Translate

السبت، 25 فبراير 2023

ج2. تفسير القرآن العظيم أبو الفداء إسماعيل

ج2. تفسير القرآن العظيم أبو الفداء

 إسماعيل

 

حديث آخر : قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أمية بن بِسْطام ، حدثنا يزيد بن زُرَيْع ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن معدان بن أبي طلحة ، عن ثوبان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ قال : " مَنْ تَرَكَ بَعْدَهُ كَنزا مُثِّلَ لَهُ شُجُاعًا أَقْرَعَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ زَبِيبَتَان ، يَتْبَعُه ويَقُولُ : مَنْ أَنْتَ ؟ وَيْلَكَ. فيقُولُ : أنَا كَنزكَ الَّذِي خَلَّفتَ بَعْدَكَ فَلا يَزَالُ يَتْبَعُه حَتَّى يُلْقِمَه يَدَه فَيقْضِمَها ، ثم يَتْبَعه سَائِر جَسَ". إسناده جيد قوي ولم يخرجوه (1).
وقد رواه الطبراني عن جرير بن عبد الله البَجَلي (2) ورواه ابن جرير وابن مَرْدُويه من حديث بَهْز بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا يَأْتِي الرَّجُلُ مَولاهُ فيَسْأله من فَضْلِ مَالِهِ (3) عِنْدَهُ ، فَيَمْنَعهُ إيَّاهُ ، إلا دُعِي لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجاعٌ يَتَلَمَّظُ فَضْلَهُ الَّذِي مَنَعَ". لفظ ابن جرير (4).
وقال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا داود ، عن أبي قَزَعة ، عن رجل ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "مَا مِنْ ذِي رَحِمٍ يَأْتِي ذَا رَحِمه ، فيَسْأله من فَضْلٍ جَعَلَهُ اللهُ عِنْدَهُ ، فَيَبْخَلُ بِهِ عَلَيْه ، إلا أخُرِج له من جَهَنَّم شُجَاعٌ يَتَلَمَّظ ، حتى يُطوّقه".
ثم رواه من طريق أخرى عن أبي قزَعَة - واسمه حُجَيْر (5) بن بَيان - عن أبي مالك العبدي موقوفا. ورواه من وجه آخر عن أبي قَزَعَة مرسلا (6).
وقال العَوْفي عن ابن عباس : نزلت في أهل الكتاب الذين بَخِلُوا بما في أيديهم من الكتب المنزلة أن يبينوها.
رواه ابن جرير. والصحيح الأول ، وإن دخل هذا في معناه. وقد يقال : [إن] (7) هذا أولى (8) بالدخول ، والله أعلم.
وقوله : { وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي : فأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ، فإن الأمور كُلَّها مرجعها إلى الله عز وجل. فقدموا لكم من أموالكم ما ينفعكم يوم معادكم { وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي : بِنياتِكم وضمائركم.
__________
(1) عزاه إلى أبي يعلى في المطالب العالية الحافظ ابن حجر (1/254) ورواه ابن خزيمة في صحيحه برقم (2255) وابن حبان في صحيحه برقم (803) "موارد"والبزار في مسنده (1/418) "كشف الأستار" والطبراني في المعجم الكبير (2/91) والحاكم في المستدرك (1/338) وقال : "صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي ، كلهم من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة به. وقال البزار : "إسناده حسن".
(2) المعجم الكبير (2/322) ولفظه : "ما من ذي رحم يأتي رحمه فيسأله فضلا أعطاه الله إياه فيبخل عليه إلا أخرج له يوم القيامة من جهنم حية يقال لها : شجاع يتلمظ فيطوف به". قال الهيثمي في المجمع (8/154) : "رواه الطبراني في الأوسط والكبير وإسناده جيد".
(3) في ر ، أ ، و : "مال".
(4) تفسير الطبري (7/435) ورواه أحمد في مسنده (5/3) والنسائي في السنن (1/358).
(5) في أ ، و : "حجر" وهو خطأ ، والصواب ما أثبتناه.
(6) تفسير الطبري (7/434).
(7) زيادة من أ ، و.
(8) في أ : "روى".

 لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)

{ لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) }
قال سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما نزل قوله : { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } [البقرة : 245] قالت اليهود : يا محمد ، افتَقَرَ ربّك. يَسأل (1) عباده القرض ؟ فأنزل الله : { لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } الآية. رواه ابن مردويه وابن أبي حاتم.
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عِكْرمة أنه حدثه عن ابن عباس ، رضي الله عنه ، قال : دخل أبو بكر الصديق ، رضي الله عنه ، بيت المدراس ، فوجد من يهود أناسا كثيرا قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له : فِنْحَاص (2) وكان من علمائهم وأحبارهم ، ومعه حَبْرٌ يقال له : أشيع. فقال أبو بكر : ويحك يا فِنْحَاص (3) اتق الله وأسلم ، فوالله إنك لتعلم أن محمدًا رسول الله ، قد جاءكم بالحق من عنده ، تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل ، فقال فنحاص : والله - يا أبا بكر - ما بنا إلى الله من حاجة من فقر ، وإنه إلينا لفقير. ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا ، وإنا عنه لأغنياء ، ولو كان عنا غنيًا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم ، ينهاكم عن الربا ويُعْطناه (4) ولو كان غنيا ما أعطانا الربا فغضب أبو بكر ، رضي الله عنه ، فضرب وجه فِنْحَاص ضربًا شديدًا ، وقال : والذي نفسي بيده ، لولا الذي بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدو الله ، فَاكْذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين ، فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أبصر (5) ما صنع بي صاحبك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : "ما حَمَلَكَ على ما صَنَعْت ؟" فقال : يا رسول الله ، إن عَدُوَّ الله قد قال قولا عظيما ، زعَم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء ، فلما قال ذلك غَضبْتُ لله مما قال ، فضربت وجهه فجَحَد ذلك فنحاص (6) وقال : ما قلتُ ذلك فأنزل الله فيما قال فنحاص ردا عليه وتصديقًا لأبي بكر : { لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } الآية. رواه ابن أبي حاتم.
وقوله : { سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا } تهديد ووعيد ؛ ولهذا قرنه بقوله : { وَقَتْلَهُمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ } أي : هذا قولهم في الله ، وهذه معاملتهم لرسل الله ، وسيجزيهم الله على ذلك شَرّ الجزاء ؛ ولهذا قال : { وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ. ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ } أي : يقال (7) لهم ذلك تقريعًا وتحقيرًا وتصغيرًا.
__________
(1) في ر ، و : "فسأل".
(2) في ر : "فيحاص".
(3) في ر : "فيحاص".
(4) في أ ، و : "يعطينا".
(5) في جـ ، ر ، أ ، و : "فقال : يا محمد ، أبصر".
(6) في ر : "فيحاص".
(7) في جـ ، أ ، و : "فقال".

 كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)

وقوله : { الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ } يقول تعالى تكذيبًا أيضًا لهؤلاء الذين زعموا (1) أن الله عَهِدَ إليهم في كتبهم ألا يؤمنوا برسول حتى يكون من معجزاته أن من تصدق بصدقة من أمته فقبلَتْ منه أن تنزل نار من السماء تأكلها. قاله ابن عباس والحسن وغيرهما. قال الله تعالى : { قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ } أي : بالحجج والبراهين { وَبِالَّذِي قُلْتُمْ } أي : وبنار تأكل القرابين المتقبلة { فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ } أي : فلم قابلتموهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة وقتلتموهم { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أنكم تَتّبعُونَ الحق وتنقادون للرسل.
ثم قال تعالى مسليًا لنبيه (2) صلى الله عليه وسلم : { فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ } (3) أي : لا يوهنك تكذيب (4) هؤلاء لك ، فلك أسوة من قبلك من الرسل الذين كُذبوا مع ما جاؤوا به من البينات وهي الحجج والبراهين القاطعة { وَالزُّبُرِ } وهي الكتب المتلقاة من السماء ، كالصحف المنزلة على المرسلين { وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ } أي : البَين الواضح الجلي.
{ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ (186) }
يخبر تعالى إخبارًا عامًا يعم جميع الخليقة بأن كل نفس ذائقة الموت ، كقوله : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ. وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ } فهو تعالى وحده هو الحي الذي لا يموت والإنس والجن يموتون ، وكذلك (5) الملائكة وحملة العرش ، وينفرد الواحد الأحد القهار بالديمومة والبقاء ، فيكون آخرًا كما كان أولا.
وهذه الآية فيها تعزية لجميع الناس ، فإنه لا يبقى أحد على وجه الأرض حتى يموت ، فإذا انقضت المدة وفَرَغَت النطفة التي قدر الله وجودها من صلب آدم وانتهت البرية - أقام الله القيامة وجازى الخلائق بأعمالها جليلها وحقيرها ، كثيرها وقليلها ، كبيرها وصغيرها ، فلا يظلم أحدا مثقال ذرة ؛ ولهذا قال : { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد العزيز الأويسي ، حدثنا علي بن أبي علي اللِّهْبِيّ (6) عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين ، عن أبيه ، عن (7) علي بن أبى طالب ، رضي الله عنه ، قال : لما تُوفي النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت التعزية ، جاءهم آت يسمعون حسّه ولا يرون شخصه فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } إن
__________
(1) في جـ ، أ : "يزعمون".
(2) في جـ : "لرسوله".
(3) في ر : "المبين".
(4) في جـ : "بتكذيب".
(5) في أ : "وكذا".
(6) في جـ : "الهاشمي".
(7) في أ ، و : "أن".

  في (1) الله عَزَاءً من كل مُصِيبة ، وخَلَفًا من كل هالك ، ودركًا من كل فائت ، فبالله فثقوا ، وإياه فارجوا ، فإن المصاب من حرم الثواب ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. قال جعفر بن محمد : فأخبرني أبي أن علي بن أبي طالب قال : أتدرون (2) من هذا ؟ هذا الخضر ، عليه السلام (3).
وقوله : { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } أي : من جنب النار ونجا منها وأدخل الجنة ، فقد فاز كل الفوز.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، حدثنا محمد بن عَمْرو بن علقمة ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة [رضي الله عنه] (4) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مَوْضع سوط في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها ، اقرؤوا إن شئم : { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } (5).
هذا حديث (6) ثابت في الصحيحين من غير هذا الوجه (7) بدون هذه الزيادة ، وقد رواه بدون هذه (8) الزيادة أبو حاتم ، وابن حبان (9) في صحيحه ، والحاكم في مستدركه ، من حديث محمد بن عمرو هذا. ورواه ابن مردويه [أيضا] (10) من وجه آخر فقال :
حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن يحيى ، أنبأنا حُمَيْد بن مسعدة ، أنبأنا عمرو بن علي ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لموضع سَوط أحَدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها". قال : ثم تلا هذه الآية : { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ }
وتقدّم عند قوله تعالى : { وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } ما رواه الإمام أحمد ، عن وَكيع (11) عن الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة ، عن عبد الله بن عَمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أحَبَّ أن يزحزح عن النار وأن يدخل الجنة ، فلتدركه مَنِيَّتُه وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، ولْيَأْتِ إلى الناس ما يُحِبُّ أن يؤتى إليه" (12).
وقوله : { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ } تصغيرًا (13) لشأن الدنيا ، وتحقيرًا (14) لأمرها ، وأنها
__________
(1) في جـ ، أ : "من".
(2) في جـ ، ر : "تدرون".
(3) ذكره السيوطي في الدر (2/399) وإسناده ضعيف ومتنه منكر.
(4) زيادة من ر.
(5) ورواه أحمد في مسنده (2/438) والترمذي في السنن برقم (3292) ، والحاكم في المستدرك (2/299) وقال : "على شرط مسلم" ووافقه الذهبي ، كلهم من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة به. وللحديث طرق أخرى عن أبي هريرة وله شواهد من حديث سهل بن سعد في الصحيحين كما سيأتي ، ومن حديث أنس بن مالك عند أحمد في المسند (3/141) انظر الكلام عليه موسعا في : السلسلة الصحيحة للألباني برقم (1978).
(6) في جـ ، ر ، أ ، و : "الحديث".
(7) أخرجه البخاري في صحيحه برقم (6415) ، ومسلم في صحيحه برقم (1881).
(8) في جـ ، ر : "بهذه".
(9) في جـ ، ر : "أبو حاتم بن حبان".
(10) زيادة من أ ، و.
(11) في و : "ما رواه ابن الجراح في تفسيره".
(12) المسند (2/191).
(13) في ر : "تصغير".
(14) في جـ : "وتحقيرها" ، وفي ر : "تحقير".

(2/178)


دنيئة فانية قليلة زائلة ، كما قال تعالى : { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [الأعلى : 16 ، 17] [وقال تعالى : { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ } [الرعد : 26] وقال تعالى : { مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ] (1) } [النحل : 96]. وقال تعالى : { وَمَا (2) أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [القصص : 60] وفي الحديث : "واللهِ ما الدنيا في الآخرة إلا كما يَغْمِسُ أحدُكُم إصبعه في اليَمِّ ، فلينظر بِمَ تَرْجِع (3) إليه ؟" (4).
وقال قتادة في قوله : { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ } هي متاع ، هي متاع ، متروكة ، أوشكت - والله الذي لا إله إلا هو - أن تَضْمَحِلَّ عن أهلها ، فخذوا من هذا (5) المتاع طاعة الله إن استطعتم ، ولا قوة إلا بالله.
وقوله : { لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ } كقوله { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ [وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ] (6) } [البقرة : 155 ، 156] أي : لا بد أن يبتلى المؤمن في شيء من ماله أو نفسه أو ولده أو أهله ، ويبتلى المؤمن (7) على قدر دينه ، إن (8) كان في دينه صلابة زيد في البلاء { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا } يقول تعالى للمؤمنين عند مَقْدمهم المدينَة قبل وقعة بدر ، مسليا لهم عما نالهم (9) من الأذى من أهل الكتاب والمشركين ، وآمرًا لهم بالصبر والصفح والعفو حتى يفرج الله ، فقال : { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا شعيب بن أبي حمزة ، عن الزهري ، أخبرني عُرْوة بن الزبير : أن أسامة بن زيد أخبره قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ، ويصبرون على الأذى ، قال الله : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا } قال : وكان رسول الله (10) صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو ما أمره الله به ، حتى أذن (11) الله فيهم.
هكذا رواه مختصرا ، وقد ذكره البخاري عند تفسير هذه الآية مطولا فقال : حدثنا أبو اليمان ، أنبأنا شعيب ، عن الزهري أخبرني عروة بن الزبير ؛ أن أسامة بن زيد أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمَار ، عليه قطيفة فَدكيَّة وأردف أسامة بن زيد وراءه ، يعود سَعْدَ بن عبادة في بني الحارث بن الخزرج ، قَبْل وقعة بَدْر ، قال : حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي بن سَلُول ، وذلك قبل أن يسلم عبد الله بن أبي ، فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين ، عَبَدَة الأوثان واليهود والمسلمين ، وفي المجلس عبدُ الله بن رَوَاحة ، فلما غَشَيت المجلسَ عَجَاجةُ الدابة خَمَّر عبد الله بن أبي أنفه بردائه وقال : "لا تُغَبروا علينا. فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم (12) ثم وقف ، فنزل فدعاهم إلى الله عز وجل ،
__________
(1) زيادة من جـ ، ر.
(2) في ر : "فما".
(3) في أ ، و : "يرجع".
(4) رواه مسلم في صحيحه برقم (2858) والترمذي برقم (2323) وابن ماجة في السنن برقم (4108) من حديث المستورد ابن شداد رضي الله عنه.
(5) في جـ ، ر : "هذه".
(6) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي هـ : "إلى آخر الآيتين".
(7) في جـ ، ر ، أ ، و : "المرء".
(8) في أ ، و : "فإن".
(9) في جـ ، ر : "ينالهم".
(10) في أ : "النبي".
(11) في أ : "أذنه".
(12) في أ : "فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم".

(2/179)


وقرأ عليهم القرآن ، فقال عبد الله بن أبَي : أيها المَرْء ، إنه لا أحْسَنَ مما تقول ، إن كان حقا فلا تؤْذنا به في مجالسنا ، ارجع إلى رحلك ، فمن جاءك فاقصص عليه. فقال عبد الله بن رواحة : بلى (1) يا رسول الله ، فَاغْشنَا به في مجالسنا فإنا نُحب ذلك. فاستَب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يَتَثَاورون (2) فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يُخفضهم حتى سكتوا ، ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دَابته ، فسار حتى دخل على سعد بن عُبَادة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "يا سعد ، ألم تَسْمَع إلى ما قال أبو حُبَاب (3) - يريد عبد الله بن أبي - قال كذا وكذا". فقال سعد : يا رسول الله ، اعف عنه واصفح (4) فوَالله الذي (5) أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله (6) بالحق الذي أنزل عليك ، ولقد اصطلح أهل هذه البُحَيْرَة (7) على أن يُتَوِّجوه وَيُعَصِّبُوه (8) بالعصابة ، فلما أبى (9) الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك ، فذلك الذي فَعَل (10) به ما رأيتَ ، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب ، كما أمرهم الله ، ويصبرون على الأذى ، قال الله تعالى : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا [وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُورِ ] (11) } وقال تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ } الآية [البقرة : 109] ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يَتَأوّل في العفو ما أمره الله به ، حتى أذنَ الله فيهم ، فلما غزا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بدرًا ، فقتل الله به صناديد كفار قريش ، قال عبد الله بن أبَيّ ابن سَلُول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان : هذا أمر قد تَوَجّه ، فبايعُوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام (12) وأسلموا (13) (14).
فكان من قام بحق ، أو أمر بمعروف ، أو نهى عن منكر ، فلا بد أن يؤذَى ، فما له دواء إلا الصبر في الله ، والاستعانة بالله ، والرجوع إلى الله ، عز وجل.
__________
(1) في أ : "بل".
(2) في و : "يتبارزون".
(3) في أ : "حبان".
(4) في جـ ، ر ، أ ، و : "واصفح عنه".
(5) في جـ ، ر ، أ ، و : "فوالذي".
(6) في و : "لقد خالفتهم".
(7) البحيرة المقصود بها : مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(8) في أ : "فيعصبوه" ، وفي و : "فيعصبونه".
(9) في ر ، أ ، : "أتى".
(10) في أ : "ثقل".
(11) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و ، وفي هـ : "الآية".
(12) في جـ ، أ ، و : "على الإسلام فبايعوا".
(13) في ر : "فأسلموا".
(14) صحيح البخاري برقم (4566) ، ورواه مسلم في صحيحه برقم (1798).

(2/180)


وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)

{ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) }
هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب ، الذين أخَذ عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأن ينوهوا بذكره في الناس ليكونوا (1) على أهْبَة من أمره ، فإذا أرسله الله تابعوه ،
__________
(1) في و : "فيكونوا".

(2/180)


فكتموا ذلك وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف ، والحظ الدنيوي السخيف ، فبئست الصفقة صفقتهم ، وبئست البيعة بيعتهم.
وفي هذا تَحْذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم ، ويُسْلكَ بهم مَسْلكهم ، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع ، الدال على العمل الصالح ، ولا يكتموا (1) منه شيئا ، فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من سُئِل عن عِلْم فكَتَمه ألْجِم يوم القيامة بِلجَامٍ من نار".
وقوله تعالى : { لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا [فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ ] (2) } الآية ، يعني بذلك المرائين المتكثرين بما لم يُعْطَوا ، كما جاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من ادَّعَى دَعْوى كاذبة لِيتَكَثَّر بها لم يَزِدْه الله إلا قِلَّة" (3) وفي الصحيح : "المتشبع (4) بما لم يُعْطَ كلابس ثَوْبَي زُور" (5).
وقال الإمام أحمد : حدثنا حَجَّاج ، عن ابن جُرَيْج ، أخبرني ابن أبي مُلَيكة أن حُمَيد بن عبد الرحمن بن عَوْف أخبره : أن مروان قال : اذهب يا رافع - لبَوَّابه - إلى ابن عباس ، رضي الله عنه ، فقل (6) لئن كان كل امرئ منَّا فَرح بما أتَى (7) وأحب أن يحمد بما لم يفعل - معَذَّبًا ، لنُعَذبن أجمعون ؟ (8) فقال ابن عباس : وما لكم (9) وهذه ؟ إنما نزلت هذه في أهل الكتاب ، ثم تلا ابن عباس : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } (10) وتلا ابن عباس : { لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } الآية. وقال ابن عباس : سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء ، فكتموه (11) وأخبروه بغيره ، فخرجوا قد أرَوْه أن قد أخبروه بما سألهم عنه ، واستحمدوا بذلك إليه ، وفرحوا بما أوتوا (12) من كتمانهم ما سألهم عنه.
وهكذا رواه البخاري في التفسير ، ومسلم ، والترمذي والنسائي في تفسيريهما ، وابن أبي حاتم وابن جرير (13) وابن مَرْدُويه ، والحاكم في مستدركه ، كلهم من حديث عبد الملك بن جُرَيج ، بنحوه (14) ورواه البخاري أيضا من حديث ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عَلقمة بن وقاص : أن
__________
(1) في ر : "يكتمون".
(2) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(3) صحيح البخاري برقم (6105 ، 6652) وصحيح مسلم برقم (110) من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه.
(4) في أ : "المشبع".
(5) رواه مسلم برقم (2129) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(6) في جـ ، ر ، أ : "فقل له".
(7) في جـ : "أوتى".
(8) في جـ ، ر ، أ ، و : "أجمعين".
(9) في جـ : "ما لكم".
(10) في جـ ، ر ، أ ، و : "لتبيننه للناس.. الآية".
(11) في ر ، أ ، و : "فكتموه إياه".
(12) في جـ : "أوتوا".
(13) في و : "وابن خزيمة".
(14) المسند (1/298) وصحيح البخاري برقم (4568) وصحيح مسلم برقم (2778) وسنن الترمذي برقم (3014) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11086).

(2/181)


مَرْوان قال لبوابه : اذهبْ يا رافع إلى ابن عباس ، فذكره (1).
وقال البخاري : حدثنا سعيد بن أبي مريم ، أنبأنا محمد بن جعفر ، حدثني زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ؛ أن رجالا من المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرَج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تَخَلَّفوا عنه ، وفَرِحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا قَدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو اعتذروا (2) إليه وحلفوا ، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، فنزلت : { لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } الآية.
وكذا رواه مسلم من حديث ابن أبي مريم ، بنحوه (3) وقد رواه ابن مَرْدُويه في تفسيره من حديث الليث بن سعد ، عن هشَام بن سعد ، عن زيد بن أسلم قال : كان (4) أبو سعيد ورافع بن خَديج وزيد بن ثابت عند مَرْوان فقال : يا أبا سعيد ، رَأيت (5) قول الله تعالى : { لا تَحْسَبَنَّ (6) الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا } ونحن نفرح بما أتَيْنا ونُحِب أن نُحْمَد بما لم نفعل ؟ فقال أبو سعيد : إن هذا ليس من ذاك ، إنما ذاك (7) أن ناسا من المنافقين كانوا يَتخلَّفون إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعْثًا ، فإن كان فيه نَكْبة فرحوا بتخلفهم ، وإن كان لهم نَصْر من الله وفتح حلفوا (8) لهم ليرضوهم ويحمدوهم على سرورهم بالنصر والفتح. فقال مروان : أين هذا من هذا ؟ فقال أبو سعيد : وهذا يَعْلَمُ هذا ، فقال مروان : أكذلك يا زيد ؟ قال : نعم ، صدق أبو سعيد. ثم قال أبو سعيد : وهذا يعلم ذاك (9) - يعني رافع بن خديج - ولكنه يخشى إن أخبرك أن تنزع قَلائصه في الصدقة. فلما خرجوا قال زيد لأبي سعيد الخدري : ألا تحمدني على شهادة لك (10) ؟ فقال أبو سعيد : شهدتَ الحق. فقال زيد : أو لا تحمدني على ما شهدت الحق ؟
ثم رواه من حديث مالك ، عن زيد بن أسلم ، عن رافع بن خديج : أنه كان هو وزيد بن ثابت عند مَروان بن الحكم ، وهو أمير المدينة ، فقال مروان : يا رافع ، في أي شيء نزلت (11) هذه ؟ فذكره (12) كما تقدم عن أبي سعيد ، رضي الله عنهم ، وكان مَرْوان يبعث (13) بعد ذلك يسأل ابن عباس كما تقدم ، فقال له ما ذكرناه ، ولا منَافاة بين ما ذكره ابن عباس وما قاله هؤلاء ؛ لأن الآية عامة في جميع ما ذكر ، والله أعلم.
وقد روى ابن مَرْدُويه أيضا من حديث محمد بن أبي عَتِيق وموسى بن عُقْبة ، عن الزهْري ، عن محمد بن ثابت الأنصاري ؛ أن ثابت بن قيس الأنصاري قال : يا رسول الله ، والله لقد خشيت أن أكون
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4568).
(2) في ر : "أعذروا".
(3) صحيح البخاري برقم (4567) وصحيح مسلم برقم (2777).
(4) في و : "قال".
(5) في جـ : "أرأيت".
(6) في أ : "لا يحسبن".
(7) في أ : "من ذلك إنما ذلك".
(8) في ر : "يحلفوا".
(9) في أ : "ذلك".
(10) في ر : "أني شهدت لك" ، وفي أ ، و : "على ما شهدت لك".
(11) في جـ ، ر ، أ ، و : "أنزلت".
(12) ورواه عبد بن حميد في تفسيره كما في الدر(2/404) وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح (8/234).
(13) في ر : "بعث".

(2/182)


إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)

هلكت. قال : "لم ؟" قال : نهى الله المرء أن يُحِب أن يُحْمَدَ بما لم يفعل ، وأجدني أُحِبُّ الحمدَ. ونهى الله عن الخُيلاء ، وأجدني (1) أحب الجمال ، ونهى الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك ، وأنا (2) امرؤ جهوري الصوت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألا تَرْضى أن تَعِيش حَمِيدا ، وتُقْتَل شَهِيدا ، وتدخل الجنة ؟" قال : بلى يا رسول الله. فعاش (3) حميدا ، وقُتل شهيدا يوم مُسَيْلَمة الكذاب (4).
وقوله : { فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ } يقرأ بالتاء على مخاطبة المفرد ، وبالياء على الإخبار عنهم ، أي : لا تحسبون (5) أنهم ناجون من العذاب ، بل لا بد لهم منه ؛ ولهذا قال : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
ثم قال : { وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي : هو مالك كُل شيء ، والقادر على كل شيء فلا يعجزه شيء ، فهابوه ولا تخالفوه ، واحذروا نقمته وغضبه ، فإنه العظيم الذي لا أعظم منه ، القدير الذي لا أقدر منه.
{ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) }
قال الطبراني : حدثنا الحسن بن إسحاق التُسْتَرِي ، حدثنا يحيى الحِمَّاني ، حدثنا يعقوب القُمِّي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : أتت قريش اليهود فقالوا : بم جاءكم موسى ؟ قالوا : عصاه ويده بيضاء للناظرين. وأتوا النصارى فقالوا : كيف كان عيسى ؟ قالوا : كان يُبْرِئُ الأكمه والأبرص ويُحيي الموتى : فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : ادع لنا ربك يجعل لنا الصَّفا ذَهَبًا. فدعا ربه ، فنزلت هذه الآية : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ } فليتفكروا فيها (6)
__________
(1) في أ : "وإني".
(2) في ر ، أ ، و : "وإني".
(3) في ر ، أ ، و : "قال : فعاش".
(4) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (42) من طريق الزهري عن محمد بن ثابت به. ورواه الحاكم في المستدرك (1/234) من طريق إسماعيل بن محمد عن أبيه محمد بن ثابت به. ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (2270) "موارد" ، والطبراني في المعجم الكبير (2/67) كلاهما من طريق إسماعيل بن ثابت أن ثابت فذكره. ورواه عبد الرزاق في مصنفه برقم (20425) من طريق الزهري أن ثابت بن قيس فذكره مرسلا. ورواه مالك ومن طريق ابن عبد البر في الاستيعاب (2/75) من طريق الزهري عن إسماعيل بن محمد بن ثابت عن ثابت به. والأصح : الزهري عن محمد بن ثابت عن ثابت به ، وهي رواية ابن مردويه والطبراني في المعجم الأوسط برقم (42) وقد صرح محمد بن ثابت بالتحديث عند الطبراني فقال : حدثني ثابت بن قيس فذكره ، والحديث حسن إن شاء الله.
(5) في جـ ، ر ، أ ، و : "ولا تحسبوا".
(6) في المعجم الكبير للطبراني (12322) وقال الهيثمي في المجمع (6/332) : "وفيه يحيى الحماني وهو ضعيف".

(2/183)


. وهذا مُشْكل ، فإن هذه الآية مدنية. وسؤالهم أن يكون الصفا ذهبا كان بمكة. والله أعلم.
ومعنى الآية أنه يقول تعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي : هذه في ارتفاعها واتساعها ، وهذه في انخفاضها وكثافتها واتضاعها (1) وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات ، وثوابتَ وبحار ، وجبال وقفار وأشجار ونبات وزروع وثمار ، وحيوان ومعادن ومنافع ، مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخواص { وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } أي : تعاقبهما وتَقَارضهما الطول والقصر ، فتارة يطُول هذا ويقصر هذا ، ثم يعتدلان ، ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيرا ، ويقصر الذي كان طويلا وكل ذلك تقدير العزيز الحكيم (2) ؛ ولهذا قال : { لأولِي الألْبَابِ } أي : العقول التامة الذكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها ، وليسوا كالصم البُكْم الذين لا يعقلون الذين قال الله [تعالى] (3) فيهم : { وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ. وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [يوسف : 105 ، 106].
ثم وصف تعالى أولي الألباب فقال : { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ } كما ثبت في صحيح البخاري عن عِمْران بن حُصَين ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "صَلِّ قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لَم تستطع فَعَلَى جَنْبِكَ (4) (5) أي : لا يقطعون ذِكْره في جميع أحوالهم بسرائرهم وضمائرهم وألسنتهم { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي : يفهمون ما فيهما من الحكَم الدالة على عظمة الخالق وقدرته ، وعلمه وحكمته ، واختياره ورحمته.
وقال الشيخ أبو سليمان الداراني : إني لأخرجُ من منزلي ، فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله عَلَي فيه نِعْمَة ، أوْ لِي فيه عِبْرَة. رواه ابن أبي الدنيا في كتاب "التفكر (6) والاعتبار".
وعن الحسن البصري أنه قال : تَفَكُّر سَاعَة خير من قيام ليلة. وقال الفُضَيل : قال الحسن : الفكرة مِرْآة تريك حَسنَاتك وسيئاتك. وقال سفيان بن عيينة : الفكرة نور يدخل قلبك. وربما تمثل بهذا البيت :
إذا المرء كانت له فكْرَةٌ... ففي كل شيء له عبرَة...
وعن عيسى ، عليه السلام ، أنه قال : طُوبَى لمن كان قِيلُه تذكّرًا ، وصَمْته تَفكُّرًا ، ونَظَره عبرًا.
وقال لقمان الحكيم : إن طول الوحدة ألْهَمُ للفكرة ، وطولَ الفكْرة دليل على طَرْق باب الجنة.
وقال وهب بن مُنَبِّه : ما طالت فكرة امرِئ قط إلا فهم ، وما (7) فهم امرؤ قط إلا علم ، وما علم امرؤ قط إلا عمل.
__________
(1) في أ : "وكشافتها وإيضاعها".
(2) في جـ ، أ ، و : "العليم".
(3) زيادة من و.
(4) في جـ ، أ : "جنب".
(5) صحيح البخاري برقم (1115).
(6) في النسخ : "التوكل" ، والصحيح ما أثبتناه كما ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء (13/402) ومعجم مصنفات ابن أبي الدنيا الموجود بالظاهرية ، وسيأتي في نهاية المقطع مضبوطا. انظر ص 189.
(7) في ر : "ولا".

(2/184)


وقال عمر بن عبد العزيز : الكلام بذكر الله ، عز وجل ، حَسَن ، والفكرة في نعم الله أفضل العبادة.
وقال مغيث الأسود : زوروا القبور كل يوم تفكركم ، وشاهدوا الموقف بقلوبكم ، وانظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنة أو النار ، وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكر النار ومقامعها وأطباقها ، وكان يبكي عند ذلك حتى يُرْفع صَريعا من بين أصحابه ، قد ذهب عقله.
وقال عبد الله بن المبارك : مَرَّ رجل برَاهبٍ عند مَقْبَرة ومَزْبَلَة ، فناداه فقال : يا راهب ، إن عندك كَنزين من كنوز الدنيا لك فيهما مُعْتَبَر ، كنز الرجال وكنز الأموال.
وعن ابن عمر : أنه كان إذا أراد أن يتعاهد قلبه ، يأتي الخَرِبة فيقف على بابها ، فينادي بصوت حزين فيقول : أين أهْلُك ؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ } [القصص : 88].
وعن ابن عباس أنه قال : ركعتان مقتصدتان في تَفكُّر ، خير من قيام ليلة والقلب ساه (1).
وقال الحسن : يا ابن آدم ، كُلْ في ثلث بطنك ، واشرب في ثلثه ، ودع ثلثه الآخر تتنفَّس للفكرة.
وقال بعض الحكماء : من نظر إلى الدنيا بغير العبرة انطَمَسَ مِنْ بَصَرِ قلبه بقدر تلك الغَفْلَة.
وقال بِشْر بن الحارث الحافي : لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه.
وقال الحسن ، عن عامر بن عبد قيس قال : سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون : إن ضياء الإيمان ، أو نور الإيمان ، التفكر.
وعن عيسى ، عليه السلام ، أنه قال : يا ابن آدم الضعيف ، اتق الله حيثما كنت ، وكُنْ في الدنيا ضَيْفًا ، واتَّخِذِ المساجدَ بيتا ، وعَلِّم عينيك البكاء ، وجَسَدك الصَّبْر ، وقلبك الفِكْر ، ولا تهتم برزق غد.
وعن أمير المؤمنين عُمَرَ بن عبد العزيز ، رضي الله عنه ، أنه بكى يوما بين أصحابه ، فسُئل عن ذلك ، فقال : فَكَّرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها ، فاعتبرت منها بها ، ما تكاد شهواتها تَنْقَضي حتى تكدرها مرارتُها ، ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر إن فيها مواعظ لمن ادّكر.
وقال ابن أبي الدنيا : أنشدني الحُسَين بن عبد الرحمن : نزهَة المؤمن الفكَرْ... لذّة المؤمن العِبرْ...
نحمدُ اللهَ وَحْدَه... نحْنُ كل عَلَى خَطَرْ...
رُبّ لاهٍ وعُمْرُه... قد تَقَضّى وما شَعَرْ...
رُبّ عيش قَدْ كَانَ فو... ق المُنَى مُونقَ الزَهَرْ...
في خَرير (2) من العيُو... ن وَظل من الشَّجَرْ...
وسُرُور من النَّبا... ت وَطيب منَ الثَمَرْ...
غَيَّرَتْه وَأهْلَهُ (3) سرعةُ الدّهْر بالغَيرْ
__________
(1) في ر : "ساهي".
(2) في ر : "جرير".
(3) في ر : "وغيرت أهله".

(2/185)


...
نَحْمَد الله وحده... إنّ في ذا لمعتبر...
إن في ذَا لَعبرةً... للبيب إن اعْتَبَرْ...
وقد ذمّ الله تعالى مَنْ لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته ، فقال : { وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ. وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [يوسف : 105 ، 106] ومدح عباده المؤمنين : { الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } قائلين { رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا } أي : ما خلقت هذا الخلق عَبَثًا ، بل بالحق لتجزي (1) الذين أساؤوا بما عملوا ، وتجزي (2) الذين أحسنوا بالحسنى. ثم نزهوه عن العبث وخلق الباطل فقالوا : { سُبْحَانَكَ } أي : عَنْ أن تخلق شيئا باطلا { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } أي : يا من خَلَق الخلق بالحق والعدل يا من هو مُنزه عن النقائص والعيب والعبث ، قنا من (3) عذاب النار بحولك وقوتك وَقيضْنَا لأعمال ترضى بها عنا ، ووفقنا لعمل صالح تهدينا به إلى جنات النعيم ، وتجيرنا به من عذابك الأليم.
ثم قالوا : { رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } أي : أهنته وأظهرت خزيه لأهل الجمع { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } أي : يوم القيامة لا مُجِير لهم منك ، ولا مُحِيد لهم عما أردت بهم.
{ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإيمَانِ } أي : داعيا يدعو إلى الإيمان ، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم { أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا } أي يقول : { آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا } أي : فاستجبنا له واتبعناه { رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } أي : بإيماننا واتباعنا نبيك فاغفر لنا ذنوبنا ، أي : استرها { وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا } أي : فيما بيننا وبينك { وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ } أي : ألحقنا بالصالحين { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ } قيل : معناه : على الإيمان برسلك. وقيل : معناه : على ألسنة رسلك. وهذا أظهر.
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا أبو اليمان ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن عمرو بن محمد ، عن أبي عِقَال ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "عَسْقَلان أحد العروسين ، يبعث الله منها يوم القيامة سبعين (4) ألفًا لا حساب عليهم ، ويبعث منها خمسين (5) ألفا شهداء وُفُودًا إلى الله ، وبها صُفُوف الشهداء ، رؤوسهم مُقَّطعة في أيديهم ، تَثِجّ أوداجهم دما ، يقولون : { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } فيقول : صَدَق عبدي ، اغسلوهم بنهر البيضة. فيخرجون منه نقاء بيضًا ، فيسرحون في الجنة حيث شاؤوا".
وهذا الحديث يُعد من غرائب المسند ، ومنهم من يجعله موضوعا ، والله أعلم (6).
__________
(1) في جـ ، ر ، أ ، و : "ليجزي".
(2) في ر ، أ ، و : "يجزي".
(3) في أ : "فقنا".
(4) في ر : "سبعون".
(5) في جـ ، ر ، أ : "خمسون".
(6) المسند (3/225) وقد ذكره ابن الجوزي في الموضوعات (2/54) وقال : "هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجميع طرقه تدور على أبي عقال واسمه : هلال بن زيد بن يسار. قال ابن حبان : يروي عن أنس أشياء موضوعة ما حدث أنس بها قط ، لا يجوز الاحتجاج به بحال" ، وذكره الذهبي في الميزان (4/313) وقال : "باطل". وانظر كلام الحافظ ابن حجر في : القول المسدد برقم (8) فقد ذكر أن الحديث في فضائل الأعمال والتحريض على الرباط في سبيل الله وأن التسامح في رواية مثله طريقة الإمام أحمد - رحمه الله - ثم ساق له شواهد ، فراجعها إن شئت.

(2/18)


{ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : على رؤوس الخلائق { إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ } أي : لا بد من الميعاد الذي أخبرتَ عنه رسُلَك ، وهو القيام يوم القيامة بين يديك.
وقد قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا الحارث بن سُرَيْج (1) حدثنا المعتمر ، حدثنا الفضل بن عيسى ، حدثنا محمد بن المنكدر ؛ أن جابر بن عبد الله حدثه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "العار والتخزية تبلغ (2) من ابن آدم في القيامة في المقام بين يدي الله ، عز وجل ، ما يتمنى العبد أن يؤمر به إلى النار" حديث غريب (3).
وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ هذه الآيات العشر من آخر آل عمران إذا قام من الليل لتهجده ، فقال البخاري ، رحمه الله :
حدثنا سعيد بن أبي مريم ، حدثنا محمد بن جعفر ، أخبرني شريك بن عبد الله بن أبي نَمْر ، عن كُرَيب عن ابن عباس قال : بت عند خالتي ميمونة ، فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ثم رقد ، فلما كان ثُلث الليل الآخر قَعد فنظر إلى السماء فقال : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ } ثم قام فتوضأ واستن. فصلى إحدى عَشْرَة (4) ركعة. ثم أذّن بلالٌ فصلى ركعتين ، ثم خرج فصلى بالناس الصبح.
وكذا رواه مسلم عن أبي بكر بن إسحاق الصنعاني ، عن ابن أبي مريم ، به (5) ثم رواه البخاري من طُرقٍ عن مالك ، عن مَخْرَمَة بن سليمان ، عن كريب ، عن ابن عباس (6) أنه بات عند ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي خالته ، قال : فاضطجعت في عَرْض الوسادة ، واضطجع (7) رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله في طُولها ، فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا انتصف الليل - أو قبله بقليل ، أو بعده بقليل - استيقظَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من منامه ، فجعل يمسحُ النومَ عن وجهه بيده ، ثم قرأ العشر الآيات الخواتيمَ من سُورة آل عمران ، ثُم قام إلى شَنّ معلقة فتوضأ منها فأحسن وُضُوءه (8) ثم قام يصلّي - قال ابن عباس : فقمت فصنعت مثل ما صنع ، ثم ذَهَبتُ فقمت إلى جَنْبه - فوضع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يَدَه اليمنى على رأسي ، وأخذ بأذني اليمنى يَفْتلُها (9) فصلى ركعتين ، ثم ركعتين ، ثم ركعتين ، ثم ركعتين ، ثم ركعتين ، ثم ركعتين ثم أوتر ، ثم اضطجع حتى جاءه المؤذن ، فقام فصلى ركعتين خفيفتين ، ثم خَرَجَ فصلّى الصبح.
وهكذا أخرجه بقية الجماعة من طُرُق عن مالك ، به (10) ورواه مسلم أيضًا وأبو داود من وجوه أخرَ ، عن مخرمة بن سليمان ، به (11).
__________
(1) في جـ ، ر : "شريح".
(2) في جـ ، ر : "يبلغ".
(3) مسند أبي يعلى (3/311) وقال الهيثمي في المجمع (10/350) : "وفيه الفضل بن عيسى الرقاشي ، وهو مجمع على ضعفه".
(4) في ر : "عشر" والصحيح ما أثبتناه.
(5) صحيح البخاري برقم ( 4569) وصحيح مسلم برقم (763).
(6) في جـ ، رأ ، و : "ابن عباس أخبره".
(7) في جـ : "فاضطجع".
(8) في أ : "الوضوء".
(9) في جـ ، ر ، أ ، و : "ففتلها".
(10) صحيح البخاري برقم (4570 ، 4571) وصحيح مسلم برقم (763) وسنن أبي داود برقم (1367) وسنن النسائي (3/210) وسنن ابن ماجة برقم (1363) وأما الترمذي فرواه في الشمائل برقم (252).
(11) صحيح مسلم برقم (763) وسنن أبي داود برقم (1364).

(2/187)


" طريق أخرى " لهذا الحديث عن ابن عباس [رضي الله عنهما] (1).
قال أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن أحمد بن محمد بن علي ، أخبرنا أبو يحيى بن أبي مسرَّة (2) أنبأنا خَلاد بن يحيى ، أنبأنا يونس بن أبي إسحاق ، عن المنهال بن عَمْرو ، عن علي بن عبد الله بن عباس ، عن عبد الله بن عباس (3) قال : أمرني العباس أن أبيت بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحفظ صلاته. قال : فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة العشاء الآخرة ، حتى إذا لم يبق في المسجد أحد غيره قام (4) فمرّ بي ، فقال : "من هذا ؟ عبد الله ؟" فقلت (5) نعم. قال : "فَمَه ؟" قلت : أمرني العباسُ أن أبيت بكم الليلة. قال : "فالحق الحق" فلما (6) أن دخل قال : "افرشَنْ عبد الله ؟" فأتى بوسادة من مسوح ، قال فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها حتى سَمعتُ غَطِيطه ، ثم استوى على فراشه قاعدا ، قال : فَرَفَع رأسَه إلى السماء فقال : "سُبحان الملك القدوس" ثلاث مرات ، ثم تلا هذه الآيات من آخر سورة آل عمران حتى ختمها.
وقد روى مسلم وأبو داود والنسائي ، من حديث علي بن عبد الله بن عباس (7) حديثا (8) في ذلك أيضا (9).
طريق أخرى رواها ابن مَرْدُويَه ، من حديث عاصم بن بَهْدَلَة ، عن بعض أصحابه ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة بعد ما مَضى ليل ، فنظر إلى السماء ، وتلا هذه الآية : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ } إلى آخر السورة. ثم قال : "اللهم اجعل في قلبي نُورا ، وفي سَمْعي نورا ، وفي بَصَري نورا ، وعن يميني نورا ، وعن شمالي نورا ، ومن بين يَدَيّ نورا ، ومن خَلْفي نورا ، ومن فَوْقي نورا ، ومن تحتي نورا ، وأعْظِم لي نورا يوم القيامة " وهذا الدعاء (10) ثابت في بعض طرق الصحيح ، من رواية كُريب ، عن ابن عباس ، رضي الله عنه. (11).
ثم روى ابن مَرْدُويَه وابن أبي حاتم من حديث جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : أتت قريش اليهود فقالوا : بما جاءكم موسى من الآيات ؟ قالوا : عصاه ويده البيضاء (12) للناظرين. وأتوا النصارى فقالوا : كيف كان عيسى فيكم ؟ قالوا : كان يُبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى. فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : ادع لنا ربك (13) يجعل لنا الصَّفَا ذَهَبًا. فدعا ربه ، عز وجل ، فنزلت : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ } قال : "فليتفكروا فيها" (14) لفظ ابن مَرْدُويَه.
__________
(1) زيادة من و.
(2) في أ : "ميسرة".
(3) في أ : "عن أبيه" وفي و : "عن ابن عباس".
(4) في و : "قال".
(5) في جـ ، ر : "قلت".
(6) في ر ، أ ، و : "قال : فلما".
(7) في جـ ، ر ، أ ، و : عباس عن أبيه".
(8) في ر : "حدثنا".
(9) صحيح مسلم برقم (763) وسنن أبي داود برقم (1353) وسنن النسائي (3/236).
(10) في إسناده عاصم وقد تكلم فيه وشيخه مجهول. ورواه البخاري في صحيحه برقم (4569) ومسلم في صحيحه برقم (763) من طريق كريب عن ابن عباس بنحوه.
(11) في و : "عنهما".
(12) في جـ ، ر ، أ ، و : "بيضاء".
(13) في أ ، ر : "ربك أن".
(14) ورواه ابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن المنذر كما في الدر (2/407). قال الحافظ ابن حجر في الفتح (8/235) : "رجاله ثقات إلا الحماني فإنه متكلم فيه ، وقد خالفه الحسن بن موسى ، فرواه عن يعقوب عن جعفر عن سعيد مرسلا وهو أشبه ، وعلى تقدير كونه محفوظا وصله ، ففيه إشكال من جهة أن هذه السورة مدنية وقريش من أهل مكة ، ويحتمل أن يكون سؤالهم لذلك بعد أن هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولا سيما زمن الهدنة".

(2/188)


وقد تقدم سياق الطبراني لهذا الحديث في أول الآية ، وهذا يقتضي أن تكون (1) هذه الآيات مكية ، والمشهور أنها مدنية ، ودليله الحديث الآخر ، قال ابن مَرْدويه :
حدثنا إسماعيل بن علي بن إسماعيل ، أخبرنا أحمد بن على الحراني ، حدثنا شجاع بن أشرس ، حدثنا حَشْرج بن نباتة الواسطي أبو مكرم ، عن الكلبي - هو أبو جَنَاب (2) [الكلبي] (3) - عن عطاء قال : انطلقت أنا وابن عمر وعُبَيد بن عُمَير إلى عائشة ، رضي الله عنها ، فدخلنا عليها وبيننا وبينها حجاب ، فقالت : يا عبيد ، ما يمنعك من زيارتنا ؟ قال : قول الشاعر :
زُر غبّا تزدد حُبّا...
فقال ابن عمر : ذرينا (4) أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فَبَكَتْ وقالت : كُلُّ أمره كان عجبا ، أتاني في ليلتي حتى مس جلده جلدي ، ثم قال : ذريني أتعبد لربي [عز وجل] (5) قالت : فقلت : والله إني لأحب قربك ، وإني أحب (6) أن تَعبد لربك. فقام إلى القربة فتوضأ ولم يكثر صب الماء ، ثم قام يصلي ، فبكى حتى بل لحيته ، ثم سجد فبكى حتى بَل الأرض ، ثم اضطجع على جنبه فبكى ، حتى إذا أتى بلال يُؤذنه بصلاة الصبح قالت : فقال : يا رسول الله ، ما يُبكيك ؟ وقد غفر الله لك ذنبك ما تقدم وما تأخر ، فقال : "ويحك يا بلال ، وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل (7) عليّ في هذه الليلة : { إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأولِي الألْبَابِ } " ثم قال : "ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها".
وقد رواه عَبْد بن حُمَيد ، عن (8) جعفر بن عَوْن ، عن أبي (9) جَنَاب (10) الكلبي عن (11) عطاء ، بأطول من هذا وأتم سياقا (12).
وهكذا رواه أبو حاتم ابن حبان في صحيحه ، عن عمران بن موسى ، عن عثمان بن أبي شيبة ، عن يحيى بن زكريا ، عن إبراهيم بن سُوَيد النَّخعي ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء قال : دخلت أنا [وعبد الله بن عمر] (13) وعُبَيد بن عُمَير على عائشة (14) فذكر (15) نحوه.
وهكذا رواه عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا في كتاب "التفكر والاعتبار" عن شجاع بن أشرص ، به. ثم قال : حدثني الحسن بن عبد العزيز : سمعت سُنَيْدًا يذكر عن سفيان - هو الثوري - رفعه قال : من قرأ آخر آل عمران فلم يتفكر فيه ويْلَه. يعد بأصابعه عشرا. قال الحسن بن عبد العزيز : فأخبرني
__________
(1) في ر : "يكون".
(2) في أ : "حبان".
(3) زيادة من ر.
(4) في جـ ، ر : "ذرنا"
(5) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(6) في جـ ، ر ، أ : "لأحب".
(7) في أ : : أنزل الله".
(8) في و : "طريق أخرى : قال عبد بن حميد في تفسيره : أنبأنا".
(9) في و : "حدثنا أبو".
(10) في جـ ، ر : "حباب".
(11) في و : "حدثنا".
(12) ومن طريق ابن مردويه رواه الأصبهاني في الترغيب والترهيب برقم (666) فقال : أخبرنا أحمد الذكواني ، أنبأنا أحمد بن موسى ابن مردويه ، فذكره. وفي إسناده أبو جناب الكلبي تفرد به وهو ضعيف.
(13) زيادة من و.
(14) في و : "على أم المؤمنين".
(15) في جـ : "فذكره".

(2/189)


عُبَيد بن السائب قال : قيل للأوزاعي : ما غاية التفكر فيهن ؟ قال : يقرأهن وهو يعقلهن.
قال ابن أبي الدنيا : وحدثني قاسم بن هاشم ، حدثنا علي بن عَيَّاش ، حدثنا عبد الرحمن بن سليمان قال : سألت الأوزاعي عن أدنى ما يَتَعلق به المتعلق من الفكر فيهن وما ينجيه من هذا الويل ؟ فأطرق هُنَيّة (1) ثم قال : يقرؤهن وهو يَعْقلُهُن.
[حديث آخر فيه غرابة : قال أبو بكر بن مردويه : أنبأنا عبد الرحمن بن بشير بن نمير ، أنبأنا إسحاق بن إبراهيم البستي ح وقال : أنبأنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد ، حدثنا أحمد بن عمرو قالا أنبأنا هشام بن عمار ، أنبأنا سليمان بن موسى الزهري ، أنبأنا مظاهر بن أسلم المخزومي ، أنبأنا سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل عمران كل ليلة. مظاهر بن أسلم ضعيف] (2).
__________
(1) في جـ : "هنيهة".
(2) زيادة من أ ، و.

(2/190)


فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)

{ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) }
يقول تعالى : { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ } أي : فأجابهم ربهم ، كما قال الشاعر : وداعٍ دعا : يَا مَن يجيب إلى النّدى... فَلم يَسْتجبْه عنْد ذاك مجيب (1)...
قال سعيد بن منصور : حدثنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن سلمة ، رجل من آل أم سلمة ، قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله ، لا نَسْمَع اللهَ ذَكَر النساء في الهجرة بشيء ؟ فأنزل الله [عز وجل] (2) { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى } إلى آخر الآية. وقالت الأنصار : هي أول ظعينة قَدمت علينا.
وقد رواه الحاكم في مستدركه من حديث سفيان بن عُيَيْنة ، ثم قال : صحيح على شرط البخاري ، ولم يخرجاه (3).
وقد روى ابن أبي نَجيح ، عن مجاهد ، عن أم سَلَمة قالت : آخر آية أنزلت هذه الآية : { فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } إلى آخرها. رواه ابن مَرْدُويَه.
ومعنى الآية : أن المؤمنين ذوي الألباب لما سألوا - مما تقدم ذكره - فاستجاب لهم ربهم - عقب ذلك بفاء التعقيب ، كما قال تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } [البقرة : 186].
__________
(1) البيت في تفسير الطبري (7/488) وهو لكعب بن سعد الغنوي.
(2) زيادة من أ.
(3) سنن سعيد بن منصور برقم (552) والمستدرك (2/300) ورواه عبد الرزاق في تفسيره (1/144) ومن طريقه ابن جرير في تفسيره (7/488) ولم يذكر قوله : "وقالت الأنصار إلى آخره" من طريق سفيان بنحوه.

(2/190)


وقوله : { أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى } هذا تفسير للإجابة ، أي قال لهم مُجِيبًا (1) لهم : أنه لا يضيع عمل عامل لديه ، بل يُوَفّي كل عامل بقسط عمله ، من ذكر أو أنثى.
وقوله : { بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } أي : جميعكم في ثوابي سَواء { فَالَّذِينَ هَاجَرُوا } أي : تركوا دار الشِّرك وأتَوا إلى دار الإيمان وفارقوا الأحباب والخلان والإخوان والجيران ، { وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ } أي : ضايقهم المشركون بالأذى حتى ألجؤوهم إلى الخروج من بين أظهرهم ؛ ولهذا قال : { وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي } أي : إنما كان ذنْبُهم إلى الناس أنهم آمنوا بالله وحده ، كما قال تعالى : { يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ } [الممتحنة : 1]. وقال تعالى : { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [البروج : 8].
وقوله : { وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا } وهذا أعلى المقامات أن يقاتل في سبيل الله ، فيُعْقَر جَواده ، ويعفَّر وجهه بدمه وترابه ، وقد ثبت في الصحيح أن رجلا قال : يا رسول الله ، أرأيت إن قُتلت في سبيل الله صابرا مُحْتَسبا مُقْبلا غير مُدبِر ، أيُكَفِّر الله عني خطاياي ؟ قال : "نعم" ثم قال : "كيف قلت ؟" : فأعاد عليه (2) ما قال ، فقال : "نعم ، إلا الدَّين ، قاله لي جبريل آنفًا".
ولهذا قال تعالى : { لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } أي : تجري في خلالها الأنهار من أنواع المشارب ، من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن وغير ذلك ، مما لا عَيْنَ رَأتْ ، ولا أذن سَمِعت ، ولا خَطَر على قلب بَشَر.
وقوله : { ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } أضافه إليه ونسبه إليه لِيدل على أنه عظيم ؛ لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جَزيلا كثيرًا ، كما قال الشاعر : إن يُعَذب يَكُن غَرامًا وإن يُعْ... طِ جَزيلا فإنَّه لا يُبَالي...
وقوله : { وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ } أي : عنده حُسْن الجزاء لمن عمل صالحا.
قال ابن أبي حاتم : ذكر عن دُحَيم بن إبراهيم : حدثنا الوليد بن مسلم ، أخبرني حَرِيز (3) بن عثمان : أن شداد بن أوس كان يقول : يا أيها الناس ، لا تَتهِموا الله في قضائه ، فإنه (4) لا يبغي على مؤمن ، فإذا نزل بأحدكم شيء مما يُحِب فليحْمَد الله ، وإذا أنزل (5) به شيء مما يكره فَليَصْبر وليحتسب ، فإن الله عنده حسن الثواب.
__________
(1) في جـ ، ر ، أ ، و : "مخبرا".
(2) في أ ، و : "قال : فأعاد عليه".
(3) في جـ ، ر : "جرير".
(4) في أ : "فإن الله" ، وفي و : "فالله".
(5) في جـ ، ر ، أ : "نزل".

(2/191)


لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)

{ لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نزلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأبْرَارِ (198) }
يقول تعالى : لا تنظروا (1) إلى ما هؤلاء الكفار مُتْرفون فيه ، من النِّعْمَة والغِبْطَة والسرور ، فعَمّا قليل يزول هذا كله عنهم ، ويصبحون مُرتَهنين بأعمالهم السيئة ، فإنما نَمُدّ لهم فيما هم فيه استدراجا ، وجميع ما هم فيه { مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ }
وهذه الآية كقوله تعالى : { مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ } [غافر : 4] ، وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ. مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } [يونس : 69 ، 70] ، وقال تعالى : { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ } [لقمان : 24] ، وقال تعالى : { فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا } [الطارق : 17] ، أي : قليلا وقال تعالى : { أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ } [القصص : 61].
وهكذا لما ذكر حال الكفار في الدنيا وذكر مآلهم إلى النار قال بعده : " { لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نزلا } أي : ضيافة من عند الله { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأبْرَارِ }
وقال (2) ابن مَرْدُويه : حدثنا أحمد بن نصر (3) أخبرنا أبو طاهر سهل بن عبد الله ، أنبأنا (4) هشام بن عَمَّار ، أنبأنا سعيد بن يحيى ، أنبأنا عُبَيد الله بن الوليد الوصافي (5) عن مُحَارب بن دِثَار ، عن عَبْد الله بن عمرو بن العاص ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إنما سُمّوا الأبرار لأنهم بَرّوا الآباء والأبناء ، كما أن لوالديك عليك حقا ، كذلك لولدك عليك حق".
كذا رواه ابن مَرْدُويه عن عَبْد الله بن عمرو بن العاص مرفوعا (6) وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن جَنَاب ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن عُبَيد الله بن الوليد الوصافي (7) عن محارب بن دثار عن ابن عمر قال : إنما سماهم الله أبرارا لأنهم بَرّوا الآباء والأبناء ، كما أن لوالديك (8) عليك حقا ، كذلك لولدك عليك حق ، وهذا أشبه والله أعلم (9).
ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا هشام الدَّسْتَوائي ، عن رجل ، عن الحسن قال : الأبرار الذين لا يؤذون الذَّرّ.
وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن خيْثَمَة ، عن الأسود قال : قال عبد الله - يعني ابن مسعود - : ما من نَفْس بَرّة ولا فاجرة إلا الموت خيرٌ لها ، لئن كان برا لقد قال الله : { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأبْرَارِ }
__________
(1) في ر : "تنظر".
(2) في جـ ، أ ، و : "قال".
(3) في جـ ، أ : "نصير".
(4) في جـ : "ابن".
(5) في جـ : "عبد الله بن الوليد الرصافي".
(6) وهو غير محفوظ ، وإنما المحفوظ عن ابن عمر ، وقد تفرد به أبو طاهر سهل بن عبد الله.
(7) في جـ : "عبد الله بن الوليد الرصافي".
(8) في أ ، و : "لوالدك".
(9) ورواه ابن عدي في الكامل (4/323) من طريق محمد بن خريم عن هشام بن عمار عن سعيد بن يحيى عن عبيد الله بن الوليد الوصافي عن محارب بن دثار عن عبد الله بن عمر بن الخطاب مرفوعا. ورواه البخاري في الأدب المفرد برقم (94) من طريق عبيد الله بن الوليد الوصافي عن محارب بن دثار عن عبد الله بن عمر بن الخطاب موقوفا. قال السيوطي في الدر (2/416) : "ووقفه أصح". وفي إسناده عبيد الله بن الوليد الوصافي متفق على ضعفه. وقال ابن عدي : "ضعيف جدا يتبين ضعفه على حديثه".

(2/192)


وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)

وكذا رواه عبد الرزاق ، عن الأعمش ، عن الثوري ، به ، وقرأ : { وَلا يَحْسَبَنَّ (1) الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } [آل عمران : 178].
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن فرج بن فضالة ، عن لقمان ، عن أبي الدرداء أنه كان يقول : ما من مؤمن إلا والموت خير له ، وما من كافر إلا والموت خير له ، ومن لم يصدقني فإن الله يقول : { وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلأبْرَارِ } ويقول : { وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ }
{ وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) }
يخبرُ تعالى عن طائفة من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالله حق الإيمان ، وبما أنزل على محمد ، مع ما هم يؤمنون به من الكتب المتقدمة ، وأنهم خاشعون لله ، أي : مطيعون له خاضعون متذللون بين يديه ، { لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا } أي : لا يكتمون بأيديهم من البشارات بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وذكر صفته ونعته ومبعثه وصفة أمته ، وهؤلاء هم خيرة أهل الكتاب وصفوتهم ، سواء كانوا هودًا أو نصارى. وقد قال تعالى في سورة القصص : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ. وَإِذَا يُتْلَى (2) عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ. أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا } الآية [القصص : 52 - 54] ، وقال تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } الآية [البقرة : 121] ، وقال : { وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [الأعراف : 159] ، وقال تعالى : { لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } [آل عمران : 113] ، وقال تعالى : { قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا. وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا. وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } [الإسراء : 107 - 109] ، وهذه الصفات توجد في اليهود ، ولكن قليلا كما وجد في عبد الله بن سلام وأمثاله ممن آمن من أحبار اليهود ولم يبلغوا عَشْرَةَ أنفُس ، وأما النصارى فكثير منهم مهتدون وينقادون للحق ، كما قال تعالى : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى [ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ. وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ. وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ. (3) ] فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا } الآية [المائدة : 82 - 85] ، وهكذا قال هاهنا : { أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ] (4) } الآية.
__________
(1) في أ : "ولا تحسبن".
(2) في جـ أ : "تتلى".
(3) زيادة من جـ ، ر ، و. وفي هـ : "إلى قوله تعالى".
(4) زيادة من جـ ، ر ، أ.

(2/193)


وقد ثبت في الحديث أن جعفر بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، لَمّا قرأ سورة { كهيعص } بحضرة النجاشي ملك الحبشة ، وعنده البطاركة والقساوسة (1) بَكَى وبَكَوْا معه ، حتى أخْضَبُوا (2) لِحَاهُم.
وثبت في الصحيحين أن النجاشي لما مات نَعَاه النبي (3) صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه ، وقال : "إن أخًا (4) لكم بالحبشة قد مات فصَلُّوا عليه". فخرج [بهم] (5) إلى الصحراء ، فَصفَّهم ، وصلّى عليه (6).
وروى ابن أبي حاتم والحافظ أبو بكر بن مردويه من حديث حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك قال : لما تُوُفي النجاشي قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : استغفروا لأخيكم. فقال بعض الناس : يأمرنا أن نستغفر لِعِلْج مات بأرض الحبشة. فنزلت : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ } الآية.
ورواه عبد بن حميد وابن (7) أبي حاتم من طريق أخرى عن حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن الحسن (8) عن النبي صلى الله عليه وسلم (9). ثم رواه ابن مَرْدويه [أيضا] (10) من طرق عن حُمَيْد ، عن أنس بن مالك نحو ما تقدم (11).
ورواه أيضًا ابن (12) جرير من حديث أبي بكر الهُذَلي ، عن قَتَادة ، عن سعيد بن المُسَيَّب ، عن جابر قال : قال [لنا] (13) رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مات النجاشي : "إن أخاكم أصْحَمة قد مات". فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فصلَّى كما يُصَلِّي على الجنائز فكبر عليه أربعا ، فقال المنافقون : يصلي على علج مات بأرض الحبشة : فأنزل الله [عز وجل] (14) { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ [وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ] (15) } (16).
وقد روى الحافظُ أبو عبد الله الحاكم في مستدركه أنبأنا أبو العباس السياري بمرو ، حدثنا عبد الله بن علي الغزال ، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق ، حدثنا ابن المبارك ، أنبأنا مصعب بن ثابت ، عن عامر بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه قال : نزل بالنجاشي عَدُوّ من أرضهم ، فجاءه المهاجرون فقالوا : نحب (17) أن نَخْرُجَ إليهم حتى نقاتل معك ، وترى جرأتنا ، ونجزيك بما صنعت بنا. فقال : لا دواء
__________
(1) في جـ ، ر : "القساقسة".
(2) في جـ ، ر : "أخضلوا".
(3) في جـ ، ر ، أ ، و : "رسول الله".
(4) في جـ : "أخاكم".
(5) زيادة من جـ ، أ ، و.
(6) صحيح البخاري برقم (1320) وصحيح مسلم برقم (952) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(7) في ر : "عن".
(8) في جـ ، ر : "أنس".
(9) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (2688) من طريق مؤمل بن إسماعيل عن حماد بن سلمة به. ثم قال : "لم يروه عن حماد إلا مؤمل".
(10) زيادة من أ ، و.
(11) ورواه الطبراني في الأوسط برقم (3928) "مجمع البحرين" من طريق أبي بكر بن عياش عن حميد عن أنس به. قال الهيثمي في المجمع (3/38) : "رجاله ثقات". ورواه الواحدي في الوسيط (1/536) من طريق معتمر بن سليمان عن حميد عن أنس به.
(12) في ر : "وابن".
(13) زيادة من جـ ، ر.
(14) زيادة من جـ ، أ.
(15) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(16) تفسير الطبري (7/496).
(17) في جـ ، ر : "إنا نحب".

(2/194)


بنصرة الله عز وجل خَيْر من دواء بنصرة الناس. قال : وفيه نزلت : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ } الآية ، ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه (1).
وقال أبو داود : حدثنا محمد بن عَمْرو الرازي ، حدثنا سلمة بن الفضل ، عن محمد بن إسحاق ، حدثني يزيد بن رومان ، عن عروة ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : لما مات النجاشي كنا نُحَدِّث أنه لا يزال يرى على (2) قبره نور (3).
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ } يعني : مسلمة أهل الكتاب.
وقال عَباد بن منصور : سألت الحسن البصري عن قوله تعالى : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ [وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ ] } (4) الآية. قال : هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، فاتبعوه وعرفوا الإسلام ، فأعطاهم الله تعالى أجر اثنين (5) للذي (6) كانوا عليه من الإيمان (7) قبل محمد صلى الله عليه وسلم وبالذي اتبعوا محمدًا صلى الله عليه وسلم. رواهما ابن أبي حاتم.
وقد ثبت في الصحيحين ، عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ثلاثة يُؤتَوْنَ أجرَهم مرتين" فذكر منهم : "ورجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي" (8).
وقوله : { لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا } أي : لا يكتمون ما بأيديهم من العلم ، كما فعله الطائفة المرذولة منهم (9) بل يبذلون ذلك مجانا ؛ ولهذا قال : { أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }
قال مجاهد : { سَرِيعُ الْحِسَابِ } يعني : سريع الإحصاء. رواه ابن أبي حاتم وغيره.
وقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } قال الحسن البصري ، رحمه الله : أمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم ، وهو الإسلام ، فلا يدعوه لسرّاء ولا لضرّاءَ ولا لشِدَّة ولا لرِخَاء ، حتى يموتوا مسلمين ، وأن يصابروا الأعداء الذين يكتمون (10) دينهم. وكذلك قال غير واحد من علماء السلف.
وأما المرابطة فهي المداومة في مكان العبادة والثبات. وقيل : انتظار الصلاة بعد الصلاة ، قاله [مجاهد و] (11) ابن عباس وسهل بن حُنَيف ، ومحمد بن كعب القُرَظي ، وغيرهم.
وروى ابن أبي حاتم هاهنا الحديث الذي رواه مسلم والنسائي ، من حديث مالك بن أنس ، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب ، مولى الحُرَقَة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ألا
__________
(1) المستدرك (2/300) وأقره الذهبي.
(2) في جـ ، أ : "في".
(3) سنن أبي داود بررقم (2523).
(4) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(5) في جـ ، ر : "إحدى اثنتين".
(6) في أ : "للذين".
(7) في جـ ، ر ، أ ، و : "الإسلام".
(8) صحيح البخاري برقم (97) وصحيح مسلم برقم (154).
(9) في أ : "بينهم".
(10) في ر ، أ ، و ، "يملون".
(11) زيادة من و.

(2/195)


أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ، ويرفع به الدرجات ؟ إسباغُ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخُطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرِّبَاط ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط" (1).
وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد ، حدثنا موسى بن إسحاق حدثنا أبو جُحَيْفة (2) علي ابن يزيد الكوفي ، أنبأنا ابن أبي كريمة ، عن محمد بن يزيد (3) عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : أقبل عليَّ أبو هريرة يوما فقال : أتدري يا ابن أخي فيم نزلت (4) هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } ؟ قلت : لا. قال : أما إنه لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه ، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد ، يصلون الصلاة في مواقيتها ، ثم يذكرون الله فيها ، فعليهم أنزلت : { اصْبِرُوا } أي : على الصلوات الخمس { وَصَابِرُوا } [على] (5) أنفسكم وهواكم { وَرَابِطُوا } في مساجدكم { وَاتَّقُوا اللَّهَ } فيما عليكم { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (6).
وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من طريق سعيد بن منصور بن المبارك عن مصعب بن ثابت ، عن داود بن صالح ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة - بنحوه (7).
وقال ابن جرير : حدثني أبو السائب ، حدثني ابن فضيل (8) عن عبد الله بن سعيد المقبري ، عن جده ، عن شرحبيل ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألا أدلكم على ما يُكَفِّر الذنوب والخطايا ؟ إسْباغُ الوُضُوء على المكاره ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرِّباط" (9).
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا موسى بن سَهْل الرملي ، حدثنا يحيى بن واضح ، حدثنا محمد بن مُهاجر ، حدثني يحيى بن يزيد ، عن زيد بن أبي أُنَيْسَة ، عن شُرَحْبيل ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألا أدُلُّكم على ما يَمْحُو الله به الخطايا ويُكفّر به الذنوب ؟" قلنا : بلى يا رسول الله. قال : "إسباغ الوُضوء في أماكنها ، وكثرة الخُطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرِّباط" (10).
وقال ابن مَرْدُويه : حدثني محمد بن علي ، أنبأنا محمد بن عبد الله بن (11) السلام البيروتي ، أنبأنا محمد بن غالب الأنطاكي ، أنبأنا عثمان بن عبد الرحمن ، أنبأنا الوازع بن نافع ، عن أبي سلمة
__________
(1) رواه مالك في الموطأ في قصر الصلاة برقم (55) ومن طريقه مسلم في صحيحه برقم (251) والنسائي في السنن الكبرى برقم (139).
(2) في جـ : "حجية" ، وفي أ : "جحيفة".
(3) في أ : "سويد".
(4) في جـ ، ر ، أ ، و : "أنزلت".
(5) زيادة من أ.
(6) ذكره السيوطي في الدر (2/417) وعزاه لابن مردويه.
(7) المستدرك (2/301) وقال : "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وأقره الذهبي. ورواه الطبري في تفسيره (7/504) من طريق ابن المبارك عن مصعب بن ثابت عن داود من كلام أبي سلمة كما سيأتي.
(8) في ر : "فضل".
(9) تفسير الطبري (7/505) وفي إسناده المقبري : عبد الله بن سعيد ، ضعيف ورمى بالكذب.
(10) تفسير الطبري (7/505 ، 506) ورواه البزار (1/223) "كشف الأستار" وقال : "لا نعلم يروى هذا عن جابر بغير هذا الإسناد" ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (161) "موارد" كلاهما من طريق محمد بن سلمة عن خالد بن يزيد عن محمد بن سلمة به.
(11) في جـ ، ر ، أ ، و : "عبد الله بن عبد السلام".

(2/196)


بن عبد الرحمن ، عن أبي أيوب ، رضي الله عنه ، قال : وقف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "هل لكم (1) إلى ما يمحو الله به الذنوب ويعظم به الأجر ؟" قلنا : نعم ، يا رسول الله ، وما هو ؟ قال : "إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة".
قال : "وهو قول الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فذلك هو الرباط في المساجد" وهذا حديث غريب من هذا الوجه جدًا (2).
وقال عبد الله بن المبارك ، عن مُصْعَب بن ثابت بن عبد الله بن الزُّبَيْر ، حدثني داود بن صالح قال : قال لي أبو سلمة بن عبد الرحمن : يا ابن أخي ، هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية { اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا } ؟ قال : قلت : لا. قال : إنه - يا ابن أخي - لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غَزْو يُرَابَطُ فيه ، ولكنه انتظار الصلاة بعد الصلاة. رواه ابن جرير ، وقد تقدم سياقُ ابن مَرْدُويه ، وأنه من كلام أبي هريرة ، فالله أعلم.
وقيل : المراد بالمرابطة هاهنا مرابطة الغزو في نُحور العدو ، وحفظ ثُغور الإسلام وصيانتها عن دخول الأعداء إلى حَوْزَة بلاد المسلمين ، وقد وردت الأخبار بالترغيب في ذلك ، وذِكْر كثرة الثواب فيه ، فرَوَى البخاري في صحيحه عن سَهْل بن سَعْد الساعدي ، رضي الله عنه (3) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "رباطُ يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها" (4).
حديث آخر : روى مسلم ، عن سَلمان الفارسي ، عن رسوله الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "رباطُ يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وَإنْ مات جَرَى عليه عمله الذي كان يعمله ، وأجْرِيَ عليه رزْقُه ، وأمِنَ الفَتَّان " (5).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا ابن المبارك ، عن حَيْوة بن شُرَيح ، أخبرني أبو هانئ الخولاني ، أن عمرو بن مالك الجَنْبي (6) أخبره : أنه سمع فُضالة بن عُبيد يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "كل ميّت يُخْتَمُ على عمله ، إلا الذي مات مُرَابطًا في سبيل الله ، فإنه يَنْمى (7) له عملُه إلى يوم القيامة ، ويأمن فتنة القبر".
وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي من حديث أبي هانئ الخولاني. وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه ابن حبان في صحيحه أيضًا (8).
حديث آخر : وروى الإمام أحمد أيضًا عن يحيى بن إسحاق وحسن بن موسى وأبي (9) سعيد
__________
(1) في جـ ، أ : "هل أدلكم".
(2) وفي إسناده الوازع بن نافع ، قال ابن معين : ليس بثقة. وقال البخاري : منكر الحديث وتركه النسائي. وقال ابن عدي : عامة ما يرويه الوازع غير محفوظ. ميزان الاعتدال (4/327).
(3) في أ ، و : "عنهما".
(4) صحيح البخاري برقم (2892).
(5) صحيح مسلم برقم (1913).
(6) في أ : "الختني".
(7) في جـ ، ر : "ينمو".
(8) المسند (6/20) وسنن أبي داود برقم (2500) وسنن الترمذي برقم (1621) وصحيح ابن حبان (7/69) "الإحسان".
(9) في جـ ، أ : "أبو".

