Translate

الأربعاء، 22 فبراير 2023

تفسير سورة المؤمنون الايات من 90 الي 104.

تفسير سورة المؤمنون الايات من 90 الي 104.

 بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)

======== 

المؤمنون - تفسير ابن كثير 

بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)

{ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) } .

يقرر تعالى وحدانيته، واستقلاله بالخلق والتصرف والملك، ليرشد إلى أنه الذي لا إله إلا هو، ولا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له؛ ولهذا قال لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين العابدين معه غيره، المعترفين له بالربوبية، وأنه لا شريك له فيها، ومع هذا فقد أشركوا معه في ==

==الإلهية، فعبدوا غيره معه، مع اعترافهم أن الذين عبدوهم لا يخلقون شيئًا، ولا يملكون شيئًا، ولا يستبدّون بشيء، بل اعتقدوا أنهم يقربونهم إليه زلفى: { مَا (1) نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [الزمر: 3] ، فقال: { قُلْ لِمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا } أي: من مالكها الذي خلقها ومن (2) فيها من الحيوانات والنباتات والثمرات، وسائر صنوف المخلوقات { إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ . سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } أي: فيعترفون لك بأن ذلك لله وحده لا شريك له، فإذا كان ذلك (3) { قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } [أي: لا تذكرون] (4) أنه لا تنبغي (5) العبادة إلا للخالق الرازق (6) لا لغيره.

{ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } أي: من هو خالق العالم العُلْوي بما فيه من الكواكب النيّرات، والملائكة الخاضعين له في سائر الأقطار منها والجهات، ومن هو رب العرش العظيم، يعني: الذي هو سقف المخلوقات، كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "شأن الله أعظم من ذلك، إن (7) عرشه على سمواته هكذا" وأشار بيده مثل القبة (8) .

وفي الحديث الآخر: "ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وإن الكرسي بما فيه بالنسبة إلى العرش كتلك الحلقة في تلك الفلاة" (9) .

ولهذا قال بعض السلف: إن مسافة ما بين قطري العرش من جانب إلى جانب مسيرة خمسين ألف سنة، [وارتفاعه عن الأرض السابعة مسيرة خمسين ألف سنة] (10)

وقال الضحاك، عن ابن عباس: إنما سمي عرشًا لارتفاعه.

وقال الأعمش عن كعب الأحبار: إن السموات والأرض في العرش، كالقنديل المعلق بين السماء والأرض.

وقال مجاهد: ما السموات والأرض في العرش إلا كحلقة في أرض فَلاة.

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا العلاء بن سالم، حدثنا وَكِيع، حدثنا (11) سفيان الثوري، عن عمار الدُّهني (12) ، عن مسلم البَطِين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: العرش لا يقدر أحد قدره. وفي رواية: إلا الله عز وجل (13) .

وقال بعض السلف: العرش من ياقوتة حمراء.

ولهذا قال هاهنا: { وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } يعني: الكبير: وقال في آخر السورة: { رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ }

__________

(1) في أ: "إنما" وهو خطأ

(2) في ف، أ: "وما".

(3) في ف، أ: "كذلك".

(4) زيادة من ف، أ.

(5) في أ: "يليق".

(6) في ف: "الرزاق".

(7) في ف: "لأن".

(8) سنن أبي داود برقم (4726) عن حديث جبير بن مطعم رضي الله عنه.

(9) رواه الطبري في تفسيره (5/399) من طريق ابن وهب عن ابن زيد عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه، وقد سبق من رواية ابن مردوية عند تفسير الآية: 2 من سورة الرعد.

(10) زيادة من أ.

(11) في أ: "عن".

(12) في أ: "الذهبي".

(13) ورواه ابن أبي شيبة في صفة العرش (ق 114) والحاكم في المستدرك (2/282) من طريق الضحاك بن مخلد عن سفيان عن عمار الذهني به، وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" وأقره الذهبي. =

= أي: الحسن البهي. فقد جمع العرش بين العظمة في الاتساع والعلو، والحسن الباهر؛ ولهذا قال من قال: إنه من ياقوتة حمراء.

وقال ابن مسعود: إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور (1) العرش من نور وجهه.

وقوله: { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ } أي: إذا كنتم تعترفون (2) بأنه رب السموات ورب العرش العظيم، أفلا تخافون عقابه وتحذرون عذابه، في عبادتكم معه غيره وإشراككم به؟

قال أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا القرشي في كتاب "التفكر والاعتبار": حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عبد الله (3) بن جعفر، أخبرني عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يحدث عن امرأة كانت في الجاهلية على رأس جبل، معها ابن لها يرعى غنما، فقال لها ابنها: يا أماه، من خلقك؟ قالت: الله. قال: فمن خلق أبي؟ قالت: الله. قال: فمن خلقني؟ قالت: الله. قال: فمن خلق السماء؟ قالت: الله. قال: فمن خلق الأرض؟ قالت: الله. قال: فمن خلق الجبل؟ قالت: الله. قال: فمن خلق هذه الغنم؟ قالت: الله. قال: فإني أسمع لله شأنا ثم ألقى نفسه من الجبل فتقطع.

قال ابن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يحدثنا هذا الحديث.

قال عبد الله بن دينار: كان (4) ابن عمر كثيرًا ما يحدثنا بهذا الحديث.

قلت: في إسناده عبد الله (5) بن جعفر المديني، والد الإمام علي بن المديني، وقد تكلموا فيه، فالله أعلم (6) .

{ قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } أي: بيده الملك، { مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا } [هود: 56] ، أي: متصرف فيها. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا والذي نفسي بيده" ، وكان إذا اجتهد في اليمين قال (7) : " لا ومقلب القلوب" ، فهو سبحانه الخالق المالك المتصرف، { وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } كانت العرب إذا كان السيد فيهم فأجار أحدًا، لا يُخْفَر في جواره، وليس لمن دونه أن يجير عليه، لئلا يفتات عليه، ولهذا قال الله: { وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ } أي: وهو السيد العظيم الذي لا أعظم منه، الذي له الخلق والأمر، ولا معقب لحكمه، الذي لا يمانع ولا يخالف، وما شاء (8) كان، وما لم يشأ لم يكن، وقال الله: { لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [الأنبياء: 23] ، أي: لا يسئل عما يفعل؛ لعظمته وكبريائه، وقهره وغلبته، وعزته وحكمته (9) ، والخلق كلهم يُسألون عن===

__________

(1) في أ: "فوق".

(2) في أ: "تعرفون".

(3) في ف، أ: "عبيد الله".

(4) في ف: "وكان".

(5) في أ: "عبيد الله".

(6) ورواه ابن عدي في الكامل (4/178) من طريق إسحاق بن أبي إسرائيل عن عبد الله بن جعفر به، وقال: "غير محفوظ لا يحدث به عن ابن دينار غير عبد الله بن جعفر" وعبد الله بن جعفر المديني ضعيف عند الأئمة.

(7) في أ: "يقول".

(8) في ف، أ: "وما شاء الله".

(9) في ف، أ: "وحكمته وعدله". 

=== مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)

أعمالهم، كما قال تعالى: { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الحجر: 92، 93] .

وقوله: { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } أي: سيعترفون أن السيد العظيم الذي يجير ولا يجار عليه، هو الله تعالى، وحده لا شريك له { قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ } أي: فكيف تذهب عقولكم في عبادتكم معه غيره مع اعترافكم وعلمكم بذلك.

ثم قال تعالى: { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ } ، وهو الإعلام بأنه لا إله إلا الله، وأقمنا الأدلة الصحيحة الواضحة القاطعة على ذلك، { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي: في عبادتهم مع الله غيره، ولا دليل لهم على ذلك، كما قال في آخر السورة: { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } ، فالمشركون لا يفعلون ذلك [عن دليل قادهم إلى ما هم فيه من الإفك والضلال، وإنما يفعلون ذلك] (1) اتباعا لآبائهم وأسلافهم الحيارى الجهال، كما قالوا: { إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } [الزخرف: 23] .

{ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)

ينزه تعالى نفسه عن أن يكون له ولد أو شريك في الملك، فقال: { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } أي: لو قُدِّر تعدد الآلهة، لانفرد كل منهم بما يخلق، فما كان ينتظم الوجود. والمشاهد أن الوجود منتظم متسق، كل من العالم العلوي والسفلي مرتبط بعضه ببعض، في غاية الكمال، { مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ } [الملك: 3] ثم لكان كل منهم يطلب قهر الآخر وخلافه، فيعلو بعضهم على بعض. والمتكلمون ذكروا هذا المعنى وعبروا عنه بدليل التمانع، وهو أنه لو فرض صانعان فصاعدا، فأراد واحد تحريك جسم وأراد الآخر سكونه، فإن لم يحصل مراد كل واحد منهما كانا عاجزين، والواجب لا يكون عاجزًا، ويمتنع اجتماع مراديهما للتضاد. وما جاء هذا المحال إلا من فرض التعدد، فيكون محالا فأما إن حصل مراد أحدهما دون الآخر، كان الغالب هو الواجب، والآخر المغلوب ممكنًا؛ لأنه لا يليق بصفة الواجب أن يكون مقهورا؛ ولهذا قال: { وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } أي: عما يقول الظالمون المعتدون في دعواهم الولد أو الشريك علوا كبيرا.

{ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ } أي: يعلم ما يغيب عن المخلوقات وما يشاهدونه، { فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي: تقدس وتنزه وتعالى وعز وجل[عما يقول الظالمون والجاحدون](2)===

__________

(1) زيادة من ف، أ.

(2) زيادة من ف، أ

=== قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)

{ قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) } .

يقول تعالى آمرًا [نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم] (1) أن يدعو هذا الدعاء عند حلول النقم: { رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ } أي: إن عاقبتهم -وإني شاهدُ ذلك-فلا تجعلني فيهم، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي -وصححه-: "وإذا أردت بقوم فتنة فتوفني إليك غير مفتون" (2) .

وقوله: { وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ } أي: لو شئنا لأريناك ما نحل (3) بهم من النقم والبلاء والمحن.

ثم قال مرشدًا له إلى التِّرْياق النافع في مخالطة الناس، وهو الإحسان إلى من يسيء، ليستجلب خاطره، فتعود عداوته صداقة وبغضه محبة، فقال: { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ } ، وهذا كما قال في الآية الأخرى: { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ . وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [فصلت: 34، 35] : أي ما يلهم هذه الوصية أو الخصلة (4) أو الصفة { إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا } أي: على أذى الناس، فعاملوهم بالجميل مع إسدائهم إليهم القبيح، { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } أي: في الدنيا والآخرة.

وقوله: { وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ } : أمره أن يستعيذ من الشياطين، لأنهم لا تنفع (5) معهم الحيل، ولا ينقادون بالمعروف.

وقد قدمنا عند الاستعاذة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من هَمْزه ونَفْخه ونَفْثه" (6) .

وقوله: { وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ } أي: في شيء من أمري؛ ولهذا أمر بذكر الله في ابتداء الأمور -وذلك مطردة للشياطين (7) -عند الأكل والجماع والذبح، وغير ذلك من الأمور؛ ولهذا روى أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الهَرَم، وأعوذ بك من الهَدْم ومن الغرق، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت" (8) .

وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، أخبرنا محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه،

__________

(1) زيادة من ف، أ.

(2) المسند (5/243) وسنن الترمذي برقم (3235) من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، وقال: "هذا حديث حسن صحيح، سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال: هذا حديث حسن صحيح"

(3) في ف، أ: "ما يحل".

(4) في ف: "الخصلة أو الوصية".

(5) في ف، أ: "لا ينفع".

(6) انظر الاستعاذة عند تفسير سورة الفاتحة.

(7) في ف: "للشيطان".

(8) سنن أبي داود برقم (1552).

(5/492)

 

 

حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)

عن جده قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا كلمات يقولهن عند النوم، من الفزع: "بسم الله، أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه، ومن شر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون" قال: فكان عبد الله بن عمرو يعلمها من بلغ من ولده أن يقولها عند نومه، ومن كان منهم صغيرا لا يعقل أن يحفظها، كتبها له، فعلقها في عنقه.

ورواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، من حديث محمد بن إسحاق (1) ، وقال الترمذي: حسن غريب.

{ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) } .

يخبر تعالى عن حال المحتضر عند الموت، من الكافرين أو المفرطين في أمر الله تعالى، وقيلهم عند ذلك، وسؤالهم الرجعة إلى الدنيا، ليصلح ما كان أفسده في مدة حياته؛ ولهذا قال: { رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا } كما قال تعالى: { وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ . وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } [المنافقون: 10، 11] ، وقال تعالى: { وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ } [إبراهيم:44]، وقال تعالى: { يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } [الأعراف: 53] ، وقال تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ } [السجدة: 12] ، وقال تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [الأنعام: 27، 28] ، وقال تعالى: { وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ } [الشورى:44] ، وقال تعالى: { قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } [غافر:11، 12] ، وقال تعالى: { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ } [فاطر: 37] ، فذكر تعالى أنهم يسألون الرجعة، فلا يجابون، عند الاحتضار، ويوم النشور ووقت العرض على الجبار، وحين يعرضون على النار، وهم في غمرات عذاب الجحيم.

وقوله: هاهنا: { كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا } : كلا حرف ردع وزجر، أي: لا نجيبه إلى ما طلب ولا نقبل منه.

__________

(1) المسند (2/181) وسنن أبي داود برقم (3893) وسنن الترمذي برقم (3528) والنسائي في السنن الكبرى برقم (10601).

(5/493)

 

 

وقوله: { كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا } : قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: أي لا بد أن يقولها لا محالة كل محتضر ظالم.

ويحتمل أن يكون ذلك علة لقوله: "كلا" ، أي: لأنها كلمة، أي: سؤاله الرجوع ليعمل صالحا هو كلام منه، وقول لا عمل معه، ولو رد لما عمل صالحا، ولكان يكذب في مقالته هذه، كما قال تعالى: { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }

وقال محمد بن كعب القرظي: { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ } قال: فيقول الجبار: { كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا } .

وقال عمر بن عبد الله مولى غُفْرَة: إذا سمعت الله يقول: { كَلا } فإنما يقول: كذب .

(1)

وقال قتادة في قوله تعالى: { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ } : قال: كان العلاء بن زياد يقول: لينزل أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت، فاستقال ربه فأقاله، فليعمل بطاعة الله عز وجل.

وقال قتادة: والله ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا إلى عشيرة، ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله، فانظروا أمنية الكافر المفرط فاعملوا بها، ولا قوة إلا بالله. وعن محمد بن كعب القرظي نحوه.

وقال محمد بن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن يوسف، حدثنا فضيل -يعني: ابن عياض-عن لَيْث، عن طلحة بن مُصَرِّف، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: إذا وضع -يعني: الكافر-في قبره، فيرى مقعده من النار. قال: فيقول: رب، ارجعون أتوب وأعمل صالحا. قال: فيقال: قد عُمِّرت ما كنت مُعَمَّرا. قال: فيضيق عليه قبره، قال: فهو كالمنهوش، ينام ويفزع، تهوي (2) إليه هَوَامّ الأرض وحياتها وعقاربها.

