Translate

السبت، 19 فبراير 2022

ج 1- بحر الدموع {ابن الجوزي {بحر الدموع/ الفصل الأول}+ بحر الدموع/ الفصل الأول + الفصل الثاني + الفصل الثالث + الفصل الرابع / الفصل الخامس/ الفصل السادس/الفصل السابع/الفصل الثامن /

 

بحر الدموع ابن الجوزي بحر الدموع/ الفصل الأول

بحر الدموع

أحد كتب الرقائق والوعظ، تميز فيه مصنفه بأسلوب شيق يمس شغاف القلب، حيث أورد فيه قصصًا تبكي العيون وتحرك القلوب، وصنفه على فصول. وتكلم فيه على أمور من المحرمات وذمها وشنع على فاعليها. وهو كتاب يحث على ذكر الله بالتوبة والندم ويجعل منهما سببًا في كشف الغم، ودفع البلاء، وجلب السعادة. وطعمه المؤلف بآيات القرآن الكريم، وأحاديث النبي ﷺ، ونتفًا من الأشعار، كما ضمنه كثيرًا من أقوال السلف من الزهاد والعباد، ويفيد الكتاب الخطباء والوعاظ كثيرًا.

المؤلف : الامام جمال الدين أبي الفرج بن الجوزي

عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي القرشي البغدادي أبو الفرج، علامة عصره في التاريخ والحديث، ولد ببغداد سنة (508 هـ) ونسبته إلى (مشرعة الجوز) من محالها. كثير التصانيف، له نحو ثلاثمائة مصنف، وتوفي سنة (597 هـ).

المحتويات:

مقدمة

الفصل الأول

الفصل الثاني

الفصل الثالث

الفصل الرابع

الفصل الخامس

الفصل السادس

الفصل السابع

الفصل الثامن

الفصل التاسع

الفصل العاشر

الفصل الحادي عشر

الفصل الثاني عشر

الفصل الثالث عشر

الفصل الرابع عشر

الفصل الخامس عشر

الفصل السادس عشر

الفصل السابع عشر

بحر الدموع/ الفصل الثامن عشر الفصل الثامن عشر

بحر الدموع/ الفصل التاسع عشر الفصل التاسع عشر

بحر الدموع/ الفصل الموفى عشرين الفصل الموفى عشرين

بحر الدموع/ الفصل الحادي والعشرون الفصل الحادي والعشرون

بحر الدموع/ الفصل الثاني والعشرون الفصل الثاني والعشرون

بحر الدموع/ الفصل الثالث والعشرون الفصل الثالث والعشرون

بحر الدموع/ الفصل الرابع والعشرون الفصل الرابع والعشرون

بحر الدموع/ الفصل الخامس والعشرون الفصل الخامس والعشرون

بحر الدموع/ الفصل السادس والعشرون الفصل السادس والعشرون

بحر الدموع/ الفصل السابع والعشرون الفصل السابع والعشرون

بحر الدموع/ الفصل الثامن والعشرون الفصل الثامن والعشرون

بحر الدموع/ الفصل التاسع والعشرون الفصل التاسع والعشرون

بحر الدموع/ الفصل الموفى ثلاثين الفصل الموفى ثلاثين

بحر الدموع/ الفصل الحادي والثلاثون الفصل الحادي والثلاثون

بحر الدموع/ الفصل الثاني والثلاثون الفصل الثاني والثلاثون

===

بحر الدموع/ الفصل الأول

الفصل الأول

يا أسير دنياه، يا عبد هواه، يا موطن الخطايا، ويا مستودع الرزايا، اذكر ما قدّمت يداك، وكن خائفا من سيدك ومولاك أن يطّلع على باطن زللك وجفاك، فيصدك عن بابه، ويبعدك عن جنابه، ويمنعك عن مرافقة أحبابه، فتقع في حضرة الخذلان، وتتقيد بشرك الخسران، وكلما رمت التخلص من غيّك وعناك، صاح بك لسان الحال وناداك: اليك عنا فما تحظى بنجوانا يا غادرا قد لها عنا وقد خانا أعرضت عنا ولم تعمل بطاعتنا وجئت تبغي الرضا والوصل قد بانا بأي وجه نراك اليوم تقصدنا وطال ما كنت في الأيام تنسانا يا ناقض العهد ما في وصلنا طمع الا لمجتهد بالجدّ قد دانا

يا من باع الباقي بالفاني، اما ظهر لك الخسران، ما أطيب أيام الوصال، وما أمرّ أيام الهجران، ما طاب عيش القوم حتى هجروا الأوطان، وسهروا الليالي بتلاوة القرآن فيبيتون لربهم سجدا وقياما.

عن عبد العزيز بن سلمان العابد، قال: حدثني مطهر، وقد كان بكى شوقا الى الله تعالى ستين عاما، قال: رأيت كأني على ضفة نهر يجري بالمسك الاذفر، وحافاته شجر اللؤلؤ، وطينة العنبر، وفيه قضبان الذهب، واذا بجوار مترنمات يقلن بصوت واحد: سبحانه وتعالى سبحان، سبحان المسبّح بكل لسان سبحان الموجود في كل مكان نحن الخالدات فلا نموت أبدا. نحن الراضيات، فلا نغضب أبدا. نحن الناعمات، فلا نتغيّر أبدا. قال: فقلت لهن: من أنتن؟! فقلن: خلق من خلق الله تعالى. قلت: ما تصنعن هاهنا؟ فقلن بصوت واحد حسن مليح: ذرانا اله الناس رب محمد لقوم على الأطراف بالليل قوم يناجون رب العالمين الههم ونسرى هموم القوم والناس نوم فقلت: بخ بخ! من هؤلاء الذين أقر الله أعينهم؟ قلن: أما تعرفهم؟! قلت: لا والله ما أعرفهم. فقلن: هم المجتهدون بالليل، أصحاب السهر بالقرآن.

وروي عن النبي ﷺ أنه قال:" اذا أذنب العبد، وتاب الى الله، وحسنت توبته، تقبل الله منه كل حسنة عملها، وغفر له كل ذنب اقترفه، ويرفع له بكل ذنب درجة في الجنة، ويعطيه الله بكل حسنة قصرا في الجنة، ويزوجه الله حورا من الحور العين". وفي الخبر عن رسول الله ﷺ أنه قال:" أوحى الله الى داود عليه السلام: يا داود، بشر المذنبين، وأنذر الصديقين، فتعجب داود عليه السلام، فقال: يا رب، فكيف أبشر المذنبين وأنذر الصديقين؟! قال الله تعالى: يا داود، بشر المذنبين ألا يتعاظمني ذنب أغفره، وأنذر الصديقين ألا يعجبوا بأعمالهم، فأني لا أضع حسابي على أحد الا هلك. يا ادود، ان كنت تزعم أنك تحبني فأخرج حب الدنيا من قلبك، فان حبي وحبها لا يجتمعان في قلب واحد. يا داود، من احبني، يتهجد بين يدي اذا نام البطالون، ويذكرني في خلوته اذا لها عن ذكري الغافلون، ويشكر نعمتي عليه اذا غفل عني الساهون". وأنشدوا: طوبى لمن سهرت بالليل عيناه وبات في قلق من حب مولاه وقام يرعى نجوم الليل منفردا شوقا اليه وعين الله ترعاه

قال رسول الله ﷺ:" البرّ لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديّان لا يفنى. كن كيف شئت كما تدين تدان". ما هذا، أتدري ما صنعت؟ بعت القرب بالبعد، والعقل بالهوى والدين بالدنيا. وأنشدوا: قم فارث نفسك وابكها ما دمت وابك على مهل فاذا اتقى الله الفتى فيما يريد فقد كمل وعن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ:" ما نزع الله عبدا من ذنب الا هو ويريد أن يغفر له، وما استمال الله عبدا لعمل صالح، الا وهو يريد أن يتقبله منه". وعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله ﷺ:" التائبون اذا خرجوا من قبورهم، ارتفع من بين أيديهم ريح المسك، ويأتون على مائدة من الجنة يأكلون منها وهم في ظل العرش، وسائر الناس في سدّة الحساب". ويروى أن رجلا أتى الى رسول الله ﷺ، فقال: يا رسول الله، بما أتقي النار؟ قال:" بدموع عينيك". قال: وكيف أتقيها بدموع عيني؟ قال:" أهمل دموعهما من خشية الله، فانه لا يعذب بالنار عينا بكت من خشيته". قال المصنف في العلل المتناهية هذا حديث لا يصح عن رسول الله.

وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ:" قطرة تخرج من عين المؤمن من خشية الله، خير له من الدنيا وما فيها، وخير له من عبادة سنة، وتفكّر ساعة في عظمة الله وقدرته خير من صيام ستين يوما وقيام ستين ليلة. ألا وان لله ملكا ينادي في كل يوم وليلة: أبناء الأربعين، زرع دنا حصاده، أبناء الخمسين، هلموا الى الحساب، أبناء الستين، ماذا قدّمتم وماذا أخرتم، أبناء السبعين، ماذا تنتظرون. ألا ليت الخلق لم يخلقوا، فاذا خلقوا ليتهم علموا لما خلقوا له، فعملوا لذلك. ألا قد أتتكم الساعة فخذوا حذركم". نزه مشيبك عن شيء يدنّسه ان البياض قليل الحمل للدنس

يا عبد السوء، كم تعصي ونستر، كم تكسر باب نهي ونجبر، كم نستقطر من عينيك دموع الخشية ولا يقطر، كم نطلب وصلك بالطاعة، وأنت تفرّ وتهجر، كم لي عليك من النعم، وأنت بعد لا تشكر. خدعتك الدنيا وأعمال الهوى وأنت لا تسمع ولا تبصر. سخّرت لك الأكوان وانت تطغى وتكفر، وتطلب الاقامة في الدنيا وهي فنظرة لمن يعبر. منعوك من شرب المودة والصفا لما رأوك على الخيانة والجفا ان أنت أرسلت العنان اليهم جادوا عليك تكرّما وتعطّفا حاشاهم أن يظلموك وانما جعلوا الوفا منهم لأرباب لوفا

وروي عن الحسن البصري رضي الله عنه أنه قال:" دخلت على بعض المجوس وهو يجود بنفسه عند الموت، وكان حسن الجوار، وكان حسن السيرة، حسن الأخلاق، فرجوت أن الله يوفقه عند الموت، ويميته على الاسلام، فقلت له: ما تجد، وكيف حالك؟ فقال: لي قلب عليل ولا صحة لي، وبدن سقيم، ولا قوة لي، وقبر موحش ولا انيس لي، وسفر بعيد ولا زاد لي، وصراط دقيق ولا جواز لي، ونار حامية ولا بدن لي, وجنّة عالية ولا نصيب لي، ورب عادل ولا حجة لي. قل الحسن: فرجوت الله أن يوفقه، فأقبلت عليه، وقلت له: لم لا تسلم حتىتسلم؟ قال: ان المفتاح بيد الفتاح، والقفل هنا، وأشار الى صدره وغشي عليه. قال الحسن: فقلت: الهي وسيدي ومولاي، ان كان سبق لهذا المجوسي عندك حسنة فعجل بها اليه قبل فراق روحه من الدنيا، وانقطاع الأمل. فأفاق من غشيته، وفتح عينيه، ثم أقبل وقال: يا شيخ، ان الفتاح أرسل المفتاح. أمدد يمناك، فأنا أشهد أن لا اله الا الله وأشهدأن محمدا رسول الله، ثم خرجت روحه وصار الى رحمة الله. وأنشدوا: يا ثقتي يا املي أنت الرجا أنت الولي اختم بخير عملي وحقق التوبة لي قبل حلول أجلي وكن لي يا ربّ ولي

اخواني، ما هذه السّنة وأنتم منتبهون؟ وما هذه الحيرة وأنتم تنظرون؟ وما هذه الغفلة وأنتم حاضرون؟ وما هذه السكرة وأنتم صاحون؟ وما هذا السكون وأنتم مطالبون؟ وما هذه الاقامة وأنتم راحلون؟ أما آن لهل الرّقدة أن يستيقظوا؟ أما حان لأبناء الغفلة أن يتعظوا؟. واعلم أن الناس كلهم في هذه الدنيا على سفر، فاعمل لنفسك ما يخلصها يوم البعث من سقر. آن الرحيل فكن على حذر ما قد ترى يغني عن الحذر لا تغترر باليوم أو بغد فلربّ نغرور على خطر

قال الجنيد: كان سري السقطي رضي الله عنه متصل الشغل، وكان اذا فاته شيء من ورده لا يقدر أن يعيده. وكذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لم يكن له وقت ينام فيه، فكان ينعس وهو جالس، فقيل له: يا أمير المؤمنين، ألا تنام؟ فقال: كيف انام؟! ان نمت بالنهار، ضيّعت حقوق الناس، وان نمت بالليل ضيّعت حظي من الله. وسمع الجنيد رضي الله عنه ما يقول: ما رأيت أعبد لله تعالى من سريّ السّقطي، أتت عليه ثمان وسبعون سنة ما رؤي قط مضطجعا الا في علته التي مات فيها. قال الجنيد رضي الله عنه: سمعت السريّ السقطي رضي الله عنه يقول: لولا الجمعة والجماعة ما خرجت من بيتي، وللزمت بيتي حتى أموت. قال أبو بكر الصيدلاني: سمعت سليمان بن عمار يقول: رأيت أبي في المنام فقلت له: ما فعل بكربك؟ فقال: ان الرب قرّبني وادناني، وقال لي: يا شيخ السوء أتدري لم غفرت لك؟ فقلت: لا يا الهي. قال: انك جلست للناس يوما مجلسا فأبكيتهم، فبكى فيهم عبد من عبيدي لم يبك من خشيتي قط، فغفرت له ووهبت أهل المجلس كلهم له، ووهبتك فيمن وهبت له.

عن علي بن محمد بن ابراهيم الصفار، قال: حضرت أسود بن سالم ليلة وهو يقول هذين البيتين ويكررهما ويبكي: أمامي موقف قدّام ربي يسألني وينكشف الغطا وحسبي أن أمرّ على صراط كحد السيف أسفله لظى قال: ثم صرخ صرخة، ولم يزل مغمى عليه حتى أصبح رضي الله عنه.

وكذلك يروى عن الضحّاك بن مزاحم أنه قال: خرجت ذات ليلة الى مسجد الكوفة، فلما قربت من المسجد، فاذا في بعض رحابه شابقد خرّ ساجدا وهو يخور بالبكاء، فلم أشك أنه ولي من أولياء الله تعالى؟، فقربت منه لأسمع ما يقول فسمعته يقول أبياتا: عليك يا ذا الجلال معتمدي طوبى لمن كنت أنت مولاه طوبى لمن بات خائفا وجلا يشكو الى ذي الجلال بلواه وما به علة ولا سقم أكثر من حبّه لمولاه اذا خلا في ظلام الليل مبتهلا أجابه الله ثم لبّاه ومن ينل ذا من الاله فقد فاز بقرب تقرّ عيناه فبقي يكرر هذه الأبيات ويبكي، وانا أبكي رحمة لبكاءه، فبينما أنا كذلك، لاح لي ضوء كالبرق الخاطف، فأسرعت بيدي الى عيني، فسمعت، فاذا بمناد ينادي من فوق رأسه بصوت عذب لذيذ لا يشبه كلام بني آدم، هو يقول: لبيّك عبدي وأنتفي منفي وكل ما قلت قد قبلناه صوتك تشتاقه ملائكتي وحسبك الصوت قد سمعناه ان هبذت الريح من جوانبه خرّ صريعا لما تغشاه ذاك عبدي يجول في حجبي وذنبك اليوم قد غفرناه فقلت: مناجاة الحبيب مع حبيبه وربّ الكعبة، فخريّت مغشيا على وجهي لما أدركني من الهيبة، ثم أفقت من غشيتي وأنا أسمع ضجيج الملائكة في الهواء، وخفقان أجنحتهم بين السماء والأرض، خيّل اليّ أن السماء قد قربت من الأرض، ورأيت النور قد غلب على ضوء القمر، وكانت ليلة مقمرة ساطعة النور، فدنوت منه وسلمت عليه، فردّ عليّ السلام، فقلت له: بارك الله فيك، من أنت يرحمك الله؟ فقال لي: أنا راشد بن سليمان، فعرفته لما كنت أسمع عنه. فقلت له: رحمك الله، لو أذنت لي في صحبتك لآنس بك، فقال لي: هيهات هيهات، وهل يأنس بالمخلوقين من تلذذ بمناجاة رب العالمين، فانصرف عني وتركني رضي الله عنه.

