا حديث في غاية الصحة، وفيه الأمر بالمناظرة وإيجابها كإيجاب الجهاد والنفقة في سبيل الله.
قال أبو محمد : وقد علمنا رسول الله وضع السؤال موضعه وكيفية المحاجة في الحديث الذي ذكر محاجة آدم موسى صلى الله عليهما وسلم. حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم بن الحجاج، عن ابن أبي عمر المكي ومحمد بن حاتم وغيرهما، واللفظ لابن حاتم كلاهما عن سفيان بن عيينة، عن عمرو، هو ابن دينار، عن طاوس قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله ﷺ : «احَتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى فَقَالَ مُوسَى يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وأَخْرَجْتَنَا مِنَ الجَنَّةِ، فَقَالَ لَهُ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ الله بِكَلاَمِهِ، وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ، أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ الله عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةٍ. فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى».
قال أبو محمد : فموسى وضع الملامة في غير موضعها، فصار محجوجاً، وذلك لأنه لام آدم على أمر لم يفعله، وهو خروج الناس من الجنة، وإنما هو فعل الله عز وجل، ولو أن موسى لام آدم على خطيئته الموجبة لذلك لكان واضعاً للملامة موضعها، ولكان آدم محجوجاً وليس أحد ملوماً إلا على ما يفعله لا على ما تولد من فعله، ولا مما فعله غيره. والكافر إنما يلام على الفعل، لا على دخول النار، والقاتل إنما يلام على فعله، لا على موت مقتوله ولا على أخذ القصاص منه.
فعلمنا رسول الله ﷺ في هذا الحديث كما ترى كيف نسأل عند المحاجة، وبيّن لنا أن المحاجة جائزة، وأن من أخطأ موضع السؤال كان محجوجاً، وظهر بذلك قول الله عز وجل: {كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } . والذي ذكرنا هو نص الحديث لا ما ظنه من يتعسف الكلام ويحرفه عن مواضعه، ويطلب فيه ما ليس فيه، وليس هذا الحديث من باب إثبات القدر في شيء، وإثبات القدر إنما يصح من أحاديث أخر وآيات أخر.
قال أبو محمد : وقد تحاج المهاجرون والأنصار وسائر الصحابة رضوان الله عليهم، وحاج ابن عباس الخوارج بأمر علي رضى الله عنه، وما أنكر قط أحد من الصحابة الجدال في طلب الحق.
فلا معنى لقول لمن جاء بعدهم.
وبالجملة فلا أضعف ممن يروم إبطال الجدال بالجدال.
ويريد هدم جميع الاحتجاج بالاحتجاج، ويتكلف فساد المناظرة بالمناظرة، لأنه مقر على نفسه أنه يأتي بالباطل، لأن حجته هي بعض الحجج التي يريد إبطال جملتها.
وهذه طريق لا يركبها إلا جاهل ضعيف ، أو معاند سخيف.
والجدال الذي ندعو إليه هو طلب الحق ونصره. وإزهاق الباطل وتبينه. فمن ذم طلب الحق وأنكر هدم الباطل فقد ألحد. وهو من أهل الباطل حقاً.
والخصام بالباطل هو اللدد الذي قال فيه ﷺ : «أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلى الله الأَلَدُّ الخَصِمُ» أو كما قال .
فإذاً قد بطلت كل طريق ادعاها خصومنا في الوصول إلى الحقائق من الإلهام والتقليد، وثبت أن الخبر لا يعلم صحته بنفسه، ولا يتميز حقه من كذبه، وواجبه من غير واجبه، إلا بدليل من غيره، فقد صح أن المرجوع إليه حجج العقول وموجباتها، وصح أن العقل إنما هو مميز بين صفات الأشياء الموجودات، وموقف للمستدل به على حقائق كيفيات الأمور الكائنات، وتمييز المحال منها.
وأما من ادعى أن العقل يحلل أو يحرم، أو أن العقل يوجد عللاً موجبة لكون ما أظهر الله الخالق تعالى في هذا العالم من جميع أفاعيله الموجود فيه من الشرائع وغير الشرائع، فهو بمنزلة من أبطل موجب العقل جملة. وهما طرفان أحدهما أفرط فخرج عن حكم العقل، والثاني قصر فخرج عن حكم العقل، ومن ادعى في العقل ما ليس فيه كمن أخرج منه ما فيه، ولا فرق.
ولا نعلم فرقة أبعد من طريق العقل من هاتين الفرقتين معاً، إحداهما: التي تبطل حجج العقل جملة. والثانية: التي تستدرك بعقولها على خالقها عز وجل أشياء لم يحكم فيها ربهم بزعمهم، فثقفوها هم ورتبوها رتباً أوجبوا أن لا محيد لربهم تعالى عنها، وأنه لا تجري أفعاله عز وجل إلا تحت قوانينها.
لقد افترى كلا الفريقين على الله عز وجل إفكاً عظيماً، وأتوا بما تقشعر منه جلود أهل العقول.
وقد بيّنا أن حقيقة العقل إنما هي تمييز الأشياء المدركة بالحواس وبالفهم ومعرفة صفاتها التي هي عليها جارية على ما هي عليه فقط من إيجاب حدوث العالم، وأن الخالق واحد لم يزل، وصحة نبوة من قامت الدلائل على نبوته، ووجوب طاعة من توعدنا بالنار على معصيته، والعمل بما صححه العقل من ذلك كله، وسائر ما هو في العالم موجود، مما عدا الشرائع، وأن يوقف على كيفيات كل ذلك فقط.
فأما أن يكون العقل يوجب أن يكون الخنزير حراماً أو حلالاً، أو يكون التيس حراماً أو حلالاً، أو أن تكون صلاة الظهر أربعاً وصلاة المغرب ثلاثاً أو أن يمسح على الرأس في الوضوء دون العنق، أو أن يحدث المرء من أسفله فيغسل أعلاه، أو أن يتزوج أربعاً ولا يتزوج خمساً، أو أن يقتل من زنى وهو محصن وإن عفي عنه زوج المرأة وأبوها ولا يقتل قاتل النفس المحرمة عمداً إذا عفا عنه أولياء المقتول.
أو أن يكون الإنسان ذا عينين دون أن يكون ذا ثلاثة أعين أو أربع، أو أن تخص صورة الإنسان بالتمييز دون صورة الفرس، أو أن تكون الكواكب المتحيرة سبعاً دون أن تكون تسعاً، وكذلك سائر رتب العالم كلها.
فهذا ما لا مجال للعقل فيه لا في إيجابه ولا في المنع منه، وإنما في العقل الفهم عن الله تعالى لأوامره، ووجوب ترك التعدي إلى ما يخاف العذاب على تعديه، والإقرار بأن الله تعالى يفعل ما يشاء ، ولو شاء أن يحرم ما أحل أو يحل ما حرم لكان ذلك له تعالى، ولو فعله لكان فرضاً علينا الانقياد لكل ذلك ولا مزيد.
ومعرفة صفات كل ما أدركنا معرفته مما في العالم وأنه على صفة كذا وهيئة كذا كما أحكمه ربه تعالى ولا زيادة فيه وبالله تعالى التوفيق، وإليه الرغبة في دفع ما لا نطيق.
=========
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/الباب الرابع
في كيفية ظهور اللغات أعن التوقيف ؟ أم عن إصطلاح ؟
قال أبو محمد: أكثر الناس في هذا، والصحيح من ذلك أصل الكلام توقيف من الله عز وجل بحجة سمع وبرهان ضروري. فأما السمع فقول الله عز وجل: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـؤُلاءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .
وأما الضروري بالبرهان : فهو أن الكلام لو كان اصطلاحاً لما جاز أن يصطلح عليه إلا قوم قد كملت أذهانهم ، وتدربت عقولهم ، وتمت علومهم ، ووقفوا على الأشياء كلها الموجودة في العالم وعرفوا حدودها واتفاقها ، واختلافها وطبائعها وبالضرورة نعلم أن بين أول وجود الإنسان وبين بلوغه هذه الصفة سنين كثيرة جداً يقتضي في ذلك تربية وحياطة وكفالة من غيره .
إذ المرء لا يقوم بنفسه إلا بعد سنين من ولادته. ولا سبيل إلى تعايش الوالدين والمتكفلين والحضان إلا بكلام يتفاهمون به مراداتهم فيما لا بد لهم منه، فيما يقوم معايشهم من حرث أو ماشية أو غراس، ومن معاناة ما يطرد به الحر والبرد والسباع ، ويعاني به الأمراض ، ولا بد لكل هذا من أسماء يتعارفون بها ما يعانونه من ذلك.
وكل إنسان فقد كان في حالة الصغر التي ذكرنا من امتناع الفهم والاحتياج إلى كافل، والاصطلاح يقتضي وقتاً لم يكن موجوداً قبله، لأنه عمل المصطلحين، وكل عمل لا بد من أن يكون له أو فكيف كانت حال المصطلحين على وضع اللغة قبل اصطلاحهم عليه، فهذا من الممتنع المحال ضرورة.