(2/197)


[وعبد الله بن يزيد] (1) قالوا : حدثنا (2) ابن لَهِيعة حدثنا مَشْرَح بن هاعان ، سمعت عقبة بن عامر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "كل ميّت يُخْتَم له على عمله ، إلا المرابط في سبيل الله ، فإنه يجري عليه (3) عمله حتى يُبْعَثَ ويأمن من الفَتَّان" (4).
وروى الحارث بن محمد بن أبي أسامة في مسنده ، عن المقبري وهو عبد الله بن يزيد ، به إلى قوله : "حتى يبعث" دون ذكر "الفتان" (5). وابن لَهِيعة إذا صرح بالتحديث فهو حَسَن ، ولا سيما مع ما تقدم من الشواهد.
حديث آخر : قال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجة في سننه : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا عبد الله بن وَهْب ، أخبرني اللَّيْث ، عن زُهرة بن مَعْبَد (6) عن أبيه ، عن أبي هُرَيرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من مات مُرَابطًا في سبيل الله ، أجرى (7) عليه عمله الصالح الذي كان يعمل وأجْري عليه رزقه ، وأمن من الفتان ، وبعثه الله يوم القيامة آمنا من الفَزَع" (8).
طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا موسى ، أنبأنا ابن لَهِيعة ، عن موسى بن وَرْدان ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من مات مُرَابطا وقي فِتنة القبر ، وأمن (9) من الفَزَع الأكبر ، وغَدَا عليه وريح برزقه من الجنة ، وكتب له أجر المرابط إلى يوم القيامة" (10).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثنا إسماعيل بن عيَّاش ، عن محمد بن عمرو بن حَلْحَلَة الدؤلي ، عن إسحاق بن عبد الله ، عن أم الدَّرْداء ترفع الحديث قالت (11) من رابط في شيء من سواحل المسلمين ثلاثة أيام ، أجزأت عنه رباط سنة" (12).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا كَهْمَس ، حدثنا مُصْعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير قال : قال عثمان ، رضي الله عنه - وهو يخطب على منبره - : إني مُحدِّثكم حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يمنعني أن أحدثكم به إلا الضّن بكم ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "حَرْسُ ليلة في سبيل الله أفضل (13) من ألف ليلة يقام ليلها ويُصَام نهارها" (14).
وهكذا رواه أحمد أيضا عن رَوْح عن كهمس عن مصعب بن ثابت ، عن عثمان (15). وقد رواه ابن ماجه عن هشام بن عمَّار ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن مُصْعب بن ثابت ،
__________
(1) زيادة من جـ ، ر ، أ ، و.
(2) في جـ ، ر ، أ ، و : "كلهم عن عبد الله بن لهيعة".
(3) في أ : "له".
(4) المسند (3/157) وقال الهيثمي في المجمع (5/289) : "فيه ابن لهيعة وحديثه حسن".
(5) مسند الحارث برقم (627) "بغية الباحث" ورواية عبد الله بن يزيد عن ابن لهيعة صحيحة ، فهو ممن روى عنه قبل الاختلاط.
(6) في ر : "وابن سعيد".
(7) في أ ، و : "أجر".
(8) سنن ابن ماجة برقم (2767) وقال البوصيري في الزوائد (2/391) : "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات".
(9) في ر : "وأومن".
(10) المسند (2/404).
(11) في ر ، أ ، و : "قال".
(12) المسند (6/362) وقال الهيثمي في المجمع (5/289) : "رواه أحمد والطبراني من رواية إسماعيل بن عياش عن طريق المدنيين وبقية رجاله ثقات".
(13) في أ : "خير".
(14) المسند (1/64).
(15) المسند (1/61).

(2/198)


عن عبد الله بن الزبير قال : خطب عثمان بن عفان الناس فقال : يأيها الناس ، إني سمعت حديثا من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمنعني أن أحدثكم به إلا الضّنّ بكم وبصحابتكم ، فَليخْتَرْ مُخْتَار لنفسه أو ليَدَعْ. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من رَابطَ لَيْلة في سَبِيل الله كانت كألْفِ ليلة صِيامها وقِيامها" (1).
طريق أخرى عن عثمان [رضي الله عنه] (2) قال الترمذي : حدثنا الحسن بن علي الخلال ، حدثنا هشام بن عبد الملك ، حدثنا الليث بن سعد ، حدثنا أبو (3) عَقِيل زهْرَة بن مَعْبد ، عن أبي صالح مولى عثمان بن عفان قال : سمعت عثمان - وهو على المنبر - يقول : إني كَتَمْتُكُمْ حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كَرَاهية تفرقكم عني ، ثم بدا لي أن أحدثكُمُوه ، ليختار امرؤ لنفسه ما بدا له ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "رباطُ يوم في سَبِيل الله خَير من ألف يوم فيما سِوَاه من المنازل".
ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه ، قال محمد - يعني البخاري - : أبو صالح مولى عثمان اسمه بُرْكان (4) وذكر غير الترمذي أن اسمه الحارث ، فالله أعلم (5) وهكذا رواه الإمام أحمد من حديث الليث بن سعد وعبد الله بن لَهِيعة وعنده زيادة في آخره فقال - يعني عثمان - : فليرابط امرؤ كيف شاء ، هل بلغت ؟ قالوا : نعم. قال : اللهم اشهد (6).
حديث آخر : قال أبو عيسى الترمذي : حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، حدثنا محمد بن المُنْكَدر قال : مر سَلْمان الفارسي بشُرَحْبِيل بن السِّمْط ، وهو في مُرَابَط له ، وقد شَق عليه وعلى أصحابه فقال : أفلا (7) أحدثك - يا ابن السمط - بحديث سمعتُه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : بلى. قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "رِبَاط يوم في سبيل الله أفضل - أو قال : خير - من صيام شهر وقيامه ، ومن مات فيه وُقي فِتْنَة القبر ، ونَمَا له عمله إلى يوم القيامة".
تفرد به الترمذي من هذا الوجه ، وقال : هذا حديث حسن (8). وفي بعض النسخ زيادة : وليس إسناده بمتصل ، وابن المنكدر لم يدرك سلمان.
قلت : الظاهر أن محمد بن المنكدر سمعه من شرحبيل بن السِّمط وقد رواه مسلم والنسائي من حديث مكحول وأبي عُبيدة بنُ عقبة ، كلاهما عن شرحبيل بن السمط - وله صحبة - عن سلمان الفارسي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "رِباطُ يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله ، وأجرِي عليه رزقُه ، وأمن الفَتَّان" وقد تقدم (9) سياق مسلم بمفرده (10).
حديث آخر : قال ابن ماجة : حدثنا محمد بن إسماعيل بن سَمُرة ، حدثنا (11) محمد بن يَعْلى
__________
(1) سنن ابن ماجة برقم (2766) وقال البوصيري في الزوائد (2/390) : "إسناده ضعيف".
(2) زيادة من و.
(3) في جـ : "أبي".
(4) في جـ ، أ : "تركان".
(5) سنن الترمذي برقم (1667) ورواه النسائي في السنن (6/39).
(6) المسند (1/62).
(7) في جـ : "ألا".
(8) سنن الترمذي برقم (1665).
(9) في جـ : "قدم".
(10) صحيح مسلم برقم (1913) وسنن النسائي (3916).
(11) في جـ : "قال : حدثنا".

(2/199)


السُّلَمي ، حدثنا عُمَر بن صُبَيْح ، عن عبد الرحمن بن عَمْرو ، عن مكحول ، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لربَاط يوم في سبيل الله ، من وراء عَوْرَة المسلمين مُحْتَسبًا ، من غير شهر رمضان ، أعظمُ أجرًا من عبادة مائة سنة ، صيامها وقيامها. ورباطُ يوم في سبيل الله ، من وراء عورة المسلمين محتسبا ، من شهر رمضان ، أفضل عند الله وأعظم أجرا - أراه قال - : من عبادة ألف سنة صيامها ، وقيامها فإن رده الله تعالى إلى أهله سالما ، لم تكتب (1) عليه سيئة ألف سنة ، وتكتب له الحسنات ، ويُجْرَى له أجر الرباط إلى يوم القيامة".
هذا حديث غريب ، بل منكر من هذا الوجه ، وعُمَر بن صُبَيْح مُتَّهم (2).
حديث آخر : قال ابن ماجة : حَدثنا عيسى بن يونس الرمْلي ، حدثنا محمد بن شُعيب بن شابور ، عن سعيد بن خالد بن أبي طويل ، سمعتُ أنس بن مالك يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "حَرْسُ ليلة في سبيل الله أفضل من صيام رَجُل وقيامه في أهله ألف سنة : السنة ثلاثمائة وستون (3) يوما ، واليوم (4) كألف سنة".
وهذا حديث غريب أيضا (5) وسعيد بن خالد هذا ضَعَّفَه أبو زُرْعَة وغير واحد من الأئمة ، وقال العقيلي : لا يتابع على حديثه. وقال ابن حبان : لا يجوز الاحتجاج به. وقال الحاكم : روى عن أنس أحاديث موضوعة.
حديث آخر : قال ابن ماجة : حدثنا محمد بن الصَّبَّاح ، أنبأنا عبد العزيز بن محمد ، عن صالح بن مُحَمَّد بن زائدَةَ ، عن عُمَرَ بن عبد العزيز ، عن عقبة بن عامر الجهني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "رحم الله حارس الحرس" (6).
فيه انقطاع بين عمر بن عبد العزيز وعقبة بن عامر ، فإنه لم يدركه ، والله أعلم.
حديث آخر : قال أبو داود : حدثنا أبو تَوْبَةَ ، حدثنا معاوية - يعني ابن سلام عن زيد - يعني ابن سلام - أنه سمع أبا سلام قال : حدثني السلولي : أنه حدثه سهل ابن الحنظلية (7) أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حُنين ، فأطنبوا السير حتى كانت عَشِيّة ، فحضرت الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء رجل فارس فقال : يا رسول الله ، إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا ، فإذا أنا بهُوازن على بَكْرَة أبيهم بظُعنهم ونَعَمِهم وشَائِهم (8) اجتمعوا إلى حنين ، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال : "تلك غَنِيمَة المسلمين غدًا إن شاء الله [تعالى (9) ] ". ثم قال : "من يحرسنا الليلة ؟" قال أنس بن أبي مرثد : أنا يا رسول الله. فقال (10) فاركب" فركب فرسًا له ، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له
__________
(1) في جـ : "يكتب".
(2) سنن ابن ماجة برقم (2768).
(3) في جـ ، ر ، أ : "وستين".
(4) في جـ ، ر : "يوم اليوم".
(5) سنن ابن ماجة برقم (2770).
(6) سنن ابن ماجة برقم (2769) وقال البوصيري في الزوائد (2/394) : "هذا إسناد ضعيف. صالح بن محمد ضعفه ابن معين وأبو زرعة وأبو حاتم والبخاري وأبو داود والنسائي وابن عدي وغيرهم".
(7) في ر : "الحنطلية".
(8) في ر ، أ : "وشياههم".
(9) زيادة من جـ ، أ.
(10) في جـ ، أ ، و : "قال".

(2/200)


رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اسْتَقْبِل هذا الشِّعْب حتى تكون في أعلاه ولا يَغَرَّن (1) من قِبَلِك الليلة" فلما أصبحنا خرَج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مُصَلاه فركع ركعتين ثم قال : "هل أحسستم فارسكم ؟" قال رجل : يا رسول الله ، ما أحسسناه ، فثُوِّب بالصلاة ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو يصلي يلتفت إلى الشعب ، حتى إذا قضى صلاته قال : "أبْشِرُوا فقد جاءكم فارسكم" فجعلنا ننظر إلى خِلال الشجر في الشعب ، فإذا هو قد جاء ، حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث رسول الله (2) صلى الله عليه وسلم ، فلما أصبحت طلعت الشعبين كليهما ، فنظرت فلم أر أحدًا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هل نزلت الليلة ؟" قال : لا إلا مصليًا أو قاضيًا حاجة ، فقال له : "أوْجَبْتَ ، فلا عليك ألا تعمل بعدها".
ورواه النسائي عن محمد بن يحيى بن محمد بن كثير الحراني ، عن أبي توبة وهو الربيع بن نافع به (3).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا زيد بن الحُبَاب : حدثنا عبد الرحمن بن شُرَيح ، سمعت محمد بن شُمَير (4) الرُّعَيْني يقول : سمعت أبا عامر التَّجِيبي. قال الإمام أحمد : وقال غير زيد : أبا علي الجَنْبِي (5) يقول : سمعت أبا ريحانة يقول : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ، فأتينا ذات ليلة إلى شَرَف فَبتْنَا عليه ، فأصابنا برد شديد ، حتى رأيتُ مَنْ يحفر في الأرض حفرة ، يدخل فيها ويلقى عليه الجَحْفَة - يَعني التِّرس - فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن الناس نادى : "من يَحْرُسُنا في هذه الليلة فأدعو له بدعاء يكون له فيه فضل ؟" فقال رجل من الأنصار : أنا يا رسول الله. فقال : "ادْنُ" فدنا ، فقال : "من أنت ؟" فتسمى له الأنصاري ، ففتح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء ، فأكثر منه. فقال (6) أبو ريحانة : فلما سمعت ما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت (7) أنا رجل آخر. فقال : "ادن". فدنوت. فقال : من أنت ؟ قال : فقلت : أنا أبو ريحانة. فدعا بدعاء هو دون ما دعا للأنصاري ، ثم قال : "حُرِّمَت النار على عَيْنٍ دَمِعَت - أو بَكَتْ - من خَشْيَةِ الله ، وحرمت النار على عين سَهِرَتْ في سَبِيل الله".
وروى النسائي منه : "حرمت النار..." إلى آخره عن عِصْمَة بن الفضل ، عن زيد بن الحباب به ، وعن الحارث بن مسكين ، عن ابن وَهْب ، عن عبد الرحمن بن شُرَيح ، به ، وأتم ، وقال في الروايتين : عن أبي علي الجنبي (8) (9).
حديث آخر : قال الترمذي : حدثنا نصر بن علي الجَهْضَمِيّ ، حدثنا بِشْر بن عُمَر ، حدثنا شعيب بن رزَيق أبو شَيْبة ، حدثنا عطَاء الخراساني ، عن عطاء بن أبي رَبَاح ، عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "عَيْنان لا تَمَسُّهما النار : عَيْنٌ بَكَتْ من خَشْيَةِ الله ، وعين باتت تَحْرُسُ في سبيل الله".
__________
(1) في جـ ، أ ، و : "تغرن".
(2) في جـ ، ر ، أ : "حيث أمرني رسول الله".
(3) سنن أبي داود برقم (2501) والنسائي في السنن الكبرى برقم (8870).
(4) في جـ ، ر : "سمير".
(5) في جـ ، ر ، و : "الحنفي".
(6) في جـ ، ر ، أ ، و : "قال".
(7) في جـ ، ر : "فقلت".
(8) في أ ، و : "التجيبي".
(9) المسند (4/134) وسنن النسائي (5/15).

(2/201)


ثم قال : حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث شُعَيب بن رُزَيق (1) قال : وفي الباب عن عثمان وأبي ريحانة (2) قلت : وقد تقدما ، ولله الحمد.
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن غَيْلان ، حدثنا رِشْدين ، عن زَبّان (3) عن سهل بن معاذ عن أبيه معاذ بن أنس ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من حَرَس من وراء المسلمين في سبيل الله متطوعا لا بأجرة سلطان ، لم ير النار بعينيه إلا تَحِلَّة القَسَم ، فإن الله يقول : { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا } [مريم : 71].
تفرد به أحمد (4) رحمه الله [تعالى] (5).
حديث آخر : روى البخاري في صحيحه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " تَعِسَ عبد الدينار وعبد الدِّرْهَم وعبد الخَميصة ، إن أُعْطِيَ رضي ، وإن لم يُعْطَ سَخِط ، تَعس وانتكَسَ ، وإذا شيك فلا انْتَقَش (6) طُوبَى لعَبدٍ آخذٍ بعنان فَرَسه في سبيل الله ، أشعثَ رأسُهُ ، مُغَبَّرةٍ قدماه ، إن كان في الحراسة كان في الحراسة ، وإن كان في السَّاقة كان في الساقة ، إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شَفَع لم يُشفَّعْ" (7).
فهذا ما تَيَسَّر إيراده من الأحاديث المتعلقة بهذا المقام ، ولله الحمدُ على جزيل الإنعام ، على تعاقب الأعوام والأيام.
وقال ابن جرير : حدثني المُثَنَّى ، حدثنا مُطَرِّف بن عبد الله المدني (8) حدثنا مالك ، عن زيد بن أسلم قال : كتب أبو عبيدة ، رضي الله عنه ، إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يذكر له جموعا من الروم وما يتخوف منهم ، فكتب إليه عمر : أما بعد فإنه مهما يَنزلْ بعبد مؤمن من مَنزلة شدة يجعل الله بعدها فرجا ، وإنه لن يغلب عُسْر يسرين ، وإن الله تعالى يقول في كتابه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (9).
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن المبارك (10) من طريق محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة قال : أملى علي عبد الله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس ، وودعته للخروج ، وأنشدها
__________
(1) في أ : "زريق".
(2) سنن الترمذي برقم (1639).
(3) في ر : "رثان".
(4) المسند (3/437).
(5) زيادة من ر.
(6) في ر : "انتفش".
(7) صحيح البخاري برقم (2886).
(8) في ر : "المديني".
(9) تفسير الطبري (7/503) ورواه الحاكم في المستدرك (2/300) من طريق زيد بن أسلم به وقال : صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.
(10) انظر : مخنصر تاريخ دمشق لابن منظور (14/22).

(2/202)


معي إلى الفضيل بن عياض في سنة سبعين ومائة ، وفي رواية : سنة سبع وسبعين ومائة : يا عابدَ الحرمين لَوْ أبْصَرْتَنا... لَعَلمْتَ أنكَ في العبادِة تلعبُ...
من كان يخضب خدَّه بدموعِه... فَنُحورنا بدمائنا تَتَخضَّب...
أو كان يُتْعِبُ خَيْلَه في باطلٍ... فخُيولنا يومَ الصبِيحة تَتْعبُ...
ريحُ العبيرِ لكم ونحنُ عبيرُنا... وَهجُ السنابِك والغبارُ الأطيبُ...
ولَقَد أتانا من مَقَالِ نبينا... قول صَحيح صادق لا يَكْذبُ...
لا يستوي وَغُبَارَ خيل الله في... أنف امرئ ودخانَ نار تَلْهَبُ...
هذا كتاب الله يَنْطق بيننا... ليس الشهيدُ بمَيِّت لا يَكْذبُ...
قال : فلقيت الفُضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام ، فلما قرأه ذَرِفَتْ عَيْنَاهُ وقال : صَدَق أبو عبد الرحمن ، ونصحني ، ثم قال : أنت ممن يكتب الحديث ؟ قال : قلت : نعم قال : فاكتب هذا الحديث كرَاءَ حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا. وأملى عَلَيّ الفُضيل بن عياض : حدثنا منصور بن المعتمر ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، أن رجلا قال : يا رسول الله عَلمني عملا أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله فقال : " هل تستطيع أن تُصَلِّي فلا تَفْتُر وتصومَ فلا تُفْطِر ؟ " فقال : يا رسول الله ، أنا أضْعَفُ من أن أستطيع ذلك ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : " فَوالَّذي نَفْسِي بِيَدِه لو طُوقْتَ ذلك ما بلغتَ المجاهدين في سبيل الله أوما عَلمتَ أن الفرس المجاهد ليَسْتَنُّ في طِوَله فيكتب له بذلك الحسنات" (1).
وقوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : في جميع أموركم وأحوالكم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ [بن جبل] (2) [رضي الله عنه] (3) حين بعثه إلى اليمن : " اتَّق الله حَيْثُما كُنْتَ وأتْبع السيئَة الحسنة تَمْحُها وخالق الناس بخُلق حَسَنٍ ".
{ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : في الدنيا والآخرة.
وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أنبأنا ابن وهب أنبأنا أبو (4) صخر ، عن محمد بن كعب القُرَظي : أنه كان يقول في قول الله عز وجل : { وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } واتقوا الله فيما بيني وبينكم ، لعلكم تفلحون غدا إذا لقيتموني.
آخر تفسير سورة آل عمران ، ولله الحمد والمنة ، نسأله الموت على الكتاب والسنة.
__________
(1) رواه أحمد في المسند (5/236).
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من و.
(4) في أ : "ابن".

(2/203)


تفسير سورة النسَاء
[وهي مدنية] (1) قال العَوْفِي عن ابن عباس : نزلت سورةُ النساء بالمدينة. وكذا رَوَى ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير ، وزيد بن ثابت ، ورَوَى من طريق عبد الله بن لَهِيعة ، عن أخيه عيسى ، عن عِكْرمة عن ابن عباس قال : لما نزلت سورة النساء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا حَبْس " (2).
وقال الحاكم في مستدركه : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا أبو البَخْتَرِي (3) عبد الله بن محمد شاكر ، حدثنا محمد بن بِشْر العَبْدي ، حدثنا مِسْعَر بن كِدَام ، عن مَعْن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : إن في سورة النساء لخمسُ آيات ما يَسُرّني أن لي بها الدنيا وما فيها : { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } الآية ، و { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } الآية ، و { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } و { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ } الآية ، و { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } ثم قال : هذا إسناد صحيح إن كان عبد الرحمن سمع من أبيه ، فقد اختلف في ذلك (4).
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن رجل ، عن ابن مسعود قال في خمس آيات من (5) النساء : لهن (6) أحب إلَيّ من الدنيا جَميعًا : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } وقوله : { وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وقوله : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } وقوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ (7) أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } رواه ابن جرير : ثم روى من طريق صالح المري ، عن قتادة ، عن ابن عباس قال : ثماني آيات نزلت في سورة النساء هي خير (8) لهذه الأمة مما طَلَعت عليه الشمس وغربت ، أولاهن : { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } والثانية : { وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا } والثالثة : { يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا }.
ثم ذكر قول (9) ابن مسعود سواء ، يعني في الخمسة. (10) الباقية.
وروى الحاكم من طريق أبي نُعَيم ، عن سفيان بن عُيَيْنَة ، عن عبيد الله (11) بن أبي يزيد ، عن ابن أبي مُلَيْكَة ؛ سمعت ابن عباس يقول : سلوني عن سورة النساء ، فإني قرأت القرآن وأنا صغير. ثم قال : هذا حديث (12) صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) رواه البيهقي في السنن الكبرى (6/162) والطبراني في المعجم الكبير (11/365) والدارقطني في السنن (4/68) ، وقال : "لم يسنده غير ابن لهيعة عن أخيه وهما ضعيفان".
(3) في جـ ، أ : "البحتري".
(4) المستدرك (2/305).
(5) في جـ ، أ : "في".
(6) في جـ ، أ : "هن".
(7) في هـ : "من رسله".
(8) في جـ ، أ : "لهن".
(9) في جـ ، ر ، أ : "ذكر مثل قول".
(10) في ر ، أ : "الخمس".
(11) في أ : "عبد الله".
(12) المستدرك (2/301).

(2/204)


يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)

بسم الله الرحمن الرحيم
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) }
يقول تعالى آمرًا خلقه بتقواه ، وهي عبادته وحده لا شريك له ، ومُنَبّهًا لهم على قدرته التي خلقهم بها من نفس واحدة ، وهي آدم ، عليه السلام { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } وهي حواء ، عليها السلام ، خلقت من ضِلعه الأيسر (1) من خلفه وهو نائم ، فاستيقظ فرآها فأعجبته ، فأنس إليها وأنست إليه.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن مقاتل ، حدثنا وكيع ، عن أبي هلال ، عن قتادة ، عن ابن عباس قال : خُلقَت المرأة من الرجل ، فجعل نَهْمَتَها في الرجل ، وخلق الرجل من الأرض ، فجعل نهمته في الأرض ، فاحبسوا نساءكم.
وفي الحديث الصحيح : "إن المرأة خلقت من ضلع ، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عِوَج" (2).
وقوله : { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً } أي : وذَرَأ منهما ، أي : من آدم وحواء رجالا كثيرا ونساء ، ونَشَرهم في أقطار العالم على اختلاف أصنافهم وصفاتهم وألوانهم ولغاتهم ، ثم إليه بعد ذلك المعاد والمحشر.
ثم قال تعالى : { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ } أي : واتقوا الله بطاعتكم إياه ، قال إبراهيم ومجاهد والحسن : { الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ } أي : كما يقال : أسألك بالله وبالرَّحِم. وقال الضحاك : واتقوا الله الذي به تعاقدون وتعاهدون ، واتقوا الأرحام أن تقطعوها ، ولكن بروها وصِلُوها ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، والضحاك ، والربيع وغير واحد.
وقرأ (3) بعضهم : { والأرحام } بالخفض على العطف على الضمير في به ، أي : تساءلون بالله وبالأرحام ، كما قال مجاهد وغيره.
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا } أي : هو مراقب لجميع أعمالكم وأحوالكم كما قال : { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [البروج : 9].
وفي الحديث الصحيح : "اعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" (4) وهذا إرشاد وأمر بمراقبة الرقيب ؛ ولهذا ذكر تعالى أن أصل الخلق من أب [واحد] (5) وأم واحدة ؛ ليعطفَ بعضهم على
__________
(1) في جـ ، ر ، أ : "الأقصر".
(2) رواه مسلم في صحيحه برقم (1468) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) في أ : "وقال".
(4) رواه بهذا اللفظ الطبراني في المعجم الكبير والحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق كما في التهذيب (3/106) من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه ، ولعل الحافظ ابن كثير يقصد بهذا الحديث حديث جبريل الطويل الذي رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وأخرجه مسلم في صحيحه برقم (28) ، وفيه "أخبرني عن الإحسان. قال : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
(5) زيادة من جـ ، ر ، أ.

(2/206)


وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)

بعض ، ويحننهم (1) على ضعفائهم ، وقد ثبت في صحيح مسلم ، من حديث جَرِير بن عبد الله البَجَلي ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه أولئك النفر من مُضَر - وهم مُجْتابو النِّمار - أي من عُريِّهم وفَقْرهم - قام فَخَطَب الناس بعد صلاة الظهر فقال في خطبته : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } حتى ختم الآية (2) وقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ [وَاتَّقُوا اللَّهَ] (3) } [الحشر : 18 ] ثم حَضَّهم (4) على الصدقة فقال : "تَصَدَّقَ رجُلٌ من دِينَاره ، من دِرْهَمِه ، من صَاعِ بُرِّه ، صَاعِ تَمْره..." وذكر تمام الحديث (5).
وهكذا رواه (6) الإمام أحمد وأهل السنن عن ابن مسعود في خُطْبَة الحاجة (7) وفيها ثم يقرأ ثلاث آيات هذه منها : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ] (8) } الآية.
{ وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) }
يأمر تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم إذا بلغوا الحُلُم كاملة موفرة ، وينهى عن أكلها وضَمِّها إلى أموالهم ؛ ولهذا قال : { وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ } قال سفيان الثوري ، عن أبي صالح : لا تعْجل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الرزق الحلال الذي قدر لك.
وقال سعيد بن جبير : لا تبَدَّلوا الحرام من أموال الناس بالحلال من أموالكم ، يقول : لا تبذروا أموالكم الحلال وتأكلوا أموالهم الحرام.
وقال سعيد بن المسيّب والزهري : لا تُعْط مهزولا وتأخذ سمينا.
وقال إبراهيم النَّخَعِي والضحاك : لا تعط زائفًا وتأخذ جيدًا.
وقال السُّدِّي : كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غَنم اليتيم ، ويجعل فيها مكانها الشاة المهزولة ، ويقول (9) شاة بشاة ، ويأخذ الدرهم الجَيِّد ويطرح مكانه الزّيْف ، ويقول : درهم بدرهم.
وقوله : { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ } قال مجاهد ، وسعيد بن جبَيْر ، ومقاتل بن حَيَّان ، والسّدي ، وسفيان بن حُسَين : أي لا تخلطوها فتأكلوها جميعا.
__________
(1) في ر : "وتحننهم".
(2) في جـ ، ر ، أ : جاءت الآية كاملة.
(3) زيادة من جـ ، أ.
(4) في جـ ، أ : "حثهم".
(5) صحيح مسلم برقم (1017).
(6) في جـ ، ر ، أ : "روى".
(7) المسند (4/358).
(8) زيادة من جـ ، ر ، أ.
(9) في أ : "فيقول".

(2/207)


وقوله : { إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا } قال ابن عباس : أي إثمًا كبيرًا عظيما.
وقد رواه ابن مَرْدُويه ، عن أبي هريرة قال : سئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله : { حُوبًا كَبِيرًا } قال : "إثما كبيرًا". ولكن في إسناده محمد بن يونس الكُدَيْمي وهو ضعيف (1) وهكذا رُوي عن مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وابن سيرين ، وقتادة ، والضحاك ، ومقاتل بن حيان ، وأبي مالك ، وزيد بن أسلم ، وأبي سِنَان مثل قول ابن عباس.
وفي الحديث المروي في سنن أبي داود : "اغفر لنا حوبنا وخطايانا".
وروى ابن مَرْدويه بإسناده إلى واصل ، مولى أبي عيينة ، عن محمد بن سِيرِين ، عن ابن عباس : أن أبا أيوب طَلَّق امرأته ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "يا أبا أيوب ، إن طلاق أم أيوب كان حوبا" قال (2) ابن سيرين : الحوب الإثم (3).
ثم قال ابن مردويه : حدثنا عبد الباقي ، حدثنا بشر بن موسى ، أخبرنا هَوْذَة بن خليفة ، أخبرنا عَوْف ، عن أنس : أن أبا أيوب أراد طلاق أم أيوب ، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "إن طلاق أم أيوب لحوب فأمسكها" (4) ثم رواه (5) ابن مردويه والحاكم في مستدركه من حديث علي بن عاصم ، عن حُمَيد الطويل ، سمعت أنس بن مالك يقول : أراد أبو طلحة أن يطلق أم سُليم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن طلاق أم سليم لحوب" فكف (6).
والمعنى : إن أكلكم أموالهم مع أموالكم إثم عظيم وخطأ كبير فاجتنبوه.
وقوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى } أي : إذا كان (7) تحت حجر أحدكم يتيمة وخاف ألا يعطيها مهر مثلها ، فليعدل إلى ما سواها من النساء ، فإنهن كثير ، ولم يضيق الله عليه.
وقال البخاري : حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا هشام ، عن ابن جُرَيج ، أخبرني هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن عائشة ؛ أن رجلا كانت له يتيمة فنكحها ، وكان لها عَذْق. وكان يمسكها عليه ، ولم يكن لها من نفسه شيء فنزلت فيه : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا [فِي الْيَتَامَى] (8) } أحسبه قال : كانت
__________
(1) وقال ابن عدي : قد اتهم بالوضع ، وقال ابن حبان : لعله وضع أكثر من ألف حديث وقال أبو عبيد الآجري : رأيت أبا داود يطلق في الكديمي الكذب.
(2) في أ : "وقال".
(3) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (12/196) من طريق يحيى الحماني عن حماد بن زيد عن واصل مولى أبي عيينة عن محمد بن سيرين عن ابن عباس أن أبا أيوب أراد أن يطلق أم أيوب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن طلاق أم أيوب لحوب" قال ابن سيرين : الحوب الإثم ، قال الهيثمي في المجمع (9/262) : "فيه يحيى الحماني وهو ضعيف".
(4) هذا مرسل ، وأخرجه أبو داود في المراسيل برقم (233) عن وهب بن بقية عن خالد عن عوف عن أنس بن سيرين به. وأخرجه إبراهيم الحربي في غريب الحديث كما في تخريج الكشاف للزيلعي (1/279) من طريق جرير عن واصل عن أنس بن سيرين به.
(5) في أ : "ورواه"
(6) المستدرك (2/302) ومن طريق البيهقي في السنن الكبرى (7/323) وقال الحاكم : صحيح وتعقبه الذهبي : "لا والله فيه على بن عاصم وهو واه".
(7) في جـ ، ر ، أ : "كانت".
(8) زيادة من جـ.

(2/208)


شريكَتَه في ذلك العَذْق وفي ماله.
ثم قال البخاري : حدثنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن كيسان ، عن ابن شهاب قال : أخبرني عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى (1) { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى } قالت : يا ابن أختي (2) هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تَشْرَكه (3) في ماله ويعجبُه مالها وجمالها ، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يَقْسِط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا أن (4) ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ، ويبلغُوا بهنَّ أعلى سُنتهنَّ في الصداق ، وأمِروا أن ينكحُوا ما طاب لهم من النساء سواهُنَّ. قال عروة : قالت عائشة : وإن الناس استفْتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية ، فأنزل الله [تعالى] (5) { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ } قالت عائشة : وقولُ الله في الآية الأخرى : { وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ } [النساء : 127]رغبة أحدكم عن يتيمته حين تكون قليلة المال والجمال. فنهوا (6) أن ينكحوا من رغبوا في ماله وجماله من يتامى (7) النساء إلا بالقسط ، من أجل رغبتهم عنهن إذا كُن قليلات المال والجمال (8).
وقوله : { مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ } [فاطر : 1]أي : انكحوا ما شئتم من النساء سواهن إن (9) شاء أحدكم ثنتين ، [وإن شاء ثلاثا] (10) وإن شاء أربعا ، كما قال تعالى : { جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ } [ فاطر : 1 ] أي : منهم من له جناحان ، ومنهم من له ثلاثة ، ومنهم من له أربعة ، ولا ينفي (11) ما عدا ذلك في الملائكة لدلالة الدليل عليه ، بخلاف قصر الرجال على أربع ، فمن (12) هذه الآية كما قاله ابن عباس وجمهور العلماء ؛ لأن المقام مقام امتنان وإباحة ، فلو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لذكره.
قال الشافعي : وقد دَلَّت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبينة عن الله أنه لا يجوز لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة.
وهذا الذي قاله الشافعي ، رحمه الله ، مجمع عليه بين العلماء ، إلا ما حُكي عن طائفة من الشيعة أنه يجوز الجمع بين أكثر من أربع إلى تسع. وقال بعضهم : بلا حصر. وقد يتمسك بعضهم بفعل النبي (13) صلى الله عليه وسلم في جمعه بين أكثر من أربع إلى تسع كما ثبت في الصحيحين ، وإما إحدى عشرة كما جاء في بعض ألفاظ البخاري. وقد علقه (14) البخاري ، وقد روينا عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج بخمس عشرة امرأة ، ودخل منهن بثلاث عشرة ، واجتمع عنده إحدى عشرة ومات عن تسع. وهذا عند العلماء من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيره من الأمة ، لما سنذكره من الأحاديث الدالة على الحصر في أربع.
__________
(1) في جـ ، أ : "عز وجل".
(2) في ر : "أخي".
(3) في أ : "تشتركه".
(4) في جـ ، أ : "فنهوا عن أن".
(5) زيادة من ر.
(6) في جـ ، ر ، أ : "قلت : فنهوا".
(7) في ر : "باقي".
(8) صحيح البخاري برقم (4573 ، 4574).
(9) في جـ ، أ : "إذا".
(10) زيادة من أ.
(11) في أ : "ولا ينبغي".
(12) في جـ ، ر ، أ : "من".
(13) في جـ ، ر ، أ : "رسول الله".
(14) في جـ ، ر ، أ : "علله".

(2/209)


ذكر الأحاديث في ذلك :
قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ومحمد بن جعفر قالا حدثنا معمر ، عن الزهري. قال ابن جعفر في حديثه : أنبأنا ابن شهاب ، عن سالم ، عن أبيه : أن غيلان بن سَلَمة الثقفي أسلم وتحته عشرة نسوة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : اختر منهن أربعا. فلما كان في عهد عمر طلق نساءه ، وقسم ماله بين بنيه ، فبلغ ذلك عمر فقال : إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك (1) ولعلك لا تمكث إلا قليلا. وايم الله لتراجعنَّ نساءك ولترجعن في مالك أو لأورثُهن منك ، ولآمرن بقبرك فيرجم ، كما رجم قبرُ أبي رِغَال (2).
وهكذا رواه الشافعي والترمذي وابن ماجة والدارقطني والبيهقي وغيرهم عن إسماعيل بن عُلَيَّة وغُنْدَر ويزيد بن زُرَيع وسعيد بن أبي عَرُوبة ، وسفيان الثوري ، وعيسى بن يونس ، وعبد الرحمن بن محمد المحاربي ، والفضل بن موسى وغيرهم من الحفاظ ، عن مَعْمَر - بإسناده - مثله إلى قوله : اختر (3) منهن أربعا. وباقي (4) الحديث في قصة عمر من أفراد أحمد (5) وهي زيادة حسنة وهي مضعفة لما علل به البخاري هذا الحديث فيما حكاه عنه الترمذي ، حيث قال بعد روايته له : سمعتُ البخاري يقول : هذا حديث غير محفوظ ، والصحيح ما روى شُعَيْب وغيره ، عن الزهري ، حُدّثتُ عن محمد بن سُوَيد الثقفي أنّ غيلان بن سلمة ، فذكره. قال البخاري : وإنما حديث الزهري عن سالم عن أبيه : أن رجلا من ثقيف طلق نساءه ، فقال له عمر : لتراجعَنَّ نساءك أو لأرجمن قبرك كما رجم قبر أبي رغَال.
وهذا التعليل فيه نظر ، والله أعلم. وقد رواه عبد الرزاق ، عن مَعمر ، عن الزهري مرسلا (6) وهكذا (7) رواه مالك ، عن الزهري مرسلا. قال أبو زرعة : وهو أصح (8).
قال البيهقي : ورواه عقيل ، عن الزهري : بلغنا عن عثمان بن محمد بن أبي سويد.
قال أبو حاتم : وهذا وَهْم ، إنما هو الزهري عن عثمان بن أبي سويد بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
__________
(1) في ر : "نيتك".
(2) قبر أبي رغال في الطائف ، وقد روى ابن إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى الطائف مر بقبر أبي رغال فقال : إن هذا قبر أبي رغال وهو أبو ثقيف وكان من ثمود وكان بهذا الحرم يدفع عنه ، فلما خرج منه أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان ، فدفن فيه ، وقيل : إن أبا رغال كان دليل أبرهة في طريقه لهدم الكعبة.
قال الحافظ ابن كثير : والجمع بينهما أن أبا رغال المتأخر وافق اسمه اسم جده الأعلى ورجمه الناس كما رجموا قبر الأول أيضا. وقد قال جرير : إذا مات الفرزدق فارجموه... كرجمكم بقبر أبي رغال
ثم قال : والظاهر أنه الثاني. البداية والنهاية (2/159).
(3) في جـ : "واختر".
(4) في أ : "ويأتي".
(5) المسند (2/14) والشافعي في الأم (5/49) وسنن الترمذي برقم (1128) وسنن ابن ماجة برقم (1953) وسنن الدارقطني (3/271) وسنن البيهقي الكبرى (7/182) ، وقد توسع الحافظ ابن حجر في التلخيص (3/168) والشيخ ناصر الألباني (6/292) وحكم عليه بالصحة.
(6) المصنف لعبد الرزاق (12621).
(7) في أ : "وقد".
(8) رواه ابن أبي حاتم في العلل (1/400) حدثني أبو زرعة عن عبد العزيز الأويسي عن مالك عن الزهري به مرسلا.

(2/210)


فذكره (1).
قال البيهقي : ورواه يونس وابن عُيَيْنَةَ ، عن الزهري ، عن محمد بن أبي سويد.
وهذا كما علله البخاري. وهذا الإسناد الذي قدمناه من مسند الإمام أحمد رجاله ثقاتٌ على شرط الصحيحين (2) ثم قد رُوي من غير طريق مَعْمَر ، بل والزهري قال (3) الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا أبو علي (4) الحافظ ، حدثنا أبو عبد الرحمن النسائي ، حدثنا أبو بُرَيد عَمْرو بن يزيد الجرمي (5) أخبرنا سيف بن عُبَيد (6) حدثنا سَرَّار بن مُجَشَّر ، عن أيوب ، عن نافع وسالم ، عن ابن عمر : أن غيلان بن سلمة كان عنده عشر نسوة فأسلم وأسلَمْنَ معه ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعا. هكذا أخرجه النسائي في سننه. قال أبو علي بن السكن : تفرد به سرار بنُ مُجَشر وهو ثقة ، وكذا وثقه ابن معين. قال أبو علي : وكذلك رواه السَّمَيْدع بن واهب (7) عن سرار.
قال البيهقي : وروينا من حديث قيس بن الحارث أو الحارث بن قيس ، وعروة بن مسعود الثقفي ، وصفوان بن أمية - يعني حديث غيلان بن سلمة (8).
فوجهُ الدلالة أنَّه لو كان يجوز الجمعُ بين أكثر من أربع لسوغَ له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم سائرهن في بقاء العشرة (9) وقد أسلمن معه ، فلما أمره بإمساك أربع وفراق سائرهن دل على أنه لا يجوز الجمعُ بين أكثر من أربع بحال ، وإذا كان هذا في الدوام ، ففي الاستئناف بطريق الأولى والأحرى ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
حديث آخر في ذلك : روى أبو داود وابن ماجة في سننهما (10) من طريق محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى ، عن حُمَيضة (11) بن الشَّمَرْدَل - وعند ابن ماجة : بنت الشمردل ، وحكى أبو داود أن منهم من يقول : الشمرذل بالذال المعجمة - عن قيس بن الحارث. وعند أبي داود في رواية : الحارث بن قيس بن (12) عميرة الأسدي قال : أسلمت وعندي ثماني نسوة ، فذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : "اختر منهن أربعا".
وهذا الإسناد حسن ، ومجرد هذا الاختلاف لا يضر مثلُه ، لما للحديث من الشواهد (13).
حديث آخر في ذلك : قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي ، رحمه الله ، في
__________
(1) العلل لابن أبي حاتم (1/401).
(2) في جـ ، ر ، أ : "على شرط الشيخين".
(3) في جـ ، ر ، أ : "فقال".
(4) في أ : "أبو يعلى".
(5) في جـ ، أ : "أبو يزيد عمرو بن يزيد الحربي" ، وفي ر : "أبو يزيد عمر بن يزيد الجرمي".
(6) في جـ : "عبد الله".
(7) في جـ ، ر ، أ : "وهب".
(8) السنن الكبرى (7/183) وهذه الرواية دليل على أن معمر لم ينفرد بوصله ، وهي شاهد جيد على وصل الحديث.
(9) في جـ : "العشر".
(10) في ر : "سننيهما".
(11) في أ : "حميصة".
(12) في جـ ، ر ، أ : "أن".
(13) سنن أبي داود برقم (2242 ، 2241) وسنن ابن ماجة برقم (1952) ورجح المزي أن اسمه "قيس بن الحارث".

(2/211)


مسنده : أخبرني من سمع ابن أبي الزِّناد يقول : أخبرني عبد المجيد بن سُهَيل بن (1) عبد الرحمن عن عوف بن الحارث ، عن نوفل بن معاوية الديلي ، رضي الله عنه ، قال : أسلمت وعندي خمس نسوة ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اختر (2) أربعا أيتهن شئت ، وفارق الأخرى" ، فَعَمَدت إلى أقدمهن صحبة عجوز عاقر معي منذ ستين سنة ، فطلقتها (3).
فهذه كلها شواهد بصحة ما تقدم من حديث غَيْلان كما قاله الحافظ أبو بكر البيهقي ، رحمه الله (4).
وقوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } أي : فإن خشيتم (5) من تعداد النساء ألا تعدلوا بينهن ، كما قال تعالى : { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } [النساء : 129]فمن خاف من ذلك فيقتصر على واحدة ، أو على الجواري السراري ، فإنه لا يجب قسم (6) بينهن ، ولكن يستحب ، فمن فعل فحسن ، ومن لا فلا حرج.
وقوله : { ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا } قال بعضهم : [أي] (7) أدنى ألا تكثر عائلتكم. قاله زيد بن أسلم وسفيان بن عيينة والشافعي ، رحمهم الله ، وهذا مأخوذ من قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } أي (8) فقرًا { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } [التوبة : 28] وقال الشاعر (9)
فما يَدري الفقير متى غناه... ومَا يَدرِي الغَنيُّ متى يعيل...
وتقول العرب : عال الرجل يعيل عَيْلة ، إذا افتقر ولكن في هذا التفسير هاهنا نظر ؛ فإنه كما يخشى كثرة العائلة من تعداد الحرائر ، كذلك يخشى من تعداد السراري أيضا. والصحيح قول الجمهور : { ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا } أي : لا تجوروا. يقال : عال في الحكم : إذا قَسَط وظلم وجار ، وقال أبو طالب في قصيدته المشهورة :
بميزان قسطٍ لا يَخيس (10) شعيرة... له شاهد من نفسه غير عائل (11)
وقال هُشَيم : عن أبي إسحاق قال : كتب عثمان بن عفان إلى أهل الكوفة في شيء عاتبوه فيه : إني لست بميزان لا أعول. رواه ابن جرير.
وقد روى ابن أبي حاتم ، وابن مَرْدويه ، وأبو حاتم ابن حِبَّان في صحيحه ، من طريق عبد الرحمن بن إبراهيم دُحَيْم ، حدثنا محمد بن شعيب ، عن عمر بن محمد بن زيد ، عن (12) عبد الله بن عمر ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم { ذَلِكَ أَدْنَى أَلا تَعُولُوا } قال : "لا تجوروا".
__________
(1) في أ : "عن".
(2) في جـ ، ر ، أ : "أمسك".
(3) مسند الشافعي برقم (1606) ومن طريق البيهقي في السنن الكبرى (7/184).
(4) في أ : "رحمة الله عليه".
(5) في أ : "خفتم".
(6) في ر : "القسم".
(7) زيادة من جـ.
(8) في جـ ، ر : "أو".
(9) هو أحيحة بن الجلاح الأوسي ، والبيت في تفسير الطبري (7/549) وفي اللسان مادة (عيل).
(10) في أ : "تخس".
(11) البيت في تفسير الطبري (7/550).
(12) في أ : "بن".

(2/212)


قال ابن أبي حاتم : قال أبي : هذا حديث خطأ ، والصحيح : عن عائشة. موقوف (1).
وقال ابن أبي حاتم : وروى عن ابن عباس ، وعائشة ، ومجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وأبي مالك وأبي رَزِين والنَّخعي ، والشَّعْبي ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، وقتادة ، والسُّدِّي ، ومُقاتل بن حَيَّان : أنهم قالوا : لا تميلوا (2) وقد استشهد عِكْرمة ، رحمه الله ، ببيت أبي طالب الذي قدمناه ، ولكن ما أنشده كما هو المروي في السيرة ، وقد رواه ابن جرير ، ثم أنشده جيدا ، واختار ذلك.
وقوله : { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : النحلة : المهر.
وقال محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة : نحلة : فريضة. وقال مقاتل وقتادة وابن جريج : نحلة : أي فريضة. زاد ابن جريج : مسماه. وقال ابن زيد : النحلة في كلام العرب : الواجب ، يقول : لا تنكحها إلا بشيء واجب لها ، وليس ينبغي لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكح امرأة إلا بصداق واجب ، ولا ينبغي أن يكون (3) تسمية الصداق كذبا بغير حق.
ومضمون كلامهم : أن الرجل يجب عليه دفع الصداق إلى المرأة حَتمًا ، وأن يكون طيب النفس بذلك ، كما يمنح المنيحة ويعطي النحلة طيبًا بها ، كذلك يجب أن يعطي المرأة صداقها طيبا بذلك ، فإن طابت هي له به بعد تسميته أو عن شيء منه فليأكله حلالا طيبًا ؛ ولهذا قال [تعالى] (4) { فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنان ، حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي ، عن سفيان ، عن السدي ، عن يعقوب بن المغيرة بن شعبة ، عن علي قال : إذا اشتكى أحدكم شيئًا ، فَلْيسأل امرأته ثلاثة (5) دراهم أو نحو ذلك ، فليبتع بها عسلا ثم ليأخذ ماء السماء فيجتمع هنيئًا مريئًا شفاء مباركا.
وقال هُشَيم ، عن سيار ، عن أبي صالح قال : كان الرجل إذا زوج ابنته أخذ صداقها دونها ، فنهاهم الله عن ذلك ، ونزل : { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، حدثنا وكيع ، عن سفيان عن عمير (6) الخثعمي ، عن عبد الملك (7) بن المغيرة الطائفي ، عن عبد الرحمن بن البَيْلَمَاني (8) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } قالوا : يا رسول الله ، فما العلائق بينهم ؟ قال : "ما تراضى عليه أهْلوهُم" (9).
وقد روى ابن مَرْدُويه من طريق حَجَّاج بن أرْطاة ، عن عبد الملك بن المغيرة ، عن عبد الرحمن بن البَيْلمَاني (10) عن عمر بن الخطاب قال : خَطَبَ (11) رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "أنكحوا الأيامى" ثلاثا ، فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله ، ما العلائق بينهم ؟ قال : "ما تراضى عليه أهلوهم".
__________
(1) صحيح ابن حبان برقم (1730) "موارد".
(2) في أ : "أن لا تميلوا".
(3) في ر : "تكون".
(4) زيادة من ر ، أ.
(5) في أ : "بثلاثة".
(6) في أ : "عمر".
(7) في ر : "عبد الله".
(8) في جـ ، ر ، أ : "عبد الرحمن السلماني".
(9) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (7/239) وابن أبي شيبة في المصنف (14/184) وأبو داود في المراسيل برقم (215).
(10) في جـ ، ر ، أ : "السلماني".
(11) في جـ ، ر ، أ : "خطبنا".

(2/213)


وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)

ابن البَيْلمَاني (1) ضعيف ، ثم فيه انقطاع أيضًا (2).
{ وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6) }
ينهى تعالى عن تَمْكين السفهاء من التصرّف في الأموال التي جعلها الله للناس قياما ، أي : تقوم (3) بها معايشهم من التجارات وغيرها. ومن هاهنا يُؤْخَذُ الحجر على السفهاء ، وهم أقسام : فتارة يكون الحَجْرُ للصغر ؛ فإن الصغير مسلوب العبارة. وتارة يكون الحجرُ للجنون ، وتارة لسوء التصرف لنقص العقل أو الدين ، وتارة يكون الحجر للفَلَس ، وهو ما إذا أحاطت الديون برجل وضاقَ ماله عن وفائها ، فإذا سأل (4) الغُرَماء الحاكم الحَجْرَ عليه حَجَرَ عليه.
وقد قال الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ } قال : هم بَنُوك والنساء ، وكذا قال ابن مسعود ، والحكم بن عُتَيبة (5) والحسن ، والضحاك : هم النساء والصبيان.
وقال سعيد بن جُبَير : هم اليتامى. وقال مجاهد وعكرمة وقتادة : هم النساء.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عَمّار ، حدثنا صدقة بن خالد ، حدثنا عثمان بن أبي العائكة ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وإن النساء السُّفَهاء إلا التي أطاعت قَيِّمَها".
ورواه ابن مَرْدُويه مطولا (6).
وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن مسلم بن إبراهيم ، حدثنا حَرْب بن سُرَيج (7) عن معاوية بن قرة (8) عن أبي هريرة { وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ } قال : الخدم ، وهم شياطين الإنس وهم الخدم.
وقوله : { وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس يقول [تعالى] (9) لا تَعْمَد إلى مالك وما خَوَّلك الله ، وجعله معيشة ، فتعطيَه امرأتك أو بَنيكَ ، ثم تنظر (10) إلى ما في أيديهم ، ولكن أمْسكْ مالك وأصلحْه ، وكن أنت الذي تنفق عليهم من
__________
(1) في جـ ، ر ، أ : "السلماني".
(2) ورواه أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف (4/186) وسعيد بن منصور في السنن برقم (619) "الأعظمي" والبيهقي في السنن الكبرى (7/239) كلهم من طريق حجاج بن أرطأة عن عبد الملك بن المغيرة عن عبد الرحمن البيلماني مولى عمر بن الخطاب قال : فذكره مرسلا ، وأظن أن "مولى" تصحفت في النسخ إلى "عن" وأكاد أجزم بذلك لقول الحافظ ابن كثير "فيه انقطاع" ، فإن الانقطاع بإرساله ، ولو كان عن عمر لكان موصولا.
(3) في أ : "يقوم".
(4) في ر : "سألوا".
(5) في جـ ، ر ، أ : "عيينة".
(6) ذكره السيوطي في الدر (2/433) وفي إسناده عثمان بن أبي العاتكة وقد ضعف في روايته عن علي بن يزيد الألهاني.
(7) في جـ ، ر ، أ : "شريح".
(8) في أ : "مرة".
(9) زيادة من أ.
(10) في ر : "تنتظر".

(2/214)


كسْوتهم ومؤنتهم ورزقهم.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن فرَاس ، عن الشعبي ، عن أبي بُرْدة ، عن أبي موسى قال : ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم : رجل كانت له امرأة سَيّئة الخُلُق فلم يُطَلقها ، ورجل أعطى ماله سفيها ، وقد قال : { وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ } ورجل كان له على رجل دين فلم يُشْهِد عليه.
وقال مجاهد : { وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا } يعني في البر والصلة.
وهذه الآية الكريمة انتظمت الإحسان إلى العائلة ، ومَنْ تحت الحَجْر بالفعل ، من الإنفاق في الكساوي والإنفاق (1) والكلام الطيب ، وتحسين الأخلاق.
وقوله تعالى : { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى } قال ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، والسدي ، ومقاتل بن حيان : أي اختبروهم { حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ } قال مجاهد : يعني : الحُلُم. قال الجمهور من العلماء : البلوغ في الغلام تارة يكون بالحُلُم ، وهو أن يرى في منامه ما ينزل به الماء الدافق الذي يكون منه الولد. وقد روى أبو داود في سننه (2) عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يُتْم بعد احتلام ولا صُمَات يوم إلى الليل" (3).
وفي الحديث الآخر عن عائشة وغيرها من الصحابة ، رضي الله عنهم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "رُفِعَ القَلَمُ عن ثلاثة : عن الصَّبِيِّ حتى يَحْتلمَ ، وعن النائم حتى يَسْتيقظ ، وعن المجنون حتى يُفِيق" أو يستكمل (4) خمس عشرة سنة ، وأخذوا ذلك من الحديث الثابت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال : عُرِضْت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة ، فلم يجزني ، وعرضت عليه يوم الخَنْدَق وأنا ابن خمس عشرة فأجازني ، فقال أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز - لما بلغه هذا الحديث - إن هذا الفرق بين الصغير والكبير (5).
واختلفوا في إنبات (6) الشعر الخشن حول الفرج ، وهو الشِّعْرة ، هل تَدُل على بلوغ أم لا ؟ على ثلاثة أقوال ، يفرق في الثالث بين صبيان المسلمين ، فلا يدل (7) على ذلك لاحتمال المعالجة ، وبين صبيان أهل الذمة فيكون بلوغا في حقهم ؛ لأنه لا يتعجل بها إلا ضرب الجزية عليه ، فلا يعالجها. والصحيح أنها بلوغ في حق الجميع لأن هذا أمر جِبِلِّيٌّ يستوي فيه الناس ، واحتمال المعالجة بعيد ، ثم قد دلت السنة على ذلك في الحديث الذي رواه الإمام أحمد ، عن عَطيَّةَ القُرَظيّ ، رضي الله عنه قال : عُرضنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قُرَيْظة فكان من أنْبَتَ قُتل ، ومن لم يُنْبت خَلّي سبيله ، فكنت فيمن لم يُنْبِت ، فخلي سبيلي.
__________
(1) في جـ ، ر ، أ : "الأرزاق".
(2) في جـ ، أ : "بإسناده".
(3) سنن أبي داود برقم (2873).
(4) في جـ ، أ : "ويستكمل".
(5) صحيح البخاري برقم (2664) وصحيح مسلم برقم (1868).
(6) في ر : "إثبات".
(7) في جـ ، أ : "فلا يدل بلوغ".

(2/215)


وقد أخرجه أهل السنن الأربعة بنحوه (1) وقال الترمذي : حسن صحيح. وإنما كان كذلك ؛ لأن سعد بن معاذ ، رضي الله عنه ، كان قد حكم فيهم بقتل المقاتلة وسَبْي الذرية.
وقال الإمام أبو عبيد (2) القاسم بن سلام في كتاب "الغريب" : حدثنا ابن علية ، عن إسماعيل بن أمية ، عن محمد بن يحيى بن حيان ، عن عمر : أن غلاما ابتهر جارية في شعره ، فقال عمر ، رضي الله عنه : انظروا إليه. فلم يوجد أنبت ، فَدَرَأَ عنه الحَد. قال أبو عُبَيد : ابتهرها : أي قذفها ، والابتهار (3) أن يقول : فعلت بها وهو كاذب (4) فإن كان صادقا فهو الابتيار ، قال الكميت في شعره.
قبيح بمثلي نعتُ الفَتَاة... إمَّا ابتهارًا وإمَّا ابتيارا (5)
وقوله : { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } قال سعيد بن جبير : يعني : صَلاحا في دينهم وحفظا لأموالهم. وكذا روي عن ابن عباس ، والحسن البصري ، وغير واحد من الأئمة. وهكذا قال الفقهاء متَى بلغَ الغلام مُصْلحًا لدينه وماله ، انفك الحجر عنه ، فيسلم إليه ماله الذي تحت يد وليه بطريقه.
وقوله : { وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا } ينهى تعالى عن أكل أموال اليتامى من غير حاجة ضرورية إسرافا ومبادرةً قبل بلوغهم.
ثم قال تعالى : { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ } [أي] (6) من كان في غُنْية عن مال اليتيم فَلْيستعففْ عنه ، ولا يأكل منه شيئا. قال الشعبي : هو عليه كالميتة والدم.
{ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } قال ابن أبي حاتم : حدثنا الأشج ، حدثنا عبد الله بن سليمان ، حدثنا هشام ، عن أبيه ، عن عائشة : { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ } نزلت في مال (7) اليتيم.
وحدثنا الأشج وهارون بن إسحاق قالا حدثنا عبدة بن سليمان ، عن هشام ، عن أبيه ، عن ، قالت : نزلت في والي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلحه إذا كان محتاجا أن يأكل منه.
وحدثنا أبي ، حدثنا محمد بن سعيد الأصبهاني ، حدثنا علي (8) بن مسهر ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : أنزلت هذه الآية في والي اليتيم { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } بقدر قيامه عليه.
ورواه البخاري عن إسحاق عَنْ عبد الله بن نُمَير ، عن هشام ، به.
قال الفقهاء : له أن يأكل أقل الأمرين : أجْرَةَ مثله أو قدر حاجته. واختلفوا : هل يرد إذا أيسر ، على قولين : أحدهما : لا ؛ لأنه أكل بأجرة عمله وكان فقيرا. وهذا هو الصحيح عند أصحاب الشافعي ؛ لأن الآية أباحت الأكل من غير بدل. وقد قال الإمام أحمد :
__________
(1) المسند (4/310) وسنن أبي داود برقم (4404) (4405) وسنن الترمذي برقم (1584) وسنن النسائي (6/155) وسنن ابن ماجة برقم (2541 ، 2542).
(2) في جـ ، أ : "أبو عبد الله".
(3) في جـ ، ر : "قال : والابتهار".
(4) في ر : "كذب".
(5) غريب الحديث لأبي عبيد (3/289) والبيت في اللسان أيضا مادة (بهر).
(6) زيادة من جـ ، أ.
(7) في جـ ، ر ، أ : "والى".
(8) في جـ ، أ : "الأصبهاني وعلي".

(2/216)


حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا حسين ، عن عَمْرو بن شُعَيب ، عن أبيه ، عن جده : أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ليس لي مال ولي يتيم ؟ فقال : "كُلْ من مال يتيمك غير مُسْرِف ولا مُبذر ولا متأثِّل مالا ومن غير أن تقي مالك - أو قال : تفدي مالك - بماله" شك حسين (1).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، حدثنا حسين المكتب ، عن عَمْرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن عندي يتيما عنده مال - وليس عنده شيء ما - آكل من ماله ؟ قال : "بالمعروف غير مُسرف".
ورواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة من حديث حسين المعلم (2) به.
وروى أبو حاتم ابن حبّان في صحيحه ، وابن مردويه في تفسيره من حديث يعلى بن مهدي ، عن جعفر بن سليمان ، عن أبي عامر الخَزّاز ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر : أن رجلا قال : يا رسول الله ، فيم أضرب يتيمي ؟ قال : ما كنتَ ضاربا منه ولدك ، غير واق مالك بماله ، ولا متأثل منه مالا (3).
وقال ابن جرير : حدثنا الحسن (4) بن يحيى ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا الثوري ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم بن محمد قال : جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال : إن في حجري أيتاما ، وإن لهم إبلا ولي إبل ، وأنا أمنح (5) في إبلي وأفْقر فماذا يحل لي من ألبانها ؟ فقال : إن كنت تبغي ضالتها وتهْنَأ جرباها ، وتلوط حوضها ، وتسقى (6) عليها ، فاشرب غير مُضر بنسل ، ولا ناهك في الحلب.
ورواه مالك في موطئه ، عن يحيى بن سعيد (7) به.
وبهذا القول - وهو عدمُ أداء البدل (8) - يقول عطاء بن أبي رباح ، وعكرمة ، وإبراهيم النخعيّ ، وعطية العوْفي ، والحسن البصري.
والثاني : نعم ؛ لأن مال اليتيم على الحظْر ، وإنما أبيح للحاجة ، فيرد بدله كأكل مال الغير للمضطر عند الحاجة. وقد قال أبو بكر ابن أبي الدنيا : حدثنا ابن خيثمة ، حدثنا وَكِيع ، عن سفيان وإسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن مُضرَب قال : قال عمر [بن الخطاب] (9) رضي الله عنه : إنى أنزلت نفسي من هذا المال بمنزلة والي اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن احتجت استقرضت ،
__________
(1) المسند (3/186).
(2) سنن أبي داود برقم (2872) ، وسنن النسائي (6/256) وسنن ابن ماجة برقم (2718).
(3) رواه ابن حبان في صحيحه برقم (4244) "الإحسان" ورواه البيهقي في السنن الكبرى (6/4) والطبراني في المعجم الصغير (1/89) كلاهما من طريق أبي عامر الخزاز عن عمرو بن دينار به.
(4) في جـ ، أ : "الحسين".
(5) في أ : "أشبع".
(6) في أ : "وتسعى".
(7) تفسير الطبري (7/588) وموطأ مالك (2/934) ومن طريق مالك رواه النحاس في الناسخ والمنسوخ (ص 298) ثم قال : "هذا إسناد صحيح".
(8) في جـ : "وهو رد عدم البدل".
(9) زيادة من جـ.

(2/217)


فإذا أيسرتُ قضيت (1).
طريق أخرى : قال سعيد بن منصور : حدثنا أبو الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : قال لي عمر ، رضي الله عنه : إني أنزلْتُ نفسي من مال الله بمنزلة والي اليتيم ، إن احْتَجْتُ أخذت منه ، فإذا أيسَرت رَدَدْتُه ، وإن اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفْتُ.
إسناد صحيح (2) وروَى البيهقي عن ابن عباس نحوَ ذلك. وهكذا رواه ابنُ أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } يعني : القرض. قال : ورُوي عن عُبَيدة ، وأبي العالية ، وأبي وائل ، وسعيد بن جُبَير - في إحدى الروايات - ومجاهد ، والضحاك ، والسّدي نحو ذلك. وروي من طريق السدي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : { فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } قال : يأكل بثلاث أصابع.
ثم قال : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا ابن مَهْديّ ، حدثنا سفيانُ ، عن الحكم ، عن مقْسم ، عن ابن عباس : { وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } قال : يأكل من ماله ، يقوت على يتيمه (3) حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم. قال : ورُوي عن مجاهد وميمون بن مِهْران في إحدى الروايات والحكم نحو ذلك.
وقال عامر الشَّعْبِيّ : لا يأكل منه إلا أن يضطر إليه ، كما يضطر إلى [أكل] (4) الميتة ، فإن أكل منه قضاه. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن وهب : حدثني نافع بن أبي نُعَيْم القَارئ قال : سألت يحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة عن قول الله : { فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } فقالا (5) ذلك في اليتيم ، إن كان فقيرا أنفق (6) عليه بقدر فقره ، ولم يكن للولي منه شيء.
وهذا بعيد من السياق ؛ لأنه قال : { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ } يعني : من الأولياء { وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } أي : منهم { فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } أي : بالتي هي أحسن ، كما قال في الآية الأخرى : { وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } [الإسراء : 34]أي : لا تقربوه إلا مصلحين له ، وإن احتجتم إليه أكلتم منه بالمعروف.
وقوله : { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } يعني : بعد بلوغهم الحلم وإيناس الرشد [منهم] (7) فحينئذ سلموهم أموالهم ، فإذا دفعتم إليهم أموالهم { فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ } وهذا أمر الله تعالى للأولياء (8) أن يشهدوا على الأيتام إذا بلغوا الحلم وسلموا (9) إليهم أموالهم ؛ لئلا يقع من بعضهم جُحُود وإنكار لما قبضه وتسلمه.
__________
(1) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (6/5) والطبري في تفسيره (7/582) من طريق سفيان وإسرائيل به.
(2) ورواه النحاس في الناسخ والمنسوخ (ص 296) من طريق أبي الأحوص عن أبي إسحاق به.
(3) في جـ ، أ : "على نفسه".
(4) زيادة من جـ.
(5) في جـ : "قال" ، وفي أ : "قالا".
(6) في جـ : "تنفق" وفي أ : "انتفق".
(7) زيادة من جـ ، أ.
(8) في جـ : "هذا أمر الله للأولياء".
(9) في جـ ، ر : "تسلموا" ، وفي أ : "ويسلموا".

(2/218)


ثم قال : { وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا } أي : وكفى بالله محاسبا وشهيدًا ورقيبا على الأولياء في حال نظرهم للأيتام ، وحال تسليمهم (1) للأموال : هل هي كاملة موفرة ، أو منقوصة مَبْخوسة مدخلة مروج حسابها مدلس أمورها ؟ الله عالم بذلك كله. ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يا أبا ذر ، إني أراك ضعيفا ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي ، لا تَأَمَّرَن على اثنين ، ولا تَلِيَنَّ مال يتيم" (2).
__________
(1) في و : "تسلمهم الأموال".
(2) صحيح مسلم برقم (1826).

(2/219)


لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)

{ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) }
قال سعيد بن جبير وقتادة : كان المشركون يجعلون المال للرجال الكبار ، ولا يورثون النساء ولا الأطفال شيئا ، فأنزل الله : { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ [وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا] (1) } أي : الجميع فيه سواء في حكم الله تعالى ، يستوون في أصل الوراثة وإن تفاوتوا بحسب ما فرض الله [تعالى] (2) لكل منهم ، بما يدلي به إلى الميت من قرابة ، أو زوجية ، أو ولاء. فإنه لُحْمَة كَلُحمة النسب. وقد روى ابن مردويه من طريق ابن هَرَاسة (3) عن سفيان الثوري ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر قال : جاءت أم كُجَّة (4) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن لي ابنتين ، وقد مات أبوهما ، وليس لهما شيء ، فأنزل الله تعالى : { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ } الآية ، وسيأتي هذا الحديثُ عند آيتي الميراث بسياق آخر ، والله أعلم.
وقوله : { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ [أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا] (5) } قيل : المراد : وإذا حضر قسمة الميراث ذوو القربى ممن ليس بوارث واليتامى والمساكين فَلْيَرْضَخْ لهم من التركة نصيب ، وأن ذلك كان واجبا في ابتداء الإسلام. وقيل : يستحب (6) واختلفوا : هل هو منسوخ أم لا ؟ على قولين ، فقال البخاري : حدثنا أحمد بن حُمَيد أخبرنا عُبَيدُ الله (7) الأشجعي ، عن سُفْيان ، عن الشَّيْباني ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ } قال : هي مُحْكَمَة ، وليست بمنسوخة. تابعه سَعيد عن ابن عباس.
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا عَبَّاد بن العَوَّام ، عن الحجاج ، عن الحَكَم ، عن مِقْسم ، عن ابن عباس قال : هي قائمة يعمل بها.
__________
(1) زيادة من جـ ، ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(2) زيادة من أ.
(3) في جـ : "من طريق ابن راهويه" وفي أ : "من طريق هواسة".
(4) في ر : "لجه".
(5) زيادة من جـ ، ر ، أ ، وفي الأصل : "الآية".
(6) في أ : "مستحب".
(7) في أ : "عبد الله".

(2/219)


وقال الثوري ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد في هذه الآية ، قال : هي واجبة على أهل الميراث ، ما طابت به أنفسهم. وهكذا روي عن ابن مسعود ، وأبي موسى ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، وأبي العالية ، والشعبي ، والحسن ، وابن سيرين ، وسعيد بن جُبَير ، ومكحول ، وإبراهيم النَّخَعي ، وعطاء بن أبي رباح ، والزهري ، ويحيى بن يَعْمَرَ : إنها واجبة.
وروى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج ، عن إسماعيل بن عُلَيَّةَ ، عن يونس بن عُبَيد ، عن محمد بن سيرين قال : ولي عبيدة وصية ، فأمر بشاة فذبحت ، فأطعم أصحاب هذه الآية ، وقال : لولا هذه الآية لكان هذا من مالي.
وقال مالك ، فيما يروى عنه من التفسير في جزء مجموع ، عن الزهري : أن عروة أعْطى من مال مصعب حين قسم ماله. وقال الزهري : وهي محكمة.
وقال مالك ، عن عبد الكريم ، عن مجاهد قال : هو حق واجب ما طابت به الأنفس.
ذكر من ذهب إلى أن ذلك أمر بالوصية لهم :
قال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جُرَيج (1) أخبرني ابن أبي مُلَيكة : أن أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ، والقاسم بن محمد أخبراه : أن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر قسم ميراث أبيه عبد الرحمن وعائشة حَية قالا فلم يدع في الدار مسكينا ولا ذا قرابة إلا أعطاه من ميراث أبيه. قالا وتلا { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبَى } قال القاسم : فذكرت ذلك لابن عباس فقال : ما أصاب ، ليس ذلك له ، إنما ذلك إلى الوصية ، وإنما هذه الآية في الوصية يزيد الميت [أن] (2) يوصي لهم. رواه ابن أبي حاتم (3).
ذكر من قال : إن هذه الآية منسوخة بالكلية :
قال سفيان الثوري ، عن محمد بن السائب الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس : { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ } قال : منسوخة.
وقال إسماعيل بن مسلم المكي ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال في هذه الآية : { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبَى } نسختها الآية التي بعدها : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ }
وقال العَوْفي ، عن ابن عَبَّاس في هذه الآية : { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبَى } كان ذلك قبل أن تَنزل (4) الفرائض ، فأنزل الله بعد ذلك الفرائض ، فأعطى كل ذي حق حقه ، فجعلت الصدقة فيما سَمى المتوفى. رواهن ابن مَرْدُويه.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن (5) بن محمد بن الصبَّاح ، حدثنا حَجَّاج ، عن ابن جُرَيج وعثمان بن عطاء عن عَطاء ، عن ابن عباس قوله : { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ }
__________
(1) في أ : "ابن جرير".
(2) زيادة من أ.
(3) ورواه الطبري في تفسيره (8/10 ، 11) من طريق ابن جريج عن ابن أبي مليكة به.
(4) في جـ ، أ : "ينزل".
(5) في جـ ، أ : "الحسين".

(2/220)


نسختها آية الميراث ، فجعل لكل إنسان نصيبه مما تَرك الوالدان والأقربون - مما قل منه أو كثر - [نصيبا مفروضا] (1)
وحدثنا أسيد بن عاصم ، حدثنا سعيد بن عامر ، عن همام ، حدثنا (2) قتادة ، عن سعيد بن المسيب أنه قال : إنها منسوخة ، كانت قبل الفرائض ، كان ما ترك الرجل من مال أعطى منه اليتيم والفقير والمسكين وذوي القربى إذا حَضروا القسمة ، ثم نسخ بعد ذلك ، نسختها المواريث ، فألحق الله بكل ذي حَق حقه ، وصارت الوصية من ماله ، يوصي بها لذوي قرابته حيث يشاء.
وقال مالك ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب : هي منسوخة ، نسختها المواريث والوصية.
وهكذا روي عن عكرمة ، وأبي الشعثاء ، والقاسم بن محمد ، وأبي صالح ، وأبي مالك ، وزيد ابن أسلم ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، ومقاتل بن حَيَّان ، وربيعة بن أبي عبد الرحمن : أنهم قالوا : إنها (3) منسوخة. وهذا مذهب جُمْهور الفقهاء والأئمة الأربعة وأصحابهم.
وقد اختار ابن جرير هاهنا قولا غريبا جدًا ، وحاصله : أن معنى الآية عنده { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ } أي : وإذا حضر قسمة مال الوصية أولو قرابة الميت { فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ } لليتامى والمساكين إذا حضروا { قَوْلا مَعْرُوفًا } هذا مضمون ما حاوله بعد طُول العبارة والتكرار ، وفيه نظر ، والله أعلم.
وقد قال العَوْفي عن ابن عباس : { وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ } وهي قسمة الميراث. وهكذا قال غير واحد ، والمعنى على هذا لا على ما سلكه أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله ، بل المعنى : أنه إذا حضر هؤلاء الفقراء من القرابة الذين لا يَرثون ، واليتامى والمساكين قسمة مال جزيل ، فإن أنفسهم تتوق (4) إلى شيء منه ، إذا رأوا هذا يأخذ وهذا يأخذ وهذا يأخذ ، وهم يائسون لا شيء يعطون ، فأمر الله تعالى - وهو الرءوف الرحيم - أن يُرضَخ لهم شيء من الوسَط يكون برا بهم (5) وصدقة عليهم ، وإحسانا إليهم ، وجبرا لكسرهم. كما قال الله تعالى : { كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } [الأنعام : 141]وذم الذين ينقلون المال (6) خفية ؛ خشية أن يطلع عليهم المحاويج وذوو الفاقة ، كما أخبر عن أصحاب الجنة { إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ } [القلم : 17]أي : بليل. وقال : { فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ. أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ } [القلم : 23 ، 24]{ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا } [محمد : 10]فمن جَحَد حق الله عليه عاقبه (7) في أعز ما يملكه ؛ ولهذا جاء في الحديث : "ما خالطت الصَّدَقَةُ مالا إلا أفسدته" (8) أي : منعها يكون سبب محاق ذلك المال بالكلية.
__________
(1) زيادة من جـ ، أ.
(2) في جـ ، أ : "عن".
(3) في أ : "هي".
(4) في جـ ، ر ، أ : "تتشوق".
(5) في أ : "لهم".
(6) في جـ : "يشتغلون بالمال" ، وفي ر ، أ : "يستغلون المال".
(7) في أ : "عاقبه الله".
(8) رواه البزار في مسنده برقم (881) "كشف الأستار" من حديث عائشة ، وقال الهيثمي في المجمع (3/64) : "فيه عثمان الجمحي قال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتج به".