تصنيف:

ابن الجوزي

=====================

بحر الدموع/ الفصل الثاني

الفصل الثاني

اخواني، الى كم تماطلون بالعمل، و تطمعون في بلوغ الأمل، وتغترّون بفسحة المهل، ولا تذكرون هجوم الأجل؟ ما ولدتم فللتراب، وما بنيتم للخراب، وما جمعتم فللذهاب، وما عملتم ففي كتب مدّخر ليوم الحساب. وأنشدوا: ولو أننا اذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حيّ ولكنّا اذا متنا بعثنا ونسأل بعدها عن كل شيء

يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا يغرّنّكم قول الله عز وجل:{ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الا مثلها} الأنعام 160، فان السيئة وان كانت واحدة، فانها تتبعها عشر خصال مذمومة: أولها: اذا أذنب العبد ذنبا، فقد أسخط الله وهو قادر عليه. والثانية: أنه فرّح ابليس لعنه الله. والرابعة: أنه تقرّب من النار. والخامسة: أنه قد آذى الحفظة. والثامنة: أنه قد احزن النبي ﷺ في قبره. والتاسعة: أنه أشهد على نفسه السموات والأرض وجميع المخلوقات بالعصيان. والعاشرة: أنه خان جميع الآدميين، وعصى رب العالمين.

ويروى عن ذي النون المصري رحمه الله تعالى أنه قال: خرجت أريد الحجاز ولم أصحب أحدا من الناس، فبينما أنا سائر، اذ وقعت في أرض صحراء، وقد نفذ زادي، فأشرفت على الهلاك، اذ لاحت لي شجرة في وسط الصحراء دانية الفروع، متدلية الأغصان، كثيرة الأوراق، فقلت في نفسي: أسير نحو هذه الشجرة، فأكون في ظلها حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. فلما وصلت الى الشجرة، ودنوت منها، وأردت الدخول في ظلها، فأخذ غصن من أغصانها بركوتي، فانهرق الماء الذي كان بقي لي فيها أحيي به رمقي، فأيقنت بالهلاك، وطرحت نفسي في ظل الشجرة، وبقيت أنتظر ملك الموت ليقبض روحي، فاذا أنا بصوت حزين وهو يقول: الهي وسيدي ومولاي، ان كان هذا رضاك مني، فزد حتى ترضى عني يا أرحم الراحمين. فقمت وجعلت أمشي نحو الصوت، فاذا أنا بشخص حسن الصورة، وهو ملقى على الرمل، والنسور قد أحدقت به تنهش من لحمه، فسلمت عليه فردّ السلام، وقال لي: يا ذا النون، لما نفذ الزاد، وانهرق الماء، أيقنت بالموت والفناء، فجلست عند رأسه، وجعلت أبكي رحمة لبكائه، وشفقة لما رأيت منه. فبينما أنا كذلك، اذ انا بقصعو من الطعام وضعت بين يدي، فوكز الأرض بعرقوبه، فاذا بعين من الماء قد تفجرت، أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، فقال لي: يا ذا النون، كل واشرب، لا بد لك من الوصول الى بيت الله الحرام، ولكن يا ذا النون لي اليك حاجة، فان قضيتها فلك الأجر والثواب، فقلت: وما هي؟ قال: اذا انا مت، فاغسلني وادفني، واسترني من الوحش والطير، وسر فاذا قضيت الحج، فانك تصل الى مدينة بغداد، وتدخل من باب الزعفران، فانك تجد هنالك الصبيان يلعبون، وعليهم ألوان الثياب، فتجد هنالك شابا، صغير السن، ليس سشغله شيء عن ذكر الله تعالى، قد تحزّم بخرقة، وجعل على كتفيه أخرى، في وجهه خطان أسودان من آثار الدموع، فاذا وجدته فذلك ولدي وقرّة عيني، فأقرئه مني السلام. قال ذا النون: فلما فرغ من كلامه، سمعته يقول: أشهد أن لا اله الا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، وشهق شهقة فارق الدنيا رحمة الله عليه، فقلت: انا لله وانا اليه راجعون، وكان معي قميص في وعائي لا أفارقه فغسلته من ذلك الماء، وكفنته ورايته التراب، وسرت الى بيت الله الحرام وقضيت مناسك الحج، وخرجت الى زيارة قبر رسول الله، فلما قضيت الزيارة، وسرت الى مدينة بغداد، فدخلتها في يوم عيد، فاذا انا الصبيان يلعبون وعليهم ألوان الثياب، فنظرت فرأيت الصبي الموصوف جالسا لا يشغله الموهوب عن علام الغيوب، وقد ظهرت على وجهه الأحزان، وفي وجهه خطان أسودان من آثار الدموع، وهو يقول: الناس كلهم للعيد قد فرحوا وقد فرحت أنا بالواحد الصمد الناس كلهم للعيد قد صبغوا وقد صبغت ثياب الذل والكمد الناس كلهم للعيد قد غسلوا وقد غسلت أنا بالدمع للكبد قال ذو النون: فسلمت عليه، فرد عليّ السلام، وقال: مرحبا برسول أتى من أبي، فقلت له: من أخبرك باني رسول أتيتك من أبيك؟ قال: الذي أخبرني أنك دفنته بالصحراء. يا ذا النون، أتزعم أنك دفنت أبي بالصحراء؟ والله ان أبي رفع الى سدرة المنتهى، ولكن سر معي الى جدتي. فأخذ بيدي وسار معي الى منزله، فلما وصل الى الباب نقر نقرا خفيفا، فاذا بالعجوز قد خرجت الينا، فلما رأتني، قالت مرحبا بمن تمتع بالنظر في وجه حبيبي وقرّة عيني. قلت لها: من أخبرك بأنك رأيته؟ قالت: الذي أخبرني بأنك كفنته وأنّ الكفن مردود عليك. يا ذا النون، فوعزة ربي وجلاله، ان خرقة ابني يباهي الله بها الملائكة في الملأ الأعلى. ثم قالت: يا ذا النون، صف لي كيف تركت ابني وقرة عيني وثمرة فؤادي؟ قلت لها: تركته في الفيافي والقفار بين الرمال والأحجار، وقد حضي بما أمل من العزيز الغفار. فلما سمعت العجوز ذلك، ضمّت الصبي الى صدرها، وغابت عني، وحجبت عن نظري، فلا ادري: أفي السماء صعد بهما، أو في جوف الأرض هبط بهما، فصرت أطلبهما في أركان الدار، فما وجدتهما، فسمعت هاتفا يقول: يا ذا النون لا تتعب نفسك، فلقد طلبتهم الأملاك، فلم يجدوهم. فقلت: أين صاروا، فقال لي: ان الشهداء يموتون بسيوف المشركين، وهؤلاء المحبون يموتون بالشوق الى رب العالمين، فيحملون في مركب من نور في مقعد صدق عند مليك مقتدر. قال ذا النون: فتفقدت الجراب، فوجدت الكفن الذي كفنته فيه مطويّا كما كان أولا، رضي الله عنه ونفعنا ببركاتهم.