وقال أيضا: حدثنا أبي، حدثنا عمرو بن علي، حدثني سلمة بن تمام، حدثنا علي بن زيد (3) . عن سعيد بن المسيب، عن عائشة، أنها قالت: ويل لأهل المعاصي من أهل القبور!! تدخل (4) عليهم في قبورهم حيات سود -أو: دُهُم-حية عند رأسه، وحية عند رجليه، يقرصانه حتى يلتقيا (5) في وسطه، فذلك العذاب في البرزخ الذي قال الله تعالى: { وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }

وقال أبو صالح وغيره في قوله تعالى: { وَمِنْ وَرَائِهِمْ } يعني: أمامهم.

وقال مجاهد: البرزخ: الحاجز ما بين الدنيا والآخرة.

وقال محمد بن كعب: البرزخ: ما بين الدنيا والآخرة. ليسوا (6) مع أهل الدنيا يأكلون ويشربون، ولا مع أهل الآخرة يجازون بأعمالهم.

وقال أبو صخر: البرزخ: المقابر، لا هم في الدنيا، ولا هم في الآخرة، فهم مقيمون إلى يوم

__________

(1) في ف: "كذبت".

(2) في ف، أ: "ويهوي".

(3) في أ: "يزيد".

(4) في ف، أ: "يدخل".

(5) في ف: "تقرصانه حتى تلتقيا".

(6) في ف، أ: "ليس".

(5/494)

 

 

فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)

يبعثون.

وفي قوله: { وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ } : تهديد لهؤلاء المحتضرين من الظلمة بعذاب البرزخ، كما قال: { مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ } [الجاثية: 10] وقال { وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } [إبراهيم: 17] .

وقوله: { إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أي: يستمر به العذاب إلى يوم البعث، كما جاء في الحديث: "فلا يزال معذبا فيها" (1) ، أي: في الأرض.

{ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) } .

يخبر تعالى أنه إذا نفخ في الصور نفخة النشور، وقام الناس من القبور، { فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ } أي: لا تنفع الأنساب يومئذ، ولا يرثي والد لولده، ولا يلوي عليه، قال الله تعالى: { وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا . يُبَصَّرُونَهُمْ } [المعارج: 10، 11] أي: لا يسأل القريب قريبه وهو يبصره، ولو كان عليه من الأوزار ما قد أثقل ظهره، وهو كان أعز الناس عليه -كان-في الدنيا، ما التفت إليه ولا حمل عنه وزن جناح بعوضة، قال الله تعالى: { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ . وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ . وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ . لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [عبس: 34-37] .

وقال ابن مسعود: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين ثم نادى مناد: ألا من كان له مظلمة فليجئ فليأخذ حقه: قال: فيفرح (2) المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته وإن كان صغيرا; ومصداق ذلك في كتاب الله: { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } رواه ابن أبي حاتم.

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو سعيد -مولى بني هاشم-حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثتنا أم بكر بنت المِسْوَر بن مَخْرَمَة، عن عُبَيْد الله بن أبي رافع، عن المِسْوَر -هو ابن مَخْرَمَة-رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فاطمة بَضْعَةٌ مني، يَقْبِضُني ما يقبضها، ويَبْسُطني ما يبسطها (3) وإن الأنساب تنقطع (4) يوم القيامة غير نسبي وسببي وصهري". (5)

هذا الحديث له أصل في الصحيحين عن المسور أن (6) رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فاطمة بضعة مني،

__________

(1) رواه الترمذي في السنن برقم (1071) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: "حديث حسن غريب".

(2) في أ: "فيفرح والله".

(3) في أ: "يفيضني ما يفيضها وينشطني ما ينشطها".

(4) في أ: "منقطع".

(5) المسند (4/323).

(6) في ف، أ: "عن".

(5/495)

 

 

يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها" (1) .

وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عامر، حدثنا زهير، عن عبد الله بن محمد، عن حمزة بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على هذا المنبر: "ما بال رجال يقولون: إن رحم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تنفع قومه؟ بلى، والله إن رحمي موصولة في الدنيا والآخرة، وإني -أيها الناس-فرط لكم، إذا (2) جئتم" قال رجل: يا رسول الله، أنا فلان بن فلان، [ وقال أخوه: أنا فلان ابن فلان] (3) فأقول لهم: "أما النسب فقد عرفت، ولكنكم أحدثتم بعدي وارتددتم القهقري" . (4)

وقد ذكرنا في مسند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (5) من طرق متعددة عنه، رضي الله عنه: أنه لما تزوج أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، قال: أما -والله-ما بي إلا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كل سبَبٍ ونَسب فإنه منقطع يوم القيامة، إلا سببي ونسبي".

رواه (6) الطبراني، والبزار والهيثم بن كليب، والبيهقي، والحافظ الضياء في "المختارة" (7) وذكرنا أنه أصدقها أربعين ألفا؛ إعظاما وإكراما، رضي الله عنه؛ فقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي العاص بن الربيع -زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم-من طريق أبي القاسم البغوي: حدثنا سليمان بن عمر بن الأقطع، حدثنا إبراهيم بن عبد السلام، عن إبراهيم بن يزيد، عن محمد ابن عباد بن جعفر، سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري" (8) . وروي فيها من طريق عمار بن سيف، عن هشام بن عُرْوَة، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو مرفوعا: "سألت ربي عز وجل ألا أتزوج إلى أحد من أمتي، ولا يتزوج إلي أحد منهم، إلا كان معي في الجنة، فأعطاني ذلك" (9) . ومن حديث عمار بن سيف، عن إسماعيل، عن عبد الله بن عمرو.

وقوله: { فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي: من رجحت حسناته على سيئاته ولو بواحدة، قاله ابن عباس.

{ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي: الذين فازوا فنجوا من النار وأدخلوا الجنة.

وقال ابن عباس: أولئك الذين فازوا بما طلبوا، ونجوا من شر ما منه هربوا.

__________

(1) صحيح البخاري برقم (3714) وصحيح مسلم برقم (2449).

(2) في ف، أ: "فإذا" .

(3) زيادة من ف، أ، والمسند.

(4) المسند (3/18).

(5) مسند عمر بن الخطاب لابن كثير (1/389).

(6) في أ: "ورواه الحافظ".

(7) المعجم الكبير (3/45) ومسند البزار برقم (2445) "كشف الأستار" وسنن البيهقي الكبرى (7/64) والمختارة للمقدسي برقم (281).

(8) تاريخ دمشق (19/119 "المخطوط") ورواه علي بن سعيد عن سليمان بن عمر الرقي عن إبراهيم بن عبد السلام عن إبراهيم بن يزيد عن محمد بن عباد بن جعفر عن عبد الله بن الزبير مرفوعا، وأخرجه الطبراني في الأوسط برقم (3963).

(9) تاريخ دمشق (19/119 "المخطوط") ورواه الطبراني في الأوسط برقم (3961) "مجمع البحرين" من طريق يزيد بن الكميت عن عمار بن سيف به. قال الحافظ ابن حجر في الفتح (7/85): "إسناده واه" وفي الباب عن ابن أبي أوفى رضي الله عنه.

(5/496)

 

 

{ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ } أي: ثقلت سيئاته على حسناته، { فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ } أي: خابوا وهلكوا، وباؤوا بالصفقة (1) الخاسرة.

وقال الحافظ أبو بكر البزار: حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث، حدثنا داود بن المُحَبَّر، حدثنا صالح المُرِّيّ، عن ثابت البُناني وجعفر بن زيد ومنصور بن زاذان، عن أنس بن مالك يرفعه قال: "إن لله ملكا موكلا بالميزان، فيؤتى بابن آدم، فيوقف بين كفتي الميزان، فإن ثقل ميزانه نادى ملك بصوت يسمع الخلائق: سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدا، وإن خف ميزانه نادى ملك بصوت يسمع الخلائق: شقي فلان شقاوة لا (2) يسعد بعدها أبدًا" (3) .

إسناده ضعيف، فإن داود بن المُحَبَّر متروك.

ولهذا قال: "في جهنم خالدون" أي: ماكثون، دائمون مقيمون لا يظعنون.

{ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ } ، كما قال تعالى: { وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ } [إبراهيم: 50] ، وقال { لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ } [الأنبياء: 39] .

وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا فَرْوَة بن أبي المغراء (4) ، حدثنا محمد بن سلمان الأصبهاني، عن أبي سِنَان ضِرَار بن مُرَّة، عن عبد الله بن أبي الهذيل، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن جهنم لما سيق [إليها] (5) أهلها يلقاهم (6) لهبها، ثم تلفحهم لفحة، فلم يبق لحم إلا سقط على العرقوب" . (7)

وقال ابن مردويه: حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى الفَزَّاز، حدثنا الخضر بن علي بن يونس القطان، حدثنا عمر بن أبي الحارث بن الخضر القَطَّان، حدثنا سعد بن سعيد (8) المقبري، عن أخيه، عن أبيه، عن أبي الدرداء، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى: { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ } قال: "تلفحهم لفحة، فتسيل لحومهم على أعقابهم" (9) .

وقوله: { وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يعني عابسون.

وقال الثوري، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود: { وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } قال: ألم تر إلى الرأس المُشَيَّط الذي قد بدا أسنانه وقَلَصت شفتاه.

وقال الإمام أحمد، رحمه الله: أخبرنا علي بن إسحاق، أخبرنا عبد الله -هو ابن المبارك، رحمه

__________

(1) في أ: "وفازوا بالصفة".

(2) في ف: "فلا".

(3) ورواه أبو نعيم في الحلية كما في تخريج الإحياء (4098) وقال: "تفرد به داود بن المحبر".

(4) في أ: "أبي الفراء".

(5) زيادة من ف.

(6) في ف: "تلقيهم".

(7) ورواه أبو نعيم في الحلية (4/363) وقال: "لم يروه مرفوعا متصلا عن أبي سنان عن عبد الله إلا محمد بن سليمان الأصبهاني، ورواه ابن عيينة وابن فضيل وجرير عن أبي سنان فأوقفه ابن فضيل على أبي هريرة".

(8) في ف، أ: "سعيد بن أبي سعيد".

(9) ورواه الضياء المقدسي في صفة النار كما في الدر المنثور (6/117) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه.

(5/497)

 

 

الله-أخبرنا سعيد بن يزيد، عن أبي السَّمْح، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخُدْري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: { وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } ، قال: "تَشْويه النار فَتَقَلَّصُ شفته العليا حتى تبلغ وَسَطَ رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تَضْرب سُرَّته".

ورواه الترمذي، عن سُوَيْد بن نصر (1) عن عبد الله بن المبارك، به (2) وقال: حسن غريب.

__________

(1) في أ: "نصير".

(2) المسند (3/88) وسنن الترمذي برقم (3176).

==================

 

 

 

 

 

 

 

المؤمنون - تفسير القرطبي

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الآية: 90 - 92 {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ، عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}

قوله تعالى: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ} أي بالقول الصدق، لا ما تقوله الكفار من إثبات الشريك ونفي البعث. {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أن الملائكة بنات الله. فقال الله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} {مِنْ} صلة. {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} {مِنْ} زائدة؛ والتقدير: ما اتخذ الله ولدا كما زعمتم، ولا كان معه إله فيما خلق. وفي الكلام حذف؛ والمعنى: لو كانت معه آلهة لانفرد كل إله بخلقه. {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي ولغالب وطلب القوي الضعيف كالعادة بين الملوك، وكان الضعيف المغلوب لا يستحق الإلهية. وهذا الذي يدل على نفي الشريك يدل على نفي الولد أيضا؛ لأن الولد ينازع الأب في الملك منازعة الشريك.

(12/146)

 

 

{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} تنزيها له عن الولد والشريك. {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} تنزيه وتقديس. وقرأ نافا وأبو بكر وحمزة والكسائي {عالم} بالرفع على الاستئناف؛ أي هو عالم الغيب. الباقون بالجر على الصفة لله. وروى رويس عن يعقوب {عالِم} إذا وصل خفضا. و {عالم} إذا ابتدأ رفعا.

الآيتان: 93 - 94 {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ، رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}

علمه ما يدعو به؛ أي قل رب، أي يا رب إن أريتني ما يوعدون من العذاب. {فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي في نزول العذاب بهم، بل أخرجني منهم. وقيل: النداء معترض؛ و"ما" في "إمّا" زائدة. وقيل: إن أصل إما إن ما؛ فـ {إن} شرط و {ما} شرط، فجمع بين الشرطين توكيدا، والجواب {فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ؛ أي إذا أردت بهم عقوبة فأخرجني منهم. وكان عليه السلام يعلم أن الله تعالى لا يجعله في القوم الظالمين إذا نزل بهم العذاب، ومع هذا أمره الرب بهذا الدعاء والسؤال ليعظم أجره وليكون في كل الأوقات ذاكرا لربه تعالى.

الآية: 95 {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ}

نبه على أن خلاف المعلوم مقدور، وقد أراه الله تعالى ذلك فيهم بالجوع والسيف، ونجاه الله ومن آمن به من ذلك.

الآية: 96 {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ}

قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} أمر بالصفح ومكارم الأخلاق؛ فما كان منها لهذه الأمة فيما بينهم فهو محكم باق في الأمة أبدا. وما كان فيها من موادعة الكفار وترك التعرض لهم والصفح عن أمورهم فمنسوخ بالقتال. "نحن أعلم بما يصفون" أي من الشرك والتكذيب. وهذا يقتضي أنها آية موادعة، والله تعالى أعلم

(12/147)

 

 

الآيتان: 97 - 98 {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ، وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ}

فيه مسألتان:-

الأولى:- قوله تعالى: {مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} "الهمزات" هي جمع همزة. والهمز في اللغة النخس والدفع؛ يقال: همزة ولمزه ونخسه دفعه. قال الليث: الهمز كلام من وراء القفا، واللمز مواجهة. والشيطان يوسوس فيهمس في وسواسه في صدر ابن آدم؛ وهو قوله: {أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} أي نزغات الشياطين الشاغلة عن ذكر الله تعالى. وفي الحديث: كان يتعوذ من همز الشيطان ولمزه وهمسه. قال أبو الهيثم: إذا أسر الكلام وأخفاه فذلك الهمس من الكلام. وسمي الأسد هوسا؛ لأنه يمشي بخفه لا يسمع صوت وطئه. وقد تقدم في {طه}.

الثاينة: أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالتعوذ من الشيطان في همزاته، وهي سورات الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه، كأنها هي التي كانت تصيب المؤمنين مع الكفار فتقع المحادة فلذلك اتصلت بهذه الآية. فالنزغات وسورات الغضب الواردة من الشيطان هي المتعوذ منها في الآية؛ وقد تقدم في آخر "الأعراف" بيانه مستوفى، وفي أول الكتاب أيضا. وروي عن علي بن حرب بن محمد الطائي حدثنا سفيان عن أيوب عن محمد بن حبان أن خالدا كان يؤرق من الليل؛ فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأمره أن يتعوذ بكلمات الله التامة من غضب الله وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون. وفي كتاب أبي داود قال عمر: وهمزه الموتة؛ قال ابن ماجة: الموتة يعني الجنون. والتعوذ أيضا من الجنون وكيد. وفي قراءة أبي {رَبِّ عائذاً بك من همزات الشياطين، وعائذاً بك أن يَحْضُرونِ} ؛ أي يكونوا معي في أموري،

(12/148)

 

 

فإنهم إذ ا حضروا الإنسان كانوا معدين للهمز، وإذا لم يكن حضور فلا همز. وفي صحيح مسلم عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه حتى يحضره عند طعامه فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان فإذا فرغ فليلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه البركة".