(2/221)


وقوله : { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ [ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ] (1) } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هذا في الرجل يَحْضُره الموت ، فيسمعه الرجل يوصي بوصية تَضر بورثته ، فأمر الله تعالى الذي يسمعه أن يتقي الله ، ويوفقه ويسدده للصواب ، ولينظر لورثته كما كان يحب أن يصنع بورثته إذا خشي عليهم الضَّيْعَةَ.
وهكذا قال مجاهد وغير واحد ، وثبت في الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على سَعْد بن أبي وقاص يعوده قال : يا رسول الله ، إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة ، أفأتصدق بثلثي مالي ؟ قال : "لا". قال : فالشَّطْر ؟ قال : "لا". قال : فالثلث ؟ قال : "الثلث ، والثلث كثير". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنك إن تَذر وَرَثَتَك أغنياء خَيْر من أن تَذَرَهم عَالةً يتكَفَّفُون الناس" (2).
وفي الصحيح أن ابن عباس قال : لو أن الناس غَضّوا من الثلث إلى الربع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "الثلث ، والثلث كثير" (3).
قال الفقهاء : إن كان ورثة الميت أغنياء استُحب للميت أن يَسْتَوفي الثلث في وصيته (4) وإن كانوا فقراء استُحب أن يَنْقُص الثلث.
وقيل : المراد بقوله : { وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ } [أي] (5) في مباشرة أموال اليتامى { وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا }
حكاه ابن جرير من طريق العَوْفي ، عن ابن عباس : وهو قول حسن ، يتأيد بما بعده من التهديد في أكل مال اليتامى ظلما ، أي : كما تحب أن تعامل ذريتك من بعدك ، فعامل الناس في ذرياتهم (6) إذا وليتهم.
ثم أعلمهم أن من أكل مال يتيم ظلما فإنما يأكل في بطنه نارًا ؛ ولهذا قال : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا } أي : إذا أكلوا أموال اليتامى بلا سبب ، فإنما يأكلون نارًا تَأجَّج (7) في بطونهم يوم القيامة. وثبت في الصحيحين من حديث سليمان ابن بلال ، عن ثَوْر بن زيد (8) عن سالم أبي الغَيْث ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "اجْتَنبوا السَّبْعَ الموبقات" قيل : يا رسول الله ، وما هن ؟ قال : "الشِّرْكُ بالله ، والسِّحْر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولِّي يوم الزَّحْفِ ، وقَذْفُ المحصنات المؤمنات الغافلات".
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبيدة (9) أخبرنا أبو عبد الصمد عبد العزيز بن عبد الصمد العمِّى ، حدثنا أبو هاروي (10) العَبْدي عن أبي سعيد الخدري قال : قلنا : يا رسول الله ، ما رأيت
__________
(1) زيادة من جـ ، ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(2) صحيح البخاري برقم (2742) وصحيح مسلم برقم (1628).
(3) صحيح البخاري برقم (2743) وصحيح مسلم برقم (1629).
(4) في أ : "أن يستوفى في وصيته ثلث ماله".
(5) زيادة من جـ ، ر.
(6) في أ : "ذراريهم".
(7) في جـ ، أ : "تتأجج".
(8) في جـ ، أ : "يزيد".
(9) في أ : "عبد الله".
(10) في جـ ، ر ، أ : "هارون".

(2/222)


يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)

ليلة أسري بك ؟ قال : "انطَلَق بي إلى خَلْقٍ من خَلْقِ الله كثير ، رِجَال ، كل رجل له مِشْفَران كمشفري البعير ، وهو موَكَّل بهم رجال يفكون (1) لحاء (2) أحدهم ، ثم يُجَاءُ بِصَخْرَةٍ من نار فَتُقْذَف في فِي أحدهم حتى يخرج من أسفله ولهم (3) خُوار وصُرَاخ. قلت (4) يا جبريل ، من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظُلْمًا إنما يأكلون في بطونهم نارا وسَيَصْلَوْن سَعِيرًا" (5).
وقال السدي : يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة ولهب النار يخرج (6) من فِيهِ ومن مسامعه وأنفه وعينيه ، يعرفه من رآه بأكل مال اليتيم.
وقال أبو بكر ابن مردويه : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد ، حدثنا أحمد بن عمرو ، حدثنا عقبة بن مكرم ، حدثنا يونس بن بُكَير ، حدثنا زياد بن المنذر ، عن نافع بن الحارث عن أبي برزة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يبعث يوم القيامة القوم (7) من قبورهم تَأَجَّج أفواههم نارا" قيل : يا رسول الله ، من هم ؟ قال : "ألم تر أن الله قال : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا] (8) } الآية.
رواه (9) ابن أبي حاتم ، عن أبي زُرْعة ، عن عُقْبة بن مكرم وأخرجه أبو حاتم بن حبّان في صحيحه ، عن أحمد بن علي بن المثنى ، عن عقبة بن مكرم (10).
وقال ابن مَردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر ، أحمد بن عصام (11) حدثنا أبو عامر العبدي ، حدثنا عبد الله (12) بن جعفر الزهري ، عن عثمان بن محمد ، عن المقبرِيّ ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أُحَرِّجُ مال الضَّعِيفيْن : المرأة واليتيم" (13) أي (14) أوصيكم باجتناب مالهما.
وتقدم في سورة البقرة من طريق عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما أنزل الله : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا [إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا] (15) } انطلق من كان عنده يتيم ، فَعَزَل طعامه من طعامه ، وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل الشيء فَيُحْبَس له حتى يأكله أو يفسد (16) فاشتد ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ [وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ] (17) } [البقرة : 220].
{ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) }
__________
(1) في أ : "يكفون".
(2) في ر : "لحيي".
(3) في ر ، أ : "وله".
(4) في أ : "فقلت".
(5) ورواه الطبري في تفسيره (8/27) من طريق معمر عن أبي هارون العبدي به.
قال الشيخ أحمد شاكر - رحمه الله : "أبو هارون العبدي هو عمارة بن جوين روى عن أبي سعيد وابن عمر وهو ضعيف ، وقالوا : كذاب" قال الدارقطني : "يتلون ، خارجي وشيعي" وقال ابن حبان : "كان يروي عن أبي سعيد ما ليس من حديثه لا يحل كتب حديثه إلا على جهة التعجب".
(6) في ر : "تخرج".
(7) في جـ : "ناس".
(8) زيادة من جـ ، ر ، أ.
(9) في جـ ، أ : "أخرجه".
(10) صحيح ابن حبان برقم (2580) "موارد" من طريق أبي يعلى وهو في مسنده (13/434) وفي إسناده زياد بن المنذر وشيخه نفيع بن الحارث متروكان عند الأئمة.
(11) في أ : "عاصم".
(12) في ر : "عبيد الله".
(13) وفي إسناده أحمد بن عصام الموصلي ضعفه الدارقطني.
(14) في أ : "إني".
(15) زيادة من جـ ، ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(16) في ر : "أو يفسده".
(17) زيادة من جـ ، ر ، أ.

(2/223)


هذه الآية الكريمة والتي (1) بعدها والآية التي هي خاتمة هذه السورة هن آيات علم الفرائض ، وهو مستنبط من هذه الآيات الثلاث ، ومن الأحاديث الواردة في ذلك مما هي كالتفسير لذلك وَلنذْكُرْ منها ما هو متعلق بتفسير ذلك ، وأما تقرير المسائل ونصب الخلاف والأدلة ، والحجاج بين الأئمة ، فموضعه كتاب "الأحكام" فالله المستعان (2).
وقد ورد الترغيب في تعلم الفرائض ، وهذه الفرائض الخاصة (3) من أهم ذلك. وقد روى أبو داود وابن ماجة ، من حديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي ، عن عبد الرحمن بن رافع التنوخي ، عن عبد الله بن عمرو ، رضي الله عنه (4) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "العِلْمُ ثلاثة ، وما سِوَى ذلك فهو فَضْلٌ : آية مُحْكَمَةٌ ، أو سُنَّةٌ قائمةٌ ، أو فَريضةٌ عَادَلةٌ" (5).
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا أبا هريرة ، تَعلَّمُوا الفرائِضَ وعلِّموهُ فإنه نصْف العلم ، وهو يُنْسَى ، وهو أول شيء (6) يُنْتزَع من أمتي".
رواه ابن ماجة ، وفي إسناده ضعف (7).
وقد رُوي من حديث عبد الله بن مسعود وأبي سعيد (8) وفي كل منهما نظر. قال [سفيان] (9) ابن عيينة : إنما سَمَّى الفرائض نصفَ العلم ؛ لأنه يبتلى (10) به الناس كلهم.
وقال البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا هشام : أن ابن جُرَيج
__________
(1) في ر : "والذي".
(2) في جـ ، ر ، أ : "وبالله المستعان".
(3) في جـ ، أ : "الخاصة وهي من أهم ذلك".
(4) في جـ ، ر ، أ : "عنهما".
(5) سنن أبي داود برقم (2885) وسنن ابن ماجة برقم (54) ورواه الحاكم في المستدرك (4/332) والبيهقي في السنن الكبرى (6/208) والدارقطني في السنن (4/67) من طريق عبد الرحمن بن زياد الإفريقي به. قال الذهبي في هذا الحديث والذي بعده : الحديثان ضعيفان.
(6) في جـ ، أ : "علم".
(7) سنن ابن ماجة برقم (2719) ورواه الدارقطني في السنن (4/67) والحاكم في المستدرك (4/332) والبيهقي في السنن الكبرى (6/208) من طريق حفص بن عمر بن أبي العطاف به. قال الذهبي : "فيه حفص بن عمر بن أبي العطاف وهو واه بمرة".
(8) حديث ابن مسعود "تعلموا الفرائض وعلموها فإني امرؤ مقبوض.." الحديث ، رواه الحاكم في المستدرك (4/333).
(9) زيادة من : ر ، أ.
(10) في أ : "تبتلى".

(2/224)


أخبرهم قال : أخبرني ابن المُنْكدِر ، عن جابر بن عبد الله قال : عادني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في بني سَلمَةَ ماشيين ، فوجَدَني النبي صلى الله عليه وسلم لا أعقل شيئا ، فدعا بماء فتوضأ منه ، ثم رَش عَلَيَّ ، فأفقت ، فقلت : ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله ؟ فنزلت : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ }.
وكذا رواه مسلم والنسائي ، من حديث حجاج بن محمد الأعور ، عن ابن جريج (1) به ، ورواه الجماعةُ كُلّهم من حديث سفيان بن عُيَينة ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر (2).
حديث آخر عن جابر في سبب نزول الآية : قال الإمام أحمد : حَدّثنا زكريا بن عدي ، حدثنا عبيد الله - هو ابن عَمْرو (3) الرقيّ - عن عبد الله بن محمد بن عَقيل ، عن جابر قال : جاءت امرأة سعد بن الرَّبيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، هاتان ابنتا سعد بن الربيع ، قُتل أبوهما معك في أحُد شهيدا ، وإن عمهما أخذ مالهما ، فلم يَدَعْ لهما مالا ولا يُنْكَحَان إلا ولهما مال. قال : فقال : "يَقْضِي اللَّهُ في ذلك". قال : فنزلت آية الميراث ، فأرسل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال : "أعْطِ ابْنَتي سعد الثلثين ، وأُمُّهُمَا الثُّمُنَ ، وما بقي فهو لك".
وقد رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة ، من طرق ، عن عبد الله بن محمد بن عُقَيل ، به. قال الترمذي : ولا يعرف إلا من حديثه (4).
والظاهر أن (5) حديث جابر الأول إنما نزل بسببه الآية الأخيرة من هذه السورة كما سيأتي ، فإنه إنما كان له إذ ذاك أخوات ، ولم يكن له بنات ، وإنما كان يورث كلالة ، ولكن ذكرنا الحديث هاهنا تبعا للبخاري ، رحمه الله ، فإنه ذكره هاهنا. والحديث الثاني عن جابر أشبه بنزول هذه الآية ، والله أعلم.
فقوله (6) تعالى : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ } أي : يأمركم بالعدل فيهم ، فإن أهل الجاهلية كانوا يجعلون جميع الميراث للذكور دون الإناث ، فأمر الله تعالى بالتسوية بينهم في أصل الميراث ، وفاوت بين الصنفين ، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين ؛ وذلك لاحتياج الرجل إلى مؤنة النفقة والكلفة ومعاناة التجارة والتكسب وتجشُّم المشقة ، فناسب أن يُعْطَى ضعْفَيْ ما تأخذه (7) الأنثى.
وقد استنبط بعض الأذكياء من قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ } أنه تعالى أرحم بخلقه من الوالد بولده ، حيث أوصى الوالدين بأولادهم ، فعلم (8) أنه أرحم بهم منهم ، كما جاء في الحديث الصحيح.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4577) وصحيح مسلم برقم (1616) وسنن النسائي الكبرى برقم (6323).
(2) طريق سفيان رواها البخاري في صحيحه برقم (5651) ومسلم في صحيحه برقم (1616) وأبو داود في السنن برقم (2886) والترمذي في السنن برقم (2097) والنسائي في السنن (1/87) وابن ماجة في السنن برقم (2728).
(3) في أ : "عمر".
(4) المسند (3/352) وسنن أبي داود برقم (2892 ، 2891) وسنن الترمذي برقم (2092) وسنن ابن ماجة برقم (2720).
(5) في أ : "أنه".
(6) في أ : "وقوله".
(7) في ر : "ما تأخذ".
(8) في أ : "منكم".

(2/225)


وقد رأى امرأة من السَّبْي تدور على ولدها ، فلما وجدته أخذته فألْصَقَتْه بصَدْرها وأرضعته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : "أتَروْن هذهِ طارحةَ ولدها (1) في النار وهي تَقْدِرُ على ذلك ؟ " قالوا : لا يا رسول الله : قال : "فَوَاللهِ للَّهُ أًرْحَمُ بعبادِهِ من هذه بِوَلَدِهَا".
وقال البخاري هاهنا : حدثنا محمد بن يوسف ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن عَطاء ، عن ابن عباس قال : كان المال للولد ، وكانت الوصية للوالدين ، فنَسَخ الله من ذلك ما أحب ، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين ، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والثلث ، وجعل للزوجة الثمن والربع ، وللزوج الشطر والربع (2).
وقال العَوفي ، عن ابن عباس قوله : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ } وذلك أنه لما نزلت الفرائض التي فَرَضَ الله فيها ما فرض ، للولد الذكر والأنثى والأبوين ، كرهها الناس أو بعضهم وقالوا : تُعطَى المرأة الربع أو الثمن (3) وتعطى البنت (4) النصف. ويعطى الغلام الصغير. وليس أحد من هؤلاء يقاتل القوم ، ولا يحوز الغنيمة.. اسكتوا عن هذا الحديث لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينساه ، أو نقول له فيغير ، فقال بعضهم : يا رسول الله ، نعطي الجارية نصف ما ترك أبوها ، وليست تركب الفَرَس ، ولا تقاتل القوم ونُعطِي (5) الصبي الميراث وليس يُغني (6) شيئا.. وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية ، لا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم ، ويعطونه الأكبر فالأكبر. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير أيضا.
وقوله : { فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } قال بعض الناس : قوله : { فوق } زائدة وتقديره : فإن كنّ نساء اثنتين كما في قوله [تعالى] (7) { فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ } [الأنفال : 12] وهذا غير مُسَلَّم لا هنا ولا هناك ؛ فإنه ليس في القرآن شيء زائد لا فائدة فيه وهذا ممتنع ، ثم قوله : { فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } لو كان المراد ما قالوه لقال : فلهما ثلثا ما ترك. وإنما استفيد كون الثلثين للبنتين (8) من حكم الأختين في الآية الأخيرة ، فإنه تعالى حكم فيها للأختين بالثلثين. وإذا ورث الأختان الثلثين فلأن يرث البنتان الثلثين بطريق الأولى (9) وقد تقدم في حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم لابنتي سعد بن الربيع بالثلثين ، فدل الكتاب والسنة على ذلك ، وأيضا فإنه قال : { وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ } فلو كان للبنتين النصف [أيضا] (10) لنص عليه ، فلما حكم به للواحدة على انفرادها دل على أن البنتين في حكم الثلاث والله أعلم.
وقوله : { وَلأبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ [مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأمِّهِ السُّدُسُ] (11) }
__________
(1) في جـ : "بولدها".
(2) صحيح البخاري برقم (4578).
(3) في أ : "والثمن".
(4) في ر : "ويعطى الابنة" ، وفي جـ : "وتعطى الابنة".
(5) في ر ، أ : "ويعطي".
(6) في ر : "يعني".
(7) زيادة من جـ.
(8) في جـ ، ر : "كون للبنتين الثلثان".
(9) في جـ ، ر ، أ : "الأحرى".
(10) زيادة من جـ ، ر ، أ.
(11) زيادة من جـ ، ر ، أ.

(2/226)


إلى آخره ، الأبوان لهما في الميراث أحوال :
أحدها : أن يجتمعا مع الأولاد ، فيفرض لكل واحد منهما السدس فإن لم يكن للميت إلا بنت واحدة ، فرض لها النصف ، وللأبوين لكل واحد منهما السدس ، وأخذ الأب السدس الآخر بالتعصيب ، فيجمع (1) له - والحالة هذه - بين هذه الفرض والتعصيب.
الحال الثاني : أن ينفرد الأبوان بالميراث ، فيفرض للأم - والحالة هذه - الثلث ويأخذ الأب الباقي بالتعصيب المحض ، ويكون قد أخذ ضعفي ما فرض (2) للأم ، وهو الثلثان ، فلو كان معهما - والحالة هذه - زوج أو زوجة أخذ الزوج النصف والزوجة (3) الربع. ثم اختلف العلماء : ما تأخذ (4) الأم بعد فرض الزوج والزوجة على ثلاثة أقوال :
أحدها : أنها تأخذ ثلث الباقي في المسألتين ؛ لأن الباقي كأنه (5) جميع الميراث بالنسبة إليهما. وقد جعل الله لها نصف ما جعل للأب فتأخذ ثلث الباقي ويأخذ ثلثيه (6) وهو قول عمر وعثمان ، وأصح الروايتين عن علي. وبه يقول ابن مسعود وزيد بن ثابت ، وهو قول الفقهاء السبعة ، والأئمة الأربعة ، وجمهور العلماء - رحمهم الله.
والقول الثاني : أنها تأخذ ثلث جميع المال لعموم قوله : { فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأمِّهِ الثُّلُثُ } فإن الآية أعم من أن يكون معها زوج أو زوجة أو لا. وهو قول ابن عباس. وروي عن علي ، ومعاذ بن جبل ، نحوه. وبه يقول شريح وداود بن علي الظاهري واختاره الإمام أبو الحسين محمد بن عبد الله بن اللبان البصري (7) في كتابه "الإيجاز في علم الفرائض".
وهذا فيه نظر ، بل هو ضعيف ؛ لأن ظاهر الآية إنما هو [ما] (8) إذا استبد بجميع التركة ، فأما في هذه المسألة فيأخذ الزوج أو الزوجة الفرض ، ويبقى الباقي كأنه جميع التركة ، فتأخذ ثلثه ، كما تقدم.
والقول الثالث : أنها تأخذ ثلث جميع المال في مسألة الزوجة ، فإنها تأخذ الربع وهو ثلاثة (9) من اثني عشر ، وتأخذ الأم الثلث وهو أربعة ، فيبقى (10) خمسة للأب. وأما في مسألة الزوج فتأخذ ثلث الباقي ؛ لئلا تأخذ أكثر من الأب لو أخذت ثلث المال ، فتكون المسألة من ستة : للزوج النصف ثلاثة (11) وللأم ثلث ما بقي (12) وهو سهم ، وللأب الباقي بعد ذلك وهو سهمان. ويحكى هذا عن محمد بن سيرين ، رحمه الله ، وهو مركب من القولين الأولين ، موافق كلا منهما في صورة وهو ضعيف أيضا. والصحيح الأول ، والله أعلم.
والحال الثالث من أحوال الأبوين : وهو اجتماعهما مع الإخوة ، وسواء كانوا من الأبوين ، أو من
__________
(1) في أ : "فيجتمع".
(2) في جـ : "ما حصل" وفي ر : "ما فضل".
(3) في جـ ، ر : "أو الزوجة".
(4) في أ : "ماذا تأخذ".
(5) في أ : "كان".
(6) في ر : "الباقي".
(7) في أ : "المصري".
(8) زيادة من أ.
(9) في جـ ، ر : "ثلثه".
(10) في أ : "فبقى".
(11) في جـ ، ر : "ثلثه".
(12) في جـ : "الباقي".

(2/227)


الأب ، أو من الأم ، فإنهم لا يرثون مع الأب شيئًا ، ولكنهم مع ذلك يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس ، فيفرض لها مع وجودهم السدس ، فإن لم يكن وارث سواها وسوى الأب أخذ الأب الباقي.
وحكم الأخوين فيما ذكرناه كحكم الإخوة عند الجمهور. وقد روى البيهقي من طريق شُعْبة مولى ابن عباس ، عن ابن عباس أنه دخل على عثمان فقال : إن الأخوين لا يَردان الأم عن الثلث ، قال الله تعالى : { فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } فالأخوان ليسا بلسان قومك إخوة. فقال عثمان : لا أستطيع تغيير ما كان قبلي ، ومضى في الأمصار ، وتوارث به الناس.
وفي صحة هذا الأثر نظر ، فإن شُعْبَة هذا تكلَّم فيه مالك بن أنس ، ولو كان هذا صحيحا عن ابن عباس لذهب إليه أصحابه الأخصاء به ، والمنقول عنهم خلافه.
وقد روى عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن خارجة بن زيد ، عن أبيه أنه قال : الأخوان تسمى إخوة (1) وقد أفردت لهذه المسألة جُزءًا على حدة.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد العزيز بن المغيرة ، حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد ، عن قتادة قوله : { فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأمِّهِ السُّدُسُ } أضروا بالأم ولا يرثون ، ولا يحجبها الأخ الواحد من الثلث ويحجبها ما فوق ذلك ، وكان أهل العلم يَرون أنهم إنما حجبوا أمهم من الثلث أن أباهم يلي إنكاحهم ونفقته (2) عليهم دون أمهم.
وهذا كلام (3) حسن. لكن روي عن ابن عباس بإسناد صحيح أنه كان يرى أن السدس الذي حجبوه عن أمهم يكون لهم ، وهذا قول شاذ ، رواه ابن جرير في تفسيره فقال :
حدثنا الحسن بن يحيى ، حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر عن ابن طاوس ، عن أبيه عن ابن عباس ، قال : السدس الذي حَجَبَتْه الإخوة لأم لهم ، إنما حجبوا أمهم عنه ليكون لهم دون أبيهم.
ثم قال ابن جرير : وهذا قول مخالف لجميع الأمة ، وقد حدثني يونس ، أخبرنا سفيان ، أخبرنا عَمْرو ، عن الحسن بن محمد ، عن ابن عباس أنه قال : الكلالة من لا ولد له ولا والد.
وقوله : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } أجمع العلماء سلفًا وخلفًا : أن الدَّيْن مقدم على الوصية ، وذلك عند إمعان النظر يفهم من فَحْوَى الآية الكريمة. وقد روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة وأصحاب التفاسير ، من حديث أبي إسحاق ، عن الحارث بن عبد الله الأعور ، عن علي بن أبي طالب [رضي الله عنه] (4) قال : إنكم تقرءون { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية ، وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العَلات ، يرث الرجل أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه. ثم قال الترمذي : لا نعرفه إلا من حديث الحارث الأعور ، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم (5).
__________
(1) في جـ ، ر ، أ : "وتسمى الأخوان إخوة".
(2) في جـ : "والنفقة".
(3) في جـ : "الكلام".
(4) زيادة من أ.
(5) سنن الترمذي برقم (2094).

(2/228)


قلت : لكن كان حافظًا للفرائض معتنياً بها وبالحساب (1) فالله (2) أعلم.
وقوله : { آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا } أي : إنما فرضنا للآباء وللأبناء ، وساوينا بين الكل في أصل الميراث على خلاف ما كان عليه الأمر في الجاهلية ، وعلى خلاف ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام من كون المال للولد وللوالدين (3) الوصية ، كما تقدم عن ابن عباس ، إنما نسخ الله ذلك إلى هذا ، ففرض لهؤلاء ولهؤلاء بحسبهم ؛ لأن الإنسان قد يأتيه النفع الدنيوي - أو الأخروي أو هما - من أبيه ما لا يأتيه من ابنه ، وقد يكون بالعكس ؛ فلهذا قال : { آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا } أي : كأن (4) النفع متوقع ومرجو من هذا ، كما هو متوقع ومرجو من الآخر ؛ فلهذا فرضنا لهذا ولهذا ، وساوينا بين القسمين في أصل الميراث ، والله أعلم.
وقوله : { فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ } أي : [من] (5) هذا الذي ذكرناه من تفصيل الميراث ، وإعطاء بعض الورثة أكثر من بعض - هو فرض من الله حكم به وقضاه ، والله (6) عليم حكيم الذي يضع الأشياء في محالها ، ويعطي كلا ما يستحقه بحسبه ؛ ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا }
__________
(1) قال أبو بكر بن أبي داود : "الحارث كان أفقه وأفرض الناس وأحسب الناس ، تعلم الفرائض من علي" ، وقيل للشعبي : كنت تختلف إلى الحارث ؟ قال : نعم ، كنت أختلف إليه أتعلم الحساب ، كان أحسب الناس.
لكن ضعف في روايته للحديث ، ضعفه جماعة منهم الشعبي وجرير وابن مهدي وابن المديني ويحيى بن معين وأبو زرعة وأبو حاتم. انظر : تهذيب الكمال (5/244).
(2) في ر : "والله".
(3) في ر ، أ : "وللأبوين".
(4) في جـ ، ر ، أ : "كما أن".
(5) زيادة من ر.
(6) في جـ ، ر ، أ : "وهو".

(2/229)


وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)

{ وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) }
يقول تعالى : ولكم - أيها الرجال - نصف ما ترك أزواجكم إذا مُتْن عن غير ولد ، فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد [وصية] (1) يوصين بها أو دين. وقد تقدم أن الدين مقدم على الوصية ، وبعده الوصية ثم الميراث ، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء ، وحكم أولاد البنين وإن سفلوا حكم أولاد الصلب.
ثم قال : { وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ [إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ] (2) } إلخ ، وسواء في الربع أو الثمن الزوجة والزوجتان الاثنتان والثلاث والأربع يشتركن (3) فيه.
__________
(1) زيادة من جـ ، ر ، أ.
(2) زيادة من جـ ، ر ، أ.
(3) في أ : "يشتركون".

(2/229)


وقوله : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ } إلخ ، الكلام عليه كما تقدم.
وقوله : { وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً } الكلالة : مشتقة من الإكليل ، وهو الذي يحيط بالرأس من جوانبه ، والمراد هنا (1) من يرثه من حواشيه لا أصوله ولا فروعه ، كما روى الشعبي عن أبي بكر الصديق : أنه سئل عن الكلالة ، فقال : أقول فيها برأيي ، فإن يكن صوابًا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان منه : الكلالة من لا ولد له ولا والد. فلما ولي عمر بن الخطاب قال : إني لأستحيي (2) أن أخالف أبا بكر في رأي رآه. رواه ابن جرير وغيره (3).
وقال ابن أبي حاتم ، رحمه الله ، في تفسيره : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد ، حدثنا سفيان ، عن سليمان الأحول ، عن طاوس قال : سمعت عبد الله بن عباس يقول : كنت آخر الناس عهدا بعمر بن الخطاب ، فسمعته يقول : القول ما قلت ، وما قلت (4) وما قلت. قال : الكلالة من لا ولد له ولا والد (5).
وهكذا قال علي بن أبي طالب وابن مسعود ، وصح عن (6) غير وجه عن عبد الله بن عباس ، وزيد بن ثابت ، وبه يقول الشعبي والنخعي ، والحسن البصري ، وقتادة ، وجابر بن زيد ، والحكم. وبه يقول أهل المدينة والكوفة والبصرة. وهو قول الفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف (7) بل جميعهم. وقد حكى الإجماع على ذلك غير واحد ، وورد فيه حديث مرفوع. قال أبو الحسين بن اللبان : وقد روي عن ابن عباس ما يخالف ذلك ، وهو أنه لا ولد له. والصحيح عنه الأول ، ولعل الراوي ما فهم عنه (8) ما أراد.
وقوله : { وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ } أي : من أم ، كما هو في قراءة بعض السلف ، منهم سعد بن أبي وقاص ، وكذا فسرها أبو بكر الصديق فيما رواه (9) قتادة عنه ، { فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ }
وإخوة الأم يخالفون بقية الورثة من وجوه ، أحدها : أنهم يرثون مع من أدلوا به وهي الأم. الثاني : أن ذكرهم وأنثاهم سواء. الثالث : أنهم لا يرثون إلا إذا كان ميتهم يورث كلالة ، فلا يرثون مع أب ، ولا جد ، ولا ولد ، ولا (10) ولد ابن. الرابع : أنهم لا يزادون (11) على الثلث ، وإن كثر (12) ذكورهم وإناثهم.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس ، حدثنا ابن وَهْب ، أخبرنا يونس ، عن الزهري قال : قضى عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، أن ميراث الإخوة من الأم بينهم ، للذكر مثل الأنثى (13) قال محمد بن شهاب الزهري : ولا أرى عمر قضى بذلك حتى علم بذلك (14) من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهذه الآية التي قال الله
__________
(1) في أ : "هاهنا".
(2) في ر : "إنني لأستحي" ، وفي جـ ، أ : "إني أستحي".
(3) تفسير الطبري (8/54) ورواه سعيد بن منصور في السنن برقم (591) ومن طريقه رواه البيهقي في السنن الكبرى (6/244) من طريق سفيان عن عاصم الأحول بنحوه.
(4) في ر : "القول".
(5) تفسير ابن أبي حاتم (2/ل115) ورواه سعيد بن منصور في السنن برقم (589) من طريق سفيان بن عيينة به.
(6) في جـ ، ر ، أ : "من".
(7) في جـ ، ر : "الخلف والسلف".
(8) في جـ : "ولعل الراوي عنه ما فهم ما أراد".
(9) في أ : "فيما روى".
(10) في جـ : "وكذا".
(11) في أ : "يزدادون".
(12) في جـ : "كنا".
(13) في ر : "مثل حظ الأنثيين".
(14) في جـ : "ذلك".

(2/230)


تعالى : { فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ }
واختلف العلماء في المسألة المشتركة ، وهي : زوج ، وأم أو جدة ، واثنان (1) من ولد الأم وواحد (2) أو أكثر من ولد الأبوين. فعلى قول الجمهور : للزوج النصف ، وللأم أو الجدة السدس ، ولولد الأم الثلث ، ويشاركهم فيه ولد الأب والأم بما بينهم من القدر المشترك وهو إخوةُ الأم.
وقد وقعت هذه المسألة في زمن (3) أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، فأعطى الزوج النصف ، والأم السدس ، وجعل الثلث لأولاد الأم ، فقال له أولاد الأبوين : يا أمير المؤمنين ، هب أن أبانا كان حمارا ، ألسنا من أم واحدة ؟ فشرك بينهم.
وصح التشريك عنه وعن أمير المؤمنين عثمان ، وهو إحدى الروايتين عن ابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وابن عباس ، رضي الله عنهم. وبه يقول سعيد بن المسيب ، وشريح القاضي ، ومسروق ، وطاوس ، ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي ، وعمر بن عبد العزيز ، والثوري ، وشريك وهو مذهب مالك والشافعي ، وإسحاق بن راهويه.
وكان علي بن أبي طالب لا يشرك بينهم ، بل يجعل الثلث لأولاد الأم ، ولا شيء لأولاد الأبوين ، والحالة هذه ، لأنهم عصبة. وقال وَكِيع بن الجراح : لم يختلف عنه في ذلك ، وهذا قول أبي بن كعب وأبي موسى الأشعري ، وهو المشهور عن ابن عباس ، وهو مذهب الشعبي وابن أبي ليلى ، وأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن ، والحسن بن زياد ، وزُفَر بن الهُذيل ، والإمام أحمد بن حنبل ، ويحيى بن آدم ونعيم بن حماد ، وأبي ثور ، وداود بن علي الظاهري ، واختاره أبو الحسين بن اللبان الفرضي ، رحمه الله ، في كتابه "الإيجاز".
وقوله : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ } أي : لتكون (4) وصيته على العدل ، لا على الإضرار والجور والحيف بأن يحرم بعض الورثة ، أو ينقصه ، أو يزيده على ما قدرَ الله له من الفريضة فمتى سعى في ذلك كان كمن ضاد الله في حكمته (5) وقسمته ؛ ولهذا قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا أبو النضر الدمشقي الفراديسي ، حدثنا عُمَر بن المغيرة ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الإضرار في الوصية من الكبائر".
وكذا رواه ابن جرير من طريق عمر بن المغيرة هذا (6) وهو أبو حفص بصري سكن المصيصة ، قال أبو القاسم ابن عساكر : ويعرف بمفتي المساكين. وروى عنه غير واحد من الأئمة. وقال فيه أبو حاتم الرازي : هو شيخ. وقال علي بن المديني : هو مجهول لا أعرفه. لكن رواه النسائي في سننه عن علي ابن حجر ، عن علي بن مُسْهِر ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، موقوفًا :
__________
(1) في جـ ، أ : "وابنان".
(2) في ر : "وواحدا".
(3) في جـ ، ر ، أ : "زمان".
(4) في جـ ، ر ، أ : "لتكن" ، وفي أ : "ليكن".
(5) في جـ : "حكمه".
(6) تفسير الطبري (8/66) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (6/271) من طريق عمر بن المغيرة به.

(2/231)


تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)

"الإضرار في الوصية من الكبائر". وكذا رواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج ، عن عائذ بن حبيب ، عن داود بن أبي هند. ورواه ابن جرير من حديث جماعة من الحفاظ ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس موقوفا (1) وفي بعضها : ويقرأ ابن عباس : { غَيْرَ مُضَارٍّ }
قال ابن جريج (2) والصحيح الموقوف.
ولهذا اختلف الأئمة في الإقرار للوارث : هل هو صحيح أم لا ؟ على قولين : أحدهما : لا يصح لأنه مظنة التهمة أن يكون قد أوصى له بصيغة الإقرار وقد ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله قد أعْطَى كُلَّ ذِي حَق حَقَّه ، فلا وَصِيَّة لِوَارِثٍ". وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك ، وأحمد بن حنبل ، والقول القديم للشافعي ، رحمهم الله ، وذهب في الجديد إلى أنه يصح الإقرار. وهو مذهب طاوس ، وعطاء ، والحسن ، وعمر بن عبد العزيز.
وهو اختيار أبي عبد الله (3) البخاري في صحيحه. واحتج بأنّ رَافع بن خديج أوصى ألا تُكْشَف (4) الفَزَارية عما أغْلقَ عليه بابها قال : وقال بعض الناس : لا يجوز إقراره لسوء الظن به للورثة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إياكم والظنَّ ، فإن الظَّنَّ أكذبُ الحديث". وقال الله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } [النساء : 58] فلم يخص وارثًا ولا غيره. انتهى ما ذكره.
فمتى كان الإقرارُ صحيحًا مطابقًا لما في نفس الأمر جَرَى فيه هذا الخلاف ، ومتى كان حيلة ووسيلة إلى زيادة بعض الورثة ونقصان بعضهم ، فهو حرام بالإجماع وبنص هذه الآية الكريمة { غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ } [ثم قال الله] (5)
{ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14) }
أي : هذه الفرائض والمقادير التي جعلها الله للورثة بحسب قُربهم من الميت واحتياجهم إليه وفقدهم له عند عدمه ، هي حدود الله فلا تعتدوها ولا تجاوزوها ؛ ولهذا قال : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : فيها ، فلم يزد بعض الورثة ولم (6) ينقص بعضًا بحيلة ووسيلة ، بل تركهم على حكم الله وفريضته وقسمته { يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ } أي ، لكونه غيَّر ما حكم الله به وضاد الله في حكمه. وهذا إنما يصدر عن (7) عدم الرضا بما قسم الله وحكم به ، ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم.
__________
(1) سنن النسائي الكبرى برقم (11092) وتفسير الطبري (8/65).
(2) في أ : "ابن جرير".
(3) في أ : "واختاره أبو عبد الله".
(4) في جـ ، ر ، أ : "لا يكشف".
(5) زيادة من أ.
(6) في جـ ، ر ، أ : "ولا"
(7) في جـ ، ر : "من".

(2/232)


قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن أيوب ، عن أشعث بن عبد الله ، عن شَهْر ابن حَوْشَب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الرَّجُلَ لَيَعْمَل بعمل أهل الخير سبعين سَنةً ، فإذا أوْصَى حَافَ في وصيته ، فيختم (1) بشر عمله ، فيدخل النار ؛ وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة ، فيعدل في وصيته ، فيختم له بخير عمله فيدخل (2) الجنة". قال : ثم يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم { تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ } إلى قوله : { عَذَابٌ مُهِينٌ } (3).
[و] (4) قال أبو داود في باب الإضرار في الوصية من (5) سننه : حدثنا عَبْدَة (6) بن عبد الله أخبرنا عبد الصمد ، حدثنا [نصر] (7) بن علي الحُدَّاني ، حدثنا الأشعث بن عبد الله بن جابر الحُدَّاني ، حدثني شَهْرُ بن حَوشَب : أن أبا هريرة حدثه : أن رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ، ثم يحضرهما الموت فَيُضَاران في الوصية ، فتجب لهما النار" وقال : قرأ عليّ أبو هريرة من هاهنا : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ } حتى بلغ : { [وَ] (8) ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }.
وهكذا (9) رواه الترمذي وابن ماجه من حديث ابن عبد الله بن جابر الحُدَّاني به ، وقال الترمذي : حسن غريب ، وسياق الإمام أحمد أتم وأكمل (10).
__________
(1) في جـ ، ر ، أ : "فيختم له".
(2) في ر : "فيدخله"
(3) المسند (2/278).
(4) زيادة من جـ ، ر ، أ.
(5) في جـ ، أ : "في".
(6) في ر : "عبيدة".
(7) زيادة من جـ ، ر ، أ.
(8) زيادة من جـ.
(9) في أ : "وكذا".
(10) سنن أبي داود برقم (2867) وسنن الترمذي برقم (2117) وسنن ابن ماجة برقم (2704).

(2/233)


وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآَذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)

{ وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) }
كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا زنت فثبت زناها بالبينة العادلة ، حُبست في بيت فلا تُمكن من الخروج منه إلى أن تموت ؛ ولهذا قال : { وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ } يعني : الزنا { مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مّنكُمْ فَإِن شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا } فالسبيل الذي جعله الله هو الناسخ لذلك.
قال ابن عباس : كان الحكم كذلك ، حتى أنزل الله سورة النور فنسخها بالجلد ، أو الرجم.
وكذا رُوي عن عِكْرِمة ، وسَعيد بن جُبَيْر ، والحسن ، وعَطاء الخُراساني ، وأبي صالح ، وقتادة ، وزيد بن أسلم ، والضحاك : أنها منسوخة. وهو أمر متفق عليه.
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن حِطَّان بن عبد الله الرَّقاشِي ، عن عبادة بن الصامت قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي أَثَّرَ عليه

(2/233)


وكرب لذلك وتَرَبّد وجهه ، فأنزل الله عز وجل عليه ذات يوم ، فلما سُرِّيَ عنه قال : "خُذُوا عَنِّي ، قد جَعَل الله لَهُنَّ سبيلا الثَّيِّبُ بالثيب ، والبِكْرُ بالبكرِ ، الثيب جَلْدُ مائة ، ورَجْمٌ بالحجارة ، والبكر جلد مائة ثم نَفْى سَنَةٍ".
وقد رواه مسلم وأصحاب السنن من طرق عن قتادة عن الحسن عن حطَّان (1) عن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه : " خذوا عني ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا ؛ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم". وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح (2)
وهكذا (3) رواه أبو داود الطيالسي ، عن مبارك بن فَضَالة ، عن الحسن ، عن حطان بن عبد الله الرقاشي ، عن عبادة : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي عُرف ذلك في وجهه ، فلما أنزلت : { أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا } [و] (4) ارتفع الوحي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خُذُوا خذوا ، قد جَعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلا البكْرُ بالبكرِ جَلْدُ مائة وَنفيُ سنة ، والثَّيِّب بالثيبِ جَلْدُ مائة ورَجْمٌ بالحجارة".
وقد روى الإمام أحمد أيضا هذا الحديث عن وَكِيع بن الجراح ، حدثنا الفضل بن دَلْهَم ، عن الحسن ، عن قُبَيْصَة بن حُرَيث ، عن سلمة بن المُحَبَّق قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خُذُوا عَنِّي ، خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم".
وكذا رواه أبو داود مطولا من حديث الفضل بن دلهم ، ثم قال : وليس هو بالحافظ ، كان قصابًا بواسط (5).
حديث آخر : قال أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا عباس بن حمدان ، حدثنا أحمد بن داود ، حدثنا عمرو بن عبد الغفار ، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "البكْرَان يُجْلَدان ويُنفيَانِ ، والثيبان يجلدان ويُرجَمانِ ، والشَّيْخانِ يُرجَمان". هذا حديث غريب من هذا الوجه (6).
وروى الطبراني من طريق ابن لَهِيعة ، عن أخيه عيسى بن لهيعة ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : لما نزلت سورة النساء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا حبس بعد سورة النساء" (7).
وقد ذهب الإمام أحمد بن حنبل إلى القول بمقتضى هذا الحديث ، وهو الجمع بين الجلد والرجم في حق الثيب الزاني ، وذهب الجمهور إلى أن الثيب الزاني إنما يُرجم فقط من غير جلد ، قالوا : لأن النبي صلى الله عليه وسلم رَجَمَ ماعزًا والغامدية واليهوديين ، ولم يجلدهم قبل ذلك ، فدل على أن الجلد (8) ليس
__________
(1) في ر : "خطاب".
(2) المسند (5/318) وصحيح مسلم برقم (1690) وسنن أبي داود برقم (4415) وسنن الترمذي برقم (1434) وسنن النسائي الكبرى برقم (11093) وسنن ابن ماجة برقم (2550).
(3) في جـ ، ر : "وكذا".
(4) في جميع النسخ : "فلما" بدل الواو.
(5) المسند (3/476) وسنن أبي داود برقم (4417).
(6) وفي إسناده عمرو بن عبد الغفار الفقيمي. قال أبو حاتم : متروك الحديث ، وقال ابن عدي : اتهم بوضع الحديث ، وقال العقيلي : منكر الحديث. ميزان الاعتدال برقم (6403).
(7) المعجم الكبير (11/365) وابن لهيعة وأخوه ضعيفان.
(8) في ر ، أ : "الرجم".

(2/234)


إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)

بحتم ، بل هو منسوخ على قولهم ، والله أعلم.
وقوله : { وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا } أي : واللذان يأتيان (1) الفاحشة فآذوهما. قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير وغيرهما : أي بالشتم والتعيير ، والضرب بالنعال ، وكان الحكم كذلك حتى نسخه الله بالجلد أو الرجم.
وقال عكرمة ، وعطاء ، والحسن ، وعبد الله بن كثير : نزلت في الرجل والمرأة إذا زنيا.
وقال السدي : نزلت في الفتيان قبل أن يتزوجوا.
وقال مجاهد : نزلت في الرجلين إذا فعلا لا يكنى ، وكأنه يريد اللواط ، والله أعلم.
وقد روى أهل السنن ، من حديث عمرو بن أبي عمرو ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مَنْ رأيتُمُوه يَعَمَلُ عَمَل قَوْمِ لُوطٍ فاقتلوا الفاعلَ والمفعول بِهِ" (2)
وقوله : { فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا } أي : أقلعا ونزعا عما كانا عليه ، وصَلُحت أعمالهما وحسنت { فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا } أي : لا تُعَنِّفُوهما بكلام قَبِيح بعد ذلك ؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له { إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا } وقد ثبت في الصحيحين "إذا زَنَتْ أمَة أحدكُم فَلْيَجْلدْها الحدَّ ولا يُثَرِّبْ عليها" أي : ثم لا يُعَيِّرُهَا بما صَنَعتْ بعد الحد ، الذي هو كفارة لما صَنَعتْ.
{ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) }
يقول تعالى : إنما يتقبل الله التوبة ممن عمل السوء بجهالة ، ثم يتوب ولو قبل معاينة المَلَك [لقبض] (3) روحه قَبْلَ الغَرْغَرَة.
قال مجاهد وغير واحد : كل من عصى الله خطأ أو عَمدًا فهو جاهل حتى ينزع عن الذنب.
وقال قتادة عن أبي العالية : أنه كان يحدث : أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون : كل ذنب أصابه عبد فهو بجهالة. رواه ابن جرير.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة قال : اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا أن كل شيء عُصي به فهو جهالة ، عمدًا كان أو غيره (4).
وقال ابن جُرَيْج : أخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد قال : كل عامل بمعصية الله (5) فهو جاهل حين عملها. قال ابن جريج : وقال لي عطاء بن أبي رباح نحوَه.
__________
(1) في جـ ، ر ، أ : "يفعلان".
(2) رواه أبو داود في السنن برقم (4462) والترمذي في السنن برقم (1455) وابن ماجة في السنن برقم (2561).
(3) زيادة من جـ ، ر ، أ.
(4) تفسير عبد الرزاق (1/152).
(5) في أ : "بمعصيته".

(2/235)


وقال أبو صالح عن ابن عباس : مِنْ جَهالته عمل السوء.
وقال علي بن أبي طَلْحَة ، عن ابن عباس { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } قال : ما بينه وبين أن ينظر إلى مَلَك الموت ، وقال الضحاك : ما كان دون الموت فهو قريب. وقال قتادة والسدي : ما دام في صحته. وهو مروى عن ابن عباس. وقال الحسن البصري : { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } ما لم يُغَرْغر. وقال عكرمة : الدنيا كلها قريب.
ذكر الأحاديث في ذلك :
قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عَيَّاش (1) وعصام بن خالد ، قالا حدثنا ابن ثَوْبان ، عن أبيه ، عن مكحول ، عن جُبَير بن نُفَيْر (2) عن ابن عُمَرَ ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إنَّ الله يَقْبلُ تَوْبَةَ العبدِ ما لم يُغَرغِر".
[و] (3) رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ، به (4) وقال الترمذي : حسن غريب. ووقع في سنن ابن ماجه : عن عبد الله بن عَمْرو. وهو وَهْم ، إنما هو عبد الله بن عُمَر بن الخطاب.
حديث آخر (5) عن ابن عُمَر : قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن معمر (6) حدثنا عبد الله بن الحسن الخراساني ، حدثنا يحيى بن عبد الله البابلتي (7) حدثنا أيوب بن نَهِيك الحلبي قال : سمعت عطاء بن أبي رباح قال : سمعت عبد الله بن عُمَر ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ما مِنْ عَبْدٍ مُؤْمِن يَتُوبُ قَبْلَ الموتِ بشهر إلا قَبِلَ الله منه ، وأدْنَى من ذلك ، وقَبْل موته بيوم وساعة ، يعلم الله منه التوبة والإخلاصَ إليه إلا قَبِل منه" (8).
حديث آخر : قال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة ، أخبرنا إبراهيم بن ميمون ، أخبرني رجل من مِلْحَان (9) يقال له : أيوب - قال : سمعت عبد الله بن عمر يقول : من تاب قبل موته بعام تيب عليه ، ومن تاب قبل موته بشهر تِيب عليه ، ومن تاب قَبْلَ موته بجمعة تيب عليه ، ومن تاب قبل موته بيوم تيب عليه ، ومن تاب قبل موته بساعة تيب عليه. فقلت له : إنما قال الله : { إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ } فقال : إنما أُحدِّثك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. (10)
__________
(1) في أ : "عباس".
(2) في ر : "نصير".
(3) زيادة من ر ، أ.
(4) المسند (2/132) وسنن الترمذي برقم (3537) وسنن ابن ماجة برقم (4253).
(5) في ر ، أ : "طريق أخرى".
(6) في أ : "يعمر".
(7) في جـ ، أ : "الباهلي".
(8) ورواه أبو نعيم في الحلية (3/320) من طريق يحيى بن عبد الله عن أيوب بن نهيك ، ثم قال : هذا حديث غريب من حديث عطاء ، تفرد به أيوب بن نهيك.
(9) في جـ ، ر ، أ : "بلحارث".
(10) مسند الطيالسي (ص 301) وهو عنده من مسند عبد الله بن عمرو بن العاص ، ورواه أحمد في مسنده (2/206) من طريق عفان عن شعبة بنحوه ، من مسند عبد الله بن عمرو بن العاص ، وقال الهيثمي في المجمع (10/197) : "فيه راو لم يسم وبقية رجاله ثقات".

(2/236)


وهكذا رواه أبو داود (1) الطيالسي ، وأبو عمر الحَوْضي ، وأبو عامر العَقدي ، عن شعبة.
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا حُسين بن محمد ، حدثنا محمد بن مطَرَّف ، عن زيد بن أسلم ، عن عبد الرحمن بن البَيْلماني (2) قال : اجتمع أربعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أحدهم : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله يَقْبَلُ تَوْبَة العبدِ قبل أن يموتَ بيومٍ". فقال الآخر : أنتَ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم. قال : وأنا سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بِنِصْفِ يوم" فقال الثالث : أنتَ سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم. قال : وأنا سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله يقبل توبة العبد قبل أن يموت بضَحْو". قال (3) الرابع : أنتَ سمعتَ هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم. قال وأنا سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله [تعالى] (4) يقبل توبة العبد ما لم (5) يُغَرغر بنفسه". وقد رواه سعيد بن منصور عن الدَرَاوَرْدي ، عن زيد بن أسلم ، عن عبد الرحمن بن البيلماني (6) فذكر قريبًا منه (7).
حديث آخر : قال أبو بكر بن مردويه : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد ، حدثنا عمران بن عبد الرحيم ، حدثنا عثمان بن الهيثم ، حدثنا عَوْف ، عن محمد بن سِيرِين ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله يَقبل تَوْبَة عَبْدِهِ ما لم يُغَرْغِرْ" (8).
أحاديث في ذلك مرسلة :
قال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن أبي عَدِيٍّ ، عن عَوْف ، عن الحسن قال :
بلغني أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : "إنَّ الله يَقْبلُ توبة العبد ما لم يُغَرْغرْ" هذا مرسل حسن (9). عن الحسن البصري ، رحمه الله.
آخر : قال ابن جرير أيضًا ، رحمه الله : حدثنا ابن بشار ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثني أبي ، عن قتادة ، عن العلاء بن زياد ، عن أبي أيوب بشير بن كعب ؛ أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يُغَرْغرْ" (10).
وحدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الأعلى ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ، فذكر مثله (11).
أثر آخر : قال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا أبو داود ، حدثنا عمران ، عن قتادة قال : كنا عند
__________
(1) في هـ : "أبو الوليد" وهو خطأ.
(2) في جـ ، ر ، أ : "السلماني".
(3) في أ : "وقال".
(4) زيادة من جـ.
(5) في أ : "قبل أن".
(6) في ر : "السلماني".
(7) المسند (3/425) وسنن سعيد بن منصور برقم (597).
(8) وفي إسناده عمران بن عبد الرحيم بن أبي الورد ، قال السليماني : فيه نظر وهو الذي وضع حديث أبي حنيفة عن مالك رحمهما الله تعالى ، وقال أبو الشيخ : كان يرمى بالرفض. لسان الميزان (4/347).
(9) تفسير الطبري (8/96) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (13/463).
(10) تفسير الطبري (8/96).
(11) تفسير الطبري (8/96) وقتادة لم يسمع من عبادة بن الصامت

(2/237)


أنس بن مالك وثم أبو قِلابة ، فحدث أبو قِلابة فقال : إن الله تعالى لما لَعَنَ إبليس سأله النَّظرة فقال : وعِزَّتِك وجلالك لا أَخْرُجُ من قَلْبِ ابن آدمَ ما دام فيه الروح. فقال الله : وعزتي (1) لا أمنعه التوبة ما دام فيه الروح.
وقد ورد هذا في حديث مرفوع ، رواه الإمام أحمد في مسنده من طريق عمرو بن أبي عمرو وأبي الهيثم العُتْوارِي كلاهما عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "قال إبليس : وعِزَّتِك لا أزَالُ أُغْوِيهم ما دامت أرْوَاحهُمْ في أجسادهم. فقال الله عز وجل : وعزتي وجلالي ، لا أزال (2) أغْفِرُ لهم ما اسْتَغْفَرُوني" (3).
فقد دلت هذه الأحاديث على أن من تاب إلى الله عز وجل وهو يرجو الحياة ، فإن توبته مقبولة [منه] (4) ؛ ولهذا قال تعالى : { فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } فأما متى وقع الإياس من الحياة ، وعاين الملك ، وحَشْرَجَتِ الروح في الحلق ، وضاق بها الصدر ، وبلغت الحلقوم ، وَغَرْغَرَتِ النفس صاعدة في الغَلاصِم - فلا توبة متقبلة حينئذ ، ولات حين مناص ؛ ولهذا قال [تعالى] (5) { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ } وهذا كما قال تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا] (6) } الآيتين ، [غافر : 84 ، 85] وكما حكم تعالى بعدم توبة أهل الأرض إذا عاينوا الشمس طالعة من مغربها كما قال [تعالى] (7) { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا } الآية [الأنعام : 158].
وقوله : { وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } [الآية] (8) يعني : أن الكافر إذا مات على كفره وشركه لا ينفعه ندمه ولا توبته ، ولا يقبل منه فدية ولو بملء الأرض [ذهبا] (9).
قال ابن عباس ، وأبو العالية ، والربيع بن أنس : { وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } قالوا : نزلت في أهل الشرك.
وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود ، حدثنا عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان ، قال : حدثني أبي ، عن مكحول : أن عُمَرَ بن نعيم حدثه عن أسامة بن سلمان : أن أبا ذر حدثهم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله يقبل تَوْبَةَ عَبْدِه - أو يغفر لعبده - ما لم يَقَعِ الحِجَاب". قيل : وما وُقُوع الحجاب ؟ قال : "أن تَخرجَ النَّفْسُ وهي مُشْرِكة" (10) ؛ ولهذا قال [تعالى] (11) { أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } أي : موجعا شديدا مقيما.
__________
(1) في أ : "عز وجل".
(2) في جـ ، ر ، أ : "ولا أزال".
(3) المسند (3/76).
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من جـ ، ر ، أ.
(6) زيادة من جـ ، ر ، أ.
(7) زيادة من ر ، وفي أ : "في قوله".
(8) زيادة من أ.
(9) زيادة من جـ ، أ.
(10) المسند (5/174).
(11) زيادة من أ.

(2/238)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آَتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) }

(2/239)


وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آَبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)

{ وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلا (22) }
قال البخاري : حدثنا محمد بن مُقَاتل ، حدثنا أسْبَاط بن محمد ، حدثنا الشَّيْباني عن عكرمة ، عن ابن عباس - قال الشيباني : وذكره أبو الحسن السَّوَائي ، ولا أظُنُّه ذكره إلا عن ابن عباس - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا } قال : كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته ، إن شاء بعضُهم تزوجها ، وإن شاءوا زَوَّجُوها ، وإن شاؤوا لم يُزَوِّجوها ، فهم أحق بها من أهلها ، فنزلت هذه الآية في ذلك.
هكذا رواه البخاري وأبو داود ، والنسائي ، وابن مَرْدُويه ، وابن أبي حاتم ، من حديث أبي إسحاق الشيباني - واسمه سليمان بن أبي سليمان - عن عكرمة ، وعن أبي الحسن السوائي واسمه عطاء ، كوفي أعمى - كلاهما عن ابن عباس بما تقدم (1).
وقال أبو داود : حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المَرْوزي ، حدثني علي بن حُسَين ، عن أبيه ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : { لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } وذلك أن الرجل كان (2) يرث امرأة ذي قرابته ، فيَعْضلها حتى تموت أو تَرُد إليه صداقها ، فأحكَمَ الله تعالى عن ذلك ، أي نهى عن ذلك.
تفرد به أبو داود (3) وقد رواه غَيْر واحد عن ابن عباس بنحو (4) ذلك ، فقال وَكِيع عن سفيان ، عن علي بن بذيمة ، عن مِقْسم ، عن ابن عباس : كانت المرأة في الجاهلية إذا تُوفِّي عنها زوجها فجاء رجل فألقى عليها ثوبًا ، كان أحق بها ، فنزلت : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا } (5).
وروى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا } قال : كان الرجل إذا مات وترك جارية ، ألقى (6) عليها حميمه (7) ثوبه ، فمنعها من الناس. فإن كانت جميلة تزوجها ، وإن كانت دَميمة حبسها حتى تموت فيرثها.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4579) وسنن أبي داود برقم (6089) وسنن النسائي الكبرى برقم (11094).
(2) في ر : "كما".
(3) سنن أبي داود برقم (2090).
(4) في ر : "نحو".
(5) ورواه الطبري في التفسير (8/108) من طريق ابن وكيع عن وكيع به إلا أنه أوقفه على مقسم.
(6) في ر : "وألقى".
(7) في أ : "خيمة".

(2/239)


وروى (1) العوفي عنه : كان الرجل من أهل المدينة إذا مات حميمُ أحدهم ألقى ثوبه على امرأته ، فَورِث نكاحها ولم ينكحها أحد غيره ، وحبسها عنده حتى تفتدي منه بِفِدْيَةٍ : فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا }
وقال زيد بن أسلم في الآية (2) [ { لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا } ] (3) كان أهل يَثْرِبَ إذا مات الرجل منهم في الجاهلية وَرِث امرأته من يرث ماله ، وكان يعضُلها حتى يرثها ، أو يزوجها من أراد ، وكان أهل تُهامة يُسِيء الرجل صحبة (4) المرأة حتى يطلقها ، ويشترط عليها أن لا تنكح إلا من أراد حتى تفتدي منه ببعض ما أعطاها ، فنهى الله المؤمنين عن ذلك. رواه ابن أبي حاتم.
وقال أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا موسى بن إسحاق ، حدثنا علي بن المنذر ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن يحيى (5) بن سعيد ، عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، عن أبيه قال : لما توفي أبو قَيْس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته ، وكان لهم ذلك في الجاهلية ، فأنزل الله : { لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا }
ورواه ابن جرير من حديث محمد بن فضيل ، به. ثم روي من طريق ابن جُرَيج قال : أخبرني عطاء أن أهل الجاهلية كانوا إذا هَلَك الرجل وترك امرأة ، حبسها أهلُه على الصبي يكون فيهم ، فنزلت : { لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا } الآية.
قال ابن جريج : وقال مجاهد : كان الرجل إذا تُوُفي كان ابنه أحق بامرأته ، ينكحها إن شاء ، إذا لم يكن ابنها ، أو ينكحها من شاء أخاه أو ابن أخيه.
قال ابن جريج : وقال عكرمة : نزلت في كُبَيْشَةَ بنت مَعْن بن عاصم بن الأوس ، توفي عنها أبو قيس ابن الأسلت ، فجنَحَ عليها ابنُه ، فجاءت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، لا أنا وَرِثْتُ زوجي ، ولا أنا تُرِكْتُ فأنكح ، فنزلت هذه الآية.
وقال السدي عن أبي مالك : كانت المرأة في الجاهلية إذا مات زوجها ، جاء وليه فألقى عليها ثوبًا ، فإن كان له ابن صغير أو أخ حبسها حتى يَشب (6) أو تموت فيرثها ، فإن هي انفلتت فأتت أهلها ، ولم يلق عليها ثوبًا نَجَتْ ، فأنزل الله : [تعالى] (7) { لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا }
وقال مجاهد في الآية : كان الرجل يكون في حجره اليتيمة هو يلي أمرها ، فيحبسها رجاء أن تموت امرأته ، فيتزوجها أو يزوجها ابنه. رواه ابن أبي حاتم. ثم قال : ورُوِيَ عن الشعبي ، وعطاء بن أبي رباح ، وأبي مِجْلَز ، والضحاك ، والزهري ، وعطاء الخراساني ، ومقاتل بن حَيَّان - نحوُ ذلك.
__________
(1) في ر : "وقال".
(2) في جـ ، ر ، أ : "في قوله".
(3) زيادة من جـ ، ر ، أ.
(4) في جـ ، أ : "صحبته".
(5) في أ : "محمد".
(6) في أ : "يشيب".
(7) زيادة من ر.

(2/240)


قلت : فالآية تعم ما كان يفعله أهل الجاهلية ، وما ذكره مجاهد ومن وافقه ، وكل ما كان فيه نوع من ذلك ، والله أعلم.
وقوله : { وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ } أي : لا تُضارّوهن في العِشرة لتترك لك ما أصدقتها أو بعضه أو حقًا من حقوقها عليك ، أو شيئًا من ذلك على وجه القهر لها والاضطهاد.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { وَلا تَعْضُلُوهُنَّ } يقول : ولا تقهروهن { لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ } يعني : الرجل تكون له امرأة (1) وهو كاره لصحبتها ، ولها عليه مَهرٌ فيَضرها (2) لتفتدي.
وكذا قال الضحاك ، وقتادة [وغير واحد] (3) واختاره ابن جرير.
وقال ابن المبارك وعبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَرٌ قال : أخبرني سِمَاك بن الفضل ، عن ابن البَيْلمَاني (4) قال : نزلت هاتان الآيتان إحداهما في أمر الجاهلية ، والأخرى في أمرالإسلام. قال عبد الله بن المبارك : يعني قوله : { لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا } في الجاهلية { وَلا تَعْضُلُوهُنَّ } في الإسلام.
وقوله : { إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } قال ابن مسعود ، وابن عباس ، وسعيد بن المُسَيَّب ، والشَّعْبِيُّ ، والحسن البصري ، ومحمد بن سيرين ، وسعيد بن جُبَيْرٍ ، ومجاهد ، وعِكْرَمَة ، وعَطاء الخراسانيّ ، والضَّحَّاك ، وأبو قِلابةَ ، وأبو صالح ، والسُّدِّي ، وزيد بن أسلم ، وسعيد بن أبي هلال : يعني بذلك الزنا ، يعني : إذا زنت فلك أن تسترجع منها الصداق الذي أعطيتها وتُضَاجرهَا حتى تتركه لك وتخالعها ، كما قال تعالى في سورة البقرة : { وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ [فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ] (5) } الآية[البقرة : 229].
وقال ابن عباس ، وعكرمة ، والضحاك : الفاحشة المبينة : النُّشوز والعِصْيان.
واختار ابن جرير أنَّه يَعُم ذلك كلَّه : الزنا ، والعصيان ، والنشوز ، وبَذاء اللسان ، وغير ذلك.
يعني : أن هذا كله يُبيح مضاجرتها حتى تُبْرئه من حقها أو بعضه ويفارقها ، وهذا جيد ، والله أعلم ، وقد تقدم فيما رواه أبو داود منفردا به من طريق يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس [رضي الله عنهما] (6) في قوله : { لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } قال : وذلك أن الرجل كان يرث امرأة ذي قرابته ، فيعضُلها حتى تموت أو ترد إليه صداقها ، فأحكم الله عن ذلك ، أي نهى عن ذلك.
__________
(1) في جـ ، ر ، أ : "يكون له المرأة".
(2) في أ : "فيضربها".
(3) زيادة من جـ ، أ.
(4) في ر ، أ : "السلماني".
(5) زيادة من ر ، أ.
(6) زيادة من أ.

(2/241)


قال (1) عكرمة والحسن البصري : وهذا يقتضي أن يكون السياق كله كان في أمر الجاهلية ، ولكن نهي المسلمون عن فعله في الإسلام.
قال عبد الرحمن بن زيد : كان العَضْل في قريش بمكة ، ينكحُ الرجلُ المرأة الشريفة فلعلها لا توافقه ، فيفارقها على أن (2) لا تُزوّج (3) إلا بإذنه ، فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها ويشهد ، فإذا خطبها الخاطب فإن أعطته وأرضته أذن (4) لها ، وإلا عَضلها. قال : فهذا قوله : { وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ } الآية.
وقال مجاهد في قوله : { وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ } هو كالعضل في سورة البقرة.
وقوله : { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أي : طيِّبُوا أقوالكم لهن ، وحَسّنُوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم ، كما تحب ذلك منها ، فافعل أنت بها مثله ، كما قال تعالى : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } [البقرة : 228] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأهْلِهِ ، وأنا خَيْرُكُم لأهْلي" (5) وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جَمِيل العِشْرَة دائم البِشْرِ ، يُداعِبُ أهلَه ، ويَتَلَطَّفُ بهم ، ويُوسِّعُهُم نَفَقَته ، ويُضاحِك نساءَه ، حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين يَتَوَدَّدُ إليها بذلك. قالت : سَابَقَنِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَسَبَقْتُهُ ، وذلك قبل أن أحملَ اللحم ، ثم سابقته بعد ما حملتُ اللحمَ فسبقني ، فقال : "هذِهِ بتلْك" (6) ويجتمع نساؤه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان ، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها. وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد ، يضع عن كَتِفَيْه الرِّداء وينام بالإزار ، وكان إذا صلى العشاء يدخل (7) منزله يَسْمُر مع أهله قليلا قبل أن ينام ، يُؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الأحزاب : 21].
وأحكام عشرة النساء وما يتعلق بتفصيل ذلك موضعه كتاب "الأحكام" ، ولله الحمد.
__________
(1) في جـ ، ر ، أ : ك "وهكذا قال".
(2) في جـ ، أ : "أنه".
(3) في أ : "تتزوج".
(4) في ر : "فأذن".
(5) جاء من حديث ابن عباس : رواه ابن ماجة في السنن برقم (1977) وابن حبان في صحيحه برقم (1315) "موارد" من طريق جعفر بن يحيى بن ثوبان عن عمه عمارة بن ثوبان عن عطاء عن ابن عباس.
وقال البوصيري في الزوائد (2/117) : "هذا إسناد ضعيف ، عمارة بن ثوبان ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال عبد الحق : ليس بالقوى ، فرد ذلك عليه ابن القطان ، وجعفر بن يحيى. قال ابن المديني : شيخ مجهول ، وقال ابن القطان الفاسي : مجهول الحال ، وذكره ابن حبان في الثقات.
وجاء من حديث عائشة : رواه الترمذي في السنن برقم (3892) وابن حبان في صحيحه برقم (1312) من طريق سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة.
قال الترمذي : "هذا حديث حسن صحيح غريب" ، من حديث الثوري ، ما أقل من رواه عن الثوري.
(6) رواه النسائي في السنن الكبرى برقم (8942) وابن ماجة في السنن برقم (1979) من طريق سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة به.
(7) في ر ، أ : "فدخل".

(2/242)


وقوله تعالى : { فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا [وَيَجْعَلُ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا] (1) } أي : فعَسَى أن يكون صبركم مع (2) إمساككم لهن وكراهتهن فيه ، خير كثير لكم في الدنيا والآخرة. كما قال ابن عباس في هذه الآية : هو أن يَعْطف عليها ، فيرزقَ منها ولدًا. ويكون في ذلك الولد خير كثير (3) وفي الحديث الصحيح : "لا يَفْرَك مؤمن مؤمنة ، إن سَخِطَ منها خُلُقا رَضِيَ منها آخر" (4).
وقوله : { وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } أي : إذا أراد أحدكم أن يفارق امرأة ويستبدل مكانها غيرها ، فلا يأخذن مما كان أصدق الأولى شيئاً ، ولو كان قنطارا من مال.
وقد قدمنا في سورة آل عمران الكلام على القنطار بما فيه كفاية عن إعادته هاهنا.
وفي هذه الآية دلالة على جواز الإصداق بالمال الجزيل ، وقد كان عمر بن الخطاب نهى عن كثرة الإصداق ، ثم رجع عن ذلك كما قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا سلمة (5) بن علقمة ، عن محمد بن سِيرين ، قال : نُبِّئْت عن أبي العَجْفَاء السُّلميِّ قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : ألا لا تُغْلُوا في صَداق (6) النساء ، فإنها لو كانت مَكْرُمَةً في الدنيا أو تَقْوَى عند الله كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم ، ما أصْدَقَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم امرأةً من نسائه ، ولا أُصدِقَت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أُوقِيَّة ، وإن كان الرجل ليُبْتَلَى بصَدُقَةِ امرأته حتى يكون لها عداوة في نفسه ، وحتى يقول : كَلِفْتُ إليك عَلَق القِرْبة ، ثم رواه أحمد وأهل السنن من طرق ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي العجفاء - واسمه هرم ابن مُسَيب البصري - وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح (7).
طريق أخرى عن عمر : قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا أبو خَيْثَمَةَ ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا أبي ، عن ابن إسحاق ، حدثني محمد بن عبد الرحمن ، عن المجالد (8) بن سعيد ، عن الشعبي ، عن مسروق ، قال : ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله ثم قال : أيها الناس ، ما إكثاركم في صُدُق النساء وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وإنماالصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم فما دون ذلك. ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة (9) لم تسبقوهم إليها. فَلا أعرفَنَّ ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم قال : ثم نزل فاعترضته امرأة من قريش فقالت : (10) يا أمير المؤمنين ، نَهَيْتَ الناس أن يزيدوا النساء صداقهم (11) على أربعمائة درهم ؟ قال : نعم. فقالت : أما سمعت ما أنزل الله (12) في القرآن ؟ قال : وأي ذلك ؟ فقالت : أما سمعت الله يقول : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا [فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا] (13) } [النساء : 20] قال : فقال :
__________
(1) زيادة من جـ ، ر ، أ.
(2) في أ : "على".
(3) في ر : "كبير".
(4) رواه مسلم في صحيحه برقم (1469) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(5) في أ : "مسهر".
(6) في جـ ، ر ، أ : "صدق".
(7) المسند (1/40) ورواه أبو داود في السنن برقم (2106) والترمذي في السنن برقم (1114) والنسائي في السنن (6/117) وابن ماجة : في السنن برقم (1887).
(8) في جـ : "مجالد".
(9) في جـ ، ر ، أ : "أو مكرمة".
(10) في جـ ، أ. "فقالت له".
(11) في جـ ، ر ، أ : "في صدقاتهن".
(12) في جـ ، أ : "ما قال الله".
(13) زيادة من جـ ، ر ، وفي هـ : "الآية".

(2/243)


اللهم غَفْرًا ، كُلُّ الناس أفقه من عمر. ثم (1) رجع فركب المنبر فقال : إني (2) كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صداقهن (3) على أربعمائة درهم ، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب. قال أبو يعلى : وأظنه قال : فمن طابت نفسه فليفعل. إسناده جيد قوي (4).
طريق أخرى : قال ابن المنذر : حدثنا إسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق ، عن قيس بن ربيع ، عن أبي حصين ، عن أبي عبد الرحمن السلمي قال : قال عمر بن الخطاب : لا تغالوا في مهور (5) النساء. فقالت امرأة : ليس ذلك لك يا عمر ، إن الله تعالى يقول : "وآتيتم إحداهن قنطارا من ذهب". قال : وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود : "فلا يحل لكم أن تأخذوا منه شيئا" فقال عمر : إن امرأة خاصمت عمر فخصمته (6).
طريق أخرى : عن عمر فيها انقطاع : قال الزبير بن بكار حدثني عمي مصعب بن عبد الله عن جدي قال : قال عمر بن الخطاب لا تزيدوا في مهور (7) النساء وإن كانت بنت ذي الغُصّة - يعني يزيد ابن الحصين الحارثي - فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال. فقالت امرأة - من صُفَّة النساء طويلة ، في أنفها فَطَس - : ما ذاك لك. قال : ولم ؟ قالت : لأن الله [تعالى] (8) قال : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا } الآية. فقال عمر : امرأة أصابت (9) ورجل أخطأ (10).
ولهذا قال [الله] (11) منكرا : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ } أي : وكيف تأخذون الصداق من المرأة وقد أفضيت إليها وأفضَتْ إليك.
قال ابن عباس ، ومجاهد ، والسدي ، وغير واحد : يعني بذلك الجماع.
وقد ثبت في الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين بعد فراغهما من تلاعنهما : "الله يعلم أن أحدكما كاذب. فهل منكما تائب" ثلاثًا. فقال الرجل : يا رسول الله ، مالي - يعني : ما أصدقها (12) - قال : "لا مال لك إن كنت صدَقْت عليها فهو بما استحللت من فرجها وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها (13).
__________
(1) في أ : "قال : ثم".
(2) في جـ ، أ : "أيها الناس ، إني".
(3) في جـ ، أ : "في صدقهن" وفي ر : "صدقاتهن".
(4) ورواه سعيد بن منصور في السنن برقم (598) "الأعظمي" ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (7/233) فقال : أخبرنا هيثم أخبرنا مجالد عن الشعبي قال : خطب عمر رضي الله عنه الناس فذكر بنحوه.
انظر : إرواء الغليل (6/348) للشيخ ناصر الألباني فقد بين ضعف هذه الرواية ومخالفتها لما في السنن.
(5) في أ : "مهر".
(6) رواه عبد الرزاق في المصنف برقم (10420) من طريق قيس بن الربيع به. قال الشيخ ناصر الألباني في إرواء الغليل (1/348) : "إسناد ضعيف فيه علتان :
الأولى : الانقطاع ، فإن أبا عبد الرحمن السلمي ، واسمه عبد الله بن حبيب بن ربيعة ، لم يسمع من عمر كما قال ابن معين.
الأخرى : سوء حفظ قيس بن الربيع".
(7) في أ : "لا يزيد في مهر".
(8) زيادة من جـ ، أ.
(9) في ر : "صابت".
(10) ذكره السيوطي في الدر (2/466) ونسبه للزبير في الموفقيات. قال الحافظ ابن كثير في مسند عمر بن الخطاب (2/573) : "فيه انقطاع".
(11) زيادة من أ.
(12) في أ : "ما أصدقتها".
(13) صحيح البخاري برقم (5312) وصحيح مسلم برقم (1493) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه.

(2/244)


وفي سنن أبي داود وغيره عن بصرة بن أكتم (1) أنه تزوج امرأة بكرًا في خدرها ، فإذا هي حامل (2) من الزنا ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له. فقضى لها بالصداق وفرَق بينهما ، وأمر بجلدها ، وقال : "الولد عبد لك" (3).
فالصداق في مقابلة البُضْع ، ولهذا قال تعالى : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ }
وقوله : { وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا } روي عن ابن عباس ومجاهد ، وسعيد بن جبير : أن المراد بذلك العَقْد.
وقال سفيان الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن ابن عباس في قوله : { وَأَخَذْنَ مِنْكُم مِّيثَاقًا [غَلِيظًا] (4) } قال : قوله : إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان.
قال ابن أبي حاتم : وروي عن عكرمة ، ومجاهد ، وأبي العالية ، والحسن ، وقتادة ، ويحيى بن أبي كثير ، والضحاك والسدي - نحو ذلك.
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس في الآية (5) هو قوله : أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، فإن "كلمة الله" هي التشهد في الخطبة. قال : وكان فيما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أسرى به قال له : جعلت أمتك لا تجوز لهم خُطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي. رواه ابن أبي حاتم.
وفي صحيح مسلم ، عن جابر في خُطبة حِجة الوداع : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيها : "واستوصوا بالنساء خيرًا ، فإنكم أخذتموهن بأمان الله ، واستحللتم فُروجهن بِكَلِمَة الله" (6).
وقوله تعالى : { وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلا] (7) } يُحَرم تعالى زوجات الآباء تكرمة لهم ، وإعذظامًا واحترامًا أن توطأ من بعده ، حتى إنها لتحرم على الابن بمجرد العقد عليها ، وهذا أمر مجمع عليه.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا قيس بن الربيع عن أشعث بن سَوَّار ، عن عدي بن ثابت ، عن رجل من الأنصار قال : لما توفي أبو قَيْس - يعني ابن الأسلت - وكان من صالحي الأنصار ، فخطب ابنَه قيس امرأته ، فقالت : إنما أعُدُّكَّ ولدا وأنت من صالحي قومك ، ولكن آتي (8) رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمره. فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن أبا قيس تُوفِّي. فقال : "خيرا". ثم قالت : إن ابنه قيسًا خطبني وهو من صالحي قومه. وإنما كنت أعده ولدًا ، فما ترى ؟ فقال (9) لها : "ارجعي إلى بيتك". قال : فنزلت هذه الآية { وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [إِلا مَا قَدْ سَلَفَ] (10) } الآية.
__________
(1) في جـ ، ر ، أ : "بصرة بن أبي بصرة".
(2) في جـ ، أ : "حبلى".
(3) سنن أبي داود برقم (2131).
(4) زيادة من جـ ، ر ، أ.
(5) في جـ ، ر ، أ : "وأخذن منكم ميثاقا غليظا".
(6) صحيح مسلم برقم (1218).
(7) زيادة من جـ ، ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(8) في أ : "أتيت".
(9) في جـ ، ر ، أ ، "قال".
(10) زيادة من ج ، ر ، أ.