تصنيف:

ابن الجوزي

========

بحر الدموع/ الفصل الثالث

الفصل الثالث

أيها المقيم على الخطايا والعصيان، التارك لما امرك الرحمن، المطيع للغويّ الفتان، الى متى أنت على جرمك مصرّ، ومما يقرّبك الى مولاك تفرّ؟ تطلب من الدنيا ما لا تدركه، وتتقي من الآخرة ما لا تملكه، لا أنت بما قسم الله من الرزق واثق، ولا أنت بما أمرك به لاحق. يا أخي، الموعظة، والله لا تنفعك، والحوادث لا تردعك. لا الدهر يدعك، ولا داعي الموت يسمعك، كأنك يا مسكين لم تزل حيا موجودا، كأنك لا تعود نسيا مفقودا. فاز، والله، لمخفون من الأوزار، وسلم المتقون من عذاب النار، وأنت مقيم على كسب الجرائم والأوزار. وأنشدوا: عيل صبري وحق لي أن أنوحا لم تدع لي الذنوب قلبا صحيحا أخلقت مهجتي أكف المعاصي ونعاني المشيب نعيا صريحا كلما قلت قد بري جرح قلبي عاد قلبي من الذنوب جريحا انّما الفوز والنعيم لعبد جاء في الحشر آمنا مستريحا اخواني، ارفضوا هذه الدنيا كما رفضها الصالحون، وأعدّوا الزاد لنقلة لا بدّ لها ان تكون، واعتبروا بما تدور به عليكم الأيام والسنون. يا من غدا في الغيّ والتيه وغرّه طول تماديه أملى لك الله فبارزته ولم تخف غبّ معاصيه

قال الجنيد رضي الله عنه: مرض السّريّ السّقطي رضي الله عنه فدخلت عليه أعوده، فقلت له: كيف تجدك؟ فقال: كيف أشكو الى طبيبي ما بي والذي قد أصابني من طبيبي فأخذت المروحة لأروّح عليه، فقال: كيف يجد ريح المروحة من جوفه يحترق من داخل، ثم أنشأ يقول: القلب محترق والدمع مستبق والكرب مجتمع والصبر مفترق كيف القرار على من لا قرار له مما جناه الهوى والشوق والقلق يا ربّ ان كان شيء فيه لي فرج فامنن عليّ به ما دام بي رمق

ويروى عن علي بن الموفق رضي الله عنه أنه قال: خرجت يوما لأؤذن، فأصبت قرطاسا، فأخذته ووضعته في كمي، وأقمت الصلاة وصليت، فلما صليت قرأته، فاذا مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم. يا علي بن الموفق، أتخاف الفقر وأنا ربك؟.

ويروى عن المزني، قال: دخلت على الشافعي رضي الله عنه في علته التي مات منها، فقلت له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت في الدنيا راحلا، وللاخوان مفارقا، ولكأس المنيّة شاربا، ولسوء عملي ملاقيا، وعلى الله واردا، فلا أدري: أروحي تصير الى الجنة فأهنيها، أم الى النار فأعزيها؟ ثم بكى وأنشأ يقول: ولما قسى قلبي وضاقت مذاهبي جعلت الرجا مني لعفوك سلما تعاظمني ذنبي فلما قرنته بعفوك ربي كان عفوك أعظما فما زلت ا عفو من الذنب ولم تزل تجود وتعفو منّة وتكرّما فلولاك لم ينجو من ابليس عابد وكيف وقد أغوى صفيّك آدما

اخواني: بادروا بالتوبة من الذنوب، واقتفوا آثار التوّابين، واسلكوا مسالك الأوّابين، الذين نالوا التوبة والغفران، وأتعبوا أنفسهم في رضا الرحمن، فلو رأيتهم في ظلم الليالي قائمين، ولكتاب ربهم تالين، بنفوس خائفة، وقلوب واجفة، قد وضعوا جباههم على الثرى ورفعوا حوائجهم لمن يرى ولا يرى: وأنشدوا: ألا قف ببابي عند قرع النوائب وثق بي تجدني خير خلّ وصاحب ولا تلتفت غيري فتصبح نادما ومن يلتفت غيري يعش خائب

كان أبو محفوظ معروف الكرخي قد خصّه الله بالاجتباء في حال الصبا، يذكر أن أخاه عيسى قال: كنت أنا وأخي معروف في المكتب، وكنا نصارى، وكان المعلم يعلم الصبيان: " أب" و " ابن" فيصيح أخي معروف:" أحد أحد" فيضربه المعلم على ذلك ضربا شديدا، حتى ضربه يوما ضربا عظيما، فهرب على وجهه. وكانت أمه تبكي وتقول: لئن ردّ الله عليّ معروفا، لأتبعنّه على أي دين كان، فقدم عليها معروف بعد سنين كثيرة، فقالت له: يا بنيّ، على أي دين أنت؟ قال: على دين الاسلام، فقالت: أشهد أن لا اله الا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله، فأسلمت أمي وأسلمنا كلنا. وقال أحمد بن الفتح: رأيت بشر بن الحارث في منامي وهو قاعد في بستان بين يديه مائدة وهو يأكل منها، فقلت: يا أبا نصر, ما فعل الله بك؟ قال: رحمني وغفر لي، وأباح لي الجنة بأسرها، وقال لي: كل من جميع ثمارها، واشرب من أنهارها، وتمتع بجميع ما فيها، كما كنت تحرم نفسك عن الشهوات في دار الدنيا. فقلت له: فأين أخوك أحمد بن حنبل؟ فقال: هو قائم على باب الجنة يشفع لأهل السنة ممن يقولون: القرآن كلام الله غير مخلوق. فقلت له: وما فعل الله بمعروف الكرخي؟ فحرّك رأسه، وقال هيهات هيهات! حالت بيننا وبينه الحجب. ان معروفا لم يعبد الله شوقا الى جنّته، ولا خوفا من ناره، وانما عبده شوقا اليه، فرفعه الى الرفيق الأعلى، ورفع الحجاب بينه وبينه. ذلك الترياق المقدس المجرّب، فمن كانت له الى الله حاجة، فليأت قبره، وليدع، فانه يستجاب له ان شاء الله تعالى. " التبرك بقبور الأولياء هو من الشرك، والتوسل المشروع التوسل بأسماء الله وصفاته ودعاء الرجل الصالح".

=================

بحر الدموع/ الفصل الرابع

الفصل الرابع

يا اخوان الغفلة تيقظوا، يا مقيمين على الذنوب انتهوا واتعظوا، فبالله أخبروني: من أسوأ حالا ممن استعبده هواه، أم من أخسر صفقة ممن باع آخرته بدنياه، فما للغفلة قد شملت قلوبكم؟ وما للجهالة قد ترت عنكم عيوبكم؟ أما ترون صوارم الموت بينكم لامعة، وقوارعه بكم واقعة، وطلائعه عليكم طالعة، وفجائعه لعذركم قاطعة، وسهامه فيكم نافذة، وأحكامة بنواصيكم آخذة؟ فحتى م؟ والى م؟ وعلام التخلف والمقام؟ أتطمعون في بقاء الأبد؟ كلا والواحد والصمد. ان الموت لبالرّصد، ولا يبقي على والد ولا ولد، فجدّوا، رحمكم الله، في خدمة مولاكم، وأقلعوا عن الذنوب، فلعله يتولاكم. يروى عن محمد بن قدامة، قال: لقي بشر بن الحارث رجلا سكران، فجعل السكران يقبله، ويقول: يا سيدي أبا نصر، ولا يدفعه بشر عن نفسه، فلما تولى تغرغرت عينا بشر بالدموع، وقال: رجل أحبّ رجلا على خير توهّمه فيه، ولعل المحبّ قد نجا والمحبوب لا يدري ما حاله. فوقف على أصحاب الفاكهة، فجعل ينظر، فقلت: يا أبا نصر، لعلك تشتهي من هذا شيئا؟ قال: ل، ولكن نظرت في هذا؛ اذا كان يطعم هذا لمن يعصيه، فكيف من يطيعه ماذا يطعمه في الجنة ويسقيه؟!..