الآيتان: 99 - 100 {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}

قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} عاد الكلام إلى ذكر المشركين؛ أي قالوا {أَإِذَا مِتْنَا - إلى قوله - إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}. ثم احتج عليهم وذكرهم قدرته على كل شيء، ثم قال هم مصرون على ذلك حتى إذا جاء أحدهم الموت تيقن ضلالته وعاين الملائكة التي تقبض روحه؛ كما قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ} [الأنفال: 50]. {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} تمنى الرجعة كي يعمل صالحا فيما ترك. وقد يكون القول في النفس؛ قال الله عز وجل: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8]. فأما قوله: {ارْجِعُونِ} وهو مخاطب ربه عز وجل ولم يقل "ارجعني" جاء على تعظيم الذكر للمخاطب. وقيل: استغاثوا بالله عز وجل أولا، فقال قائلهم: ثم رجع إلى مخاطبة الملائكة فقال: ارجعون إلى الدنيا؛ قال ابن جريج. وقيل: إن معنى {ارْجِعُونِ} على جهة التكرير؛ أي أرجعني أرجعني أرجعني وهكذا. قال المزني في قوله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24] قال: معناه ألق ألق. قال الضحاك: المراد به أهل الشرك.

قلت: ليس سؤال الرجعة مختصا بالكافر فقد يسألها المؤمن كما في آخر سورة المنافقين على ما يأتي. ودلت الآية على أن أحدا لا يموت حتى يعرف اضطرارا أهو من أولياء

(12/149)

 

 

الله أم من أعداء الله، ولولا ذلك لما سأل الرجعة، فيعلموا ذلك قبل نزول الموت وذواقه.

قوله تعالى: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً} قال ابن عباس: يريد أشهد أن لا إله إلا الله. {فِيمَا تَرَكْتُ} أي فيما ضيعت وتركت العمل به من الطاعات. وقيل {فِيمَا تَرَكْتُ} من المال فأتصدق. و {لَعَلّ} تتضمن ترددا؛ وهذا الذي يسأل الرجعة قد استيقن العذاب، وهو يوطن نفسه على العمل الصالح قطعا من غير تردد. فالتردد يرجع إما إلى رده إلى الدنيا، وإما إلى التوفيق؛ أي أعمل صالحا إن وفقتني؛ إذ ليس على قطع من وجود القدرة والتوفيق لو رد إلى الدنيا .{كَلاََّ} هذه كلمة رد؛ أي ليس الأمر على ما يظنه من أنه يجاب إلى الرجوع إلى الدنيا، بل هو كلام يطيح في أدراج الريح. وقيل: لو أجيب إلى ما يطلب لما وفى بما يقول؛ كما قال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28]. وقيل: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} ترجع إلى الله تعالى؛ أي لا خلف في خبره، وقد أخبر أنه لن يؤخر نفسا إذا جاء أجلها، وأخبر بأن هذا الكافر لا يؤمن. وقيل: {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} عند الموت، ولكن لا تنفع. {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ} أي ومن أمامهم وبين أيديهم. وقيل: من خلفهم. {بَرْزَخٌ} أي حاجز بين الموت والبعث؛ قال الضحاك ومجاهد وابن زيد. وعن مجاهد أيض أن البرز هو الحاجز بين الموت والرجوع إلى الدنيا. وعن الضحاك: هو ما بين الدنيا والآخرة. ابن عباس. حجاب. السدي: أجل. قتادة: بقية الدنيا. وقيل: الإمهال إلى يوم القيامة؛ حكاه ابن عيسى. الكلبي: هو الأجل ما بين النفختين، وبينهما أربعون سنة. وهذه الأقوال متقاربة. وكل حاجز بين شيئين فهو برزخ. قال الجوهري: البرزخ الحاجز بين الشيئين. والبرزخ ما بين الدنيا والآخرة من وقت الموت إلى البعث؛ فمن مات فقد دخل في البرز. وقال رجل بحضرة الشعبي: رحم الله فلانا فقد صار من أهل الآخرة! فقال: لم يصر من أهل الآخرة، ولكنه صار من أهل البرزخ، وليس من الدنيا ولا من الآخرة. وأضيف {يَوْمِ} إلى {يُبْعَثُونَ} لأنه ظرف زمان، والمراد بالإضافة المصدر.

(12/150)

 

 

الآية: 101 {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ}

قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} المراد بهذا النفخ النفخة الثانية. {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} قال ابن عباس: لا يفتخرون بالأنساب في الآخرة كما يفتخرون بها في الدنيا، ولا يتساءلون فيها كما يتساءلون في الدنيا؛ من أي قبيلة أنت ولا من أي نسب، ولا يتعارفون لهول ما أذهلهم. وعن ابن عباس أن ذلك في النفخة الأولى حين يصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون، ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون. وسأل رجل ابن عباس عن هذه الآية وقول: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 50] فقال: لا يتساءلون في النفخة الأولى؛ لأنه لا يبقى على الأرض حي، فلا أنساب ولا تساؤل. أما قوله :{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} فإنهم إذا دخلوا الجنة تساءلوا. وقال ابن مسعود: إنما عنى في هذه الآية النفخة الثانية. وقال أبو عمر زادان: دخلت على ابن مسعود فوجدت أصحاب الخير واليمنة قد سبقوني إليه، فناديت بأعلى صوت،: يا عبد الله بن مسعود! من أجل أني رجل أعجمي أدنيت هؤلاء وأقصيتني! فقال: ادنه؛ فدنوت، حتى ما كان بيني وبينه جليس فسمعته يقول: يؤخذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة فينصب على رؤوس الأولين والآخرين ثم ينادي مناد: هذا فلان بن فلان، من كان له حق فليأت إلى حقه؛ فتفرح المرأة أن يدور لها الحق على أبيها أو على زوجها أو على أخيها أو على ابنها؛ ثم قرأ ابن مسعود: {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} فيقول الرب سبحانه وتعالى: "آت هؤلاء حقوقهم" فيقول: يا رب قد فنيت الدنيا فمن أين أوتيهم؛ فيقول الرب للملائكة: "خذوا من حسناته فأعطوا كل إنسان بقدر طلبته" فإن كان وليا لله فضلت من حسناته مثقال حبة من خردل فيضاعفها الله تعالى حتى يدخله بها الجنة، ثم قرأ ابن مسعود {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ

(12/151)

 

 

مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 40]. وإن كان شقيا قالت الملائكة: رب! فنيت حسناته وبقي طالبون؛ فيقول الله تعالى: "خذوا من أعمالهم فأضيفوها إلى سيئاته وصكوا له صكا إلى جهنم".

=========================

 

 

 

 

 

 

 

المؤمنون - تفسير الطبري

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)

القول في تأويل قوله تعالى : { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90) مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) }

(19/65)

 

 

يقول: ما الأمر كما يزعم هؤلاء المشركون بالله، من أن الملائكة بنات الله، وأن الآلهة والأصنام ألهة دون الله( بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ ) اليقين، وهو الدين الذي ابتعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم ، وذلك الإسلام، ولا يُعْبَد شيء سوى الله؛ لأنه لا إله غيره( وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) يقول: وإن المشركين لكاذبون فيما يضيفون إلى الله، وينْحَلُونه من الولد والشريك ، وقوله:( مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ ) يقول تعالى ذكره: ما لله من ولد، ولا كان معه في القديم، ولا حين ابتدع الأشياء من تصلح عبادته، ولو كان معه في القديم أو عند خلقه الأشياء من تصلح عبادته( مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ ) يقول: إذن لاعتزل كل إله منهم( بِمَا خَلَقَ ) من شيء، فانفرد به، ولتغالبوا، فلعلا بعضهم على بعض، وغلب القويّ منهم الضعيف؛ لأن القويّ لا يرضى أن يعلوه ضعيف، والضعيف لا يصلح أن يكون إلها، فسبحان الله ما أبلغها من حجة وأوجزها، لمن عقل وتدبر. وقوله:( إِذًا لَذَهَبَ ) جواب لمحذوف، وهو: لو كان معه إله، إذن لذهب كل إله بما خلق، اجتزئ بدلالة ما ذكر عليه عنه. وقوله:( سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ) يقول تعالى ذكره؛ تنزيها لله عما يصفه به هؤلاء المشركون من أن له ولدا، وعما قالوه من أن له شريكا، أو أن معه في القِدم إلها يُعبد تبارك وتعالى.

وقوله:( عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ) يقول تعالى ذكره: هو عالم ما غاب عن خلقه من الأشياء، فلم يَرَوْه ولم يشاهدوه، وما رأوه وشاهدوه، إنما هذا من الله خبر عن هؤلاء الذين قالوا من المشركين: اتخذ الله ولدا وعبدوا من دونه آلهة، أنهم فيما يقولون ويفعلون مبطلون مخطئون، فإنهم يقولون ما يقولون من قول في ذلك عن غير علم، بل عن جهل منهم به، وإن العالم بقديم الأمور وبحديثها، وشاهدها وغائبها عنهم الله الذي لا يخفى عليه شيء، فخبره هو الحق دون خبرهم وقال:( عَالِم الْغَيْبِ ) فرفع على الابتداء، بمعنى: هو عالم الغيب، ولذلك دخلت الفاء في قوله:( فَتَعَالَى ) كما يقال: مررت بأخيك المحسن فأحسنت إليه، فترفع المحسن إذا جعلت فأحسنت إليه بالفاء؛ لأن معنى الكلام إذا كان كذلك: مررت بأخيك هو المحسن، فأحسنت إليه. ولو جعل الكلام بالواو فقيل: وأحسنت إليه، لم يكن وجه الكلام في المحسن إلا الخفض على النعت للأخ، ولذلك لو جاء( فَتَعَالَى ) بالواو كان وجه الكلام في( عَالِمِ الْغَيْبِ ) الخفض على الاتباع لإعراب اسم الله، وكان يكون معنى الكلام: سبحان الله عالم الغيب والشهادة

(19/66)

 

 

قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)

وتعالى! فيكون قوله( وَتَعَالى ) حينئذ معطوفا على سبحان الله ، وقد يجوز الخفض مع الفاء؛ لأن العرب قد تبدأ الكلام بالفاء، كابتدائها بالواو، وبالخفض كأن يقرأ:( عَالِمِ الْغَيْبِ ) في هذا الموضع أبو عمرو، وعلى خلافه في ذلك قراءة الأمصار.

والصواب من القراءة في ذلك عندنا الرفع لمعنيين: أحدهما: إجماع الحجة من القراء عليه، والثاني: صحته في العربية.

وقوله:( فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) يقول تعالى ذكره: فارتفع الله وعلا عن شرك هؤلاء المشركين، ووصفهم إياه بما يصفون.

القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) }

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد: ربّ إنْ تُرَينّي في هؤلاء المشركين ما تعدهم من عذابك، فلا تهلكني بما تهلكهم به، ونجِّني من عذابك وسخطك، فلا تجعلني في القوم المشركين، ولكن اجعلني ممن رضيت عنه من أوليائك.

وقوله:( فَلا تَجْعَلْنِي ) جواب لقوله:( إِمَّا تُرِيَنِّي ) اعترض بينهما بالنداء، ولو لم يكن قبله جزاء لم يجز ذلك في الكلام، لا يقال: يا زيد فقم، ولا يا رب فاغفر؛ لأن النداء مستأنف، وكذلك الأمر بعده مستأنف، لا تدخله الفاء والواو، إلا أن يكون جوابا لكلام قبله.

وقوله :( وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ) يقول تعالى ذكره: وإنا يا محمد على أن نريك في هؤلاء المشركين ما نعدهم من تعجيل العذاب لهم، لقادرون، فلا يحْزُنَنَّك تكذيبهم إياك بما نعدهم به، وإنما نؤخر ذلك ليبلغ الكتاب أجله.

القول في تأويل قوله تعالى : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) }

يقول تعالى ذكره لنبيه: ادفع يا محمد بالخلة التي هي أحسن، وذلك الإغضاء والصفح عن جهلة المشركين والصبر على أذاهم، وذلك أمره إياه قبل أمره بحربهم،

(19/67)

 

 

وعنى بالسيئة: أذى المشركين إياه وتكذيبهم له فيما أتاهم به من عند الله، يقول له تعالى ذكره: اصبر على ما تلقى منهم في ذات الله.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

*ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قوله:( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ) قال: أعرض عن أذاهم إياك.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن عبد الكريم الجَزَري، عن مجاهد:( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ) قال: هو السلام، تُسَلِّمُ عليه إذا لقيته.

حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن عبد الكريم، عن مجاهد، مثله.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هوذة، قال: ثنا عوف، عن الحسن، في قوله:( ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ ) قال: والله لا يصيبها صاحبها حتى يكظم غيظا، ويصفح عما يكره.

وقوله:( نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ) يقول تعالى ذكره: نحن أعلم بما يصفون الله به، وينحَلُونه من الأكاذيب والفِرية عليه، وبما يقولون فيك من السوء، ونحن مجازوهم على جميع ذلك، فلا يحزنك ما تسمع منهم من قبيح القول.

وقوله:( وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وقل يا محمد: ربّ أستجير بك من خنق (1) الشياطين وهمزاتها، والهَمْزُ: هو الغَمْز، ومن ذلك قيل للهمز في الكلام: هَمْزة، والهَمَزَاتُ جمع همزة.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

*ذكر من قال ذلك:

حدثني يونس، قال: أخبرني ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:( وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ) قال: همزات الشياطين: خَنْقهم الناس، فذلك هَمَزاتهم.

__________

(1) في غريب القرآن للراغب الأصفهاني : ( همز ) : " الهمز كالعصر " وهو مناسب لقول المؤلف : خنق الشياطين ؛ لأن الخنق هو عصر الرقبة وضغطها لينقطع النفس

(19/68)

 

 

حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)

وقوله:( وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ) يقول: وقل أستجير بك ربِّ أن يحضرون في أموري.

كالذي حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ ) في شيء من أمري.

القول في تأويل قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) }

يقول تعالى ذكره: حتى إذا جاء أحدَ هؤلاء المشركين الموتُ، وعاين نزول أمر الله به، قال:- لعظيم ما يعاين مما يَقْدم عليه من عذاب الله تندّما على ما فات، وتلهُّفا على ما فرط فيه قبل ذلك، من طاعة الله ومسألته للإقالة-:( رَبِّ ارْجِعُونِ ) إلى الدنيا فردّوني إليها،( لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا ) يقول: كي أعمل صالحا فيما تركت قبل اليوم من العمل فضيعته، وفرّطت فيه.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

*ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن أبي معشر، قال: كان محمد بن كعب القرظي يقرأ علينا:( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ) قال محمد: إلى أيّ شيء يريد؟ إلى أيّ شيء يرغب؟ أجمع المال، أو غَرْس الغِراس، أو بَنْي بُنيان، أو شق أنهار؟ :( لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ ) يقول الجبار: كلا.