قال أبو محمد: وهذا دليل برهاني ضروري من أدلة حدوث النوع الإنساني، ومن أدلة وجود الواحد الخالق الأول تبارك وتعالى، ومن أدلة وجود النبوة والرسالة لأنه لا سبيل إلى بقاء أحد من الناس ووجوده دون كلام ، والكلام حروف مؤلفة، والتأليف فعل فاعل ضرورة لا بد له من ذلك ، وكل فعل فعله فله زمان ابتدىء فيه ، لأن الفعل حركة تعدها المدد ، فصح أن لهذا التأليف أولاً ، والإنسان لا يوجد دونه. وما لم يوجد قبل ما له أول فله أول ضرورة، فصح أن للمحدث محدثاً بخلافة، وصح أن ما علم من ذلك مما هو مبتدأ من عند الخالق تعالى مما ليس في الطبيعة معرفته دون تعليم فلا يمكن البتة معرفته إلا بمعلم علمه الباري إياه.
ثم علم هو أهل نوعه ما علمه ربه تعالى.
قال أبو محمد: وأيضاً فإن الاصطلاح على وضع لغة لا يكون ضرورة إلا بكلام متقدم بين المصطلحين على وضعها.
أو بإشارات قد اتفقوا على فهمها. وذلك الاتفاق على فهم تلك الإشارات لا يكون إلا بكلام ضرورة ومعرفة حدود الأشياء وطبائعها التي عبّر عنها بألفاظ اللغات لا يكون إلا بكلام وتفهيم.
لا بد من ذلك. فقد بطل الاصطلاح على ابتداء الكلام.
ولم يبق إلا أن يقول قائل: إن الكلام فعل الطبيعة.
قال أبو محمد: وهذا يبطل ببرهان ضروري. وهو أن الطبيعة لا تفعل إلا فعلاً واحداً لا أفعالاً مختلفة، وتأليف الكلام فعل اختياري متصرف في وجوه شتى. وقد لجأ بعضهم إلى نوع من الاختلاط، وهو أن قال: إن الأماكن أوجبت بالطبع على ساكنيها النطق بكل لغة نطقوا بها.
قال أبو محمد: وهذا محال ممتنع ، لأنه لو كانت اللغات على ما توجبه طبائع الأمكنة لما أمكن وجود كل مكان إلا بلغته التي يوجبها طبعه. وهذا يرى بالعيان بطلانه لأن كل مكان في الأغلب قد دخلت فيه لغات شتى على قدر تداخل أهل اللغات ومجاورتهم.
فبطل ما قالوا: وأيضاً فليس في طبع المكان أن يوجب تسمية الماء ماء دون أن يسمى باسم آخر مركب من حروف الهجاء.
ومن كابر في هذا، فإما مجاهر بالباطل وإما عديم عقل، لا بد له من أحد هذين الوجهين. فصح أنه توقيف من أمر الله عز وجل وتعليم منه تعالى.
إلا أننا لا ننكر اصطلاح الناس على إحداث لغات شتى بعد أن كانت لغة واحدة وقفوا عليها، بها علموا ماهية الأشياء وكيفياتها وحدودها ، ولا ندري أي لغة هي التي وقف آدم عليه السلام عليها أولاً ، إلا أننا نقطع على أنها أتم اللغات كلها، وأبينها عبارة ، وأقلها إشكالاً، وأشدها اختصاراً وأكثرها وقوع أسماء مختلفة على المسميات كلها المختلفة من كل ما في العالم من جوهر أو عرض لقول الله عز وجل: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـؤُلاءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فهذا التأكيد يرفع الإشكال ويقطع الشغب فيما قلنا.
وقد قال قوم : هي السريانية وقال قوم: هي اليونانية: وقال قوم: هي العبرانية. وقال قوم : هي العربية. والله أعلم .
إلا أن الذي وقفنا عليه وعلمناه يقيناً أن السريانية والعبرانية والعربية هي لغة مضر وربيعة لا لغة حِمْيَر ، لغة واحدة تبدلت بتبدل مساكن أهلها فحدث فيها جرش كالذي يحدث من الأندلسي ، وإذا رام نغمة أهل القيروان ، ومن القيرواني إذا رام نغمة الأندلسي، ومن الخراساني إذا رام نغمتها. ونحن نجد من سمع لغة أهل فحص البلوط وهي على ليلة واحدة من قرطبة كاد أن يقول إنها لغة أخرى غير لغة أهل قرطبة.
وهكذا في كثير من البلاد فإنه بمجاورة أهل البلدة بأمة أخرى تتبدل لغتها تبديلاً لا يخفى على من تأمله.
ونحن نجد العامة قد بدلت الألفاظ في اللغة العربية تبديلاً وهو في البعد عن أصل تلك الكلمة كلغة أخرى ولا فرق.
فنجدهم يقولون في العنب : العينب وفي السوط أسطوط . وفي ثلاثة دنانير ثلثدا .
وإذا تعرب البربري فأراد أن يقول الشجرة قال السجرة .
وإذا تعرب الجليقي أبدل من العين والحاء هاء فيقول مهمداً إذا أراد أن يقول محمداً .
ومثل هذا كثير .
فممن تدبر العربية والعبرانية السريانية أيقن أن اختلافهما إنما هو من نحو ما ذكرنا من تبديل ألفاظ الناس على طول الأزمان واختلاف البلدان ومجاورة الأمم .
وأنها لغة واحدة في الأصل . وإذ تيقنا ذلك فالسريانية أصل للعربية وللعبرانية معاً ، والمستفيض أن أول من تكلم بهذه العربية إسماعيل عليه السلام فهي لغة ولده ، والعبرانية لغة إسحاق ولغة ولده .
والسريانية بلا شك هي لغة إبراهيم صلى الله عليه وعلى نبينا ﷺ بنقل الاستفاضة الموجبة لصحة العلم.
فالسريانية أصل لهما وقد قال قوم : إن اليونانية أبسط اللغات .
ولعل هذا إنما هو الآن فإن اللغة يسقط أكثرها. ويبطل بسقوط دولة أهلها ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم ، فإنما يقيد لغة الأمة وعلومها وأخبارها قوة دولتها، ونشاط أهلها وفراغهم .
وأما من تلفت دولتهم ، وغلب عليهم عدوهم ، واشتغلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم، فمضمون منهم موت الخواطر ، وربما كان ذلك سبباً لذهاب لغتهم ، ونسيان أنسابهم وأخبارهم وبيود علومهم ، هذا موجود بالمشاهدة، ومعلوم بالعقل ضرورة .
ولدولة السريانيين مذ ذهبت وبادت آلاف من الأعوام في أقل منها ينسى جميع اللغة .
فكيف تفلت أكثرها ، والله تعالى اعلم .
ولسنا نقطع على أنها اللغة التي وقف الله تعالى عليها أولاً ، ولا ندري لعل قائلاً يقول : لعل تلك اللغة قد درست البتة وذهبت بالجملة أو لعلها إحدى اللغات الباقية لا نعلمها بعينها ، وهذا هو الذي توجبه الضرورة ولا بد مما لا يمكن سواه أصلاً ، وقد يمكن أن يكون الله تعالى وقف آدم عليه السلام على جميع اللغات التي ينطق بها الناس كلهم الآن .
ولعلها كانت حينئذ لغة واحدة مترادفة الأسماء على المسميات ثم صارت لغات كثيرة ، إذ توزعها بنوه بعد ذلك ، وهذا هو الأظهر عندنا والأقرب ، إلا أننا لا نقطع على هذا كما نقطع على أنه لا بد من لغة واحدة وقف الله تعالى عليها ، ولكن هذا هو الأغلب عندنا ، نعني أن الله تعالى وقف على جميع هذه اللغات المنطوق بها ، وإنما ظننا هذا لأننا لا ندري أي سبب دعا الناس ولهم لغة يتكلمون بها ويتفاهمون بها إلى إحداث لغة أخرى ، وعظيم التعب في ذلك لغير معنى ، ومثل هذا من الفضول لا يتفرع له عاقل بوجه من الوجوه ، فإن وجد ذلك فمن فارع فضولي سيىء الاختيار، مشتغل بما لا فائدة فيه عما يعينه ، وعما هو آكد عليه من أمور معاده ، ومصالح دنياه ولذاته وسائر العلوم النافعة .
ثم من له بطاعة أهل بلده له في ترك لغتهم والكلام باللغة التي عمل لهم ، ولكنا لسنا نجعل ذلك محالا ممتنعاً بل نقول : إنه ممكن بعيد جدًّا ، فإن قالوا : لعل ملكاً كانت في مملكته لغات شتى فجمع لهم لغة يتفاهمون بها كلهم ، قلنا لهم : هذا ضد وضع اللغات الكثيرة ، بل هو جمع اللغات على لغة واحدة ، ثم نقول : وما الذي كان يدعو هذا الملك إلى هذه الكلفة الباردة الصعبة الثقيلة التي لا تفيد شيئاً ؟ وكان أسهل له أن يجمعهم على لغة ما من تلك اللغات التي كانوا يتكلمون بها أو على لغته نفسه فكان أخفّ وأمكن من إحداث لغة مستأنفة، وعلم ذلك عند الله عز وجل. وقد توهم قوم في لغتهم أنها أفضل اللغات.
وهذا لا معنى له لأن وجوه الفضل معروفة ، وإنما هي بعمل أو اختصاص ولا عمل للغة؛ ولا جاء نص في تفضيل لغة على لغة ، وقد قال تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وقال تعالى : {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } .
فأخبر تعالى أنه لم ينزل القرآن بلغة العرب إلا ليفهم ذلك قومه ﷺ لا لغير ذلك ، وقد غلط في ذلك جالينوس فقال : إن لغة اليونانيين أفضل اللغات لأن سائر اللغات إنما هي تشبه إما نباح الكلاب أو نقيق الضفادع .