اخواني: ما للغافل الى كم ينام؟ أما توقظ الليالي والأيام؟ أين سكان القصور والخيام؟ دار، والله، عليهم كأس الحمام، فالتقطهم الموت كما يلتقط الحبّ الحمام. ما لمخلوق فيها دوام، طويت الصحف وجفت الأقلام. وأنشدوا: دعوني على نفسي أنوح وأندب بدمع غزير واكف يتصبب دعوني على نفسي أنوح لأنني أخاف على نفسي الضعيفة تعطب فمن لي اذا نادى المنادي بمن عصا الى أين ألجأ أم الى أين أذهب فيا طول حزني ثم يا طول حسرتي اذا كنت في نار الجحيم أعذب وقد ظهرت تلك القبائح كلها وقد قرّب الميزان والنار تلهب ولكنني أرجو الاله لعله يحسن رجائي فيه لي يتوهب ويدخلني دار الجنان بفضله فلا عمل أرجو به أتقرّب سوى حب طه الهاشمي محمد وأصحابه والآل من قد ترهبوا

قال رسول الله ﷺ:" يؤتى برجل يوم القيامة قد جمع المال من حلال وأنفقه في الحلال، فيقال له: قف للحساب، فيحاسب على كل حبة وذرة ودانق: من أين أخذه وفيما أنفقه" ثم قال ﷺ:" يا ابن آدم، ما تصنع بالدنيا؟ حلالها حساب، وحرامها عقاب". وأنشدوا: فلا تأمن لذي الدنيا صلاحا فان صلاحها عين الفساد ولا تفرح لمال تقتنيه فانك فيه معكوس المراد

قال بعض العارفين رضي الله عنه: ان أبا يزيد البسطامي بكى عند موته، ثم ضحك، ثم فارق الدنيا، فرؤي في المنام بعد موته، فقيل له: لم بكيت قبل الموت ثم ضحكت؟ فقال: لما كنت في النزع، أتاني ابليس لعنة الله عليه، وقال لي: يا أبا يزيد، أفلتّ من شبكتي، فبكيت حينئذ الى الله تعالى، فنزل عليّ ملك من السماء، وقال لي: يا أبا يزيد، يقول لك رب العزة: لا تخف ولا تحزن، وأبشر بالجنة، فضحكت عند ذلك، وفارقت الدنيا. وأنشدوا: وقفت وأجفاني تفيض دموعها وقلبي من خوف القطيعة هائم وكل مسيء أوبقته ذنوبه ذليل حزين مطرق الطرف نادم فيا رب ذنبي تعاظم قدره وأنت بما أشكو يا رب عالم وأنت رؤوف بالعباد مهيمن حليم كريم واسع العفو راحم يا أخي كم من يوم قطعته بالتسويف؟ وكم من سبب أضعت فيه التكليف، وكم أذن سمّاعة لا يزجرها التخويف؟.

ولما حضرت جابر بن زيد الوفاة قيل: ما تشتهي؟ قال: نظرة في وجه الحسن فبلغ ذلك الحسن، فجاء ودخل عليه، وقال له: يا جابر كيف تجدك؟ قال: أجد أمر الله غير مردود. يا أبا سعيد، حدثني حديثا سمعته من رسول الله ﷺ، فقال الحسن: يا جابر قال رسول الله صلى لله عليه وسلم:" المؤمن من الله على سبيل خير، ان تاب قبله، وان استقال أقاله، وان اعتذر اليه قبل اعتذاره، وعلامة قبل ذلك خروج روحه يجد بردا على قلبه". فقال جابر: الله أكبر! اني لأجد بردا على قلبي. ثم فال: اللهم ان نفسي تطمع في ثوابك، فحقق ظني، وآمن خوفي وجزعي، ثم تشهّد ومات رضي الله عنه. وكان سبب توبة داود الطائي أنه دخل المقبرة، فسمع امرأة عند قبر تبكي وتقول:

تزيد بلى في كل يوم وليلة

وتسأل لما تبلى وأنت حبيب

مقيم الى أن يبعث الله خلقه

لقاؤك لا يرجى وأنت قريب.

=============

بحر الدموع/ الفصل الخامس

الفصل الخامس

اخواني: قيّدوا هذه النفوس بزمام، وازجروا، هذه القلوب عن الآثام، واقرؤوا صحف العبر بألسنة الأفهام. يا من أجله خلفه وأمله قدّام، يا مقتحما على الجرائم أيّ اقتحام، انتبهوا يا نوّام، كم ضيّعتم من أعوام، الدنيا كلها منام، وأحلى ما فيها أضغاث أحلام، غير أن عقل الشيخ فيها الغلام، فكل من قهر نفسه فهو الهمام. هذه الغفلة قد تناهت، والمصائب قد تدانت، فانّا لله وانا اليه راجعون، والسلام.

مرّ عيسى عليه السلام على قرية، فوجد كل من فيها أمواتا، وهم مطروحون على وجوههم في الأزقّة، فتعجّب عيسى عليه السلام من ذلك، وقال: يا معشر الحواريين، ان هؤلاء القوم قد ماتوا على سخط وغضب، ولو ماتوا على رضا من الله، لدفن بعضهم بعضا. فقالوا: يا روح الله، وددنا أن نعرف قضيّتهم وخبرهم. قال: فسأل الله عز وجل في ذلك، فأوحى الله اليه: اذا كان الليل نادهم، فانهم يجيبونك. فلما كان من الليل، صعد عيسى على شرف ونادى: يا أهل القرية، فأجابه مجيب من بينهم: لبيّك يا روح الله، فقال: ما قضيتكم, وما خبلاكم؟ فقال: يا روح الله، بتنا في عافية، وأصبحنا في هاوية. قال: ولم ذلك؟ قال: لحبنا في الدنيا، وطاعة لأهل المعاصي، ولم نأمر بالمعروف، ولم ننه عن المنكر. فقال له عيسى عليه السلام: كيف كان حبكم للدنيا؟ قال: كحبّ الصبي لأمه؛ اذا أقبلت فرحنا، واذا أدبرت جزنّا وبكينا. فقال له عيسى عليه السلام: يا هذا: ما بال أصحابك لم يجيبوني؟ قال: امهم ملجمون بلجام من النار بأيدي ملائكة غلاظ شداد. قال: وكيف أجبتني أنت من بينهم؟ قال: اني كنت فيهم، ولم أكن منهم، فلما نزل بهم العذاب لحقني معهم، فأنا الآن معلّق على شفير جهنّم، لا أدري: أنجو منها، أم أكبّ فيها. أعاذنا الله هنا.

يا من يسير بعمره وقد تعدّى الحدود، ابك على معصيتك فلعلك مطرود. يا من عمره ينتهب وليس الماضي يعود، قد أسمعتك المواعظ من ارشادها نصحا، وأخبرك الشيب أنك بالموت تقصد وتنحّا، ونادلك لسان الاعتبار:{ يا أيها الانسان انك كادح الى ربك كدحا} الانشقاق 6. وأنشدوا: لما نقضى زمن التواصل والرضا قد صرت تطلب ردّ أمر قد مضى هلا أتيت ووقت وصلك ممكن وبياض شيبك في العوارض ما أضا يا أخي: هذا أوان الرجوع والاستغفار والاقلاع عن الذنوب والأوزار. " من بلغ أربعين سنة ولم يغلب خيره على شره، فليتجهز الى النار". وأنشدوا: أتيتك راجيا يا ذا الجلال ففرّج ما ترى من سوء حالي عصيتك سيّدي ويلي بجهلي وعيب الذنب لم يخطر ببالي الى من يشتكي المملوك الا الى مولاه يا مولى الموالي فويلي لم أمي لم تلدني ولا أعصيك في ظلم الليالي وها أنا ذا عبيدك عبد سوء ببابك واقف يا ذا الجلال فان عاقبت يا ربي فاني محق بالعذاب وبالنكال وان تعفو فعفوك أرتجيه ويحسن ان عفوت قبيح حالي