(2/245)


وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا ، حسين ، حدثنا حَجَّاج ، عن ابن جُرَيْج ، عن عِكْرمة في قوله : { وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ } [الآية] (1) قال : نزلت في أبي قيس ابن الأسلت ، خُلِّفَ على أم عبيد (2) الله بنت صخر (3) وكانت تحت الأسلت أبيه ، وفي الأسود بن خَلَفَ ، وكان خلف على ابنة أبي طلحة بن عبد العُزّى بن عُثمان بن عبد الدار ، وكانت عند أبيه خَلَف ، وفي فاخِتَة ابنة الأسود بن المطلب بن أسد ، كانت عند أمية بن خَلَف ، فخُلِّف عليها صفوان ابن أمية (4).
وقد زعم السُّهيلي أن نكاح نساء الآباء كان معمولا به في الجاهلية ؛ ولهذا قال : { إِلا مَا قَدْ سَلَفَ } كما قال { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ } قال : وقد فعل ذلك كِنَانة بن خزيمة ، تزوج بامرأة أبيه ، فأولدها ابنه النضْر بن كنانة قال : وقد قال صلى الله عليه وسلم : "وُلِدتُ من نِكاحٍ لا من سِفَاحٍ". قال : فدل على أنَّه كان سائغًا لهم ذلك ، فإن أراد أن ذلك كان عندهم يعدونه نكاحًا فيما بينهم ، فقد قال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الله المخرمي (5) حدثنا قُرَاد ، حدثنا ابن عيينة عن عمر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يُحَرِّمون ما حرم الله ، إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين ، فأنزل الله : { وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ } وهكذا قال عطاء وقتادة. ولكن فيما نقله السهيلي من قصة كنانة نظر ، والله أعلم. على كل تقدير فهو حرام في هذه الأمة ، مُبَشَّع غاية التبشع (6) ولهذا قال : { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلا } ولهذا قال (7) [تعالى] (8) { وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [الأنعام : 151] وقال { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا } [الإسراء : 32]فزاد هاهنا : { وَمَقْتًا } أي : بُغْضًا ، أي هو أمر كبير في نفسه ، ويؤدي إلى مقت الابن أباه بعد أن يتزوج بامرأته ، فإن الغالب أن من تزوج بامرأة يبغض من كان زوجها قبله ؛ ولهذا حرمت أمهات المؤمنين على الأمة ؛ لأنهن أمهات ، لكونهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو كالأب [للأمة] (9) بل حقه أعظم من حق الآباء بالإجماع ، بل حبه مقدم على حب النفوس صلوات الله وسلامه عليه.
وقال عَطاء بن أبي رَباح في قوله : { ومقتا } أي : يمقت الله عليه { وَسَاءَ سَبِيلا } أي : وبئس طريقا لمن سلكه من الناس ، فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه ، فيقتل ، ويصير ماله فيئا لبيت المال. كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، من طرق ، عن البراء بن عازب ، عن خاله أبي (10) بردة - وفي رواية : ابن عمر - وفي رواية : عن عمه : أنه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن يقتله ويأخذ ماله.
وقال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيْم ، حدثنا أشعث ، عن عدي بن ثابت ، عن البراء بن عازب قال :
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ : "عبد".
(3) في جـ ، ر ، أ : "ضمرة".
(4) تفسير الطبري (8/133).
(5) في أ : "المحرمي".
(6) في ر : "التبشيع".
(7) في جـ ، ر ، أ : "وقد قال".
(8) زيادة من ر.
(9) زيادة من أ.
(10) في ر : "أبو" وهو خطأ.

(2/246)


حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)

مرَّ بي عمي الحارث بن عمرو ، ومعه لواء قد عقده له النبي (1) صلى الله عليه وسلم فقلت له : أي عم ، أين بعثك النبي [صلى الله عليه وسلم] (2) ؟ قال : بعثني إلى رجل تزوج امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه (3).
مسألة :
وقد أجمع (4) العلماءُ على تحريم من وطئها الأبُ بتزويج أو ملك أو بشبهة أيضًا ، واختلفوا فيمن باشرها بشهوة دون الجماع ، أو نظر إلى ما لا يحل له النظر إليه منها لو كانت أجنبية. فعن الإمام أحمد رحمه الله أنها تحرم أيضا بذلك. قد روى [الحافظ] (5) ابن (6) عساكر في ترجمة خُدَيْج الحِصْنِيّ (7) مولى معاوية قال : اشترى لمعاوية جارية بيضاء جميلة ، فأدخلها عليه مجردة وبيده قضيب. فجعل يهوي به إلى متاعها ويقول : هذا المتاع لو كان له متاع! اذهب بها إلى يزيد بن معاوية. ثم قال : لا ادع لي ربيعة بن عمرو الجُرَشِي - وكان فقيها - فلما دخل عليه قال : إن هذه أتيت بها مجردة ، فرأيت منها ذاك وذاك ، وإني أردت أن أبعث بها إلى يزيد. فقال : لا تفعل يا أمير المؤمنين ، فإنها لا تصلح له. ثم قال : نعم ما رأيت. ثم قال : ادع لي عبد الله بن مسعدة الفزاري ، فدعوته ، وكان آدم شديد الأدمة ، فقال : دونك هذه ، بَيض بها ولدك. قال : و[قد] (8) كان عبد الله بن مسعدة هذا وهبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة فربته ثم أعتقته ثم كان بعد ذلك مع معاوية من الناس عَلَى عَلِي [بن أبي طالب] (9) رضي الله عنه.
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخِ وَبَنَاتُ الأخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) }
__________
(1) في ر : "رسول الله".
(2) زيادة من جـ ، ر ، أ.
(3) المسند (4/392).
(4) في أ : "اجتمع".
(5) زيادة من أ.
(6) في أ : "أبو".
(7) في جـ ، أ : "الحمصي" ، ولم أجد ترجمته فيما بين يدي من تاريخ دمشق لابن عساكر ولا في المختصر لابن منظور.
(8) زيادة من جـ ، أ.
(9) زيادة من جـ ، ر ، أ.

(2/247)


وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)

{ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) }
هذه الآية الكريمة هي آية تحريم المحارم من النسب ، وما يتبعه من الرضاع والمحارم بالصهر ، كما قال ابن أبي حاتم :

(2/247)


حدثنا أحمد بن سِنان ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان بن حبيب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : حُرمت عليكم سبع نَسَبًا ، وسبع صِهْرًا ، وقرأ : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ } الآية.
وحدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد ، حدثنا أبو أحمد ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إسماعيل بن رجاء (1) عن عُمَير مولى ابن عباس ، عن ابن عباس قال : يحرم من النسب سبع ومن الصهر سبع ، ثم قرأ : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأخِ وَبَنَاتُ الأخْتِ } فهن (2) النسب.
وقد استدل جمهور العلماء على تحريم المخلوقة من ماء الزاني عليه بعموم قوله تعالى : { وبناتكم } ؛ فإنها بنت فتدخل في العموم ، كما هو مذهب أبي حنيفة ، ومالك ، وأحمد بن حنبل. وقد حُكيَ عن الشافعي شيء في إباحتها ؛ لأنها ليست بنتًا شرعية ، فكما لم تدخل في قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ } فإنها لا ترث بالإجماع ، فكذلك لا تدخل في هذه الآية. والله أعلم.
وقوله : { وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ } أي كما تحرم (3) عليك أمك التي ولدتك ، كذلك يحرم عليك أمك التي أرضعتك ؛ ولهذا روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث مالك بن أنس ، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن عمرة بنت عبد الرحمن ، عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الرضاعة تحرم ما تحرّم الولادة" ، وفي لفظ لمسلم : "يَحْرُم من الرضاعة ما يَحْرُم من النسب" (4).
وقد قال بعض الفقهاء : كما يحرم بالنسب يحرم بالرضاع إلا في أربع صور. وقال بعضهم : ست صور ، هي (5) مذكورة في كتب الفروع. والتحقيق أنه لا يستثنى شيء من ذلك ؛ لأنه يوجد مثل بعضها في النسب ، وبعضها إنما يحرم من جهة الصهر ، فلا يرد (6) على الحديث شيء أصلا البتة ، ولله الحمد.
ثم اختلف الأئمة في عدد الرضعات المحرمة ، فذهب ذاهبون إلى أنه يحرم مجرد الرضاع لعموم هذه الآية. وهذا قول مالك ، ويحكى عن ابن عمر ، وإليه ذهب سعيد بن المُسَيَّب ، وعُرْوَة بن الزبير ، والزُّهْرِي.
وقال آخرون : لا يحرم أقل من ثلاث رضعات لما ثبت في صحيح مسلم ، من طريق هشام بن عروة عن أبيه ، عن عائشة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا تُحرِّم المصةُ والمصتان" (7).
وقال قتادة ، عن أبي الخليل ، عن عبد الله بن الحارث ، عن أم الفضل قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
__________
(1) في جـ ، أ : "بن جابر".
(2) في جـ ، ر ، أ : "فهذا".
(3) في ر : "يحرم".
(4) صحيح البخاري رقم (3105) وصحيح مسلم برقم (1444) وموطأ مالك (في الرضاع).
(5) في ر : "وهي".
(6) في أ : "لا يزد".
(7) صحيح مسلم برقم (1450) لكنه من طريق ابن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير عن عائشة.
وقد رواه النسائي في السنن الكبرى من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وابن الزبير برقم (5458).

(2/248)


"لا تُحرم الرَّضْعَة ولا الرضعتان ، والمصَّة (1) ولا المصتان" ، وفي لفظ آخر : "لا تحرم الإمْلاجَة ولا الإملاجتان" رواه مسلم (2).
وممن ذهب إلى هذا القول الإمام أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو عبيد ، وأبو ثور. ويحكى (3) عن علي ، وعائشة ، وأم الفضل ، وابن الزبير ، وسليمان بن يسار ، وسعيد بن جبير ، رحمهم الله.
وقال آخرون : لا يحرم أقل من خمس رضعات ، لما ثبت في صحيح مسلم من طريق مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عَمْرة (4) عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : كان فيما أنزل [الله] (5) من القرآن : عشر رضعات معلومات يحرمن. ثم نسخن بخمس معلومات ، فتوفي رسول الله صلى لله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن.
وروى عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة نحو ذلك (6).
وفي حديث سَهْلة بنت سهيل : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تُرضِع مولى أبي حذيفة خمس رضعات (7) وكانت عائشة تأمر من يريد أن يدخل عليها أن يُرْضع خمس رضعات. وبهذا قال الشافعي ، رحمه الله [تعالى] (8) وأصحابه. ثم ليعلم أنه لا بد أن تكون الرضاعة في سن الصغر دون الحولين على قول الجمهور. وكما (9) قدمنا الكلام على هذه المسألة في سورة البقرة ، عند قوله : { يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } [الآية : 233].
واختلفوا : هل يحرم لبن الفَحْل ، كما هو قول جمهور الأئمة الأربعة وغيرهم ؟ وإنما يختص الرضاع بالأم فقط ، ولا ينتشر إلى ناحية الأب كما هو لبعض السلف ؟ على قولين ، (10) تحرير هذا كله في كتاب "الأحكام الكبير ".
وقوله : { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أما (11) أم المرأة فإنها تحرم بمجرد العقد على ابنتها ، سواء دخل بها أو لم يدخل. وأما الربيبة وهي بنت المرأة فلا تحرم بمجرد العقد على أمها حتى يدخل بها ، فإن طلق الأم قبل الدخول بها جاز له أن يتزوج بنتها ، ولهذا قال : { وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } [أي] (12) في تزويجهن ، فهذا خاص بالربائب وحدهن.
وقد فهم بعضُهم عود الضمير إلى الأمهات [و] (13) الربائب فقال : لا تحرم واحدة من الأم ولا
__________
(1) في جـ ، أ : "ولا المصة".
(2) صحيح مسلم برقم (1451)
(3) في جـ ، أ : "هو محكى".
(4) في جـ ، ر ، أ : "عن عروة".
(5) زيادة من جـ ، أ.
(6) صحيح مسلم برقم (1452).
(7) وانظر قصتها في المسند (6/201).
(8) زيادة من ر.
(9) في جـ ، ر ، أ : "وقد".
(10) زيادة من جـ ، ر ، أ.
(11) في ر : "أن".
(12) زيادة من جـ ، أ.
(13) زيادة من ر.

(2/249)


البنت بمجرد العقد على الأخرى حتى يدخل بها ؛ لقوله : { فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ }
وقال (1) ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى ، عن سعيد عن قتادة ، عن خِلاس بن عَمْرو ، عن علي ، رضي الله عنه ، في رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها ، أيتزوج أمها ؟ قال : هي بمنزلة الربيبة.
وحدثنا ابن بشار حدثنا يحيى بن (2) سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن زيد بن ثابت قال : إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها فلا بأس أن يتزوج أمها.
وفي رواية عن قتادة ، عن سعيد ، عن زيد بن ثابت ؛ أنه كان يقول : إذا ماتت عنده وأخذ ميراثها كُره أن يخلف على أمها ، فإذا طلقها قبل أن يدخل بها فإن شاء فعل.
وقال ابن المنذر : حدثنا إسحاق ، عن عبد الرزاق ، عن ابن جريج قال : أخبرني أبو بكر بن حفص ، عن مسلم بن (3) عويمر الأجدع أن (4) بكر بن كنانة أخبره أن أباه أنكحه امرأة بالطائف قال : فلم أجامعها حتى توفي عَمي عن أمها ، وأمها ذات مال كثير ، فقال أبي : هل لك في أمها ؟ قال : فسألت ابن عباس وأخبرته الخبر (5) فقال : انكح أمها. قال : فسألت ابن عمر فقال : لا تنكحها. فأخبرت أبي ما قال ابن عباس وما قال ابن عمر ، فكتب إلى معاوية وأخبره في كتابه بما قال ابن عُمَر وابن عباس فكتب معاوية : إني لا أحلّ ما حَرم الله ، ولا أحرم ما أحل [الله ] (6) وأنت وذاك والنساء سواها كثير. فلم ينه (7) ولم يأذن لي ، فانصرف أبي عن أمها فلم ينكحها (8).
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن سِمَاك بن الفضل ، عن رجل ، عن عبد الله بن الزبير قال : الربيبة والأم سواء ، لا بأس بها إذا لم يدخل بالمرأة. وفي (9) إسناده رجل مبهم (10) لم يسم.
وقال ابن جريج (11) أخبرني عكرمة بن خالد أن مجاهدًا قال له : { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ } أراد (12) بهما الدخول جميعًا (13) فهذا القول مروى كما ترى عن علي ، وزيد بن ثابت ، وعبد الله بن الزبير ، ومجاهد ، وابن جبير (14) وابن عباس ، وقد توقف فيه معاوية ، وذهب إليه من الشافعية أبو الحسن أحمد بن محمد بن الصابوني ، فيما نقله الرافعي عن العبادي. [وقد خالفه جمهور العلماء من السلف والخلف ، فرأوا أن الربيبة لا تحرم بمجرد العقد على الأم ، وإنها لا تحرم إلا بالدخول بالأم ، بخلاف الأم فإنها تحرم بمجرد العقد على الربيبة] (15).
قال ابن أبي حاتم : حدثنا جعفر بن محمد بن هارون بن عَزْرة (16) حدثنا عبد الوهاب ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أنه كان يقول إذا طلق الرجل امرأة قبل أن يدخل بها أو ماتت لم تحل (17) له أمها ، أنه قال : إنها مبهمة ، فكرهها.
__________
(1) في جـ ، ر ، أ : "فقال"
(2) في ج ، ر : "عن".
(3) في أ : "عن".
(4) في جـ ، ر : "من" وفي أ : "عن".
(5) في أ : "بالخبر".
(6) زيادة من جـ ، أ.
(7) في جـ ، ر ، أ : "ينهنى".
(8) في أ "ينكحنيها".
(9) في جـ ، ر : "في".
(10) في أ : "متهم".
(11) في أ : "ابن جرير".
(12) في جـ ، ر ، أ : "أريد".
(13) في أ : "جمعا".
(14) في جـ ، ر : "ومجاهد بن جبير" وفي أ : "مجاهد بن جبر".
(15) زيادة من جـ ، ر ، أ.
(16) في جـ ، أ : "عروة".
(17) في أ : "لا يمل".

(2/250)


ثم قال : ورُويَ عن ابن مسعود ، وعمران بن حُصَين ، ومسروق ، وطاوس ، وعكرمة ، وعطاء ، والحسن ، ومكحول ، وابن سيرين ، وقتادة ، والزهري نحو ذلك. وهذا مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة ، وجمهور الفقهاء قديمًا وحديثًا ، ولله الحمد والمنة.
قال (1) ابن جرير : والصواب ، أعنى قَوْلَ من قال : "الأم من المبهمات" ؛ لأن الله لم يشرط (2) معهن الدخول كما شرط ذلك مع أمهات الربائب ، مع أن ذلك أيضًا إجماع من الحجة التي لا يجوز خلافها فيما جاءت به متفقة عليه. وقد روي بذلك أيضًا عن النبي صلى الله عليه وسلم خبر ، غير أنَّ في إسناده نظرًا ، وهو ما حدثني به المثنى ، حدثنا حبان بن موسى ، حدثنا ابن المبارك ، أخبرنا المثنى بن الصباح ، عن عمرو بن شعيب عن أبيه ، عن جده عن النبي صلىالله عليه وسلم قال : إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها ، دخل بالبنت أو لم يدخل ، وإذا تزوج الأم (3) فلم يدخل بها ثم طلقها ، فإن شاء تزوج الابنة (4).
ثم قال : وهذا الخبر ، وإن كان في إسناده ما فيه ، فإن في إجماع الحجة على صحة القول به مُسْتَغْنى عن الاستشهاد على صحته بغيره.
وأما قوله : { وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ } فجمهور (5) الأئمة على أن الربيبة حرام سواء كانت في حجر الرجل أو لم تكن في حجره ، قالوا : وهذا الخطاب خرج مخرج الغالب ، فلا مفهوم له كقوله تعالى : { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } [النور : 33]
وفي الصحيحين أن أم حَبيبة قالت : يا رسول الله ، انكح أختي بنت أبي سفيان - وفي لفظ لمسلم : عزة بنت أبي سفيان - قال : "أو تحبين ذلك ؟" قالت : نعم ، لَسْتُ لك بمُخْليَة ، وأحب من شاركني في خير أختي. قال : "فإن ذلك لا يَحل (6) لي". قالت : فإنا نُحَدثُ أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة. قال (7) بنْتَ أم سلمة ؟ " قالت (8) نعم. قال : إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حَلَّتْ لي ، إنها لبنت (9) أخي من الرضاعة ، أرضعتني وأبا سلمة ثُوَيْبَة فلا تَعْرضْن علي بناتكن ولا أخواتكن". وفي رواية للبخاري : "إني لو لم أتزوج أم سلمة ما حلت لي" (10).
فجعل المناط في التحريم مجرد تزويجه أم سلمة وحكم بالتحريم لذلك ، وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة وجمهور الخلف والسلف. وقد قيل بأنه لا تحرم الربيبة إلا إذا كانت في حجر الرجل ، فإذا لم يكن كذلك فلا تحرم.
__________
(1) في أ : "وقال".
(2) في أ : "يشترط".
(3) في أ : "بالأم".
(4) تفسير الطبري (8/146) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (7/160) من طريق به ، ثم قال البيهقي : "مثنى بن الصباح غير قوي".
(5) في ر : "جمهور".
(6) في أ : "لا تحل".
(7) في ر : "قالت".
(8) في جـ ، ر : "قلت".
(9) في جـ ، ر : "لابنة".
(10) صحيح البخاري برقم (5101) وصحيح مسلم برقم (1449).

(2/251)


وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعة ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، أنبأنا هشام - يعني ابن يوسف - عن ابن جريج ، حدثني إبراهيم بن عبيد بن رفاعة ، أخبرني مالك بن أوس بن الحدثان قال : كانت عندي امرأة فتوفيت ، وقد ولدت لي ، فوجِدْت عليها ، فلقيني علي بن أبي طالب فقال : مالك ؟ فقلت : توفيت المرأة. فقال علي : لها ابنة ؟ قلت : نعم ، وهي بالطائف. قال : كانت في حجرك ؟ قلت : لا هي بالطائف قال : فانكحها. قلت : فأين قول الله [عز وجل] (1) { وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ } قال : إنها لم تكن في حجْرك ، إنما ذلك إذا كانت في حجرك.
هذا إسناد قوي ثابت إلى علي بن أبي طالب ، على شرط مسلم ، وهو قول غريب جدًّا ، وإلى هذا ذهب داود بن علي الظاهري وأصحابه. وحكاه أبو القاسم الرافعي عن مالك ، رحمه الله ، واختاره ابن حزم ، وحكى لي شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي أنه عَرَض هذا على الشيخ الإمام تقي الدين ابن تيمية ، رحمه الله ، فاستشكله ، وتوقف في ذلك ، والله أعلم (2).
وقال ابن المنذر : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا الأثرم ، عن أبي عبيدة قوله : { اللاتِي فِي حُجُورِكُم } قال : في بيوتكم.
وأما الربيبة في ملك اليمين فقد قال الإمام مالك بن أنس ، عن ابن شهاب : أن عمر بن الخطاب سُئلَ عن المرأة وبنتها (3) من ملك اليمين توطأ إحداهما بعد الأخرى ؟ فقال عمر : ما أحب أن أخبرهما جميعًا. يريد أن أطَأهُمَا جميعا بملك يميني. وهذا منقطع.
وقال سُنَيد بن داود في تفسيره : حدثنا أبو الأحوص ، عن طارق بن عبد الرحمن عن قيس قال : قلت لابن عباس : أيقع الرجل على امرأة وابنتها مملوكين (4) له ؟ فقال : أحلتهما آية وحرمتهما آية ، ولم (5) أكن لأفعله.
قال الشيخ أبو عُمَر بن عبد البر ، رحمه الله : لا خلاف بين العلماء أنَّه لا يحل لأحد أن يطأ امرأة وابنتها (6) من ملك اليمين ، لأن الله حرم ذلك في النكاح ، قال : { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ } وملك اليمين هم (7) تبع للنكاح ، إلا ما روي عن عُمَر وابن عباس ، وليس على ذلك أحد من أئمة الفتوى ولا من تبعهم. وروى (8) هشام عن قتادة : بنت الربيبة وبنت ابنتها لا تصلح وإن كانت أسفل ببطون كثيرة. وكذا قال قتادة عن أبي العالية.
ومعنى قوله تعالى : { اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } أي : نكحتموهن. قاله ابن عباس وغير واحد.
وقال ابن جريج عن عطاء : هو أن تهدى إليه فيكشف ويفتش ويجلس بين رجليها. قلت : أرأيت إن فعل ذلك في بيت أهلها. قال : هو سواء ، وحسبه قد حرم ذلك عليه ابنتها.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) بدائع الفوائد (1/53).
(3) في أ : "وربيبتها".
(4) في جـ ، ر ، أ : "مملوكتين".
(5) في جـ ، أ : "فلم".
(6) في أ : "وبنتها".
(7) في جـ ، ر ، أ : "عندهم".
(8) في ر ، أ : "قال".

(2/252)


وقال ابن جرير : وفي إجماع الجميع على أن خلوة الرجل بامرأته لا يُحرم (1) ابنتها عليه إذا طلقها قبل مسيسها ومُبَاشرتها أو قبل (2) النظر إلى فرجها بشهوة ، ما يدل على أن معنى ذلك هو الوصول إليها بالجماع.
وقوله : { وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ } أي : وحُرمت عليكم زوجات أبنائكم الذين ولدتموهم من أصلابكم ، يحترز بذلك عن الأدعياء الذين كانوا يَتَبَنَونهم في الجاهلية ، كما قال تعالى : { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ [إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا] (3) } الآية [الأحزاب : 37 ].
وقال ابن جُرَيْج : سألت عطاء عن قوله : { وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ } قال : كنا نُحَدِّث ، والله أعلم ، أن رسول الله (4) صلى الله عليه وسلم لما نكح امرأة زيد ، قال (5) المشركون بمكة في ذلك ، فأنزل الله [عز وجل] (6) { وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ } ونزلت : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } [الأحزاب : 4]. ونزلت : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } [الأحزاب : 40].
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زرعة ، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا الجرح (7) بن الحارث ، عن الأشعث ، عن الحسن بن محمد (8) أن هؤلاء الآيات مبهمات : { وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ } { أُمَّهَاتُ نِسَائِكُم } ثم قال : وروي عن طاوس وإبراهيم والزهري ومكحول نحو ذلك.
قلت : معنى (9) مبهمات : أي عامة في المدخول بها وغير المدخول ، فتحرم (10) بمجرد العقد عليها ، وهذا متفق عليه. فإن قيل : فمن أين تحرم امرأة ابنه من الرضاعة ، كما هو قول الجمهور ، ومن الناس من يحكيه إجماعا وليس من صلبه ؟ فالجواب من قوله صلى الله عليه وسلم : "يَحْرُم من الرّضاع (11) ما يحرم من النسب".
وقوله : { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ [إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا] (12) } أي : وحرم عليكم الجمع بين الأختين معًا في التزويج ، وكذا في ملك اليمين إلا ما كان منكم في جاهليتكم فقد عفونا عن ذلك وغفرناه. فدل على أنه لا مثنوية فيما يستقبل ولا استثناء فيما (13) سلف ، كما قال : { لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى } [الدخان : 56] فدل على أنهم لا يذوقون فيها الموت (14) أبدا. وقد أجمع العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة قديمًا وحديثًا على أنه يحرم الجمع بين الأختين في النكاح ، ومن أسلم وتحته أختان خير ، فيمسك إحداهما (15) ويطلق الأخرى لا محالة.
قال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا موسى بن داود حدثنا ابن لَهِيعة عن أبي وهْب الجيْشاني عن الضحاك بن فيروز ، عن أبيه قال : أسلمت وعندي امرأتان أختان ، فأمَرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أطلق
__________
(1) في جـ ، ر ، أ : "لا تحرم".
(2) في جـ ، ر ، أ : "وقيل".
(3) زيادة من جـ ، ر ، أ.
(4) في جـ : "النبي".
(5) في جـ ، ر ، أ : "فقال".
(6) زيادة من جـ ، أ.
(7) في جـ ، ر ، أ : "خالد".
(8) في أ : "الحسن ومحمد".
(9) في ر : "يعني".
(10) في أ : "فيحرم".
(11) في أ : "الرضاعة".
(12) زيادة من جـ ، أ ، وفي الأصل : "الآية".
(13) في ر ، أ : "بما".
(14) في جـ : "الموت فيهما".
(15) في أ : "أحديهما".

(2/253)


إحداهما (1).
ثم رواه الإمام أحمد ، والترمذي ، وابن ماجة ، من حديث ابن لهيعة. وأخرجه أبو داود والترمذي أيضًا من حديث يزيد بن أبي حبيب ، كلاهما عن أبي وهب الجَيْشاني. قال الترمذي : واسمه ديلم بن الهُوشَع ، عن الضحاك بن فيروز الديلمي ، عن أبيه ، به وفي لفظ للترمذي : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "اختر أيتهما (2) شئت". ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن (3).
وقد رواه ابن ماجه أيضا بإسناد آخر فقال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا عبد السلام بن حرب ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة ، عن أبي وهب الجيشاني عن أبي خراش الرُّعَيْني (4) قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي أختان تَزَوجْتُهما في الجاهلية ، فقال : "إذا رَجَعْتَ فَطلقْ إحداهما (5) " (6).
قلت : فيحتمل أن أبا خراش هذا هو الضحاك بن فيروز ، ويحتمل أن يكون غيره ، فيكون أبو (7) وهب قد رواه عن اثنين ، عن فيروز الديلمي ، والله أعلم.
وقال ابن مَرْدويه : حدثنا عبد الله بن يحيى بن محمد بن يحيى ، حدثنا أحمد بن يحيى الخولاني (8) حدثنا هيثم بن خارجة ، حدثنا يحيى بن إسحاق ، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فَرْوة عن رُزَيق (9) بن حكيم ، عن كثير بن مرة ، عن الديلمي قال : قلت : يا رسول الله ، إن تحتي أختين ؟ قال : "طَلق أيهما شئت" (10).
فالديلمي المذكور أولا هو الضحاك بن فيروز الديلمي [رضي الله عنه] (11) قال أبو زرعة الدمشقي : كان يصحب عبد الملك بن مروان ، والثاني هو أبو فيروز الديلمي ، رضي الله عنه ، وكان من جملة الأمراء باليمن الذين ولوا قتل الأسود العنسي (12) المتنبئ لعنه الله.
وأما الجمع بين الأختين في ملك اليمين فحرام أيضا لعموم الآية ، وقال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن عبد الله بن أبي عنبة - أو عتبة عن ابن مسعود : أنه سئل عن الرجل يجمع بين (13) الأختين ، فكرهه ، فقال له - يعني السائل - : يقول الله عز وجل : { إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } فقال له ابن مسعود : وبعيرك مما ملكت يمينك.
__________
(1) في أ : "أحديهما".
(2) في جـ : "أيهما".
(3) المسند (4/232) وسنن أبي داود برقم (2243) وسنن الترمذي برقم (1229) وسنن ابن ماجة برقم (1951).
(4) في جـ ، أ : "عن أبي خراش الرعيني عن الديلمي".
(5) في أ : "أحديهما".
(6) سنن ابن ماجة برقم (1950) وقد سقط اسم الديلمي هنا (18/328) من طريق إسحاق بن أبي فروة عن أبي وهب الجيشاني عن أبي خراش الرعينى عن الديلمي به ، وقد خولف إسحاق بن أبي فروة : خالفه يزيد بن حبيب فرواه عن أبي وهب عن الديلمي به ، ورواه البيهقي في السنن الكبرى (7/184) ثم قال : "زاد إسحاق بن أبي فروة في إسناده أبا خراش وإسحاق لا يحتج به ، ورواية يزيد بن أبي حبيب أصح".
(7) في جـ ، أ : "ابن".
(8) في جـ ، ر ، أ : "الحلواتي".
(9) في جـ ، ر : "زريق".
(10) في إسناده إسحاق بن أبي فروة وهو ضعيف وقد اختلف عليه فيه.
(11) زيادة من جـ ، أ.
(12) في أ : "العبسي".
(13) في أ : "بين الأمتين الأختين".

(2/254)


وهذا هو المشهور عن الجمهور والأئمة الأربعة وغيرهم ، وإن كان بعض السلف قد توقف في ذلك. قال الإمام مالك ، عن ابن شهاب ، عن قَبيصة بن ذُؤيب : أن رجلا سأل عثمان بن عفان عن الأختين في ملك اليمين ، هل يجمع بينهما ؟ فقال عثمان : أحلتهما آية وحَرمتهما آية ، وما كنت لأصنع ذلك ، فخرج من عنده فلقي رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فسأله عن ذلك فقال : لو كان لي من الأمر شيء ثم وجدت أحدا فعل ذلك لجعلته نكالا. قال مالك : قال ابن شهاب : أرَاه علي بن أبي طالب : قال : وبلغني عن الزبير بن العوام مثل ذلك.
قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر النَّمَري ، رحمه الله ، في كتابه "الاستذكار" : إنما كني قبيصة بن ذُؤيب عن علي بن أبي طالب ، لصحبته عبد الملك بن مروان ، وكانوا يستثقلون ذكر علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه.
ثم قال أبو عمر ، رحمه الله : حدثني خلف بن أحمد ، رحمه الله ، قراءة عليه : أن خلف بن مطرف حدثهم : حدثنا أيوب بن سليمان وسعيد (1) بن سليمان ومحمد بن عمر بن لبابة قالوا : حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن إبراهيم ، حدثنا أبو عبد الرحمن المقري (2) عن موسى بن أيوب الغافقي ، حدثني عمي إياس بن عامر قال : سألت علي بن أبي طالب [رضي الله عنه] (3) فقلت : إن لي أختين مما ملكت يميني ، اتخذت إحداهما سرية فولدت لي أولادًا ، ثم رغبت في الأخرى ، فما أصنع ؟ فقال علي ، رضي الله عنه : تعتق التي كنت تطَأُ ثم تطأ الأخرى. قلت : فإن ناسًا يقولون : بل تَزَوّجها ثم تطأ الأخرى. فقال علي : أرأيت إن طلقها زوجها أو مات عنها أليس ترجع إليك ؟ لأن تعتقها أسلم لك. ثم أخذ علي بيدي فقال لي : إنه يحرم عليك ما ملكت يمينك ما يحرم عليك في كتاب الله عز وجل من الحرائر إلا العدد - أو قال : إلا الأربع - ويَحْرُم عليك من الرضاع ما يحرم عليك في كتاب الله من النسب.
ثم قال أبو عمر : هذا الحديث رحلة (4) لو لم يصب الرجل من أقصى المشرق أو المغرب (5) إلى مكة غيره لما خابت رحلته (6).
قلت : وقد روي عن علي نحو ما تقدم (7) عن عثمان ، وقال أبو بكر بن مردويه :
حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن العباس ، حدثني محمد بن عبد الله بن المبارك المخرّمي (8) حدثنا عبد الرحمن بن غَزْوان ، حدثنا سفيان ، عن عَمْرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال لي علي بن أبي طالب : حرمتهما آية وأحلتهما آية - يعني الأختين - قال ابن عباس : يحرمهن علي قرابتي منهن ، ولا يحرمهن على قرابة بعضهن من بعض - يعني الإماء - وكانت الجاهلية يحرمون ما تُحَرَّمون إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين ، فلما جاء الإسلام أنزل الله [عز
__________
(1) في ر ، أ : "معبد".
(2) في أ : "المقبري".
(3) زيادة من جـ ، أ.
(4) في ر : "رحلة رجل".
(5) في جـ ، ر : "أقصى المغرب أو المشرق".
(6) الاستذكار لابن عبد البر (16/252).
(7) في أ : "ما روى".
(8) في أ : "المخزومي".

(2/255)


وجل] (1) { وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ } { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ } يعني : في النكاح.
ثم قال أبو عمر : روى الإمام أحمد (2) بن حنبل : حدثنا محمد بن سلمة ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن ابن مسعود قال : يحرم من الإماء ما يحرم من الحرائر إلا العدد. وعن ابن سيرين والشعبي مثل ذلك.
قال أبو عمر ، رحمه الله : وقد روي مثل قول عثمان عن طائفة من السلف ، منهم : ابن عباس ، ولكنهم اختلف عليهم ، ولم يلتفت إلى ذلك أحد من فقهاء الأمصار والحجاز ولا بالعراق ولا ما وراءهما من المشرق ولا بالشام ولا المغرب ، إلا من شذ عن جماعتهم باتباع الظاهر ونَفْي القياس ، وقد ترك من يعمل ذلك (3) ما اجتمعنا عليه ، وجماعة الفقهاء متفقون على أنه لا يحل الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء ، كما لا يحل ذلك في النكاح. وقد أجمع المسلمون على أن معنى قوله [تعالى] (4) { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ [وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ ] (5) } إلى آخر الآية : أن النكاح وملك (6) اليمين في هؤلاء كلهن سواء ، فكذلك يجب أن يكون نظرًا وقياسًا الجمع بين الأختين وأمهات النساء والربائب. وكذلك هو عند جمهورهم ، وهم الحجة المحجوج بها من خالفها وشذ عنها ، والله المحمود (7).
وقوله [تعالى] (8) { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } أي : وحرم عليكم الأجنبيات المحصنات وهي المزوجات { إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } يعني : إلا ما (9) ملكتموهن بالسبي ، فإنه يحل لكم وطؤهن إذا استبرأتموهن ، فإن الآية نزلت في ذلك.
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا سفيان - هو الثوري - عن عثمان البَتِّي ، عن أبي الخليل ، عن أبي سعيد الخدري قال : أصبنا نساء (10) من سبي أوطاس ، ولهن أزواج ، فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج ، فسألنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فنزلت هذه الآية : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } [قال] (11) فاستحللنا فروجهن.
وهكذا رواه الترمذي عن أحمد بن منيع ، عن هُشَيم ، ورواه النسائي من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج ، ثلاثتهم عن عثمان البتي ، ورواه ابن جرير من حديث أشعث بن سواري عن عثمان البتي ، ورواه مسلم في صحيحه من حديث شعبة عن قتادة ، كلاهما عن أبي الخليل صالح بن أبي مريم ، عن أبي سعيد الخدري ، فذكره ، وهكذا رواه عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة عن أبي الخليل ، عن أبي سعيد ، به (12).
__________
(1) زيادة من ر.
(2) في جـ ، أ : "وروى عن أحمد" وفي ر : "وروى أحمد".
(3) في جـ ، أ : "ذلك ظاهرا".
(4) زيادة من جـ ، ر ، أ.
(5) زيادة من جـ ، ر ، أ.
(6) في جـ ، ر ، أ : "يملك".
(7) الاستذكار لابن عبد البر (16/ 250 - 251).
(8) زيادة من أ.
(9) في أ : "يعنى الإماء".
(10) في أ : "سبيًا".
(11) زيادة من جـ ، أ.
(12) تفسير عبد الرزاق (1/153) وسنن الترمذي برقم (3017) وسنن النسائي الكبرى برقم (11097) وصحيح مسلم برقم (1456) وتفسير الطبري (8/153).

(2/256)


وقد روي من وجه آخر عن أبي الخليل ، عن أبي عَلْقَمَةَ الهاشمي ، عن أبي سعيد قال الإمام أحمد :
حدثنا ابن أبي عَدِيّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن أبي الخليل ، عن أبي عَلْقَمَةَ ، عن أبي سعيد الخدري ؛ أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابوا سبايا يوم أوطاس ، لهن أزواج من أهل الشرك ، فكان أناسًا (1) من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفوا وتأثموا (2) من غشيانهن قال : فنزلت هذه الآية في ذلك : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ }
وهكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث سعيد بن أبي عَرُوبة - زاد مسلم : وشعبة - ورواه الترمذي من حديث همام بن يحيى ، ثلاثتهم عن قتادة ، بإسناده نحوه. وقال الترمذي : هذا حديث حسن ، ولا أعلم أن أحدا ذكر أبا علقمة في هذا الحديث إلا ما ذكر همام عن قتادة. كذا قال. وقد تابعه سعيد وشعبة ، والله أعلم (3).
وقد روى الطبراني من طريق الضحاك عن ابن عباس : أنها نزلت في سبايا خيبر ، وذكر مثل حديث أبي سعيد ، وقد ذهب جماعة من السلف إلى أن بيع الأمة يكون طلاقا لها من زوجها ، أخذا بعموم هذه الآية. قال ابن جرير : حدثنا ابن مثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم : أنه سُئل عن الأمة تباع ولها زوج ؟ قال : كان عبد الله يقول : بيعها طلاقها ، ويتلو هذه الآية (4) { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ }
وكذا رواه سفيان (5) عن منصور ، ومغيرة والأعمشن عن إبراهيم ، عن ابن مسعود قال : بيعها طلاقها. وهو منقطع.
وقال سفيان الثوري ، عن خالد ، عن أبي قِلابة ، عن ابن مسعود قال : إذا بيعت الأمة ولها زوج فسيدها أحق ببضعها.
ورواه سعيد ، عن قتادة قال : إن أبي بن كعب ، وجابر بن عبد الله ، وابن عباس قالوا : بيعها طلاقها.
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، [حدثنا] (6) ابن علية ، عن خالد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : طلاق الأمة ست (7) بيعها طلاقها ، وعتقها طلاقها ، وهبتها طلاقها ، وبراءتها طلاقها ، وطلاق زوجها طلاقها.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن ابن المسيب قوله : { وَالْمُحْصَناَتُ مِنَ النِّسَاءِ } قال : هُن (8) ذوات الأزواج ، حرّم الله نكاحهن إلا ما ملكت يمينك (9) فبيعها طلاقها وقال معمر : وقال الحسن مثل ذلك.
__________
(1) في أ : "وكان ناس".
(2) في جـ ، ر : "أو تأثموا".
(3) المسند (3/84) وصحيح مسلم برقم (1456) وسنن أبي داود برقم (2155) وسنن النسائي (6/110) وسنن الترمذي برقم (3016).
(4) في أ : "الآيات".
(5) في أ : "شقيق".
(6) زيادة من جـ ، ر ، أ.
(7) المذكور في رواية كل النسخ خمس لا ست.
(8) في جـ ، ر ، أ : "هذه".
(9) في ر : "يمينك فيها".

(2/257)


وهكذا رواه سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة ، عن الحسن في قوله : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } قال : إذا كان لها زوج فبيعها طلاقها.
وقال عوف ، عن الحسن : بيع الأمة طلاقها وبيعُه طلاقُها.
فهذا قول هؤلاء من السلف [رحمهم الله] (1) وقد خالفهم الجمهور قديمًا وحديثًا ، فرأوا أن بيع الأمة ليس طلاقها (2) ؛ لأن المشتري نائب عن البائع ، والبائع كان قد أخرج عن ملكه هذه المنفعة وباعها مسلوبة عنها ، واعتمدوا في ذلك على حديث بريرة المخرج في الصحيحين وغيرهما ؛ فإن عائشة أم المؤمنين اشترتها وَنَجَّزَتْ عتقها ، ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيث ، بل خيرها النبي صلى الله عليه وسلم بين الفسخ والبقاء ، فاختارت الفسخ ، وقصتها مشهورة ، فلو كان بيع الأمة طلاقها - كما قال (3) هؤلاء لما خيرها النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما خيرها دل على بقاء النكاح ، وأن المراد من الآية المسبيات فقط ، والله أعلم.
وقد قيل : المراد بقوله : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ } يعني : العفائف حرام عليكم حتى تملكوا عصمتهن بنكاح وشهود ومهور وولي واحدة أو اثنتين (4) أو ثلاثًا أو أربعا. حكاه ابن جرير عن أبي العالية وطاوس وغيرهما. وقال عُمَر وعبيدة : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ } ما عدا الأربع حرام عليكم إلا ما ملكت أيمانكم.
وقوله : { كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ } أي : هذا التحريم كتاب كتبه الله عليكم ، فالزموا كتابه ، ولا تخرجوا عن حدوده ، والزموا شرعه وما فرضه.
وقد قال عبيدة وعطاء والسّدّي في قوله : { كِتَابَ الله عَلَيْكُم } يعني الأربع. وقال إبراهيم : { كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ } يعني : ما حرم عليكم.
وقوله : { وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } أي : ما عدا من ذكرن من المحارم هن لكم حلال ، قاله عطاء وغيره. وقال عبيدة والسدي : { وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } ما دون الأربع ، وهذا بعيد ، والصحيح قول عطاء كما تقدم. وقال قتادة { وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } يعني : ما ملكت أيمانكم.
وهذه الآية هي (5) التي احتج بها من احتج على تحليل الجمع بين الأختين ، وقول من قال : أحلتهما آية وحرمتهما آية (6).
وقوله : { أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } أي : تحصلوا بأموالكم من الزوجات إلى أربع أو السراري ما شئتم بالطريق الشرعي ؛ ولهذا قال : { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ }
وقوله : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً } أي : كما تستمتعون بهن فآتوهن مهورهن في مقابلة ذلك ، كقوله : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ (7) إِلَى بَعْضٍ } [النساء : 21] وكقوله { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } وكقوله [النساء : 4]{ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا } [البقرة : 229]
__________
(1) زيادة من جـ ، أ.
(2) في ر ، أ : "طلاقا لهما".
(3) في جـ ، ر ، أ : "قاله".
(4) في أ : "واحد أو اثنين".
(5) في جـ ، ر ، أ : "هي الآية".
(6) في أ : "أحلتها آية وحرمتها آية".
(7) في أ : "بعضهم".

(2/258)


وقد استدل بعموم هذه الآية على نكاح المتعة ، ولا شك أنه كان مشروعًا في ابتداء الإسلام ، ثم نسخ بعد ذلك. وقد ذهب الشافعي وطائفة من العلماء إلى أنه أبيح ثم نسخ ، ثم أبيح ثم نسخ ، مرتين. وقال آخرون أكثر من ذلك ، وقال آخرون : إنما أبيح مرة ، ثم نسخ ولم يبح بعد ذلك.
وقد رُويَ عن ابن عباس وطائفة من الصحابة القولُ بإباحتها للضرورة ، وهو رواية عن الإمام أحمد بن حنبل ، رحمهم الله تعالى. وكان ابن عباس ، وأبيّ بن كعب ، وسعيد بن جُبَيْر ، والسُّدِّي يقرءون : "فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة". وقال مجاهد : نزلت في نكاح المتعة ، ولكن الجمهور على خلاف ذلك ، والعمدة ما ثبت في الصحيحين ، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب [رضي الله عنه] (1) قال : نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر (2) ولهذا الحديث ألفاظ مقررة هي في كتاب "الأحكام".
وفي صحيح مسلم عن الربيع بن سَبْرَة بن معبد الجهني ، عن أبيه : أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة ، فقال : "يأيها الناس ، إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء ، وإن الله قد حَرم ذلك إلى يوم القيامة ، فمن كان عنده منهن (3) شيء فليخل سبيله ، ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا" وفي رواية لمسلم في حجة الوداع (4) وله ألفاظ موضعها كتاب "الأحكام".
وقوله : { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } من حمل هذه الآية على نكاح المتعة إلى أجل مسمى قال : فلا (5) جناح عليكم إذا انقضى الأجل أن تراضوا (6) على زيادة به وزيادة للجعل (7).
قال السدي : إن شاء أرضاها من بعد الفريضة الأولى - يعني الأجر الذي أعطاها على تمتعه بها - قبل انقضاء الأجل بينهما فقال : أتمتع منك أيضا بكذا وكذا ، فازداد (8) قبل أن يستبرئ رحمها يوم تنقضي المدة ، وهو قوله : { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ }.
قال السدي : إذا انقضت المدة فليس له عليها سبيل ، وهي منه بريئة ، وعليها أن تستبرئ ما في رحمها ، وليس بينهما ميراث ، فلا (9) يرث واحد منهما صاحبه.
ومن قال بالقول الأول جعل معناه كقوله : { وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً [فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا] (10) } [النساء : 4] أي : إذا فرضت (11) لها صداقًا فأبرأتك منه ، أو عن شيء منه فلا جناح عليك ولا عليها في ذلك.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه قال : زعم
__________
(1) زيادة من جـ.
(2) صحيح البخاري رقم (4216) وصحيح مسلم برقم (1407).
(3) في أ : "منه".
(4) صحيح مسلم برقم (1406).
(5) في جـ : "لا جناح".
(6) في جـ : "تتراضوا"
(7) في جـ : "الجعل".
(8) في جـ ، ر : "فإن زاد".
(9) في جـ ، أ : "ليس".
(10) زيادة من جـ ، ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(11) في ر : "فرضتم".

(2/259)


وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)

الحضرمي أن رجالا كانوا يفرضون (1) المهر ، ثم عسى أن يدرك أحدهم العسرة ، فقال : { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أيها الناس { فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرَيضَةِ } يعني : إن وضعت لك منه شيئا فهو لك سائغ ، واختار هذا القول ابن جرير ، وقال [علي] (2) بن أبي طلحة عن ابن عباس : { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } والتراضي أن يُوَفيها صداقها ثم يخيرها ، ويعني (3) في المقام أو الفراق.
وقوله : { إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } مناسب ذكر هذين الوصفين بعد شرع هذه المحرمات [العظيمة] (4).
{ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) }
يقول [تعالى] (5) ومن لم يجد { طَوْلا } أي : سعة وقدرة { أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } أي الحرائر.
وقال ابن وَهْب : أخبرني عبد الجبار ، عن ربيعة : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ } قال ربيعة الطوْل الهوى ، ينكح الأمة إذا كان هواه فيها. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
ثم شرع يشنع على هذا القول ويَرُدّه { فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ } أي : فتزوجوا من الإماء المؤمنات اللاتي يملكهن المؤمنون ، ولهذا قال : { مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَات } قال ابن عباس وغيره : فلينكح من إماء المؤمنين ، وكذا قال السدي ومقاتل بن حَيَّان.
ثم اعترض (6) بقوله : { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ } أي : هو العالم بحقائق الأمور وسرائرها ، وإنما لكم أيها الناس الظاهر من الأمور.
ثم قال : { فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } فدلَّ على أن السيد هو ولي أمته لا تزوج إلا بإذنه ، وكذلك هو ولي عبده ، ليس لعبده أن يتزوج إلا (7) بإذنه ، كما جاء في الحديث : "أيما عبد تَزَوّج بغير إذن مَوَاليه فهو عَاهِر" (8) أي زان.
__________
(1) في أ : "يقرضون".
(2) زيادة من ر ، أ.
(3) في أ : "بعد".
(4) زيادة من جـ ، أ.
(5) زيادة من أ.
(6) في جـ ، ر ، أ : "أعرض".
(7) في جـ : "بغير".
(8) رواه أبو داود في السنن برقم (2078) والترمذي في السنن برقم (1111) من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه. قال الترمذي : حديث جابر حديث حسن.

(2/260)


فإن كان مالك الأمة امرأة زوجها من يزوج المرأة بإذنها ؛ لما جاء في الحديث : "لا تُزَوِّجُ المرأةُ [المرأةَ ، ولا المرأةُ نفسها] (1) فإن الزانية هي التي تزوج نفسها" (2).
وقوله : { وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } أي : وادفعوا (3) مهورهن بالمعروف ، أي : عن طيب نفس منكم ، ولا تبخسوا (4) منه شيئًا استهانة بهن ؛ لكونهن إماء مملوكات.
وقوله : { مُحْصَنَاتٍ } أي : عفائف عن الزنا لا (5) يتعاطينه ؛ ولهذا قال : { غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ } وهن الزواني اللاتي لا يمتنعن من أرادهن بالفاحشة.
وقوله : { ولا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } قال ابن عباس : المسافحات ، هن الزواني المعالنات (6) يعني الزواني اللاتي لا يمنعن أحدًا أرادهن بالفاحشة.(ومتخذات أخدان) يعني : أخلاء.
وكذا روي عن أبي هريرة ، ومجاهد والشعبي ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، ويحيى بن أبي كثير ، ومقاتل بن حيان ، والسدي ، قالوا : أخلاء. وقال الحسن البصري : يعني : الصديق. وقال الضحاك أيضا : { وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } ذات الخليل الواحد [المسيس] (7) المقرة به ، نهى الله عن ذلك ، يعني [عن] (8) تزويجها (9) ما دامت كذلك.
وقوله : { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } اختلف (10) القراءُ في { أُحْصِنَّ } فقرأه (11) بعضهم بضم الهمزة وكسر الصاد ، مبني لما لم يسم فاعله ، وقُرئ بفتح الهمزة والصاد فعل لازم ثم قيل : معنى القراءتين (12) واحد. واختلفوا فيه على قولين :
أحدهما : أن المراد بالإحصان هاهنا الإسلام. رُوي ذلك عن عبد الله بن مسعود ، وابن عمر ، وأنس ، والأسود بن يزيد ، وزِرّ بن حُبَيْش ، وسعيد بن جُبَير ، وعطاء ، إبراهيم النَّخعي ، والشعبي ، والسُّدِّي. وروى نحوه الزهري عن عمر بن الخطاب ، وهو منقطع. وهذا هو القول (13) الذي نص عليه الشافعي [رحمه الله تعالى] (14) في رواية الربيع ، قال : وإنما قلنا [ذلك] (15) استدلالا بالسنة وإجماع أكثر أهل العلم.
وقد روى ابن أبي حاتم في ذلك حديثًا مرفوعًا ، قال : حدثنا علي بن الحسين بن الجنيد ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الله [الدمشقى] (16) حدثنا أبي ، عن أبيه ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن رجل ، عن أبي عبد الرحمن ، عن علي قال : قال رسول الله صلى عليه وسلم : { فَإِذَا أُحْصِنَّ } قال : "إحصانها إسلامها وعفافها". وقال (17) المراد به هاهنا التزويج ، قال : وقال علي : اجلدوهن.
__________
(1) زيادة من جـ ، أ ، وابن ماجه.
(2) رواه ابن ماجة في سننه برقم (1882) من طريق محمد بن مروان عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) في أ : "فادفعوا".
(4) في أ : "ولا يبخسوهن".
(5) في ر : "ولا".
(6) في جـ ، ر ، أ : "المعلنات".
(7) زيادة من جـ ، أ.
(8) زيادة من جـ ، ر ، أ.
(9) في أ : "تزوجها".
(10) في ر : "واختلفت".
(11) في أ : "فقرأ".
(12) في جـ : "القولين".
(13) في جـ ، ر : "وهذا القول هو".
(14) زيادة من جـ ، ر ، وفي أ : "رحمه الله".
(15) زيادة من جـ ، ر ، أ.
(16) زيادة من جـ ، أ.
(17) في ر : "وقيل".

(2/261)


[ثم] (1) قال ابن أبي حاتم : وهو حديث منكر.
قلت : وفي (2) إسناده ضعف ، ومنهم من لم يسم ، و [مثله] (3) لا (4) تقوم به حجة (5).
وقال القاسم وسالم : إحصانها : إسلامها وعفافها.
وقيل : المراد به هاهنا : التزويج. وهو قولُ ابن عباس ، ومجاهد ، وعِكْرِمة ، وطاوس ، وسعيد بن جُبَير ، والحسن ، وقتادة وغيرهم. ونقله أبو علي الطبري في كتابه "الإيضاح" عن الشافعي ، فيما رواه أبو الحكم بن عبد الحكم عنه وقد رواه لَيْث بن أبي سليم ، عن مجاهد أنه قال : إحصان الأمة أن ينكحها الحر ، وإحصان العبد أن ينكح الحرة. وكذا رَوَى ابن أبي طلحة عن ابن عباس ، رواهما ابن جرير في تفسيره ، وذكره ابن أبي حاتم عن الشعبي والنخعي.
وقيل (6) معنى القراءتين متباين (7) فمن قرأ { أُحْصِنَّ } بضم الهمزة ، فمراده التزويج ، ومن قرأ "أحصن" بفتحها ، فمراده الإسلام اختاره الإمام أبو جعفر ابن جرير في تفسيره ، وقرره ونصره.
والأظهر - والله أعلم - أن المراد بالإحصان هاهنا التزويج ؛ لأن سياق الآية يدل عليه ، حيث يقول سبحانه وتعالى : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ } والله أعلم. والآية الكريمة سياقها كلها (8) في الفتيات المؤمنات ، فتعين أن المراد بقوله : { فَإِذَا أُحْصِنَّ } أي : تزوجن ، كما فسره ابن عباس ومن تبعه.
وعلى كل من القولين إشكال على مذهب الجمهور ؛ وذلك أنهم يقولون : إن الأمة إذا زنت فعليها خمسون جلدة ، سواء كانت مسلمة أو كافرة ، مزوجة أو بكرا ، مع أن مفهوم الآية يقتضي أنه لا حد على غير المحصنة ممن زنا من الإماء ، وقد اختلفت أجوبتهم عن ذلك ، فأما الجمهور فقالوا : لا شك أن المنطوق مقدم على المفهوم. وقد وردت أحاديث عامة في إقامة الحد على الإماء ، فقدمناها على مفهوم الآية ، فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحه ، عن علي ، رضي الله عنه ، أنه خطب فقال : يا أيها الناس ، أقيموا على أرقَّائكم الحد من أحْصَنَ منهم ومن لم يُحْصَن ، فَإنَّ أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زَنَتْ فأمرني أن أجلدها ، فإذا هي حديثة عهد بنفاس ، فخشيت إنْ جلدتها أن أقتلها ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : "أحْسَنْتَ ، اتركها حتى تَماثَل (9) " (10).
وعند عبد الله بن أحمد ، عن غير أبيه : "فإذا تَعالتْ من نَفْسِها (11) حدَّها (12) خمسين".
وعن أبي هريرة قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها ، فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ، ثم إن زَنَتِ الثانية فليجلدها الحد ولا يُثَرِّبْ عليها ، ثم إن زنت الثالثة فتبين
__________
(1) زيادة من جـ ، أ.
(2) في أ : "في".
(3) زيادة من جـ ، أ.
(4) في جـ ، ر ، أ : "يقوم".
(5) ذكره السيوطي في الدر المنثور (2/490).
(6) في جـ ، ر : "بل".
(7) في ر : "شيئان".
(8) في أ : "فالسياق كله".
(9) في ر : "تتماثل".
(10) صحيح مسلم برقم (1705).
(11) في أ : "نفاسها".
(12) في جـ : "فاجلدها".

(2/262)


زناها ، فليبعها ولو بِحَبْل من شَعَر" ولمسلم (1) إذا زَنتْ ثلاثا فليبعها في الرابعة" (2).
وقال مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سليمان بن يَسار ، عن عبد الله بن عيَّاش (3) بن أبي ربيعة (4) المخزومي قال : أمَرَني عُمَر بن الخطاب في فتية من قريش ، فجلدنا من ولائد الإمارة خمسين خمسين في الزنا.
الجواب الثاني : جواب من ذهب إلى أن الأمة إذا زنت ولم تحصن فلا حد عليها ، وإنما تضرب تأديبا ، وهو المحكي عن عبد الله بن عباس ، رضي الله عنه ، وإليه ذهب طاوس ، وسعيد بن جُبَير ، وأبو عُبَيد القاسم بن سلام ، وداود بن علي الظاهري في رواية عنه. وعمْدتهُم مفهوم الآية وهو من مفاهيم الشرط ، وهو حجة عند أكثرهم فهو مقدم على العموم عندهم. وحديث أبي هريرة وزيد بن خالد ، رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن الأمة إذا زنت ولم تحْصنْ ؟ قال : "إن زنت فحدوها (5) ثم إن زنت فاجلدوها ثم بيعوها ولو بضفير" (6) قال ابن شهاب : لا أدري أبعد (7) الثالثة أو الرابعة.
أخرجاه في الصحيحين (8) وعند مسلم : قال ابن شهاب : الضفير (9) الحبل.
قالوا : فلم يُؤَقَّت في هذا الحديث (10) عدد كما وقت في المحصنة بنصف ما على المحصنات من العذاب ، فوجب الجمع بين الآية والحديث بذلك والله أعلم.
وأصرح من ذلك ما رواه سعيد بن منصور ، عن سفيان ، عن مسعر ، عن عمرو بن مرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ليس على أمة حد حتى تحصن - أو (11) حتى تزوج - فإذا أحصنت بزوج فعليها نصف ما على المحصنات".
وقد رواه ابن خزيمة ، عن عبد الله بن عمران العابدي (12) عن سفيان به مرفوعا. وقال : رفعه خطأ ، إنما هو من قول ابن عباس ، وكذا رواه البيهقي من حديث عبد الله بن عمران ، وقال مثل ما قاله ابن خزيمة (13).
قالوا : وحديث علي وعمر [رضي الله عنهما] (14) قضايا أعيان ، وحديث أبي هريرة عنه أجوبة :
أحدها : أن ذلك محمول على الأمة المزوجة جمعا بينه وبين هذا الحديث.
__________
(1) في جـ ، أ : "أخرجاه ، ولمسلم".
(2) صحيح البخاري برقم (3167) وصحيح مسلم برقم (1765).
(3) في ر : "عباس".
(4) في ر : "رستم"
(5) في جـ ، ر : "فاجلدوها".
(6) في ر : "بظفير".
(7) في أ : "بعد".
(8) صحيح البخاري برقم (2153 ، 455) وصحيح مسلم برقم (1704) من حديث زيد بن خالد رضي الله عنه.
(9) في جـ ، أ : "والضفير" ، وفي ر : "والظفير".
(10) في جـ ، أ : "الجواب".
(11) في جـ ، أ : "يعني" ، وفي ر : "أو يعني".
(12) في جـ ، ر ، أ : "الغامدي".
(13) السنن الكبرى للبيهقي (8/424) ط - الكتب العلمية ، وقال : "رفعه خطأ والموقوف أصح".
وقد رواه سعيد بن منصور في السنن موقوفا على ابن عباس من هذا الطريق برقم (616).
(14) زيادة من جـ ، أ.

(2/263)


الثاني : أن لفظ الحد في قوله : فليجلدها (1) الحد ، لفظ مقحم (2) من بعض الرواة ، بدليل الجواب الثالث وهو :
أن هذا من حديث صحابيين وذلك من رواية أبي هريرة فقط ، وما كان عن اثنين فهو أولى بالتقدم (3) من رواية واحد ، وأيضا فقد رواه النسائي بإسناد على شرط مسلم ، من حديث عَبَّاد بن تميم ، عن عمه - وكان قد شهد بدرًا - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إذا زنت الأمة فاجلدوها ، ثم إذا زَنتِ فاجْلِدوها ، ثم إذا زنت فاجلدوها ، ثم إذا زنت فبيعوها ولو بضفير".
الرابع : أنه لا يبعد أن بعض الرواة أطلق لفظ الحد في الحديث على الجلد ؛ لأنه لما كان الجلد اعتقد (4) أنه حد ، أو أنه أطلق لفظة الحد على التأديب ، كما أطلق الحد على ضرب من زنى من المرضى بُعثْكال نخل فيه مائة شمراخ ، وعلى جلد من زنى بأمة امرأته إذا أذنت له فيها مائة ، وإنما ذلك تعزير وتأديب عند من يراه كالإمام أحمد وغيره من السلف. وإنما الحد الحقيقي هو جلد البكر مائة ، ورجم الثيب أو اللائط ، والله أعلم.
وقد روى ابن جرير في تفسيره : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عمرو بن مرة ؛ أنه سمع سعيد بن جبير يقول : لا تضرب الأمة إذا زنت ما لم تتزوج (5).
وهذا إسناد صحيح عنه ، ومذهب غريب إن أراد أنها لا تضرب أصلا لا حدا ، وكأنه أخذ بمفهوم الآية ولم يبلغه الحديث ، وإن كان أراد أنها لا تضرب حدا ، ولا ينفي ضربها تأديبا ، فهو (6) كقول ابن عباس ومن تبعه في ذلك ، والله أعلم.
الجواب الثالث : أن الآية دلت على أن الأمة المحصنة تحد نصف حد الحرة ، فأما قبل الإحصان فعمومات (7) الكتاب والسنة شاملة لها في جلدها مائة ، كقوله تعالى (8) { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } [النور : 2] وكحديث عبادة بن الصامت : "خُذوا عَنِّي ، خذوا عني ، قد جَعلَ الله لَهُنَّ سَبِيلا البِكر بالبِكْر جَلْدُ مائة وتَغْرِيبُ عام ، والثيب جَلْدُ مائة ورَجْمُهَا بالحجارة" والحديث في صحيح مسلم وغير ذلك من الأحاديث.
وهذا القول هو المشهور عن داود بن علي الظاهري ، وهو في غاية الضعف ؛ لأن الله تعالى (9) إذا كان أمر بجلد المحصنة من الإماء بنصف ما على الحرة (10) من العذاب وهو خمسون جلدة ، فكيف يكون حكمها قبل الإحصان أشد منه بعد الإحصان. وقاعدة الشريعة في ذلك عكس ما قال ، وهذا الشارع عليه السلام يسأله أصحابه عن الأمة إذا زنت ولم تحصن ، فقال : "اجلدوها" ولم يقل مائة ، فلو كان حكمها كما قال (11) داود لوجب بيان ذلك لهم ؛ لأنهم إنما سألوا عن ذلك لعدم (12) بيان حكم جلد المائة بعد الإحصان في الإماء ، وإلا فما الفائدة في قولهم : "ولم تحصن" لعدم الفرق
__________
(1) في جـ ، أ : "فليقم عليها" وفي ر "عليها الحد".
(2) في ر : "معجمة" ، وفي أ : "مقحمة".
(3) في أ : "بالتقديم".
(4) في جـ ، أ : "لما كان الجلد في الحديث اعتقد".
(5) في أ : "ما لم تزوج".
(6) في جـ ، ر : "فيكون".
(7) في ر : "بعمومات".
(8) في أ : "لقول الله تعالى".
(9) في أ : "سبحانه".
(10) في أ : "غيره".
(11) في أ : "كما زعم".
(12) في جـ ، أ : "بعد نزول".

(2/264)


بينهما لو لم تكن الآية نزلت ، لكن لما علموا حكم أحد الحكمين سألوا عن حكم الحال الآخر ، فبينه لهم. كما [ثبت] (1) في الصحيحين أنهم لما سألوه عن الصلاة عليه ، فذكرها لهم ثم قال : "والسلام ما قد (2) علمتم" وفي لفظ : لما أنزل الله قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [الأحزاب : 56] قالوا : هذا السلام عليك قد عرفناه ، فكيف الصلاة عليك ؟ وذكر الحديث ، وهكذا هذا السؤال (3).
الجواب الرابع - عن مفهوم الآية - : جواب أبي ثور ، فإن من مذهبه ما هو أغرب من قول داود من وجوه ، ذلك أنه يقول (4) فإذا أحْصن فإن عليهن نصف ما على المحصنات (5) المزوجات وهو الرجم ، وهو لا يتناصف (6) فيجب أن ترجم الأمة المحصنة إذا زنت ، وأما قبل الإحصان فيجب جلدها خمسين. فأخطأ في فهم الآية وخالف الجمهور في الحكم ، بل قد قال أبو عبد الله الشافعي ، رحمه الله : ولم يختلف المسلمون في أن لا رجم على مملوك في الزنا ؛ وذلك لأن الآية دلت على أن عليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ، والألف واللام في المحصنات للعهد ، وهن المحصنات المذكورات في أول الآية : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ } والمراد بهن الحرائر فقط ، من غير تعرض لتزويج غيره ، وقوله : { نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } يدل على أن المراد من العذاب الذي يمكن تنصيفه (7) وهو الجلد لا الرجم ، والله أعلم.
ثم قد روى الإمام أحمد [حديثا] (8) نَصا في رَدِّ مذهب أبي ثور من رواية الحسن بن سعد عن أبيه أن صفية (9) كانت قد زنت برجل من الحمس ، فولدت غلاما ، فادعاه الزاني ، فاختصما إلى عثمان [بن عفان] (10) فرفعهما (11) إلى علي بن أبي طالب ، فقال علي : أقضي فيهما (12) بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الولد للفِرَاش وللعَاهِر الحَجَر" وجلدهما خمسين خمسين (13).
وقيل : بل المراد من المفهوم التنبيه بالأعلى على الأدنى ، أي : أن الإماء على النصف من (14) الحرائر في الحد وإن كن محصنات ، وليس عليهن رجم أصلا لا قبل النكاح ولا بعده ، وإنما عليهن الجلد في الحالتين بالسنة. قال (15) ذلك صاحب الإفصاح عن الشافعي ، فيما رواه ابن عبد الحكم ، عنه. وقد ذكره (16) البيهقي في كتاب السنن والآثار ، وهو بعيد عن لفظ الآية ؛ لأنا إنما استفدنا تنصيف (17) الحد من الآية لا من سواها ، فكيف يفهم منها التنصيف فيما عداها ، وقال : بل أريد بأنها في حال الإحصان لا يقيم الحد عليها إلا الإمام ، ولا يجوز لسيدها إقامة الحد عليها والحالة هذه - وهو قول في مذهب الإمام أحمد رحمه الله - فأما قبل الإحصان فله ذلك ، والحد في كلا الموضعين نصف حد الحرة. وهذا أيضا بعيد ؛ لأنه (18) ليس في لفظ الآية ما يدل عليه.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في جـ ، أ : "كما قد علمتم" وفي ر : "كما علمتم".
(3) في أ : "سواء".
(4) في ر : "وذلك أن نقول".
(5) في جـ ، أ : "المحصنات من العذاب أي".
(6) في جـ ، ر ، أ : "ينتصف".
(7) في جـ ، ر : "تنصفه" وفي أ : "بنصفه".
(8) زيادة من أ.
(9) في جـ ، ر ، أ : "صبية".
(10) زيادة من جـ ، أ.
(11) في ر : "فرفعها".
(12) في جـ ، ر : "فيها".
(13) المسند (1/104).
(14) في جـ ، أ : "من جلد".
(15) في أ : "في الحالين بالنسبة نقل".
(16) في ر : "ذكر".
(17) في جـ ، ر : "بنصف".
(18) في ر : "لأن".

(2/265)


ولولا هذه لم ندر ما حكم الإمام (1) في التنصيف ، ولوجب دخولهن في عموم الآية في تكميل الحد (2) مائة أو رجمهن ، كما (3) أثبت في الدليل عليه ، وقد تقدم عن علي أنه قال : أيها الناس أقيموا على أرقائكم الحد من (4) أحصن منهم ومن لم يحصن ، وعموم الأحاديث المتقدمة ليس فيها تفصيل بين المزوجة (5) وغيرها ، لحديث أبي هريرة الذي احتج به الجمهور : "إذا زَنَتْ أمةُ أحدِكم فتبين زِناهَا فَليجْلِدها (6) الحدَّ ولا يثرب عَلَيْها".
ملخص الآية : أنها (7) إذا زنت أقوال : أحدها : أنها (8) بجلد خمسين قبل الإحصان وبعده ، وهل تنفى ؟ فيه ثلاثة أقوال :
[أحدها] (9) أنها (10) تنفى عنه (11) والثاني : لا تنفى عنه (12) مطلقًا. [وهو قول علي وفقهاء المدينة] (13) والثالث : أنها تنفى نصف سنة وهو نفي نصف (14) الحرة. وهذا الخلاف في مذهب الشافعي ، وأما أبو (15) حنيفة فعنده أن النفي تعزير ليس من تمام الحد ، وإنما هو (16) رأي الإمام ، إن شاء فعله وإن شاء تركه في حق الرجال والنساء ، وعند مالك أن النفي إنما هو على الرجال ، وأما (17) النساء فلا (18) ؛ لأن (19) ذلك مضاد لصيانتهن ، [وما ورد شيء من النفي في الرجال ولا في النساء نعم حديث عُبَادَة وحديث أبي هريرة] (20) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام وبإقامة (21) الحد عليه ، رواه البخاري ، و [كل] (22) ذلك مخصوص بالمعنى ، وهو أن المقصود من النفي الصون وذلك مفقود في نفي النساء والله أعلم.
والثاني : أن الأمة إذا زنت تُجلد خمسين بعد الإحصان ، وتضرب [قبله] (23) تأديبا غير محدود بعدد محصور ، وقد تقدم ما رواه ابن جرير عن سعيد بن جبير : أنها لا تضرب قبل الإحصان ، وإن (24) أراد نفيه فيكون مذهبًا بالتأويل (25) وإلا فهو كالقول الثاني.
القول الآخر : أنها تجلد قبل الإحصان مائة وبعده خمسين ، كما هو المشهور عن داود ، و[هو] (26) أضعف الأقوال : أنها تجلد قبل الإحصان خمسين وترجم بعده ، وهو قول أبي ثور ، وهو ضعيف أيضا والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
وقوله : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ } أي : إنما يباح نكاح الإماء بالشروط المتقدمة لمن خاف على نفسه الوقوع في الزنا ، وشق عليه الصبر عن الجماع ، وعنت بسبب ذلك [كله ، فحينئذ يتزوج الأمة ، وإن ترك تزوج الأمة] (27) وجاهد نفسه في الكف عن الزنا ، فهو خير له ؛ لأنه إذا تزوجها
__________
(1) في جـ ، ر ، أ : "الإماء".
(2) في جـ ، أ : "الجلد".
(3) في جـ ، أ : "بما".
(4) في ر : "فمن".
(5) في أ : "الزوجة".
(6) في ر : "فليحدها".
(7) في أ : "فتلخص في الأمة".
(8) زيادة من جـ ، ر ، أ.
(9) زيادة من جـ ، ر ، أ.
(10) في ر : "أنه".
(11) في جـ ، أ : "سنة".
(12) في جـ ، أ : "لا نفي عليها" وفي ر : "لا تنفى عليها".
(13) زيادة من جـ ، أ.
(14) في جـ : "نصف نفي".
(15) في جـ ، أ : "وأما مذهب أبي حنيفة".
(16) في جـ ، ر ، أ : "هو إلى".
(17) في جـ ، أ : "فأما".
(18) في جـ ، أ : "فلا ينقين".
(19) في ر : "فإن".
(20) في جـ : "وما ورد من ألفاظ عامة في نفي الرجال والنساء كحديث أبي هريرة وحديث عبادة".
(21) في جـ ، ر : "بإقامة".
(22) زيادة من جـ ، وفي أ : "فكل".
(23) زيادة من جـ ، أ.
(24) في جـ ، ر ، أ : "فإن".
(25) في جـ ، أ : "ثالثا".
(26) زيادة من جـ ، ر ، أ".
(27) في جـ : "قله حينئذ أن يتزوج بالأمة وإن ترك تزويجها".

(2/266)


يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)

جاء أولاده أرقاء لسيدها إلا أن يكون الزوج عربيا فلا تكون أولاده منها أرقاء في قول قديم للشافعي ، ولهذا قال : { وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
ومن هذه الآية الكريمة استدل جمهورُ العلماء في جواز نكاح الإماء ، على أنه لا بد من عدم الطَّوْل لنكاح الحرائر ومن خوف العنت ؛ لما في نكاحهن من مفْسَدة رق الأولاد ، ولما فيهن من الدناءة (1) في العدول عن الحرائر إليهن. وخالف الجمهورَ أبو حنيفة وأصحابه في اشتراط الأمرين ، فقالوا : متى لم يكن الرجل مزوجا بحرّة جاز له نكاح الأمة المؤمنة والكتابية أيضا ، سواء كان واجدًا الطول لحرة أم (2) لا وسواء خاف العنت أم (3) لا وعمدتهم (4) فيما ذهبوا إليه [عموم] (5) قوله تعالى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } [المائدة : 5] أي : العفائف ، وهو يعم الحرائر والإماء ، وهذه الآية عامة ، وهذه (6) أيضا ظاهرة في الدلالة على ما قاله الجمهور والله أعلم.
{ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) }
__________
(1) في أ : "من الزنا".
(2) في ر : "أو".
(3) في ر : "أو".
(4) في ر : "وعدتهم".
(5) زيادة من جـ ، أ.
(6) في جـ ، أ : "خاصة وهي".

(2/267)


وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)

{ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا (28) }
يخبر تعالى أنه يُريدُ أن يبين لكم - أيها المؤمنون - ما (1) أحل لكم وحرم عليكم ، مما تقدم ذكره في هذه السورة وغيرها ، { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } يعني : طرائقهم الحميدة واتباع (2) شرائعه التي يحبها ويرضاها { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } أي من الإثم (3) والمحارم ، { وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي في شرعه وقدره وأفعاله وأقواله.
وقوله : { [وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ] (4) وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا } أي : يُريد (5) أتباع الشياطين من اليهود والنصارى والزناة { أَنْ تَمِيلُوا } يعني : عن الحق إلى الباطل { مَيْلا عَظِيمًا. يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } أي : في شرائعه وأوامره ونواهيه وما يقدره لكم ، ولهذا أباح [نكاح] (6) الإماء بشروطه ، كما قال مجاهد وغيره : { خُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا } فناسبه (7) التخفيف ؛ لضعفه في نفسه وضعف عزمه وهمته.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل [الأحمسي] (8) حدثنا وَكِيع ، عن سفيان ، عن ابن طاوس ، عن أبيه : { خُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا } أي : في أمر النساء ، وقال وكيع : يذهب عقله عندهن.
وقال موسى الكليم عليه الصلاة والسلام (9) لنبينا صلوات الله وسلامه (10) عليه ليلة الإسراء حِينَ مر عليه راجعا من عند سدْرة المنتهى ، فقال له : ماذا فرض عليكم (11) ؟ فقال : "أمرني بخمسين
__________
(1) في جـ ، ر ، أ : "فيما".
(2) في ر : "في اتباع".
(3) في ر ، أ : "المأثم".
(4) زيادة من ر ، أ.
(5) في ر ، أ : "من".
(6) زيادة من أ.
(7) في أ : "فيناسبه".
(8) زيادة من جـ ، أ.
(9) في جـ ، أ : "والتسليم".
(10) في أ : "لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم".
(11) في جـ ، أ : "عليك ربك".