قال أبو محمد: وهذا جهل شديد لأن كل سامع لغة ليست لغته ولا يفهمها، فهي عنده في النصاب الذي ذكره جالينوس ولا فرق.
وقد قال قوم: العربية أفضل اللغات لأنه بها كلام الله تعالى.
قال أبو محمد: وهذا لا معنى له ، لأن الله عز وجل قد أخبرنا أنه لم يرسل رسولاً إلا بلسان قومه.
وقال تعالى : {إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } وقال تعالى : {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ } فبكل لغة قد نزل كلام الله تعالى ووحيه .
وقد أنزل التوراة والإنجيل والزبور، وكلم موسى عليه السلام بالعبرانية ، وأنزل الصحف على إبراهيم عليه السلام بالسريانية ، فتساوت اللغات في هذا تساوياً واحداً .
وأما لغة أهل الجنة وأهل النار فلا علم عندنا إلا ما جاء في النص والاجماع ، ولا نص ولا إجماع في ذلك ، إلا أنه لا بد لهم من لغة يتكلمون بها ولا يخلو ذلك من أحد ثلاثة أوجه ولا رابع لها : إما أن تكون لهم لغة واحدة من اللغات ، القائمة بيننا الآن ، وإما أن تكون لهم لغة غير جميع هذا اللغات ، وإما أن تكون لهم لغات شتى : لكن هذه المحاورة التي وصفها الله تعالى توجب القطع بأنهم يتفاهمون بلغة إما بالعربية المختلفة في القرآن عنهم، أو بغيرها مما الله تعالى أعلم به.
وقد ادعى بعضهم أن اللغة العربية هي لغتهم ، واحتج بقول الله عز وجل: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
فقلت له: فقل إنها لغة أهل النار لقوله تعالى عنهم أنهم قالوا: {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } ولأنهم قالوا: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ } ولأنهم قالوا : {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } فقال لي: نعم ، فقلت له : فاقض أن موسى وجميع الأنبياء عليهم السلام كانت لغتهم العربية ، لأن كلامهم محكي في القرآن عنهم بالعربية ، فإن قلت هذا كذبت ربك ، وكذبك ربك في قوله : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } .
فصح أن الله تعالى إنما يحكي لنا معاني كلام كل قائل في لغته باللغة التي بها نتفاهم ، ليبين لنا عز وجل فقط ، وحروف الهجاء واحدة لا تفاضل بينها ولا قبح ، ولا حسن في بعضها دون بعض ، وهي تلك بأعيانها في كل لغة ، فبطلت هذه الدعاوى الزائغة الهجينة ، وبالله تعالى التوفيق .
وقد أدى هذا الوسواس العامي ، اليهود إلى أن استجازوا الكذب والحلف على الباطل بغير العبرانية ، وادعوا أن الملائكة الذين يرفعون الأعمال لا يفهمون إلا العبرانية فلا يكتبون عليهم غيرها ، وفي هذا من السخف ما ترى وعالم الخفيات وما في الضمائر عالم بكل لسان ومعانيه عز وجل لا إله إلا هو وهو حسبنا ونعم الوكيل .
======
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/الباب الخامس
الباب الخامس في الألفاظ الدائرة بين أهل النظر
قال أبو محمد : هذا باب خلط فيه كثير ممن تكلم في معانيه ، وشبك بين المعاني وأوقع الأسماء على غير مسمياتها ، ومزج بين الحق والباطل ، فكثر لذلك الشغب والالتباس ، وعظمت المضرة وخفيت الحقائق ، ونحن إن شاء الله تعالى بحوله وقوته مميزون معنى كل لفظة على حقيقتها ، فنقول وبالله تعالى نتأيد :
الحد : هو لفظ وجيز يدل على طبيعة الشيء المخبر عنه كقولك : الجسم هو كل طويل عريض عميق ، فإن الطول والعرض والعمق هي طبائع الجسم لو ارتفعت عنه ارتفعت عن الجسمية ضرورة ولم يكن جسماً ، فكانت هذه العبارة مخبرة عن طبيعة الجسم ومميزة له مما ليس بجسم .
والرسم : هو لفظ وجيز يميز المخبر عنه مما سواه فقط دون أن ينبىء عن طبيعته كقولك : الإنسان هو الضحاك ، فإنك ميزت الإنسان بهذا اللفظ تمييزاً صحيحاً مما سواه ، إلا أنك لم تخبر بطبيعته لأنك لو توهمت الضحك مرتفعاً عن الإنسان لم تبطل بذلك عنه الإِنسانية ولامتنع بذلك من الكلام في المعلوم والتصرف في الصناعات ولبقيت سائر طبائعه بحسبها .
قال أبو محمد : ولما كان هذان المعنيان متغايرين ، كل واحد منهما غير صاحبه ، وجب ضرورة أن يعبر عن كل واحد منهما بعبارة غير عبارتنا عن الآخر ، ولو عبرنا عنهما عبارة واحدة لكنا قد أوقعنا من يقبل منا في الإِشكال ولكنا ظالمين لهم جدًّا وغير ناصحين لهم ، وهذا خلاف ما أخذه الله تعالى على العلماء ، إذ يقول الله تعالى على لسان نبيهﷺ : «ليبيِّنهُ للنَّاس ولا يَكتمُونه، ومن لبس الحقائق فقد كتمها» .
والعلم : هو تيقن الشيء على ما هو عليه ، إما عن برهان ضروري موصل إلى تيقنه كذلك ، وإما أول بالحس أو ببديهة العقل ، وإما حادث عن أول على ما بيّنا في كتاب التقريب من أخذ المقدمات الراجعة إلى أول العمل أو الحس ، إما من قرب وإما من بعد ، وإما عن اتباع لمن أمر الله تعالى باتباعه ، فوافق فيه الحق ، وإن لم يكن عن ضرورة ولا عن استدلال ، برهان ذلك أن جميع الناس مأمورون بقول الحق واعتقاده ، وأن رسول الله ﷺ دعا الناس كلهم إلى الإِيمان بالله تعالى ، وبما جاء به والنطق بذلك ، ولم يشترط ﷺ عليهم ألا يكون ذلك منهم إلا عن استدلال ، بل قنع بهذا من العالم والجاهل ، والحر والعبد ، والمسبي والمستعرب ، واجتمعت الأمة على ذلك بعده عليه إلى اليوم .
وقنعوا بذلك ممن أجابهم إليه ، ولم يشترط عليهم استدلالاً في ذلك ؛ فإذا ذاك كذلك فقد صح أن من اعتقد ما ذكرنا وقال به فهو عالم بذلك بيقين عارف به ، إذ لو كان غير عالم بذلك لحرم القول عليه بذلك ، ولحرم عليه اعتقاده لأن الله تعالى يقول : {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }
وقال تعالى : {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } فصح إذ هو مأمور باعتقاده الحق والقول به ، ومنهي عن القول بما لا يعلم ، وعن أن يقفوا ما لا يعلم أن عقده في الحق وقوله به علم صحيح ومعرفة حقيقية وإن لم يكن ذلك عن استدلال، ومن ادعى تخصيص نهي الله تعالى عن القول بما لا علم لنا به ، وعن قفوِّ ما لا نعلم ، كان مدعياً بلا دليل ، ومبطلاً في قوله لأنه يقول : {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } إلا في الإيمان ، فاقف فيه ما لا علم لك به ، وهذا كذب على الله تعالى مجرد .
فإن قال قائل : فإن الله يقول : {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .
قلنا : نعم إنما خاطب الله بهذا من قال بالباطل ، ولا برهان لصاحب الباطل ، وأما المعتقد للحق فبرهان الحق قائم ، سواء علمه المعتقد له أو جهله ، وإنما يكف البرهان أهل الباطل لإدحاض باطلهم ؛ ولا يجوز أن يكلف المحق برهاناً ، لأنه لا يخلو مكلفه البرهان من أن يكون محقًّا مثله أو مبطلاً ، فإن كان محقًّا مثله فهو معنت له ، والتعنيت لا يجوز وإن كان مبطلاً فحرام عليه الجدال في الحق ، قال تعالى : {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ } وقال تعالى : {كَـذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُـلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } فلا يجوز تكليف المحق برهاناً إلا على أن يعلمه فقط لا على سبيل معارضة ، لأن من فعل ذلك يكون معارضاً للحق ، ومعارضته الحق بالباطل لا تجوز ، قال تعالى ذاماً لقوم : {كَـذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُـلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } .
وقد تحذلق قوم فأداهم ذلك إلى الهلكة ، فقالوا : الحدود لا تختلف في قديم ولا محدث ، وهذا كلام موجب الكفر ، لأنهم يوقعون بذلك الباري تعالى تحت الحدوث، لأن كل محدود متناهٍ ومركب ، وكل مركب فمخلوق، لأنه مركب من جنسه وفصله المميز له مما جامعه تحت جنسه ، فقد جعلوا ربهم محدثاً تعالى الله عن ذلك .
وقالوا : حد العلم أنه صفة لا يتعذر بوجودها على الحي القادر إحكام الفعل .
قال أبو محمد : وهذا حد فاسد لأن النحل لا يتعذر عليها أحكام بناء الشمع ووضع العسل ، ولا تسمى عالمة ، وقد يعرض للعالم الناقد خدر يبطل يديه ورجليه فيعتذر عليه كل فعل حكمة أو غير حكمة وعلمه وعقله باقيان .