يقول الله عز وجل: يا عبادي، أما علمتم أني جعلت الدنيا دار تكليف وامتحان، وأني لا أخص بمنازل الفضل والاحسان الا من تاب اليّ فيها عن مواطن الزلات والعصيان، فما لكم ما أتيتم لبابي، ولا رغبتم في جزيل فضلي وثوابي، ولا خفتم من أخذي وعقابي؟. فيا من جلّت غفلته، وطالت سكرته، تأمّل عطف الموالي عليك، واحسانه اليك. فبالله عليكم، حطّوا بالتوبة عن ظهوركم، واغسلوا وجوهكم بقطرات الدموع، واشتملوا بأردية التذلل والخضوع. وأنشدوا: ركبت مآثمي فلقيت ذلا وسالت عبرتي طلا ووبلا وصرت أعاتب القلب المبلا الى من يشتكي المملوك الا الى مولاه با مولى الموالي فلطفك بي اله العرش أولى

============

بحر الدموع/ الفصل السادس

الفصل السادس

 

اخواني، انتبهوا من غفلتكم، فنوم تاغفلة ثقيل، وشمّروا لآخرتكم، فانما الدنيا منزل، وفي طريقها مقيل. جاء في بعض الأخبار، أن الله تعالى أوحى الى بعض أنبيائه عليهم السلام: يا نبيي، شتان بين من عصاني وخالف أمري، وبين من قطع عمره في معاملتي وذكري ولزوم الوقوف ببابي، ومرّغ خده على أعتابي، فيا خجلة الخاطئين، ويا ندامة البطالين. وأنشدوا: اخلوا بنفسك ان أردت تقرّبا ودع الأنام بمعزل يا عاني واعمل على قطع العلائق جملة في العيش في خرق الحجاب الفاني

 

 

وفي الخبر أن النبي ﷺ قال ذات يوم لأصحابه:" يا أصحابي، أتدرون من المفلس؟" قالوا: يا رسول الله، المفلس عندنا من ليس له دينار ولا درهم. فقال لهم:" ليس هو ذلك، انما المفلس من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة وصدقة، ثم يأتي وقد شتم هذا، ولطم هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا كذلك، حتى تفنى حسناته قبل أن يؤدي ما عليه، فتؤخذ خطاياهم، فتحمل على خطاياه، ويقذف به في النار، فهذا هو المفلس". نعوذ بالله من الحرمان.

قال بعض الصالحين رضي الله عنهم: أتيت ابراهيم بن أدهم لأزوره، فطلبته في المسجد، فلم أجده، فقيل لي: انه خرج الآن من المسجد، فخرجت في طلبه، فوجدته في بطن واد نائما في زمان الحر، وحيّة عظيمة عند رأسه، وفي فم الحيّة غصن من الياسمين، وهي تشرّد عنه الذباب، فبقيت متعجبا من ذلك، واذا بالحية قد أنطقها الله الذي أنطق كل شيء، فقالت لي: مم تتعجب أيها الرجل؟ فقلت لها، من فعلك هذا, وأكثر تعجبي من كلامك وأنت عدوة لبني آدم. فقالت لي: والله العظيم، ما جعلنا الله أعداء الا للعاصين، وأما أهل طاعته، فنحن لهم منقادون. وأنشدوا: فعالي قبيح وظني حسن وربي غفور كثير المنن تبارز مولاك يا من عصى وتخشى من الجار لما فطن ركبت المعاصي وشيبي معي فوالله يا نفس ما ذا حسن فقومي الدياجي له وارغبي وقولي له يا عظيم المنن وقولي له يا عظيم الرجا اذا أنت لم تعف عني فمن بحقّ النبي هو المصطفى بحق الحسين بحق الحسن أيدفع مثلي الى مالك وتعلم أني ضعيف البدن

 

 

 

جلس الحسن البصري ذات يوم يعظ الناس، فجعلوا يزدحمون عليه ليقربوا منه، فأقبل عليهم، وقال: يا اخواتاه، تزدحمون عليّ لتقربوا مني؟ فكيف بكم غدا في القيامة اذا قرّبت مجالس المتقين، وأبعدت مجالس الظالمين، وقيل للمخفين جوزوا، وللمثقلين حطوا؟ فيا ليت شعري: أمع المثقلين أحط، أم مع الكخفين أجوز؟ ثم بكى حتى غشي عليه، وبكى من حوله، فاقبل عليهم وناداهم، يا اخوتاه، ألا تبكون خوفا من النار؟ ألا من بكى خوفا من النار نجاه الله منها يوم يجرّ الخلائق بالسلاسل والأغلال.يا اخوتاه، ألا تبكون شوقا الى الله. ألأا وان من بكى شوقا الى الله، لم يحرم من النظر غدا الى الله اذا تجلى بالرحمة، واطّلع بالمغفرة، واشتدّ غضبه على العاصين. يا اخوتاه، ألا تبكون من عطش يوم القيامة؟ يوم يحشر الخلائق وقد ذبلت شفاههم، ولم يجدوا ماء الا حوض المصطفى ﷺ، فيشرب قوم، ويمنع آخرون. ألا وانّ من بكى من خوف عطش ذلك اليوم سقاه الله من عيون الفردوس. قال: ثم نادى الحسن رضي الله عنه: واذلاه اذا لم يرو عطشي يوم القيامة من حوض النبي ﷺ.

 

 

= ثم بكى وجعل يقول: والله لقد مررت ذات يوم بامرأة من المتعبدات، وهي تقول: الهي، قد سئمت الحياة شوقا ورجاء فيك. فقلت لها: يا هذه، أتراك على يقين من عملك؟ فقالت: حبي فيه وحرصي على لقائه بسطني. أتراه يعذبني وأنا أحب؟. فبينما أنا كذلك أخاطبها، اذ مرّ بي صبيّ صغير من بعض أهلي، فأخذته في ذراعي، وضممته الى صدري، ثم قبلته. فقالت لي: أتحب هذا الصبي؟ قلت: نعم. قال: فبكت، وقالت: لو يعلم الله الخلائق ما يستقبلون غدا، ما قرّت أعينهم، ولا التذّت قلوبهم بشيء من الدنيا أبدا. قال: فبينما أنا كذلك، اذ أقبل لها ولد يقال له:" ضيغم"، فقالت: يا ضيغم، أتراني أراك غدا يوم القيامة في المحشر أو يحال بيني وبينك؟ قال: فصاح الصبي صيحة ظننت أنه قد انشق قلبه، ثم خرّ مغشيّا عليه، فجعلت تبكي عليه، وبكيت لبكائها.

 

 

=  فلما أفاق من غشيته، قالت له: يا ضيغم، قال لها لبيك يا أماه. قالت: أتحب الموت؟ قال: نعم. قالت: ولم يا بنيّ؟ قال لها: لأصير الى ما هو خير منك، وهو أرحم الراحمين، الى من غذاني في ظلمة أحشائك، وأخرجني من أضيق المسالك، ولو شاء لأماتني عند الخروج من ضيق ذلك المسلك حتى تموتي أنت من شدة أوجاعك، لكنه برحمته ولطفه، سهّل ذلك عليّ وعليك. أما سمعتيه عز وجل يقول:{ نبئ عبادي أنّي أنا الغفور الرحيم وأنّ عذابي هو العذاب الأليم} الحجر 49ـ50. وجعل يبكي وينادي: أواه أواه، ان لم أنج غدا من عذاب الله، ولم يزل يبكي حتى غشي عليه، وسقط على الأرض، فدنت منه أمه، فلمسته بيدها، فاذا هو ميّت رحمه الله. فجعلت تبكي وتقول: يا ضيغماه، يا قتيلا في حبّ مولاه. ولم تزل كذلك حتى صاحت صيحة عظيمة، ووقعت في الأرض، قال: فحرّكتها، فاذا هي قد ماتت. رحمة الله عليه وعليها، ورحمنا الله بهما.