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:( رَبِّ ارْجِعُونِ ) قال: هذه في الحياة الدنيا، ألا تراه يقول:( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ ) قال: حين تنقطع الدنيا، ويعاين الآخرة، قبل أن يذوق الموت.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة: "إذَا عايَنَ المُؤْمِنُ المَلائِكَةَ قالُوا: نُرْجِعُكَ إلى الدُّنْيَا؟ فَيَقُولُ: إلى دار الهُمُومِ والأحْزَان؟ فَيَقُولُ: بَلْ قَدّمَانِي إلى الله، وأمَّا الكافِرُ فَيُقال: نُرْجِعُكَ؟ فَيَقُولُ:( لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ )..." الآية.

(19/69)

 

 

حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ) يعني أهل الشرك، وقيل: ربّ ارجعون، فابتدأ الكلام بخطاب الله تعالى، ثم قيل: ارجعون فصار إلى خطاب الجماعة، والله تعالى ذكره واحد. وإنما فعل ذلك كذلك؛ لأن مسألة القوم الرد إلى الدنيا إنما كانت منهم للملائكة الذين يقبضون روحهم، كما ذكر ابن جريج أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله. وإنما ابتدئ الكلام بخطاب الله جل ثناؤه، لأنهم استغاثوا به، ثم رجعوا إلى مسألة الملائكة الرجوع والرد إلى الدنيا.

وكان بعض نحويي الكوفة يقول: قيل ذلك كذلك؛ لأنه مما جرى على وصف الله نفسه من قوله:( وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ) في غير مكان من القرآن، فجرى هذا على ذلك.

قوله:( كَلا ) يقول تعالى ذكره: ليس الأمر على ما قال هذا المشرك، لن يُرْجع إلى الدنيا، ولن يعاد إليها( كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ) يقول: هذه الكلمة، وهو قوله:( رَبِّ ارْجِعُونِ ) كلمة هو قائلها يقول: هذا المشرك هو قائلها.

كما حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا ) لا بد له أن يقولها يقول( وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ ) يقول: ومن أمامهم حاجز يحجز بينهم وبين الرجوع، يعني: إلى يوم يبعثون من قبورهم، وذلك يوم القيامة، والبرزخ والحاجز والمُهْلة متقاربات في المعنى.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

*ذكر من قال ذلك:

حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:( وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) يقول: أجل إلى حين.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد، في قوله:( وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ ) قال: ما بعد الموت.

حدثني أبو حميد الحِمْصي أحمد بن المغيرة، قال: ثنا أبو حَيْوة شريح بن يزيد، قال: ثنا أرطأة، عن أبي يوسف قال: خرجت مع أبي أمامة في جنازة، فلما وُضِعت في لحدها، قال أبو أمامة: هذا برزخ إلى يوم يُبعثون.

(19/70)

 

 

فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101)

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا مطر، عن مجاهد، قوله:( وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) قال: ما بين الموت إلى البعث.

حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى، وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله:( بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) قال: حجاب بين الميت والرجوع إلى الدنيا.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قَتادة:( وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) قال: برزخ بقية الدنيا.

حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادَة، مثله.

حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، في قوله:( ومن وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) قال: البرزخ ما بين الموت إلى البعث.

حُدِّثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عُبيد، قال: سمعت الضحاك يقول: البرزخ: ما بين الدنيا والآخرة.

القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ (101) }

اختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله:( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ ) من النفختين أيّتُهما عُنِيَ بِها، فقال بعضهم: عُنِي بها النفخة الأولى.

*ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام بن سلم، قال: ثنا عمرو بن مطرف، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جُبير، أن رجلا أتى ابن عباس فقال: سمعت الله يقول:( فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ ). .. الآية، وقال في آية أخرى:( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ) فقال: أما قوله:( فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ) فذلك في النفخة الأولى، فلا يبقى على الأرض شيء( فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ) وأما قوله:( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ) فإنهم لما دخلوا الجنة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون.

(19/71)

 

 

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان، عن السدي، في قوله:( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ) قال: في النفخة الأولى.

حدثنا عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، قوله:( فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ) فذلك حين ينفخ في الصور، فلا حي يبقى إلا الله( وأقبل بعضهم على بعض يَتَسَاءَلُونَ )فذلك إذا بُعثوا في النفخة الثانية.

قال أبو جعفر: فمعنى ذلك على هذا التأويل: فإذا نفخ في الصور، فصَعِق مَنْ في السماوات وَمَن في الأرض إلا مَنْ شاء الله، فلا أنساب بينهم يومئذ يتواصلون بها، ولا يتساءلون، ولا يتزاورون، فيتساءلون عن أحوالهم وأنسابهم.

وقال آخرون: بل عُنِي بذلك النفخة الثانية.

*ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن فضيل، عن هارون بن أبي وكيع، قال: سمعت زاذان يقول: أتيت ابن مسعود، وقد اجتمع الناس إليه في داره، فلم أقدر على مجلس، فقلت: يا أبا عبد الرحمن، من أجل أني رجل من العجم تَحْقِرُني؟ قال: ادْنُ! قال: فدنوت، فلم يكن بيني وبينه جليس، فقال: يؤخَذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة على رءوس الأوّلين والآخرين، قال: وينادي مناد: ألا إن هذا فلان ابن فلان، فمن كان له حق قبله فليأت إلى حقه، قال: فتفرح المرأة يومئذ أن يكون لها حقّ على ابنها، أو على أبيها، أو على أخيها، أو على زوجها( فلا أنساب بينهم يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ).

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنا عيسى بن يونس، عن هارون بن عنترة، عن زاذان، قال: سمعت ابن مسعود يقول: يؤخذ العبد أو الأمة يوم القيامة، فينصب على رءوس الأولين والآخرين، ثم ينادي مناد، ثم ذكر نحوه، وزاد فيه: فيقول الربّ تبارك وتعالى للعبد: أعط هؤلاء حقوقهم، فيقول: أي ربّ، فَنِيت الدنيا، فمن أين أعطيهم؟ فيقول للملائكة: خذوا من أعماله الصالحة وأعطوا لكل إنسان بقدر طلبته، فإن كان له فضلُ مثقال حبة من خردل ضاعفها الله له حتى يدخله بها الجنة، ثم تلا ابن مسعود( إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا )وإن كان عبدا شقيا، قالت الملائكة: ربنا، فنيت حسناتُه وبقي طالبون كثير، فيقول: خذوا من أعمالهم السيئة فأضيفوها إلى سيئاته، وصُكُّوا له صَكًّا إلى النار.

(19/72)

 

 

فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)

قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج:( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ) قال: لا يسأل أحد يومئذ بنسب شيئا، ولا يتساءلون، ولا يمتُّ إليه برحم.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني محمد بن كثير، عن حفص بن المغيرة، عن قتادة، قال: ليس شيء أبغض إلى الإنسان يوم القيامة من أن يرى من يعافه، مخافة أن يذوب له عليه شيء، ثم قرأ( يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ) .

قال: ثنا الحسن، قال: ثنا الحكم بن سنان، عن سدُوس صاحب السائريّ، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا دَخَلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةِ، وأهْلُ النَّار النَّارَ، نادى مُنادٍ منْ أهْلِ العَرْشِ: يا أهْلَ التَّظالُمِ تَدَارَكُوا مَظالمكُمْ، وادْخُلوا الجنَّةَ.".

القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) }

يقول تعالى ذكره:( فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ) موازين حسناته، وخفت موازين سيئاته( فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) يعني: الخالدون في جنات النعيم( وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ) يقول ومن خفَّت موازين حسناته فرجَحَت بها موازين سيئاته( فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ) يقول: غبنوا أنفسهم حظوظها من رحمة الله( فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ) يقول: هم في نار جهنم.

وقوله:( تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ ) يقول: تَسْفَع وُجوهَهم النارُ.

كما حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس:( تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ ) قال: تنفح( وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ) والكلوح: أن تتقلص الشفتان عن الأسنان، حتى تبدو الأسنان، كما قال الأعشى:

وَلَهُ المُقْدَمُ لا مِثْلَ لَه... ساعة الشِّدْق عَنِ النَّابِ كَلَحْ (1)

__________

(1) البيت لأعشى بني قيس بن ثعلبة ( ديوانه ص 241 بشرح الدكتور محمد حسين ، طبع القاهرة ) . والرماية فيه في الحرب " إذا " في موضع " لا مثل له " . والمقدم بضم الميم مصدر بمعنى الإقدام . وكلح = الشدق : كشر عن الأنياب في عبوس .

يمدح إياس بن قبيصة الطائي ، بأن من صفاته الإقدام في الحرب حين تكره الأبطال النزال ، وتكشر أشداقهم عن أنيابهم ، كرها للحرب ، واستشهد به المؤلف هنا على أن معنى الكلوح تقلص الشفتين عن الأسنان حتى تبدو الأسنان

(19/73)

 

 

فتأويل الكلام: يَسْفَع وجوههم لهبُ النار فتحْرقها، وهم فيها متقلصو الشفاه عن الأسنان؛ من إحراق النار وجوههم.

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

*ذكر من قال ذلك:

حدثني عليّ، قال: ثني عبد الله، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله:( وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ) يقول: عابسون.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى وعبد الرحمن، قالا ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، في قوله:( وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ) قال: ألم تر إلى الرأس المشيط قد بدت أسنانه، وقَلَصت شفتاه .

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص عن عبد الله، قرأ هذه الآية( تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ ). .. الآية، قال: ألم تر إلى الرأس المشيط بالنار، وقد قلصت شفتاه وبدت أسنانه .

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:( وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ) قال: ألم تر إلى الغنم إذا مست النار وجوهها كيف هي؟ .

=======================

 

 

 

 

 

 

 

المؤمنون - تفسير أضواء البيان

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة المؤمنون

قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} .

ذكر جل وعلا في هذه الآيات التي ابتدأ بها أول هذه السورة علامات المؤمنين المفلحين فقال {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] أي فازوا وظفروا بخير الدنيا والآخرة.

وفلاح المؤمنين مذكور ذكراً كثيراً في القرآن كقوله {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً} [الأحزاب:47] وقوله: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2] أصل الخشوع: السكون، والطمأنينة، والانخفاض ومنه قول نابغة ذبيان:

رماد ككحل العين لأياً أبينه ... ونؤى كجذم الحوض أثلم خاشع

وهو في الشرع: خشية من الله تكون في القلب، فتظهر آثارها على الجوارح.

وقد عد الله الخشوع من صفات الذين أعد لهم مغفرة وأجراً عظيماً في قوله في الأحزاب {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} إلى قوله: {عَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:25].

وقد عد الخشوع في الصلاة هنا من صفات المؤمنين المفلحين، الذين يرثون الفردوس، وبين أن من لم يتصف بهذا الخشوع تصعب عليه الصلاة في قوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] وقد استدل جماعة من أهل العلم بقوله: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} على أن من خشوع المصلي: أن يكون نظره في صلاته إلى موضع سجوده، قالوا: كان النَّبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى السماء في الصلاة، فأنزل الله {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر حيث يسجد.

وقال صاحب الدر المنثور: وأخرج ابن مردويه، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى

(5/305)

 

 

السماء فنزلت {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} فطأطأ رأسه" اهـ منه.

وأكثر أهل العلم على أن المصلي ينظر إلى موضع سجوده، ولا يرفع بصره. وخالف المالكية الجمهور، فقالوا: إن المصلي ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده، واستدلوا لذلك بقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144] قالوا: فلو نظر إلى موضع سجوده لاحتاج أن يتكلف ذلك بنوع من الانحناء، وذلك ينافي كمال القيام. وظاهر قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ السْجِدِ الْحَرَامِ} لأن المنحني بوجهه إلى موضع سجوده، ليس بمول وجهه شطر المسجد الحرام، والجمهور على خلافهم كما ذكرنا.

واعلم أن معنى أفلح: نال الفلاح، والفلاح يطلق في لغة العرب على معنيين:

الأول: الفوز بالمطلوب الأكبر، ومنه قول لبيد:

فاعقلي إن كنت لما تعقلي ... ولقد أفلح من كان عقل

أي فاز من رزق العقل بالمطلوب الأكبر.

والثاني: هو إطلاق الفلاح على البقاء السرمدي في النعيم، ومنه قول لبيد أيضاً في رجز له:

لو أن حياً مدرك الفلاح ... لناله ملاعب الرماح

يعني مدرك البقاء، ومنه بهذا المعنى قول كعب بن زهير، أو الأضبط بن قريع:

لكل هم من الهموم سعه ... والمسى والصبح لا فلاح معه

أي لا بقاء معه، ولا شك أن من اتصف بهذه الصفات التي ذكرها الله في أول هذه السورة الكريمة دخل الجنة كما هو مصرح به في الآيات المذكورة، وأن من دخل الجنة نال الفلاح بمعنييه المذكورين، والمعنيان اللذان ذكرنا للفلاح بكل واحد منهما، فسر بعض العلماء حديث الأذان والإقامة في لفظة: حي على الفلاح.

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من صفات المؤمنين المفلحين: إعراضهم عن اللغو. وأصل اللغو ما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال، فيدخل فيه اللعب واللهو والهزل، وما توجب المروءة تركه.

وقال ابن كثير {عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون:3] أي عن الباطل، وهو يشمل

(5/306)

 

 

الشرك كما قال بعضهم، والمعاصي كما قاله آخرون، وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال اهـ منه.

وما أثنى الله به على المؤمنين المفلحين في هذه الآية. أشار له في غير هذا الموضع كقوله: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً} [الفرقان:72] ومن مرورهم به كراماً إعراضهم عنه، وعدم مشاركتهم أصابه فيه وقوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص:55].

قوله تعالى: {والَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} .

في المراد بالزكاة هنا وجهان من التفسير معروفان عند أهل العلم.

أحدهما : أن المراد بها زكاة الأموال، وعزاه ابن كثير للأكثرين.

الثاني : أن المراد بالزكاة هنا: زكاة النفس أي تطهيرها من الشرك، والمعاصي بالإيمان بالله، وطاعته وطاعة رسله عليهم الصلاة والسلام، وعلى هذا فالمراد بالزكاة كالمراد بها في قوله { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس:9-10] وقوله {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} [الأعلى:14]. وقوله {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} [النور:21] وقوله {خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً} [الكهف:81] وقوله {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:6-7] على أحد التفسيرين. وقد يستدل لهذا القول الأخير بثلاث قرائن:

الأولى : أن هذه السورة مكية، بلا خلاف، والزكاة إنما فرضت بالمدينة كما هو معلوم. فدل على أن قوله {والَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} نزل قبل فرض زكاة الأموال المعروفة، فدل على أن المراد به غيرها.