(2/267)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)

صلاة في كل يوم وليلة" (1) فقال له : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف ؛ فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فإني قد بلوت الناس (2) قبلك على ما هو أقل من ذلك فعجزوا ، وإن أمتك أضعف أسماعا وأبصارا وقلوبا ، فرجع فوضع عشرا ، ثم رجع إلى موسى فلم يزل كذلك حتى بقيت خمسًا [قال الله عز وجل : "هن خمس وهن خمسون ، الحسنة بعشر أمثالها"] (3) الحديث.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا (31) }
نهى (4) تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن أن يأكلوا أموال بعضهم بعضا بالباطل ، أي : بأنواع المكاسب التي هي غير شرعية ، كأنواع الربا والقمار ، وما جرى مجرى ذلك من سائر صنوف الحيل ، وإن ظهرت في غالب الحكم الشرعي مما يعلم الله أن متعاطيها إنما يريد الحيلة على الربا ، حتى قال ابن جرير :
حدثني ابن المثنى ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس - في الرجل يشتري من الرجل الثوب فيقول : إن رضيته أخذته وإلا رددته ورددت معه درهما - قال : هو الذي قال الله عز وجل : { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن حرب الموصلي ، حدثنا ابن فضيل ، عن داود الأودي عن عامر ، عن علقمة ، عن عبد الله [ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } ] (5) قال : إنها [كلمة] (6) محكمة ، ما نسخت ، ولا تنسخ إلى يوم القيامة.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : لما أنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } قال المسلمون : إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ، والطعام هو أفضل الأموال ، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد ، فكيف (7) للناس (8) ! فأنزل الله بعد ذلك : { لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ } [النور : 61] الآية ، [وكذا قال قتادة بن دعامة] (9).
وقوله : { إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } (10) قرئ : تجارة بالرفع وبالنصب ، وهو استثناء منقطع ، كأنه يقول : لا تتعاطوا الأسباب المحرمة في اكتساب الأموال ، لكن المتاجر (11) المشروعة التي تكون عن تراض من البائع والمشتري فافعلوها وتسببوا بها في تحصيل الأموال. كما قال [الله] (12) تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ } [الأنعام : 151] ، وكقوله { لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأولَى } [الدخان : 56].
__________
(1) في ر : "أمرني بخمسين اليوم والليلة" وفي جـ ، أ : "أمرني بخمسين صلاة في اليوم والليلة".
(2) في أ : "الناس من".
(3) زيادة من جـ ، أ.
(4) في أ : ينهى.
(5) زيادة من جـ ، ر ، أ.
(6) زيادة من أ.
(7) في أ : "فكف".
(8) في أ : "فكيف للناس عن ذلك".
(9) زيادة من أ.
(10) في أ : "بينكم".
(11) في أ : "المتجار".
(12) زيادة من أ.

(2/268)


ومن هذه الآية الكريمة احتج الشافعي [رحمه الله] (1) على أنه لا يصح البيع إلا بالقبول ؛ لأنه يدل على التراضي نَصا ، بخلاف المعاطاة فإنها قد لا تدل على الرضا ولا بد ، وخالف (2) الجمهورَ في ذلك مالك وأبو حنيفة وأحمد وأصحابهم ، فرأوا أن الأقوال كما تدل على التراضي ، وكذلك الأفعال تدل في بعض المحال قطعا ، فصححوا بيع المعاطاة مطلقا ، ومنهم من قال : يصح في المحقَّرات ، وفيما يعده الناس بيعا ، وهو احتياط نظر من محققي المذهب ، والله أعلم.
قال مجاهد : { إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } بيعا (3) أو عطاء يعطيه أحد أحدًا. ورواه ابن جرير [ثم] (4) قال :
وحدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا أبي ، عن القاسم ، عن (5) سليمان الجُعْفي ، عن أبيه ، عن ميمون بن مهران قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "البَيْعُ عن تَراض والخِيارُ بعد الصَّفقة ولا يحل لمسلم أن يغش (6) مسلمًا". هذا حديث مرسل (7).
ومن تمام التراضي إثبات خيار المجلس ، كما ثبت في الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "البيعان بالخيار ما لم يَتَفَرقا" وفي لفظ البخاري : "إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا" (8).
وذهب إلى القول بمقتضى هذا الحديث الشافعي ، وأحمد [بن حنبل] (9) وأصحابهما ، وجمهورُ السلف والخلف. ومن ذلك مشروعية خيار الشرط بعد العقد إلى ثلاثة أيام ، [كما هو متفق عليه بين العلماء إلى ما هو أزيد من ثلاثة أيام] (10) بحسب ما يتبين فيه مال البيع ، ولو إلى سنة في القرية ونحوها ، كما هو المشهور عن مالك ، رحمه الله. وصححوا (11) بيع المعاطاة مطلقا ، وهو قول في مذهب الشافعي ، ومنهم من قال : يصح بيع المعاطاة في المحقرات فيما يعده الناس بيعا ، وهو اختيار طائفة من الأصحاب.
وقوله : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } أي : بارتكاب محارم الله وتعاطي معاصيه وأكل أموالكم بينكم بالباطل { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } أي : فيما أمركم به ، ونهاكم عنه.
قال الإمام أحمد : حدثنا حسن (12) بن موسى ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا يزيد بن أبي حبيب ، عن عمْران بن أبي أنس ، عن عبد الرحمن بن جُبَير ، عن عمرو بن العاص ، رضي الله عنه ، أنه قال لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم عام ذات السلاسل قال : احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح ، قال : فلما قدمتُ على رسول الله صلى عليه وسلم ذكرت ذلك له ، فقال : "يا عمرو صَلَّيت بأصحابك وأنت جُنُبٌ!" قال : قلت يا رسول الله (13) إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد ، فأشفقت إن اغتسلت (14) أن أهلكَ ، فذكرت (15) قول الله [عز
__________
(1) زيادة من جـ ، أ.
(2) في ر ، أ : "وخالفوا".
(3) في أ : "بيع".
(4) زيادة من جـ ، أ.
(5) في أ : "بن".
(6) في ر : "يضر".
(7) تفسير الطبري (8/221).
(8) صحيح البخاري برقم (2109) وصحيح مسلم برقم (1531).
(9) زيادة من أ.
(10) زيادة من جـ ، د ، أ.
(11) في ر : "فصححوا".
(12) في جـ ، أ : "حسين".
(13) في أ : "نعم يا رسول الله".
(14) في أ : "أن أغتسل".
(15) في ر : "ذكرت" ، وفي جـ ، أ : "وذكرت".

(2/269)


وجل] (1) { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } فتيممت ثم صليت. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا.
وهكذا رواه أبو داود من حديث يحيى بن أيوب ، عن يزيد بن أبي حبيب ، به. ورواه أيضا عن محمد بن أبي سلمة ، عن ابن وهب ، عن ابن لهيعة وعمر بن الحارث ، كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عمران بن أبي أنس ، عن عبد الرحمن بن جبير المصري ، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص ، عنه ، فذكر نحوه. وهذا ، والله أعلم ، أشبه بالصواب (2).
وقال أبو بكر بن مَرْدُوَيه : حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن حامد البَلْخِي ، حدثنا محمد بن صالح بن سهل البلخي ، حدثنا عُبَيد (3) عبد الله بن عمر القواريري ، حدثنا يوسف بن خالد ، حدثنا زياد بن سعد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن عمرو بن العاص صلى بالناس وهو جُنُب ، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له ، فدعاه فسأله عن ذلك ، فقال : يا رسول الله ، خفْتُ أن يقتلني البرد ، وقد قال الله تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا] } (4) قال : فسكت عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (5).
ثم أورد ابن مَرْدُويه عند هذه الآية الكريمة من حديث الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مَنْ قَتَل نَفْسَه بِحَدِيدَةٍ فحديدته في يَدِهِ ، يَجَأ بها بَطْنه يوم القيامة في نار جَهَنَّمَ خالدا مخلدا فيها أبدا ، ومن قتل نفسه بسم ، فسمه في يده ، يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا ، ومن تردى من جبل فقتل نفسه ، فهو مُتَرد (6) في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا".
وهذا الحديث (7) ثابت في الصحيحين (8) وكذلك رواه أبو الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه ، وعن أبي قِلابة ، عن ثابت بن الضحاك ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مَنْ قتل نَفْسَه بشيء عُذِّبَ به يوم القيامة". وقد أخرجه الجماعَةُ في كُتُبهم من طريق أبي قلابة (9) وفي الصحيحين من حديث الحسن ، عن (10) جُنْدب بن عبد الله البَجَلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كان رَجُلٌ ممن (11) كان قبلكم وكان به جُرْح ، فأخذ سكينًا نَحَر بهَا يَدَهُ ، فما رَقأ الدَّمُ حتى ماتَ ، قال الله عز وجل : عَبْدِي بادرنِي بِنَفْسه ، حرَّمت (12) عليه الْجَنَّة" (13).
ولهذا قال الله تعالى : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا } أي : ومن يتعاطى ما نهاه الله عنه متعديا
__________
(1) زيادة من جـ ، ر ، أ.
(2) المسند (4/203) وسنن أبي داود برقم (334).
(3) في ر : "عبد".
(4) زيادة من جـ ، ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(5) ورواه الطبراني (11/234) من طريق عبيد الله القواريري به ، وقال الهيثمي في المجمع (1/264) : "فيه يوسف بن خالد السمتي وهو كذاب".
(6) في ر : "متردد".
(7) في ر : "حديث".
(8) صحيح البخاري برقم (5778) وصحيح مسلم برقم (109).
(9) صحيح البخاري برقم (6047 ، 6105) وصحيح مسلم برقم (110) وسنن أبي داود برقم (3257) وسنن الترمذي برقم (1543) وسنن النسائي (7/5 ، 6) وسنن ابن ماجه برقم (2098) وليس عند الترمذي قوله : "ومن قتل نفسه بشيء" وهو الشاهد هنا.
(10) في ر : "ابن".
(11) في أ : "فيمن".
(12) في أ : "فحرمت".
(13) صحيح البخاري برقم (1364 ، 3463) وصحيح مسلم برقم (113).

(2/270)


فيه ظالما في تعاطيه ، أي : عالما بتحريمه متجاسرا على انتهاكه { فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا [وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا] } (1) وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد ، فَلْيحذَرْ منه كل عاقل لبيب ممن ألقى السمع وهو شهيد.
وقوله : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا] (2) }. أي : إذا اجتنبتم كبائر الآثام التي نهيتم عنها كفرنا عنكم صغائر الذنوب وأدخلناكم الجنة ؛ ولهذا قال : { وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا }.
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا مؤمل بن هشام ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا خالد (3) بن أيوب ، عن معاوية بن قرة ، عن أنس (4) [يرفعه] (5) : " الذي بلغنا عن ربنا ، عز وجل ، ثم لم نخرج له عن كل أهل ومال أن تجاوز لنا عما دون الكبائر ، يقول الله [تعالى] (6) { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا] (7) } " (8).
وقد وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية الكريمة فلنذكر منها ما تيسر :
قال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيم عن مُغِيرة ، عن أبي مَعْشَر ، عن إبراهيم ، عن قَرْثَع الضَّبِّي ، عن سلمان الفارسي قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : "أتدري ما يوم الجمعة ؟" قلت : هو اليوم الذي جمع الله فيه أباكم. قال : "لكن أدْرِي ما يَوْمُ الجُمُعَةِ ، لا يتطهر الرجل فيُحسِنُ طُهُوره ، ثم يأتي الجُمُعة فيُنصِت حتى يقضي الإمام صلاته ، إلا كان (9) كفارة له ما بينه وبين الجمعة المقبلة ، ما اجْتُنبت المقتلة (10) وقد رَوَى البخاري من وجه آخر عن سلمان نحوه (11).
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثني المثنى [بن إبراهيم] (12) حدثنا أبو صالح ، حدثنا الليث ، حدثني خالد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن نعيم المُجْمر ، أخبرني صهيب مولى العُتْوارِي ، أنه سمع من أبي هريرة وأبي سعيد يقولان : خَطَبَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال : "والذي نَفْسي بِيَدِهِ" - ثلاث مرات - ثم أكَبَّ ، فأكب كل رجل منا يبكي ، لا ندري على ماذا حلف عليه ثم رفع رأسه وفي وجهه البشر (13) فكان أحب إلينا من حُمْر النَّعَم ، فقال [صلى الله عليه وسلم] (14) ما من عَبْدٍ يُصَلِّي الصَّلَواتِ الخمسَ ، ويَصُومُ رمضانَ ، ويُخرِج الزكاة ، ويَجْتنبُ الكبائر السَّبعَ ، إلا فُتِحتْ له أبوابُ الجَنَّةِ ، ثم قيل له : ادْخُل بسَلامٍ".
وهكذا رواه النسائي ، والحاكم في مستدركه ، من حديث الليث بن سعد ، رواه الحاكم أيضا وابن حِبَّان في صحيحه ، من حديث عبد الله بن وهب ، عن عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال ، به. ثم قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه (15).
__________
(1) زيادة من جـ ، ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(2) زيادة من جـ ، ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(3) في ر : "الخلد" ، وفي أ : "الخالد".
(4) عند البزار ، عن أنس قال : "لم نر مثل الذي بلغنا عن ربنا" انظر : المجمع (7/3).
(5) زيادة من جـ ، ر ، أ.
(6) زيادة من جـ ، ر ، أ.
(7) زيادة من جـ ، ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(8) مسند البزار برقم (2200) "كشف الأستار" ، وقال الهيثمي : "فيه الجلد بن أيوب وهو ضعيف".
(9) في ر : "كانت".
(10) في جـ : "المقتل".
(11) المسند (5/439) ورواه البخاري برقم (910) من طريق سعيد المقبري عن أبيه عن ابن وديعة عن سلمان الفارسي بنحوه.
(12) زيادة من ر ، أ.
(13) في أ : "البشرى"
(14) زيادة من جـ.
(15) تفسير الطبري (8/238) وسنن النسائي (5/8) والمستدرك (1/200).

(2/271)


تفسير هذه السبع :
وذلك بما ثبت في الصحيحين من حديث سليمان بن بلال ، عن ثَوْر بن زيد ، عن سالم أبي الغيث ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "اجْتَنِبُوا السبعَ المُوبِقَاتِ" قيل : يا رسول الله ، وما هُنَّ ؟ قال : "الشِّركُ بالله ، وقَتْلُ النَّفْس التي حَرَّمَ الله إلا بالحق ، والسِّحرُ ، وأكْلُ الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتَّوَلِّي يوم الزَّحْف ، وقَذْفُ المحصنَات المؤمنات الغافلات" (1).
طريق أخرى عنه : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا فَهْد بن عَوْف ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن عَمْرو بن أبي سلمة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "الكبائر سَبْعٌ ، أولها الإشراكُ بالله ، ثم قَتْل النَّفْس بغير حقها ، وأكْلُ الرِّبَا ، وأَكْلُ مال اليتيمِ إلى أن يكبر ، والفِرَارُ من (2) الزَّحْفِ ، ورَميُ المحصنات ، والانقلاب إلى الأعراب بَعْدَ الهِجْرَةِ" (3).
فالنص على هذه السبع بأنهن كبائر لا ينفي ما عداهن ، إلا عند من يقول بمفهوم اللقب ، وهو ضعيف عند عدم القرينة ، ولا سيما عند (4) قيام الدليل بالمنطوق على عدم المفهوم ، كما سنورده من الأحاديث المتضمنة من الكبائر غير هذه السبع ، فمن ذلك ما رواه الحاكم في مستدركه حيث قال :
حدثنا أحمد بن كامل القاضي ، إملاء حدثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد ، حدثنا معاذ بن هانئ ، حدثنا حَرْب بن شَدَّاد ، حدثنا يحيى بن أبي كثير ، عن عبد الحميد بن سِنَان ، عن عبيد بن عُمَيْر ، عن أبيه - يعني عُمَير بن قتادة - رضي الله عنه أنه حدثه - وكانت له صحبة - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع : "ألا إن أولياء الله المُصَلُّون من يُقِيم (5) الصلواتِ الخمسَ التي كُتبت (6) عليه ، ويَصومُ رمضان ويَحتسبُ صومَهُ ، يرى أنه عليه حق ، ويُعطي زكاةَ ماله يَحْتسِبها ، ويجتنب الكبائر التي نهى الله عنها". ثم إن رجلا سأله فقال : يا رسول الله ، ما الكبائر ؟ فقال : "تسع : الشِّركُ بالله ، وقَتْلُ نَفْسِ مؤمن بغير حق (7) وفِرارُ يوم الزّحْفِ ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الرِّبا ، وقذفُ المُحصنَة (8) وعقوق الوالدين المسلمين ، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتا ، ثم قال : لا يموت رجل لا يعمل (9) هؤلاء الكبائر ، ويقيم الصلاة ، ويُؤتِي الزكاة ، إلا كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في دار أبوابها مصاريع (10) من ذَهَبٍ".
وهكذا رواه الحاكم مطولا وقد أخرجه أبو داود والترمذي (11) مختصرا من حديث معاذ بن هانئ ، به وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديثه مبسوطًا ثم قال الحاكم : رجاله كلهم يحتج بهم في الصحيحين إلا عبد الحميد بن سنان (12).
__________
(1) صحيح البخاري برقم (2766) وصحيح مسلم برقم (89).
(2) في أ : "يوم".
(3) مسند البزار برقم (109) "كشف الأستار" ، وقال الهيثمى في مجمع الزوائد (1/103) : "فيه عمر بن أبي سلمة ، ضعفه شعبة وغيره ، ووثقة أبو حاتم وابن حبان وغيرهما".
(4) في ر : "عن".
(5) في ر ، أ : "يقم".
(6) في أ : "التى كتب".
(7) في د ، أ : "الحق".
(8) في أ : "المحصنات".
(9) في جـ : "لم يعمل".
(10) في جـ ، ر ، أ : "مصانعها".
(11) في ج : "والترمذي والنسائي".
(12) المستدرك (1/59) وسنن أبي داود برقم (2875) ولم أجده عند الترمذي ، ورواه البيهقى في السنن الكبرى من طريق الحاكم (3/408) وقال : "سقط من كتابي أو من كتاب شيخى - يعنى الحاكم - السحر".
وعبد الحميد بن سنان. قال الذهبي : "عداده في التابعين لا يعرف ، وقد وثقه بعضهم. قال البخاري : روى عن عبيد بن عمير في حديثه نظر. قلت : حديثه عن عبيد عن أبيه : الكبائر تسع.. الحديث..".

(2/272)


قلت : وهو حجازي لا يعرف إلا بهذا الحديث ، وقد ذكره ابن حِبَّان في كتاب الثقات ، وقال البخاري : في حديثه نظر.
وقد رواه ابن جرير ، عن سليمان بن ثابت الجحدري ، عن سلم (1) بن سلام ، عن أيوب بن عتبة ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن عبيد بن عُمَير ، عن أبيه ، فذكره. ولم يذكر في الإسناد : عبد الحميد بن سنان ، فالله أعلم (2) (3).
حديث آخر في معنى ما تقدم : قال ابن مَرْدُويه : حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا يحيى بن عبد الحميد ، حدثنا عبد العزيز بن مسلم بن الوليد ، عن المطلب عن عبد الله بن حنطب عن عبد الله بن عمرو قال : صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر فقال : "لا أقْسِمُ ، لا أقْسِمُ". ثم نزل فقال : "أبْشِرُوا ، أبْشِرُوا ، من صَلَّى الصلوات الخمس ، واجْتَنَبَ الكبائر السَّبعَ ، نُودِيَ من أبواب الجنة : ادخُل". قال عبد العزيز : لا أعلمه إلا قال : "بسلام". قال المطلب : سمعت من سأل عبد الله بن عَمْرو : أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرهن ؟ قال : نعم : "عقوق الوالدين ، وإشْرَاكٌ بالله ، وقَتْلُ النفس ، وقَذْفُ المُحْصنات ، وأكْلُ مالِ اليتيمِ ، والفِرارُ من الزَّحفِ ، وأكْلُ الرِّبَا" (4).
حديث آخر في معناه : قال أبو جعفر بن جرير في التفسير : حدثنا يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّةَ ، أخبرنا زياد بن مِخْرَاق عن طيسلة بن مياس قال : كنت مع النَّجدات ، فأصبت ذنوبا لا أراها إلا من الكبائر ، فلقيت ابن عُمَر فقلت له : إني أصبت ذُنُوبا لا أراها إلا من الكبائر قال : ما هي ؟ قلت : أصبت كذا وكذا. قال : ليس من الكبائر. قلت : وأصبت كذا وكذا. قال : ليس من الكبائر قال - بشيء لم يسمه طَيْسَلَة - قال : هي تسع وسأعدهن عليك : الإشراك بالله ، وقتل النفس بغير حقها (5) والفرار من الزحف ، وقذف المحصنة ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ظلما ، وإلحاد في المسجد الحرام ، والذي يستسحر (6) وبكاء الوالدين من العقوق. قال زياد : وقال طيسلة لما رأى ابن عمر : فَرَقي. قال : أتخاف النار أن تدخلها ؟ قلت : نعم. قال : وتحب أن تدخل الجنة ؟ قلت : نعم. قال : أحيّ والداك ؟ قلت : عندي أمي. قال : فوالله لئن أنت ألَنْتَ لها الكلام ، وأطعمتها الطعام ، لتدخلن الجنة ما اجتنبت الموجبات (7).
طريق أخرى : قال ابن جرير : حدثنا سليمان بن ثابت الْجَحْدَرِي الواسطي ، حدثنا سلم (8) بن سلام ، حدثنا أيوب بن عتبة ، عن طَيْسَلة بن علي النهدي قال : أتيت ابن عمر وهو في ظل أرَاك يوم
__________
(1) في جـ ، أ : "سلمة".
(2) في أ : "والله أعلم".
(3) تفسير الطبري (8/241).
(4) ورواه الطبراني في المعجم الكبير برقم (3) "القطعة المفقودة" من طريق عبد العزيز بن محمد عن مسلم بن الوليد عن المطلب به وفي إسناده مسلم بن الوليد ذكره البخاري في التاريخ الكبير (8/153) وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (8/197) ولم يذكرا فيه جرحا أو تعديلا.
(5) في د : "النسمة بغير حلها" رفي جـ : "نسمة بغير حلها" ، في ر : "النفس بغير حلها".
(6) في جـ : "يسحر".
(7) تفسير الطبري (8/239) ورواه البخاري في الأدب المفرد برقم (8) من طريق زياد بن مخراق به.
(8) في جـ ، ر ، أ : "مسلم".

(2/273)


عَرَفة ، وهو يصب الماء على رأسه ووجهه قلت (1) أخبرني عن الكبائر ؟ قال : هي تسع. قلت : ما هي ؟ قال : الإشراك بالله ، وقذف المحصنة - قال : قلت : قبل القتل (2) ؟ قال : نعم وَرَغْمَا - وقتل النفس المؤمنة ، والفِرارُ من الزَّحْفِ ، والسِّحْرُ ، وأكْلُ الربا ، وأكل مال اليتيم ، وعُقوق الوالدين المسلمين ، وإلْحاد بالبيت الحرام ، قبْلَتكم أحياء وأمواتا (3).
هكذا رواه من هذين الطريقين موقوفا ، وقد رواه علي بن الجَعْدِ ، عن أيوب بن عتبة ، عن طيسلة بن علي [ النهدي ] (4) قال : أتيت ابن عمر عَشِيَّةَ عَرَفَةَ ، وهو تحت ظلِّ أرَاكة ، وهو يَصُبُّ الماء على رأسه ، فسألته عن الكبائر ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "هُنّ سبع". قال : قلت : وما هُنّ ؟ قال : "الإشراك بالله ، وقذف المحصنة (5) - قال : قلت : قبل (6) الدم ؟ قال : نعم ورغما - وقتلُ النفس المؤمنة ، والفرار من الزَّحفِ ، والسِّحرُ ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، وعُقوق الوالدين ، وإلحاد (7) بالبيت الحرامِ قِبْلَتَكُم أحياء وأمواتا".
وكذا رواه الحسن بن موسى الأشيب ، عن أيوب بن عتبة اليماني - وفيه ضعف (8) - والله أعلم.
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا زكريا بن عَديّ ، حدثنا بَقِيَّة ، عن بَحير بن سعد (9) عن خالد بن مَعْدان : أن أبا رُهْم السمعي حدثهم ، عن أبي أيوب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من عَبَدَ الله لا يُشرِكُ به شيئا ، وأقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، وصام رمضان ، واجْتَنَبَ الكبائر ، فله الجنة - أو دخل الجنة" فسأله رجل : ما الكبائر ؟ فقال (10) الشرك بالله ، وقَتْلُ نفس مسلمة ، والفِرار يوم الزَّحْف".
ورواه أحمد أيضًا والنسائي ، من غير وجه ، عن بقية (11).
حديث آخر : روى الحافظ أبو بكر ابن مردويه في تفسيره ، من طريق سليمان بن داود اليماني - وهو ضعيف - عن الزهري ، عن أبي بكر بن محمد بن عَمْرو بن حزم ، عن أبيه ، عن جده قال : كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن كتابا فيه الفرائض والسنن والديات ، وبعث به مع عمرو بن حزم ، قال : وكان في الكتاب : "إن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة : إشْراكٌ باللهِ وقَتْل النفْسِ المؤمنة بغير حَقٍّ ، والفِرارُ في سبيل الله يوم الزَّحْفِ ، وعُقوق الوالدين ، ورَمْي المحصنة ، وتَعَلُّم السحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم" (12).
__________
(1) في أ : "قال : قلت".
(2) في ر ، أ : "قتل النفس".
(3) تفسير الطبري (8/240).
(4) زيادة من أ.
(5) في د : "المحصنات".
(6) في جـ : "قتل".
(7) في جـ ، ر ، أ : "والإلحاد".
(8) رواه البغوي في الجعديات ، وروى الخرائطى في مساوئ الأخلاق برقم (247) من طريق حسين بن محمد المروزى عن أيوب بن عتبه بنحوه ، وأيوب بن عتبه ضعيف. ورواه عكرمة بن عمار عن طيسلة بن على : أن ابن عمر كان ينزل الآراك يوم عرفه. أخرجه أبو داود في المسائل (118).
(9) في جـ ، ر ، أ : "يحيى بن سعيد".
(10) في ر : "قال".
(11) المسند (5/413) وسنن النسائي (7/88).
(12) ورواه الحاكم في المستدرك (1/395) من طريق يحيى بن حمزة عن سليمان بن داود به ، وقال الحاكم : "هذا حديث كبير مفسر في هذا الباب ، وسليمان بن داود الخولاني معروف بالزهرى وإن كان يحيى بن معين غمزه فقد عدله غيره ثم ذكر قول أبي حاتم وأبي زرعة : "سليمان بن داود الخولاني عندنا ممن لا بأس به".

(2/274)


حديث آخر : فيه ذكر شهادة الزور ؛ قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، حدثني عُبَيد الله (1) بن أبي بكر قال : سمعت أنس بن مالك قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر - أو سئل عن الكبائر - فقال : "الشِّرْكُ بالله ، وقَتْلُ النفْسِ ، وعُقوق الوالدين". وقال : "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟" قال : "قول الزور - أو شهادة الزور". قال شعبة : أكبر ظنى أنه قال" "شهادة الزور" (2).
أخرجاه من حديث شعبة (3) به. وقد رواه ابن مَرْدُويه من طريقين آخرين غريبين عن أنس ، بنحوه (4).
حديث آخر : أخرجه (5) الشيخان من حديث عبد الرحمن بن أبي بَكْرة ، عن أبيه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟" ، قلنا : بلى يا رسول الله ، قال : "الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين" وكان متكئا فجلس فقال : "ألا وشهادة الزور ، ألا وقول الزور". فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت (6).
حديث آخر : فيه ذكر قتل الولد ، وهو ثابت في الصحيحين ، عن عبد الله بن مسعود قال : قلت : يا رسول الله ، أيّ الذنب أعظم ؟ - وفي رواية : أكبر - قال : "أن تجعل لله نِدا وهو خَلَقكَ" قلت : ثم أيّ ؟ قال : "أن تَقْتُلَ ولدك خَشْيَةَ أن يَطْعَم معك". قلت : ثم أيّ ؟ قال : "أن تُزاني حَلِيلَةَ جارِك" ثم قرأ : { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا] } (7) إلى قوله : { إِلا مَنْ تَابَ } [الفرقان : 68] (8).
حديث ]آخر[ (9) فيه ذكر شرب الخمر. قال ابن أبي حاتم : أخبرنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، حدثني أبو صخر : أن رجلا حَدّثه عن عمرة بن حزم أنه سمع عبد الله بن عَمْرو بن العاص وهو بالحِجْر (10) بمكة وسُئل عن الخمر ، فقال : والله إنَّ عظيمًا عند الله الشيخُ مثلي يكذبُ في هذا المقام على رسول الله (11) صلى الله عليه وسلم ، فذهب فسأله ثم رجع فقال : سألته عن الخمر فقال : "هي أكبر الكبائر ، وأم الفواحش ، من (12) شرب الخمر ترك الصلاة ووقع على أمه وخالته وعمته" (13) غريب من هذا الوجه.
طريق أخرى : رواها الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه من حديث (14) عبد العزيز بن محمد الدَّرَاوَرْدي ، عن داود بن صالح ، عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه : أن أبا بكر الصديق ، رضي الله عنه ، وعُمَر بن
__________
(1) في جـ ، ر ، أ : "عبد الله" ، وفي ر : "محمد" وهو خطأ والصحيح عبيد الله وانظر : من مسند الإمام أحمد 3/131.
(2) المسند (3/131).
(3) صحيح البخاري برقم (5977) وصحيح مسلم برقم (88).
(4) في ر : "نحوه".
(5) في أ : "أخرجاه".
(6) صحيح البخاري برقم (5976) وصحيح مسلم برقم (87).
(7) زيادة من جـ ، ر ، أ.
(8) صحيح البخاري برقم (4477) وصحيح مسلم برقم (68).
(9) زيادةمن أ.
(10) في جـ ، ر ، أ : "وهو في الحجر".
(11) في أ : "على نبي الله".
(12) في ر : "ثم".
(13) ورواه الطبراني من طريق آخر كما في المجمع (5/68) وقال الهيثمي : "عتاب لم أعرفه وابن لهيعة حديثه حسن وفيه ضعف".
(14) في أ : "طريق".

(2/275)


الخطاب وأناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورضي الله عنهم أجمعين ، جلسوا (1) بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكروا أعظم الكبائر ، فلم يكن عندهم ما ينتهون إليه ، فأرسلوني إلى عبد الله بن عَمْرو بن العاص أسأله عن ذلك ، فأخبرني أن أعظم الكبائر شرب الخمر ، فأتيتهم فأخبرتهم ، فأنكروا ذلك ، فوثبوا إليه حتى أتوه في داره ، فأخبرهم أنهم تحدثوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مَلِكا من بني إسرائيل أخذ رجلا فخيَّره بين أن يشرب خمرًا أو يقتل نفسا ، أو يزاني (2) أو يأكل لحم خنزير ، أو يقتله (3) فاختار شُرْبَ الخمر (4) وإنه لما شربها لم يمتنع من شَيْء أراده (5) منه ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا مجيبا : "ما من أحد يشرب خمرًا إلا لم تُقْبَلْ له صَلاةٌ أربعين ليلة ، ولا يموت أحد في مَثَانَتِهِ منها شيء إلا حَرَّم الله عليه الجنة فإنْ مات في أربعين ليلة مات ميتَةً جاهلية".
هذا حديث غريب من هذا الوجه جدًا ، وداود بن صالح هو التَّمار (6) المدني مولى الأنصار ، قال الإمام أحمد : لا أرى به بأسا. وذكره ابن حبان في الثقات ، ولم أر أحدًا جرحه (7).
حديث آخر : عن عبد الله بن عَمْرو وفيه ذكْرُ اليمين الغَمُوس. قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شُعْبة ، عن فراس ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن عَمْرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "أكبر الكبائر الإشراك بالله ، وعُقُوق الوالدين ، أو قَتْل النَّفْس - شعبة الشاك - واليمين الغَمُوس". ورواه البخاري والترمذي والنسائي من حديث شعبة : زاد البخاري وشيبان ، كلاهما عن فراس ، به (8).
حديث آخر : في اليمين الغموس : "قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو صالح كاتب الليث ، حدثنا الليث بن سعد ، حدثنا هشام بن سعد ، عن محمد بن يزيد بن مهاجر بن قُنْفُذ التيمي ، عن أبي أمامة الأنصاري ، عن عبد الله بن أنيس الجهني ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أكبر (9) الكبائر الشرك بالله ، وعُقوق الوالدين ، واليمين الغَمُوس ، وما حَلَفَ حالف بالله يمين صَبْر فأدخل فيها مثل جناح البعوضة ، إلا كانت وكتة في قلبه إلى يوم القيامة". وهكذا رواه ]الإمام[ (10) أحمد في مسنده ، وعبد بن حميد في تفسيره ، كلاهما عن يونس بن محمد المؤدّب ، عن الليث بن سعد ، به. وأخرجه الترمذي ]في تفسيره[ (11) عن عبد بن حميد ]به[ (12) ثم قال : وهذا حديث حسن غريب ، وأبو أمامة الأنصاري هذا هو ابن ثعلبة ، ولا يعرف (13) اسمه. وقد رَوَى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث (14).
قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج المِزِّي : وقد رواه عبد الرحمن بن إسحاق المدني ، عن محمد بن زيد ، عن عبد الله بن أبي أمامة ، عن أبيه عن عبد الله بن أنيس. فزاد عبد الله بن أبي أمامة.
قلت : هكذا وقع في تفسير ابن مَرْدُويه وصحيح ابن حبّان ، من طريق عبد الرحمن بن
__________
(1) في ر : "كانوا جلوسًا".
(2) في أ : "أو يزنى".
(3) في أ : "أو يقتلوه".
(4) في جـ ، د ، ر : "فاختار أن يشرب الخمر".
(5) في أ : "أرادوه".
(6) في د : "اليمانى".
(7) ورواه الحاكم في المستدرك (4/147) والطبراني في المعجم الأوسط برقم (138) "مجمع البحرين" كلاهما من طريق سعيد بن أبي مريم عن الدراوردى به.
(8) المسند (2/201) وصحيح البخاري برقم (6675) وسنن الترمذي برقم (3021) وسنن النسائي (8/63).
(9) في ر ، أ : "من أكبر".
(10) زيادة من أ.
(11) زيادة من أ.
(12) زيادة من أ.
(13) في أ : "ولا نعرف".
(14) سنن الترمذي (302).

(2/276)


إسحاق (1) كما ذكره (2) شيخنا ، فسَح اللهُ في أجله (3).
حديث آخر : عن عبد الله بن عمرو ، في التسبب إلى شتم الوالدين. قال ابن أبي حاتم : حدثنا عَمْرو بن عبد الله الأودي ، حدثنا وكيع ، عن مِسْعر وسفيان ، عن سعد بن إبراهيم ، عن حُمَيد بن عبد الرحمن ، عن عبد الله بن عمرو - رفعه سفيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ووقفه مسعر على عبد الله بن عمرو - قال : "من الكبائر أن يَشْتُم الرجلُ والديه" : قالوا : وكيف يشتم الرجل والديه ؟ قال : "يَسُبُّ الرجلُ أبا الرجل فيسبَّ أباه ، ويسُبُّ أمَّه فيسب أمه" (4).
وقد أخر هذا الحديث البخاري عن أحمد بن يونس ، عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ، عن أبيه ، عن عمه حميد بن عبد الرحمن بن عوف ، عن عبد الله بن عَمْرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن من أكبر الكبائر أن يَلْعَن الرجلُ والديه". قالوا : وكيفَ يَلْعَنُ الرجلُ والديه ؟! قال : "يَسُبُّ الرجلُ أبا الرجل فيسبَّ أباه ، ويسُبُّ أمَّه فيسب أمه".
وهكذا رواه مسلم من حديث سفيان وشعبة ويزيد بن الهاد ، ثلاثتهم عن سعد بن إبراهيم ، به مرفوعا بنحوه. وقال الترمذي : صحيح (5).
وثبت في الصحيح (6) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "سِبابُ المسلم فُسُوقٌ ، وقِتاله كُفْر" (7).
حديث آخر في ذلك : قال ابن أبي حاتم : حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم دُحَيم ، حدثنا عمرو بن أبي سلمة ، حدثنا زهير بن محمد ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من أكبر الكبائر عِرْضُ الرجل المسلم ، والسَّبَّتَان والسَّبَّة (8) " (9).
هكذا روي هذا الحديث ، وقد أخرجه أبو داود في كتاب الأدب في سننه ، عن جعفر بن مسافر ، عن عمرو بن أبي سلمة ، عن زهير بن محمد ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من أكبر (10) الكبائر استطالةُ المرْءِ (11) في عِرْضِ رجلٍ مسلم بغير حق ، ومن الكبائر السبتان (12) بالسبة".
وكذا رواه ابن مَرْدُويه من طريق عبد الله بن العلاء بن زَيْر (13) عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثله (14).
حديث آخر : في ذكْرُ الجمع بين الصلاتين من غير عذر ؛ قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا
__________
(1) في ر : "إسماعيل.
(2) في أ : "كما ذكر".
(3) تحفة الأشراف (4/275) برقم (5147) وصحيح ابن حبان برقم (1191) "موارد".
(4) ورواه أحمد في مسنده (2/164) من طريق وكيع به.
(5) صحيح البخاري برقم (5973) وصحيح مسلم برقم (90) وسنن الترمذي برقم (1902).
(6) في أ : "الصحيحين".
(7) رواه البخاري برقم (48) ومسلم برقم (64) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(8) في د : "والمستبان بالسبة.
(9) ذكره السيوطي في الدر المنثور
(10) في أ : "إن من أكبر".
(11) في ر : "المسب".
(12) في د : "المستبان".
(13) في ر ، أ : "بن زيد".
(14) سنن أبي داود برقم (4877).

(2/277)


نُعَيم بن حماد ، حدثنا مُعْتَمِر بن سليمان ، عن أبيه ، عن حَنَش (1) عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من جمع بين الصَّلاتين من غير عُذْرٍ ، فقد أتى بابًا من أبواب الكبائر". وهكذا رواه أبو عيسى الترمذي عن أبي سلمة يحيى بن خلف ، عن المعتمر بن سليمان ، به ثم قال : حَنَش (2) هو أبو (3) علي الرحبي ، وهو (4) حسين بن قيس ، وهو ضعيف عند أهل الحديث ، ضعفه أحمد وغيره (5).
وقد روى ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا إسماعيل بن عُلَيَّة ، عن خالد الحذاء ، عن حميد (6) بن هلال ، عن أبي قتادة - يعنى العدوي - قال : قرئ علينا كتابُ عمر : من الكبائر جمع بين الصلاتين - يعني بغير (7) عذر - والفِرَار من الزَّحْفِ ، والنُّهْبَة.
وهذا إسناد صحيح : والغرض أنه إذا كان الوعيد فيمن جمع بين الصلاتين كالظهر والعصر تقديما أو تأخيرًا ، وكذا المغرب والعشاء هما من شأنه أن يجمع بسبب من الأسباب الشرعية ، فإذا تعاطاه أحد بغير شيء من تلك الأسباب يكون مرتكبا كبيرة ، فما ظنك بمن ترك الصلاةِ بالكلية ؟ ولهذا روى مسلم في صحيحه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة " (8) وفي السنن عنه ، عليه السلام ، أنه قال : "العهد الذي بيننا وبينهم (9) الصلاة ، فمن تَرَكَها فقد كَفر" (10) وقال : "من ترك صلاةَ العَصْرِ فقد حبطَ عَمَلُه" (11) وقال : "من فاتته صَلاةُ الْعَصْرِ فكأنما وَتِرَ أهله وماله" (12).
حديث آخر : فيه اليأسُ من رَوْح الله ، والأمنُ من مَكْر الله. قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل ، حدثنا أبي ، حدثنا شَبِيب بن بِشْر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان متكئًا فدخل عليه رجل فقال : ما الكبائر ؟ فقال : "الشِّرْكُ بالله ، واليأس من رَوْح الله ، والقُنوط من رحمة الله ، والأمن من مكر الله ، وهذا أكبر الكبائر".
وقد رواه البزار ، عن عبد الله بن إسحاق العطار ، عن أبي عاصم النبيل ، عن شبيب بن بشر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ؛ أن رجلا قال : يا رسول الله ، ما الكبائر ؟ قال : "الإشراك (13) بالله ، واليأس من رَوْح الله ، والقُنوط من رحمة الله عز وجل".
__________
(1) في جـ : حبيش" ، وفي أ : "حنيش".
(2) في جـ : حبيش" ، وفي أ : "حنيش".
(3) في أ : "هذا أبو".
(4) في ر : "هو".
(5) سنن الترمذي برقم (188).
(6) في أ : "حسن".
(7) في أ : "من غير".
(8) صحيح مسلم برقم (82) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(9) في ر : "وبينهم ترك الصلاة".
(10) رواه الترمذي في السنن برقم (2621) والنسائي في السنن (1/231) وابن ماجة في السنن برقم (1079) من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه.
(11) رواه البخاري في صحيحه برقم (553) والنسائي في السنن (1/236) من حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه.
(12) رواه النسائي (1/238) من حديث نوفل بن معاوية رضي الله عنه.
(13) في د : "الشرك".

(2/278)


وفي إسناده نظر ، والأشبه أن يكون موقوفا ، فقد روي عن ابن مسعود نحوُ ذلك (1) قال ابن جرير :
حدثنى يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هُشَيم ، أخبرنا مطرف ، عن وَبْرة بن عبد الرحمن ، عن أبي الطفيل قال : قال ابن مسعود : أكبر الكبائر الإشراك بالله والإياس (2) من رَوْح الله ، والقُنوط من رحمة الله ، والأمن من مكر الله.
وكذا رواه من حديث الأعمش وأبي إسحاق ، عن وَبْرة ، عن أبي الطفيل ، عن ابن مسعود ، به ثم رواه من طُرُق عدة ، عن أبي الطفيل ، عن ابن مسعود. وهو صحيح إليه بلا شك. (3)
حديث آخر : فيه سوء الظن بالله ؛ قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن إبراهيم بن بُنْدار ، حدثنا أبو حاتم بكر بن عبدان ، حدثنا محمد بن مهاجر (4) حدثنا أبو حذيفة (5) البخاري ، عن محمد بن عجلان ، عن نافع ، عن ابن عمر أنه قال : ]قال رسول الله صلى الله عليه وسلم[ (6) "أكبر الكبائر سوء الظن بالله عز وجل". حديث غريب جدًّا.
حديث آخر : فيه التعرب (7) بعد الهجرة ، قد تقدم في رواية عَمْرو (8) بن أبي سلمة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة مرفوعا ، قال (9) أبو بكر بن مرْدويه : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا أحمد بن رشدين ، حدثنا عَمْرو بن خالد الحراني ، حدثنا ابن لَهِيعة عن يزيد بن أبي حبيب ، عن محمد بن سهل ابن أبي حَثْمة (10) عن أبيه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "الكبائر سبع ، ألا تسألوني عنهن ؟ الشِّركُ بالله ، وقَتْلُ النفْسِ ، والفِرارُ يوم الزَّحْفِ ، وأكْلُ مال اليتيم ، وأكل الربا ، وقَذْفُ المحصَنَة ، والتعرب (11) بعد الهجرة".
وفي إسناده نظر ، ورفعه غلط فاحش (12) والصواب ما رواه ابن جرير : حدثنا تميم بن المنتصر ، أخبرنا يزيد ، أخبرنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن سهيل بن أبي حثْمة (13) عن أبيه قال : إني لفي هذا المسجد - مسجد الكوفة - وعلي ، رضي الله عنه ، يَخْطُب الناسَ على المنبر ، فقال : يا أيها الناس ، الكبائر (14) سبع فأصاخ (15) الناسُ ، فأعادها ثلاث مرات ، ثم
__________
(1) مسند البزار برقم (106) "كشف الأستار" ، وقال الهيثمي في المجمع (1/104) : "رجاله موثقون".
(2) في ج ، ر ، د ، أ : "اليأس".
(3) تفسير الطبري (8/243 ، 244) ورواه عبد الرزاق في المصنف برقم (19701) ومن طريقه الطبراني في المعجم الكبير (9/171) من طريق أبي إسحاق عن وبرة به.
ورواه ابن أبي الدنيا في التوبة برقم (31) من طريق الأعمش عن وبرة به.
(4) في أ : "محمد بن عمر بن مهاجر".
(5) في أ : "أبو حذيفة إسحاق".
(6) زيادة من أ.
(7) في ر "التغرب".
(8) في أ : "عمر".
(9) في أ : "وقال".
(10) في جـ ، أ : "ابن أبي خيثمة".
(11) في ر : "التغرب".
(12) وله شاهد من حديث أبي سعيد الخدرى رضي الله عنه مرفوعا ، ذكر فيها هذه السبع. رواه الطبراني في المعجم الأوسط (126) "مجمع البحرين" قال الهيثمى في المجمع (1/104) : "فيه أبو بلال الأشعرى وهو ضعيف".
(13) في ر ، أ : "خيثمة".
(14) في أ : "إن الكبائر".
(15) في ر : "أضاج" ، وفي أ : "فأصاح".

(2/279)


قال : لم لا (1) تسألوني عنها ؟ قالوا : يا أمير المؤمنين ما هي ؟ قال : الإشراك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله (2) وقذف المحصنة ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، والفرار يوم الزحف ، والتعرب بعد الهجرة. فقلت لأبي : يا أبت ، التعرب (3) بعد الهجرة ، كيف لحق هاهنا ؟ قال : يا بني ، وما أعظم من أن يهاجر الرجل ، حتى إذا وقع سهمه في الفيء ، ووجب عليه الجهاد خلع ذلك من عنقه فرجع أعرابيًا كما كان (4).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم ، حدثنا أبو معاوية - يعني شيبان - عن منصور ، عن هلال بن يسَاف ، عن سلمة بن قيس الأشجعي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : "ألا إنما هن أربع : ألا تشركوا بالله شيئًا ، ولا تقتلوا النفْسَ التي حَرَّمَ الله إلا بالحق ، ولا تَزْنُوا ، ولا تسرقوا". قال : فما أنا (5) بأشح (6) عليهن منى ، إذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم رواه أحمد أيضا والنسائي وابن مردويه ، من حديث منصور ، بإسناده مثله (7).
حديث آخر : تقدم من رواية عُمَر بن المغيرة ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "الإضْرَارُ في الوَصِيَّةِ من الكبائر". والصحيح ما رواه غيره ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس [قوله] قال ابن أبي حاتم : وهو الصحيح عن ابن عباس من قوله.
حديث آخر في ذلك : "قال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيب ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ، حدثنا عباد بن عباد ، عن جعفر بن الزبير ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ؛ أن ناسا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (8) ذكروا الكبائر وهو متكئ ، فقالوا : الشرك بالله ، وأكل مال اليتيم ، وفرار من الزحف ، وقذف المحصنة ، وعقوق الوالدين ، وقول الزور ، والغلول ، والسحر ، وأكل الربا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فأين تجعلون { الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا } [آل عمران : 77] ؟! إلى آخر الآية. في إسناده ضعف ، وهو حسن (9).
ذكر أقوال السلف في ذلك :
قد تقدم ما روي عن أمير المؤمنين عمر وعلي ، رضي الله عنهما ، في ضمن الأحاديث المذكورة. وقال ابن جرير :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُليَّة ، عن ابن عَوْن ، عن الحسن : أن ناسا سألوا (10) عبد الله بن عمرو بمصر فقالوا : نرى أشياء من كتاب الله ، أمَرَ أن يُعمل بها فلا يعمل بها ، فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك ؟ فقدم وقدموا معه ، فلقيه (11) عمر ، رضي الله عنه ، فقال : متى قدمت ؟
__________
(1) في أ : "قال ألا".
(2) في أ : "حرم الله قتلها".
(3) في ر : "التغرب".
(4) تفسير الطبري (8/235).
(5) في أ : "فما لنا".
(6) في ر : "بأشج".
(7) المسند (4/339) وسنن النسائي الكبرى برقم (11373).
(8) في جـ ، د ، ر : "رسول الله".
(9) تفسير الطبري (8/251).
(10) في جـ ، د ، أ : "لقوا".
(11) في جـ ، د ، ر ، أ : "فلقى".

(2/280)


فقال : منذ كذا وكذا قال : أبإذن قدمت ؟ قال : فلا أدري كيف رد عليه. فقال : يا أمير المؤمنين ، إن ناسا لقوني بمصر فقالوا : إنا نرى أشياء من كتاب الله ، أمر أن يعمل بها فلا (1) يعمل بها (2) فأحبوا أن يلقوك في ذلك فقال : اجمعهم لي. قال : فجمعتهم له - قال ابن عون : أظنه قال : في بَهْو - فأخذ أدناهم رجلا فقال : نشدتك (3) بالله وبحق الإسلام عليك ، أقرأت القرآن كله ؟ قال : نعم قال فهل أحصيته في نفسك ؟ قال اللهم لا. قال : ولو قال : نعم لخصمه. قال : فهل أحصيته في بصرك ؟ فهل (4) أحصيته في لفظك ؟ هل أحصيته في أمرك (5) ؟ ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم. قال : فثكلت عمر أمه. أتكلِّفونه أن يقيم الناس على كتاب الله ؟! قد علم ربنا أنه ستكون (6) لنا سيئات. قال : وتلا { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا] } (7) ثم قال : هل علم أهل المدينة - أو قال : هل علم أحد - بما (8) قدمتم ؟ قالوا : لا. قال : لو علموا لوعظت بكم.
إسناد حسن (9) ومتن حسن ، وإن كان من رواية الحسن عن عمر ، وفيها انقطاع ، إلا أن مثل هذا اشتهر (10) فتكفي (11) شهرته (12).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أبو أحمد - يعني الزبيري - حدثنا علي بن صالح ، عن عثمان بن المغيرة ، عن مالك بن جوين ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : الكبائر الإشراك بالله ، وقتل النفس ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنَة ، والفرار من الزَّحْف ، والتعرب بعد الهجرة ، والسِّحْر ، وعُقوق الوالدين ، وأكل الربا ، وفراق الجماعة ، ونكث الصفقة.
وتقدم عن ابن مسعود أنه قال : أكبر الكبائر الإشراك بالله ، واليأس من روح الله ، والقنوط من رحمة الله ، والأمن من مكر الله ، عز وجل.
وروى ابن (13) جرير ، من حديث الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، والأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، كلاهما عن ابن مسعود قال : الكبائر من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها. ومن حديث سفيان الثوري وشعبة ، عن عاصم بن أبي النَّجُود ، عن زِرّ بن حُبيشِ ، عن ابن مسعود قال : الكبائر من أول سورة النساء إلى ثلاثين آية منها ثم تلا { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ [نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا] (14) }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا المنذر بن شاذان ، حدثنا يعلى بن عبيد ، حدثنا صالح بن حيان ، عن ابن بريدة ، عن أبيه قال : أكبر الكبائر : الشرك بالله ، وعقوق الوالدين ، ومنع فضول الماء بعد الري ، ومنع طروق (15) الفحل إلا بجُعْلٍ.
__________
(1) في أ : "لا".
(2) في جـ ، د : "لا يعمل" وفي ر : "نعمل بها فلا نعمل".
(3) في د : "أنشدك".
(4) في جـ : "هل".
(5) في أ : "في أثرك".
(6) في جـ ، د ، ر ، "سيكون".
(7) زيادة من جـ ، ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(8) في جـ ، أ : "فيما".
(9) في جـ ، أ : "جيد".
(10) في جـ ، د ، أ ، ر : "يشتهر".
(11) في جـ ، أ : "فيكفي".
(12) تفسير الطبري (8/255).
(13) في د : "عن".
(14) زيادة من جـ ، ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(15) في د : "عروق".

(2/281)


وفي الصحيحين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لا يُمنَع فَضْلُ الماءِ ليمنع به الكلأ" (1) وفيهما عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "ثلاثة لا ينظرُ الله إليهم يوم القيامة ولا يُزكِّيهم ولهم عذاب أليم : رجل على فَضْلِ ماء بالفَلاةِ يمنعه ابن السَّبيل" ، وذكر الحديث بتمامه (2).
وفي مسند الإمام أحمد ، من حديث عَمْرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده مرفوعا : "من مَنَعَ فَضْلَ الماءِ وفَضْلَ الكَلأ منعه الله فضله يوم القيامة" (3).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسين بن محمد بن شَنَبَة (4) الواسطي ، حدثنا أبو أحمد حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق ، عن عائشة ، قالت : ما أُخِذ على النِّساء من الكبائر. قال ابن أبي حاتم : يعني (5) قوله : { عَلَى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ [وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ] (6) } الآية [الممتحنة : 12].
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن علية ، حدثنا زياد بن مِخْراق ، عن معاوية بن قُرَّة قال : أتينا أنس بن مالك ، فكان فيما حدثنا قال : لم أر مثل الذي بلغنا عن ربنا تعالى (7) ثم (8) لم نخرج له عن كل أهل ومال. ثم سكت هُنية (9) ثم قال : والله لما كلفنا (10) ربنا أهون من ذلك ، لقد تجاوز لنا عما دون الكبائر ، فما لنا ولها ، ثم تلا { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ [نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا] (11) }.
أقوال ابن عباس في ذلك :
روى ابن جرير ، من حديث المعتمر (12) بن سليمان ، عن أبيه ، عن طاوس قال : ذكروا عند ابن عباس الكبائر فقالوا : هي سبع ، فقال : هي أكثر من سبع وسبع. قال سليمان : فما أدري كم قالها من مرة.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا قُبَيْصَة ، حدثنا سفيان ، عن ليث ، عن طاوس قال : قلت لابن عباس : ما السبع الكبائر ؟ قال : هي إلى السبعين أقرب منها إلى السبع.
ورواه ابن جرير ، عن ابن حميد ، عن ليث ، عن طاوس قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : أرأيت الكبائر السبع التي ذكرهن (13) الله ؟ ما هن ؟ قال : هن إلى السبعين أدنى منهن إلى سبع (14).
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر عن طاوس ، عن أبيه قال : قيل لابن عباس : الكبائر سبع ؟ قال : هن إلى السبعين أقرب ، وكذا قال أبو العالية الرياحي ، رحمه الله.
__________
(1) صحيح البخاري برقم (2353) وصحيح مسلم برقم (1566) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) صحيح البخاري برقم (2358) وصحيح مسلم برقم (108) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) المسند (2/179).
(4) في جـ ، د ، ر ، أ ، "شيبة".
(5) في أ : "تعنى".
(6) زيادة من جـ ، ر ، أ.
(7) في جـ : "عز وجل".
(8) في أ : "فقال : ثم".
(9) في د ، أ : "هنيهة".
(10) في ر : "ما خلقنا".
(11) زيادة من جـ ، ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(12) في جـ ، ر : "معتمر".
(13) في د : "ذكرها".
(14) في أ : "السبع".

(2/282)


وقال ابن جرير : حدثنا المثنى ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا شِبْل ، عن قيس عن سعد ، عن سعيد بن جُبير ؛ أن رجلا قال لابن عباس : كم الكبائر ؟ سبع ؟ قال : هن إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع ، غير أنه لا كبيرة مع استغفار ، ولا صغيرة مع إصرار. وكذا رواه ابن أبي حاتم ، من حديث شبل ، به.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } قال : الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب. ورواه ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن حرب الموصلي ، حدثنا ابن فضيل ، حدثنا شبيب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : الكبائر : كل ما وعد الله عليه النار كبيرة. وكذا قال سعيد بن جبير والحسن البصري.
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا ابن علية ، أخبرنا أيوب ، عن محمد بن سيرين قال : نبئت أن ابن عباس كان يقول : كل ما نهى الله عنه كبيرة. وقد ذكرت الطَّرْفة [فيه] (1) قال : هي النظرة.
وقال أيضا : حدثنا أحمد بن حازم ، أخبرنا أبو نعيم ، حدثنا عبد الله بن معدان ، عن أبي الوليد قال : سألت ابن عباس عن الكبائر فقال (2) هي كل شيء عصى الله فيه فهو كبيرة.
أقوال التابعين
قال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيّة ، عن ابن عَوْن ، عن محمد قال : سألت عَبِيدة عن الكبائر ، فقال : الإشراك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله بغير حقها ، وفرار يوم الزَّحْف ، وأكل مال اليتيم بغير حقه ، وأكل الربا ، والبهتان. قال : ويقولون : أعرابية بعد هجرة. قال ابن عون : فقلت لمحمد : فالسحر ؟ قال : إن البهتان يجمع شرا كبيرا (3).
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عبيد المُحَاربي (4) حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم ، عن أبي إسحاق ، عن عُبيد بن عُمَير قال : الكبائر سبع ، ليس منهن كبيرة إلا وفيها آية من كتاب الله : الإشراك بالله منهن : { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ } [الحج : 31] و { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا } [النساء : 10]{ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } [البقرة : 275] و { إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ } [النور : 23] والفرار من الزحف : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا [فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ] (5) } [الأنفال : 15] ، والتعرب (6) بعد الهجرة : { إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى } [محمد : 25] ، وقتل المؤمن : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا } الآية [النساء : 93].
وكذا رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي إسحاق ، عن عُبَيد ، بنحوه.
__________
(1) زيادة من جـ ، أ.
(2) في جـ : "قال".
(3) في أ : "كثيرا".
(4) في ر : "المغازي".
(5) زيادة من جـ ، ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(6) في ر : "التغرب".

(2/283)


وقال ابن جرير : حدثنا المثنى ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن عطاء - يعني ابن أبي رباح - قال : الكبائر سبع : قتل النَّفْسِ ، وأكل الربا وأكل مال اليتيم ، ورمي المحصنة ، وشهادة الزور ، وعقُوق الوالدين ، والفِرَار من الزَّحْف.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعة ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا جرير ، عن مغيرة قال : كان يقال شَتْمُ أبي بكر وعمر ، رضي الله عنهما ، من الكبائر.
قلت : وقد ذهب طائفة من العلماء إلى تكفير من سَبَّ الصحابة ، وهو رواية عن مالك بن أنس ، رحمه الله : وقال محمد بن سيرين : ما أظن أحدا ينتقص (1) أبا بكر ، وعمر ، وهو يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه الترمذي.
وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا يونس ، أخبرنا ابن وَهْب ، أخبرني عبد الله بن عيَّاش ، قال (2) زيد بن أسلم في قول الله عز وجل : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } من الكبائر : الشرك ، والكفر بآيات الله ورسوله ، والسحر ، وقتل الأولاد ، ومن دعا لله ولدا أو صاحبة ، ومثل ذلك من الأعمال ، والقول الذي لا يصلح (3) معه عمل ، وأما كل ذنب يصلح معه دين ، ويقبل معه عمل فإن الله يغفر السيئات بالحسنات.
وقال ابن جرير : حدثنا بِشْر بن معاذ ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة : { إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } الآية : إنما وعد الله المغفرة لمن اجتنب الكبائر. وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : "اجْتَنِبُوا الْكَبائر ، وسَدِّدُوا ، وأبْشِرُوا".
وقد روى ابن مردويه من طرق عن أنس ، وعن جابر مرفوعا : "شَفَاعَتِي لأهل الكبائر من أمَّتِي" (4) ولكن في إسناده من جميع طرقه ضعف ، إلا ما رواه عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "شَفاعتي لأهْلِ الكبائرِ من أمتي". فإنه إسناد صحيح على شرط الشيخين (5) وقد رواه أبو عيسى الترمذي منفردا به من هذا الوجه ، عن عباس العَنْبري ، عن عبد الرزاق ثم قال : هذا حديث حسن صحيح (6) وفي الصحيح شاهد لمعناه ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم بعد ذكر الشفاعة : "أترَوْنَها للمؤمنين المتقين ؟ لا ولكنها للخاطئين المُتَلَوِّثِينَ".
وقد اختلف علماء الأصول والفروع في حد الكبيرة فمن قائل : هي ما عليه حدٌّ في الشرع.
__________
(1) في جـ ، د ، ر : "يبغض".
(2) في جـ ، ر ، أ : "قال : قال".
(3) في أ : "لا يصح".
(4) أما حديث أنس فله طرق منها : ما يرويه أبو بكر بن عياش عن حميد عن أنس. أخرجه ابن أبي عاصم في السنة برقم (831).
وما يرويه عن ابن المبارك عن عاصم الأحول عن أنس رواه الطبراني في المعجم الكبير (1/258) وابن أبي حاتم في العلل (2/222) ، وقال : سمعت أبي وأبا زرعة يقولان : هذا حديث منكر.
وما يرويه جعفر بن سليم الضبعي عن مالك بن دينار عن أنس. رواه ابن أبي حاتم في العلل (2/79) ، وقال : سمعت أبي يقول : هذا حديث منكر.
وما يرويه بسطان بن حريث الصدفي عن أشعث عن أنس ، رواه القضاعي في مسند الشهاب برقم (237).
وما يرويه أبو جناب سمع زياد النميري سمع أنس ، رواه القضاعي في مسند الشهاب (237). وأما حديث جابر فقد رواه ابن ماجة في سننه برقم (4310) من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر.
(5) في د : "شرطيهما" ، وفي ر : "شرط الشيخين".
(6) سنن الترمذي بر قم (2435).

(2/284)


ومنهم من قال : هي ما عليه وعيد لخصوصه من الكتاب والسنة. وقيل غير ذلك. قال أبو القاسم عبد الكريم بن محمد الرافعي ، في كتابه الشرح الكبير الشهير ، في كتاب الشهادات منه : ثم اختلف الصحابة ، رضي الله [ تعالى ] (1) عنهم ، فمن بعدهم في الكبائر ، وفي الفرق بينها وبين الصغائر ، ولبعض الأصحاب (2) في تفسير الكبيرة وجوه :
أحدها : أنها المعصية الموجبة للحد.
والثاني : أنها المعصية التي يلحق صاحبها الوعيد الشديد بنص كتاب أو سنة. وهذا أكثر ما يوجد لهم ، وهو (3) وإلى الأول أميل ، لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفسير (4) الكبائر.
والثالث : قال إمام الحرمين في "الإرشاد" وغيره : كل جريمة تنبئ بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة ، فهي مبطلة للعدالة.
والرابع : ذكر القاضي أبو سعيد (5) الهروي أن الكبيرة : كل فِعْل نَصَّ الكتاب على تحريمه ، وكل معصية توجب في جنسها حدًّا من قتل أو غيره ، وترك كل فريضة مأمور بها على الفور ، والكذب في الشهادة ، والرواية ، واليمين.
هذا ما ذكره على سبيل الضبط.
ثم قال : وفصل القاضي الروياني فقال : الكبائر سبع : قتل النفس بغير الحق ، والزنا ، واللواط ، وشرب الخمر ، والسرقة ، وأخذ المال غصبا ، والقذف. وزاد في "الشامل" على السبع المذكورة : شهادة الزور. وأضاف إليها صاحب العدة : أكل الربا ، والإفطار في رمضان بلا عذر ، واليمين الفاجرة ، وقطع الرحم ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف ، وأكل مال اليتيم ، والخيانة في الكيل والوزن ، وتقديم الصلاة على وقتها ، وتأخيرها عن وقتها ، بلا عذر ، وضرب المسلم بلا (6) حق ، والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم عمدًا ، وسب أصحابه ، وكتمان الشهادة بلا عذر ، وأخذ الرشوة ، والقيادة بين الرجال والنساء ، والسعاية عند السلطان ، ومنع الزكاة ، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة ، ونسيان القرآن بعد تعلمه ، وإحراق الحيوان بالنار ، وامتناع المرأة من زوجها بلا سبب ، واليأس من رحمة الله ، والأمن من مكر الله (7) ويقال : الوقيعة في أهل العلم وحملة القرآن. ومما يعد من الكبائر : الظهار ، وأكل لحم الخنزير والميتة إلا عن ضرورة.
ثم قال الرافعي : وللتوقف مجال في بعض هذه الخصال.
قلت : وقد صنف الناس في الكبائر مصنفات ، منها ما جمعه شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي (8) الذي بلغ نحوا من سبعين كبيرة ، وإذا قيل : إن الكبيرة [هى] (9) ما توعد
__________
(1) زيادة من جـ.
(2) في أ : "وللأصحاب".
(3) في جـ ، أ : "وهم".
(4) في جـ ، ر ، أ : "تفصيل".
(5) في جـ ، ر : "أبو سعد".
(6) في أ : "بغير".
(7) في أ : "من مكره".
(8) وقد طبع في بيروت بتحقيق الأستاذ/محي الدين مستو.
(9) زيادة من جـ ، أ.

(2/285)


وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)

الشارع عليها بالنار بخصوصها ، كما قال ابن عباس ، وغيره ، وتتبع ذلك ، اجتمع منه شيء كثير ، وإذا قيل : كل ما نهى الله [تعالى] (1) عنه فكثير جدًّا ، والله [تعالى] (2) أعلم.
{ وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) }
قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله ، يغزو الرجال ولا نغزو ، ولنا نصف الميراث. فأنزل الله عز وجل : { وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ }
ورواه الترمذي عن ابن أبي عمر ، عن سفيان ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، عن أمّ سلمة أنها قالت : قلت : يا رسول الله... فذكره ، وقال : غريب (3) ورواه بعضهم عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، أن أم سلمة قالت...
ورواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير وابن مَرْدُويه ، والحاكم في مستدركه ، من حديث الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : قالت أم سلمة : يا رسول الله ، لا نقاتل فنستشهد ، ولا نقطع الميراث! فنزلت : { وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ } ثم نزلت : { أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى } (4) [آل عمران : 195].
ثم قال ابن أبي حاتم : وكذا روى سفيان بن عيينة ، يعني عن ابن أبي نجيح بهذا اللفظ. وروى يحيى القطان ووكيع بن الجراح ، عن الثوري ، وعن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن أم سلمة قالت : قلت : يا رسول الله... وروي عن مقاتل بن حَيّان وخُصَيف نحوُ ذلك.
وروى ابن جرير من حديث ابن جريج ، عن عكرمة ومجاهد أنهما قالا أنزلت في أم سلمة.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن شيخ من أهل مكة قال : نزلت هذه الآية في قول النساء : ليتنا الرجال فنجاهد كما يجاهدون ونغزو في سبيل الله عز وجل.
وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية ، حدثني أحمد بن عبد الرحمن ، حدثني أبي ، حدثنا الأشعث بن إسحاق ، عن جعفر - يعني ابن أبي المغيرة - عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في ]قوله[ (5) { وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ } قال : أتت امرأةٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالت : يا نبي الله ، للذكر مثل حظ الأنثيين ، وشهادة امرأتين برجل ، فنحن (6) في العمل هكذا ، إن عملت امرأة حسنة كتبت لها نصف حسنة. فأنزل الله هذه الآية : { وَلا تَتَمَنَّوْا } فإنه عدل مني ، وأنا صنعته.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من جـ.
(3) المسند (6/322) وسنن الترمذي برقم (3022).
(4) تفسير الطبري (8/262) والمستدرك (2/305).
(5) زيادة من و.
(6) في أ : "أفنحن".

(2/286)


وقال السدي : قوله : في الآية { وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } فإن الرجال قالوا : نريد أن يكون لنا من الأجر الضعف على أجر النساء ، كما لنا في السهام سهمان. وقالت النساء : نريد أن يكون لنا أجر مثل أجر الرجال الشهداء ، فإنا لا نستطيع أن نقاتل ، ولو كتب علينا القتال لقاتلنا فأبى الله ذلك ، ولكن قال لهم : سلوني من فضلي قال : ليس بعرض الدنيا.
وقد روي عن قتادة نحو ذلك. وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : قوله : { وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } قال (1) ولا يتمنى الرجل فيقول : "ليت لو أن لي مال فلان وأهله!" فنهى الله عن ذلك ، ولكن يسأل الله من فضله.
وكذا قال محمد بن سيرين والحسن والضحاك وعطاء نحو ذلك (2) وهو الظاهر من الآية ولا يرد على هذا ما ثبت في الصحيح : "لا حَسَد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله مالا فسَلَّطَه على هَلَكَتِهِ في الحق ، فيقول رجل : لو أن لي مثل ما لفلان لعَمِلْتُ مثله. فهما في الأجر سواء" (3) فإن هذا شيء غير ما نهت الآية عنه ، وذلك أن الحديث حَضَّ على تمني مثل نعمة هذا ، والآية نهت عن تمني عين نعمة هذا ، فقال : { وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } أي : في الأمور الدنيوية ، وكذا الدينية أيضا لحديث أم سلمة ، وابن عباس. وهكذا قال عطاء بن أبي رباح : نزلت في النهي عن تمني ما لفلان ، وفي تمني النساء أن يكن رجالا فيغزون. رواه ابن جرير.
ثم قال : { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ } أي : كل له جزاء على عمله بحسبه ، إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر. وهو (4) قول ابن جرير.
وقيل : المراد بذلك في الميراث ، أي : كل يرث بحسبه. رواه الترمذي (5) عن ابن عباس :
ثم أرشدهم إلى ما يصلحهم فقال : { وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ } ]أي[ (6) لا تتمنوا ما فضل (7) به بعضكم على بعض ، فإن هذا أمر محتوم ، والتمني لا يجدي شيئًا ، ولكن سلوني من فضلي أعطكم ؛ فإني كريم وهاب.
وقد روى الترمذي ، وابن مردويه من حديث حماد بن واقد : سمعت إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "سلُوا الله من فَضْلِه ؛ فإن (8) الله يحب أن يسأل وإن أفضل العبادة انتظار الفرج".
ثم قال الترمذي : كذا رواه حماد بن واقد ، وليس بالحافظ ، ورواه أبو نُعَيم ، عن إسرائيل ، عن حكيم بن جبير ، عن رجل ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون أصح (9)
وكذا رواه ابن مردويه من حديث وَكِيع ، عن إسرائيل. ثم رواه من حديث قيس بن الربيع ، عن
__________
(1) في ر ، أ : "يقول".
(2) في أ : "هذا".
(3) صحيح البخاري برقم (5026).
(4) في أ : "هذا".
(5) في أ : "الوالبى".
(6) زيادة من أ.
(7) في د ، ر : "ما فضلنا".
(8) في أ : "فإنه".
(9) سنن الترمذي برقم (3571).

(2/287)


وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)

حكيم بن جُبَير ، عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله : "سَلُوا الله من فَضْلِه ، فإن الله (1) يحب أن يُسأل ، وإن أحبَّ عباده إليه الذي يُحب الفرج" (2).
ثم قال : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } أي : هو عليم بمن يستحق الدنيا فيعطيه منها ، وبمن يستحق الفقر فيفقره ، وعليم بمن يستحق الآخرة فيقيضه (3) لأعمالها ، وبمن يستحق الخذلان فيخذله عن تعاطي الخير وأسبابه ؛ ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا }
{ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33) }
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جُبَير ، وأبو صالح ، وقتادة ، وزيد بن أسلم ، والسدي ، والضحاك ، ومقاتل بن حيان ، وغيرهم في قوله : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ } أي : ورثة. وعن ابن عباس في رواية : أي عَصَبة. قال ابن جرير : والعرب تسمي ابن العم مولى ، كما قال الفضل بن عباس :
مَهْلا بني عَمّنا مَهْلا مَوالينا... لا تُظْهِرَن لنا ما كان مدفُونا (4)
قال : ويعني بقوله : { مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ } من تركة والديه وأقربيه من الميراث ، فتأويل الكلام : ولكلكم - أيها الناس - جعلنا عصبة يرثونه مما ترك والداه وأقربوه من ميراثهم له.
وقوله : { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ (5) أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } أي : والذين تحالفتم بالأيمان المؤكدة - أنتم وهم - فآتوهم نصيبهم من الميراث ، كما وعدتموهم في الأيمان المغلظة ، إن الله شاهد بينكم في تلك العهود والمعاقدات ، وقد كان هذا في ابتداء الإسلام ، ثم نسخ بعد ذلك ، وأمروا أن يوفوا لمن عاقدوا ، ولا ينشئوا بعد نزول هذه الآية معاقدة.
قال البخاري : حدثنا الصلت بن محمد ، حدثنا أبو أسامة ، عن إدريس ، عن طلحة بن مصرف ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ } قال : ورثة ، { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري ، دون ذوي رحمه ؛ للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم ، فلما نزلت { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ } نُسخت ، ثم قال : { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } من النصر والرفادة والنصيحة ، وقد (6) ذهب الميراث ويُوصي له.
ثم قال البخاري : سمع أبو أسامة إدريس ، وسمع إدريس عن طلحة (7).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا إدريس الأوديّ ، أخبرني طلحة بن مُصَرف ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ [فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ] } (8) الآية ،
__________
(1) في أ : "فإنه".
(2) وفي إسناده حكيم بن جبير ضعيف ، واتهمه الجوزجاني بالكذب ، وإنما ذلك لتشيعه.
(3) في أ : "فيقيض".
(4) البيت في تفسير الطبري (8/270) وفي لسان العرب مادة (ولى).
(5) قرأ الكوفيون "عقدت" بتخفيف من غير ألف ، وشدد القاف حمزة ، والباقون "عاقدت" ألأف. مستفاد من هامش ط ، الشعب.
(6) في أ : "فقد".
(7) صحيح البخاري برقم (4580).
(8) زيادة من أ.