====

بحر الدموع/ الفصل السابع

الفصل السابع

 

 

اخواني، الدنيا سموم قاتلة، والنفوس عن مكائدها غافلة، كم من نظرة تحلو في العاجلة، ومرارتها لا تطاق في العاقبة الآجلة. يا ابن آدم، قلبك قلب ضعيف، ورأيك في اطلاق الطرف وأى " وهم" سخيف. عينك مطلوقة، ولسانك يجني الآثام، وجسدك يتعب في كسب الحطام، كم من نظرة محتقرة زلت بها الأقدام. عاتبت قلبي لما رأيت جسمي نحيلا فلام قلبي طرفي وقال كنت الرسولا فقال طرفي لقلبي بل كنت أنت الدليلا فقلت كفا جميعا تركتماني قتيلا

كان عيسى عليه السلام يقول: النظرة تزرع في القلب الشهوة. وقال الحسن: من أطلق طرفه، كثر ألمه. قال ابراهيم بن العباس بن محمد بن صول: ومن كان يؤتى من عدو وحاسد فاني من عيني أوتى ومن قلبي وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلا جاء الى رسول الله ﷺ وهو يتسلسل دما، فقال له النبي ﷺ:" ما بالك؟" فقال: مرّت بي امرأة، فنظرت اليها، فلم يزل يتبعها بصري، فاستبقني جدار فضربني، فصنع بي ما ترى، فقال النبي ﷺ:" ان الله اذا أراد بعبد خيرا، عجّل له عقوبته في الدنيا" راه الحاكم في المستدرك.

قال أبو بعقوب النهرجوري: رأيت في الطواف رجلا بفرد عيم، وهو يقول في طوافه: أعوذ بك منك، فقلت له: ما هذا الدعاء، فقال: اني مجاور منذ خمسين سنة، فنظرت الى شخص يوما فاستحسنته، واذا بلطمة قد وقعت على عيني، فسالت على خدي، فقلت: آه، فوقعت أخرى، وقائل يقول: لوزدت لزدناك. دعوني أناجي مولى جليلا اذا الليل أرخى على السدولا نظرت اليك بقلب ذليل لأرجو به يا الهي القبولا لك الحمد والمجد والكبرياء وأنت الاله الذي لن يزولا وأنت الاله الذي لم يزل حميدا كريما عظيما جليلا تميت الأنام وتحيي العظام وتنشى الخلائق جيلا فجيلا عظيم الجلال كريم الفعال جزيل النوال تنيل السؤولا حبيب القلوب غفور الذنوب تواري العيوب تقيل الجهولا وتعطي الجزيل وتولي الجميل وتأخذ من ذا وذاك القليلا خزائن جودك لا تنقضي تعمّ الجواد بها والبخيلا

قال بعض العارفين: خرجنا من أرض العراق نريد مكة ومدينة المصطفى ﷺ، وكنا في رفقة كثيرة من الناس، فاذا نحن برجل من أهل العراق، وقد خرج معنا رجل به أدمة في شقرة وهو مصفرّ اللون، قد ذهب الدم من وجهه مما بلغت فيه العبادة، وعليه ثياب خلقة من رقاع شتى، وبيده عصا ومعه مزود فيه شيء من الزاد. قال: وكان ذلك الرجل العابد الزاهد أويسا القرني، فلما نظر اليه أهل القافلة على تلك الحالة، أنكروه، وقالوا له: نظن أنك عبد. قال: نعم. قالوا: نظن أنك عبد سوء هربت من مولاك. قال لهم: نعم. قالوا: كيف رأيت نفسك حين هربت من مولاك، وما صار حالك ايه؟ أما انك لو أقمت عنده، ما كانت هذه حالتك، وانما أنت عبد سوء مقصّر. فقال لهم: نعم والله، أنا عبد سوء، ونعم المولى مولاي، ومن قبلي التقصير، ول أطعته وطلبت رضاه، ما كان من أمري هذا، وجعل يبكي حتى كادت نفسه أن تزهق. قال: فرحمه القوم، وظنوا أنه يعني مولى من موالي الدنيا، وهو ما كان يريد بذلك الا رب العزة. فقال له رجل من أهل القافلة: لا تخف، أنا آخذ لك من مولاك الأمان، فارجع اليه وتب. فقال: اني راجع اليه، وراغب فيما لديه. قال: وكان خرج زائرا الى قبر رسول الله ﷺ، فسارت القافلة ذلك اليوم، وسار معهم، وجدّوا في السير، فلما كان في الليل نزلوا في فلاة من الأرض، وكانت ليلة شاتية باردة كثيرة النطر. قال: وقد كان آلى على نفسه ألا يسأل من أمور الدنيا لمخلوق، وانما تكون حوائجه الى الله سبحانه وتعالى، فبلغ به البرد تلك الليلة مبلغا شديدا، حتى اضطربت جوارحه من شدة البرد، واشتد عليه سلطان البرد حتى مات في جوف الليل. فلما أصبحوا وأرادوا الرحيل نادوه: قم أيها الرجل، فان الناس قد رحلوا، فلم يجبهم، فأتاه رجل قريب منه، فحرّكه فوجده ميتا رحمه الله، فنادى: يا أهل القافلة، ان العبد الهارب من سيده قد مات، ولا ينبغي لكم الرحيل حتى تدفنوه. قالوا: وما الحيلة في أمره؟. فقال لهم رجل صالح كان معهم: ان هذا العبد كان عبدا تائبا راجعا الى مولاه نادما على ما صنع، ونحن نرجو أن ينفعنا الله به، وقد قبل توبته، ونخاف أن نسأل عنه ان تركناه غير مدفون، ولا بدّ لكم أن تصبروا حتى تحفروا له قبرا وتدفنوه فيه. فقالوا: هذا موضع ليس فيه ماء، فقال بعضهم لبعض: اسألوا الدليل، فسألوه، فقال: ان بينكم وبين الماء ساعة، ولكن أرسلوا معي واحدا وأنا آتيكم بالماء. فأخذ الدليل دلوا، وساروا الى الماء، فلما خرج من القافلة، اذا هو بغدير من الماء، فقال الدليل: هذا هو العجب الذي لم أر مثله هذا موضع ليس فيه ماء، ولا على قرب منه!. فرجع اليهم، وقال لهم: قد كفيتم المؤنة. عليكم بالحطب، فجمعوه ليسخنوا به الماء من شدة البرد، ثم أتوا الى الماء ليأخذوه، فوجوده ساخنا يغلي، فازدادوا تعجبا، وفزعوا من ذلك الرجل، وقالوا ان لهذا العبد قصة وشأنا. قال: فأخذوا في حفر قبره، فوجدوا التلااب ألين من الزبد، والأض تفوح مثل المسك الاذفر، وملؤا رعبا وفزعا، وكانوا اذا نظروا الى التراب الذي يخرج من القبر، وجدوه صفة التراب، واذا شمّوه، وجدوا رائحة كرائحة المسك. فضربوا له خباء وأدخلوه فيه، وتنافسوا في كفنه، فقال رجل من القوم: أنا أكفنه، وقال آخر، أنا أكفنه. فاتفق رأيهم على أن يجعل كل واحد منهم ثوبا. ثم انهم أخذوا دواة وقرطاسا، وكتبوا صفته وعته، وقالوا: اذا وصلنا، ان شاء الله، المدينة، فلعل من يعرفه، وجعلوا الكتاب في أوعيتهم. فلما غسّلوه، وأرادوا أن يكفنوه، كشفوا الثوب الذي كان عليه، فوجدوه مكفنا بكفن من الجنة، لم ير الراؤون مثله، ووجدوا على كفنه مسكا وعنبرا، وقد ملأت رائحة حنوطه الدنيا، وعلى جبينه خاتم من المسك، وعلى قدميه كذلك. فقالوا: لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم. ان الله عز وجل قد كفّنه وأغناه عن أكفان العباد، ونرجو الله تعالى أنه قد أوجب لنا الجنة ورحمنا بهذا العبد الصالح، وندموا ندامة شديدة على تركه تلك الليلة حتى مات بالبرد. ثم انهم حملوه ليدفنوه، ووضعوه في بقعة سهلة ليصلّوا عليه، فلما كبّروا، سمعوا أصوات التكبير من السماء الى الأرض، ومن المشرق الى المغرب وانخلعت أفئدتهم وأبصارهم، ولم يدروا كيف صلوا عليه من شدة الجزع، وعظم رعبهم مما سمعوا فوق رؤوسهم، فحملوه يريدون قبره، فكأنه يخطف من بينهم ولا يجدون له ثقلا، حتى أتوا به الى القبر ليدفنوه، فدفنوه، ورجع القوم وقد تعجبوا من أمره. فلما قضوا سفرهم، وأتوا الى مسجد الكوفة، وأخبروا بخبره، وما كان من صفته، فعند ذلك عرفه الناس، وارتفعت الأصوات بالبكاء في مسجد الكوفة، ولولا ذلك ما عرف أحد بموته، ولا بمكان قبره، لاختفائه عن الناس وهروبه منهم رضي الله عنه، ونفعنا ببركاته.