القرينة الثانية : هي أن المعروف في زكاة الأموال: أن يعبر عن أدائها بالإيتاء كقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} وقوله {وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} ونحو ذلك. وهذه الزكاة المذكورة هنا، لم يعبر عنها بالإيتاء، بل قال تعالى فيها {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} فدل على أن هذه الزكاة: أفعال المؤمنين المفلحين، وذلك أولى بفعل الطاعات، وترك المعاصي من أداء مال.

الثالثة : أن زكاة الأموال تكون في القرآن عادة مقرونة بالصلاة، من غير فصل

(5/307)

 

 

بينهما كقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:110] وقوله: {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} [البقرة:277] وقوله: {وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} [الأنبياء:72] وهذه الزكاة المذكورة هنا فصل بين ذكرها، وبين ذكر الصلاة بجملة {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ} .

والذين قالوا المراد بها زكاة الأموال قالوا: إن أصل الزكاة فرض بمكة قبل الهجرة، وأن الزكاة التي فرضت بالمدينة سنة اثنتين هي ذات النصب، والمقادير الخاصة.

وقد أوضحنا هذا القول في الأنعام في الكلام على قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141] وقد يستدل، لأن المراد بالزكاة في هذه الآية غير الأعمال التي تزكى بها النفوس من دنس الشرك والمعاصي، بأنا لو حملنا معنى الزكاة على ذلك، كان شاملاً لجميع صفات المؤمنين المذكورة في أول هذه السورة، فيكون كالتكرار معها، والحمل على التأسيس والاستقلال أولى من غيره، كما تقرر في الأصول. وقد أوضحناه في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [الأنعام:97] والذين قالوا: هي زكاة الأموال قالوا: فاعلون أي مؤدون، قالوا: وهي لغة معروفة فصيحة، ومنها قول أمية بن أبي الصلت:

المطعمون الطعام في السنة الأز ... مة والفاعلون للزكوات

وهو واضح، بحمل الزكاة على المعنى المصدري بمعنى التزكية للمال، لأنها فعل المزكي كما هو واضح. ولا شك أن تطهير النفس بأعمال البر، ودفع زكاة المال كلاهما من صفات المؤمنين المفلحين الوارثين الجنة.

وقد قال ابن كثير رحمه الله: وقد يحتمل أن المراد بالزكاة ها هنا: زكاة النفس من الشرك، والدنس إلى أن قال ويحتمل أن يكون كلا الأمرين مراداً وهو زكاة النفوس، وزكاة الأموال فإنه من جملة زكاة النفوس، والمؤمن الكامل هو الذي يفعل هذا وهذا والله أعلم. اهـ منه.

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} .

ذكر جل وعلا في هذه الآيات الكريمة: أن من صفات المؤمنين المفلحين الذين يرثون الفردوس ويخلدون فيها حفظهم لفروجهم: أي من اللواط والزنى، ونحو ذلك، وبين أن

(5/308)

 

 

حفظهم فروجهم، لا يلزمهم عن نسائهم الذين ملكوا الاستمتاع بهن بعقد الزواج أو بملك اليمين، والمراد به التمتع بالسراري، وبين أن من لم يحفظ فرجه عن زوجه أو سريته لا لوم عليه، وأن من ابتغى تمتعاً بفرجه، ورواء ذلك غير الأزواج والمملوكات فهو من العادين: أي المعتدين المتعدين حدود الله، المجاوزين ما أحله الله إلى ما حرمه.

وبين معنى العادين في هذه الآية قوله تعالى في قوم لوط: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء:25] وهذا الذي ذكره هنا ذكره أيضاً في سورة سأل سائل لأنه قال فيها في الثناء على المؤمنين {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المعارج:29].

مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة

المسألة الأولى : اعلم أن ما في قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:6] من صيغ العموم، والمراد بها من وهي من صيغ العموم. فآية {قَدْ أَفْلَحَ المؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] وآية {سَأَلَ سَائِلٌ} [المعارج:1] تدل بعمومها المدلول عليه بلفظة ما، في قوله {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} في الموضعين على جواز جمع الأختين بملك اليمين في التسري بهما معاً لدخولهما في عموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} وبهذا قال داود الظاهري، ومن تبعه: ولكن قوله تعالى: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأخْتَيْنِ} [النساء:23] يدل بعمومه على منع جمع الأختين، بملك اليمين، لأن الألف واللام في الأختين صيغة عموم، تشمل كل أختين. سواء كانتا بعقد أو ملك يمين ولذا قال عثمان رضي الله عنه، لما سئل عن جمع الأختين بملك اليمين: أحلتهما آية، وحرمتهما أخرى يعني بالآية المحللة {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} وبالمحرمة {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ لأخْتَيْنِ} .

وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب وسنذكر هنا إن شاء الله المهم مما ذكرنا فيه ونزيد ما تدعو الحاجة إلى زيادته.

وحاصل تحرير المقام في ذلك: أن الآيتين المذكورتين بينهما عموم، وخصوص من وجه، يظهر للناظر تعارضهما في الصورة التي يجتمعان فيها كما قال عثمان رضي الله عنهما: أحلتهما آية، وحرمتهما أخرى وإيضاحه أن آية: {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ} تنفرد عن آية {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} في الأختين المجموع بينهما، بعقد نكاح وتنفرد

(5/309)

 

 

آية {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} في الأمة الواحدة، أو الأمتين اللتين ليستا بأختين، ويجتمعان في الجمع بين الأختين، فعموم {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأٍخْتَيْنِ} يقتضي تحريمه، وعموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} يقتضي إباحته، وإذا تعارض العامان من وجه في الصورة التي يجتمعان فيها: وجب الترجيح بينهما، والراجح منهما، يقدم ويخصص به عموم الآخر، كما أَشار له في مراقي السعود بقوله:

وإن يك العموم من وجه ظهر ... فالحكم بالترجيح حتما معتبر

وإذا علمت ذلك فاعلم أن عموم {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ} مرجح من خمسة أَوجه على عموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} :

الأول: منها أن عموم {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ} نص في محل المدرك المقصود بالذات، لأن السورة سورة النساء: وهي التي بين الله فيها من تحل منهن، ومن لا تحل وآية {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} في الموضعين لم تذكر من أجل تحريم النساء، ولا تحليلهن بل ذكر الله صفات المؤمنين التي يدخلون بها الجنة. فذكر من جملتها حفظ الفرج، فاستطرد أنه لا يلزم حفظه عن الزوجة والسرية. وقد تقرر في الأصول: أن أخذ الأحكام من مظانها أولى من أخذها، لا من مظانها.

الوجه الثاني: أن آية {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} ليست باقية على عمومها بإجماع المسلمين، لأن الأخت من الرضاع لا تحل بملك اليمين، إجماعاً للإجماع على أن عموم أو ما ملكت أيمانهم يخصصه عموم {وَأَخَواتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء:22] وموطوءة الأب لا تحل بملك اليمين إجماعاً، للإجماع على أن عموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} يخصصه عموم {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:22]. والأصح عند الأصوليين في تعارض العام الذي دخله التخصيص، مع العام الذي لم يدخله التخصيص: هو تقديم الذي لم يدخله التخصيص، وهذا هو قول جمهور أهل الأصول، ولم أعلم أحداً خالف فيه، إلا صفي الدين الهندي، والسبكي.

وحجة الجمهور أن العام المخصص، اختلف في كونه حجة في الباقي، بعد التخصيص، والذين قالوا: هو حجة في الباقي. قال جماعة منهم: هو مجاز في الباقي، وما اتفق على أنه حجة، وأنه حقيقة، وهو الذي لم يدخله التخصيص أولى مما اختلف في حجيته، وهل هو حقيقة، أو مجاز، وإن كان الصحيح: أنه حجة في الباقي، وحقيقة فيه،

(5/310)

 

 

لأن مطلق حصول الخلاف فيه يكفي في ترجيح غيره عليه، وأما حجة صفي الدين الهندي والسبكي، على تقديم الذي دخله التخصيص فهي أن الغالب في العام التخصيص، والحمل على الغالب أولى، وأن ما دخله التخصيص يبعد تخصيصه مرة أخرى، بخلاف الباقي على عمومه.

الوجه الثالث: أن عموم {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ} غير وارد في معرض مدح ولا ذم وعموم {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانهم} وارد في معرض مدح المتقين، والعام الوارد في معرض المدح أو الذم.

اختلف العلماء في اعتبار عمومه، فأكثر العلماء: على أن عمومه معتبر كقوله تعالى: {إِنَّ الأبْرَارَ لَفي نَعِيمٍ، وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفي جَحِيمٍ} [الإنفطار:13-14] فإنه يعم كل بر مع أنه للمدح، وكل فاجر مع أنه للذم قال في مراقي السعود:

وما أتى للمدح أو للذم ... يعم عند جل أهل العلم

وخالف في ذلك بعض العلماء منهم: الإمام الشافعي رحمه الله، قائلاً: إن العام الوارد في معرض المدح، أو الذم لا عموم له، لأن المقصود منه الحث في المدح والزجر في الذم، ولذا لم يأخذ الإمام الشافعي بعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:34] في الحلي المباح، لأن الآية سيقت الذم، فلا تعم عنده الحلي المباح.

وإذا علمت ذلك، فاعلم أن العام الذي لم يقترن بما يمنع اعتبار عمومه أولى من المقترن بما يمنع اعتبار عمومه، عند بعض العلماء.

الوجه الرابع: أنا لو سلمنا المعارضة بين الآيتين، فالأصل في الفروج التحريم، حتى يدل دليل لا معارض له على الإباحة.

الوجه الخامس: أن العموم المقتضي للتحريم أولى من المقتضي للإباحة، لأن ترك مباح أهو من ارتكاب حرام.

فهذه الأوجه الخمسة يرد بها استدلال داود الظاهري، ومن تبعه على إباحته جمع الأختين بملك اليمين، محتجاً بقوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانهُمْ} ولكن داود يحتج بآية أخرى يعسر التخلص من الاحتجاج بها، بحسب المقرر في أصول الفقه المالكي والشافعي والحنبلي، وإيضاح ذلك أن المقرر في أصول الأئمة الثلاثة المذكورين أنه إن ورد استثناء

(5/311)

 

 

بعد جمل متعاطفة، أو مفردات متعاطفة، أن الاستثناء المذكور يرجع لجميعها خلافاً لأبي حنيفة القائل يرجع إلى الجملة الأخيرة فقط، قال في مراقي السعود:

وكل ما يكون فيه العطف ... من قبل الاستثنا فكلا يقفو

دون دليل العقل أو ذي السمع ... ............................... الخ

وإذا علمت أن المقرر في أصول الأئمة الثلاثة المذكورين رجوع الاستثناء لكل المتعاطفات، وأنه لو قال الواقف في صيغة وقفه: هو وقف على بني تميم وبني زهرة والفقراء إلا الفاسق منهم، أنه يخرج من الوقف فاسق الجميع لرجوع الاستثناء إلى الجميع، وأن أبا حنيفة وحده هو القائل برجوعه إلى الجملة الأخيرة فقط. ولذلك لم يقبل شهادة القاذف، ولو تاب وأصلح، وصار أعدل أهل زمانه لأن قوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور:4-5] يرجع عنده الاستثناء فيه للأخيرة فقط وهي {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إلَّا الَّذِينَ تَابُوا} أي فقد زال عنهم اسم الفسق، ولا يقبل رجوعه لقوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} إلا الذين تابوا، فاقبلوا شهادتهم بل يقول: لا تقبلوا لهم شهادة أبداً مطلقاً بلا استثناء لاختصاص الاستثناء عنده بالجملة الأخيرة، ولم يخالف أبو حنيفة أصوله في قوله: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ} إلى قوله: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} [الفرقان:68-70]. فإن هذا الاستثناء راجع لجميع الجمل المتعاطفة قبله عند أبي حنيفة، وغيره.

ولكن أبا حنيفة لم يخالف فيه أصله لأن الجمل الثلاث المذكورة جمعت في الجملة الأخيرة، التي هي {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان:68] لأن الإشارة في قوله: ذلك راجعة إلى الشرك، والقتل والزنى في الجمل المتعاطفة قبله فشملت الجملة الأخيرة معاني الجمل قبلها، فصار رجوع الاستثناء لها وحدها، عند أبي حنيفة، على أصله المقرر: مستلزماً لرجوعه للجميع.

وإذا حققت ذلك فاعلم أن داود يحتج لجواز جمع الأختين بملك اليمين أيضاً،

(5/312)

 

 

برجوع الاستثناء في قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} لقوله: {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ} فيقول: قوله تعالى: {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ} وقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:24] يرجع لكل منهما استثناء في قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} فيكون المعنى: وحرم عليكم أن تجمعوا بين الأختين، إلا ما ملكت أيمانكم فلا يحرم عليكم فيه الجمع بينهما، وحرمت عليكم المحصنات من النساء، إلا ما ملكت أيمانكم، فلا يحرم عليكم.

وقد أوضحنا معنى الاستثناء من المحصنات في محله من هذا الكتاب المبارك، وبهذا تعلم أن احتجاج داود برجوع الاستثناء في قوله { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} إلى قوله: {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ} جار على أصول المالكية والشافعية والحنابلة، فيصعب عليهم التخلص من احتجاج داود هذا.

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي أن الجواب عن استدلال داود المذكور من وجهين:

الأولى منهما : أن في الآية نفسها قرينة مانعة من رجوع الاستثناء، إلى قوله: {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأٍخْتَيْنِ} لما قدمنا من أن قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} أي بالسبي خاصة مع الكفر، وأن المعنى والمحصنات من النساء، إلا ما ملكت أيمانكم: أي وحرمت عليكم المتزوجات من النساء، لأن المتزوجة لا تحل لغير زوجها إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي مع الكفر فإن السبي يرفع حكم الزوجية عن المسبية، وتحل لسابيها بعد الاستبراء كما قال الفرزدق:

وذات حليل أنكحتها رماحنا ... حلال لمن يبنى بها لم تطلق

وإذا كان ملك اليمين في قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} في السبي خاصة كما هو مذهب الجمهور كان ذلك مانعاً من رجوعه إلى قوله: {وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ} لأن محل النزاع في ملك اليمين مطلقاً، وقد قدمنا في سورة النساء أن قول من قال: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} مطلقاً، وأن بيع الأمة طلاقها أنه خلاف التحقيق، وأوضحنا الأدلة على ذلك.

الوجه الثاني: هو أن استقراء القرآن يدل على أن الصواب في رجوع الاستثناء لجميع الجمل المتعاطفة قبله أو بعضها، يحتاج إلى دليل منفصل، لأن الدليل قد يدل على

(5/313)

 

 

رجوعه للجميع أو لبعضها، دون بعض. وربما دل الدليل على عدم رجوعه للأخيرة التي تليه. وإذا كان الاستثناء ربما كان راجعاً لغير الجملة الأخيرة التي تليه، تبين أنه لا ينبغي الحكم برجوعه إلى الجميع إلا بعد النظر في الأدلة. ومعرفة ذلك منها، وهذا القول الذي هو الوقف عن رجوع الاستثناء إلى الجميع أو بعضها المعين، دون بعض، إلا بدليل مروي عن ابن الحاجب من المالكية، والغزالي من الشافعية، والآمدي من الحنابلة، واستقراء القرآن يدل على أن هذا القول هو الأصح، لأن الله يقول: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] وإذا رددنا هذه المسألة إلى الله، وجدنا القرآن دالاً على صحة هذا القول، وبه يندفع أيضاً استدلال داود.

فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء:92 فالاستثناء راجع للدية، فهي تسقط بتصدق مستحقها بها، ولا يرجع لتحرير الرقبة قولاً واحداً، لأن تصدق مستحق الدية بها لا يسقط كفارة القتل خطأ، ومنها قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} [النور:4-5] فالاستثناء لا يرجع لقول:ه {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} لأن القاذف إذا تاب لا تسقط توبته حد القذف.

وما يروى عن الشعبي من أنها تسقطه، خلاف التحقيق الذي هو مذهب جماهير العلماء ومنها قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [النساء:89-90].

فالاستثناء في قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ} لا يرجع قولاً واحداً، إلى الجملة الأخيرة، التي تليه أعني قوله تعالى: {وَلاَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} [النساء:89] لأنه لا يجوز اتخاذ ولي ولا نصير من الكفار أبداً، ولو وصلوا إلى قوم بينكم، وبينهم ميثاق، بل الاستثناء راجع للأخذ والقتل في قوله: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ} [النساء:89] والمعنى: فخذوهم بالأسر واقتلوهم إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم، وبينهم ميثاق، فليس لكم أخذهم بأسر، ولا قتلهم، لأن الميثاق الكائن لمن وصلوا إليهم يمنع من أسرهم، وقتلهم كما اشترطه هلال بن عويمر الأسلمي في صلحه مع النَّبي صلى الله عليه وسلم كما ذكروا أن هذه الآية:

نزلت فيه وفي سراقة بن مالك المدلجي، وفي بني جذيمة بن عامر وإذا كان الاستثناء ربما لم يرجع لأقرب الحمل إليه في القرآن العظيم: الذي هو في الطرف الأعلى

(5/314)

 

 

من الإعجاز تبين أنه ليس نصاً في الرجوع إلى غيرها.

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:83] على ما قاله جماعات من المفسرين، لأنه لولا فضل الله ورحمته لاتبعوا الشيطان، كلا بدون استثناء، قليل أو كثير كما ترى.

واختلفوا في مرجع هذا الاستثناء، فقيل: راجع لقوله: {أَذَاعُوا بِهِ} [النساء:83] وقيل: راجع لقوله {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] وإذا لم يرجع للجملة التي تليه، لم يكن نصاً في رجوعه لغيرها.

وقيل: إن هذا الاستثناء راجع للجملة التي تليه. وأن المعنى: ولولا فضل الله عليكم ورحمته بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم لاتبعتم الشيطان في الاستمرار، على ملة آبائكم من الكفر، وعبادة الأوثان إلا قليلاً كمن كان على ملة إبراهيم في الجاهلية، كزيد بن نفيل وقس بن ساعدة وورقة بن نوفل، وأمثالهم.

وذكر ابن كثير أن عبد الرزاق روى عن معمر عن قتادة في قوله: {لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} معناه: لاتبعتم الشيطان كلا، قال: والعرب تطلق العلة، وتريد بها العدم. واستدل قائل هذا القول بقول الطرماح بن حكيم يمدح يزيد بن المهلب:

أشم ندى كثير النوادي ... قليل المثالب والقادحه

يعني: لا مثلبة فيه، ولا قادحة. وهذا القول ليس بظاهر كل الظهور، وإن كانت العرب تطلق القلة في لغتها، وتريد بها العدم كَقولهم: مررت بأرض قليل بها الكراث والبصل، يعنون لا كراث فيها ولا بصل. ومنه قول ذي الرمة:

أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة ... قليل بها الأصوات إلا بغامها

يريد: أن تلك الفلاة لا صوت فيها غير بغام ناقته. وقول الآخر:

فما بأس لو ردت علينا تحية ... قليلاً لدى من يعرف الحق عابها

يعني لا عاب فيها: أي لا عيب فيها عند من يعرف الحق، وأمثال هذا كثير في كلام العرب، وبالآيات التي ذكرنا تعلم: أن الوقف عن القطع برجوع الاستثناء لجميع الجمل المتعاطفة قبله إلا لدليل، هو الذي دل عليه القرآن في آيات متعددة، وبدلالتها يرد استدلال داود المذكور أيضاً والعلم عند الله تعالى.

(5/315)

 

 

المسألة الثانية: اعلم أن أهل العلم أجمعوا على أن حكم هذه الآية الكريمة في التمتع بملك اليمين في قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:5-6] خاص بالرجال دون النساء، فلا يحل للمرأة أن تتسرى عبدها، وتتمتع به بملك اليمين، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، وهو يؤيد قول الأكثرين: أن النساء لا يدخلن في الجموع المذكرة، الصحيحة إلا بدليل منفصل، كما أوضحنا أدلته في سورة الفاتحة، وذكر ابن جرير أن امرأة اتخذت مملوكها، وقالت: تأولت آية من كتاب الله {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} فأتى بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال له ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: تأولت آية من كتاب الله عز وجل على غير وجهها، قال: فضرب العبد، وجز رأسه وقال: أنت بعده حرام على كل مسلم. ثم قال ابن كثير: هذا أثر غريب منقطع، ذكره ابن جرير في تفسير أول سورة المائدة، وهو هو هنا أليق وإنما حرمها عَلَى الرجال، معاملة لها بنقيض قصدها، والله أعلم ا هـ.

وقال أبو عبد الله القرطبي: قد روى معمر عن قتادة قال: تسررت امرأة غلامها، فذكر ذلك لعمر فسألها ما حملك على ذلك؟ قالت: كنت أراه يحل لي بملك يميني، كما تحل للرجل المرأة بملك اليمين، فاستشار عمر في رجمها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: تأولت كتاب الله عز وجل على غير تأويله لا رجم عليها، فقال عمر: لا جرم، والله لا أحلك لحر بعده عاقبها بذلك، ودرأ الحد عنها، وأمر العبد ألا يقربها.

وعن أبي بكر بن عبد الله أنه سمع أباه يقول: أنا حضرت عمر بن عبد العزيز جاءته امرأة بغلام لها وضيء، فقالت: إني استسررته، فمنعنى بنو عمي عن ذلك، وإنما أنا بمنزلة الرجل تكون له الوليدة فيطؤها، فإنه عنى بني عمي فقال عمر: أتزوجت قبله؟ قالت: نعم. قال: أما والله لولا منزلتك من الجهالة لرجمتك بالحجارة، ولكن اذهبوا به فبيعوه إلى من يخرج به إلى غير بلدها ا هـ. من القرطبي.

المسألة الثالثة: اعلم أنه لا شك في أن آية {قَدْ أَفْلَحَ الؤْمِنُونَ} هذه التي هي {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7] تدل بعمومها على منع الاستمناء باليد المعروف، بجلد عميرة، ويقال له الخضخضة، لأن من تلذذ بيده حتى أنزل منيه بذلك، قد ابتغى وراء ما أحله الله، فهو من العادين بنص هذه الآية الكريمة المذكورة هنا، وفي سورة {سَألَ سَائِلٌ} وقد ذكر ابن كثير: أن الشافعي ومن تبعه استدلوا بهذه

(5/316)

 

 

الآية، على منع الاستمناء باليد. وقال القرطبي: قال محمد بن عبد الحكم: سمعت حرملة بن عبد العزيز، قال: سألت مالكاً عن الرجل يجلد عميرة فتلا هذه الآية {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} إلى قوله {الْعَادُونَ} [المؤمنون:5-7].

قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: الذي يظهر لي أن استدلال مالك، والشافعي وغيرهما من أهل العلم بهذه الآية الكريمة، على منع جلد عميرة الذي هو الاستمناء باليد استدلال صحيح بكتاب الله، يدل عليه ظاهر القرآن، ولم يرد شيء يعارضه من كتاب ولا سنة، وما روي عن الإمام أحمد مع علمه، وجلالته وورعه من إباحة جلد عميرة مستدلاً على ذلك بالقياس قائلاً: هو إخراج فضلة من البدن تدعو الضرورة إلى إخراجها فجاز، قياساً على الفصد والحجامة، كما قال في ذلك بعض الشعراء:

إذا حللت بواد لا أنيس به ... فاجلد عميرة لا عار ولا حرج

فهو خلاف الصواب، وإن كان قائله في المنزلة المعروفة التي هو بها، لأنه قياس يخالف ظاهر عموم القرآن، والقياس إن كان كذلك رد بالقادح المسمى فساد الاعتبار، كما أوضحناه في هذا الكتاب المبارك مراراً وذكرنا فيه قول صاحب مراقي السعود: والخلف للنص أو إجماع دعا فساد الاعتبار كل من وعى

فالله جل وعلا قال: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} ولم يستثن من ذلك ألبتة إلا النوعين المذكورين، في قوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} وصرح برفع الملامة في عدم حفظ الفرج، عن الزوجة، والمملوكة فقط ثم جاء بصيغة عامة شاملة لغير النوعين المذكورين، دالة على المنع هي قوله {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7] وهذا العموم لا شك أنه يتناول بظاهره، ناكح يده، وظاهر عموم القرآن، لا يجوز العدول عنه، إلا لدليل من كتاب أو سنة، يجب الرجوع إليه. أما القياس المخالف له فهو فاسد الاعتبار، كما أوضحنا، والعلم عند الله تعالى.

وقال ابن كثير في تفسير هذه الآية، بعد أن ذكر بعض من حرم جلد عميرة، واستدلالهم بالآية ما نصه: وقد استأنسوا بحديث رواه الإمام الحسن بن عرفة في جزئة المشهور، حيث قال: حدثني علي بن ثابت الجزري، عن مسلمة بن جعفر، عن حسان بن حميد، عن أنس بن مالك، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال "سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولا يجمعهم مع العاملين ويدخلهم النار أول الداخلين إلا أن يتوبوا ومن تاب تاب الله

(5/317)

 

 

عليه: الناكح يده، والفاعل والمفعول، ومدمن الخمر، والضارب والديه حتى يستغيثا، والمؤذي جيرانه حتى يلعنوه، والناكح حليلة جاره" ا هـ.

ثم قال ابن كثير: هذا حديث غريب وإسناده فيه من لا يعرف لجهالته والله أعلم. انتهى منه ولكنه على ضعفه يشهد له في نكاح اليد ظاهر القرآن في الجملة، لدلالته على منع ذلك، وإنما قيل للاستمناء باليد: جلد عميرة، لأنهم يكنون بعميرة عن الذكر.

لطيفة: قد ذكر في نوادر المغفلين، أن مغفلا كانت أمه تملك جارية تسمى عميرة فضربتها مرة، فصاحت الجارية، فسمع قوم صياحها، فجاؤوا وقالوا ما هذا الصياح؟ فقال لهم ذلك المغفل: لا بأس تلك أمي كانت تجلد عميرة.

المسألة الرابعة: اعلم أنا قدمنا في سورة النساء، أن هذه الآية التي هي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} تدل بظاهرها على منع نكاح المتعة، لأنه جل وعلا صرح فيها بما يعلم منه، وجوب حفظ الفرج عن غير الزوجة والسرية، ثم صرح بأن المبتغي وراء ذلك من العادين بقوله: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} وأن المرأة المستمتع بها في نكاح المتعة، ليست زوجة، ولا مملوكة. أما كونها غير مملوكة فواضح. وأما الدليل على كونها غير زوجة، فهو انتفاء لوازم الزوجية عنها كالميرث والعدة والطلاق والنفقة، ونحو ذلك، فلو كانت زوجة لورثت واعتدت ووقع عليها الطلاق، ووجبت لها النفقة، فلما انتفت عنها لوازم الزوجية علمنا أنها ليست بزوجة، لأن نفي اللازم يقتضي نفي الملزوم بإجماع العقلاء.

فتبين بذلك أن معنى نكاح المتعة من العادين المجاوزين ما أحل الله إلى ما حرم، وقد أوضحنا ذلك في سورة النساء بأدلة الكتاب والسنة، وأن نكاح المتعة ممنوع إلى يوم القيامة، وقد يخفي على طالب العلم معنى لفظة {عَلَى} في هذه الآية يعني قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ} لأن مادة الحفظ، لا تتعدى إلى المعمول الثاني في هذا الموضوع ب {عَلَى} فقيل: إن {عَلَى} بمعنى: عن.

والمعنى: أنهم حافظون فروجهم عن كل شيء، إلا عن أزواجهم، وحفظ عن تتعدى بعن.

وحاول الزمخشري الجواب عن الإتيان ب {عَلَى} هنا فقال ما نصه: {عَلَى

(5/318)

 

 

أَزْوَاجِهِمْ} في موضع الحال أي الأولين، على أزواجهم، أو قوامين عليهن من قولك: كان فلان على فلانة، فمات عنها، فخلف عليها فلان، ونظيره: كان زياد على البصرة: أي واليا عليها، ومنه قولهم: فلان تحت فلان، ومن ثمة سميت المرأة فراشا.

والمعنى: أنهم لفروجهم حافظون في كافة الأحوال، إلا في تزوجهم أو تسريهم، أو تعلق {عَلَى} بمحذوف يدل عليه غير ملومين، كأنه قيل: يلامون إلا على أزواجهم أي يلامون على كل مباشرة إلا على ما أطلق لهم، فإنهم غير ملومين عليه، أو تجعله صلة لحافظين من قولك: احفظ على عنان فرسي على تضمينه، معنى النفي كما ضمن قولهم: نشدتك الله إلا فعلت بمعنى: ما طلبت منك إلا فعلك. اهـ منه ولا يخفي ما فيه من عدم الظهور.

قال أبو حيان: وهذه الوجوه التي تكلفها الزمخشري ظاهر فيها العجمة، وهي متكلفة، ثم استظهر أبو حيان أن يكون الكلام من باب التضمين، ضمن حافظون معنى: ممسكون أو قاصرون، وكلاهما يتعدى ب {على} كقوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب:37] والظاهر أن قوله هنا {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} مع أن المملوكات من جملة العقلاء، والعقلاء يعبر عنهم بمن لا بما هو أن الإماء لما كن يتصفن ببعض صفات غير العقلاء كبيعهن وشرائهن، ونحو ذلك. كان ذلك مسوغا لإطلاق لفظة ما عليهن، والعلم عند الله تعالى.

وقال بعض أهل العلم: إن وراء ذلك، هو مفعول ابتغى: أي ابتغى سوى ذلك. وقال بعضهم: إن المفعول به محذوف، ووراء ظرف. أي فمن ابتغى مستمتعا لفرجه، وراء ذلك.

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من صفات المؤمنين المفلحين الوارثين الفردوس: أنهم راعون لأماناتهم وعهدهم: أي محافظون على الأمانات، والعهود. والأمانة تشمل: كل ما استودعك الله، وأمرك بحفظه، فيدخل فيها حفظ جوارحك من كل ما لا يرضي الله، وحفظ ما ائتمنت عليه من حقوق الناس، والعهود أيضا تشمل: كل ما أخذ عليك العهد بحفظه، من حقوق الله، وحقوق الناس.

وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من حفظ الأمانات والعهود جاء مبينا في آيات كثيرة

(5/319)

 

 

كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال:37] وقوله تعالى في سأل سائل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المعارج:32] وقوله في العهد: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء:34] وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]. وقوله: {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [الفتح:10] وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل:96] وقد أوضحنا هذا في سورة الأنبياء في الكلام على قوله {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الأنبياء:78]. وقوله: راعون: جمع تصحيح للراعي، وهو القائم على الشيء، بحفظ أو إصلاح كراعي الغنم وراعي الرعية، وفي الحديث "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" الحديث، وقرأ هذا الحرف ابن كثير وحده: لأمانتهم بغير ألف بعد النون، على صيغة الإفراد والباقون بألف بعد النون، على صيغة الجمع المؤنث السالم.

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من صفات المؤمنين المفلحين الوارثين الفردوس: أنهم يحافظون على صلواتهم والمحافظة عليها تشمل إتمام أركانها، وشروطها، وسننها، وفعلها في أوقاتها في الجماعات في المساجد، ولأجل أن ذلك من أسباب نيل الفردوس أمر تعالى بالمحافظة عليها في قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]. وقال تعالى في سورة المعارج {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج:34] وقال فيها أيضا {إِلَّا الْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج:22-23] وذم وتوعد من لم يحافظ عليها في قوله {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59].

وقد أوضحنا ذلك في سورة مريم، وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4- 5]. وقال تعالى في ذم المنافقين {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ} [النساء: 142]، وفي الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال "الصلاة على وقتها" ،

(5/320)

 

 

الحديث. وقد قدمناه والأحاديث في فضل الصلاة والمحافظة عليها كثيرة جدا، ولكن موضوع كتابنا بيان القرآن بالقرآن، ولا نذكر غالبا البيان من السنة، إلا إذا كان في القرآن بيان غير واف بالمقصود، فنتمم البيان من السنة كما قدمناه مرارا. وذكرناه في ترجمة هذا الكتاب المبارك.

قوله تعالى: {أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ. الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن المؤمنين المتصفين بالصفات، التي قدمناهم الوارثون، وحذف مفعول اسم الفاعل الذي هو الوارثون، لدلالة قوله: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} [المؤمنون: 11] عليه. والفردوس: أعلا الجنة، وأوسطها، ومنه تفجر أنهار الجنة، وفوقه عرش الرحمان جل وعلا، وعبر تعالى عن نيل الفردوس هنا باسم الوارثة.

وقد أوضحنا معنى الوارثة والآيات الدالة على ذلك المعنى، كقوله تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً} [مريم:63] وقوله: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43] وقوله تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} [الزمر: 74] في سورة مريم في الكلام على قوله: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً} [مريم:63] فأغنى ذلك عن إعادته هنا، وقرأ هذا الحرف: حمزة والكسائي: على صلاتهم بغير واو، بصيغة الإفراد وقرأ الباقون: {عَلَى صَلاتِهِمْ} بالواو المفتوحة بصيغة الجمع المؤنث السالم والمعنى واحد، لأن المفرد الذي هو اسم جنس، إذا أضيف إلى معرفة، كان صيغة عموم كما هو معروف في الأصول. وقوله هنا: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي بلا انقطاع أبدا، كما قال تعالى {عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108] أي غير مقطوع. وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [صّ:54] وقال تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96] كما قدمناه مستوفي.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} .

بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أطوار خلقه الإنسان ونقله له، من حال إلى حال، ليدل خلقه بذلك على كمال قدرته واستحقاقه للعبادة وحده جل وعلا. وقد أوضحنا في

(5/321)

 

 

أول سورة الحج معنى النطفة، والعلقة، والمضغة، وبينا أقوال أهل العلم في المخلقة، وغير المخلقة. والصحيح من ذلك وأوضحنا أحكام الحمل إذا سقط علقة أو مضغة هل تنقضي به عدة الحامل أو لا؟ وهل تكون الأمة به أم ولد إن كان من سيدها أو لا؟ إلى غير ذلك من أحكام الحمل الساقط، ومتى يرث، ويورث، ومتى يصل عليه، وأقوال أهل العلم في ذلك في الكلام على قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} [الحج: 5]. وسنذكر هنا ما لم نبينه هنالك مع ذكر الآيات التي لها تعلق بهذا المعنى. أما معنى السلالة: فهي فعالة من سللت الشيء من الشيء، إذا استخرجته منه، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:

خلق البرية من سلالة منتن ... وإلى السلالة كلها ستعود

والولد سلالة أبيه كأنه انسل من ظهر أبيه.

ومنه قول حسان رضي الله عنه:

فجاءت به عضب الأديم غضنفرا ... سلالة فرج كان غير حصين

وبناء الاسم على الفعالة، يدل على القلة كقلامة الظفر، ونحاتة الشيء المنحوت، وهي ما يتساقط منه عند النحت، والمراد بخلق الإنسان من سلالة الطين: خلق أبيهم آدم منه، كما قال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} [آل عمران: 59].

وقد أوضحنا فيما مضى أطوار ذلك التراب، وأنه لما بل بالماء صار طيبا ولما خمر صار طينا لازبا يلصق باليد، وصار حمأ مسنونا. قال بعضهم: طينا أسود منتنا، وقال بعضهم: المسنون: المصور، كما تقدم إيضاحه في سورة الحجر، ثم لما خلقه من طين خلق منه زوجه حواء، كما قال في أول النساء {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1] وقال في الأعراف {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف: 189] وقال في الزمر: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر: 6] كما تقدم إيضاح ذلك كله، ثم لما خلق الرجل والمرأة، كان وجود جنس الإنسان منهما عن طريق التناسل، فأول أطواره: النطفة، ثم العلقة. الخ.

وقد بينا أغلب ذلك في أول سورة الحج، وقوله هنا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون:12] يعني: بدأه خلق نوع الإنسان بخلق آدم، وقوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} [المؤمنون:13] أي بعد خلق آدم وحواء، فالضمير في قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ}

(5/322)

 

 

لنوع الإنسان، الذي هو النسل لدلالة المقام عليه، كقولهم: عندي درهم ونصفه: أي ونصف درهم آخر. كما أوضح تعالى هذا المعنى في سورة السجدة في قوله تعالى: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ. ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة: 6-9] وأشار إلى ذلك بقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} [الروم:20] وما ذكره هنا من أطوار خلقه الإنسان، أمر كل مكلف أن ينظر فيه. والأمر المطلق، يقتضي الوجوب إلا لدليل صارف عنه، كما أوضحناه مرارا. وذلك في قوله: {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 13-14]. وقد أشار في آيات كثيرة، إلى كمال قدرته بنقله الإنسان في خلقه من طور إلى طور، كما أوضحه هنا وكما في قوله تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً. وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} [نوح:13- 14]. وبين أن انصراف خلقه عن التفكر في هذا والاعتبار به مما يستوجب التساؤل والعجب، وأن من غرائب صنعه وعجائب قدرته نقله الإنسان من النطفة، إلى العلقة، ومن العلقة إلى المضغة الخ. مع أنه لم يشق بطن أمه بل هو مستتر بثلاث ظلمات: وهي ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة المنطوية على الجنين، وذلك في قوله جل وعلا: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر: 6] فتأمل معنى قوله {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} أي عن هذه العجائب والغرائب، التي فعلها فيكم ربكم ومعبودكم. وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ } [آل عمران: 6] وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} [الحج: 5] ثم ذكر الحكمة فقال {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} [الحج: 5] أي لنظهر لكم بذلك عظمتنا، وكمال قدرتنا، وانفرادنا بالإلهية واستحقاق العبادة، وقال في سورة المؤمن {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً} [غافر: 67] وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً. أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى. ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى. أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة:36-40] والآيات بمثل هذا كثيرة، وقد أبهم هذه الأطوار المذكورة في قوله:

(5/323)

 

 

{كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} [المعارج:39] وذلك الإبهام يدل على ضعفهم وعظمة خالقهم جل وعلا، فسبحانه جل وعلا ما أعظم شأنه وما أكمل قدرته، وما أظهر براهين توحيده، وقد بين في آية المؤمنون هذه: أنه يخلق المضغة عظاما، وبين في موضع آخر: أنه يركب بعض تلك العظام مع بعض، تركيبا قويا، ويشد بعضها مع بعض، على أكمل الوجوه وأبدعها، وذلك في قوله: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} [الانسان: 28]، والأسر: شد العظام بعضها مع بعض، وتآسير السرج ومركب المرأة السيور التي يشد بها، ومنه قول حميد بن ثور:

وما دخلت في الخدب حتى تنقضت ... تآسير أعلى قده وتحطما

وفي صحاح الجوهري: أسر قتبه يأسره أسرا شدة بالأسار وهو القد، ومنه سمي الأسير، وكانوا يشدونه بالقد، فقول بعض المفسرين واللغويين: {أَسْرَهُمْ} : أي خلقهم فيه قصور في التفسير، لأن الأسر هو الشد القوي بالأسار الذي هو القد، وهو السير المقطوع من جلد البعير ونحوه، الذي لم يدبغ والله جل وعلا يشد بعض العظام ببعض، شدا محكما متماسكا كما يشد الشيء بالقد، والشد به قوي جدا. وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون: 13] القرار هنا: مكان الاستقرار، والمكين: المتمكن. وصف القرار به لتمكنه في نفسه بحيث لا يعرض له اختلال، أو لتمكن من يحل فيه. قاله أبو حيان في البحر. وقال الزمخشري: القرار: المستقر، والمراد به: الرحم وصفت بالمكانة التي هي صفة المستقر فيها، أو بمكانتها في نفسها، لأنها مكنت بحيث هي وأحرزت. وقوله تعالى في هذه الآية: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} [المؤمنون: 14] قال الزمخشري: أي خلقا مباينا للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعله حيوانا، وكان جمادا وناطقا، وكان أبكم وسميعا، وكان أصم وبصيرا، وكان أكمه وأودع باطنه وظاهره، بل كل عضو من أعضائه وجزء من أجزائه عجائب فطرة، وغرائب حكمة، لا تدرك بوصف الواصف، ولا بشرح الشارح. انتهى منه.

وقال القرطبي: اختلف في الخلق الآخر المذكور، فقال ابن عباس، والشعبي وأبو العالية، والضحاك وابن زيد: "هو نفخ الروح فيه بعد أن كان جمادا" وعن ابن عباس: "خروجه إلى الدنيا"، وقال قتادة: عن فرقة نبات شعره. وقال الضحاك: خروج الأسنان، ونبات الشعر، وقال مجاهد: كمال شبابه. وروي عن ابن عمر والصحيح، أنه عام في هذا وفي غيره من النطق والإدراك، وتحصيل المعقولات إلى أن يموت. اهـ منه.

(5/324)

 

 

والظاهر أن جميع أقوال أهل العلم في قوله {خَلْقاً آخَرَ} [المؤمنون: 14] أنه صار بشرا سويا بعد أن كان نطفة، ومضغة، وعلقة، وعظاما كما هو واضح.

مسألة

وقد استدل بهذه الآية الإمام أبو حنيفة رحمه الله، على أن من غصب بيضة، فأفرخت عنه أنه يضمن البيضة، ولا يرد الفرخ، لأن الفرخ خلق آخر سوى البيضة، فهو غير ما غصب، وإنما يرد الغاصب ما غصب. وهذا الاستدلال له وجه من النظر، والعلم عند الله تعالى.

وقوله تعالى في هذه الآية: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] وقوله {فَتَبَارَكَ اللَّهُ} قال أبو حيان في البحر المحيط: تبارك: فعل ماض لا ينصرف، ومعناه: تعالى وتقدس. اهـ منه.

وقوله في هذه الآية {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} أي المقدرين والعرب تطلق الخلق وتريد التقدير. ومنه قول زهير:

ولأنت تفري ما خلقت وبعـ ... ـض القوم يخلق ثم لا يفري

فقوله: يخلق ثم لا يفري: أي يقدر الأمر، ثم لا ينفذه لعجزه عنه كما هو معلوم. ومعلوم أن النحويين مختلفون في صيغة التفضيل إذا أضيفت إلى معرفة، هل إضافتها إضافة محضة، أو لفظية غير محضة، كما هو معروف في محله؟ فمن قال: هي محضة أعرب قوله {أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} نعتا للفظ الجلالة، ومن قال: هي غير محضة أعربه بدلا، وقيل: خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هو أحسن الخالقين. وقرأ هذين الحرفين {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً} [المؤمنون: 14] وقوله {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً} [المؤمنون: 14] ابن عامر وشعبة عن عاصم عظما: بفتح العين، وإسكان الضاء من غير ألف بصيغة المفرد فيهما، وقرأه الباقون: عظاما بكسر العين وفتح الظاء، وألف بعدها بصيغة الجمع، وعلى قراءة ابن عامر وشعبة. فالمراد بالعظم: العظام.

وقد قدمنا بإيضاح في أول سورة الحج وغيرها أن المفرد إن كان اسم جنس، قد تطلقه العرب، وتريد به معنى الجمع. وأكثرنا من أمثلته في القرآن، وكلام العرب مع تعريفه وتنكيره وإضافته، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.

(5/325)

 

 

قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} .

بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنهم بعد أن أنشأهم خلقا آخر، فأخرج الواحد منهم من بطن أمه صغيرا، ثم يكون محتلما، ثم يكون شابا، ثم يكون كهلا، ثم يكون شيخا، ثم هرما أنهم كلهم صائرون إلى الموت من عمر منهم ومن لم يعمر، ثم هم بعد الموت يبعثون أحياء، يوم القيامة للحساب والجزاء، وهذا الموت والحياة المذكوران هنا كل واحد منهما له نظير آخر، لأنهما إماتتان وإحياتان ذكر من كل منهما واحدة هنا، وذكر الجميع في قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28] وقوله: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] كما قدمنا إيضاحه في سورة الحج والبقرة، وكل ذلك دليل على كمال قدرته، ولزوم الإيمان به، واستحقاقه للعبادة وحده سبحانه وتعالى علوا كبيرا.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} .

في قوله تعالى: {طَرَائِقَ} ، وجهان من التفسير:

أحدهما: أنها قيل لها طرائق، لأن بعضها فوق بعض من قولهم: طارق النعل إذا صيرها طاقا فوق طاق، وركب بعضها على بعض، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم "كأن وجوههم المجان المطرقة" أي التراس التي جعلت لها طبقات بعضها فوق بعض، ومنه قول الشاعر يصف نعلا له مطارقة:

وطراق من خلفهن طراق ... ساقطات تلوي بها الصحراء

يعني: نعال الإبل، ومنه قولهم: طائر طراق الريش، ومطرقة إذا ركب بعض ريشه بعضا، ومنه قول زهير يصف بازيا:

أهوى لها أسفع الخدين مطرق ... ريش القوادم لم تنصب له الشبك

وقول ذي الرمة يصف بازيا أيضا:

طراق الخوافي واقع فوق ريعه ... ندى ليله في ريشه يترقرق

وقول الآخر يصف قطاة:

سكاء مخطومة في ريشها طرق ... سود قوادمها كدر خوافيها

فعلى هذا القول فقوله: {سَبْعَ طَرَائِقَ} يوضح معناه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ

(5/326)

 

 

خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} الآية [نوح:15] وهذا قول الأكثر.