وقالت طائفة منهم : حد العلم منا ومن الله تعالى أنه صفة يتبين بها المعلوم على ما هو عليه من أحواله .
قال أبو محمد : وكلا الحدين فاسد ، ونحن نسألهم : أهذه الصفة التي ذكرتم ؟ أهي والموصوف بها شيء واحد ؟ أم هي والموصوف بها شيئان متغايران ؟
فإن قالوا شيء واحد أبطلوا قولهم في الباري تعالى ، ووافقوا خصومهم إلا في العبارة فقط ، وأيضاً فإن كون الصفة والموصوف شيئاً واحداً غير موجود في العالم لأن الصفات تتعاقب على الموصوفات فتفتى ، والموصوف باق بحسبه ، ولا شك في أن الفاني غير الباقي ، والصفة عرض ونحن لم نقر بعلم الباري تعالى على معنى أنه صفة كصفاتنا ، ولكن اتباعاً منا للنص الوارد في أن له علماً فقط ، إلا أننا نقطع على أنه ليس غيره تعالى وأنه ليس عرضاً ، ونحن لم نسم الباري تعالى عالماً ، وإنما قلنا : إنه عليم كما قال تعالى .
فإن قالوا: فأي فرق بين عالم وعليم . قيل لهم : وأي فرق بين الجبار والمتجبر، فسموا ربكم متجبراً، وأي فرق بين أن نسميه تعالى خير الماكرين ، وأن له مكراً ، ولا نسميه ماكراً ، وكذلك نسميه حكيماً ولا نسميه عاقلاً ونسميه الواحد ولا نسميه الفرد ولا الفذ .
وقد بينا في كتاب الفصل أن أسماءه تعالى أعلام وليست مشتقة أصلاً وبالله التوفيق .
فإن قالوا : إن الصفة والموصوف شيئان متغايران صدقوا وأخرجوا بذلك صفات الباري تعالى عن هذا الحكم .
والاعتقاد : هو استقرار حكم بشيء ما في النفس . إما عن برهان ، أو اتباع من صح برهان قوله فيكون علماً يقيناً ولا بد، وإما عن إقناع فلا يكن علماً متيقناً ويكون إما حقًّا أو باطلاً، وإما لا عن إقناع لا عن برهان فيكون إما حقًّا بالبخت وإما باطلاً بسوء الجد.
والبرهان : كل قضية أو قضايا دلت على حقيقة حكم الشيء .
والدليل : قد يكون برهاناً وقد يكون اسماً يعرف به المسمى، وعبارة يتبين بها المراد كرجل ذلك على طريق تريد قصده ، فذلك اللفظ الذي خاطبك به هو دليل على ما طلبت، وقد يسمى المرء الدال دليلاً أيضاً .
والحجة : هي الدليل نفسه إذا كان برهاناً أو إقناعاً أو شغباً .
والدال : هو المعرف بحقيقة الشيء وقد يكون إنساناً معلماً، وقد يعبر به عن الباري تعالى الذي علمنا كل ما نعلم، وقد يسمى الدليل دالاً على المجاز، ويسمى الدال دليلاً أيضاً كذلك في اللغة العربية .
والاستدلال : طلب الدليل من قبل معارف العقل ونتائجه أو من قبل إنسان يعلم .
والدلالة : فعل الدال، وقد تضاف إلى الدليل على المجاز .
والإِقناع : قضية أو قضايا أنست النفس بحكم شيء ما دون أن توقفها على تحقيق حجة ولم يقم عندها برهان بإبطاله .
والشغب : تمويه بحجة باطلة بقضية أو قضايا فاسدة تقود إلى الباطل وهي السفسطة .
والتقليد : هو اعتقاد الشيء لأن فلاناً قاله ممن لم يقم على صحة قوله برهان، وأما اتباع من أمر الله باتباعه فليس تقليداً، بل هو طاعة حق لله تعالى.
والإِلهام : علم يقع في النفوس بلا دليل ولا استدلال ولا إقناع ولا تقليد، وهو لا يكون إلا: إما فعل الطبيعة من الحي غير الناطق ومن بعض الناطقين أيضاً كنسج العنكبوت وبناء النحل وما أشبه ذلك، وأخذ الصبي الثدي وما أشبه ذلك : أو أول معرفة النفس قبل أوان استدلالها لنا كعلمنا أن الكل أكثر من الجزء، وهو فيما عدا هذين الوجهين باطل.
والنبوة : اختصاص الله عز وجل رجلاً أو امرأة من الناس بإعلامه بأشياء لم يتعلمها؛ إما بواسطة ملك؛ أو بقوة يضعها في نفسه خارجة عن قوى المخلوقين تعضدها خرق العادات وهو المعجزات، وقد انقطعت بعد محمد ﷺ .
والرسالة : أن يأمر الله تعالى نبيًّا بإنذار قوم وقبول عهده، وكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً.
والبيان : كون الشيء في ذاته ممكناً أن تعرف حقيقته لمن أراد علمه.
والإِبانة والتبيين : فعل المبين وهو إخراجه للمعنى من الإشكال إلى إمكان الفهم له بحقيقة، وقد يسمى أيضاً على المجاز ما فهم منه الحق وإن لم يكن للمفهوم منه فعل ولا قصد إلى الأفهام مبيناً كما تقول بيّن لي الموت أن الناس لا يخلدون، والتبيين فعل نفس المبين للشيء في فهمه إياه وهو الاستبانة أيضاً والمبين هو الدال نفسه.
والصدق : هو الإخبار عن الشيء بما هو عليه .
والحق : هو كون الشيء صحيح الوجود ، ولا يغلط من لا سعة لفهمه فيظن أن هذا الحد فاسد بأن يقول الكفر والجور صحيح وجودهما فينبغي أن يكون حقًّا . فليعلم أن هذا شغب فاسد ، لأن وجود الكفر والجور صحيحين في رضاء الله تعالى ليس هو صحيحاً ، بل هو معدوم ، فرضا الله تعالى بهما باطل ، وأما كونهما موجودين من الكافر والجائز فحق صحيح ثابت لا شك فيه، فمثل هذا من الفروق ينبغي مراعاته وتحقيق الكلام فيه ، وإلا وقع الإِشكال وتحير الناظر .
وقد رأينا من يفرق بين الحق والحقيقة وهذا خطأ لا يخفى على ذي فهم ينصف نفسه ، لأن الفرق بين هاتين اللفظتين لم تأت به لغة ولا أوجبته شريعة أصلاً إلا في تسمية الباري تعالى التي لا تؤخذ إلا بالنص، ولا يحل فيها التصريف ، فظهر فساد هذا الفرق بيقين ، وبالله تعالى التوفيق .
وأيضاً فإن الله تعالى قال: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } ولا فرق عند أحد بين قول القائل حقيق على كذا وبين قوله حق على كذا. فظهر فساد هذا الفرق .
والباطل : ما ليس حقًّا.
والكذب : هو الإِخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه.
والأصل : هو ما أدرك بأول العقل وبالحس وقد ذكرناه قبل.
والفرع : كل ما عرف بمقدمة راجعة إلى ما ذكرنا من قرب أو من بعد وقد يكون ذلك الفرع أصلاً لما أنتج منه أيضاً.
والمعلوم : قسمان : معلوم بالأصل المذكور ، ومعلوم بالمقدمات الراجعة إلى الأصل كما بيّنا .
وكل ما نقل بتواتر على النبي ﷺ أو أجمع عليه نقل جميع علماء الأمة عنه ﷺ أو نقله الثقة عن الثقة حتى يبلغ إليه ﷺ ، فداخل في باب ما تيقن ضرورة بالمقدمات المذكورة.والنص : هو اللفظ الوارد في القرآن أو السنَّة المستدل به على حكم الأشياء وهو الظاهر نفسه .
وقد يسمى كل كلام يورد كما قاله المتكلم به نصًّا .
والتأويل : نقل اللفظ عما اقتضاه ظاهره وعما وضع له في اللغة إلى معنى آخر، فإن كان نقله قد صح ببرهان وكان ناقله واجب الطاعة فهو حق، وإن كان نقله بخلاف ذلك اطرح ولم يلتفت إليه وحكم لذلك النقل بأنه باطل.
والعموم : حمل اللفظ على كل ما اقتضاه في اللغة، وكل عموم ظاهر، وليس كل ظاهر عموماً، إذ قد يكون الظاهر خبراً عن شخص واحد ولا يكون العموم إلا على أكثر من واحد.
والخصوص : محل اللفظ على بعض ما يقتضيه في اللغة دون بعض والقول فيه كما قلنا في التأويل آنفاً ولا فرق.
والألفاظ إما دالة على واحد، وإما على أكثر من واحد، فإن كانت ناقصة غير دالة كانت هدراً.
والمجمل : لفظ يقتضي تفسيراً فيؤخذ من لفظ آخر.
والمفسر : لفظ يُفهم منه معنى المجمل المذكور.
والأمر : إلزام الآمر المأمور عملاً ما، فإن كان الخالق تعالى أو رسوله فالطاعة لهما فرض، وإن كان ممن دونهما فلا طاعة له.
والنهي : إلزام الناهي المنهي ترك عمل مَّا، والقول فيه كالقول في الأمر فلا فرق وطاعة الأئمة فيما ليس معصية طاعة لله تعالى لتقدم أمر الله عز وجل بذلك.