(2/288)


قال : كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري ، دون ذوي رحمه ؛ بالأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ، فلما نزلت هذه الآية : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ } نُسخت. ثم قال : { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ }
وحدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا حَجّاج ، عن ابن جُرَيْج - وعثمان بن عطاء ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } فكان الرجل قبل الإسلام يعاقد الرجل ، يقول : ترثني وأرثك وكان الأحياء يتحالفون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كُلُّ حِلْف كان في الجاهلية أو عَقْد أدْرَكَه الإسلامُ ، فلا يَزِيدُه الإسلامُ إلا شدَّةً ، ولا عَقْد ولا حِلْفٌ في الإسلامِ". فنسختها هذه الآية : { وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } [الأنفال : 75].
ثم قال : وروي عن سعيد بن المُسَيَّب ، ومجاهد ، وعطاء ، والحسن ، وسعيد بن جُبَيْر ، وأبي صالح ، والشَّعْبِي ، وسليمان بن يَسار ، وعكرمة ، والسُّدِّي ، والضَّحَّاك ، وقتادة ، ومُقاتِل بن حَيَّان أنهم قالوا : هم الحلفاء.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا شَريك ، عن سِمَاك ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس - ورفعه - قال : "ما كان من حِلْفٍ في الجاهلية لم يَزِدْه الإسلام إلا حدة وشدة" (1).
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا وكيع ، عن شريك ، عن سِمَاك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وحدثنا أبو كريب ، حدثنا مصعب بن المقدام ، عن إسرائيل عن يونس ، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا حِلْفَ في الإسلام ، وكلُّ حِلْف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شِدَّة ، وما يَسُرُّني أن لي حُمْرَ النَّعَم وإني نَقَضْتُ الحِلْفَ الذي كان في دار النَّدْوة" هذا لفظ ابن جرير (2).
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهرى ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "شهِدتُ حِلْف المُطيَّبين ، وأنا غُلامٌ مع عُمُومتي ، فما أحب أن لي حُمْرَ النَّعَم وأنا أنكثُهُ". قال الزهري : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لم يُصب الإسلامُ حِلْفا إلا زاده شِدَّةً". قال : "ولا حِلْف في الإسلام". وقد ألف (3) النبي صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار.
وهكذا رواه الإمام أحمد عن بشر بن المفضل عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن الزهري ، بتمامه (4).
وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هُشَيْم ، أخبرني مغيرة ، عن أبيه ، عن شعبة بن التوأم ، عن قيس بن عاصم : أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف ، قال : فقال : "ما كان من حِلْفٍ في الجاهلية فَتَمَسَّكُوا به ، ولا حِلْفٍ في الإسلام".
__________
(1) المسند (1/329).
(2) تفسير الطبري (8/282).
(3) في د : "خالف".
(4) تفسير الطبري (8/286) والمسند (1/190).

(2/289)


وكذا رواه أحمد عن هشيم (1).
وحدثنا أبو كريب حدثنا وَكِيع ، عن داود بن أبي عبد الله ، عن ابن جُدْعان ، عن جدته ، عن أم سلمة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا حِلْف في الإسلام ، وما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شِدَّةً" (2).
وحدثنا أبو كريب ، حدثنا يونس بن بكير حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عَمْرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده قال : لما كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح قام خطيبا في الناس فقال : "يا أيها الناس ، ما كان من حِلْفٍ في الجاهلية ، لم يَزِدْه الإسْلامُ إلا شِدَّةً ، ولا حِلْفَ في الإسلامِ".
ثم رواه من حديث حسين المعلم ، وعبد الرحمن بن الحارث ، عن عَمْرو بن شعيب ، به (3).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا ابن نمير وأبو أسامة ، عن زكريا ، عن سعد بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن جبير بن مطعم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا حِلْفَ في الإسْلامِ ، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يَزِدْه الإسلام إلا شِدَّةً".
وهكذا رواه مسلم عن عبد الله بن محمد ، وهو أبو بكر بن أبي شيبة ، بإسناده ، مثله. ورواه أبو داود عن عثمان عن محمد بن أبي شيبة ، عن محمد بن بشر وابن نمير وأبي أسامة ، ثلاثتهم عن زكريا - وهو ابن أبي زائدة (4) - بإسناده ، مثله.
ورواه ابن جرير من حديث محمد بن بشر ، به. ورواه النسائي من حديث إسحاق بن يوسف الأزرق ، عن زكريا ، عن سعد بن إبراهيم ، عن نافع بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، به (5).
وقال الإمام أحمد : حدثنا هشيم ، قال : مغيرة أخبرنى ، عن أبيه ، عن شعبة بن التوأم ، عن قيس بن عاصم : أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف ، فقال : "ما كَانَ مِنْ حِلْفٍ في الجاهلية فَتَمَسَّكُوا به ، ولا حِلْفَ في الإسْلامِ".
وكذا رواه شعبة ، عن مغيرة - وهو ابن مِقْسَم - عن أبيه ، به.
وقال محمد بن إسحاق ، عن داود بن الحصين قال : كنت أقرأ على أم سعد بنت الربيع ، مع ابن ابنها موسى بن سعد - وكانت يتيمة في حجر أبي بكر - فقرأت عليها { وَالَّذِيَن عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } فقالت : لا ولكن : { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } قالت : إنما نزلت في أبي بكر وابنه عبد الرحمن ، حين أبى أن يسلم ، فحلف أبو بكر أن لا يورثه ، فلما أسلم حين حمل على الإسلام بالسيف أمر الله أن يؤتيه نصيبه.
رواه ابن أبي حاتم ، وهذا قول غريب ، والصحيح الأول ، وأن هذا كان في ابتداء الإسلام يتوارثون بالحلف ، ثم نسخ وبقي تأثير الحلف بعد ذلك ، وإن كانوا قد أمرُوا أن يوفوا بالعقود
__________
(1) تفسير الطبري (8/283) والمسند (5/61).
(2) تفسير الطبري (8/283).
(3) تفسير الطبري (8/284).
(4) في أ : "زياد".
(5) المسند (4/83) وصحيح مسلم برقم (2530) وسنن أبي داود برقم (2925) ، وتفسير الطبري (8/285) وسنن النسائي الكبرى برقم (6418).

(2/290)


والعهود ، والحلف الذي كانوا قد تعاقدوا قبل ذلك تقدم في حديث جبير بن مطعم وغيره من الصحابة : لا حلف في الإسلام ، وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة.
وهذا نص في الرد على ما ذهب إلى التوارث بالحلف اليوم (1) كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه ، ورواية عن أحمد بن حنبل ، رحمه (2) الله.
والصحيحُ قول الجمهور ومالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه ؛ ولهذا قال تعالى : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ } أي : ورثه من أقربائه من أبويه وأقربيه ، وهم يرثونه دون سائر الناس ، كما ثبت في الصحيحين ، عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ألْحِقُوا الفرائِضَ بأهلها ، فما بَقِيَ فهو لأوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ" (3) أي : اقسموا الميراث على أصحاب الفروض الذين ذكرهم الله في آيتي الفرائض ، فما بقي بعد ذلك فأعطوه العَصَبة ، وقوله : { وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } أي : قبل نزول هذه الآية فآتوهم نصيبهم ، أي من الميراث ، فأيما حلف عُقد بعد ذلك فلا تأثير له.
وقد قيل : إن هذه الآية نسخت الحلف في المستقبل ، وحكم الماضي أيضا ، فلا توارث به ، كما قال ابن أبي حاتم.
حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو أسامة ، حدثنا إدريس الأودي ، أخبرني طلحة بن مُصَرّف ، عن سعيد بن جُبَير عن ابن عباس : { فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } قال : من النصرة والنصيحة والرّفادة ، ويوصي له ، وقد ذهب الميراث.
ورواه ابن جرير ، عن أبي كريب ، عن أبي أسامة وكذا روي عن مجاهد ، وأبي مالك ، نحو ذلك.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله : { وَالَّذِينَ عَقَدَت أَيْمَانُكُمْ } قال : كان الرجل يعاقد الرجل ، أيهما مات ورثه الآخر ، فأنزل الله : { وَأُولُوا الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائُكُمْ مَعْرُوفًا } [الأحزاب : 6]. يقول : إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا وصية فهو لهم جائز من ثلث مال الميت ، وذلك هو المعروف.
وهذا نص غير واحد من السلف : أنها منسوخة بقوله : { وَأُولُوا الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائُكُمْ مَعْرُوفًا }
وقال سعيد بن جبير : { فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } أي : من الميراث. قال : وعاقد أبو بكر مولى فورثه. رواه ابن جرير.
وقال الزهري عن سعيد بن المسيب : أنزلت هذه الآية في الذين كانوا يتبنون رجالا غير أبنائهم ، يورثونهم ، فأنزل الله فيهم ، فجعل لهم نصيبا في الوصية ، ورد الميراث إلى الموالي في ذي الرحم والعَصبة وأبى الله للمدعين ميراثًا ممن ادعاهم وتبناهم ، ولكن جعل لهم نصيبا من الوصية. رواه ابن جرير.
__________
(1) في ر : "باليوم".
(2) في ر : "رحمهم".
(3) صحيح البخاري برقم (6735) وصحيح مسلم برقم (1615).

(2/291)


وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله : { فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } أي : من النصرة والنصيحة والمعونة ، لا أن المراد فآتوهم نصيبهم من الميراث - حتى تكون الآية منسوخة ، ولا أن ذلك كان حكما ثم نسخ ، بل إنما دلت الآية على الوفاء بالحلف المعقود على النصرة والنصيحة فقط ، فهي محكمة لا منسوخة.
وهذا الذي قاله فيه نظر ، فإن من الحلف ما كان على المناصرة (1) والمعاونة ، ومنه ما كان على الإرث ، كما حكاه غير واحد من السلف ، وكما قال ابن عباس : كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوي رحمه ، حتى نسخ ذلك ، فكيف يقول : إن هذه الآية محكمة غير منسوخة (2) ؟! والله أعلم.
__________
(1) في أ : "المناجزة".
(2) قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على تفسير الطبري (8/288) : "أشكل على ابن كثير هذا الموضع من كلام الطبري ، فرواه عنه ثم قال : وفيه نظر فإن من الحلف ما كان على المناصرة والمعاونة ، ومنه ما كان على الإرث كما حكاه غير واحد من السلف ، وكما قال ابن عباس : كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوى رحمه ، حتى نسخ ذلك فكيف يقول : إن هذه الآية محكمة غير منسوخة ، والله أعلم..
وهذا الذي تعجب منه ابن كثير ، قد بينه الطبري ، وأقام عليه كل مذهبه ، في كل ناسخ ومنسوخ ، وقد كرره مرات كثيرة في تفسيره ، وقد أعاده هنا عند ذكر الناسخ والمنسوخ فقال : إن الآية إذ اختلف في حكمها منسوخ هو أم غير منسوخ ، واختلف المختلفون في حكمها ، وكان لنفى النسخ عنها وإثبات أنها محكمة وجه صحيح ، لم يجز لأحد أن يقضى بأن حكمها منسوخ ، إلا بحجة يجب التسليم لها ، وقد بين أبو جعفر مرارًا أن الحجة التي يجب التسليم لها هي : ظاهر القرآن ، والخبر الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أما تأويل ابن عباس أو غيره من الأئمة ، فليس حجة في إثبات النسخ في آية ، لتأويلها على أنها محكمة وجه صحيح.
فالعجب لابن كثير ، حين عجب من أبي جعفر في تأويله وبيانه ، ولو أنصف لنقض حجة الطبري في مقالته في الناسخ والمنسوخ ، لا أن يحتج عليه ويتعجب منه ، لحجة هى منقوضة عند الطبري ، قد أفاض في نقضها مرارًا في كتابه هذا ، وفي غيرها من كتبه كما قال ، رحم الله أبا جعفر ، وغفر الله لابن كثير".

(2/292)


الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)

{ الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) }
يقول تعالى : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ } أي : الرجل قَيّم على المرأة ، أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجَّت { بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } أي : لأن الرجال أفضل من النساء ، والرجل خير من المرأة ؛ ولهذَا كانت النبوة مختصة بالرجال وكذلك المُلْك الأعظم ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : "لن يُفلِح قومٌ وَلَّوا أمْرَهُم امرأة" رواه البخاري من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه (1) وكذا منصب القضاء وغير ذلك.
{ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } أي : من المهور والنفقات والكلف التي أوجبها الله عليهم لهنَّ في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فالرجل أفضل من المرأة في نفسه ، وله الفضل عليها والإفضال ، فناسب أن يكون قَيّما عليها ، كما قال ]الله[ (2) تعالى : { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } الآية [البقرة : 228].
__________
(1) رواه البخاري برقم (4425) ، (7099) من طريق الحسن البصري عن أبي بكرة.
(2) زيادة من أ.

(2/292)


وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ } يعني : أمراء عليها (1) أي تطيعه فيما أمرها به من طاعته ، وطاعتُه : أن تكون محسنة إلى أهله حافظة لماله. وكذا قال مقاتل ، والسدي ، والضحاك.
وقال الحسن البصري : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تستعديه (2) على زوجها أنه لَطَمَها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "القِصَاص" ، فأنزل الله عز وجل : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ } الآية ، فرجعت بغير قصاص.
رواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، من طرق ، عنه. وكذلك أرسل هذا الخبر قتادة ، وابن جُرَيج والسدي ، أورد ذلك كله ابن جرير. وقد أسنده ابن مردويه من وجه آخر فقال :
حدثنا أحمد بن علي النسائي ، حدثنا محمد بن عبد الله (3) الهاشمي ، حدثنا محمد بن محمد الأشعث ، حدثنا موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر بن محمد ، حدثني أبي ، عن جدي ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي قال : أتى النبي رجل من الأنصار بامرأة له ، فقالت : يا رسول الله ، إن زوجها فلان بن فلان الأنصاري ، وإنه ضربها فأثر في وجهها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ليْسَ ذَلِكَ لَه". فأنزل الله : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ [بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ] (4) } أي : قوامون على النساء في الأدب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أَرَدْتُ أمْرًا وأرَادَ الله غَيْرَه" (5).
وقال الشعبي في هذه الآية : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } قال : الصداق الذي أعطاها ، ألا ترى أنه لو قَذَفَها لاعنَها ، ولو قذفته جُلِدت.
وقوله : { فَالصَّالِحَاتُ } أي : من النساء { قانِتَاتٌ } قال ابن عباس وغير واحد : يعني مطيعات لأزواجهن { حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ }.
قال السدي وغيره : أي تحفظ زوجها في غيبته في نفسها وماله.
وقوله : { بِمَا حَفِظَ اللَّهُ } أي : المحفوظ من حفظه.
قال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا أبو صالح ، حدثنا أبو مَعْشَر ، حدثنا سعيد بن أبي سعيد الْمقبري ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خَيرُ النساءِ امرأةٌ إذا نَظَرْتَ إليها سَرَّتْكَ وإذا أمَرْتَها أطاعتكَ وإذا غِبْتَ عنها حَفِظتْكَ في نَفْسِها ومالِكَ". قال : ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ } إلى آخرها.
ورواه ابن أبي حاتم ، عن يونس بن حبيب ، عن أبي داود الطيالسي ، عن محمد بن عبد الرحمن
__________
(1) في د ، ر ، أ : "عليهن".
(2) في أ : "تستعذيه".
(3) في ر ، أ : "هبة الله"
(4) زيادة من ر ، أ.
(5) في إسناده محمد بن محمد الأشعث ، قال ابن عدي : "كتبت عنه بمصر ، حمله شدة تشيعه أن أخرج إلينا نسخة قريبا من ألف حديث عن موسى بن إسماعيل بن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن آبائه بخط طرى ، وعامتها مناكير كلها أو عامتها ، فذكرنا روايته هذه الأحاديث عن موسى هذا لأبي عبد الله الحسين بن علي الحسن بن على من آل البيت بمصر ، وهو أخو الناصر ، فقال لنا : كان موسى هذا جاري بالمدينة أربعين سنة ما ذكر قط عنده شيئا من الرواية لا عن أبيه ولا عن غيره".

(2/293)


بن أبي ذئب ، عن سعيد المقبري ، به مثله سواء (1).
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن عُبيد الله (2) بن أبي جعفر : أن ابن قارظ (3) أخبره : أن عبد الرحمن بن عوف قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا صَلَّت المرأة خَمسها ، وصامت شهرها وحفظت فَرْجَها ؛ وأطاعت زوجها قِيلَ لها : ادخُلِي الجنة من أيِّ أبواب الجنة شِئْتِ".
تفرد به أحمد من طريق عبد الله بن قارظ (4) عن عبد الرحمن بن عوف (5).
وقوله تعالى { وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } أي : والنساء اللاتي تتخوفون (6) أن ينشزن على أزواجهن. والنشوز : هو الارتفاع ، فالمرأة الناشز هي المرتفعة على زوجها ، التاركة لأمره ، المُعْرِضَة عنه ، المُبْغِضَة له. فمتى ظهر له منها أمارات النشوز فليعظْها وليخوّفها عقابَ الله في عصيانه (7) فإن الله قد أوجب حق الزوج عليها وطاعته ، وحرم عليها معصيته لما له عليها من الفضل والإفضال. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو كُنْتُ آمرًا أحدًا أن يَسْجد لأحد لأمرتُ المرأة أن تَسْجُدَ لزوجها ، من عِظَم حَقِّه عليها" (8) وروى البخاري ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا دَعَا الرَّجُلُ امرَأتَهُ إلى فِرَاشِه فأبَتْ عليه ، لَعَنَتْهَا الملائكة حتى تُصْبِح" (9) ورواه مسلم ، ولفظه : "إذا باتت المرأة هَاجرة (10) فِراش زَوْجِها ، لعنتها الملائكة حتى تُصبِح" (11) ؛ ولهذا قال تعالى : { وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ }.
وقوله : { وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : الهجران هو أن لا يجامعها ، ويضاجعها على فراشها ويوليها ظهره. وكذا قال غير واحد ، وزاد آخرون - منهم : السدي ، والضحاك ، وعكرمة ، وابن عباس في رواية - : ولا يكلمها مع ذلك ولا يحدثها.
وقال علي بن أبي طلحة أيضا ، عن ابن عباس : يعظها ، فإن هي قبلت وإلا هجرها في المضجع ، ولا يكلمها من غير أن يذر نكاحها ، وذلك عليها شديد.
وقال مجاهد ، والشعبي ، وإبراهيم ، ومحمد بن كعب ، ومِقْسم ، وقتادة : الهجر : هو أن لا يضاجعها.
وقد قال أبو داود : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، عن علي بن زيد ، عن أبي حرّة الرقاشي ، عن عمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "فَإِن خِفْتُمْ نُشُوزَهُنَّ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ" قال حماد :
__________
(1) تفسير الطبري (8/295).
(2) في د ، ر : "عبد الله".
(3) في أ : "فارس".
(4) في أ : "فارس".
(5) المسند (1/191).
(6) في أ : "تخافون".
(7) في ر : "عصيانها".
(8) رواه الترمذي برقم (1159) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، ورواه أحمد في المسند (6/76) من حديث عائشة.
(9) صحيح البخاري برقم (3237).
(10) في ر : "مهاجره".
(11) صحيح مسلم برقم (1436).

(2/294)


يعني النكاح (1).
وفي السنن والمسند عن معاوية بن حيدة القشيري أنه قال : يا رسول الله ، ما حق امرأة أحدنا ؟ قال : "أن تُطعمها إذا طَعِمْتَ ، وتكسوها إذا اكْتَسَيْتَ ، ولا تَضْرِب الوَجْهَ ولا تُقَبِّح ، ولا تَهْجُر إلا في البَيْتِ" (2).
وقوله : { وَاضْرِبُوهُنَّ } (3) أي : إذا لم يَرْتَدِعْن (4) بالموعظة ولا بالهجران ، فلكم أن تضربوهن ضربا غير مبرح ، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه قال في حجة الوداع : "واتَّقُوا اللهَ في النِّساءِ ، فإنهن عندكم عَوَانٌ ، ولكم عليهن ألا يُوطِئْنَ فُرُشكم أحدا تكرهونه ، فإن فَعَلْن فاضربوهن ضَرْبا غير مُبَرِّح ، ولهن رزْقُهنَّ وكِسْوتهن بالمعروف" (5).
وكذا قال ابن عباس وغير واحد : ضربا غير مبرح. قال الحسن البصري : يعني غير مؤثر. قال الفقهاء : هو ألا يكسر فيها عضوا ولا يؤثر فيها شيئا.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يهجرها في المضجع ، فإن أقبلت وإلا فقد أذن الله لك أن تضرب ضربا غير مبرح ، ولا تكسر لها عظما ، فإن أقبلت وإلا فقد حَل لك منها الفدية.
وقال سفيان بن عُيَينة ، عن الزهري ، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر ، عن إياس بن عبد الله بن أبي ذُباب (6) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تَضْرِبوا إماءَ اللهِ". فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ذئِرَت النساء على أزواجهن. فرخص في ضربهن ، فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون (7) أزواجهن ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لقد أطافَ بآل محمد نِسَاءٌ كثير يَشْكُونَ (8) أزواجهن ، ليس أولئك بخياركم" رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه (9).
وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود - يعني أبا داود الطيالسي - حدثنا أبو عوانة ، عن داود الأوْدِيِّ ، عن عبد الرحمن المُسْلي (10) عن الأشعث بن قيس ، قال ضفْتُ عمر ، فتناول امرأته فضربها ، وقال : يا أشعث ، احفظ عني ثلاثا حَفظتهن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تَسألِ الرَّجُلَ فِيمَ ضَرَبَ امرَأَتَهُ ، ولا تَنَم إلا على وِتْر... ونسي الثالثة.
وكذا رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه ، من حديث عبد الرحمن بن مهدي ، عن أبي عوانة ، عن داود الأوديّ ، به (11).
وقوله : { فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا } أي : فإذا أطاعت المرأة زوجها في جميع ما يريد منها ، مما أباحه الله له منها ، فلا سبيل له عليها بعد ذلك ، وليس له ضربها ولا هجرانها.
__________
(1) سنن أبي داود برقم (2145).
(2) سنن أبي داود برقم (2143) والمسند (4/447).
(3) في ر : "فاضربوهن".
(4) في أ : "إذا لم يرتدعن عما ينهاها عنه".
(5) صحيح مسلم برقم (1218).
(6) في أ : "ذئاب".
(7) في أ : "يشتكين".
(8) في أ : "يشتكين".
(9) سنن أبي داود برقم (2146) وسنن النسائي الكبرى برقم (9167) وسنن ابن ماجة برقم (1975).
(10) في د : "السلمي".
(11) سنن أبي داود برقم (2147) وسنن النسائي الكبرى برقم (9168) وسنن ابن ماجة برقم (1986).

(2/295)


وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)

وقوله : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا } تهديد للرجال إذا بغوا على النساء من غير سبب ، فإن الله العلي الكبير وليهن وهو منتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن.
{ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35) }
ذكر[تعالى] (1) الحال الأول ، وهو إذا كان النفور والنشوز من الزوجة ، ثم ذكر الحال الثاني وهو : إذا كان النفور من الزوجين فقال تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا }
قال الفقهاء : إذا وقع الشقاق بين الزوجين ، أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة ، ينظر في أمرهما ، ويمنع الظالم منهما من الظلم ، فإن تفاقم أمرهما وطالت خصومتهما ، بعث الحاكم ثقة من أهل المرأة ، وثقة من قوم الرجل ، ليجتمعا وينظرا في أمرهما ، ويفعلا ما فيه المصلحة مما يريانه من التفريق أو التوفيق (2) وتَشَوف الشارع إلى التوفيق ؛ ولهذا قال : { إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا }
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أمر الله عز وجل ، أن يبعثوا رجلا صالحًا من أهل الرجل ، ورجلا مثله من أهل المرأة ، فينظران أيهما المسيء ، فإن كان الرجل هو المسيء ، حجبوا عنه امرأته وقصروه على النفقة ، وإن كانت المرأة هي المسيئة ، قصروها على زوجها ومنعوها النفقة. فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يجمعا ، فأمرهما جائز. فإن رأيا أن يجمعا ، فرضي أحد الزوجين وكره ذلك الآخر ، ثم مات أحدهما ، فإن الذي رضي يرث الذي كره ولا يرث الكاره الراضي. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن ابن طاوس ، عن عكرمة بن خالد ، عن ابن عباس قال : بعثت أنا ومعاوية حكمين ، قال معمر : بلغني أن عثمان بعثهما ، وقال لهما : إن رأيتما أن تُجْمَعا جُمِعْتُما ، وإن رأيتما أن تُفَرَّقا فُرَّقْتما (3).
وقال : أنبأنا ابن جريج ، حدثني ابن أبي مليكة ، أن عَقيل بن أبي طالب تَزَوَّج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة فقالت : تصير إليَّ (4) وأنفق عليك. فكان إذا دخل عليها قالت : أين عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ؟ قال : على يسارك في النار إذا دخلت. فشدت عليها ثيابها فجاءت عثمان ، فذكرت له ذلك (5) فضحك وأرسل ابن عباس ومعاوية ، فقال ابن عباس : لأفرِّقَن بينهما. فقال معاوية : ما كنت لأفرق بين شيخين من بني عبد مناف. فأتياهما فوجداهما قد أغلقا عليهما أبوابهما فرجعا.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن أيوب ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة قال : شهدت عليا وجاءته امرأة وزوجها ، مع كل واحد منهما فِئَام من الناس ، فأخرج هؤلاء حكما وهؤلاء حكما ، فقال علي للحَكَمَين : أتدريان ما عليكما ؟ إن عليكما ؟ إن رأيتما أن تجمعا ، جمعتما. فقالت المرأة : رضيت
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في د ، ر : من التوفيق أو التفريق.
(3) في أ : "فقرقا".
(4) في د ، ر : "لي".
(5) في د ، ر : "فذكرت ذلك له".

(2/296)


وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)

بكتاب الله لي وعَليّ. وقال الزوج : أما الفرقة فلا. فقال علي : كذبت ، والله لا تبرح حتى ترضى بكتاب الله ، عز وجل ، لك وعليك.
رواه ابن أبي حاتم ، ورواه ابن جرير ، عن يعقوب ، عن ابن علية ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، عن علي ، مثله. ورواه من وجه آخر ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، عن علي ، به (1).
وهذا مذهب جمهور العلماء : أن الحكمين إليهما الجمع والتفرقة ، حتى قال إبراهيم النخعي : إن شاء الحكمان أن يفرقا بينهما بطلقة أو بطلقتين أو ثلاث فعلا. وهو رواية عن مالك.
وقال الحسن البصري : الحكمان يحكمان في الجمع ولا يحكمان في التفريق ، وكذا قال قتادة ، وزيد بن أسلم. وبه قال أحمد بن حنبل ، وأبو ثور ، وداود ، ومأخذهم قوله تعالى : { إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا } ولم يذكر التفريق.
وأما إذا كانا وكيلين من جهة الزوجين ، فإنه يُنَفَّذُ حكمهما (2) في الجمع والتفرقة بلا خلاف.
وقد اختلف الأئمة في الحكمين : هل هما منصوبان من عند الحاكم ، فيحكمان وإن لم يرض الزوجان ، أو هما وكيلان من جهة الزوجين ؟ على قولين : فالجمهور على الأول ؛ لقوله تعالى : { فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا } فسماهما حكمين ، ومن شأن الحكم أن يحكم بغير رضا المحكوم عليه ، وهذا (3) ظاهر الآية ، والجديدُ من مذهب الشافعي ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
الثاني منهما ، بقول علي ، رضي الله عنه ، للزوج - حين قال : أما الفرقة فلا - قال : كذبت ، حتى تقر بما أقرت به ، قالوا : فلو كانا حاكمين لما افتقر إلى إقرار الزوج ، والله أعلم.
قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر : وأجمع العلماء على أن الحكمين - إذا اختلف قولهما - فلا عبرة بقول الآخر ، وأجمعوا على أن قولهما نافذ في الجمع وإن لم يوكلهما الزوجان ، واختلفوا : هل ينفذ قولهما في التفرقة ؟ ثم حكي عن الجمهور أنه ينفذ قولهما فيها (4) أيضا (5).
{ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا (36) }
يأمر تبارك وتعالى بعبادته وحده لا شريك له ؛ فإنه هو الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الآنات والحالات ، فهو المستحق منهم أن يوحدوه ، ولا يشركوا به شيئا من مخلوقاته ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ : "أتَدْرِي ما حَقُّ الله على العباد (6) ؟" قال : الله ورسوله أعلم. قال : "أن يَعْبدُوهُ ولا
__________
(1) تفسير عبد الرزاق (1/156) وتفسير الطبري (8/320 ، 321).
(2) في أ : "حكماها".
(3) في أ "هو".
(4) في ر : "فيه" ، وفي أ : "قولهما فيها منه من غير توكيل".
(5) الاستذكار لابن عبد البر (18/111).
(6) في أ : "عبادة".

(2/297)


يُشْرِكُوا به شيئا" ، ثم قال : "أتَدْري ما حَقُّ العبادِ عَلَى اللهِ إذا فَعَلُوا ذلك ؟ ألا يُعَذِّبَهُم" (1) ثم أوصى بالإحسان إلى الوالدين ، فإن الله ، سبحانه ، جعلهما سببا لخروجك من العدم إلى الوجود ، وكثيرا ما يقرنُ الله ، سبحانه ، (2) بين عبادته والإحسان إلى الوالدين ، كقوله : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } [لقمان : 14] وكقوله : { وَقَضَى رَبُّكَ ألا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [الإسراء : 23].
ثم عطف على الإحسان إلى الوالدين الإحسان (3) إلى القرابات من الرجال والنساء ، كما جاء في الحديث : "الصَّدَقَةُ عَلَى المِسْكِينِ صَدَقَةٌ ، وعَلَى ذِي الرَّحِم صَدَقَةٌ وصِلَةٌ" (4).
ثم قال : { وَالْيَتَامَى } وذلك لأنهم قد فقدوا من يقوم بمصالحهم ، ومن ينفق عليهم ، فأمر الله بالإحسان إليهم والحنو عليهم.
ثم قال : { وَالْمَسَاكِينِ } وهم المحاويج من ذوي الحاجات الذين لا يجدون ما يقوم بكفايتهم ، فأمر الله بمساعدتهم بما تتم به كفايتهم وتزول به ضرورتهم. وسيأتي الكلام على الفقير والمسكين في سورة براءة.
وقوله : { وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ } قال علي بن أبي طَلْحَةَ ، عن ابْنِ عَبَّاسٍ : { وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى } يعني الذي بينك وبينه قرابة ، { وَالْجَارِ الْجُنُبِ } الذي ليس بينك وبينه قرابة. وكذا رُوِيَ عن عِكْرِمةَ ، ومُجَاهد ، وميمون بنِ مهْرانَ ، والضحاك ، وزيد بْنِ أَسْلَمَ ، ومقاتل بن حيَّان ، وقتادة.
وقال أبو إسحاق عن نَوْف البِكَالِي في قوله : { وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى } يعني المسلم { وَالْجَارِ الْجُنُبِ } يعني اليهودي والنصراني رواه ابنُ جَريرٍ ، وابنُ أبي حَاتم.
وقال جَابِرٌ الْجُعْفِيّ ، عن الشعبي ، عن علي وابنِ مسعود : { وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى } يعني المرأة. وقال مُجَاهِد أيضا في قوله : { وَالْجَارِ الْجُنُبِ } يعني الرفيق في السفر.
وقد وردت الأحاديث بالوصايا بالجار ، فنذكر منها ما تيسر ، والله المستعان :
الحديث الأول : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن عمر بن محمد بن زيد : أنه سمع أباه محمدًا يحدث ، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ما زال جِبرِيل يوصيني بالْجَارِ حَتِّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِثُه".
أخرجاه في الصحيح من حديث عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر ، به (5).
الحديث الثاني : قال الإمامُ أحمدُ : حدثنا سُفْيَانُ ، عن داودَ بنِ شَابُورٍ ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عَمْرٍو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما زالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بالْجَارِ حتى ظننْتُ أنَّه سَيُوَرِّثُهُ" (6).
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (7373) ومسلم في صحيحه برقم (30).
(2) في أ : "تعالى".
(3) في ر : "والإحسان".
(4) رواه أحمد في مسنده (4/17) من حديث سلمان بن عامر ، رضي الله عنه.
(5) المسند (2/85) وصحيح البخاري برقم (6015) وصحيح مسلم برقم (2625).
(6) المسند (2/160).

(2/298)


وروى أبو داود والترمذي نحوه ، من حديث سفيان بن عيينة ، عن بَشِيرِ أبي (1) إسْمَاعيلَ - زاد الترمذي : وداود بن شابور - كلاهما عن مجاهد ، به ثم قال الترمذي : حسن غريب من هذا الوجه (2) وقد رُوي عن مجاهد عن (3) عائشةَ وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
الحديث الثالث عنه : قال أحمد أيضا : حدثنا عبد الله بن يَزِيد ، أخبرنا حَيْوةُ ، أخبرنا شَرْحَبِيلُ بنُ شُرَيكٍ أنه (4) سمع أبا عبد الرحمن الحُبُلي يحدث عن عبد الله بْنِ عَمْرِو بنِ الْعَاصِ ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "خَيْرُ الأصْحَابِ عِندَ اللهِ خَيْرُهُم لِصَاحِبِهِ ، وخَيْرُ الجِيرانِ عند اللهِ خيرهم لِجَارِهِ".
ورواه الترمذي عن أحمد بن محمد ، عن عبد الله بن المبارك ، عن حيوة بن شريح - به ، وقال : [حديث] حسن غريب (5).
الحديث الرابع : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا سفيان ، عن أبيه ، عن عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ عن عُمَر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يَشْبَعُ الرجل دون جَارِهِ". تفرد به أحمد (6).
الحديث الخامس : قال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا محمد بن فضيل بن غَزْوان ، حدثنا محمد بن سعد الأنصاري ، سمعت أبا ظَبْية الكَلاعِيّ ، سمعت المقدادَ بن الأسود يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : ["ما تقولون في الزنا ؟" قالوا : حرام حَرَّمَهُ اللهُ ورسُولُه ، فهو حرام إلى يوم القيامة. فقال : رسولُ الله صلى الله عليه وسلم] (7) لأنْ يَزني الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَة ، أَيْسَرُ عليه من أَن يزنيَ بامرَأَةِ جَارِهِ". قال : ما تقولون في السَّرِقَة ؟ قالوا : حَرَّمَهَا اللهُ وَرَسُولُهُ فهي حرام. قَالَ "لأن يَسْرِقَ الرجل مِن عَشْرَةِ أَبْيَاتٍ ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يسرِقَ مِنْ جَارِهِ".
تفرد به أحمد (8) وله شاهد في الصحيحين من حديث ابْنِ مَسْعُودٍ : قلت : يا رسول الله ، أيُّ الذَّنْب أَعْظَمُ ؟ قَالَ : "أن تجعل لله نِدًّا وهُوَ خَلَقَكَ". قُلْتُ : ثُمَّ أَيُّ ؟ قال : "أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَن يُطْعَم معك". قُلتُ : ثُمَّ أيُّ ؟ قَالَ : "أَنْ تُزَاني حَليلةَ جَارِكَ" (9).
الحديث السادس : قال الإمامُ أحمد : حدثنا يَزِيدُ ، أخبرنا هِشَامُ ، عَنْ حَفْصَةَ ، عَنْ أبِي الْعَالية ، عَنْ رَجُلٍ من الأنصار قال : خَرَجْتُ من أهلي أريدُ النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذَا به قَائِمٌ ورجل مَعَهُ مُقْبِل (10) عَليه ، فَظَنَنْتُ أَنَّ لهما حَاجة - قَالَ الأنْصَارِيُّ : لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جعلت أَرْثِي لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم من طُولِ الْقِيَامِ ، فَلمَّا انْصَرفَ قُلْتُ : يا رسول الله ، لقد قام بك هذا الرَّجُلُ حتى جَعَلْتُ أَرْثِي لَك من طُولِ الْقِيَامِ. قال : "وَلَقَدْ رَأَيتَه ؟" قُلتُ : نعم. قَالَ : "أَتَدْرِي مَن هُوَ ؟" قُلْتُ : لا. قَال : "ذَاكَ جِبْرِيِلُ ،
__________
(1) في ر : "ابن".
(2) سنن أبي داود برقم (5152) وسنن الترمذي برقم (1943).
(3) في أ : "و"
(4) في ر : "أو".
(5) المسند (2/167) وسنن الترمذي برقم (1944).
(6) المسند (1/54) وقال الهيثمي في المجمع (8/167) : "رجاله رجال الصحيح إلا أن عباية بن رفاعة لم يسمع من عمر".
(7) زيادة من أ ، والمسند.
(8) المسند (6/8).
(9) صحيح البخاري برقم (4761) وصحيح مسلم برقم (68).
(10) في أ : "يقبل".

(2/299)


ما زال يُوصِينِي بِالجِارِ حتى ظَنَنْتُ أَنَّه سَيُورثُه. ثُمَّ قال : أَمَا إِنَّك لَو سَلَّمْتَ عليه ، رد عليك السلام" (1).
الحديث السابع : قال عبد بن حُمَيْدٍ في مسنده : حدثنا يَعْلَى بْنُ عُبَيْد ، حدثنا أَبُو بَكْرٍ - يعني الْمدَنيّ - عن جابر بن عبد الله قال : جاء رجل من الْعَوَالِي ورسول الله صلى الله عليه وسلم وجِبْرِيلُ عليه السلام يُصَلِّيانِ حَيْثُ يُصَلَّى على الْجَنائِز ، فلما انصرف قال الرجل : يا رسولَ الله ، من هذا الرجل الذي رأيت معك ؟ قال : "وقد رأيْتَه ؟" قال : نعم. قال : "لقد رأَيْتَ خَيْرًا كثيرًا ، هَذَا جِبْرِيلُ مَا زَالَ يُوصِينِي بالجار حتى رُئِيت أَنَّه سَيُورثُه".
تفرد به من هذا الوجه (2) وهو شاهد للذي قبله.
الحديث الثامن : قال أبو بكر البزار : حدثنا عبيد الله (3) بن محمد أبو الرَّبِيعِ الْحَارِثِيّ ، حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْن أَبِي فُدَيْك ، أخبرني عبد الرَّحمن بنُ الْفَضل (4) عن عَطَاء الخَراساني ، عن الحسن ، عن جابر بنِ عَبْدِ الله قال : قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم : "الجِيرانُ ثَلاثَةٌ : جَارٌ لهُ حَقٌ وَاحِدٌ ، وَهُوَ أَدْنَى الجيرانِ حقًّا ، وجار له حقَّان ، وجَارٌ له ثلاثةُ حُقُوقٍ ، وَهُوَ أفضلُ الجيرانِ حقا ، فأما الذي له حق واحد فجار مُشْرِكٌ لا رَحمَ لَهُ ، لَهُ حق الجَوار. وأمَّا الَّذِي لَهُ حقانِ فَجَارٌ مُسْلِمٌ ، له حق الإسلام وحق الْجِوارِ ، وأَمَّا الَّذِي لَهُ ثَلاثةُ حُقُوقٍ ، فَجَارٌ مُسْلِمٌ ذُو رَحِمٍ لَهُ حق الجوار وحق الإسلام وحَقُّ الرحِمِ".
قال البَزَّارُ : لا نعلم أحدا روى عن عبد الرحمن بن الْفُضَيْل (5) إلا ابْنُ أَبِي فُدَيْك (6).
الحديث التاسع : قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن أبي عِمْرَانَ ، عنْ طَلْحَةَ بنِ عَبْد اللهِ ، عن عائشة ؛ أنها سألت رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقالت : "إنَّ لي جَارَيْنِ ، فإلى أيِّهِمَا أُهْدِي ؟ قَالَ : "إِلَى أقْرَبِهِمَا مِنْك بَابًا".
ورواه البخاري من حديث شعبة ، به (7).
وقوله : { وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ } قال الثوريُّ ، عن جابر الْجُعْفِي ، عن الشَّعبي ، عن علي وابنِ مسعودٍ قالا هي المرأة.
وقال ابن أبي حاتم : ورُويَ عن عبد الرحمن بن أبي لَيْلَى ، وإبراهيم النَّخَعِيّ ، والحسن ، وسعيد بن جُبَير - في إحدى الروايات - نحوُ ذلك.
وقال ابن عباس ومجاهدٌ ، وعِكْرِمَةُ ، وقَتَادةُ : هو الرفيق في السفر. وقال سعيد بن جُبَيْرٍ : هو الرفيق الصالح. وقال زَيْدُ بنُ أَسْلَمَ : هو جليسك في الحضر ، ورفيقك في السفر.
وأما { ابْنِ السَّبِيلِ } فعن ابن عباس وجماعة هو : الضيف.
__________
(1) المسند (5/32) وقال الهيثمي في المجمع (8/164) : "رجاله رجال الصحيح".
(2) ورواه البزار في مسنده (1897) "كشف الأستار" من طريق الفضل بن مبشر أبو بكر المدنى به.
قال الهيثمي في المجمع (8/165) : "فيه الفضل بن مبشر وثقه ابن حبان وضعفه غيره ، وبقية رجاله ثقات".
(3) في أ : "عبد الله".
(4) في د ، ر : "الفضيل".
(5) في أ : "الفضل".
(6) مسند البزار برقم (1896) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (8/164) : "رواه البزار عن شيخه عبد الله بن محمد الحارثي وهو وضاع".
(7) المسند (6/175) وصحيح البخاري برقم (6020).

(2/300)


وقال مجاهد ، وأبو جَعْفَرٍ الباقرُ ، والحسنُ ، والضحاكُ ، ومقاتلُ : هو الذي يمر عليك مجتازًا في السفر.
وهذا أظهر ، وإن كان مراد القائل بالضيف : المار في الطريق ، فهما سواء. وسيأتي الكلام على أبناء السبيل في سورة براءة ، وبالله الثقة وعليه التكلان.
وقوله : { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وصية بالأرقاء ؛ لأن الرقيق ضعيف الحيلة أسير في أيدي الناس ، ولهذا ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يُوصِي أُمَّتَه في مرضِ الموت يقول : "الصلاةَ الصلاةَ وما ملكتْ أيمانُكُم". فجعل يُرَدِّدُها حتى ما يَفِيضُ بها لسانه (1).
وقال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن أبي العباس ، حدثنا بَقِيّة ، حدثنا بَحِيرُ بن سعد ، عن خالد بن مَعْدَان ، عن الْمِقْدَامِ بن مَعْدِ يكَرِب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما أطعمت نَفْسَك فهو لك صدقةٌ ، وما أطعمتَ وَلَدَكَ فهو لك صدقة ، وما أطعمت زَوْجَتَكَ فهو لك صَدَقَةٌ ، ومَا أطعَمْتَ خَادِمَكَ فهو لَك صَدَقَهٌ".
ورواه النسائي من حديث بَقِيَّة ، وإسناده صحيح (2) ولله الحمد.
وعن عبد الله بن عمرو أنه قال لِقَهْرَمَانَ له : هل أعطيت الرقيق قُوتَهم ؟ قال : لا. قال : فانطلق فأعطهم ؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوتهم" رواه مسلم (3).
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "للمملوك طعامه وكِسْوتُه ، ولا يكلَّف من العمل إلا ما يُطيق". رواه مسلم أيضا (4).
وعنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه ، فإن لم يجلسه معه ، فليناوله لقمةً أو لقمتين أو أكْلَةً أو أكْلَتين ، فإنه وَليَ حَرّه وعلاجه".
أخرجاه ولفظه للبخاري ولمسلم (5) فليقعده معه فليأكل ، فإن كان الطعام مَشْفُوها قليلا فَلْيضع في يده أكلة أو أكلتين".
وعن أبي ذر ، رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "هم إخوانكم خَوَلكم ، جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ، وليلبسه مما يلبس ، ولا تكلفوهم ما يغلبهم ، فإن كلفتموهم ، فأعينوهم". أخرجاه (6).
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا } أي : مختالا في نفسه ، معجبا متكبرا ، فخورا على الناس ، يرى أنه خير منهم ، فهو في نفسه كبير ، وهو عند الله حقير ، وعند الناس بغيض.
__________
(1) رواه أبو داود في السنن برقم (5154) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(2) المسند (4/131) وسنن النسائي الكبرى برقم (9185).
(3) صحيح مسلم برقم (996).
(4) صحيح مسلم برقم (1662).
(5) صحيح البخاري برقم (5460) وصحيح مسلم برقم (1663).
(6) صحيح البخاري برقم (31) وصحيح مسلم برقم (1661).

(2/301)


الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)

قال مجاهد في قوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا } يعني : متكبرا { فَخُورًا } يعني : يَعُد ما أعطي ، وهو لا يشكر الله ، عز وجل. يعني : يفخر على الناس بما أعطاه الله من نعمه ، وهو قليل الشكر لله على ذلك.
وقال ابن جرير : حدثني القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا محمد بن كَثيرٍ ، عن عبد الله بن واقد أبي رجاء الهروي قال : لا تجد سيئ الملكة إلا وجدته مختالا فخورا - وتلا { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا] } ولا عاقا إلا وجدته جبارا شقيا - وتلا { وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا } [مريم : 32].
وروى ابن أبي حاتم ، عن العوام بن حَوْشَبٍ ، مثله في المختال الفخور. وقال :
حدثنا أبي ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا الأسود بن شَيْبَان ، حدثنا يزيد بن عبد الله بن الشِّخِّير قال : قال مُطَرِّف : كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه ، فلقيته فقلت : يا أبا ذر ، بلغني أنك تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثكم : "إن الله يحب ثلاثة ويُبْغض ثلاثة" ؟ قال : أجل ، فلا إخالنى (1) أكذب على خليلي ، ثلاثا. قلت : من الثلاثة الذين يبغض الله ؟ قال : المختال الفخور ، أوليس تجدونه عندكم في كتاب الله المنزل ؟ ثم قرأ الآية : { إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا } (2) [النساء : 36].
وحدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا وُهَيْبُ عن خالد ، عن أبي تَمِيمَةَ عن رجل من بَلْهُجَيم قال : قلت يا رسول الله ، أوصني. قال : "إياك وإسبالَ الإزار ، فإن إسبال الإزار من المَخِيلة ، وإن الله لا يحب المَخِيلة" (3).
{ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) }
__________
(1) في ر : "إخالك".
(2) ورواه أحمد في مسنده ( 5/176 ) من طريق يزيد عن الأسود بن شيبان بأطول منه وأتم.
(3) ورواه أحمد في مسنده (5/64) من طريق وهيب بن خالد به.

(2/302)


وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)

{ وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) }
يقول تعالى ذامًّا الذين يبخلون بأموالهم أن ينفقوها فيما أمرهم الله به - من بر الوالدين ، والإحسان إلى الأقارب واليتامى والمساكين ، والجار ذي القربى ، والجار الجُنُب ، والصاحب بالجنب ، وابن السبيل ، وما ملكت أيمانكم من الأرقاء - ولا يدفعون حق الله فيها ، ويأمرون الناس بالبخل أيضا. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وأي داء أَدْوَأ من البخل ؟". وقال : "إياكم والشّحَ ، فإنه أهلك من كان قبلكم ، أمرهم بالقطيعةِ فقطعوا ، وأمرهم بالفجور فَفَجَرُوا" (1).
__________
(1) رواه أبو دواد في السنن برقم (6698) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه.

(2/302)


وقوله : { وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } فالبخيل جَحُود لنعمة الله عليه لا تظهر عليه ولا تبين ، لا في أكله (1) ولا في ملبسه ، ولا في إعطائه وبذله ، كما قال تعالى : { إِنَّ الإنْسَاَن لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ. وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ } [العاديات : 6 ، 7] أي : بحاله وشمائله ، { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ } [العاديات : 8] وقال هاهنا : { وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } ولهذا توعَّدهم بقوله : { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } والكفر هو الستر والتغطية ، فالبخيل يستر نعمة الله عليه ويكتمها ويجحدها ، فهو كافر لنعم الله عليه.
وفي الحديث : "إن الله إذا أنعم نعمةً على عبدٍ أحبَّ أن يَظْهَرَ أثرُها عليه" (2) وفي الدعاء النبوي : "واجعلنا شاكرين لنعمتك ، مثنين بها عليك قابليها - ويروى : قائليها - وأتممها علينا" (3).
وقد حمل بعضُ السلف هذه الآية على بخل اليهود بإظهار العلم الذي عندهم ، من صفة النبي صلى الله عليه وسلم وكتمانهم ذلك ؛ ولهذا قال : { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } رواه ابن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس. وقاله مجاهد وغير واحد.
ولا شك أن الآية محتملة لذلك ، والظاهر أن السياق في البخل بالمال ، وإن كان البخل بالعلم داخلا في ذلك بطريق الأولى ؛ فإن سياق الكلام في الإنفاق على الأقارب والضعفاء ، وكذا الآية التي بعدها ، وهي قوله : { والَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ } فَذَكر الممسكين المذمومين وهم البخلاء ، ثم ذكر الباذلين المرائين الذي يقصدون بإعطائهم السمعة وأن يُمدَحوا بالكرم ، ولا يريدون بذلك وجه الله ، وفي حديث الذي فيه الثلاثة الذين هم أول من تُسَجَّرُ بهم النار ، وهم : العالم والغازي والمنفق ، والمراءون بأعمالهم ، يقول صاحب المال : ما تركت من شيء تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت في سبيلك. فيقول الله : كذبت ؛ إنما أردت أن يقال : جواد فقد قيل. أي : فقد أخذت جزاءك في الدنيا وهو الذي أردت بفعلك.
وفي الحديث : أنّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال لِعَدِيّ : "إن أباك رامَ أمرًا فبلغه".
وفي حديث آخر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن عبد الله بن جُدعان : هل ينفعه إنفاقُه ، وإعتاقُه ؟ فقال : "لا إنه لم يقل يوما من الدهر : رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين".
ولهذا قال : { وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ [وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا] (4) } أي : إنما حملهم على صنيعهم هذا القبيحِ وعدولهم عن فعل الطاعة على وجهها الشيطانُ ؛ فإنه سَوَّلَ لهم وأملى لهم ، وقارنهم فحسّن لهم القبائح { وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا } ولهذا قال الشاعر (5)
__________
(1) في أ : "مأكله".
(2) رواه الترمذي في سننه برقم (2819) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه ، ولفظة : "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده.
(3) رواه أبو داود في سننه برقم (969) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
(4) زيادة من أ ، وفي هـ : "الآية".
(5) الشاعر هو عدي بن زيد ، والبيت في تفسير الطبري (8/358).

(2/303)


إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)

عَن المَرْء لا تَسْأل وسَلْ عن قَرينه... فكلُّ قرين بالمقارن يَقْتَدي (1)
ثم قال تعالى : { وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَومِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ [وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا] (2) } أي : وأيّ شيء يَكرثُهم لو سلكوا الطريق الحميدة ، وعَدَلُوا عن الرياء إلى الإخلاص والإيمان بالله ، ورجاء موعوده في الدار الآخرة لمن أحسن عملا وأنفقوا مما رزقهم الله في الوجوه التي يحبها الله ويرضاها.
وقوله : { وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا } أي : وهو عليم بنياتهم الصالحة والفاسدة ، وعليم بمن يستحق التوفيق منهم فيوفقه ويلهمه رشده ويقيضه لعمل صالح يرضى به عنه ، وبمن يستحق الخذلان والطرد عن جنابه الأعظم الإلهي ، الذي مَنْ طُرِدَ عن بابه فقد خاب وخَسِرَ في الدنيا والآخرة ، عياذا بالله من ذلك [بلطفه الجزيل] (3).
{ إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42) }
يخبر تعالى أنه لا يظلم عبدا من عباده يوم القيامة مثقال حبة خردل ولا مثقال ذرة ، بل يوفيها به ويضاعفها له إن كانت حسنة ، كما قال تعالى { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ [لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ] (4) } [الأنبياء : 47] وقال تعالى مخبرًا عن لقمان أنه قال : { يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ [إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ] (5) } [لقمان : 16] وقال تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ. فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ }
وفي الصحيحين ، من حديث زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يَسَار ، عن أبي سَعِيدٍ الخُدْري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويلِ ، وفيه : فيقول الله عز وجل : "ارْجِعُوا ، فَمَن وجدتم في قلبه مثقالَ حبة (6) خردل من إيمان ، فأخرجوه من النار". وفي لفظ : "أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه من النار ، فيخرجون خلقًا كثيرًا" ثم يقول أبو سعيد : اقرؤوا إن شئتم : { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ[وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا] (7) } (8).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا عيسى بن يُونُس ، عن هارونَ بن عنترة (9) عن عبد الله بن السائب ، عن زَاذَانَ قال : قال عبدُ الله بن مَسْعُود : يُؤْتَى بالعبد والأمَة يومَ القيامةِ ، فينادي منادٍ على رءوس الأولين والآخِرين : هذا فلانُ بنُ فلانٍ ، من كان له حق فليأت إلى حقه.
__________
(1) في أ : "مقتدي".
(2) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(3) زيادة من ر ، أ.
(4) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(5) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية"
(6) في ر ، أ : "ذرة".
(7) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(8) صحيح البخاري برقم (7439) وصحيح مسلم برقم (183).
(9) في أ : "عنبرة".

(2/304)


فتفرحُ المرأةُ أن يكون لها الحق على أبيها أو أخيها أو زوجها. ثم قرأ : { فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } [المؤمنون : 101] فيغفر الله من حقه ما يشاء ، ولا يغفر من حقوق الناس شيئا ، فينصَب للناس فينادَي : هذا فلانُ بن فلانٍ ، من كان له حق فليأتِ إلى حقه. فيقول : رَبّ ، فَنِيَت الدنيا ، من أين أُوتِيِهْم حقوقَهم ؟ قال : خذوا من أعماله الصالحة ، فأعطوا كلَ ذي حق حقه بقدر طلبته فإن كان وليًّا لله ففَضَلَ له مثقالُ ذرة ، ضاعفها الله له حتى يدخلَه بها الجنة ، ثم قرأ علينا : { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } قال : ادخل الجنة ؛ وإن كان عبدًا شقيا قال الملك : ربِّ فنيت حسناته ، وبقي طالبون كثير ؟ فيقول : خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ، ثم صُكُّوا له صَكًّا إلى النار.
ورواه ابن جَرِيرٍ من وجه آخر ، عن زاذان - به نحوه. ولبعض هذا الأثر شاهد في الحديث الصحيح.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثتا أبو نُعَيْمٍ ، حدثنا فُضَيلٌ - يعني ابن مرزوق - عن عطيَّة العَوْفي ، حدثني عبد الله بن عُمَرَ قال : نزلت هذه الآية في الأعراب : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [الأنعام : 160] قال رجل : فما للمهاجرين يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : ما هو أفضلُ من ذلك : { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا}.
وحدثنا أبو زُرْعَةَ ، حدثنا يَحْيَى بن عبد الله بن بُكَيْرٍ ، حدثني عبد الله بن لَهِيعَةَ ، حدثني عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جُبَيْرٍ في قوله { وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } فأما المشرك فيخفف عنه العذاب يوم القيامة ، ولا يخرج من النار أبدا. وقد استدل له بالحديث الصحيح أن العباس قال : يا رسول الله ، إن أبا طالب (1) كان يحوطك وينصرك فهل نفعته بشيء ؟ قال : "نعم هو في ضَحْضَاح من نار ، ولولا أنا لكان في الدَّرْك الأسفل من النار" (2).
وقد يكون هذا خاصا بأبي طالب من دون الكفار ، بدليل ما رواه أبو داود الطَّيالسِي في سننه (3) حدثنا عِمْرَانُ ، حدثنا قتادة ، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله لا يظلم المؤمن حسنة ، يثاب عليها الرزق في الدنيا ويُجْزَى بها (4) في الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا ، فإذا كان يوم القيامة لم يكن له حسنة" (5).
وقال أبو هريرة ، وعِكْرِمَةُ ، وسعيدُ بن جُبَيْرٍ ، والحسنُ وقتادةُ والضحاكُ ، في قوله : { وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } يعني : الجنة.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا سُلَيْمانُ - يعني ابن الْمُغَيْرَةِ - عن علي بن زَيْدٍ ، عن أبي عثمان قال : بلغني عن أبي هريرة أنه قال : بلغني أن الله تعالى يعطي عبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة. قال : فقُضي أني انطلقت حاجا أو معتمرا ، فلقيته فقلت : بلغني عنك
__________
(1) في أ : "إن عمك أبا طالب".
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (3883 ، 6208) ومسلم في صحيحه برقم (209).
(3) في د ، ر ، أ : "مسنده".
(4) في ر : "فيها".
(5) مسند الطيالسي برقم (47) "منحة المعبود" ورواه مسلم برقم (2808) من طريق يزيد بن هارون عن همام بن يحيى عن قتادة بنحوه.

(2/305)


حديث أنك تقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله يعطى عبده المؤمن بالحسنة ألف ألف حسنة" قال أبو هريرة : لا بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله عز وجل يعطيه ألفي ألف حسنة" ثم تلا { يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } فمن يقدره قدره (1) (2).
رواه الإمام أحمد فقال : حدثنا يَزِيدُ ، حدثنا مباركُ بن فَضَالَة ، عن علي بن زيد ، عن أبي عثمان قال : أتيت أبا هريرة فقلت له : بلغنى (3) أنك تقول : إن الحسنة تضاعف ألف ألف حسنة ؟ قال : وما أعجبك من ذلك ؟ فوالله لقد سمعت - يعنى النبي صلى الله عليه وسلم - كذا قال أبي - يقول : "إن الله ليضاعف الحسنة ألفى ألف حسنة" (4).
علي بن زيد في أحاديثه نكارة ، فالله أعلم.
وقوله : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } يقول تعالى - مخبرًا عن هول يوم القيامة وشدة أمره وشأنه : فكيف يكون الأمر والحال يوم القيامة وحين (5) يجيء من كل أمة بشهيد - يعني الأنبياء عليهم السلام ؟ كما قال تعالى : { وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ [وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ] (6) } [الزمر : 69] وقال تعالى : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ [وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ وَنزلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ] (7) } [النحل : 89].
قال البخاري : حدثنا محمد بن يُوسُفَ ، حدثنا سفيانُ ، عن الأعْمَشِ ، عن إبراهيمَ ، عن عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال لي النبي صلى الله عليه وسلم "اقرأ علي" قلت : يا رسول الله ، أقرأ عليك وعليك أُنزلَ ؟ قال : "نعم ، إني أحب أن أسمعه من غيري" فقرأت سورة النساء ، حتى أتيت إلى هذه الآية : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } قال : "حسبك الآن" فإذا عيناه تَذْرِفَان.
ورواه هو ومسلم أيضًا من حديث الأعمش ، به (8) وقد رُوي من طرق متعددة عن ابن مسعود ، فهو مقطوع به عنه. ورواه أحمد من طريق أبي حيان ، وأبي رَزِين ، عنه.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو (9) بكر بن أبي الدنيا ، حدثنا الصَّلْتُ بنُ مَسْعُود الجَحْدَري ، حدثنا فُضَيْلُ بن سُلَيْمَانَ ، حدثنا يونُس بنُ محمد بن فضَالَة الأنصاري ، عن أبيه قال - وكان أبي ممن صحب النبي صلى الله عليه وسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم في بني ظَفَر ، فجلس على الصخرة التي في بني ظفر اليوم ، ومعه ابن مسعود ومعاذ بن جبل وناس من أصحابه ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم قارئا فقرأ ، فأتى على هذه الآية : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى
__________
(1) في د ، ر ، أ : "يقدر قدره".
(2) المسند (5/521).
(3) في ر : "إنه بلغني.
(4) المسند (2/296).
(5) في ر : "حين".
(6) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية"
(7) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(8) صحيح البخاري برقم (5050) وصحيح مسلم برقم (800).
(9) في ر : "أبي" وهو خطأ.

(2/306)


اضطرب (1) لحياه وجنباه ، فقال : "يا رب هذا شهدتُ على من أنا بين ظهريه ، فكيف بمن لم أره ؟" (2).
وقال ابن جرير : حدثني عبد الله بن محمد الزهري ، حدثنا سفيان ، عن المسعودي ، عن جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه عن عبد الله - هو ابن مسعود - { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ } قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "شهيد عليهم ما دمت فيهم ، فإذا توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم".
وأما ما ذكره أبو عبد الله القُرْطُبي في "التذكرة" (3) حيث قال : باب (4) ما جاء في شهادة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته : قال : أخبرنا ابن المبارك ، أخبرنارجل من الأنصار ، عن المِنْهَال بنِ عمرٍو ، حدثه أنه سمع سعيد بن المُسَيَّبِ يقول : ليس من يوم إلا تعرض على النبي صلى الله عليه وسلم أمته غُدْوة وعَشيّة ، فيعرفهم بأسمائهم (5) وأعمالهم ، فلذلك يشهد عليهم ، يقول الله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } فإنه أثر ، وفيه انقطاع ، فإن فيه رجلا مبهما لم يسم ، وهو من كلام سعيد بن المسيب لم يرفعه. وقد قبله القرطبي فقال بعد إيراده : [قد تقدم] (6) أن الأعمال تعرض على الله كل يوم إثنين وخميس ، وعلى الأنبياء والآباء والأمهات يوم الجُمُعة. قال : ولا تعارض ، فإنه يحتمل أن يخص نبينا بما يعرض عليه كل يوم ، ويوم الجمعة مع الأنبياء ، عليهم السلام.
وقوله { يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ } أي : لو انشقت وبلعتهم ، مما يرون من أهوال الموقف ، وما يحل بهم من الخزي والفضيحة والتوبيخ ، كقوله : { يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ [وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا] (7) } وقوله { وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } أخبر (8) عنهم بأنهم يعترفون بجميع ما فعلوه ، ولا يكتمون منه شيئا.
قال ابن جرير : حدثنا ابن حُمَيْد ، حدثنا حكَّام ، حدثنا عمرو ، عن مُطرِّف ، عن الْمِنْهِالِ بن عمرو ، عن سعيد بن جُبَيْر قال : أتى رجل ابن عباس فقال : سمعتُ الله ، عز وجل ، يقول - يعني إخبارا عن المشركين يوم القيامة أنهم قالوا - : { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [الأنعام : 23] وقال في الآية الأخرى : { وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } فقال ابنُ العباس : أما قوله : { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهلُ الإسلام قالوا : تعالوا فَلْنَجْحَدْ ، فقالوا : { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } فختم الله على أفواههم ، وتكلمت أيديهم وأرجلهم { وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا }
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن رجل عن المِنْهال بن عمرو ، عن سعيد بن جُبَيْر قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : أشياء تختلف علي في القرآن. قال : ما هو ؟ أشك في القرآن ؟ قال : ليس
__________
(1) في ر : "ضرب".
(2) ورواه البغوي في معجمه ومن طريقه الطبراني في المعجم الكبير (19/243) من طريق الصلت بن مسعود الجحدري به. قال الهيثمي في المجمع (7/4) : "رجاله ثقات".
(3) التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة (ص294).
(4) في أ : "يارب".
(5) في أ : "بسيماهم".
(6) زيادة من ر ، أ ، والتذكرة.
(7) زيادة من ر ، وفي هـ : "الآية".
(8) في ر ، أ : "إخبار".

(2/307)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)

هو بالشك. ولكن (1) اختلاف. قال : فهات ما اختلف عليك من ذلك. قال : أسمع الله يقول : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [الأنعام : 23] وقال { وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } ؛ فقد كتموا! فقال ابن عباس : أما قوله : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } فإنهم لما رأوا يوم القيامة أن الله لا يغفر إلا لأهل الإسلام (2) ويغفر الذنوب ولا يغفر شركا ، ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره ، جحد المشركون ، فقالوا : { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } ؛ رجاء أن يغفر لهم. فختم الله على أفواههم ، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ، فعند ذلك : { يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا }
وقال جُوَيْبِرٌ عن الضَّحَّاك : إن نافِعَ بن الأزْرَقِ أتى ابنَ عباس فقال : يا ابن عباس ، قول الله : { يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } وقوله { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } ؟ فقال له ابن عباس : إني أحسبك قمت من عند أصحابك فقلت ألْقي عَلَى ابن عباس متشابه القرآن. فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن الله جامع الناس يوم القيامة في بقيع واحد. فيقول المشركون : إن الله لا يقبل من أحد شيئا إلا ممن وحده ، فيقولون : تعالوا نَقُلْ فيسألهم فيقولون : { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } قال : فَيُخْتَم على أفواههم ، وتُسْتَنطق (3) جوارحهم ، فتشهد عليهم جوارحُهم أنهم كانوا مشركين. فعند ذلك تَمَنَّوْا لو أن الأرضَ سُوِّيَتْ بِهِم { وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا } رواه ابن جرير.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43) }
ينهى تعالى عباده المؤمنين عن فعل الصلاة في حال السُّكْرِ ، الذي لا يدري معه المصلي ما يقول ، وعن قربان محلها - وهي المساجد - للجُنُب ، إلا أن يكون مجتازا من باب إلى باب من غير مُكْثٍ وقد كان هذا قبل تحريم الخمر ، كما دل الحديث الذي ذكرناه في سورة البقرة ، عند قوله [تعالى] (4) { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ] (5) } الآية [البقرة : 219] ؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلاها على عمر ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فلما نزلت هذه الآية ، تلاها عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا. فكانوا لا يشربون الخمر في أوقات الصلوات (6) فلما نزل (7) قوله[تعالى] (8) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } إلى قوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } [المائدة : 90 ، 91] فقال عمر : انتهينا ، انتهينا.
__________
(1) في ر ، أ : "ولكنه".
(2) في أ : "إن الله يغفر لأهل الإسلام".
(3) في د : "ويستنطق".
(4) زيادة من ر.
(5) زيادة من ر ، أ.
(6) في د : "الصلاة".
(7) في د ، ر : "نزلت".
(8) زيادة من ر.

(2/308)


وفي رواية إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو - وهو ابن شُرَحبيل - عن عُمَرَ بْنِ الْخطَّاب في قصة تحريم الخمر ، فذكر الحديث وفيه : فنزلت الآية التي في ]سورة[ (1) النساء : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قامت (2) الصلاة ينادي : ألا يَقْرَبَنَّ الصلاة سكران. لفظ أبي داود.
وذكروا في سبب نزول هذه الآية ما رواه ابن أبي حاتم (3).
حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود ، حدثنا شُعْبَة ، أخبرني سِمَاكُ بن حَرْبٍ قال : سمعت مُصْعَبَ بنَ سَعْدٍ يحدث عن سعد قال : نزلت في أربعُ آيات : صنع رجل من الأنصار طعاما ، فدعا أناسا من المهاجرين وأناسا من الأنصار ، فأكلنا وشربنا حتى سَكرْنا ، ثم افتخرنا فرفع رجل لَحْي بعير فَفَزَر (4) بها أنف سعد ، فكان سعد مَفْزور (5) الأنف ، وذلك قبل أن تحرم الخمر ، فنزلت : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } الآية.
والحديث بطوله عند مسلم من رواية شُعْبة. ورواه أهلُ السُّنَن إلا ابنَ ماجه ، من طُرُق عن سِماكٍ به (6).
سبب آخر : قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمَّار ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الدَّشْتَكي ، حدثنا أبو جعفر عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن السّلَمي ، عن علي بن أبي طالب قال : صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاما ، فدعانا وسقانا من الخمر ، فأخذت الخمر منا ، وحضرتِ الصلاةُ فقدَّموا فلانا - قال : فقرأ : قل يا أيها الكافرون ، ما أعبد ما تعبدون ، ونحن نعبد ما تعبدون. [قال] (7) فأنزل الله تعالى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ }
هكذا رواه ابن أبي حاتم ، وكذا رواه الترمذي عن عبد (8) بن حُمَيْدٍ ، عن عبد الرحمن الدَّشْتَكي ، به ، وقال : حسن صحيح (9).
وقد رواه ابن جرير ، عن محمد بن بشار ، عن عبد الرحمن بن مَهْدي ، عن سفيانَ الثوري ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن ، عن علي ؛ أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر ، فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ : { قُلْ [يَا] (10) أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } فخلط فيها ، فنزلت : { لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى }.
وهكذا رواه أبو داود والنسائي ، من حديث الثوري ، به. (11)
__________
(1) زيادة من د.
(2) في د ، ر : "أقيمت".
(3) في أ : "ابن جرير".
(4) في د : "فضرب".
(5) في د : "معرور".
(6) صحيح مسلم برقم (1748) وسنن أبي داود برقم (2740) وسنن الترمذي برقم (3079) وسنن النسائي الكبرى برقم (11196) مختصرا ليس فيه ذكر الشاهد هاهنا.
(7) زيادة من ر ، أ.
(8) في أ : "عبد الله".
(9) سنن الترمذي برقم (3026).
(10) زيادة من ر ، أ.
(11) تفسير الطبري (8/376) وسنن أبي داود برقم (3671) وسنن النسائي الكبرى كما في تحفة الأشراف للمزي برقم (10175).

(2/309)


ورواه ابن جَرِير أيضا ، عن ابن حُمَيْدٍ ، عن جَرِيرٍ ، عن عطاء ، عن أبي عبد الله السَّلَمِيّ قال : كان عَلِيٌّ في نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عبد الرحمن بن عوف ، فطعموا فآتاهم بخمر فشربوا منها ، وذلك قبل أن يحرم (1) الخمر ، فحضرت الصلاة فَقَدَّموا عليًا فقرأ بهم : { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } فلم يقرأها كما ينبغي ، فأنزل الله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى }
ثم قال : حدثني المُثَنَّى ، حدثنا الحجَّاج بن المِنْهال ، حدثنا حَمَّاد ، عن عطاء بن السائب ، عن عبد الله بن حبيب - وهو أبو عبد الرحمن السَّلَمي ؛ أن عبد الرحمن بن عَوْفٍ صنع طعامًا وشرابا ، فدعا نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بهم المغرب ، فقرأ : قل يا أيها الكافرون. أعبد ما تعبدون. وأنتم عابدون ما أعبد. وأنا عابد ما عبدتم. لكم دينكم ولي دين. فأنزل الله ، عز وجل ، هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } (2).
وقال الْعَوْفِي عن ابن عباس في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى [حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ] (3) } وذلك أن رجالا كانوا يأتون الصلاة وهم سُكَارَى ، قبل أن تحرم الخمر ، فقال الله : { لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } الآية. رواه ابن جرير. وكذا قال أبو رَزِين ومُجَاهدٌ. وقال عبد الرزاق ، عن معمر عن قتادة : كانوا يجتنبون السُّكْرَ عند حضور الصلوات ثم نسخ بتحريم الخمر.
وقال الضَّحَّاكُ في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } لم يعن بها سُكْرَ الخمر ، وإنما عنى بها سُكْرَ النوم. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
ثم قال ابن جرير : والصواب أن المراد سُكْر الشراب. قال : ولم يتوجه النهي إلى السكْران الذي لا يفهم الخطاب ؛ لأن ذاك في حكم المجنون ، وإنما خُوطِب بالنهي الثَّمِل الذي يفهم التكليف (4).
وهذا حاصل ما قاله. وقد ذكره غير واحد من الأصوليين ، وهو أن الخطاب يتوجه إلى من يفهم الكلام ، دون السكران الذي لا يدري ما يقال له ؛ فإن الفهم شرط التكليف. وقد يحتمل أن يكون المراد التعريض بالنهي عن السُّكْر بالكلية ؛ لكونهم مأمورين بالصلاة في الخمسة الأوقات من الليل والنهار ، فلا يتمكن شارب الخمر من أداء الصلاة في أوقاتها دائما ، والله أعلم. وعلى هذا فيكون كقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [آل عمران : 102] وهو الأمر لهم بالتأهب للموت على الإسلام والمداومة على الطاعة لأجل ذلك.
وقوله : { حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } هذا أحسن ما يقال في حد السكران : إنه الذي لا يدري ما
__________
(1) في ر : "تحرم".
(2) تفسير الطبري (8/376).
(3) زيادة من ر ، أ.
(4) بعدها في أ : "وقد يحتمل أن يكون المراد".

(2/310)


يقول (1) فإن المخمور (2) فيه تخليط في القراءة وعدم تدبره (3) وخشوعه فيها ، وقد قال الإمام أحمد :
حدثنا عبد الصمد ، حدثنا أبي ، حدثنا أيوب ، عن أبي قِلابةَ ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نعس أحدكم وهو يصلي ، فلينصرف فليتم حتى يعلم ما يقول. انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم ، ورواه هو والنسائي من حديث أيوب ، به (4) وفي بعض ألفاظ الحديث (5) فلعله يذهب يستغفر فيسُبّ نفسه.
وقوله : { وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار ، حدثنا عبد الرحمن الدَّشْتَكي ، أخبرنا أبو جعفر الرازي عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس في قوله : { وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } قال : لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل ، قال : تمر (6) به مرًّا ولا تجلس. ثم قال : ورُوي عن عبد الله بن مسعود ، وأنس ، وأبي عُبَيْدَةَ ، وسعيد بن المُسَيَّبِ ، وأبي الضُّحَى ، وعطاء ، ومُجَاهد ، ومسروق ، وإبراهيم النَّخَعي ، وزيد بن أسلم ، وأبي مالك ، وعَمْرو بن دينار ، والحكم بن عُتَيْبَة (7) وعِكْرِمَة ، والحسن البصري ، ويَحْيَى بن سعيد الأنصاري ، وابن شهاب ، وقتادَة ، نحوُ ذلك.
وقال ابن جرير : حدثني المُثَنَّى ، حدثنا أبو صالح ، حدثني اللَّيْثُ ، حدثني يَزِيدُ بن أبي حَبِيبٍ عن قول الله عز وجل (8) { وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ } أن رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد ، فكانت تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم ، فيردون الماء ولا يجدون ممرا إلا في المسجد ، فأنزل الله : { وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ }
ويشهد لصحة ما قاله يزيد بن أبي حَبِيبٍ ، رحمه اللهُ ، ما ثبت في صحيح البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "سُدُّوا كل خَوخة في المسجد إلا خَوخةَ أبي بكر" (9).
وهذا قاله في آخر حياته صلى الله عليه وسلم ، علما منه أن أبا بكر ، رضي الله عنه ، سيلي الأمر بعده ، ويحتاج إلى الدخول في المسجد كثيرا للأمور المهمة فيما يصلح للمسلمين ، فأمر بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد إلا بابه ، رضي الله عنه. ومن روى : "إلا باب علي" كما وقع في بعض السنن ، فهو خطأ ، والصحيح. ما ثبت في الصحيح. ومن هذه الآية احتج كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب اللبث في المسجد ، ويجوز له المرور ، وكذا الحائض والنفساء أيضًا في معناه ؛ إلا أن بعضهم قال : يمنع مرورهما لاحتمال التلويث. ومنهم من قال : إن أمنت كل واحدة منهما التلويث في حال المرور جاز لهما المرور وإلا فلا.
وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة ، رضي الله عنها قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ناوليني
__________
(1) في أ : "يقولون".
(2) في د ، ر : "المحذور".
(3) في ر ، أ : "تدبره له".
(4) المسند (3/150) وصحيح البخاري برقم (213) وسنن النسائي (1/215).
(5) في د : "ألفاظه".
(6) في د : "مر".
(7) في أ : "عيينة".
(8) في أ : "في قوله تعالى".
(9) صحيح البخاري برقم (298).