======== *

بحر الدموع/ الفصل الثامن

الفصل الثامن

اخواني، الى كم هذه الغفلة وأنتم مطالبون بغير مهلة؟ فبالله عليكم، تعاهدوا أيامكم بتحصيل العدد، وأثلحوا من أعمالكم ما فسد، وكونوا من آجالكم على رصد، فقد آذنتكم الدنيا بالذهاب، وأنتم تلعبون بالأجل وبين أيديكم يوم الحساب. آه من ثقل الحمل.. آه من قلة الزاد وبعد الطريق. فيا أيها المغرور باقباله، المفتون بكواذب آماله، الذي غاب عن الصواب، وهو في فعله كذاب. يا بطال، الى كم تؤخر التوبة وما أنت في التأخير بمعذور؟ الى متى يقال عنك: مفتون ومغرور؟ يا مسكين، قد انقضت أشهر الخير وأنت تعد الشهور؟ أترى مقبول أنت أم مطرود؟ أترى مواصل أنت أم مهجور؟ أترى تركب النجب غدا أم أنت على وجهك مجرور؟ أترى من أهل الجحيم أنت أم من أرباب النعيم والقصور. فاز، والله، المخفون، وخسر هنالك لبمبطلون، ألا الى الله تصير الأمور. وأنشدوا: مالي أراك على الذنوب مواظبا أأخذت من سوء الحساب أمانا لا تفغلن كأن يومك قد أتى ولعل عمرك قد دنا أو حانا ومضى الحبيب لحفر قبره مسرعا وأتى الصديق فأنذر الجيرانا وأتو بغسّال وجاؤوا نحوه وبدا بغسلك ميتا عريانا فغسلت ثم كسيت ثوبا للبلى ودعوا لحمل شريرك الاخوانا وأتاك أهلك للوداع فودّعوا وجرت عليك دموعهم غدرانا فخف الاله فانه من خافه سكن الجنان مجاورا رضوانا جنات عدن لا يبيد نعيمها أبدا يخالط روحه ريحانا ولمن عصا نار يقال لها لظى تشوى الوجوه وتحرق الأبدانا نبكي وحق لنا البكاء يا قومنا كي لا يؤاخذنا بما قد كانا

قال النبي ﷺ:" اذا كان ابن آدم في سياق الموت، بعث الله اليه خمسة من الملائكة: أما الملك الأول، فيأتيه وروحه في الحلقوم، فيناديه: يا ابن آدم، أين بدنك القوي؟ ما أضعفه اليوم؟ أين لسانك الفصيح؟ ما أسكته اليوم؟ أين أهلك وقرابتك؟ ما أوحشك منهم اليوم!. ويأتيه الملك الثاني اذا قبض روحه، ونشر عليه الكفن، فيناديه: يا ابن آدم، أين ما أعددت من الغنى للفقر؟ أين ما أعددت من الخراب للعمران؟ أين ما أعددت من الأنس للوحشة؟. ويأتيه الملك الثالث اذا حمل على الأعناق، فيناديه: يا ابن آدم، اليوم تسافر سفرا بعيدا لم تسافر سفرا أبعد منه، اليوم تزور قوما لم تزورهم قبل هذا قط، اليوم تدخل مدخلا ضيقا لم تدخل أضيق منه، فطوبى لك ان فزت برضوان الله، وويل لك ان رجعت بسخط الله. ويأتيه الملك الرابع اذا ألحد في قبره فيناديه: يا ابن آدم، بالأمس كنت على ظهرها ماشيا، واليوم صرت في بطنها مضطجعا. بالأمس كنت على ظهرها ضاحكا، واليوم أصبحت في بطنها باكيا. بالأمس كنت على ظهرها مذنبا، واليوم أمسيت في بطنها نادما. ويأتيه الملك الخامس اذا سويّ عليه التراب، وانصرف عنه الأهل والجيران والأصحاب، فيناديه: يا ابن آدم، دفنوك وتركوك، ولو أقاموا عندك ما نفعوك. جمعت المال وتركته لغيرك. اليوم تصير اما لجنة عالية، أو الى نار حامية".

ويروى عن بعض المتعبدين أنه قال: الهي عصيتك قويا، وأطعتك ضفيفا، وأسخطتك جلدا، وخدمتك نحيفا، فيا ليت شعري، هل قبلتني على لؤمي، أم صرفتني على جرمي؟ قال: ثم غشي عليه ووقع على الأرض وانسلخت جبهته. فقامت اليه أمه، وقبّلته بين عينيه، ومسحت جبهته وهي تبكي وتقول: قرّة عيني في الدنيا، وثمرة فؤادي في الآخرة، كلم عجوزك الثكلى، وردّ جواب أمك الحريّ. قال: فأفاق الفتى من غشيته، ويده قابضة على كبده، وروحه تتردد في جسده، ودموعه تنسكب على خده ولحيته، فقال لها: يا أماه، هذا اليوم الذي كنت تحذريني منه، وهذا هو المصرع الذي كنت تخوّفيني منه، هذا مصرع الأهوال، وسقوط عثرة الأثقال، فيا أسفا على الأيام الخالية، ويا جزعي من الأيام الطوال التي لم أعرّج فيها على الاقبال. يا أماه أنا خائف على نفسي أن يطول في النار سجني وحبسي. يا حزناه ان رميت فيها على رأسي، ويا أسفاه ان قطعت فيها أنفاسي. يا أماه، افعلي ما أقول لك. فقالت له: يا بنيّ، فدتك نفسي، ماذا تريد؟. قال لها: ضعي خدي على التراب، وطئيه بقدمك حتى أذوق طعم الذل في الدنيا، والتلذذ للسيّد المولى، عسى أن يرحمني وينجيني من نار اظى. قالت أمه: فقمت اليه في الحال، وقد ألصق خده بالتراب، والدموع تجري من عينيه كالميزاب، فوطئت خده بقدمي، فاذا هو ينادي بصوت ضعيف: هذا جزاء من أذنب وعصى، وهذا جزاء من أخطأ وأسا، هذا جزاء من لم يقف بباب المولى، هذا جزاء من لم يراقب العلي الأعلى. قالت: ثم تحوّل الى القبلة، وقال: لبيّك لبيّك، الا اله الا أنت سبحانك اني كنت من الظالمين. قال: ثم مات في مكانه، فرأته أمه في المنام كأن وجهه فلقة قمر تجلى من سحاب، فقالت له: يا بنيّ، ما فعل بك مولاك؟ قال: رفع درجتي، وقرّبني من محمد ﷺ، فقالت له أمه: يا بنيّ، ما الذي سمعت منك تقوله عند وفاتك؟ فقال لها: يا أماه، هتف بي هاتف وقال لي: يا عمران، أجب داعي الله، فأجبته، ولبيّت ربي عز وجل. رحمه الله تعالى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

البرص و العميان-أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ

البرص و العميان-أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ  المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله عليه محمد وسلم وهب الله لك حسن الاستماع وأشعر ...