والفرض : ما استحق تاركه اللوم واسم المعصية لله تعالى وهو: الواحب، واللازم، والحتم.
والحرام : وهو ما استحق فاعله اللوم واسم المعصية لله تعالى إلا أن يسقط ذلك عنه من الله تعالى عفو أو توبة وهو المحظور، والذي لا يجوز، والممنوع.
والطاعة : تنفيذ الأمر من المأمور فيما أمر به والتوقف عن إتيان المنهي عنه، وقد يسمى كل بر طاعة.
والمعصية : ضد ذلك.
والندب : أمر بتخيير في الترك إلا أن فاعله مأجور، وتاركه لا آثم ولا مأجور وهو: الائتساء، والمستحسن، والمستحب، وهو الاختيار وهو كل تطوع ونافلة كالركوع غير الفرض والصدقة كذلك والصوم كذلك وسائر أعمال البر.
والكراهة : نهي بتخيير في الفعل إلا أن على تركه ثواباً وليس في فعله أجر ولا إثم، وذلك نحو ترك كل تطوع، ونحو اتخاذ المحاريب في المساجد، والتنشف بعد الغسل من الجنابة بثوب معد لذلك غير الذي يلبسه المرء، وبيع السلاح ممن لا يؤمن منه أن يستعمله فيما لا يحل، وابتياع الخصيان إذا أدى ذلك إلى خصائهم بطلب الغلاء في أثمانهم، والحلق في غير علة أو حج أو عمرة، والأكل متكئاً.
والإِباحة : تسوية بين الفعل والترك لا ثواب على شيء منهما ولا عقاب، كمن جلس متربعاً أو رافعاً إحدى ركبتيه، أو كمن صبغ ثوبه أخضر، أو لازوديًّا، وسائر الأمور كذلك وهو الحلال.
والقياس : عند القائلين به والمبطلين له أن يحكم بشيء ما بحكم لم يأت به نص لشبهه شيء آخر ورد فيه ذلك الحكم، وهو باطل كله.
والعلة : طبيعة في الشيء يقتضي صفة تصحيحها، ولا توجد الصفة دونها ككون النار علة للإِحراق والإحراق هو معلولها، والعلة أيضاً المرض ولا علة في شيء من الدين أصلاً، والقول بها في الدين بدعة وباطل.
والسبب : أمر وقع فاختار الفاعل أن يوقع فعلاً آخر من أجله، ولو شاء ألا يوقعه لم يوقعه ككون الذنب سبباً لعقوبة المذنب.
والغرض : نتيجة يقصدها الفاعل بفعله، كالشبع الذي هو غرض الآكل في أكله. وقد يكون الغرض اختياراً، كمراد الله تعالى بشرع الشرائع تعذيب من عصاه وتنعيم من أطاعه.
والأمارة : علامة بين المصطلحين على شيء ما إذا وجدت علم الواجد لها ما وافقه عليه الآخر، وقد يجعلها المرء لنفسه ليستذكر بها ما يخاف نسيانه.
والنية : قصد العمل بإرادة النفس له دون غيره واعتقاد النفس ما استقر فيها.
والشرط : تعليق حكم ما بوجوب آخر، ورفعه برفعه وهو باطل ما لم يأت به نص؛ وذلك نحو قول القائل: إن خدمتني شهراً أعطيتك درهماً . والتفسير والشرح : هما التبيين .
والنسخ : ورود أمر بخلاف أمر كان قبله ينقض به أمر الأول .
والاستثناء : ورود لفظ أو بيان بفعل بإخراج بعض ما اقتضاه لفظ آخر وكان المراد في اللفظ الأول ما بقي بعد المستثنى منه، وهذا هو الفرق بين النسخ والاستثناء، لأن النسخ كان فيه اللفظ الأول مراداً كله طول مدته، وأما المستثنى منه فلم يكن اللفظ الأول مراداً كله قط .
والجدل والجدال : إخبار كل واحد من المختلفين بحجته ، أو بما يقدر أنه حجته وقد يكون كلاهما مبطلاً ، وقد يكون أحدهما محقًّا والآخر مبطلاً ، إما في لفظه وإما في مراده أو في كليهما ، ولا سبيل أن يكونا معاً محقين في ألفاظهما ومعانيهما .
والاجتهاد : بلوغ الغاية واستنفاذ الجهد في المواضع التي يرجى وجوده فيها في طلب الحق، فمصيب موقف أو محروم .
والرأي : ما تخيلته النفس صواباً دون برهان، ولا يجوز الحكم به أصلاً .
والاستحسان : هو ما اشتهته النفس ووافقها كان خطأً أو صواباً .
والصواب : إصابة الحق .
والخطأ : العدول عنه بغير قصد إلى ذلك .
والعناد : العدول عنه بالقصد إلى ذلك .
والاحتياط : طلب السلامة .
والورع : تجنب ما لا يظهر فيه ما يوجب اجتنابه خوفاً أن يكون ذلك فيه .
والجهل : مغيب حقيقة العلم عن النفس .
والطبيعة : صفات موجودة في الشيء يوجد بها على ما هو عليه، ولا يعدم منه إلا بفساده وسقوط ذلك الاسم عنه .
ودليل الخطاب : هو ضد القياس، وهو أن يحكم للمسكوت عنه بخلاف حكم المنصوص عليه .
============
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/الباب الخامس و فصل
والشريعة : هي ما شرعه اللـه تعالى على لسان نبيه في الديانة وعلى ألسنة الأنبياء عليهم السلام قبلـه ، والحكم منها للناسخ ، وأصلـها في اللغة الموضع الذي يتمكن فيه ورود الماء للرَّاكب والشارب من النهر ، قال تعالى : {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } .
وقال امرؤ القيس :
ولما رأت أن الشريعة همها
وأن البياض من فرائصها دامي
تيممت العين التي عند ضارج
يفيء عليها الظل عرمضها طامي
واللغة : ألفاظ يعبر بها عن المسميات وعن المعاني المراد إفهامها ، ولكل أمة لغتهم. قال اللـه عز وجل : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
ولا خلاف في أنه تعالى أراد اللغات .
واللفظ : هو كل ما حرك به اللسان .
قال تعالى : {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ } وحدّه على الحقيقة أنه هواء مندفع من الشفتين والأضراس والحنك والحلق والرئة على تأليف محدود ، وهذا أيضاً هو الكلام نفسه .
والخلاف : هو التنازع في أي شيء كان ، وهو أن يأخذ الإِنسان في مسالك من القول أو العقل ، ويأخذ غيره في مسلك آخر وهو حرام في الديانة ، إذ لا يحل خلاف ما أثبته اللـه تعالى فيها ، وقال تعالى : { وَلاَ تَنَازَعُواْ } وقال تعالى: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } وهو التفريق أيضاً، قال تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ } .
والإِجماع : هو في اللغة ما اتفق عليه اثنان فصاعداً وهو الاتفاق ، وهو حينئذ مضاف إلى ما أجمع عليه ، وأما الإِجماع الذي تقوم به الحجة في الشريعة فهو ما اتفق أن جميع الصحابة رضي الله عنهم قالوه ودانوا به عن نبيهم ، وليس الاجماع في الدين شيئاً غير هذا ، وأما ما لم يكن إجماعاً في الشريعة فهو ما اختلفوا فيه باجتهادهم أو سكت بعضهم ، ولو واحد منهم في الكلام فيه .
والسنَّة : هي الشريعة نفسها، وهي في أصل اللغة وجه الشيء وظاهره.
قال الشاعر:
تريك سنَّة وجه غير مقرفة
ما ساء ليس بها خال ولا ندب
وأقسام السنة في الشريعة : فرض ، أو ندب ، أو إباحة ، أو كراهة ، أو تحريم كل ذلك قد سنّه رسول الله ﷺ عن الله عز وجل .
والبدعة : كل ما قيل أو فعل مما ليس له أصل فيما نسب إليه ، وهو في الدين كل ما لم يأت في القرآن ، ولا عن رسول الله ﷺ إلا أن منها ما يؤجر عليه صاحبه ، ويغدر بما قصد إليه من الخير ، ومنها ما يؤجر عليه صاحبه ويكون حسناً ، وهو ما كان أصله الإِباحة كما روي عن عمر رضي الله عنه ، نعمت البدعة هذه وهو ما كان فعل خير جاء النص بعموم استحبابه وإن لم يقرر عمله في النص .
ومنها ما يكون مذموماً ولا يعذر صاحبه وهو ما قامت به الحجة على فساده فتمادى عليه القائل به .
والكتابة : لفظ يقام مقام الاسم كالضمائر المعهودة في اللغات، وكالتعريض بما يفهم منه المراد وإن لم يصرح بالاسم ومنه قيل للكنية كنية .
والإِشارة : تكون باللفظ وتكون ببعض الجوارح وهي تنبيه المشار إليه أو تنبيه عليه .
والمجاز : هو في اللغة ما سلك عليه من مكان إلى مكان وهو الطريق الموصل بين الأماكن، ثم استعمل فيما نقل عن موضعه في اللغة إلى معنى آخر ، ولا يعلم ذلك إلا من دليل من اتفاق أو مشاهدة .