الوجه الثاني: أنها قيل لها طرائق، لأنها طرق الملائكة في النزول والعروج، وقيل: لأنها طرائق الكواكب في مسيرها، وأما قول من قال قيل لها طرائق لأن الكل سماء طريقة، وهيأة غير هيأة الأخرى وقول من قال: طرائق؟ أي مبسوطات فكلاهما ظاهر البعد، وقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [المؤمنون: 17] قد قدمنا أن معناه كقوله {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ} [الحج: 65] لأن من يمسك السماء لو كان يغفل لسقطت فأهلكت الخلق كما تقدم إيضاحه وقال بعضهم {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} [المؤمنون: 17] بل نحن القائمون بإصلاح جميع شؤونهم، وتيسير كل ما يحتاجون إليه وقوله {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} [المؤمنون: 17] يعني السموات برهان على قوله قبله {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون:16] لأن من قدر على خلق السموات، مع عظمها فلا شك أنه قادر على خلق الإنسان كقوله تعالى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: 57] وقوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} [النازعات:27] .

وقوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يّس: 81] والآيات بمثل هذا متعددة.

وقد قدمنا براهين البعث التي هذا البرهان من جملتها، وأكثرنا من أمثلتها وهي مذكورة هنا، ولم نوضحها هنا لأنا أوضحناها فيما سبق في النحل والبقرة. والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} .

ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه أنزل من السماء ماء معظما نفسه جل وعلا بصيغة الجمع المراد بها التعظيم وأن ذلك الماء الذي أنزله من السماء أسكنه في الأرض لينتفع به الناس في الآبار، والعيون، ونحو ذلك. وأنه جل وعلا قادر على إذهابه لو شاء أن يذهبه فيهلك جميع الخلق بسبب ذهاب الماء من أصله جوعا وعطشا وبين أنه أنزله بقدر أي بمقدار معين عنده يحصل به نفع الخلق ولا يكثره عليهم، حتى يكون كطوفان نوح لئلا يهلكهم، فهو ينزله بالقدر الذي فيه المصلحة، دون المفسدة سبحانه جل وعلا ما أعظمه وما أعظم لطفه بخلقه. وهذه المسائل الثلاث التي ذكرها في هذه الآية الكريمة، جاءت مبينة في غير هذا الموضع.

(5/327)

 

 

الأولى: التي هي كونه: أنزله بقدر أشار إليها في قوله: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر:21].

والثانية: التي هي إسكانه الماء المنزل من السماء في الأرض بينها في قوله جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} [الزمر: 21] والينبوع: الماء الكثير وقوله: {فأنزلنا من السمآء ماء فأسقيناكموه ومآ أنتم له بخازنين} على ما قدمنا في الحجر.

والثالثة: التي هي قدرته على إذهابه أشار لها في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك:30] ويشبه معناها قوله تعالى: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} [الواقعة:70] لأنه إذا صار ملحا أجاجا لا يمكن الشرب منه، ولا الانتفاع به صار في حكم المعدوم، وقد بين كيفية إنزاله الماء من السماء في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} [النور: 43] فصرح بأن الودق الذي هو المطر يخرج من خلال السحاب الذي هو المزن، وهو الوعاء الذي فيه الماء وبين أن السحابة تمتلىء من الماء حتى تكون ثقيلة لكثرة ما فيها من الماء في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ} [الأعراف: 57] فقوله: ثقالا جمع تقيلة، وثقلها إنما هو بالماء الذي فيها وقوله تعالى: {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} [الرعد: 12] جمع سحابة ثقيلة.

وهذه الآيات القرآنية تدل على أن الله يجمع الماء في المزن، ثم يخرجه من خلال السحاب، وخلال الشيء ثقوبه وفروجه التي هي غير مسدودة، وبين جل وعلا أنه هو الذي ينزله ويصرفه بين خلقه كيف يشاء، فيكثر المطر في بلاد قوم سنة، حتى يكثر فيها الخصب وتتزايد فيها النعم، ليبتلي أهلها في شكر النعمة، وهل يعتبرون بعظم الآية في إنزال الماء، ويقل المطر عليهم في بعض السنين، فتهلك مواشيهم من الجدب ولا تنبت زروعهم، ولا تثمر أشجارهم، ليبتليهم بذلك، هل يتوبون إليه، ويرجعون إلى ما يرضيه.

وبين أنه مع الإنعام العام على الخلق بإنزال المطر بالقدر المصلح وإسكان مائة في الأرض ليشربوا منه هم، وأنعامهم، وينتفعوا به أبى أكثرهم إلا الكفر به، وذلك في قوله تعالى: {رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً. لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً. وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} [الفرقان:48- 50].

(5/328)

 

 

ولا شك أن من جملة من أبى منهم إلا كفورا الذين يزعمون أن المطر لم ينزله منزل هو فاعل مختار، وإنما نزل بطبيعته، فالمنزل له عندهم: هو الطبيعة، وأن طبيعة الماء التبخر، إذا تكاثرت عليه درجات الحرارة من الشمس أو الاحتكاك بالريح، وأن ذلك البخار يرتفع بطبيعته. ثم يجتمع، ثم يتقاطر. وأن تقاطره ذلك أمر طبيعي لا فاعل له، وأنه هو المطر. فينكرون نعمة الله في إنزاله المطر وينكرون دلالة إنزاله على قدرة منزله، ووجوب الإيمان به واستحقاقه للعبادة وحده، فمثل هؤلاء داخلون في قوله: {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} [الفرقان: 50] بعد قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} [الفرقان: 50].

وقد صرح في قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ} أنه تعالى، هو مصرف الماء، ومنزلة حيث شاء كيف شاء. ومن قبيل هذا المعنى: ما ثبت في صحيح مسلم من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح بالحديبية في أثر السماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: "هل تدرون ماذا قال ربكم؟" قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "قال أصبح من عبادي مؤمن بي، وكافر بي: فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب" هذا لفظ مسلم رحمه الله في صحيحه، ولا شك أن من قال: مطرنا ببخار كذا مسندا ذلك للطبيعة، أنه كافر بالله مؤمن بالطبيعة والبخار. والعرب كانوا يزعمون أن بعض المطر أصله من البحر، إلا أنهم يسندون فعل ذلك الفاعل المختار جل وعلا، ومن أشعارهم في ذلك قول طرفة بن العبد:

لا تلمني إنها من نسوة ... رقد الصيف مقاليت نزر

كبنات البحر يمأدن إذا ... أنبت الصيف عساليج الخضر

فقوله: بنات البحر يعني: المزن التي أصل مائها من البحر.

وقول أبي ذؤيب الهذلي:

سقى أم عمرو كل آخر ليلة ... حناتم غرماؤهن ثجيج

شربن بماء البحر ثم ترفعت ... متى لجج خضر لهن نئيج

ولا شك أن خالق السموات والأرض جل وعلا، هو منزل المطر على القدر الذي يشاء كيف يشاء سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

(5/329)

 

 

قوله تعالى: {فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} .

قد قدمنا الآيات الموضحة لما دلت عليه هذه الآية الكريمة في سورة النحل، في الكلام على قوله تعالى: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ} [النحل: 11] وغيرها، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.

قوله تعالى: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} .

قوله: {وَشَجَرَةً} : معطوف على: {جَنَّاتٍ} من عطف الخاص على العام. وقد قدمنا مسوغه مرارا: أي فأنشأنا لكم به جنات، وأنشأنا لكم به شجرة تخرج من طور سيناء وهي شجرة الزيتون، كما أشار له تعالى بقوله {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} [النور: 35]، والدهن الذي تنبت به: هو زيتها المذكور في قوله: {يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ} [النور: 35] ومع الاستضاءة منها، فهي {وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ} : أي إدام يأتدمون به، وقرأ هذا الحرف: نافع، وابن كثير، وأبو عمرو: {سَيْنَاءَ} بكسر السين، وقرأ الباقون: بفتحها، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: {تَنْبُتُ} بضم التاء، وكسر الباء الموحدة مضارع أنبت الرباعي، وقرأ الباقون: {تَنْبُتُ} بفتح التاء، وضم الباء مضارع: نبت الثلاثي، وعلى هذه القراءة، فلا إشكال في حرف الباء في قوله: {بِالدُّهْنِ} : أي تنبت مصحوية بالدهن الذي يستخرج من زيتونها، وعلى قراءة ابن كثير وأبي عمرو، ففي الباء إشكال، وهو أن أنبت الرباعي يتعدى بنفسه، ولا يحتاج إلى الباء وقد قدمنا النكتة في الإتيان بمثل هذه الباء في القرآن، وأكثرنا من أمثلته في القرآن، وفي كلام العرب في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم: 25]، ولا يخفي أن أنبت الرباعي، على قراءة ابن كثير، وأبي عمرو هنا: لازمة لا متعدية المفعول، وأنبت تتعدى، وتلزم فمن تعديها قوله تعالى: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ} [النحل: 11] وقوله تعالى: {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [قّ: 9] ومن لزومها قراءة ابن كثير، وأبي عمرو المذكورة، ونظيرها من كلام العرب قول زهير:

رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم ... قطينا بها حتى إذا أنبت البقل

فقوله: أنبت البقل لازم بمعنى: نبت، وهذا هو الصواب في قراءة: {تَنْبُتُ} بضم التاء. خلافا لمن قال: إنها مضارع أنبت المتعدي: وأن المفعول محذوف: أي تنبت

(5/330)

 

 

زيتونها، وفيه الزيت. وقال ابن كثير: الطور: هو الجبل، وقال بعضهم: إنما يسمى طورا إذا كان فيه شجر، فإن عرى عن الشجر، سمي جبلا لا طورا. والله أعلم. وطور سيناء: هو طور سنين، وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى بن عمران عليه السلام، وما حوله من الجبال، التي فيها شجر الزيتون اهـ محل الغرض من كلام ابن كثير.

وفي حديث أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة" رواه أحمد ورواه الترمذي، وغيره عن عمر، والظاهر أنه لا يخلو من مقال، وقال فيه العجلوني في كشف الخفاء ومزيل الإلباس رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن عمر وابن ماجه فقط عن أبي هريرة، وصححه الحاكم على شرطهما ثم قال: وفي الباب عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم. اهـ منه والعلم عند الله تعالى.

قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} .

قد قدمنا الآيات الموضحة لمعنى هذه الآية، وما يستفاد منها من الأحكام الفقيهة في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا} [المؤمنون: 21] مع بيان أوجه القراءة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.

قوله تعالى: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون:22].

الضمير في قوله: {عَلَيْهَا} راجع إلى الأنعام المذكورة في قوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ} [المؤمنون: 21] وقد بين تعالى في هذه الآية: أنه يحمل خلقه على الأنعام، والمراد بها هنا الإبل، لأن الحمل عليها هو الأغلب، {وَعَلَى الْفُلْكِ} : وهي السفن ولفظ الفلك، يطلق على الواحد والجمع من السفن، وما ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة من الامتنان على خلقه بما يسر لهم من الركوب والحمل، على الأنعام والسفن جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [غافر:80] وقوله في الأنعام {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ. وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يّس:71- 72] وقوله فيها: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل:7] وقوله في

(5/331)

 

 

الفلك والأنعام معا {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ. لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف:12- 14]. وقوله في السفن {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يّس:41-42]، وقوله: {أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} [الحج: 65] وقوله تعالى: {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [فاطر: 12] والآيات بمثل هذا كثيرة، وهذا من نعمه وآياته، وقرن الأنعام بالفلك في الآيات المذكورة لأن الإبل سفائن البر، كما قال ذو الرمة:

ألا خيلت مني وقد نام صحبتي ... فما نفر التهويم إلا سلامها

طروقا وجلب الرحل مشدودة بها ... سفينة بر تحت خدي زمامها

فتراه سمى ناقته سفينة بر وجلب الرحل بالضم والكسر عيدانه أو الرحل بما فيه.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً} إلى قوله {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} .

قد تقدمت الإشارة إلى ما فيه من الآيات، التي لها بيان في مواضع متعددة فأغنى ذلك عن إعادته هنا.

قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} .

بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أنه بعد إرسال نوح والرسول المذكور بعده أرسل رسله {تَتْرَا} : أي متواترين واحدا بعد واحدا، وكل متتابع متتال تسميه العرب متواترا، ومنه قول لبيد في معلقته:

يعلو طريقة متنها متواتر ... في ليلة كفر النجوم غمامها

يعني: مطرا متتابعا، أو غبار ريح متتابعا، وتاء {تَتْرَا} مبدلة من الواو، وأنه كل ما أرسل رسولا إلى أمة كذبوه فأهلكهم، وأتبع بعضهم بعضا في الإهلاك المتسأصل بسبب تكذيب الرسل. وهذا المعنى المذكور في هذه الآية الكريمة: جاء موضحا في آيات كثيرة. وقد بينت آية استثناء أمة واحدة من هذا الإهلاك المذكور.

أما الآيات الموضحة لما دلت عليه هذه الآية فهي كثيرة جدا كقوله تعالى: {وَمَا

(5/332)

 

 

أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ:34] وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23] وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ. ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأعراف:94-95] والآيات بمثل هذا كثيرة جدا.

أما الآية التي بينت استثناء أمة واحدة من هذه الأمم فهي قوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس: 98]. وظاهر آية الصافات أنهم آمنوا إيمانا حقا، وأن الله عاملهم به معاملة المؤمنين، وذلك في قوله في يونس {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ. فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات:147-148] لأن ظاهر إطلاق قوله: {فَآمَنُوا} ، يدل على ذلك. والعلم عند الله تعالى.

ومن الأمم التي نص على أنه أهلكها وجعلها أحاديث سبأ، لأنه تعالى قال فيهم: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19] وقوله {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} أي أخبارا وقصصا يسمر بها، ويتعجب منها، كما قال ابن دريد في مقصورته:

وإنما المرء حديث بعده ... فكن حديثا حسنا لمن وعى

وقرأ هذا الحرف ابن كثير، وأبو عمرو: {تَتْرَا} بالتنوين: وهي لغة كنانة، والباقون بألف التأنيث المقصورة من غير تنوين: وهي لغة أكثر العرب، وسهل نافع وابن كثير وأبو عمرو والهمزة الثانية من قوله: {جَاءَ أُمَّةً} ، وقرأها الباقون بالتحقيق، كما هو معلوم وقوله {فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 44] مصدر لا يظهر عامله، وقد بعد بعدا بفتحتين، وبعدا بضم فسكون: أي هلك فقوله: {بُعْداً} : أي هلاكا مستأصلا، كما قال تعالى {أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود: 95] قال الشاعر:

قل الغناء إذا لاقى الفتى تلفا ... قول الأحبة لا تبعد وقد بعدا

وقد قال سيبويه: إن بعدا وسحقا ودفرا أي نتنا من المصادر المنصوبة بأفعال لا تظهر. اهـ ومن هذا القبيل قولهم: سقيا ورعيا، كقول نابغة ذبيان:

(5/333)