(2/311)


الخُمْرة من المسجد" فقلت : إني حائض. فقال : "إن حيضتك ليست في يدك". وله عن أبي هريرة مثله (1) ففيه دلالة على جواز مرور الحائض في المسجد ، والنفساء في معناها والله أعلم.
وروى أبو داود من حديث أفْلَتَ بن خليفة (2) العامري ، عن جَسْرة بنت دجاجة ، عن عائشة ]رضي الله عنها[ (3) قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إني لا أحلّ المسجد لحائض ولا جنبٍ" (4) قال أبو مسلم الخَطَّابي : ضَعَّف هذا الحديث جماعة وقالوا : أفلت مجهول. لكن رواه ابن ماجه من حديث أبي الخطاب الهَجَري ، عن مَحْدوج (5) الذهلي ، عن جَسْرة ، عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، به. قال أبو زرعة الرازي : يقولون : جسْرة عن أم سلمة. والصحيح جسرة عن عائشة.
فأما ما رواه أبو عيسى الترمذي ، من حديث سالم بن أبي حفصة ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخُدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا علي ، لا يحل لأحد أن يُجْنب في هذا المسجد غيري وغيرك. إنه حديث ضعيف لا يثبت ؛ فإن سالما هذا متروك ، وشيخه عطية ضعيف (6) والله أعلم.
قول آخر في معنى الآية : قال ابن أبي حاتم : حدثنا المنذر بن شاذان ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، أخبرني ابن أبي ليلى ، عن المنهال ، عن زِرّ بن حُبَيش ، عن علي : { وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ } قال : لا يقرب الصلاة ، إلا أن يكون مسافرا تصيبه الجنابة ، فلا يجد الماء فيصلي حتى يجد الماء.
ثم رواه من وجه آخر ، عن المنهال بن عمرو ، عن زِرّ ، عن علي بن أبي طالب ، فذكره. قال : ورُوي عن ابن عباس في إحدى الروايات وسعيد بن جبير ، والضحاك ، نحو ذلك.
وقد روى ابن جَرير من حديث وَكِيع ، عن ابن أبي ليلى ، عن المِنْهال ، عن عَبّادِ بن عبدِ اللهِ أو عن زر بن حُبَيش - عن علي فذكره. ورواه من طريق الْعَوْفي وأبي مِجْلَزِ ، عن ابن عباس ، فذكره. ورواه عن سعيد بن جُبَيْرٍ ، وعن مجاهد ، والحسن بن مُسْلِمٍ ، والحكم بن عُتَيْبَةَ وزيدِ بن أَسْلَمَ ، وابنِهِ عبد الرَّحمنِ ، مثل ذلك ، وروي من طريق ابن جُرَيْج ، عن عبد الله بن كَثِير قال : كنَّا نسمع أنه في السفر.
ويُسْتَشهد لهذا القول بالحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، من حديث أبي قِلابة ، عن عَمْرو بن بُجْدَان عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الصعيدُ الطَّيِّب طَهُورُ المسلم ، وإن لم تجد (7) الماء عشر حججٍ ، فإذا وجدت الماء فأمْسسْه بشرتَك فإن ذلك خير" (8).
__________
(1) صحيح مسلم برقم (298) ومن حديث أبي هريرة برقم (299).
(2) في ر : "خليقة".
(3) زيادة من أ.
(4) سنن أبي داود برقم (232) وسنن ابن ماجه برقم (645) من حديث أم سلمة. قال البوصيري في الزوائد (1/230) : "هذا إسناد ضعيف ، محدوج لم يوثق ، وأبو الخطاب مجهول".
(5) في أ : "مجدوح".
(6) سنن الترمذي برقم (3727).
(7) في د ، ر : "يجد".
(8) المسند (5/180) وسنن أبي داود برقم (332) وسنن الترمذي برقم (124) وسنن النسائي (1/171).

(2/312)


ثم قال (1) ابن جرير - بعد حكايته القولين - : والأوْلَى قول من قال : { وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ } إلا مجتازي طريق فيه. وذلك أنه قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب في قوله : أو { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنْكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا (2) } [المائدة : 6] إلى آخره. فكان معلوما بذلك أن قوله : { وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } لو كان معنيا به المسافر ، لم يكن لإعادة ذكره في قوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ } معنى مفهوم ، وقد مضى حكم ذكره قبل ذلك ، فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ، ولا تقربوها أيضا جنبا حتى تغتسلوا ، إلا عابري سبيل. قال : والعابر (3) السبيل : المجتاز مَرّا وقطعا. يقال منه : "عبرت هذا الطريق فأنا أعبُره عبرا وعبورا" ومنه قيل : "عبر فلان النهر" إذا قطعه وجاوزه. ومنه قيل للناقة القوية على الأسفار : هي عُبْرُ أسفار وعَبْر أسفار ؛ لقوتها على قطع الأسفار.
وهذا الذي نصره هو قولُ الجمهور ، وهو الظاهر من الآية ، وكأنه تعالى نهى عن تعاطي الصلاة على هيئة ناقصة تناقض مقصودها ، وعن الدخول إلى محلها على هيئة ناقصة ، وهي الجنابة المباعدة للصلاة ولمحلها أيضا ، والله أعلم.
وقوله : { حَتَّى تَغْتَسِلُوا } دليل لما ذهب إليه الأئمة الثلاثة : أبو حنيفة ومالك والشافعي : أنه يحرم على الجنب المكث في المسجدِ حتى يغتسل أو يتيمم ، إن عدم الماء ، أو لم يقدر على استعماله بطريقة. وذهب الإمام أحمد إلى أنه متى توضأ الجنب جاز له المكث في المسجدِ ، لما روى (4) هو وسعيد بن منصور في سننه بإسناد صحيح : أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك ؛ قال سعيد بن منصور :
حدثنا عبد العزيز بن محمد - هو (5) الدرَاوَرْدِي - عن هِشَام بنِ سَعْدٍ ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يَسَار قال : رأيت رجالا (6) من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون (7) إذا توضؤوا وضوء الصلاة ، وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم ، فالله (8) أعلم.
وقوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } أما المرض المبيح للتيمم ، فهو الذي يخاف معه من استعمال الماء فواتُ عضو أو شَيْنه أو تطويل البُرء. ومن العلماء من جَوّز التيمم بمجرد المرض لعموم الآية. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو غسَّان مالكُ بن إسماعيل ، حدثنا قيس عن خَصِيف (9) عن مجاهد في قوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى } قال : نزلت في رجل من الأنصار ، كان مريضا فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ ، ولم يكن له خادم فيناوله ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فأنزل الله هذه الآية.
هذا مرسل. والسفر معروف ، ولا فرق فيه بين الطويل والقصير.
__________
(1) في أ : "وقال".
(2) زيادة من ر ، أ.
(3) في ر : "فالعابر".
(4) في أ : "رواه".
(5) في أ : "وهو".
(6) في أ : "رجلا" وهو خطأ.
(7) في أ : "مجتنبون".
(8) في أ : "والله".
(9) في أ : "حصيف".

(2/313)


وقوله : { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ } الغائط : هو المكان المطمئن من الأرض ، كنى بذلك عن التغوط ، وهو الحدث الأصغر.
وأما قوله : { أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ } فقرئ : "لَمَسْتم" و"لامستم" واختلف المفسرون والأئمة في معنى ذلك ، على قولين :
أحدهما : "أن ذلك كناية عن الجماع ؛ لقوله { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } [البقرة : 237] وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } [الأحزاب : 49].
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وَكِيع ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : { أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَاءَ } قال : الجماع. ورُوي عن علي ، وأبيّ بن كعب ، ومجاهد ، وطاوس ، والحسن ، وعُبَيد بن عمير ، وسعيد بن جبير ، والشَّعْبي ، وقتادة ، ومقاتل بن حيَّان - نحوُ ذلك.
وقال ابن جرير : حدثني حُمَيد بن مَسْعَدةَ ، حدثنا يزيد بن زُرَيع ، حدثنا شُعبة ، عن أبي بِشْر ، عن سعيد بن جبير قال : ذكروا اللمس ، فقال ناس من الموالي : ليس بالجماع. وقال ناس من العرب : اللمس الجماع : قال : فأتيت ابن عباس فقلت له : إن ناسا من الموالي والعرب اختلفوا في اللمس ، فقالت الموالي. ليس بالجماع. وقالت العرب : الجماع. قال : من أيّ الفريقين كنت ؟ قلت : كنت من الموالي. قال : غُلب فريقُ الموالي. إن اللمس والمس والمباشرة : الجماع ، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء.
ثم رواه عن ابن بشَّار ، عن غُنْدَر ، عن شعبة - به نحوه. ثم رواه من غير وجه عن سعيد بن جبير ، نحوه.
ومثله قال : حدثني يعقوب ، حدثنا هشيم قال : حدثنا أبو بشر ، أخبرنا (1) سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : اللمس والمس والمباشرة : الجماع ، ولكن الله يكني بما يشاء.
حدثنا عبد الحميد بن بيان ، أنبأنا إسحاق الأزرق ، عن سفيان ، عن عاصم الأحول ، عن بكر بن عبد الله ، عن ابن عباس قال : الملامسة : الجماع ، ولكن الله كريم يكني بما يشاء.
وقد صح (2) من غير وجه ، عن عبد الله بن عباس أنه قال ذلك. ثم رواه ابن جرير عن بعض من حكاه ابن أبي حاتم عنهم.
ثم قال ابن جرير : وقال آخرون : عنى الله بذلك كل لمس بيد كان أو بغيرها من أعضاء الإنسان ، وأوجب الوضوء على كل من مس بشيء من جسده شيئا من جسدها مفضيًا إليه.
ثم قال : حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان عن مُخَارقٍ ، عن طارق (3) عن
__________
(1) في ر : "أخبرني عن".
(2) في أ : "صح هذا".
(3) في أ : "طاوس".

(2/314)


عبد الله بن مسعود قال : اللمس ما دون الجماع.
وقد رواه من طرق متعددة عن ابن مسعود بمثله. وروي من حديث الأعمش ، عن إبراهيم ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود قال : القبلة من المس ، وفيها الوضوء.
وقال : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عُبَيد الله (1) بن عمر ، عن نافع : أن ابن عمر كان يتوضأ من قبلة المرأة ، ويرى (2) فيها الوضوء ، ويقول : هي من اللماس.
وروى ابن أبي حاتم وابن جرير أيضا من طريق شعبة ، عن مخارق ، عن طارق ، عن عبد الله قال : اللمس ما دون الجماع.
ثم قال ابن أبي حاتم : ورُوي عن ابن عمر ، وعبيدة ، وأبي عثمان النَّهْدي وأبي عبيدة - يعني ابن عبد الله بن مسعود - وعامر الشَّعْبي ، وثابت بن الحجَّاج ، وإبراهيم النَّخَعي ، وزيد بن أسلم نحو ذلك.
قلت : وروى مالك ، عن الزهري ، عن سالم بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه أنه كان يقول : قبلة الرجل امرأته وجَسَّه بيده من الملامسة ، فمن قَبّل امرأته أو جسها بيده ، فعليه الوضوء.
وروى الحافظ أبو الحسن الدارقُطْني [في سننه] (3) عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب نحو ذلك. ولكن رَوَيْنا عنه من وجه آخر : أنه كان يقبل امرأته ، ثم يصلي ولا يتوضأ. فالرواية عنه مختلفة ، فيحمل (4) ما قاله في الوضوء إن صح عنه على الاستحباب ، والله أعلم.
والقول بوجوب الوضوء من المس هو قول الشافعي وأصحابه ومالك والمشهور عن أحمد بن حنبل ، رحمهم الله ، قال ناصر هذه المقالة : قد قرئ في هذه الآية { لامَسْتُمُ } { ولمستم } واللمس يطلق في الشرع على الجس باليد قال ]الله[ (5) تعالى : { وَلَوْ نزلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } [الأنعام : 7] ، أي جسوه (6) وقال [رسول الله] (7) صلى الله عليه وسلم لماعز - حين أقر بالزنا يُعرض له بالرجوع عن الإقرار - : "لعلك قبلت أو لمست" (8) وفي الحديث الصحيح : "واليد زناها اللمس" وقالت عائشة ، رضي الله عنها : قَلّ يوم إلا ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم يطوف علينا ، فيقبّل ويلمس. ومنه ما ثبت في الصحيحين : أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الملامسة (9) وهو يَرْجع إلى الجس باليد على كلا التفسيرين قالوا : ويطلق في اللغة على الجس باليد ، كما يطلق على الجماع ، قال الشاعر :
وألمستُ كَفي كفَّه أطلب الغِنَى...
__________
(1) في د ، ر : "عبد الله" والصحيح ما أثبتناه.
(2) في أ : "وهو يرى".
(3) زيادة من ر ، أ.
(4) في أ : "فيحتمل".
(5) زيادة من ر ، أ.
(6) في ر ، أ : "مسوه".
(7) زيادة من أ.
(8) رواه البخاري في صحيحه برقم (6824) وأبو داود في سننه برقم (4427) وأحمد في مسنده (1/238) من حديث عبد الله بن عباس.
(9) صحيح البخاري برقم (2146) وصحيح مسلم برقم (1511).

(2/315)


واستأنسوا أيضا بالحديث الذي رواه الإمام أحمد : حدثنا عبد الله (1) بن مهدي وأبو سعيد قالا حدثنا زائدة ، عن عبد الملك بن عمير - وقال أبو سعيد : حدثنا عبد الملك بن عُمَير ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن معاذ قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال : يا رسول الله ، ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها ، فليس (2) يأتي الرجل من امرأته شيء إلا أتاه منها ، غير أنه لم يجامعها ؟ قال : فأنزل الله عز وجل هذه الآية : { وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } [هود : 114] قال : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "توضأ ثم صَلِّ". قال معاذ : فقلت : يا رسول الله ، أله خاصة أم للمؤمنين عامة ؟ قال : "بل للمؤمنين عامة".
ورواه الترمذي من حديث زائدة (3) به ، وقال : ليس بمتصل. وأخرجه النسائي من حديث شعبة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى مرسلا (4).
قالوا : فأمره بالوضوء ؛ لأنه لمس المرأة ولم يجامعها. وأجيب بأنه منقطع بين أبي ليلى ومعاذ ، فإنه لم يلقه ، ثم يحتمل أنه إنما أمره بالوضوء والصلاة للتوبة ، كما تقدم في حديث الصدِّيق [رضي الله عنه] (5) ما من عبد يذنب ذنبا فيتوضأ ويصلي ركعتين إلا غفر الله له" الحديث ، وهو مذكور في سورة آل عمران عند قوله : { ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ[وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ] (6) } الآية [آل عمران : 135].
ثم قال ابن جرير : وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : عنى الله بقوله : { أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ } الجماع دون غيره من معاني اللمس ، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قَبّل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ ، ثم قال : حدثني بذلك إسماعيل بن موسى السدي قال : أخبرنا أبو بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عروة عن عائشة قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ ثم يقبل ، ثم يصلي ولا يتوضأ (7).
ثم قال : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا وَكِيع ، عن الأعمش ، عن حبيب ، عن عروة ، عن عائشة ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قَبّل بعض نسائه ، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ ، قلت : من هي إلا أنت ؟ فضحكت.
وهكذا رواه أبو داود والترمذي ، وابن ماجه عن جماعة من مشايخهم ، عن وكيع ، به (8).
ثم قال أبو داود : روي عن الثوري أنه قال : ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزَنيّ ، وقال يحيى القطَّان لرجل : احك عني أن هذا الحديث شبه لا شيء.
__________
(1) في ر ، أ : "عبد الرحمن".
(2) في أ : "وليس".
(3) المسند (5/244) وسنن الترمذي برقم (3113).
(4) رواه النسائي في الكبرى برقم (7328) لكنه موصول ، وذكره المزي في تحفة الأشراف برقم (11343) وعزاه للنسائي مرسلا ، والله أعلم.
(5) زيادة من أ.
(6) زيادة من د ، أ.
(7) تفسير الطبري (8/396).
(8) تفسير الطبري (8/396) وسنن أبي داود برقم (180) وسنن الترمذي برقم (86) وسنن ابن ماجه برقم (502).

(2/316)


وقال الترمذي : سمعت البخاري يضعف هذا الحديث وقال : حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عُرْوَة.
وقد وقع في رواية ابن ماجه : عن أبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد الطنافسي ، عن وكيع عن الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة.
وأبلغ من ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده ، من حديث هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة (1) وهذا نص في كونه عروة بن الزبير ، ويشهد له قوله : من هي إلا أنت ، فضحكت (2).
لكن روى أبو داود ، عن إبراهيم بن مَخْلد الطَّالْقاني ، عن عبد الرحمن بن مَغْراء ، عن الأعمش قال : حدثنا أصحاب لنا عن عروة المزني عن عائشة (3) فذكره ، والله أعلم.
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا أبو زيد عمر بن شَبَّةَ ، عن (4) شهاب بن عبَّاد ، حدثنا مَنْدَل بن علي ، عن ليث ، عن عطاء ، عن عائشة - وعن أبي رَوْق ، عن إبراهيم التَّيمي ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينال مني القبلةَ بعد الوضوء ، ثم لا يعيد الوضوء (5).
وقال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن أبي روق الهمْدَاني ، عن إبراهيم التيمي ، عن عائشة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ثم صلى ولم يتوضأ.
[و] (6) رواه أبو داود والنسائي من حديث يحيى القطان - زاد أبو داود : وابن مهدي - كلاهما عن سفيان الثوري به. (7) ثم قال أبو داود ، والنسائي : لم يسمع إبراهيم التيمي من عائشة.
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا سعيد (8) بن يحيى الأموي ، حدثنا أبي ، حدثنا يزيد بن سِنَان ، عن عبد الرحمن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أم سلمة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم ، ثم لا يفطر ، ولا يحدث وضوءًا (9).
وقال أيضا : حدثنا أبو كريب ، حدثنا حفص بن غِياث ، عن حجاج ، عن عمرو بن شعيب ، عن زينب السَّهْمِية عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه كان يُقَبّل ثم يصلي ولا يتوضأ.
وقد رواه الإمام أحمد ، عن محمد بن فُضَيل ، عن حجاج بن أَرْطَاة ، عن عمرو بن شعيب ، عن زينب السهمية ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، به (10).
__________
(1) في أ : "عائشة به".
(2) المسند (6/210) لكنه من طريق حبيب بن أبي ثابت عن عروة به.
(3) في ر : "عروة".
(4) في أ : "حدثنا".
(5) تفسير الطبري (8/397).
(6) زيادة من أ.
(7) المسند (6/210) وسنن أبي داود برقم (178) وسنن النسائي (1/39).
(8) في أ : "سعد".
(9) تفسير الطبري (8/399) ورواه الطبراني في الأوسط برقم (436) "مجمع البحرين" من طريق سعيد بن يحيى الأموي به. قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/247) : "فيه يزيد بن سنان الرهاوى ضعفه أحمد ويحيى وابن المدينى ، ووثقه البخاري وأبو حاتم ، وثبته مروان بن معاوية وبقية رجاله موثقون".
(10) تفسير الطبري (8/397) والمسند (6/62).

(2/317)


وقوله : { فَإِنْ لَمْ (1) تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } استنبط كثير من الفقهاء من هذه الآية : أنه لا يجوز التيمم لعادم الماء إلا بعد تطلبه ، فمتى طلبه فلم يجده جاز له حينئذ التيمم. وقد ذكروا كيفية الطلب في كتب الفروع ، كما هو مقرر في موضعه ، كما هو (2) في الصحيحين ، من حديث عِمران بن حصين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا معتزلا لم يصل في (3) القوم ، فقال : "يا فلان ، ما منعك أن تصلي مع القوم ؟ ألست برجل مسلم ؟" قال : بلى يا رسول الله ، ولكن أصابتني جنابة ولا ماء. قال : "عليك بالصعيد ، فإنه يكفيك". (4)
ولهذا قال تعالى : { فَإِنْ لَمْ (5) تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } فالتيمم في اللغة هو : القصد. تقول العرب : تيممك (6) الله بحفظه ، أي : قصدك. ومنه قول امرئ القيس (7) وَلَمَّا رَأتْ (8) أنَّ المَنِية ورِدُها... وأن الحصَى من تحت أقدامها دَامِ...
تيممت العين التي عند ضارج... يفيء عليها الفيء عَرْمَضها طام...
والصعيد قيل : هو كل ما صعد على وجه الأرض ، فيدخل فيه التراب ، والرمل ، والشجر ، والحجر ، والنبات ، وهو قول مالك. وقيل : ما كان من جنس التراب فيختص التراب والرمل والزرنيخ ، والنورة ، وهذا مذهب أبي حنيفة. وقيل : هو التراب فقط ، وهو مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهما ، واحتجوا بقوله تعالى : { فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا } [الكهف : 40] أي : ترابا أملس طيبا ، وبما ثبت في صحيح مسلم ، عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدًا ، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء" (9) وفي لفظ : "وجعل ترابها لنا طهورا إذا لم نجد الماء". قالوا : فخصص الطهورية بالتراب في مقام الامتنان ، فلو كان غيره يقوم مقامه لذكره معه.
والطيب هاهنا قيل : الحلال. وقيل : الذي ليس بنجس. كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا ابن ماجه ، من حديث أبي قلابة عن عمرو بن بُجْدان (10) عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الصعيد الطيب طهور المسلم ، وإن لم يجد الماء عشر حجج ، فإذا وجده ، (11) فليمسه بَشرته ، فإن ذلك خير له".
وقال الترمذي : حسن صحيح : وصححه ابن حبان أيضا (12) ورواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده عن أبي هريرة (13) وصححه الحافظ أبو الحسن القطان. وقال ابن عباس : أطيب الصعيد تراب
__________
(1) في ر ، أ : "فلم".
(2) في أ : "ورد".
(3) في أ : "مع".
(4) صحيح البخاري برقم (348) وصحيح مسلم برقم (682).
(5) في أ : "فلم".
(6) في ر ، أ : "نواك".
(7) البيت في لسان العرب لابن منظور ، مادة (ضرج ).
(8) في ر : "رأيت".
(9) صحيح مسلم برقم (522).
(10) في أ : "نجدان".
(11) في ر ، أ : "فإذا وجد الماء".
(12) سبق تخريجه ، ورواه ابن حبان في صحيحه (2/303) "الإحسان".
(13) مسند البزار برقم (310) ، "كشف الأستار" ، وقال الهيثمي في المجمع (1/261) : "رواه البزار وقال : لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه قلت : ورجاله رجال الصحيح".

(2/318)


الحرث. رواه ابن أبي حاتم ، ورفعه ابن مَرْدويه في تفسيره (1).
وقوله : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } التيمم بدل عن الوضوء في التطهر (2) به ، لا أنه بدل منه في جميع أعضائه ، بل يكفي مسح الوجه واليدين فقط بالإجماع ، ولكن (3) اختلف الأئمة في كيفية التيمم على أقوال.
أحدها - وهو مذهب الشافعي في الجديد - : أنه يجب أن يمسح الوجه واليدين إلى المرفقين بضربتين ؛ لأن لفظ اليدين يصدق إطلاقهما على ما يبلغ المنكبين ، وعلى ما يبلغ المرفقين ، كما في آية الوضوء ، ويطلق ويراد بهما ما يبلغ الكفين ، كما في آية السرقة : { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } [المائدة : 38] قالوا : وحمل ما أطلق هاهنا على ما قيد في آية الوضوء أولى لجامع (4) الطهورية. وذكر بعضهم ما رواه الدارقطني ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "التيمم ضربتان : ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين". ولكن لا يصح ؛ لأن في أسانيده ضعفاء لا يثبت الحديث بهم (5) وروى أبو داود عن ابن عمر - في حديث - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب بيديه على الحائط ومسح بهما وجهه ، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح بها ذراعيه.
ولكن في إسناده محمد بن ثابت العَبْدي ، وقد ضعفه بعض الحفاظ ، ورواه غيره من الثقات فوقفوه على فعل ابن عمر ، قال البخاري وأبو زرعة وابن عَدِي : هو الصواب. وقال البيهقي : رفع هذا الحديث منكر (6) (7).
واحتج الشافعي بما رواه عن إبراهيم بن محمد عن أبي الحويرث عن عبد الرحمن بن معاوية ، عن الأعرج ، عن ابن الصَّمَّة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تيمم فمسح وجهه وذراعيه. (8)
وقال ابن جرير : حدثني موسى بن سهل الرملي ، حدثنا نعيم بن حَمَّاد ، حدثنا خارجةُ بن مُصْعب ، عن عبد الله بن عطاء ، عن موسى بن عُقْبة ، عن الأعرج ، عن أبي جُهيم (9) قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبول ، فسلمت عليه ، فلم يرد علي حتى فرغ ، ثم قام إلى الحائط (10) فضرب بيديه عليه ، فمسح بهما وجهه ، ثم ضرب بيديه على الحائط فمسح بهما يديه إلى المرفقين ، ثم رد علي السلام (11).
__________
(1) ورواه الشيرازي في الألقاب كما في الدر المنثور للسيوطي (2/551).
(2) في ر : "الطهر".
(3) في أ : "واختلف".
(4) في أ : "بجماع".
(5) سنن الدارقطني (1/180) من طريق عبد الله بن الحسين عن عبد الرحيم بن مطرف عن علي بن ظبيان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر ، به. ثم قال : "كذا رواه علي بن ظبيان مرفوعًا ، ووقفه يحيى بن القطان وهشيم وغيرهما ، وهو الصواب".
(6) في ر ، أ : "غير منكر".
(7) سنن أبي داود برقم (331).
(8) الأم للشافعي (1/42).
(9) في أ : "جهيمة".
(10) في أ : "حائط".
(11) تفسير الطبري (8/416).

(2/319)


والقول الثاني : إنه يجب مسح الوجه واليدين إلى الكفين بضربتين ، وهو القول القديم للشافعي.
والثالث : أنه يكفي مسح الوجه والكفين بضربة واحدة ؛ قال الإمام أحمد :
حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة عن الحكم ، عن ذَرّ ، عن ابن عبد الرحمن بن أبزى ، عن أبيه ؛ أن رجلا أتى عمر فقال : إني أجنبت فلم أجد ماء ؟ فقال عمر : لا تصل. فقال عمار : أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماء ، فأما أنت فلم تصل ، وأما أنا فتمعكت في التراب فصليت ، فلما أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له ، فقال : "إنما كان يكفيك". وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده الأرض ، ثم نفخ فيها ومسح بها (1) وجهه وكفيه (2).
وقال أحمد أيضا : حدثنا عفَّان ، حدثنا أبان ، حدثنا قتادة ، عن عَزْرَة (3) عن سعيد بن عبد الرحمن بن أَبْزى ، عن أبيه ، عن عمار ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في التيمم : "ضربة للوجه والكفين" (4).
طريق أخرى : قال أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا عبد الواحد ، حدثنا سليمان الأعمش ، حدثنا شقيق قال : كنت قاعدا مع عبد الله وأبي موسى فقال أبو موسى لعبد الله : لو أن رجلا لم يجد الماء لم يصل ؟ فقال عبد الله : لا. فقال أبو موسى : أما تذكر إذ قال عمَّار لعمر : ألا تذكر إذ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وإياك في إبل ، فأصابتني جنابة ، فتمرغت في التراب ؟ فلما رجعتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته ، فضحك وقال : "إنما كان يكفيك أن تقول هكذا" ، وضرب بكفيه إلى الأرض ، ثم مسح كفيه جميعا ، ومسح وجهه مسحة واحدة بضربة واحدة ؟ فقال عبد الله : لا جرم ، ما رأيت عمر قنع بذاك قال : فقال له أبو موسى : فكيف بهذه الآية في سورة النساء : { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيًدا طَيِّبًا } ؟ قال : فما درى عبد الله ما يقول ، وقال : لو رخصنا لهم في التيمم لأوشك أحدهم إذا برد الماء على جلده أن يتيمم (5).
وقال تعالى في آية المائدة : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } [المائدة : 6] ، استدل بذلك الشافعي ، رحمه الله تعالى ، على أنه لا بد في التيمم أن يكون بتراب طاهر له غبار يعلق بالوجه واليدين منه شيء ، كما رواه الشافعي بإسناده المتقدم عن ابن الصمة : أنه مَرّ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول ، فسلم عليه فلم يرد عليه ، حتى قام إلى جدار فحته بعصا كانت معه ، فضرب بيده عليه ثم مسح بها وجهه وذراعيه.
وقوله : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ } أي : في الدين الذي شَرَعه لكم { وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } فلهذا أباح إذا لم تجدوا الماء أن تعدلوا إلى التيمم بالصعيد { وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَةُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
ولهذا كانت هذه الأمة مختصة بشرعية التيمم دون سائر الأمم ، كما ثبت في الصحيحين ، عن جابر بن عبد الله ، رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أعطِيتُ خمسا لم يُعْطَهُنَّ أحدٌ قَبْلي :
__________
(1) في أ : "بهما".
(2) المسند (4/265).
(3) في أ : "عروة".
(4) المسند (4/263).
(5) المسند (4/265).

(2/320)


نُصِرتُ بالرُّعبِ مَسِيرةَ شهر وجعلتْ لي الأرض مسجدًا وطهورًا ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل - وفي لفظ : فعنده طَهُورُه مسجده - وأحِلَّتْ لي الغنائم ولم تَحِلَّ لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة" (1).
وتقدم في حديث حذيفة عند مسلم : "فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض مسجدا ، وتربتها (2) طهورا إذا لم نجد الماء".
وقال تعالى في هذه الآية الكريمة : { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا } أي : ومن عفوه عنكم وغَفره لكم أن شرع (3) التيمم ، وأباح لكم فعل الصلاة به إذا فقدتم (4) الماء توسعة عليكم ورخصة لكم ، وذلك أن هذه الآية الكريمة فيها تنزيه الصلاة أن تفعل على هيئة ناقصة من سكر حتى يصحو المكلف ويعقل ما يقول ، أو جنابة حتى يغتسل ، أو حدث حتى يتوضأ ، إلا أن يكون مريضا أو عادما للماء ، فإن الله ، عز وجل ، قد أرخص في التيمم والحالة هذه ، رحمة بعباده ورأفة بهم ، وتوسعة عليهم ، ولله الحمد والمنة.
ذكر سبب نزول مشروعية التيمم :
وإنما ذكرنا ذلك هاهنا ؛ لأن هذه الآية التي في النساء متقدمة النزول على آية المائدة ، وبيانه أن هذه نزلت قبل تحتم تحريم الخمر ، والخمر إنما حرم بعد أحد ، يقال : في محاصرة النبي صلى الله عليه وسلم لبني النضير بعد أحد بيسير ، وأما المائدة فإنها من أواخر ما نزل ، ولا سيما صدرها ، فناسب أن يذكر السبب هاهنا ، وبالله الثقة.
قال الإمام أحمد : حدثنا ابن نمير ، حدثنا هشام ، عن أبيه ، عن عائشة : أنها استعارت من أسماء قلادة ، فهلكت ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا في طلبها فوجدوها ، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء ، فصلوها بغير وضوء ، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله آية التيمم ، فقال أسيد بن الحضير لعائشة : جزاك الله خيرا ، فوالله ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل الله لك وللمسلمين فيه خيرا (5).
طريق أخرى : قال البخاري : حدثنا عبد الله بن يوسف ، أنبأنا مالك ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره ، حتى إذا كنا في البيداء (6) - أو بذات الجيش - انقطع عقد لي ، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه ، وأقام الناس معه ، وليسوا على ماء وليس معهم ماء ، فأتى الناس إلى أبي بكر فقالوا : ألا ترى ما صنعت عائشة ؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس ، وليسوا على ماء وليس معهم ماء! فجاء أبو بكر ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام ، فقال : حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ، وليسوا على ماء وليس معهم ماء! قالت عائشة : فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول ، وجعل يطعن بيده في خاصرتي ، ولا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير
__________
(1) صحيح البخاري برقم (335) وصحيح مسلم برقم (521).
(2) في أ : "وترابها".
(3) في أ : "يشرع".
(4) في أ : "فقد".
(5) المسند (6/57).
(6) في أ : "بالبيداء".

(2/321)


ماء ، فأنزل الله آية التيمم فتيمموا ، فقال أسيد بن الحضير : ما هي بأول بَركتكم يا آل أبي بكر. قالت : فبعثنا البعير الذي كنت عليه ، فوجدنا العقد تحته.
وقد رواه البخاري أيضًا عن قُتيبة وإسماعيل. ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى ، عن مالك (1).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن صالح قال : قال ابن شهاب : حدثني عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن عمار بن ياسر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرس بأولات الجيش ومعه عائشة زوجته ، فانقطع عقد لها من جَزْع ظَفَار ، فحبس الناس ابتغاء عقدها ، وذلك حتى أضاء الفجر ، وليس مع الناس ماء ، فأنزل الله ، عز وجل ، على رسوله صلى الله عليه وسلم رخصة التطهر بالصعيد الطيب ، فقام المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربوا بأيديهم الأرض ، ثم رفعوا أيديهم ولم يقبضوا من التراب شيئا ، فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب ، ومن بطون أيديهم إلى الآباط (2).
وقد رواه ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا صيفى ، عن ابن أبي ذئب ، ]عن الزُّهْرى[ (3) عن عبيد الله بن عبد الله ، عن أبي اليقظان قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهلك عقد لعائشة ، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أضاء الفجر (4) فتغيّظ أبو بكر على عائشة ]رضي الله عنها[ (5) فنزلت عليه الرخصة : المسح بالصعيد الطيب. فدخل أبو بكر فقال لها : إنك لمباركة! نزلت فيك رخصة! فضربنا بأيدينا ضربة لوجوهنا ، وضربة لأيدينا إلى المناكب والآباط. (6)
حديث آخر : قال الحافظ أبو بكر بن مَرْدويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا الحسن بن أحمد حدثنا الليث حدثنا محمد بن مرزوق ، حدثنا العلاء (7) بن أبي سوية ، حدثني الهيثم عن زُرَيق (8) المالكي - من بني مالك بن كعب بن سعد ، وعاش مائة وسبع عشرة سنة - عن أبيه ، عن الأسلع بن شريك قال : كنت أُرَحِّل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابتني جنابة في ليلة باردة ، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحلة ، فكرهت أن أرحل ناقتة وأنا جنب ، وخشيت أن أغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض ، فأمرت رجلا من الأنصار فرحلها ، ثم رضَفت أحجارًا فأسخنت بها ماء ، فاغتسلت. ثم لحقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقال : "يا أسلع ، مالي أرى رحلتك تغيرت ؟" قلت : يا رسول الله ، لم أرحلها ، رحلها رجل من الأنصار ، قال : "ولم ؟" قلت : إني أصابتني جنابة ، فخشيت القُرَّ على نفسي ، فأمرته أن يرحلها ، ورضفت أحجارًا فأسخنت بها ماء فاغتسلت به ، فأنزل الله تعالى : { لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بوجوهكم وأيديكم]
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4607).
(2) المسند (4/264).
(3) زيادة من أ ، والطبري.
(4) في أ : "الصبح".
(5) زيادة من أ.
(6) تفسير الطبري (8/418).
(7) في النسخ : "العباس" وهو تحريف ، والتصويب من كتب الرجال.
(8) في أ : "زريق".

(2/322)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)

إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا } وقد روي من وجه آخر عنه.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا (46) }.
يخبر تعالى عن اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ، أنهم يشترون الضلالة بالهدى ويعرضون عما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ويتركون ما بأيديهم من العلم عن الأنبياء الأولين في صفة محمد صلى الله عليه وسلم ليشتروا به ثمنا قليلا من حطام الدنيا { وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُوا السَّبِيلَ } أي يودون لو تكفرون بما أنزل عليكم أيها المؤمنون وتتركون ما أنتم عليه من الهدى والعلم النافع.

(2/323)


{ وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ } أي : هو يعلم بهم ويحذركم منهم { وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللهِ نَصِيرًا } أي : كفى به وليا لمن لجأ (1) إليه ونصيرا لمن استنصره.
ثم قال تعالى : { مِنَ الَّذِينَ هَادُوا } "من" هذه لبيان الجنس كقوله : { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ }
وقوله : { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } أي : يتأولون على غير تأويله ، ويفسرونه بغير مراد الله ، عز وجل ، قصدا منهم وافتراء { وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } أي يقولون (2) سمعنا ما قلته يا محمد ولا نطيعك فيه. هكذا فسره مجاهد وابن زيد ، وهو المراد ، وهذا أبلغ في عنادهم وكفرهم ، أنهم يتولون (3) عن كتاب الله بعد ما عقلوه ، وهم يعلمون ما عليهم في ذلك من الإثم والعقوبة.
وقوله (4) { وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ } أي : اسمع ما نقول ، لا سمعت. رواه الضحاك عن ابن عباس. وقال مجاهد والحسن : واسمع غير مقبول منك.
قال ابن جرير : والأول أصح. وهو كما قال. وهذا استهزاء منهم واستهتار ، عليهم لعنة الله[والملائكةالناس أجمعين]
__________
(1) في د : "التجأ".
(2) في ر : "تقولون".
(3) في أ : "يقولون".
(4) في أ : "وقولهم".

(2/323)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)

(1).
{ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ } أي : يوهمون أنهم يقولون : راعنا سمعك بقولهم : "راعنا" وإنما يريدون الرعونة. وقد تقدم الكلام في هذا عند قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا } [البقرة : 104].
ولهذا قال تعالى عن هؤلاء اليهود الذين يريدون بكلامهم خلاف ما يظهرونه : { لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ } يعني : بسبهم النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا } أي : قلوبهم مطرودة عن الخير مبعدة منه ، فلا يدخلها من الإيمان شيء نافع لهم وقد تقدم الكلام على قوله تعالى : { فَقَلِيلا مَا يُؤْمِنُونَ } [البقرة : 88] والمقصود : أنهم لا يؤمنون إيمانا نافعا.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نزلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا (47) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) }
يقول تعالى - آمرا أهل الكتاب بالإيمان بما نزل على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب العظيم (2) الذي فيه تصديق الأخبار التي بأيديهم من البشارات ، ومتهددا لهم أن (3) يفعلوا ، بقوله : { مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } قال بعضهم : معناه : من قبل أن نطمس وجوها. طمسها (4) هو ردها إلى الأدبار ، وجعل أبصارهم من ورائهم. ويحتمل أن يكون المراد : من قبل أن نطمس وجوها فلا يبقي لها سمع ولا بصر ولا أثر ، ونردها مع ذلك إلى ناحية الأدبار.
قال العوفي عن ابن عباس : { مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا } وطمسها أن تعمى { فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } يقول : نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم ، فيمشون القهقرى ، ونجعل لأحدهم عينين (5) من قفاه.
وكذا قال قتادة ، وعطية العوفي. وهذا أبلغ في العقوبة والنكال ، وهذا مثل ضربه الله لهم في صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبل الضلالة يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم ، وهذا كما قال بعضهم في قوله : { إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالا فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ. وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا [وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ] (6) } [يس 8 ، 9] إن هذا مثل [سوء] (7) ضربه الله لهم في ضلالهم ومنعهم عن الهدى.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ : "العزيز".
(3) في أ : "إن لم يفعلوا".
(4) في ر : "وطمسها".
(5) في د ، ر ، أ : "عينان".
(6) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(7) زيادة من أ.

(2/324)


قال مجاهد : { مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا } يقول : عن صراط الحق ، فنردها (1) على أدبارهم ، أي : في الضلالة.
قال ابن أبي حاتم : وروي عن ابن عباس ، والحسن نحو هذا.
قال السدي : { فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } فنمنعها عن الحق ، قال : نرجعها كفارا ونردهم قردة.
وقال ابن (2) زيد (3) نردهم إلى بلاد الشام من أرض الحجاز.
وقد ذكر أن كعب الأحبار أسلم حين سمع هذه الآية ، قال ابن جرير :
حدثنا أبو كريب ، حدثنا جابر بن نوح ، عن عيسى بن المغيرة قال : تذاكرنا عند إبراهيم إسلام كعب ، فقال : أسلم كعب زمان عمر ، أقبل وهو يريد بيت المقدس ، فمر على المدينة ، فخرج إليه عمر فقال : يا كعب ، أسلم ، قال : ألستم تقرؤون في كتابكم (4) { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ [ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ] (5) أَسْفَارًا } وأنا قد حملت التوراة. قال : فتركه عمر. ثم خرج حتى انتهى إلى حمص ، فسمع رجلا من أهلها حزينا ، وهو يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نزلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } الآية. قال (6) كعب : يا رب آمنت ، يا رب ، أسلمت ، مخافة أن تصيبه هذه الآية ، ثم رجع فأتى أهله في اليمن ، ثم جاء بهم مسلمين (7).
وقد رواه ابن أبي حاتم من وجه آخر بلفظ آخر ، فقال : حدثنا أبي ، حدثنا ابن نفيل ، حدثنا عمرو بن واقد ، عن يونس بن حلبس (8) عن أبي إدريس عائذ الله الخولاني قال : كان أبو مسلم الجليلي معلم كعب ، وكان يلومه في إبطائه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فبعثه إليه ينظر أهو هو ؟ قال كعب : فركبت حتى أتيت المدينة ، فإذا تال يقرأ القرآن ، يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نزلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا } فبادرت الماء فاغتسلت وإني لأمسح وجهي مخافة أن أطمس ، ثم أسلمت (9).
وقوله : { أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ } يعني : الذين اعتدوا في سبتهم بالحيلة على الاصطياد ، وقد مسخوا قردة وخنازير ، وسيأتي بسط قصتهم في سورة الأعراف.
وقوله : { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا } أي : إذا أمر بأمر ، فإنه لا يخالف ولا يمانع.
ثم أخبر تعالى : أنه { لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } أي : لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به { وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ } أي : من الذنوب { لِمَنْ يَشَاءُ } أي : من عباده.
وقد وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية الكريمة ، فلنذكر منها ما تيسر :
__________
(1) في أ : "ورد".
(2) في ر ، أ : "أبو".
(3) في أ : "زيد بن دهم".
(4) في أ : "كتاب".
(5) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "إلى".
(6) في أ : "فقال".
(7) تفسير الطبري (8/ 446).
(8) في ر : "حليس" ، وفي أ : "حلس".
(9) وذكره السيوطي في الدر المنثور (2/ 555) وعزاه لابن أبي حاتم.

(2/325)


الحديث الأول : قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، أخبرنا صدقة بن موسى ، حدثنا أبو عمران الجوني ، عن يزيد بن بابنوس (1) عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الدواوين عند الله ثلاثة ؛ ديوان لا يعبأ الله به شيئا ، وديوان لا يترك الله منه شيئا ، وديوان لا يغفره الله. فأما الديوان الذي لا يغفره الله ، فالشرك بالله ، قال الله عز وجل : { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ } [المائدة : 72] وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئا ، فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه ، من صوم يوم تركه ، أو صلاة تركها ؛ فإن الله يغفر ذلك ويتجاوز إن شاء. وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا ، فظلم العباد بعضهم بعضا ؛ القصاص لا محالة".
تفرد به أحمد (2).
الحديث الثاني : قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا أحمد بن مالك ، حدثنا زائدة بن أبي الرقاد ، عن زياد النمري ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الظلم ثلاثة ، فظلم لا يغفره الله ، وظلم يغفره الله ، وظلم لا يتركه الله : فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك ، وقال (3) { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان : 13]وأما الظلم الذي يغفره الله فظلم العباد لأنفسهم فيما بينهم وبين ربهم ، وأما الظلم الذي لا يتركه (4) فظلم العباد بعضهم بعضا ، حتى يدين لبعضهم من بعض" (5).
الحديث الثالث : قال الإمام أحمد : حدثنا صفوان بن عيسى ، حدثنا ثور بن يزيد ، عن أبي (6) عون ، عن أبي إدريس قال : سمعت معاوية يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "كل ذنب عسى الله أن يغفره ، إلا الرجل يموت كافرًا ، أو الرجل يقتل مؤمنًا متعمدًا".
رواه النسائي ، عن محمد بن مثنى ، عن صفوان بن عيسى ، به (7).
الحديث الرابع : قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا عبد الحميد ، حدثنا شهر ، حدثنا ابن غنم (8) أن أبا ذر حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله يقول : يا عبدي ، ما عبدتني ورجوتني فإني غافر لك على ما كان فيك ، يا (9) عبدي ، إنك إن لقيتني بقراب الأرض خطيئة ما لم تشرك بي ، لقيتك بقرابها مغفرة".
تفرد به أحمد من هذا الوجه (10)
__________
(1) في ر : "أبنوس" ، وفي أ : "لينوس".
(2) المسند (6/ 240).
(3) في د ، أ : "وقال الله".
(4) في ر : "لا يتركه الله".
(5) مسند البزار برقم (3439) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (10/ 348) : "رواه البزار عن شيخه أحمد بن مالك القشيري ولم أعرفه ، وبقية رجاله قد وثقوا".
ورواه الطيالسي في مسنده (2/ 60) "منحة المعبود" ومن طريقه أبو نعيم في الحلية (6/ 309) حدثنا الربيع عن يزيد عن أنس به. ويزيد هو الرقاشي ضعيف عند الأئمة.
(6) في د : "ابن".
(7) المسند (6/99) وسنن النسائي (7/ 81).
(8) في ر : "تميم".
(9) في أ : "ويا".
(10) المسند (5/ 154).

(2/326)


.
الحديث الخامس : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا أبي ، حدثنا حسين ، عن ابن بريدة أن يحيى بن يعمر حدثه ، أن أبا الأسود الديلي حدثه ، أن أبا ذر حدثه قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "ما من عبد قال : لا إله إلا الله. ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة" قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : "وإن زنى وإن سرق" قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : "وإن زنى وإن سرق". ثلاثا ، ثم قال في الرابعة : "على رغم أنف أبي ذر"! قال : فخرج أبو ذر وهو يجر إزاره وهو يقول : وإن رغم أنف أبي ذر". وكان أبو ذر يحدث بهذا بعد ويقول : وإن رغم أنف أبي ذر.
أخرجاه من حديث حسين ، به (1).
طريق أخرى عنه : قال [الإمام] (2) أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن زيد بن وهب ، عن أبي ذر قال : "كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة عشاء ، ونحن ننظر إلى أحد ، فقال : "يا أبا ذر". فقلت : لبيك يا رسول الله ، [قال] (3) ما أحب أن لي أحدا ذاك عندي ذهبا أمسي ثالثة وعندي منه دينار ، إلا دينارا أرصده - يعني لدين - إلا أن أقول به في عباد الله هكذا". وحثا عن يمينه وبين يديه وعن يساره. قال : ثم مشينا فقال : "يا أبا ذر ، إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا". فحثا عن يمينه ومن بين يديه وعن يساره. قال : ثم مشينا فقال : "يا أبا ذر ، كما أنت حتى آتيك". قال : فانطلق حتى توارى عني. قال : فسمعت لغطا (4) فقلت : لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض له. قال فهممت أن أتبعه ، ثم ذكرت قوله : "لا تبرح حتى آتيك" فانتظرته حتى جاء ، فذكرت له الذي سمعت ، فقال : "ذاك جبريل أتاني فقال : من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة". قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : "وإن زنى وإن سرق".
أخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش ، (5) به.
وقد رواه البخاري ومسلم أيضا كلاهما ، عن قتيبة ، عن جرير بن عبد الحميد ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن زيد بن وهب ، عن أبي ذر قال : خرجت ليلة من الليالي ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي وحده ، ليس معه إنسان ، قال : فظننت أنه يكره أن يمشي معه أحد. قال : فجعلت أمشي في ظل القمر ، فالتفت فرآني ، فقال : "من هذا ؟" فقلت : أبو (6) ذر ، جعلني الله فداك. قال : "يا أبا ذر ، تعال". قال : فمشيت معه ساعة فقال : "إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة إلا من أعطاه الله خيرا فنفخ فيه عن يمينه وشماله ، وبين يديه وورائه ، وعمل فيه خيرا". قال : فمشيت معه ساعة فقال لي : "اجلس هاهنا" ، قال : فأجلسني في قاع حوله حجارة ، فقال لي : "اجلس هاهنا حتى أرجع إليك". قال : فانطلق في الحرة حتى لا أراه ، فلبث عني فأطال اللبث ، ثم إني سمعته وهو مقبل ، وهو يقول : "وإن سرق وإن زنى". قال : فلما جاء لم أصبر حتى قلت : يا نبي الله ، جعلني الله فداءك ، من تكلم
__________
(1) المسند (5/166) وصحيح البخاري برقم (5827) وصحيح مسلم برقم (94).
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من أ ، والمسند.
(4) في ر ، أ : "لغطا وصوتا".
(5) المسند (5/ 152) وصحيح البخاري برقم (2388) وصحيح مسلم برقم (94).
(6) في أ : "أبي".

(2/327)


في جانب الحرة ؟ ما سمعت أحدا يرجع إليك شيئا. قال : "ذاك جبريل ، عرض لي من (1) جانب الحرة فقال : بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. قلت : يا جبريل ، وإن سرق وإن زنى ؟ قال : نعم قلت : وإن سرق وإن زنى ؟ قال : نعم. قلت : وإن سرق وإن زنى ؟ قال : نعم ، وإن شرب الخمر" (2).
الحديث السادس : قال عبد بن حميد في مسنده : أخبرنا عبيد الله بن موسى ، عن ابن أبي ليلى ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : جاء رجل إلى رسول الله (3) صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ما الموجبتان (4) ؟ قال : "من مات لا يشرك بالله شيئا وجبت له الجنة ، ومن مات يشرك بالله شيئا وجبت له النار". وذكر تمام الحديث. تفرد به من هذا الوجه (5).
طريق أخرى : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا الحسن بن عمرو بن خلاد الحراني ، حدثنا منصور بن إسماعيل القرشي ، حدثنا موسى بن عبيدة ، الربذي ، أخبر (6) عبد الله بن عبيدة ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من نفس تموت ، لا تشرك بالله شيئا ، إلا حلت لها المغفرة ، إن شاء الله عذبها ، وإن شاء غفر لها : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (7).
ورواه الحافظ أبو يعلى في مسنده ، من حديث موسى بن عبيدة ، عن أخيه عبد الله بن عبيدة ، عن جابر ؛ أن النبي (8) صلى الله عليه وسلم قال : "لا تزال المغفرة على العبد ما لم يقع الحجاب". قيل : يا نبي الله ، وما الحجاب ؟ قال : "الإشراك بالله". قال : "ما من نفس تلقى الله لا تشرك به شيئا إلا حلت لها المغفرة من الله تعالى ، إن يشأ أن يعذبها ، وإن يشأ أن يغفر لها غفر لها". ثم قرأ نبي الله : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (9).
الحديث السابع : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا زكريا ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة".
تفرد به من هذا الوجه (10).
الحديث الثامن : قال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا أبو قبيل ، عن عبد الله بن ناشر (11) من بني سريع قال : سمعت أبا رهم قاصن أهل الشام يقول : سمعت أبا أيوب الأنصاري يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم إليهم ، فقال لهم : "إن ربكم ، عز وجل ، خيرني
__________
(1) في أ : "في".
(2) صحيح البخاري برقم (6443) وصحيح مسلم برقم (94).
(3) في ر ، أ : "النبي".
(4) في د ، ر : "ما الموجبات".
(5) المنتخب لعبد بن حميد برقم (1058) وفي إسناده ابن أبي ليلي سيئ الحفظ.
لكن روي من وجه آخر صحيح عن جابر : فرواه مسلم برقم (93) من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر به.
(6) في أ : "أخبرني".
(7) وفي إسناده موسى بن عبيدة ضعفه الأئمة ، وروايته عن أخيه عبد الله بن عبيدة عن جابر مرسلة أيضا.
(8) في أ : "نبي الله".
(9) ورواه ابن أبي الدنيا في حسن الظن بالله برقم (56) وابن عدي في الكامل (6/ 334) من طريق معتمر بن سليمان عن علي بن صالح عن موسى بن عبيدة به.
(10) المسند (3/ 79).
(11) في أ : "ياسر".

(2/328)


بين سبعين ألفا يدخلون الجنة عفوا (1) بغير حساب ، وبين الخبيئة عنده لأمتي". فقال له بعض أصحابه : يا رسول الله ، أيخبأ ذلك ربك ؟ فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج وهو يكبر ، فقال : "إن ربي زادني مع كل ألف سبعين ألفا والخبيئة عنده" قال أبو رهم : يا أبا أيوب ، وما تظن خبيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأكله الناس بأفواههم فقالوا : وما أنت وخبيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! فقال أبو أيوب : دعوا الرجل عنكم ، أخبركم عن خبيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أظن ، بل كالمستيقن. إن خبيئة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول : من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله مصدقا لسانه قلبه أدخله (2) الجنة" (3).
الحديث التاسع : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا المؤمل بن الفضل الحراني ، حدثنا عيسى بن يونس(ح) وأخبرنا هاشم بن القاسم الحراني - فيما كتب إلي - قال : حدثنا عيسى بن يونس نفسه ، عن واصل بن السائب الرقاشي ، عن أبي سورة ابن أخي أبي أيوب ، عن أبي أيوب الأنصاري قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام. قال : "وما دينه ؟" قال : يصلي ويوحد الله تعالى. قال "استوهب منه دينه ، فإن أبى فابتعه منه". فطلب الرجل ذاك منه فأبى عليه ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : وجدته شحيحا في (4) دينه. قال : فنزلت : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } (5).
الحديث العاشر : قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا عمرو بن الضحاك ، حدثنا أبي ، حدثنا مستور أبو همام الهنائي ، حدثنا ثابت عن أنس قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، ما تركت حاجة ولا ذا حاجة إلا قد أتيت. قال : "أليس تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ؟" ثلاث مرات. قال : نعم. قال : "فإن ذلك يأتي على ذلك كله" (6).
الحديث الحادي عشر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر ، حدثنا عكرمة بن عمار ، عن ضمضم بن جوس اليمامي (7) قال : قال لي أبو هريرة : يا يمامي (8) لا تقولن لرجل : والله لا يغفر الله لك. أو لا (9) يدخلك الجنة أبدا. قلت : يا أبا هريرة (10) إن هذه كلمة يقولها أحدنا لأخيه وصاحبه إذا غضب قال : لا تقلها ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "كان في بني إسرائيل رجلان كان أحدهما مجتهدا في العبادة ، وكان الآخر مسرفا على نفسه ، وكانا متآخيين (11) وكان المجتهد لا يزال يرى الآخر على ذنب ، فيقول : يا هذا أقصر. فيقول : خلني وربي! أبعثت علي رقيبا ؟ قال : إلى أن رآه يوما على ذنب استعظمه ، فقال له : ويحك! أقصر! قال : خلني وربي! أبعثت علي رقيبا ؟ فقال : والله
__________
(1) في ر ، أ : "غفرا".
(2) في د ، أ : "فأدخله" ، وفي ر : "فأدخل".
(3) المسند (5/ 413).
(4) في ر : "على".
(5) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (4/ 177) من طريق عيسى بن يونس عن واصل به.
قال الهيثمي في المجمع (7/ 5) : "فيه واصل بن السائب وهو ضعيف".
(6) مسند أبي يعلى (6/ 155) وقال الهيثمي في المجمع (10/ 83) : "رجاله ثقات".
(7) في د ، ر : "الهفائي" ، وفي أ : "الهنائي".
(8) في د ، ر ، أ : "يا يماني".
(9) في د ، ر ، أ : "ولا".
(10) في ر : "يا رسول الله".
(11) في أ : "متحابين".

(2/329)


لا يغفر الله لك - أو لا يدخلك الجنة أبدا - قال : فبعث الله إليهما ملكا فقبض أرواحهما واجتمعا عنده ، فقال للمذنب : اذهب فادخل الجنة برحمتي. وقال للآخر : أكنت بي عالما ؟ أكنت على ما في يدي قادرا ؟ اذهبوا به إلى النار. قال : فوالذي نفس أبي القاسم بيده لتكلم بكلمة أو بقت دنياه وآخرته".
ورواه أبو داود ، من حديث عكرمة بن عمار ، حدثني ضمضم بن جوش ، به (1).
الحديث الثاني عشر : قال الطبراني : حدثنا أبو شيخ عن محمد بن الحسن بن عجلان الأصبهاني ، حدثنا سلمة بن شبيب ، حدثنا إبراهيم بن الحكم بن أبان ، عن أبيه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "قال الله عز وجل : من علم أني ذو قدرة على مغفرة الذنوب غفرت له ولا أبالي ، ما لم يشرك بي شيئا" (2).
الحديث الثالث عشر : قال الحافظ أبو بكر البزار والحافظ أبو يعلى [الموصلي] (3) حدثنا هدبة - هو ابن خالد - حدثنا سهل بن أبي حزم ، عن ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من وعده الله على عمل ثوابا فهو منجزه له ، ومن توعده (4) على عمل عقابا فهو فيه بالخيار". تفردا به (5).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا بحر بن نصر الخولاني ، حدثنا خالد - يعني ابن عبد الرحمن الخراساني - حدثنا الهيثم بن جمار (6) عن سلام بن أبي مطيع ، عن بكر بن عبد الله المزني ، عن ابن عمر قال : كنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نشك في قاتل النفس ، وآكل مال اليتيم ، وقاذف (7) المحصنات ، وشاهد الزور ، حتى نزلت هذه الآية : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } فأمسك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الشهادة.
ورواه ابن جرير من حديث الهيثم بن حماد (8) به (9).
وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا عبد الملك بن أبي عبد الرحمن المقري (10) حدثنا عبد الله بن عاصم ، حدثنا صالح - يعني المري أبو بشر - عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : كنا لا نشك فيمن أوجب الله له النار في الكتاب ، حتى نزلت علينا هذه الآية : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } قال : فلما سمعناها كففنا عن الشهادة ، وأرجينا الأمور إلى الله ، عز وجل (11)
__________
(1) المسند (2/ 323) وسنن أبي داود برقم (4901).
(2) في إسناده إبراهيم بن الحكم بن أبان ، ضعفه الأئمة وقال ابن عدي : "كان يوصل المراسيل عن أبيه وعامة ما يرويه لا يتابع عليه".
(3) زيادة من أ.
(4) في ر : "ومن توعد" ، وفي أ : "وعده".
(5) مسند أبي يعلى (6/ 66) ورواه الطبراني في الأوسط برقم (4739) وقال : "لم يروه عن ثابت إلا سهيل تفرد به هدبة".
وقال الهيثمي في المجمع (10/ 211) : "فيه سهيل بن أبي حزم ، وقد وثق على ضعفه ، وبقية رجاله رجال الصحيح".
(6) في أ : "حمار".
(7) في د ، ر ، أ : "وقذف".
(8) في ر : "جماز" ، وفي أ : "حمار".
(9) تفسير الطبري (8/ 450) وفي إسناده الهيثم بن جماز ضعفه أحمد وابن معين ، والنسائي وغيرهم.
(10) في أ : "المقبري"
(11) في د : "تعالى".

(2/330)


.
وقال البزار : حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا شيبان بن أبي شيبة ، حدثنا حرب بن سُرَيج ، عن أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر [رضي الله عنهما] (1) قال : كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر ، حتى سمعنا نبينا صلى الله عليه وسلم يقول : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } وقال : "أخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي يوم القيامة".
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع ، أخبرني مجبر ، عن عبد الله بن عمر أنه قال : لما نزلت : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ [إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ] (2) } [الزمر : 53] ، قام رجل فقال : والشرك بالله يا نبي الله ؟ فكره ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا }
رواه ابن جرير. وقد رواه ابن مردويه من طرق عن ابن عمر (3).
وهذه الآية التي في سورة "تنزيل" مشروطة بالتوبة ، فمن تاب من أي ذنب وإن تكرر منه تاب الله عليه ؛ ولهذا قال : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الزمر : 53]أي : بشرط التوبة ، ولو لم يكن كذلك لدخل الشرك فيه ، ولا يصح ذلك ، لأنه ، تعالى ، قد حكم هاهنا بأنه لا يغفر الشرك ، وحكم بأنه يغفر ما عداه لمن يشاء ، أي : وإن لم يتب صاحبه ، فهذه أرجى من تلك من هذا الوجه ، والله أعلم.
وقوله : { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } كقوله { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان : 13] ، وثبت في الصحيحين ، عن ابن مسعود أنه قال : قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أعظم ؟ قال : "أن تجعل لله ندا وهو خلقك..." وذكر تمام الحديث.
وقال ابن مردويه : حدثنا إسحق بن إبراهيم بن زيد ، حدثنا أحمد بن عمرو ، حدثنا إبراهيم بن المنذر ، حدثنا معن ، حدثنا سعيد (4) بن بشير حدثنا قتادة ، عن الحسن ، عن عمران بن حصين ؛ أن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم قال : "أخبركم بأكبر الكبائر : الشرك بالله" (5) ثم قرأ : { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا } وعقوق الوالدين". ثم قرأ : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } (6)
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من أ ، وفي هـ : "إلى آخر الآية".
(3) تفسير الطبري (8/450).
(4) في أ : "حدثنا معن بن سعيد".
(5) في د ، ر ، أ : "الإشراك بالله".
(6) في إسناده سعيد بن بشير تكلم فيه بعض الأئمة فضعفه أحمد وابن معين ووثقه دحيم وغيره.

(2/331)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)

.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) }.
قال الحسن وقتادة : نزلت هذه الآية ، وهي قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ } في اليهود والنصارى ، حين قالوا : { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ }
وقال ابن زيد : نزلت في قولهم : { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [المائدة : 18] ، وفي قولهم : { وقالوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إَلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى } [البقرة : 111].
وقال مجاهد : كانوا يقدمون الصبيان أمامهم في الدعاء والصلاة يؤمونهم ، ويزعمون أنهم لا ذنب لهم (1).
وكذا قال عكرمة ، وأبو مالك. روى ذلك ابن جرير.
وقال العوفي ، عن ابن عباس في قوله { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُم } وذلك أن اليهود قالوا : إن أبناءنا توفوا وهم لنا قربة ، وسيشفعون لنا ويزكوننا ، فأنزل الله على محمد [صلى الله عليه وسلم] (2) { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُم بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا } (3) رواه ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن مصفى ، حدثنا ابن حمير ، عن ابن لهيعة ، عن بشر بن أبي عمرو (4) عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كانت اليهود يقدمون صبيانهم يصلون بهم ، ويقربون قربانهم ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب. وكذبوا. قال (5) الله [تعالى] (6) إني لا أطهر ذا ذنب بآخر لا ذنب له" وأنزل الله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ }
ثم قال : وروى عن مجاهد ، وأبي مالك ، والسدي ، وعكرمة ، والضحاك - نحو ذلك.
وقال الضحاك : قالوا : ليس لنا ذنوب ، كما ليس لأبنائنا ذنوب. فأنزل الله ذلك فيهم.
وقيل : نزلت في ذم التمادح والتزكية.
وقد جاء في الحديث الصحيح عند (7) مسلم ، عن المقداد بن الأسود قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثو في وجوه المداحين التراب (8).
وفي الحديث الآخر المخرج في الصحيحين من طريق خالد الحذاء ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة ، عن أبيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يثني على رجل ، فقال : "ويحك. قطعت عنق صاحبك". ثم قال : "إن كان أحدكم مادحا صاحبه لا محالة ، فليقل : أحسبه كذا ولا يزكي على الله أحدا" (9).
وقال الإمام أحمد : حدثنا معتمر ، عن أبيه ، عن نعيم بن أبي هند قال : قال عمر بن الخطاب : من قال : أنا مؤمن ، فهو كافر. ومن قال : هو عالم ، فهو جاهل. ومن قال : هو في الجنة ، فهو في النار (10)
__________
(1) في أ : "لا ذنوب لهم".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(4) في أ : "عمرة".
(5) في أ : "فقال".
(6) زياد من أ.
(7) في أ : "عن".
(8) صحيح مسلم برقم (3002)
(9) صحيح البخاري برقم (2662) وصحيح مسلم برقم (3000).
(10) رواه حنبل بن إسحاق عن أحمد به كما في مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه للحافظ ابن كثير (2/ 574).

(2/332)


.
ورواه ابن مردويه ، من طريق موسى بن عبيدة ، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز ، عن عمر أنه قال : إن أخوف ما أخاف عليكم إعجاب المرء برأيه ، فمن قال : إنه مؤمن ، فهو كافر ، ومن قال : إنه عالم فهو جاهل ، ومن قال : إنه في الجنة ، فهو في النار (1).
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة وحجاج ، أنبأنا شعبة ، عن سعد بن إبراهيم ، عن معبد الجهني قال : كان معاوية قلما يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : وكان قلما يكاد أن يدع يوم الجمعة هؤلاء الكلمات أن يحدث بهن عن النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول : "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ، وإن هذا المال حلو خضر ، فمن يأخذه بحقه يبارك له فيه ، وإياكم والتمادح فإنه الذبح" (2).
وروى ابن ماجه منه : "إياكم والتمادح فإنه الذبح" عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن غندر ، عن شعبة به (3).
ومعبد هذا هو ابن عبد الله بن عويم البصري القدري.
وقال ابن جرير : حدثنا يحيى بن إبراهيم المسعودي ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن جده ، عن الأعمش ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب قال : قال عبد الله بن مسعود : إن الرجل ليغدو بدينه ، ثم يرجع وما معه منه شيء ، يلقى الرجل ليس يملك له نفعا ولا ضرا فيقول له : والله إنك كيت وكيت (4) فلعله أن يرجع ولم (5) يحل من حاجته بشيء وقد أسخط الله. ثم قرأ { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ } الآية.
وسيأتي الكلام على ذلك مطولا عند قوله تعالى : { فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى } [النجم : 32]. ولهذا قال تعالى : { بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ } أي : المرجع في ذلك إلى الله ، عز وجل (6) لأنه عالم بحقائق الأمور وغوامضها.
ثم قال تعالى : { وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا } أي : ولا يترك لأحد من الأجر ما يوازن مقدار الفتيل.
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعطاء ، والحسن ، وقتادة ، وغير واحد من السلف : هو ما يكون في شق النواة.
وعن ابن عباس أيضا : هو ما فتلت بين أصابعك. وكلا القولين متقارب.
__________
(1) ذكره ابن كثير في مسند عمر بن الخطاب (2/574) وطلحة لم يدرك عمر فهو منقطع
(2) المسند (4/93).
(3) سنن ابن ماجة برقم (3743) وقال البوصيري في الزوائد (3/181) : "هذا إسناد حسن ، معبد مختلف فيه ، وباقي رجال الإسناد ثقات".
(4) في ر ، أ : "إنك لذيت وذيت".
(5) في أ : "وما".
(6) في أ : "تعالى".

(2/333)


وقوله : { انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ } أي : في تزكيتهم أنفسهم ودعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه وقولهم : { لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى } [البقرة : 111] وقولهم : { لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً } [البقرة : 80]واتكالهم (1) على أعمال آبائهم الصالحة ، وقد حكم الله أن أعمال
__________
(1) في أ : "تميزهم باتكالهم".

(2/333)


الآباء لا تجزي عن الأبناء شيئا ، في قوله : { تِلْكَ أُمَةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ [وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (1) } [البقرة : 141].
ثم قال : { وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا } أي : وكفى بصنعهم (2) هذا كذبا وافتراء ظاهرا.
وقوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } أما "الجبت" فقال محمد بن إسحاق ، عن حسان بن فائد ، عن عمر بن الخطاب أنه قال : "الجبت" : السحر ، و "الطاغوت" : الشيطان.
وهكذا روي عن ابن عباس ، وأبي العالية ، ومجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والشعبي ، والحسن ، والضحاك ، والسدي.
وعن ابن عباس ، وأبي العالية ، ومجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، [وأبي مالك] (3) وسعيد بن جبير ، والشعبي ، والحسن ، وعطية : "الجبت" الشيطان - زاد ابن عباس : بالحبشية. وعن ابن عباس أيضا : "الجبت" : الشرك. وعنه : "الجبت" : الأصنام.
وعن الشعبي : "الجبت" : الكاهن. وعن ابن عباس : "الجبت" : حيي بن أخطب. وعن مجاهد : "الجبت" : كعب بن الأشرف.
وقال العلامة أبو نصر بن إسماعيل بن حماد الجوهري في كتابه "الصحاح" : "الجبت" كلمة تقع على الصنم والكاهن (4) والساحر ونحو ذلك ، وفي الحديث : "الطيرة والعيافة والطرق من الجبت" قال : وهذا ليس من محض العربية ، لاجتماع الجيم والتاء في كلمة واحدة (5) من غير حرف ذولقي. (6)
وهذا الحديث الذي ذكره ، رواه الإمام أحمد في مسنده فقال : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا ، عوف عن حيان أبي العلاء ، حدثنا قطن بن قبيصة ، عن أبيه - وهو قبيصة بن مخارق - أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت" وقال عوف : "العيافة" : زجر الطير ، و"الطرق" : الخط ، يخط في الأرض ، و"الجبت" قال الحسن : إنه الشيطان.
وهكذا رواه أبو داود في سننه والنسائي وابن أبي حاتم في تفسيريهما من حديث عوف الأعرابي ، به (7)
وقد تقدم الكلام على "الطاغوت" في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إسحاق بن الضيف ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله أنه سئل عن "الطواغيت" فقال : هم كهان تنزل عليهم الشياطين.
وقال مجاهد : "الطاغوت" : الشيطان في صورة إنسان ، يتحاكمون إليه ، وهو صاحب أمرهم.
وقال الإمام مالك : "الطاغوت" : هو كل ما يعبد من دون الله ، عز وجل.
وقوله : { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا } أي : يفضلون الكفار على المسلمين بجهلهم ، وقلة دينهم ، وكفرهم بكتاب الله الذي بأيديهم.
وقد روى ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن عكرمة قال : جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة ، فقالوا لهم : أنتم أهل الكتاب وأهل العلم ، فأخبرونا عنا وعن محمد ، فقالوا : ما أنتم وما محمد. فقالوا : نحن نصل الأرحام ، وننحر الكوماء ، ونسقي الماء على اللبن ، ونفك العناة ، ونسقي الحجيج - ومحمد صنبور ، قطع أرحامنا ، واتبعه سراق الحجيج بنو (8) غفار ، فنحن خير أم هو ؟ فقالوا : أنتم خير وأهدى سبيلا.فأنزل الله { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ [الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا] (9) }.
وقد روي هذا من غير وجه ، عن ابن عباس وجماعة من السلف.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش : ألا ترى هذا الصنبور المنبتر من قومه ؟ يزعم أنه خير منا ، ونحن أهل الحجيج ، وأهل السدانة ، وأهل السقاية! قال : أنتم خير. قال فنزلت (10) { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ } [الكوثر : 3] ونزل : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ } إلى { نَصِيرًا }.
وقال ابن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان الذين حزبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة حيي بن أخطب وسلام بن أبي الحقيق أبو رافع ، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق ، وأبو عمار ، ووحوح (11) بن عامر ، وهوذة بن قيس. فأما وحوح (12) وأبو عمار وهوذة فمن بني وائل ، وكان سائرهم من بني النضير ، فلما قدموا على قريش قالوا هؤلاء أحبار يهود وأهل العلم بالكتب الأول (13) فسلوهم : أدينكم خير أم دين محمد ؟ فسألوهم ، فقالوا : بل دينكم خير من دينه ، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه. فأنزل الله عز وجل : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ [الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا. أُولَئِك الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا] (14) } إلى قوله عز وجل : { وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا }.
وهذا لعن لهم ، وإخبار بأنهم لا ناصر لهم في الدنيا ولا في الآخرة ، لأنهم إنما ذهبوا يستنصرون بالمشركين ، وإنما قالوا لهم ذلك ليستميلوهم إلى نصرتهم ، وقد أجابوهم ، وجاؤوا معهم يوم الأحزاب ، حتى حفر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حول المدينة الخندق ، فكفى الله شرهم { وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا }
__________
(1) زيادة من ر ، أ.
(2) في د : "بصنيعهم".
(3) زياد من ر ، أ.
(4) في ر : "الكافر".
(5) في أ : "في حرف واحد".
(6) الصحاح (1/245)
(7) المسند (5/60) وسنن أبي داود برقم (3907) وسنن النسائي الكبرى برقم (11108).
(8) في د : "من".
(9) زيادة من ر ، أ.
(10) في أ : "فنزلت فيهم".
(11) في أ : "دحرج".
(12) في أ : "دحرج".
(13) في ر ، أ : "الأولى".
(14) زيادة من أ.

(2/334)


أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)

[الأحزاب : 25].
{ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) }.
يقول تعالى : { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ } ؟! وهذا استفهام إنكار ، أي : ليس لهم نصيب من الملك (1) ثم وصفهم بالبخل فقال : { فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا } أي : لأنهم لو كان لهم نصيب في الملك والتصرف لما أعطوا أحدا من الناس - ولا سيما محمدا صلى الله عليه وسلم - شيئًا ، ولا ما يملأ "النقير" ، وهو النقطة التي في النواة ، في قول ابن عباس والأكثرين.
وهذه الآية كقوله تعالى { قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنْفَاقِ } [الإسراء : 100]أي : خوف أن يذهب ما بأيديكم ، مع أنه لا يتصور نفاده ، وإنما هو من بخلكم وشحكم ؛ ولهذا قال : { وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا } [الإسراء : 100]أي : بخيلا.
ثم قال : { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } يعني بذلك : حسدهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما رزقه الله من النبوة العظيمة ، ومنعهم من تصديقهم إياه حسدهم له ؛ لكونه من العرب وليس من بني إسرائيل.
قال الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، حدثنا يحيى الحماني ، حدثنا قيس بن الربيع ، عن السدي ، عن عطاء ، عن ابن عباس قوله : { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ [عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِه] (2) } الآية ، قال ابن عباس : نحن الناس دون الناس ، قال الله تعالى : { فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا } أي : فقد جعلنا في أسباط بني إسرائيل - الذين هم من ذرية إبراهيم - النبوة ، وأنزلنا عليهم الكتب ، وحكموا فيهم بالسنن (3) - وهي الحكمة - وجعلنا فيهم الملوك ، ومع هذا { فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ } أي : بهذا الإيتاء وهذا الإنعام { وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ } أي : كفر به وأعرض عنه ، وسعى في صد الناس عنه ، وهو منهم ومن جنسهم ، أي من بني إسرائيل ، فقد اختلفوا عليهم ، فكيف بك يا محمد ولست من بني إسرائيل ؟.
وقال مجاهد : { فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ } أي : بمحمد صلى الله عليه وسلم { وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ } فالكفرة منهم أشد تكذيبا لك ، وأبعد عما جئتهم به من الهدى ، والحق المبين.
ولهذا قال متوعدا لهم : { وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا } أي : وكفى بالنار عقوبة لهم على كفرهم وعنادهم ومخالفتهم كتب الله ورسله.
{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا (57) }.
__________
(1) في د : "ليس لهم من نصيب" ، وفي ر ، أ : "ليس لهم نصيب في الملك".
(2) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(3) في ر : "بالسنين".

(2/336)


يخبر تعالى عما يعاقب به في نار جهنم من كفر بآياته وصد عن رسله ، فقال : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا [سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا] } (1) الآية ، أي ندخلهم نارا دخولا يحيط بجميع أجرامهم ، وأجزائهم. ثم أخبر عن دوام عقوبتهم ونكالهم ، فقال : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ } قال [الأعمش ، عن ابن عمر] (2) إذا احرقت جلودهم بدلوا جلودًا بيضا أمثال القراطيس. رواه ابن أبي حاتم.
وقال يحيى بن يزيد الحضرمي إنه بلغه في قول الله : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ } قال : يجعل (3) للكافر مائة جلد ، بين كل جلدين لون من العذاب. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا حسين الجعفي ، عن زائدة ، عن هشام ، عن الحسن قوله : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ [بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا] (4) } الآية. قال : تنضجهم في اليوم سبعين ألف مرة. قال حسين : وزاد فيه فضيل عن هشام عن الحسن : كلما أنضجتهم فأكلت لحومهم قيل لهم : عودوا فعادوا.
وقال أيضا : ذكر عن هشام بن عمار : حدثنا سعيد بن يحيى - يعني سعدان - حدثنا نافع ، مولى يوسف السلمي البصري ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قرأ رجل عند عمر هذه الآية : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا } فقال عمر : أعدها علي فأعادها ، فقال معاذ بن جبل : عندي تفسيرها : تبدل في ساعة مائة مرة. فقال عمر : هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد رواه ابن مردويه ، عن محمد بن أحمد بن إبراهيم ، عن عبدان بن محمد المروزي ، عن هشام بن عمار ، به. ورواه من وجه آخر بلفظ آخر فقال : حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عمران ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحارث ، حدثنا شيبان بن فروخ ، حدثنا نافع أبو هرمز ، حدثنا نافع ، عن ابن عمر قال : تلا رجل عند عمر هذه الآية : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ [بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ] (5) } الآية ، قال : فقال عمر : أعدها على - وثم كعب - فقال : يا أمير المؤمنين ، أنا عندي تفسير هذه الآية ، قرأتها قبل الإسلام ، قال : فقال : هاتها يا كعب ، فإن جئت بها كما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقناك ، وإلا لم ننظر إليها. فقال : إني قرأتها قبل الإسلام : "كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها في الساعة الواحدة عشرين ومائة مرة". فقال عمر : هكذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) زيادة من ر ، أ.
(2) زيادة من ر ، أ.
(3) في د : "إنه يجعل".
(4) زيادة من ر.
(5) زيادة من ر ، أ.