وهو في الدين كل ما نقله الله تعالى أو رسوله ﷺ عن موضعه في اللغة إلى مسمى آخر ومعنى ثان ، ولا يقبل من أحد في شيء من النصوص أنه مجاز إلا ببرهان يأتي به من نص آخر ، أو جماع متيقن ، أو ضرورة حس وهو حينئذ حقيقياً ، لأن التسمية لله عز وجل فإذا سمَّى تعالى شيئاٌ ما باسم ما فهو اسم ذلك الشيء على الحقيقة في ذلك المكان ، وليس ذلك في الدين لغير الله تعالى ، قال عز وجل : {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنَزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى } .
والتشبيه : هو أن يشبه شيء بشيء في بعض صفاته ، وهذا لا يوجب في الدين حكماً أصلاً وهو أصل القياس ، وهو باطل لأن كل ما في العالم فمشبه بعضه لبعض ولا بد من وجه أو من وجوه ، ومخالف أيضاً بعضه لبعض ولا بد من وجه أو من وجوه ، وهو أيضاً التمثيل .
والمتشابه : لا يوجد في شيء من الشرائع إلا بالإِضافة إلى من جهل دون من علم ، وهو في القرآن ، وهو الذي نهينا عن اتباع تأويله وعن طلبه ، وأمرنا بالإِيمان به جملة ، وليس هو في القرآن إلا للأقسام التي في السورة كقوله تعالى : {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى }
والحروف المقطعة التي في أوائل السور وكل ما عدا هذا من القرآن فهو محكم .
والمفصل : هو ما بينت أقسامه وهو في أصل اللغة ما فرق بعضه عن بعض، تقول فصلت الثوب واللحم وغير ذلك .
والاستنباط : إخراج الشيء المعيب من شيء آخر كان فيه ، وهو في الدين إن كان منصوصاً على جملة معناه فهو حق ، وإن كان غير منصوص على جملة معناه فهو باطل لا يحل القول به .
والحكم: هو إمضاء قضية في شيء ما، وهو في الدين تحريم أو إيجاب أو إباحة مطلقة ، أو بكراهة ، أو باختيار .
والإيمان : أصله في اللغة التصديق باللسان والقلب معاً ، لا بأحدهما دون الثاني، وهو في الدين التصديق بالقلب بكل ما أمر الله تعالى به على لسان رسوله ﷺ والنطق بذلك باللسان ، ولا بد من استعمال الجوارح في جميع الطاعات : واجبها ، وندبها ، واجتناب محرمها ومكروهها ، برهان ذلك أن جميع أهل الإيمان مكذوب بأشياء منها أن يكون لله تعالى ولد ، وأن يكون مسيلمة نبيّاً ، وغير ذلك كثير ومصدقون بأشياء كثيرة ، وقد أطلق الله تعالى وأطلق جميعهم بعضهم على بعض اسم الإيمان مطلقاً دون إضافة ، ولا خلاف بين أحد من الأمة في أنه لا يجوز أن يطلق اسم التكذيب عليهم إلا بإضافة ، والكفار مؤمنون بأشياء كثيرة ، ولا خلاف بين أحد من الأمة في أنه لا يجوز أن يطلق عليهم اسم الإيمان مطلقاً إلا بالإضافة ، فصح أن اسم الإيمان منقول عن موضوعه في اللغة إلى ما ذكرناه .
والكفر : أصله في اللغة التغطية ، قال عز وجل : {اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ }
قال لبيد بن أبي ربيعة : ألقت ذكاء يمينها في كافر يريد الليل لأنه يغطي على كل شيء .
وهو في الدين : صفة من جحد شيئاً مما افترض الله تعالى الإيمان به بعد قيام الحجة عليه ببلوغ الحق إليه بقلبه دون لسانه أو بلسانه دون قلبه ، أو بهما معاً ، أو عمل جاء النص بأنه مخرج له بذلك عن اسم الإيمان على ما بيّنا في غير هذا الكتاب برهان ذلك، أن جميع من يطلق عليه اسم الكفر فإنه مصدق بأشياء ، مكذب بأشياء ولا خلاف في أنه لا يجوز أن يطلق عليهم اسم الإيمان بلا إضافة وأهل الإيمان كفار بأشياء كثيرة منها التثليث وغير ذلك ولا خلاف في أنه لا يجوز أن يطلق عليهم اسم الكفر بلا إضافة .
والشرك : هو في اللغة أن يجمع شيئاً إلى شيء فيشرك بينهما فيما جمعا فيه وهو في الدين معنى الكفر سواء لما قد بيناه في غير هذا المكان والتسمية لله تعالى لا لغيره .
والإلزام : هو أن نحكم على الإنسان بحكم ما فإما واجب أو غير واجب .
والعقل : هو استعمال الطاعات والفضائل ، وهو غير التمييز لأنه استعمال ما ميز الإنسان فضله ، فكل عاقل مميز وليس كل مميز عاقلاً ، وهو في اللغة : المنع ؛ تقول : عقلت البعير أعقله عقلاً . وأهل الزمان يستعملونه فيما وافق أهواءهم في سيرهم وزيهم ، والحق هو في قول الله تعالى : {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } يريد الذين يعصونه، وأما فقد التمييز فهو الجهل أو الجنون على حسب ما قابل اللفظ من ذلك .
والفور : هو استعمال الشيء بلا مهلة ولكن على أثر ورود الأمر به .
والتراخي : تأخير إنفاذ الواجب، وحكم أوامر الله عز وجل ورسوله ﷺ كلها على الفور إلا أن يأتي نص بإباحة التراخي في شيء ما فيوقف عنده .
والاحتياط : هو التورع نفسه وهو اجتناب ما يتقي المرء أن يكون غير جائز، وإن لم يصح تحريمه عنده ، أو اتقاء ما غيره خسر منه عند ذلك المحتاط ، وليس الاحتياط واجباً في الدين ولكنه حسن ، ولا يحل أن يقضى به على أحد ولا أن يلزم أحداً لكن يندب إليه لأن الله تعالى لم يوجب الحكم به .
والورع : هو الاحتياط نفسه .
فصـــل فــي معانــي حــروف تتكــرر فــي النصــوص
واو العطف : لاشتراك الثاني مع الأول : إما في حكمه ، وإما في الخبر عنه على حسب رتبة الكلام ، فإن كان الثاني جملة فهو اشتراك في الخبر فقط ، وإن كان اسماً مفرداً فهو مشترك في حكم الأول ، وهي لا تعطي رتبة أي أنها لا توجب أن الأول قبل الثاني ، ولا أنه بعده بل ممكن فيهما أن يكونا معاً ، أو أن يكون أحدهما قبل الآخر بمهلة بلا مهلة كقولك : جاءني زيد وعمرو ، فجائز أن يأتيا معاً ، وجائز أن يأتي زيد قبل عمرو، وعمرو قبل زيد بساعة وبعام وبأقل وبأكثر .
والفاء : تعطي رتبة الثاني بعد الأول بلا مهلة كقولك : جاءني زيد فعمرو ، فزيد جاء قبل عمرو ولا بد ، وأتى عمرو أثره بلا مهلة .
وثم : توجب أن الثاني بعد الأول بمهلة .
وواو القسم : ليست واو عطف لأنها قد يبدأ بها أول الكلام ولا يبتدأ بواو العطف .
وأو للشك وللتخيير : مثل قولك خذ هذا أو هذا ، فإنما ملكت أخذ أحدهما ، وفي الشك قولك : جاءني زيد أو عمرو فلم تقطع بمجيء أحدهما بعينه لكن حققت أن أحدهما أتاك ولم تعينه .
ومعنى الباء : الاتصال مثل قولك : مررت بزيد ، تريد اتصال مرورك به ولا توجب تبعيضاً ولا استيفاء .
ومن : معناها ابتداء أو تبعيض .
وإلى : معناها الانتهاء أو مع ، وهذا يكثر جداً ولهذا قلنا : إنه لا بد للفقيه أن يكون نحوياً لغويَّاً وإلا فهو ناقص ، ولا يحل له أن يفتي لجهله بمعاني الأسماء وبعده عن فهم الأخبار .
=====
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/الباب السادس
هل الأشياء في العقل قبل ورود الشرع على الحظر أو على الإباحة
قال أبو محمد : قال قوم : الأشياء كلها في العقل قبل ورود الشرع على الحظر .
وقال آخرون : بل هي على الإباحة ، وقال آخرون : بل هي على الحظر حاشا الحركة النقلية من مكان إلى مكان وشكر المنعم فقط .
وقال آخرون : بل هي على الإباحة حاشا الكفر والظلم وجحد المنعم ، وقال آخرون وهم جميع أهل الظاهر وطوائف من أهل أصحاب القياس : ليس لها حكم في العقل أصلاً لا بحظر ولا بإباحة ، وإن كل ذلك موقوف على ما ترد به الشريعة .
قال أبو محمد : وهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره واحتج من قال بحظرها بأن قال : الأشياء كلها ملك لله عز وجل ، ولا يجوز أن يقدم على ملك مالك إلا بإذنه .
قال أبو محمد : وهذا تمويه ساقط ، لأنه لم يحرم الإقدام على مالك غيرنا بنفس العقل ، وإنما حرم ما حرم من ذلك ورود الشرع بتحريمه ، ولو كان تحريم الإقدام على ملك المالك مركباً في ضرورة العقل ، لما جاز أن يأتي شرع بخلافه كما لا يجوز أن يأتي بشرع، فإن الكل أقل من الجزء ، وأن القصير أطول مما هو أطول منه ، لأن كل شيء رتب الله تعالى في العقل إدراكه على صفة ما بخلاف ما قد رتبه تعالى ممتنعاً ومحالاً ، ورتب الاخبار به كذباً وإفكاً ، وأخبرنا تعالى أن قوله الحق ، ولا سبيل أن يرد الشرع بمحال ولا بكذب. ومن أجاز ذلك خرج عن الإسلام .
وقد وجدنا المالك فيما بيننا لملكه قد أمرنا تعالى بأخذه منه كرهاً فيما لزمه من نفقة زوجه التي هي لعلها أغنى منه وأقدر على المال ، وفي أشياء كثيرة من أروش ما أتلف بخطأ أو بغير قصد وبقصد .
ووجدناه تعالى قد أجاز ما أنفذه أهل دار الحرب في أموالهم وملكهم إياها بقوله تعالى : {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} وأجاز كل ما أنفذوه فيها من هبة وبيع، ثم أطلقنا على أخذها منهم اختلاساً وغلبة وعلى كل وجه.
فإن قالوا : كفرهم أباح أموالهم ، قيل لهم : نحن نوجدكم الذمي كافراً لا يحل أخذ شيء من ماله حاشا الجزية التي لا تكاد تتجزأ من ماله ، وكلاهما كفره واحد ، فأين ما ادعته هذه الطائفة المغفلة من أن الإقدام على ملك مالك بغير إذنه حرام محرم في العقل .
فإن قال قائل منهم : تلك الأموال هي ملك الله عز وجل ، قيل له : إنما حرمت أنت ملك الله تعالى قياساً على الشاهد بيننا من قبح التعدي على ملك مالك بزعمك فلا تعد إلى ما جعلته أصلاً فتبطله .
ويقال لـه أيضاً : وأنفسنا ملك للـه عز وجل، وفي منعها الأقوات والتناسل إبطال للنوع الإنساني ، وفي ذلك إبطال ملك للـه عز وجل كثير، وإتلاف مملوكات لـه كثيرة ، وهذا فسخ لأصلك ، فيكون الإتلاف على قولك حاظراً مبيحاً في حالة واحدة ، وهذا لا يعقل .
ويقال لمن قال بإباحتها واحتج بأن في مدخل الطعام ومخرجه عبرة ودليلاً على قدرة اللـه عز وجل ، اطرد علتك وقل : وفي فسقك بالذكور وبالنساء عبرة ودليل على قدرة اللـه عز وجل في مداخلة الأعضاء بعضها في بعض، وفي تخلق الولد وولادته أعظم عبرة ، وأدل دليلاً على قدرة اللـه عز وجل ، وكذلك في قتل النفس وسيلان الدم بعد منع الجلد لـه من السيلان ، وفي خروج النفس وانقطاع الحركة والحس أعظم عبرة وأدل دليلاً على القدرة ، فأبح قتل النفس على هذا وقل: إنه حسن في العقول بل واجب ، ومن قرأ كتب التشريح للأطباء علم أن في ذلك أعظم عبرة ، فليقل إن قتل الأنفس مباح في العقل .
واحتج المبيحون أيضاً بأن قالوا : لا بد من فعل ، أو ترك ، أو حركة أو سكون فإن منعتموه الكل أوجبتم المحال والممتنع .
قال أبو محمد : وهذا إنما يخاطب به من قال بالحظر ، وأما نحن فلسنا نقول : إن في العقل إباحة شيء ولا حظره ، وإنما فيه تمييز الموجودات على ما هي عليه وفهم الخطاب فقط .
وبالجملة فكل شيء يعارض به القائلون بالإباحة أو الحظر فهي دعاوى مجردة ، واحتج بعض القائلين بالإباحة بقولـه تعالى : {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } .
قال أبو محمد : ولا حجة لـهم في هذا ، لأننا لم نقل إنه تعالى يعذب من لم يبعث إليه رسولاً فيعارضون بهذا ، وليست هذه الآية من مسألتنا في الإباحة والحظر في ورد ولا صدر ، لأن الأشياء لو ورد الحظر فيها بنص جلي إلا أنه لم يأت وعيد على مرتكبها لم يجز لأحد أن يقول : إن اللـه تعالى يعذب من خالف أمره ، وليس في كون المرء عاصياً أو كافراً ما يوجب أنه يعذب ولا بد ، وإنما علمنا وجوب العذاب من طريق القرآن والخبر عن النبي فقط ، ولولا ذلك ما علمناه .
برهان ذلك ؛ أن الكفار الطغاة قد وجدناهم في هذا العالم يعمرون مدة أعمارهم غير معذبين ، لا بل في نعمة وملك وغلبة وكرامة ، ولا فرق بين جواز ذلك خمسين عاماً وستين وسبعين وثمانين ، وبين تماديه هكذا أبداً وقتاً بعد وقت ، ولا فرق بين جواز ذلك في الوقت الأول ، وبين جوازه في الوقت الثاني ، وليست هنا حال حدثت لـهم ، إلا أن اللـه تعالى أراد أن يعذبهم في الآخرة ، ولو شاء أن يستمر نعيمهم لفعل ، ولكن ورد النص بالتعذيب قلنا به ، وقال بعض القائلين بالإباحة : محال أن يخلق اللـه تعالى فينا الشهوات المقتضية لما تقتضيه ثم يحظر علينا ما خلق لنا.
قال أبو محمد : هذه مكابرة العيان ، وليست هذه هي حجة مسلم ، لأن الله عز وجل وقد فعل ما أنكروا ، وخلق فينا شهوات تقتضي إتيان الفواحش في كل امرأة جميلة نراها أو في حسان الغلمان ، وشرب الخمور في البساتين ، وأخذ كل شيء استحسنته النفوس والراحة ، وترك التعرض لسيوف أهل الشرك ، والنوم عن الصلوات في الهواجر الحارة والغدوات القارة ، ثم حرم علينا ذلك كله .
فإن قال قائل : فإن الله تعالى قد عوض من ذلك أشياء أباحها ، وعوض على ترك ما حرم ما هو خير وهو الجنة .
قلنا له وبالله تعالى التوفيق : لقد كان تعالى قادراً أن يجمع الأمرين لنا معاً ، ولقد كان يكون ذلك أقل لتعبنا وألذ لنفوسنا وأروح لأجسامنا وأتم لسرورنا ، ولكنه تعالى لم يرد إلا ما ترى لا معقب لحكمه .
وبيان ذلك : أنه قد نعَّم قوماً في الدنيا والآخرة، كداود وسليمان عليهما السلام وأعطاهما اللذات العظيمة والملك السنيع والنبوة مع ذلك .
وسلط على أيوب وهو نبي مثلهما من البلايا ما لا قبل لأحد به دون ذنب سلف منه ، ولا إحسان سلف من سليمان وداود على جميعهم الصلاة والسلام ، وسلط محمداً ﷺ على جميع أعدائه ، وعصمه منهم ، ومنحه النصر عليهم ، وسلط على أنبياء أخر أعداءهم فقتلوهم بأنواع المثل ، وكلهم مع ذلك من مسعود مسلط على عدوه في الدنيا ومحروم مسلط عليه عدوه فيها ، وكلهم مجتمعون في الجنة متنعمون فيها وفعل بنا ذلك أيضاً ، فمن محسن منعم ، ومن محسن مشقي ، وقد نعم أيضاً عز وجل ملوكاً من الكفار في الدنيا ، وأصحبهم النصر والتأييد إلى أن قبض أرواحهم إلى النار ، وهم أطغى خلق الله وأكفره ، وأشد تسلطاً على الفواحش .
وحرم آخرين من الكفار ، فقتلهم بالفاقة والجوع والعري والقمل والمساءلة من باب إلى باب مع العاهات العظيمة والبلايا الشنيعة والأمراض المؤلمة ، ثم جعل مجتمعهم في جهنم مع منعهم في الدنيا ، ومنحوس فيها ، فأي عقل ترتبت فيه هذه الرتبة أو المنع منها ما يحس شيئاً من ذلك في عقله إلاَّ ناقص العقل، ينبغي له أن يتهم حسه في ذلك .
ونسأل من جعل العقل مرتباً في حظر أو إباحة قبل ورود الشرع فنقول له: ما تقول في راهب في صومعة ، مريد لله عز وجل بقلبه كله ، موحد لله تعالى لا يدع خيراً إلا فعله ولا شرًّا إلا اجتنبه ، إلا أنه كان في جزائر الشاشيين في أقصى الدنيا يسمع قط ذكر محمد من جميع أهل ناحيته إلا متبعاً بالكذب وبأقبح الصفات ، ومات على ذلك وهو شاك في نبوته أو مكذب لها ، أليس مصيره إلى النار خالداً ، مخلداً أبداً بلا نهاية ؟ فإن شك أحد في ذلك فهو كافر بإجماع الأمة .
ثم نقول : ما تقول في يهودي أو نصراني لم يدع قتل مسلم قدر عليه إلا قتله أو أنفذه ولم يبق شيئاً من الفواحش إلا ارتكبه ، من الزنى وفعل قوم لوط عليه السلام ، وفعل كل بلية ، ثم إنه أيقن بنبوة محمد ﷺ ، وآمن وبرىء من كل دين إلا دين الإسلام ، وأقر بذلك بلسانه ومات أثر ذلك ، أليس من أهل الجنة ؟ بلا خلاف من أحد من الأمة ، فإن شك في ذلك فقد كفر .
ففي أي موجب للعقل وجد إثبات هذا أو وجد إبطاله ، وما الذي أوجب في العقل أن يخص محمداً ﷺ وسائر الأنبياء بهذه الفضائل ، وقد كان ﷺ بين أظهر الناس أربعين سنة لم يَحْبُه تعالى بهذه الفضيلة ، فأي عقل أوجب منعه من ذلك قبل أن يؤتاها أو أوجب أن يُحْبَى بها إذ حبي بها ، هل هي إلا أفعال الله تعالى واختياره ، وكل هذا يبطل أن يكون للعقل محال في حظر أو إباحة ، أو تحسين أو تقبيح ، وأن كل ذلك منتظر فيه ما ورد من الله تعالى في وحيه فقط ، نسأل الله الهدى والعافية في الدنيا والآخرة بمنِّه آمين .
وقال بعض المتكلفين من القائلين بالإباحة : كل من اضطره الله إلى شيء فقد أباحه له .
قال أبو محمد : وهذا قول امرىء لم يتدرب في العلم ، وقد أخطأ في هذه القضية لأن الضرورة فعل الله تعالى ، والجائع مضطر إلى الجوع ، والمريض مضطر إلى المرض ، وقد قال تعالى في أهل النار : {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
أفيسوغ لذي عقل أن يقول : إن الله تعالى أباح للجائع الجوع ، وللمريض المرض ، ولأهل جهنم الكون في جهنم ، وإنما يقول هذا من لا يعرف الأسماء ولا المسميات ولا حقيقة عبارة الألفاظ عن المعاني .
فإن قال قائل : فإن الشريعة تبطل حكم ما في العقول ، واحتج بأنه قد حسن في العقول الانقياد للأمر المنسوخ قبل أن ينسخ ، ثم أتى النسخ فقبح في العقل ما كان فيه حسناً .
قيل له: هذا شغب فاسد ، ولم نكرر أن الشريعة لا تحسن إلا ما حسنت العقول ولا تقبح ما قبحت ، بل هو قولنا نفسه ، وإنما أنكرنا أن يكون العقل رتبة في تحريم شيء أو تحليله أو تحسينه أو تقبيحه ، وأما إذا وردت الشريعة بالنهي عن شيء أو إباحته ، فواجب في العقول الانقياد لذلك ، والانقياد لمنع ما أبيح ، أو إباحة ما منع إن جاء أمر بخلاف الأمر المتقدم ، فلم يحدث في العقول شيء لم يكن ولا غير النسخ شيئاً مما كان فيها من وجوب الانقياد لما وردت به الشريعة .
وقد قال بعض القائلين بالحظر : إن معنى قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } إنما معنى هذا ليعتبر به.
قال أبو محمد : وهذا تحكم لا يشبه إلا تحكم الصبيان . ومن استجاز مثل هذا من نقل الألفاظ عن مراتبها في اللغة .
فلا ينكر على غلاة الروافض قولهم : إن معنى الصلاة الدعاء لا الركوع والسجود ، معنى الزكاة طهارة الأنفس ، ومعنى الحج القصد إلى الإمام ، ومن سلك هذه الطريقة أبطل الديانة ، وأدى إلى إبطال جميع التفاهم ، ولم يكن في الدنيا كلام إلا واحتمل أن يقول فيه قائل إنه مقصود به غير ما يقتضيه لفظه ، وهذا هو إبطال الحقائق .
وساغ للعيسوية من اليهود أن يقولوا : إن معنى قول رسول الله ﷺ : «لا نَبِيَّ بَعْدِي» ، أي من العرب فقط .
وساغ للمعتزلة أن تقول : وخلق كل شيء ، أي الأجسام وأعراضها حاشا الحركات .
وساغ للحشوية أي تقول : بل خلق كل شيء حاشا الروح والإيمان والكلام المسموع من القراء .
وساغ للمنانية أن يقولوا خلق كل شيء من الخير فقط ، وهذا كلام ومذهب يفسد الدين ، ويبطل حقيقة العقل .
وقد علمنا ضرورة أن الألفاظ إنما وضعت ليعبر بها عما تقتضيه في اللغة ، وليعبر بكل لفظة عن المعنى الذي علقت عليه ، فمن أحالها فقد قصد إبطال الحقائق جملة، وهذا غاية الإفساد وبالله تعالى التوفيق .
قال أبو محمد : ثم نبطل كلا المذهبين معاً بحول الله وقوته. قال الله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ }
وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ } .
قال أبو محمد : ففي هاتين الآيتين نص واضح على تحريم القول في شيء من كل ما في العالم أنه حرام أو أنه حلال .
فبطل بذلك قول من قال : إن الأشياء قبل ورود الشرع على الحظر أو على الإِباحة .
وصح أن من قال شيئاً من من ذلك بغير إذن من الله تعالى فهو مفتر على الله عز وجل ، وأما إذا ورد الشرع بأي شيء ورد من إباحة الكل ، أو حظر الكل ، أو حظر البعض ، أو إباحة البعض فواجب القوم بكل ما ورد من ذلك ، وقال تعالى : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
والسدي المهمل الذي لا يؤمر ولا ينهى فصح بهذه الآية أن الناس لم يبقوا قط هملاً دون ورود شرع ، فبطل قول من قال : إن العقول تعرف وقتاً من الدهر من شرع ، وإذ قد بطل هذا القول ، فقد بطل أن يكون الشيء في العقل قبل وورد الشرع له حكم في العقل بحظر أو إباحة، فصار قولهم محالاً ممتنعاً ، مع كونه حراماً أيضاً لو كان ممكناً .
وقال تعالى : {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } فبطل هذا أن تكون أمة وقتاً من الدهر لم يتقدم فيهم نذير، وقد كان آدم عليه السلام رسولاً في الأرض وقال تعالى له، إذ أنزله إلى الأرض:
 
= {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } فأباح تعالى الأشياء بقوله إنها متاع لنا، ثم حظر ما شاء ، وكل ذلك بشرع ، وكذلك إذ خلقه في الجنة لم يتركه وقتاً من الدهر دون شرع ، بل قد قال تعالى: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ } فلم يخل قط وقت من الزمان عن أمر أو نهي .
قال أبو محمد : ويقال لهم أيضاً : لو جاز أن نبقى دون شرع لكان حكمنا كحكمنا قبل أن نحتلم، فإن الأمور حينئذ لا حكم لها علينا لا بحظر ولا إباحة، ولا فرق بين كونهما كذلك قبل البلوغ بنصف ساعة وبين كونهما كذلك بعد البلوغ وكلا الأمرين في العقول سواء. 
 
وما في العقل إيجاب الشرع على من احتلم وسقوطه عمن لم يحتلم . وليس بين الأمرين إلا نومة لطيفة ، فبطل بهذا ما ادعوه من أن العقول فيها حظر شيء أو إباحته قبل ورود الشرع وموافاة الخطاب من الله عز وجل ، ولو كان كذلك للزم غير المحتلم كلزومه المحتلم إذ موجب العقل لا يختلف . 
 
قال أبو محمد : ويقال لمن قال : لكل شيء مباح في العقل ، إلا الفكر ، أليس إقرار المرء بلسانه بالتثليث غير متبع له إنكاراً . كفراً من قائله ؛ فإن قال : لا ؛ كفر ، وإن قال : نعم ؛ قيل له صدقت ، وقد أباح الله تعالى الإعلان به دون اتباع أفكار لمن اضطر وخاف الأذى .
وقد أباح الله تعالى عند خوف القتل الكفر الصحيح الذي هو كفر في غير تلك الحال ، ولسنا نسألهم عن الكفر الذي هو العقد ، إنما نسألهم عن الكفر الذي هو النطق به فقط ؛ لأن بعضهم قال : لم يبح الله تعالى قط الكفر ، لأن الكفر الذي هو العقد ، ولا خلاف بين من يعتد به في النطق بالكفر دون اتباع بإنكار ولا حكاية ، كفر صحيح ، فعن هذا الكفر سألناهم وهم يقرون بأن امرأ لو قال بلسانه : أنا كافر بالإِسلام ، مقر بالتثليث ، إن هذا كفر ، وإنه مرتد ، وهذا بعينه الذي أبيح عند الإِكراه ، فقد جاءت إباحة الكفر نصًّا ، وحسن ذلك في عقولهم ، وبطل قولهم ، والذي نقول به إن الله تعالى لو أباح الكفر الذي هو العقد لكان حسناً مباحاً ، وأنه إنما حظر بالشرع فقط وبالله تعالى التوفيق .
ويقال لمن قال : إن كفر المنعم محظور بالعقل . ما تقول في كافر ربى إنساناً وأحسن إليه ، ثم لقيه في حرب أيقتله أم لا ؟
فإن قالوا : لا . خالفوا الإِجماع ، وإن قالوا : نعم . نقضوا قولهم في أن كفر المنعم محظور بالعقل ، فإن قالوا : إن قتله شكر له ، كابر ، وإن أقروا بأن قتله الذي هو سبب مصيره إلى الخلود في النار شكر له وإحسان إليه ، وهذا ضد ما ميّزه العقل ، وبالله تعالى التوفيق .
=====
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

البرص و العميان-أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ

البرص و العميان-أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ  المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله عليه محمد وسلم وهب الله لك حسن الاستماع وأشعر ...