(2/337)


إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)

وقال الربيع بن أنس : مكتوب في الكتاب الأول أن جلد أحدهم أربعون ذراعا ، وسنه تسعون ذراعًا ، وبطنه لو وضع فيه جبل لوسعه ، فإذا أكلت النار جلودهم بدلوا جلودا غيرها.
وقد ورد في الحديث ما هو أبلغ من هذا ، قال (1) الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا أبو يحيى الطويل ، عن أبي يحيى القتات ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يعظم أهل النار في النار ، حتى إن بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام ، وإن غلظ جلده سبعون ذراعا ، وإن ضرسه مثل أحد".
تفرد به أحمد من هذا الوجه (2).
وقيل : المراد بقوله : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } أي : سرابيلهم. حكاه ابن جرير ، وهو ضعيف ؛ لأنه خلاف الظاهر.
وقوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } هذا إخبار عن مآل السعداء في جنات عدن ، التي تجري فيها (3) الأنهار في جميع فجاجها ومحالها وأرجائها حيث شاؤوا وأين أرادوا ، وهم خالدون فيها أبدا ، لا يحولون ولا يزولون ولا يبغون عنها حولا.
وقوله : { لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ } أي : من الحيض والنفاس والأذى. والأخلاق الرذيلة ، والصفات الناقصة ، كما قال ابن عباس : مطهرة من الأقذار والأذى. وكذا قال عطاء ، والحسن ، والضحاك ، والنخعي ، وأبو صالح ، وعطية ، والسدي.
وقال مجاهد : مطهرة من البول والحيض والنخام والبزاق والمني والولد.
وقال قتادة : مطهرة من الأذى والمآثم ولا حيض ولا كلف.
وقوله : { وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا } أي : ظلا عميقا كثيرا غزيرا طيبا أنيقا.
قال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن - وحدثنا ابن المثنى ، حدثنا (4) ابن (5) جعفر - قالا حدثنا شعبة قال : سمعت أبا الضحاك يحدث ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها ، شجرة الخلد" (6).
{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) }
يخبر تعالى أنه يأمر بأداء الأمانات إلى أهلها ، وفي حديث الحسن ، عن سمرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أد الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك". رواه الإمام أحمد وأهل السنن (7) وهذا يعم جميع الأمانات الواجبة على الإنسان ، من حقوق الله ، عز وجل ، على عباده ، من الصلوات والزكوات ، والكفارات والنذور والصيام ، وغير ذلك ، مما هو مؤتمن عليه لا يطلع عليه العباد ، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض كالودائع وغير ذلك مما يأتمنون به (8) بعضهم على بعض من غير اطلاع بينة (9) على ذلك. فأمر الله ، عز وجل ، بأدائها ، فمن لم يفعل ذلك في الدنيا أخذ منه ذلك يوم القيامة ، كما ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لتؤدن الحقوق إلى أهلها ، حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء" (10).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن عبد الله بن السائب ، عن زاذان ، عن عبد الله بن مسعود قال : إن الشهادة تكفر كل ذنب إلا الأمانة ، يؤتى بالرجل يوم القيامة - وإن كان قد قتل في سبيل الله - فيقال : أد أمانتك. فيقول وأنى أؤديها وقد ذهبت الدنيا ؟ فتمثل له الأمانة في قعر جهنم ، فيهوي إليها فيحملها على عاتقه. قال : فتنزل عن عاتقه ، فيهوي على أثرها أبد الآبدين. قال زاذان : فأتيت البراء فحدثته فقال : صدق أخي : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا }.
وقال : سفيان الثوري ، عن ابن أبي ليلى عن رجل ، عن ابن عباس قوله : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } قال : هي (11) مبهمة للبر والفاجر. وقال محمد بن الحنفية : هي مسجلة للبر والفاجر. وقال أبو العالية : الأمانة ما أمروا به ونهوا عنه.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا حفص بن غياث ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : قال أبي بن كعب : من الأمانة أن المرأة ائتمنت على فرجها.
وقال الربيع بن أنس : هي من الأمانات فيما بينك وبين الناس.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } قال :
__________
(1) في د ، ر : "فقال".
(2) المسند (2/26).
(3) في د ، ر : "تخترقها".
(4) في د : "حدثنا محمد".
(5) في ر : "أبو".
(6) تفسير الطبري (8/489).
(7) لم أجد من رواه من حديث سمرة رضى الله عنه : أ -
وإنما رواه الإمام أحمد في مسنده (3/414) عن رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ب - ورواه الترمذي في سننه برقم (1264) وأبو داود في سننه برقم (3535) من طريق طلق بن غنام عن شريك وقيس عن أبي حصين عن أبي هريرة رضي الله عنه. قال الترمذي : "حديث حسن غريب" ، وقال أبو حاتم : "حديث منكر لم يرو هذا الحديث غير طلق" العلل (1/375).
جـ - ورواه الحاكم في المستدرك (2/64) والطبراني في المعجم الصغير (1/171) من طريق أيوب بن سويد عن ابن شوذب عن أبي التياح ، عن أنس رضي الله عنه ، وأيوب بن سويد ضعيف. ،
د - ورواه الطبراني في المعجم الكبير (8/150) من طريق يحيى بن عثمان ، عم عمرو بن الربيع ، عن يحيى بن أيوب عن إسحاق ابن أسيد عن أبي حفص عن مكحول عن أبي أمامة رضي الله عنه.
قال الهيثمي في المجمع (8/128) : "فيه يحي بن عثمان بن صالح المصري. قال ابن أبي حاتم : تكلموا فيه".
هـ - ورواه الطبري في تفسيره (8/493) من طريق قتادة عن الحسن مرسلا.
(8) في أ : "فيه"
(9) في ر : "نبيه".
(10) مسلم في صحيحه برقم "2582".
(11) في أ : "فهي".

(2/338)


قال : يدخل فيه وعظ السلطان النساء. يعني يوم العيد. وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة ، واسم أبي طلحة ، عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي بن كلاب القرشي العبدري ، حاجب الكعبة المعظمة ، وهو ابن عم شيبة بن عثمان بن أبي طلحة ، الذي صارت الحجابة في نسله إلى اليوم ، أسلم عثمان هذا في الهدنة بين صلح الحديبية وفتح مكة ، هو وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص ، وأما عمه عثمان بن أبي طلحة ، فكان معه لواء المشركين يوم أحد ، وقتل يومئذ كافرا. وإنما نبهنا على هذا النسب ؛ لأن كثيرا من المفسرين قد يشتبه عليهم هذا بهذا ، وسبب نزولها فيه لما أخذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة يوم الفتح ، ثم رده عليه.
وقال محمد بن إسحاق في غزوة الفتح : حدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عبيد الله بن عبد الله بن أبي ثور ، عن صفية بنت شيبة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بمكة واطمأن الناس ، خرج حتى جاء البيت ، فطاف به سبعا على راحلته ، يستلم الركن بمحجن في يده ، فلما قضى طوافه ، دعا عثمان بن طلحة ، فأخذ منه مفتاح الكعبة ، ففتحت له ، فدخلها ، فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها ، ثم وقف على باب الكعبة وقد استكف (1) له الناس في المسجد.
قال ابن إسحاق : فحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على باب الكعبة فقال "لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده ، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى ، فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانه البيت وسقاية الحاج". وذكر بقية الحديث في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ ، إلى أن قال : ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ، فقام إليه علي بن أبي طالب ومفتاح الكعبة في يده فقال : يا رسول الله ، اجمع لنا الحجابة مع السقاية ، صلى الله عليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أين عثمان بن طلحة ؟" فدعي له ، فقال له : "هاك مفتاحك يا عثمان ، اليوم يوم وفاء وبر" (2).
قال ابن جرير : حدثني القاسم حدثنا الحسين ، عن حجاج ، عن ابن جريج [قوله : { إِنّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } ] (3) قال : نزلت في عثمان بن طلحة قبض منه النبي صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة ، فدخل به البيت يوم الفتح ، فخرج وهو يتلو هذه (4) فدعا عثمان إليه ، فدفع إليه (5) المفتاح ، قال : وقال عمر بن الخطاب لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة ، وهو يتلو هذه الآية : فداه أبي وأمي ، ما سمعته يتلوها قبل ذلك.
حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا الزنجي بن خالد ، عن الزهري قال : دفعه إليه وقال : أعينوه (6).
وروى ابن مردويه ، من طريق الكلبي ، عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله عز وجل : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } قال : لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة دعا عثمان بن طلحة
__________
(1) في د : "استكن" ، وفي ر ، أ : "استلف".
(2) انظر : السيرة النبوية لابن هشام (3/413).
(3) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "في الآية".
(4) في أ : "هذه الآية".
(5) في ر : "فناوله".
(6) في ر : "غيبوه".

(2/340)


ابن أبي طلحة ، فلما أتاه قال : "أرني المفتاح". فأتاه به ، فلما بسط يده إليه قام العباس فقال : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، اجمعه لي مع السقاية. فكف عثمان يده (1) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أرني المفتاح يا عثمان". فبسط يده يعطيه ، فقال العباس مثل كلمته الأولى ، فكف عثمان يده. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا عثمان ، إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فهاتني المفتاح". فقال : هاك بأمانة الله. قال : فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ففتح باب الكعبة ، فوجد في الكعبة تمثال إبراهيم معه قداح يستقسم بها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما للمشركين قاتلهم الله. وما شأن إبراهيم وشأن القداح". ثم دعا بحفنة فيها ماء فأخذ ماء فغمسه فيه ، ثم غمس به تلك التماثيل ، وأخرج مقام إبراهيم ، وكان في الكعبة فألزقه في (2) حائط الكعبة ثم قال : "يا أيها الناس ، هذه القبلة". قال : ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت شوطا أو شوطين ثم نزل عليه جبريل ، فيما ذكر لنا برد المفتاح ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } حتى فرغ من الآية (3).
وهذا من المشهورات أن هذه الآية نزلت في ذلك ، وسواء كانت نزلت في ذلك أو لا (4) فحكمها عام ؛ ولهذا قال ابن عباس ومحمد بن الحنفية : هي للبر والفاجر ، أي : هي أمر لكل أحد.
وقوله : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ } أمر منه تعالى بالحكم بالعدل بين الناس ؛ ولهذا قال محمد بن كعب وزيد بن أسلم وشهر بن حوشب : إنما نزلت في الأمراء ، يعني الحكام بين الناس.
وفي الحديث : "إن الله مع الحاكم ما لم يَجُرْ ، فإذا جار وكله إلى نفسه" (5) وفي الأثر : عدل يوم كعبادة أربعين سنة.
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ } أي : يأمركم به من أداء الأمانات ، والحكم بالعدل بين الناس ، وغير ذلك من أوامره وشرائعه الكاملة العظيمة الشاملة.
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } أي : سميعا لأقوالكم ، بصيرا بأفعالكم ، كما قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بكير ، حدثني عبد الله بن لهيعة ، عن يزيد (6) بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرئ (7) هذه الآية { سَمِيعًا بَصِيرًا } يقول : بكل شيء بصير (8).
وقد قال ابن أبي حاتم : أخبرنا يحيى بن عبدك القزويني ، أنبأنا المقرئ - يعني أبا عبد الرحمن -
__________
(1) في أ : "اجمعه لي بين السقاية فكف عثمان بيده".
(2) في أ : "إلى".
(3) ذكره السيوطي في الدر المنثور (2/570) وإسناده تالف.
(4) في ر : "أم لا".
(5) رواه الترمذي في سننه برقم (1330) من حديث عبد الله بن أبي أوفي ، وقال : "حديث حسن غريب".
(6) في أ : "زيد".
(7) في أ : "يقترئ".
(8) ذكره السيوطي في الدر (2/573).

(2/341)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)

عبد الله بن يزيد ، حدثنا حرملة - يعني ابن عمران التجيبي المصري - حدثنا أبو (1) يونس ، سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } إلى قوله : { إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا } ويضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه ويقول : هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها (2) ويضع أصبعيه. قال أبو زكريا : وصفه لنا المقري ، ووضع أبو زكريا إبهامه اليمنى على عينه اليمنى ، والتي تليها على الأذن اليمنى ، وأرانا فقال : هكذا وهكذا (3).
رواه أبو داود ، وابن حبان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه ، وابن مردويه في تفسيره ، من حديث أبي عبد الرحمن المقري بإسناده - نحوه (4) وأبو يونس هذا مولى أبي هريرة ، واسمه سُلَيْم بن جُبَير.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا (59) }
قال البخاري : حدثنا صدقة بن الفضل ، حدثنا حجاج بن محمد الأعور ، عن ابن جريج ، عن يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ } قال : نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي ؛ إذ بعثه رسول النبي صلى الله عليه وسلم في سرية.
وهكذا أخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه من حديث حجاج بن محمد الأعور ، به. وقال الترمذي : حديث حسن غريب ، ولا نعرفه إلا من حديث ابن جريج (5).
وقال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن سعيد بن عبيدة ، عن أبي عبد الرحمن السلمي ، عن علي قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية ، واستعمل عليهم رجلا من الأنصار ، فلما خرجوا وَجَد عليهم في شيء. قال : فقال لهم : أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني ؟ قالوا : بلى ، قال : اجمعوا (6) لي حطبا. ثم دعا بنار فأضرمها فيه ، ثم قال : عزمت عليكم لتدخلنها. [قال : فهم القوم أن يدخلوها] (7) قال : فقال لهم شاب منهم : إنما فررتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار ، فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها. قال : فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه ، فقال لهم : "لو دخلتموها ما خرجتم منها أبدا ؛ إنما الطاعة في المعروف". أخرجاه في الصحيحين من حديث الأعمش ، به (8).
وقال أبو داود : حدثنا مُسَدَّد ، حدثنا يحيى ، عن عبيد الله ، حدثنا نافع ، عن عبد الله بن عمر ،
__________
(1) في أ : "ابن".
(2) في أ : "يقرأ بها".
(3) في أ : "هكذا وهذا".
(4) سنن أبي داود برقم (4728) ، وصحيح ابن حبان برقم (1732) ، "موارد" والمستدرك (1/24) ، ورواه من طريق الحاكم البيهقي في الأسماء والصفات (ص179).
(5) صحيح البخاري برقم (8584) ، وصحيح مسلم برقم (1834) ، وسنن أبي داود برقم (2624) ، وسنن الترمذي برقم (1672) ، وسنن النسائي (7/ 154).
(6) في أ : "قال : فقال اجمعوا".
(7) زيادة من أ ، والمسند.
(8) المسند (1/82) وصحيح البخاري برقم (4340) ، وصحيح مسلم برقم (1840).

(2/342)


عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ، ما لم يؤمر بمعصية ، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة".
وأخرجاه من حديث يحيى القطان (1).
وعن عبادة بن الصامت قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة ، في مَنْشَطنا ومكرهنا ، وعسرنا ويسرنا ، وأثَرَةٍ علينا ، وألا ننازع الأمر أهله. قال : "إلا أن تروا كفرا بَوَاحا ، عندكم فيه من الله برهان" أخرجاه (2).
وفي الحديث الآخر ، عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة". رواه البخاري (3).
وعن أبي هريرة قال : أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع ، وإن كان عبدا حبشيًا مُجَدَّع الأطراف. رواه مسلم (4).
وعن أم الحصين أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع يقول : "ولو استعمل عليكم عبد (5) يقودكم بكتاب الله ، اسمعوا له وأطيعوا" رواه مسلم (6) وفي لفظ له : "عبدا حبشيًا مجدوعا".
وقال ابن جرير : حدثني علي بن مسلم الطوسي ، حدثنا ابن أبي فديك ، حدثني عبد الله بن محمد بن عروة (7) عن هشام بن عروة ، عن أبي صالح السمان ، عن أبي هريرة ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "سيليكم بعدي ولاة ، فيليكم البر ببره ، ويليكم الفاجر بفجوره ، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق ، وصلوا وراءهم ، فإن أحسنوا فلكم ولهم وإن أساءوا فلكم وعليهم" (8).
وعن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء ، كلما هلك نبي خلفه نبي ، وإنه لا نبي بعدي ، وسيكون خلفاء فيكثرون". قالوا : يا رسول الله ، فما تأمرنا ؟ قال : "أوفوا ببيعة الأول فالأول ، وأعطوهم حقهم ، فإن الله سائلهم عما استرعاهم" أخرجاه (9).
وعن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من رأى من أميره شيئًا فكرهه فليصبر ؛ فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبرا فيموت إلا مات ميتة جاهلية". أخرجاه (10).
__________
(1) سنن أبي داود برقم (2626) ، وصحيح البخاري برقم (7144) ، وصحيح مسلم برقم (1839).
(2) صحيح البخاري برقم (7199) ، وصحيح مسلم برقم (1709).
(3) صحيح البخاري برقم (693).
(4) رواه مسلم في صحيحه برقم (1837) من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه ، وليس من حديث أبي هريرة.
(5) في أ : "عبد حبشي".
(6) صحيح مسلم برقم (1838).
(7) في أ : "عرفة".
(8) تفسير الطبري (8/498).
(9) صحيح البخاري برقم (3455) ، وصحيح مسلم برقم (1842).
(10) صحيح البخاري برقم (7143) ، وصحيح مسلم برقم (1849).

(2/343)


وعن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من خلع يدا من طاعة ، لقي الله يوم القيامة لا حجة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية". رواه مسلم (1).
وروى مسلم أيضا ، عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة قال : دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة ، والناس حوله مجتمعون عليه ، فأتيتهم فجلست إليه فقال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه ، ومنا من يَنْتَضل ، ومنا من هو في جَشَره (2) إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : الصلاة جامعة. فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقًا عليه أن يَدُل أمته على خير ما يعلمه لهم ، وينذرهم شر ما يعلمه لهم ، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها (3) في أولها ، وسيصيب (4) آخرها بلاء وأمور تُنْكرونها ، وتجيء فتن يَرفُق بعضُها بعضا ، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن : هذه مهلكتي ، ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن : هذه هذه ، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه ، ومن بايع إماما فأعطاه صَفْقَة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع ، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عُنُق الآخر". قال : فدنوت منه فقلت : أنشدك بالله آنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيديه وقال : سمعته أذناي ووعاه قلبي ، فقلت له : هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ، ونقتل أنفسنا ، والله تعالى يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا } [النساء : 29]قال : فسكت ساعة ثم قال : أطعه في طاعة الله ، واعصه في معصية الله (5).
والأحاديث في هذا كثيرة.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن الحسين ، حدثنا أحمد بن المفضل (6) حدثنا أسباط ، عن السدي : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ } قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية عليها خالد بن الوليد ، وفيها عمار بن ياسر ، فساروا قبل القوم الذين يريدون ، فلما بلغوا قريبا (7) منهم عَرَّسوا ، وأتاهم ذو العُيَيْنَتَين فأخبرهم ، فأصبحوا قد هربوا غير رجل. فأمر (8) أهله فجمعوا (9) متاعهم ، ثم أقبل يمشي في ظلمة الليل ، حتى أتى عسكر خالد ، فسأل عن عمار بن ياسر ، فأتاه فقال : يا أبا اليقظان ، إني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا عبده ورسوله ، وإن قومي لما سمعوا بكم هربوا ، وإني بقيت ، فهل إسلامي نافعي غدا ، وإلا هربت ؟ قال عمار : بل هو ينفعك ، فأقم. فأقام ، فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد أحدًا غير الرجل ، فأخذه وأخذ ماله. فبلغ عمارا الخبر ، فأتى خالدا فقال : خل عن الرجل ، فإنه قد أسلم ، وإنه في أمان مني. فقال خالد : وفيم أنت
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1851).
(2) في أ : "شجرة".
(3) في ر : "عاقبتها".
(4) في أ : "وبقيت".
(5) صحيح مسلم برقم (1844).
(6) في ر ، أ : "ابن الفضل".
(7) في أ : "قبلا".
(8) في أ : "أمر".
(9) في ر : "فخرقوا" ، وفي أ : "فحزموا".

(2/344)


تجير ؟ فاستبا وارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأجاز أمان عمار ، ونهاه أن يجير الثانية على أمير. فاستبا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال خالد : يا رسول الله ، أتترك هذا العبد الأجدع يَسُبُّني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا خالد ، لا تسب عمارًا ، فإنه من يسب عمارا يسبه الله ، ومن يبغضه يبغضه الله ومن يلعن عمارا يلعنه الله" (1) فغضب عمار فقام ، فتبعه خالد حتى أخذ بثوبه فاعتذر إليه ، فرضي عنه ، فأنزل الله عز وجل قوله : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ }
وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، من طريق عن السدي ، مرسلا. ورواه ابن مردويه من رواية الحكم (2) بن ظهير ، عن السدي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس ، فذكره بنحوه (3) والله أعلم.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ } يعني : أهل الفقه والدين. وكذا قال مجاهد ، وعطاء ، والحسن البصري ، وأبو العالية : { وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ } يعني : العلماء. والظاهر - والله أعلم - أن الآية في جميع (4) أولي الأمر من الأمراء والعلماء ، كما تقدم. وقد قال تعالى : { لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ } [المائدة : 63] وقال تعالى : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [النحل : 43] وفي الحديث الصحيح المتفق عليه ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصا الله ، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ، ومن عصا أميري فقد عصاني" (5).
فهذه أوامر بطاعة العلماء والأمراء ، ولهذا قال تعالى : { أَطِيعُوا اللَّهَ } أي : اتبعوا كتابه { وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } أي : خذوا بسنته { وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ } أي : فيما أمروكم به من طاعة الله لا في معصية الله ، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله ، كما تقدم في الحديث الصحيح : "إنما الطاعة في المعروف". وقال الإمام أحمد :
حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة ، عن أبي مرابة ، عن عمران بن حصين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا طاعة في معصية الله" (6).
وقوله : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } قال مجاهد وغير واحد من السلف : أي : إلى كتاب الله وسنة رسوله.
وهذا أمر من الله ، عز وجل ، بأن كل شيء تنازع الناس (7) فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة ، كما قال تعالى : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ } [الشورى : 10] فما حكم به كتاب الله وسنة رسوله وشهدا له بالصحة فهو الحق ، وماذا بعد الحق إلا الضلال ، ولهذا قال تعالى : { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي : ردوا الخصومات والجهالات
__________
(1) في أ : "من أبغض عمارا أبغضه الله ، ومن لعن عمارا لعنه الله".
(2) في ر : "الحاكم".
(3) تفسير الطبري (8/498)
(4) في ر ، أ : "كل".
(5) رواه البخاري في صحيحه برقم (7137) ، ومسلم في صحيحه برقم (1835).
(6) المسند (4/426).
(7) في د : "المسلمون".

(2/345)


إلى كتاب الله وسنة رسوله ، فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم { إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ }
فدل على أن من لم يتحاكم في مجال النزاع إلى الكتاب والسنة ولا يرجع إليهما في ذلك ، فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر.
وقوله : { ذَلِكَ خَيْرٌ } أي : التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله. والرجوع في فصل النزاع إليهما خير { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا } أي : وأحسن عاقبة ومآلا كما قاله السدي وغير واحد. وقال مجاهد : وأحسن جزاء. وهو قريب.

(2/346)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا (63) }.
هذا إنكار من الله ، عز وجل ، على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين ، وهو مع ذلك يريد التحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله ، كما ذكر في سبب نزول هذه الآية : أنها في رجل من الأنصار ورجل من اليهود تخاصما ، فجعل اليهودي يقول : بيني وبينك محمد. وذاك يقول : بيني وبينك كعب بن الأشرف. وقيل : في جماعة من المنافقين ، ممن أظهروا الإسلام ، أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية. وقيل غير ذلك ، والآية أعم من ذلك كله ، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة ، وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل ، وهو المراد بالطاغوت هاهنا ؛ ولهذا قال : { يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ [وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا. وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا] (1) }.
وقوله : { يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا } أي : يعرضون عنك إعراضا كالمستكبرين عن ذلك ، كما قال تعالى عن المشركين : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } [لقمان : 21]هؤلاء وهؤلاء بخلاف المؤمنين ، الذين قال الله فيهم : { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا [وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] (2) } [النور : 51].
{ فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) }
ثم قال تعالى في ذم المنافقين : { فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } أي : فكيف بهم إذا ساقتهم المقادير إليك في مصائب تطرقهم بسبب ذنوبهم واحتاجوا إليك في ذلك ،
__________
(1) زيادة من أ ، وفي هـ : "إلى آخرها".
(2) زيادة من أ ، وفي هـ : "الآية".

(2/346)


وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)

{ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا } أي : يعتذرون إليك ويحلفون : ما أردنا بذهابنا إلى غيرك ، وتحاكمنا إلى عداك إلا الإحسان والتوفيق ، أي : المداراة والمصانعة ، لا اعتقادا منا صحة تلك الحكومة ، كما أخبرنا تعالى عنهم في قوله : { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى [أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ] (1) فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } [المائدة : 52].
وقد قال الطبراني : حدثنا أبو زيد أحمد بن يزيد الحَوْطِيّ ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا صفوان بن عمر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس. قال : كان أبو بَرْزَة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه فتنافر إليه ناس من المسلمين فأنزل الله عز وجل : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ [يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ] (2) } إلى قوله : { إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا }
ثم قال تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } [أي] (3) هذا الضرب من الناس هم المنافقون ، والله يعلم ما في قلوبهم وسيجزيهم على ذلك ، فإنه لا تخفى عليه خافية ، فاكتف به يا محمد فيهم ، فإن الله عالم بظواهرهم وبواطنهم ؛ ولهذا قال له : { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } أي : لا تعنفهم على ما في قلوبهم { وَعِظْهُمْ } أي : وانههم (4) على ما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر { وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا } أي : وانصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ رادع (5) لهم.
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمَا (65) }
يقول تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ } أي : فرضت طاعته على من أرسله (6) إليهم وقوله : { بِإِذْنِ اللَّهِ } قال مجاهد : أي لا يطيع أحد إلا بإذني. يعني : لا يطيعهم إلا من وفقته لذلك ، كقوله : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } [آل عمران : 52] أي : عن أمره وقدره ومشيئته ، وتسليطه إياكم عليهم.
وقوله : { وَلَوْ أَنْهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } يرشد تعالى العصاة والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيستغفروا الله عنده ، ويسألوه أن يستغفر لهم ، فإنهم إذا فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم وغفر لهم ، ولهذا قال : { لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا }
وقد ذكر جماعة منهم : الشيخ أبو نصر بن الصباغ في كتابه "الشامل" الحكاية المشهورة عن
__________
(1) زيادة من أ ، وفي هـ : "إلى قوله".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من د ، أ.
(4) في ر : "انههم".
(5) في ر : "وادع".
(6) في ر : "أرسلته".

(2/347)


العُتْبي ، قال : كنت جالسا عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء أعرابي فقال : السلام عليك يا رسول الله ، سمعت الله يقول : { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا } وقد جئتك مستغفرا لذنبي مستشفعا بك إلى ربي ثم أنشأ يقول :
يا خيرَ من دُفنَت بالقاع (1) أعظُمُه... فطاب منْ طيبهنّ القاعُ والأكَمُ...
نَفْسي الفداءُ لقبرٍ أنت ساكنُه... فيه العفافُ وفيه الجودُ والكرمُ...
ثم انصرف الأعرابي فغلبتني عيني ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال : يا عُتْبى ، الحقْ الأعرابيّ فبشره أن الله قد غفر له (2).
__________
(1) في أ : "في القاع".
(2) ذكر هذه الحكاية النووي في المجموع (8/217) وفي الإيضاح (ص498) ، وزاد البيتين التاليين : أنت الشفيع الذي ترجى شفاعته... على الصراط إذا ما زلت القدم
وصاحباك فلا أنساهما أبدا... مني السلام عليكم ما جرى القلم
وساقها بقوله : "ومن أحسن ما يقول : ما حكاه أصحابنا عن العتبي مستحسنين له ثم ذكرها بتمامها" ، وابن كثير هنا لم يروها ولم يستحسنها بل نقلها كما نقل بعض الإسرائيليات في تفسيره ، وهي حكاية باطلة ، وقصة واهية ، استدل بها بعض الناس بجواز التوسل بالرسول صلى الله عليه سلم بعد وفاته ، والرد عليها بأربعة أمور ذكرها الشيخ الفاضل صالح آل الشيخ في كتابه : "هذه مفاهيمنا" (ص76).
أولا : ما دام أنها ليست من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا فعل خلفائه الراشدين ، وصحابته المكرمين ، ولا من فعل التابعين ، والقرون المفضلة ، وإنما هي مجرد حكاية عن مجهول نقلت بسند ضعيف ، فكيف يحتج بها في عقيدة التوحيد ، الذي هو أصل الأصول ، وكيف يحتج بها وهي تعارض الأحاديث الصحيحة التي نهي فيها عن الغلو في القبور ، والغلو في الصالحين عموما ، وعن الغلو في قبره ، والغلو فيه صلى الله عليه وسلم خصوصا ، وأما من نقلها من العلماء أو استحسنها فليس ذلك بحجة تعارض بها النصوص الصحيحة وتخالف من أجلها عقيدة السلف ، فقد يخفى على بعض العلماء ما هو واضح لغيرهم ، وقد يخطئون في نقلهم ورأيهم ، وتكون الحجة مع من خالفهم.
وما دمنا قد علمنا طريق الصواب ، فلا شأن لنا بما قاله فلان أو حكاه فلان ، فليس ديننا مبنيا على الحكايات والمنامات ، وإنما هو مبني على البراهين الصحيحة.
ثانيا : قد تخفى بعض المسائل والمعاني على من خلع الأنداد ، وتبرأ من الشرك وأهله ، كما قال بعض الصحابة : "اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الله أكبر ، إنها السنن ، قلتم والذي نفسي بيده ما قاله أصحاب موسى : (اجعل لنا إلها كما لهم آلهة)" حديث صحيح.
والحجة في هذا : أن هؤلاء الصحابة ، وإن كانوا حديثي عهد بكفر ، فهم دخلوا في الدين بلا إله إلا الله ، وهي تخلع الأنداد ، وأصناف الشرك ، وتوحد المعبود ، فمع ذلك ومع معرفة قائليها الحقة بمعنى لا إله إلا الله ، خفي عليهم بعض المسائل من أفرادها ، وإنما الشأن أنه إذا وضح الدليل ، وأبينت الحجة ، فيجب الرجوع إليها والتزامها ، والجاهل قد يعذر ، كما عذر أولئك الصحابة في قولهم : "اجعل لنا ذات أنواط" ، وغيرهم من العلماء أولى باحتمال أن يخفى عليهم بعض المسائل ولو في التوحيد والشرك.
ثالثا : كيف يتجاسر أحد أن يعارض نصوص كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بقول حكاه حاك مستحسنا له ، والله سبحانه يقول : (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) [النور : 63].
قال الإمام أحمد : عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته ، يذهبون إلى رأي سفيان ، والله تعالى يقول : (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة) أتدري ما الفتنة ؟.
الفتنة : الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. رواه عن أحمد الفضل بن زياد وأبو طالب ، ولعله في كتاب "طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم" لأحمد رحمه الله.
فطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمة على طاعة كل أحد ، وإن كان خير هذه الأمة أبا بكر وعمر ، كما قال ابن عباس : يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون : قال أبو بكر وعمر.
فكيف لو رأى ابن عباس هؤلاء الناس الذين يعارضون السنة الثابتة ، والحجة الواضحة بقول أعرابي في قصة العتبى الضعيفة المنكرة.
إن السنة في قلوب محبيها أعظم وأغلى من تلك الحجج المتهافتة ، التي يدلي بها صاحب المفاهيم البدعية ، تلك المفاهيم المبنية على المنامات والمنكرات ، فاعجب لهذا ، وجرد المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحذار ثم حذار من أن ترد الأحاديث الصحيحة وتؤمن بالأخبار الباطلة الواهية ، فيوشك بمن فعل ذلك أن يقع في قلبه فتنة فيهلك.
رابعا : ما من عالم إلا ويرد عليه في مسائل اختارها إما عن رأي ، أو عن ضعف حجة ، وهم معذورون قبل إيضاح المحجة بدلائلها ، ولو تتبع الناس شذوذات المجتهدين ورخصهم ، لخرجوا عن دين الإسلام إلى دين آخر ، كما قيل : من تتبع الرخص تزندق ، ولو أراد مبتغ الفساد والعدول عن الصراط أن يتخذ له من رخصهم سلما يرتقي به إلى شهواته لكان الواجب على الحاكم قمعه وصده ، وتعزيره ، كما هو مشهور في فقه الأئمة الأربعة ، وغيرهم.
وما ذكر ففيه أن من أحال لتبرير جرمه على قول عالم ، عُلم خطؤه فيه أنه يقبل منه ولا يؤخذ بالعتاب.
اللهم احفظ علينا ديننا ، وتوحيدنا.

(2/348)


وقوله : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة : أنه لا يؤمن أحد حتى يُحَكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور ، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنا وظاهرا ؛ ولهذا قال : { ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } أي : إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجا مما حكمت به ، وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليما كليا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة ، كما ورد في الحديث : "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به".
وقال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله حدثنا محمد بن جعفر ، أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عُرْوَة قال : خاصم الزبير رجلا (1) في شُرَيج (2) من الحَرَّة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "اسق يا زُبير ثم أرْسل الماء إلى جارك" فقال الأنصاري : يا رسول الله ، أنْ كان ابن عمتك ؟ (3) فَتَلَوَّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : "اسق يا زبير ، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدْر ، ثم أرسل الماء إلى جارك" واستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حَقّه في صريح الحكم ، حين أحفظه الأنصاري ، وكان أشار عليهما بأمر لهما فيه سعة. قال الزبير : فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } الآية.
وهكذا رواه البخاري هاهنا أعني في كتاب : "التفسير" من صحيحه من حديث معمر : وفي كتاب : "الشرب" من حديث ابن جُرَيْج ومعمر أيضا ، وفي كتاب : "الصلح" من حديث شعيب بن أبي حمزة ، ثلاثتهم عن الزهري عن عروة ، فذكره (4) وصورته صورة الإرسال ، وهو متصل في المعنى.
وقد رواه الإمام أحمد من هذا الوجه فصرح بالإرسال فقال : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني عروة بن الزبير : أن الزبير كان يحدث : أنه كان يخاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة ، كانا يسقيان بها كلاهما ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للزبير : "اسق ثم أرسل إلى جارك" فغضب الأنصاري وقال : يا رسول الله ، أن كان ابن عمتك ؟ (5) فتلوّن وجه رسول
__________
(1) في أ : "رجلا من الأنصار".
(2) في ر : "شريح".
(3) في أ : "عمك".
(4) صحيح البخاري برقم (4585) ، (2361) ، (2362) ، (2708).
(5) في أ : "عمك".

(2/349)


الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : "اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجَدْر" فاستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري ، فلما أحفظ (1) الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم استوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم ، قال عروة : فقال الزبير : والله ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }
هكذا رواه الإمام أحمد (2) وهو منقطع بين عروة وبين أبيه الزبير ؛ فإنه لم يسمع منه ، والذي يقطع به أنه سمعه من أخيه عبد الله ، فإن أبا محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم رواه كذلك في تفسيره فقال :
حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، حدثنا الليث ويونس ، عن ابن شهاب ، أن عروة بن الزبير حدثه أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام : أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج في الحَرة ، كانا يسقيان به كلاهما النخل ، فقال الأنصاري : سَرِّح الماء يَمُر. فأبى عليه الزبير ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك" فغضب الأنصاري وقال : يا رسول الله ، أن كان ابن عَمَّتك ؟ فتلوَّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : "اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجَدْر" واستوعى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للزبير حَقّه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه السعة له وللأنصاري ، فلما أحفظ (3) الأنصاري رسولَ الله صلى الله عليه وسلم استوعى للزبير حقه في صريح الحكم فقال الزبير : ما أحسب هذه الآية إلا في ذلك : { فَلا وَرَبِّكَ لا يَؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }
وهكذا رواه النسائي من حديث ابن وهب ، به (4) ورواه أحمد والجماعة كلهم من حديث الليث ، به (5) وجعله أصحاب الأطراف في مسند عبد الله بن الزبير ، وكذا ساقه الإمام أحمد في مسند عبد الله بن الزبير ، والله أعلم. والعجب كل العجب من الحاكم أبي عبد الله النيسابوري ، فإنه روى هذا الحديث من طريق ابن أخي ابن شهاب ، عن عمه ، عن عروة ، عن عبد الله بن الزبير ، عن الزبير فذكره ، ثم قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه. فإني لا أعلم أحدا قام بهذا الإسناد عن الزهري يذكر عبد الله بن الزبير ، غير ابن أخيه ، وهو عنه ضعيف. (6)
وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه : حدثنا محمد بن علي أبو دُحَيم ، حدثنا أحمد بن حازم ، حدثنا الفضل بن دُكَين ، حدثنا ابن عُيَيْنة ، عن عمرو بن دينار ، عن سلمة - رجل من آل أبي سلمة - قال :
__________
(1) في ر : "أخفظ".
(2) المسند (1/165).
(3) في ر : "أخفظ".
(4) سنن النسائي (8/238).
(5) المسند (4/4) ، وصحيح البخاري برقم (2359) ، وصحيح مسلم برقم (2357) ، وسنن أبي داود برقم (3637) ، وسنن الترمذي برقم (1363) ، وسنن النسائي (8/245) ، وسنن ابن ماجة برقم (15).
(6) المستدرك (3/364).

(2/350)


خاصم الزبير رجلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للزبير ، فقال الرجل : إنما قضى له لأنه ابن عمته. فنزلت : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ } الآية (1).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن عثمان ، حدثنا أبو حيوة ، حدثنا سعيد بن عبد العزيز ، عن الزُّهري ، عن سعيد بن المسيب في قوله : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ [حَتَّى يُحَكِّمُوكَ] (2) } [الآية] (3) قال : نزلت في الزبير بن العوام ، وحاطب بن أبي بلتعة. اختصما في ماء ، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن يسقي الأعلى ثم الأسفل. هذا مرسل ولكن فيه فائدة تسمية الأنصاري (4).
ذكر سبب آخر غريب جدا :
قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عبد الله بن لَهِيعة ، عن أبي الأسود قال : اختصم رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى بينهما ، فقال الذي قضى عليه : ردنا إلى عمر بن الخطاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "انطلقا (5) إليه" فلما أتيا إليه قال الرجل : يا ابن الخطاب ، قضى لي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا ، فقال : ردنا إلى عمر. فردنا إليك. فقال : أكذاك ؟ فقال : نعم فقال عمر : مَكَانَكُمَا حتى أخرج إليكما فأقضي بينكما. فخرج إليهما مشتملا على سيفه ، فضرب الذي قال رُدَّنا إلى عمر فقتله ، وأدبر الآخر فارا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله قتل عُمَر والله صاحبي ، ولولا أني أعجزتُه لقتلني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما كنت أظن أن يجترئ عُمَر على قتل مؤمن" فأنزل الله : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ } (6) الآية ، فهدر دم ذلك الرجل ، وبرئ عمر من قتله ، فكره الله أن يسن ذلك بعد ، فقال : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } [النساء : 66].
وكذا رواه ابن مَرْدُويه من طريق ابن لَهِيعة ، عن أبي الأسود به.
وهو أثر غريب ، وهو مرسل ، وابن لهيعة ضعيف (7) والله أعلم.
طريق أخرى : قال الحافظ أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن دُحَيْم في تفسيره : حدثنا شُعَيب بن شعيب حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا عتبة بن ضَمْرَة ، حدثني أبي : أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للمحق على المبطل ، فقال المقضيّ عليه : لا أرضى. فقال صاحبه : فما تريد ؟ قال : أن نذهب إلى أبي بكر الصديق ، فذهبا إليه ، فقال الذي قُضي له : قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى لي (8) فقال أبو بكر : فأنتما على ما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم فأبى صاحبه أن يرضى ، قال : نأتي
__________
(1) ورواه الحميدي في مسنده برقم (300) ، وسعيد بن منصور في سننه برقم (660) من طريق سفيان بن عيينة به مرسلا.
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من ر ، أ.
(4) ذكره السيوطي في الدر (2/584).
(5) في ر ، أ : "نعم انطلقا".
(6) في ر ، أ جاءت الآية تامة.
(7) ذكره السيوطي في الدر (2/585).
(8) في أ : "عليه".

(2/351)


عمر بن الخطاب ، فأتياه ، فقال المقضى له : قد اختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقضى لي عليه ، فأبى أن يرضى ، [ثم أتينا أبا بكر ، فقال : أنتما على ما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأبى أن يرضى] (1) فسأله عمر ، فقال : كذلك ، فدخل عمر منزله وخرج والسيف في يده قدْ سَلَّه ، فضرب به رأس الذي أبى أن يرضى ، فقتله ، فأنزل الله : { فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } [إلى آخر] (2) الآية (3).
__________
(1) زيادة من أ ، ر.
(2) زيادة من أ ، ر.
(3) وذكره المؤلف ابن كثير في مسند عمر بن الخطاب.

(2/352)


وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)

{ وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70) }
يخبر تعالى عن أكثر الناس أنهم لو أمروا بما هم مرتكبونه من المناهي لما فعلوه ؛ لأن طباعهم الرديئة مجبولة على مخالفة الأمر ، وهذا من علمه - تبارك وتعالى - بما لم يكن أو كان فكيف كان يكون ؛ ولهذا قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ }
قال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثني إسحاق ، حدثنا أبو زهير (1) عن إسماعيل ، عن أبي إسحاق السبيعي ، قال : لما نزلت : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهْ إلا قَلِيلٌ [مِنْهُمْ] (2) } الآية ، قال رجل : لو أمرنا لفعلنا ، والحمد لله الذي عافانا. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "إن من أمتي لرجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي" (3).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا جعفر بن منير ، حدثنا روح ، حدثنا هشام ، عن الحسن قال : لما نزلت هذه الآية : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } الآية. قال أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : لو فعل ربنا لفعلنا ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "لَلإيمان (4) أثبت في قلوب أهله من الجبال الرواسي".
وقال السدي : افتخر ثابت بن قيس بن شَمَّاس ورجل من اليهود ، فقال اليهودي : والله لقد كتب الله علينا القتل فقتلنا أنفسنا. فقال ثابت : والله لو كتب علينا : { أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } لقتلنا. فأنزل الله هذه الآية. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمود بن غَيْلان ، حدثنا بشر بن السَّرِي ، حدثنا مصعب
__________
(1) في ر : "أبو الأزهر".
(2) زيادة من أ.
(3) تفسير الطبري (8/526).
(4) في أ : "الإيمان".

(2/352)


بن ثابت ، عن عمه عامر بن عبد الله بن الزبير ، قال : لما نزلت [ { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } قال أبو بكر : يا رسول الله ، والله لو أمرتني أن أقتل نفسي لفعلت ، قال : "صدقت يا أبا بكر".
حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن أبي عمر العَدَنيّ قال : سئل سفيان عن قوله] (1) { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ } قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو نزلت لكان ابن أم عبد منهم".
وحدثنا أبي ، حدثنا أبو اليمان ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن صفوان بن عمرو ، عن شُرَيْح بن عُبَيْد قال : لما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ] (2) } الآية ، أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى عبد الله بن رَواحة ، فقال : "لو أن الله كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل" يعني : ابن رواحة.
ولهذا قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ } أي : ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به ، وتركوا ما ينهون عنه { لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ } أي : من مخالفة الأمر وارتكاب النهي { وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا } قال السدي : أي : وأشد تصديقا.
{ وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا } أي : من عندنا ، { أَجْرًا عَظِيمًا } يعني : الجنة. { وَلَهَدَيناهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا } أي في الدنيا والآخرة.
ثم قال تعالى : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } أي : من عمل بما أمره الله ورسوله ، وترك ما نهاه الله عنه ورسوله ، فإن الله عز وجل يسكنه دار كرامته ، ويجعله مرافقًا للأنبياء ثم لمن بعدهم في الرتبة ، وهم الصديقون ، ثم الشهداء ، ثم عموم المؤمنين وهم الصالحون الذين صلحت سرائرهم وعلانيتهم.
ثم أثنى عليهم تعالى فقال : { وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا }
وقال البخاري : حدثنا محمد بن عبد الله بن حَوْشَب ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن أبيه ، عن عُرْوَة ، عن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ما من نبي يَمْرَضُ إلا خُيِّر بين الدنيا والآخرة" وكان في شكواه التي قبض فيه ، فأخذته بُحَّة شديدة فسمعته يقول : { مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ } فعلمت أنه خُيِّر.
وكذا رواه مسلم من حديث شعبة ، عن سعد (3) بن إبراهيم به (4).
وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر : "اللهم في الرفيق الأعلى" ثلاثا ثم قضى ، عليه أفضل الصلاة والتسليم (5).
ذكر سبب نزول هذه الآية الكريمة :
قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب القُمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جُبير قال : جاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محزون ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "يا فلان ، ما لي
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من أ.
(3) في أ : "سعيد".
(4) صحيح البخاري برقم (4435) وصحيح مسلم برقم (2444).
(5) رواه البخاري برقم (4436) من حديث عائشة رضي الله عنها.

(2/353)


أراك محزونًا ؟" قال : يا نبي الله (1) شيء فكرت فيه ؟ قال : "ما هو ؟" قال : نحن نغدو عليك ونروح ، ننظر إلى وجهك ونجالسك ، وغدا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك. فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه شيئا ، فأتاه جبريل بهذه الآية : { وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَم اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ [وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا] (2) } فبعث النبي صلى الله عليه وسلم فبشره.
قد روي هذا الأثر مرسلا عن مسروق ، وعكرمة ، وعامر الشَّعْبي ، وقتادة ، وعن الربيع بن أنس ، وهو من أحسنها (3) سندًا. (4)
قال ابن جرير : حدثنا المثنى ، حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : { وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ [فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَم اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ] (5) } الآية ، قال : إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : قد علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم له فضل على من آمن به في درجات الجنة ممن اتبعه وصدقه ، وكيف لهم إذا اجتمعوا في الجنة أن يرى بعضهم بعضا ؟ فأنزل الله في ذلك - يعني هذه الآية - فقال : يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الأعْلَيْنَ ينحدرون إلى من هو أسفل منهم ، فيجتمعون في رياضها ، فيذكرون ما أنعم الله عليهم ويثنون عليه ، وينزل لهم أهل الدرجات فيسعون عليهم بما يشتهُون وما يدعون به ، فهم في روضة يحبرون ويتنعمون (6) فيه" (7).
وقد روي مرفوعا من وجه آخر ، فقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الرحيم بن محمد بن مسلم ، حدثنا إسماعيل بن أحمد بن أسيد ، حدثنا عبد الله بن عمران ، حدثنا فضيل بن عياض ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة قالت : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله : إنك لأحب إلي من نفسي وأحب إلي من أهلي ، وأحب إلي من ولدي ، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك ، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين ، وإن دخلت الجنة خشيت ألا أراك. فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت عليه : { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا }
وهكذا رواه الحافظ أبو عبد الله المقدسي في كتابه : "صفة الجنة" ، من طريق الطبراني ، عن أحمد بن عمرو بن مسلم الخلال ، عن عبد الله بن عمران العابدي ، به. ثم قال : لا أرى بإسناده بأسا (8) والله أعلم.
__________
(1) في ر : "يا رسول الله".
(2) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(3) في ر : "شيئا" ، وفي أ : "سياق".
(4) تفسير الطبري (8/534 ، 535).
(5) زيادة من أ.
(6) في د : "يتمتعون".
(7) تفسير الطبري (8/535) وهذا مرسل ، وانظر المقدمة في النسخ التفسيرية ، ففيها الكلام على نسخة أبي جعفر الرازي.
(8) ورواه الطبراني في الأوسط برقم (3308) "مجمع البحرين" ومن طريق أبو نعيم في الحلية (8/125) من طريق أحمد بن عمرو الخلال عن عبد الله بن عمران عن فضيل عن منصور به.
وقال الطبراني : "غريب من حديث فضيل ومنصور تفرد به العابدي".
قال الهيثمي في المجمع (7/7) : "رجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن عمران وهو ثقة".

(2/354)


وقال ابن مردويه أيضًا : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا العباس بن الفضل الأسفاطي ، حدثنا أبو بكر بن ثابت بن عباس المصري (1) حدثنا خالد بن عبد الله ، عن عطاء بن السائب ، عن عامر الشعبي ، عن ابن عباس ، أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني لأحبك حتى إني لأذكرك في المنزل فيشق ذلك علي (2) وأحب أن أكون معك في الدرجة. فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا ، فأنزل الله عز وجل [ { وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَم اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وِالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } (3) ] (4).
وقد رواه ابن جرير ، عن ابن حُمَيْد ، عن جرير ، عن عطاء ، عن الشعبي ، مرسلا. وثبت في صحيح مسلم من حديث هقل بن زياد ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن ربيعة بن كعب الأسلمي أنه قال : كنت أبيت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته ، فقال لي : "سَلْ". فقلت : يا رسول الله ، أسألك مرافقتك في الجنة. فقال : "أو غَيْرَ ذلك ؟" قلت : هو ذاك. قال : "فَأَعِنِّي على نفسك بكثرة السجود" (5).
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، أخبرنا ابن لهيعة ، عن عبيد الله بن أبي جعفر ، عن عيسى بن طلحة ، عن عمرو بن مُرَّةَ الجُهَنِيّ قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الخمس وأديت زكاة مالي وصمت شهر رمضان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا - ونصب أصبعيه - ما لم يعق والديه" تفرد به أحمد (6).
قال الإمام أحمد أيضا : حدثنا أبو سعيد مولى أبي هاشم ، حدثنا ابن لهيعة ، عن زَبَّان (7) بن فائد ، عن سهل بن معاذ بن أنس ، عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من قرأ ألف آية في سبيل الله كتب يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقا ، إن شاء الله" (8).
وروى الترمذي من طريق سفيان الثوري ، عن أبي حمزة ، عن الحسن البصري ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء".
ثم قال : هذا حديث حسن لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وأبو حمزة اسمه عبد الله بن جابر شيخ بصري (9).
وأعظم من هذا كله بشارة ما ثبت في الصحاح والمسانيد وغيرهما ، من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم ؟ فقال : "المرء مع من
__________
(1) في د ، ر : "ابن عياش البصري".
(2) في د : "علي ذلك".
(3) زيادة من ر ، وفي هـ : "هذه الآية"
(4) سليمان بن أحمد هو الطبراني ، ورواه في المعجم الكبير (12/86) ، قال الهيثمي في المجمع (7/7) : "فيه عطاء بن السائب وقد اختلط".
(5) صحيح مسلم برقم (489).
(6) ليس في المسند.
(7) في و : "زياد".
(8) المسند (4/437) وفيه : "حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة فذكره". وقال الهيثمي (2/269) : "فيه ابن لهيعة عن زبان وفيه كلام".
(9) سنن الترمذي برقم (1209).

(2/355)


أحب" قال أنس : فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث (1).
وفي رواية (2) عن أنس أنه قال : إني أحب (3) رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأحب أبا بكر وعمر ، رضي الله عنهما (4) وأرجو أن الله يبعثني الله معهم وإن لم أعمل كعملهم (5).
وقال الإمام مالك بن أنس ، عن صفوان بن سليم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم ، كما تتراءون (6) الكوكب الدري الغابر من (7) الأفق من المشرق أو المغرب لِتَفَاضُلِ ما بينهم". قالوا : يا رسول الله ، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ؟ قال : "بلى ، والذي نفسي بيده ، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين".
أخرجاه في الصحيحين من حديث مالك (8) ولفظه لمسلم.
وقال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا فزارة ، أخبرني فُلَيْح ، عن هلال - يعني ابن علي - عن عطاء ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن أهل الجنة ليتراءون في الجنة كما تراءون - أو تَرون - الكوكب الدري الغارب في الأفق والطالع في تفاضل الدرجات". قالوا : يا رسول الله ، أولئك النبيون ؟ قال : "بلى ، والذي نفسي بيده ، وأقوام آمنوا بالله وصدقوا المرسلين".
قال الحافظ الضياء المقدسي : هذا الحديث على شرط البخاري (9) والله أعلم.
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا محمد بن عمار الموصلي ، حدثنا عُفَيْف بن سالم ، عن أيوب بن عُتْبة (10) عن عطاء ، عن ابن عمر قال : أتى رجل من الحبشة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "سَلْ واسْتَفْهِمْ". فقال : يا رسول الله ، فُضِّلتُم علينا بالصور والألوان والنبوة ، أفرأيت إن آمنتُ بما آمنتَ به ، وعملتُ مثلَ ما عملتَ به ، إني لكائن معك في الجنة ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "نعم ، والذي نفسي بيده إنه ليضيء بياض الأسود في الجنة من مسيرة ألف عام" قال : ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من قال : لا إله إلا الله ، كان له بها عهد عند الله ، ومن قال : سبحان الله وبحمده ، كتب له بها مائة ألف حسنة وأربعة وعشرون ألف حسنة" فقال رجل : كيف نهلك بعدها يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الرجل ليأتي يوم القيامة بالعمل لو وضع على جبل لأثقله ، فتقوم النعمة من نعم الله فتكاد أن تستنفد ذلك كله إلا أن يتطاول الله برحمته" ونزلت هذه الآيات (11) { هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا } إلى قوله : { نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا } [الإنسان : 1 - 20] فقال الحبشي : وإن عيني لتريان ما ترى عيناك في الجنة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "نعم". فاستبكى حتى فاضت نفسه ، قال ابن عمر : لقد
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (6167) ورواه مسلم في صحيحه برقم (2639).
(2) في د : "وفي لفظ".
(3) في أ : "لأحب".
(4) في ر : "عنهم".
(5) صحيح مسلم برقم (2639).
(6) في أ : "يتراءون".
(7) في أ : "في".
(8) صحيح البخاري برقم (3256) وصحيح مسلم برقم (2831).
(9) المسند (2/339).
(10) في النسخ : "أيوب عن عتبة" وهو تحريف.
(11) في ر ، أ : "السورة".

(2/356)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)

رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدليه في حفرته بيديه.
فيه غرابة ونكارة ، وسنده ضعيف (1).
ولهذا قال تعالى : { ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ } أي : من عند الله برحمته ، هو الذي أهلهم لذلك ، لا بأعمالهم. { وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا } أي : هو عليم بمن يستحق الهداية والتوفيق.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) }
يأمر الله عباده المؤمنين بأخذ الحذر من عدوهم ، وهذا يستلزم التأهب لهم بإعداد الأسلحة والعدد وتكثير العدد بالنفير في سبيله.
{ ثُبَاتٍ } أي : جماعة بعد جماعة ، وفرقة بعد فرقة ، وسرية بعد سرية ، والثبات : جمع ثُبَة ، وقد تجمع الثبة على ثُبين.
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ } أي : عُصبا يعني : سرايا متفرقين { أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا } يعني : كلكم.
وكذا رُوي عن مجاهد ، وعكرمة ، والسدي ، وقتادة ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، ومُقاتل بن حَيَّان ، وخُصَيف الجَزَري.
وقوله : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ } قال مجاهد وغير واحد : نزلت في المنافقين ، وقال مقاتل بن حيان : { ليبطئن } أي : ليتخلفن عن الجهاد.
ويحتمل أن يكون المراد أنه يتباطأ هو في نفسه ، ويبطئ غيره عن الجهاد ، كما كان عبد الله بن أبي بن سلول - قبحه الله - يفعل ، يتأخر عن الجهاد ، ويُثَبّط الناس عن الخروج فيه. وهذا قول ابن جُرَيْج وابن جَرِيرٍ ؛ ولهذا قال تعالى إخبارا عن المنافق أنه يقول إذا تأخر عن الجهاد : { فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ } أي : قتل وشهادة وغلب العدو لكم ، لما لله في ذلك من الحكمة { قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا } أي : إذ لم أحضر معهم وقعة القتال ، يعد ذلك من نعم الله عليه ، ولم يدر ما فاته من الأجر في الصبر أو الشهادة إن قتل.
{ وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ } أي : نصر وظفر وغنيمة { لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَه مَوَدَّةٌ } (2) أي :
__________
(1) المعجم الكبير (12/436) ، ووجه ضعفه أن فيه أيوب بن عتبة وهو ضعيف.
(2) في ر : قال".

(2/357)


كأنه ليس من أهل دينكم { يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا } أي : بأن يضرب لي بسهم معهم فأحصل عليه. وهو أكبر قصده وغاية مراده.
ثم قال تعالى : { فَلْيُقَاتِلْ } أي : المؤمن النافر { فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ } أي : يبيعون دينهم بعَرَض قليل من الدنيا ، وما ذلك (1) إلا لكفرهم وعدم إيمانهم.
ثم قال تعالى : { وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } أي : كل من قاتل في سبيل الله - سواء قتل أو غَلَب وسَلَب - فله عند الله مثوبة عظيمة وأجر جزيل ، كما ثبت في الصحيحين (2) وتكفل الله للمجاهد في سبيله ، إن (3) توفاه أن يدخله الجنة ، أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة.
__________
(1) في د ، ر : "وذاك".
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (7463 ، 7457) ومسلم في صحيحه برقم (1876) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) في د ، ر ، أ : "بأن".

(2/358)


وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)

{ وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) }
يحرض تعالى عباده المؤمنين على الجهاد في سبيله وعلى السعي في استنقاذ المستضعفين بمكة (1) من الرجال والنساء والصبيان المتبرمين بالمقام بها ؛ ولهذا قال تعالى : { الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ } يعني : مكة ، كقوله تعالى : { وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ } [محمد : 13].
ثم وصفها بقوله : { الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا } أي : سخر لنا من عندك وليا وناصرا.
قال البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا سفيان ، عن عبيد الله (2) قال : سمعت ابن عباس قال : كنت أنا وأمي من المستضعفين.
حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن ابن [أبي] (3) مُلَيْكَة أن ابن عباس تلا { إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ } قال : كنت أنا وأمي ممن عَذَرَ الله عز وجل (4).
ثم قال تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ } أي : المؤمنون يقاتلون في طاعة الله ورضوانه ، والكافرون يقاتلون في طاعة الشيطان.
__________
(1) في أ : "في مكة".
(2) في د : "عبد الله".
(3) زيادة من د ، ر ، أ.
(4) صحيح البخاري برقم (4587 ، 4588) ،

(2/358)


أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)

ثم هَيَّجَ تعالى المؤمنين على قتال أعدائه بقوله : { فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا }
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) }
كان المؤمنون في ابتداء الإسلام - وهم بمكة - مأمورين بالصلاة والزكاة وإن لم تكن ذات النُّصُب ، لكن كانوا مأمورين بمواساة الفقراء منهم ، وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين ، وكانوا يتحرقون ويودون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم ، ولم يكن الحال إذ ذاك مناسبا لأسباب كثيرة ، منها : قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم ، ومنها كونهم كانوا في بلدهم وهو بلد حرام وأشرف بقاع الأرض ، فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداء لائقا. فلهذا لم يؤمر بالجهاد إلا بالمدينة ، لما صارت لهم دار ومنعة وأنصار ، ومع هذا لما أمروا بما كانوا يودونه جَزع بعضهم منه وخافوا من مواجهة الناس خوفا شديدا { وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ } أي : لو ما أخرت فرضه إلى مدة أخرى ، فإن فيه سفك الدماء ، ويُتْم الأبناء ، وتأيّم النساء ، وهذه الآية في معنى قوله تعالى { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نزلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةُ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ [رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونُ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فِإِذَا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ] } [محمد : 20 ، 21]. (1)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رِزْمة (2) وعلي بن زنجة قالا حدثنا علي بن الحسن ، عن الحسين بن واقد ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابًا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ، فقالوا : يا نبي الله ، كنا في عزّ ونحن مشركون ، فلما آمنا صرنا أذلة : قال : "إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم". فلما حوله الله إلى المدينة أمره بالقتال ، فكفوا. فأنزل الله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ [وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ] (3) } الآية.
__________
(1) زيادة من ر. وفي هـ : "الآية".
(2) في أ : "زرعه".
(3) زيادة من ر ، أ.

(2/359)


ورواه النسائي ، والحاكم ، وابن مَرْدُويه ، من حديث علي بن الحسن بن شَقِيق ، به (1).
وقال أسباط ، عن السدي : لم يكن عليهم إلا الصلاة والزكاة ، فسألوا الله أن يفرض عليهم القتال ، فلما كتب عليهم القتال : { إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ } وهو الموت ، قال الله تعالى : { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى }
وعن مجاهد : إن هذه الآيات (2) نزلت في اليهود. رواه ابن جرير.
وقوله : { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى } أي : آخرة المتقي خير من دنياه.
{ وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا } أي : من أعمالكم بل توفونها أتم الجزاء. وهذه تسلية لهم عن الدنيا. وترغيب لهم في الآخرة ، وتحريض لهم على الجهاد.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدَّوْرَقي ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا حماد بن زيد ، عن هشام قال : قرأ الحسن : { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ } قال : رحم الله عبدا صحبها على حسب ذلك ، ما (3) الدنيا كلها أولها وآخرها إلا كرجل نام نومة ، فرأى في منامه بعض ما يحب ، ثم انتبه.
وقال ابن مَعين : كان أبو مُسْهِر ينشد :
ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له... مِنَ الله في دار المقام نَصيبُ...
فإن تُعْجب الدنيا رجَالا فإنها... مَتَاع قليل والزّوَال قريبُ...
وقوله : { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } أي : أنتم صائرون إلى الموت لا محالة ، ولا ينجو منه أحد منكم ، كما قال تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وِالإكْرَامِ] (4) } [الرحمن : 26 ، 27] وقال تعالى { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } [آل عمران : 185] وقال تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ } [الأنبياء : 34] والمقصود : أن كل أحد صائر إلى الموت لا محالة ، ولا ينجيه من ذلك شيء ، وسواء عليه جاهد أو لم يجاهد ، فإن له أجلا محتوما ، وأمدا مقسوما ، كما قال خالد بن الوليد حين جاء الموت على فراشه : لقد شهدت كذا وكذا موقفا ، وما من عضو من أعضائي إلا وفيه جرح من طعنة أو رمية ، وها أنا أموت على فراشي ، فلا نامت أعين الجبناء (5).
وقوله : { وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } أي : حصينة منيعة عالية رفيعة. وقيل : هي بروج في السماء. قاله السدي ، وهو ضعيف. والصحيح : أنها المنيعة. أي : لا يغني حذر وتحصن من الموت ، كما قال زهير بن أبي سلمى : (6)
__________
(1) سنن النسائي الكبرى برقم (11112) والمستدرك (2/307).
(2) في أ : "الآية".
(3) في ر ، أ : "وما".
(4) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(5) رواه الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق كما في المختصر لابن المنظور (8/26) من طريق أبي الزناد أن خالد لما حضرته الوفاة بكى وقال... فذكره.
(6) في ر ، أ : "طرفة بن العبد".

(2/360)


وَمَن خَاف أسبابَ المَنيّة يَلْقَهَا... ولو رَامَ أسبابَ السماء بسُلَّم (1)
ثم قيل : "المشَيَّدَة" هي المَشِيدَة كما قال : "وَقَصْرٍ مَشِيدٍ" [الحج : 45] وقيل : بل بينهما فرق ، وهو أن المُشَيَّدة بالتشديد ، هي : المطولة ، وبالتخفيف هي : المزينة بالشيد وهو الجص.
وقد ذكر ابن جرير ، وابن أبي حاتم هاهنا حكاية مطولة عن مجاهد : أنه ذكر أن امرأة فيمن كان قبلنا أخذها الطَّلْقُ ، فأمرت أجيرها أن يأتيها بنار ، فخرج ، فإذا هو برجل واقف على الباب ، فقال : ما ولدت المرأة ؟ فقال : جارية ، فقال : أما إنها ستزني بمائة رجل ، ثم يتزوجها أجيرها ، ويكون موتها بالعنكبوت. قال : فَكَرَّ راجعا ، فبعج الجارية بسكين في بطنها ، فشقه ، ثم ذهب هاربا ، وظن أنها قد ماتت ، فخاطت أمها بطنها ، فبرئت وشبت وترعرعت ، ونشأت أحسن امرأة ببلدتها (2) فذهب ذاك [الأجير] (3) ما ذهب ، ودخل البحور فاقتنى أموالا جزيلة ، ثم رجع إلى بلده وأراد التزويج ، فقال لعجوز : أريد أن أتزوج بأحسن امرأة بهذه البلدة. فقالت له : ليس هنا أحسن من فلانة. فقال : اخطبيها علي. فذهبت إليها فأجابت ، فدخل بها فأعجبته إعجابا شديدًا ، فسألته عن أمره ومن أين مقدمه (4) ؟ فأخبرها خبره ، وما كان من أمره في هربه. فقالت : أنا هي. وأرته مكان السكين ، فتحقق ذلك فقال : لئن كنت إياها فلقد أخبرتني باثنتين لا بد منهما ، إحداهما : أنك قد زنيت بمائة رجل. فقالت : لقد كان شيء من ذلك ، ولكن لا أدري ما عددهم ؟ فقال : هم مائة. والثانية : أنك تموتين بالعنكبوت. فاتخذ لها قصرا منيعا شاهقا ، ليحرزها من ذلك ، فبينا هم يوما إذا بالعنكبوت في السقف ، فأراها إياها ، فقالت : أهذه التي تحذرها علي ، والله لا يقتلها إلا أنا ، فأنزلوها من السقف فعمدت إليها فوطئتا بإبهام رجلها فقتلتها ، فطار من سمها شيء (5) فوقع بين ظفرها ولحمها ، فاسودت رجلها وكان في ذلك أجلها (6).
ونذكر هاهنا قصة صاحب الحَضْر ، وهو "الساطرون" لما احتال عليه "سابور" حتى حصره فيه ، وقتل من فيه بعد محاصرة سنتين ، وقالت العرب في ذلك أشعارا منها : وأخو الحَضْر إذ بناه وإذ دجـ... لة تُجْبَى إليه والخابورُ...
شاده مَرْمَرا وجلله كلْ... سا فللطير في ذُرَاه وُكُور...
لم تَهَبْهُ أيدي المنون فباد الـ... مُلْكُ عنه فبابُه مَهْجور...
ولما دخل على عثمان جعل يقول : اللهم اجمع أمة محمد ، ثم تمثل بقول الشاعر :
أرى الموتَ لا يُبقي عَزيزا ولم يَدَعْ... لعاد ملاذَّا في البلاد ومَرْبَعا...
يُبَيَّتُ أهلُ الحِصْن والحصنُ مغلقٌ... ويأتي الجبالَ في شَماريخها معا (7)
وقوله : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ } أي : خصب ورزق من ثمار وزروع وأولاد ونحو (8) ذلك هذا معنى
__________
(1) البيت من معلقة زهير بن أبي سلمى ، وهو في ديوانه (ص 30).
(2) في ر ، أ : "ببلدها".
(3) زيادة من أ ، والطبري.
(4) في أ : "وعن مقدمه".
(5) في ر : "وطار شيء من سمها".
(6) تفسير الطبري (8/552).
(7) في ر : "العلا".
(8) في ر : "وغير".

(2/361)


قول ابن عباس وأبي العالية والسدي { يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } أي : قحط وجدب ونقص في الثمار والزروع أو موت أولاد أو نتاج أو غير ذلك. كما يقوله أبو العالية والسدي. { يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ } أي : من قبلك وبسبب اتباعنا لك واقتدائنا بدينك. كما قال تعالى عن قوم فرعون : { فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ } [الأعراف : 131] وكما قال تعالى : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ [فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وِإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ] (1) } الآية [الحج : 11]. وهكذا قال هؤلاء المنافقون الذين دخلوا في الإسلام ظاهرا وهم كارهون له في نفس الأمر ؛ ولهذا إذا أصابهم شر إنما يسندونه إلى اتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم وقال (2) السدي : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ } قال : والحسنة الخصب ، تُنْتج خيولهم وأنعامهم ومواشيهم ، ويحسن حالهم وتلد نساؤهم الغلمان قالوا : { هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } والسيئة : الجدْب والضرر في أموالهم ، تشاءموا بمحمد صلى الله عليه وسلم وقالوا : { هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ } يقولون : بتركنا ديننا واتباعنا محمدا أصابنا هذا البلاء ، فأنزل الله عز وجل : { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } فقوله { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } أي الجميع بقضاء الله وقدره ، وهو نافذ في البَرّ والفاجر ، والمؤمن والكافر.
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } أي : الحسنة والسيئة. وكذا قال الحسن البصري.
ثم قال تعالى منكرًا على هؤلاء القائلين هذه المقالة الصادرة عن شك وريب. وقلة فهم وعلم ، وكثرة جهل وظلم : { فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا }
ذكر حديث غريب يتعلق بقوله تعالى : { قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ }
قال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا السَّكن بن سعيد ، حدثنا عمر بن يونس ، حدثنا إسماعيل بن حماد ، عن مقاتل بن حَيَّان ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : كنا جلوسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فأقبل أبو بكر وعمر في قبيلتين من الناس ، وقد ارتفعت أصواتهما ، فجلس أبو بكر قريبا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وجلس عمر قريبا من أبي بكر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لم ارتفعت أصواتكما ؟" فقال رجل : يا رسول الله ، قال أبو بكر : الحسنات من الله والسيئات من أنفسنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فما قلت يا عمر ؟" قال : قلت : الحسنات والسيئات من الله. تعالى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أول من تكلم فيه جبريل وميكائيل ، فقال ميكائيل مقالتك يا أبا بكر ، وقال جبريل مقالتك يا عمر فقال : نختلف فيختلف أهل السماء (3) وإن يختلف أهل السماء يختلف أهل الأرض. فتحاكما إلى إسرافيل ، فقضى بينهم أن الحسنات والسيئات من الله". ثم أقبل على أبي بكر وعمر فقال "احفظا قضائي بينكما ، لو أراد الله ألا يُعْصَى لم يخلق إبليس".
قال شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس ابن تيميّة : هذا حديث موضوع مختلق باتفاق أهل المعرفة (4).
__________
(1) زيادة من : ر ، أ.
(2) في ر : "فقال" وفي أ : "قال".
(3) في ر : "السماوات".
(4) مسند البزار برقم (2496) وقال الهيثمي في المجمع (7/191) "شيخ البزار السكن بن سعيد لم أعرفه ، وبقية رجال البزار ثقات وفي بعضهم كلام لا يضر ، وقال ابن حجر رحمه الله : "هذا خبر منكر وفي الإسناد ضعف".

(2/362)


ثم قال تعالى - مخاطبًا - للرسول [صلى الله عليه وسلم] (1) والمراد جنس الإنسان ليحصل الجواب : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } أي : من فضل الله ومنه ولطفه ورحمته { وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } أي : فمن قبلك ، ومن عملك أنت كما قال تعالى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } [الشورى : 30].
قال السدي ، والحسن البصري ، وابن جُريج ، وابن زيد : { فَمِنْ نَفْسِكَ } أي : بذنبك.
وقال قتادة : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } عقوبة يا ابن آدم بذنبك. قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : "لا يصيب رجلا خَدْش عود ، ولا عثرة قدم ، ولا اختلاج عِرْق ، إلا بذنب ، وما يعفو الله أكثر".
وهذا الذي أرسله قتادة قد روي متصلا في الصحيح : "والذي نفسي بيده ، لا يصيب المؤمن هَمٌّ ولا حَزَنٌ ، ولا نَصَبٌ ، حتى الشوكة يشاكها إلا كَفَّر الله عنه بها من خطاياه". (2)
وقال أبو صالح : { مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ } أي : بذنبك ، وأنا الذي قدرتها عليك. رواه ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار ، حدثنا سهل - يعني ابن بَكَّار - حدثنا الأسود بن شيبان ، حدثني عقبة بن واصل بن أخي مُطَرِّف ، عن مُطَرِّف بن عبد الله قال : ما تريدون من القدر ، أما تكفيكم الآية التي في سورة النساء : { وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وِإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ } أي : من نفسك ، والله ما وُكِلُوا إلى القدر وقد أُمِروا وإليه يصيرون.
وهذا كلام متين قوي في الرد على القدرية والجبرية أيضا ، ولبسطه موضع آخر.
وقوله تعالى : { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا } أي : تبلغهم شرائع الله ، وما يحبه ويرضاه ، وما يكرهه ويأباه.
{ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } أي : على أنه أرسلك ، وهو شهيد أيضا بينك وبينهم ، وعالم بما تبلغهم إياه ، وبما يردون عليك من الحق كفرا وعنادًا.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) رواه مسلم بنحوه برقم (2572) من حديث عائشة ، وبرقم (2573) من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهم.

(2/363)


مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)

{ مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا (81) }
يخبر تعالى عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأنه من أطاعه فقد أطاع الله ، ومن عصاه فقد عصى الله ، وما ذاك إلا لأنه ما ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنَان ، حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ،

(2/363)


أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)

عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ومن أطاع الأمير فقد أطاعني ، ومن عصى الأمير فقد عصاني".
وهذا الحديث ثابت في الصحيحين ، عن الأعمش به (1)
وقوله : { وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } (2) أي : لا عليك منه ، إن عليك إلا البلاغ فمن تَبِعك سَعِد ونجا ، وكان لك من الأجر نظير ما حصل له ، ومن تولى عنك خاب وخسر ، وليس عليك من أمره شيء ، كما جاء في الحديث : "من يطع الله ورسوله فقد رشد ، ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه" (3).
وقوله : { وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ } يخبر تعالى عن المنافقين بأنهم يظهرون الموافقة والطاعة { فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ } أي : خرجوا وتواروا عنك { بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ } أي : استسروا ليلا فيما بينهم بغير ما أظهروه. فقال تعالى : { وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ } أي : يعلمه ويكتبه عليهم بما يأمر به حفظته الكاتبين ، الذين هم موكلون بالعباد. يعلمون ما يفعلون. والمعنى في هذا التهديد ، أنه تعالى أخبر بأنه عالم بما يضمرونه ويسرونه فيما بينهم ، وما يتفقون عليه ليلا من مخالفة الرسول وعصيانه ، وإن كانوا قد أظهروا له الطاعة والموافقة ، وسيجزيهم على ذلك. كما قال تعالى : { وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا [ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ] (4) } [النور : 47].
وقوله : { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } أي : اصفح عنهم واحلم عليهم (5) ولا تؤاخذهم ، ولا تكشف أمورهم للناس ، ولا تَخَفْ منهم أيضا { وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا } أي : كفى به (6) وليًّا وناصرًا ومعينا لمن توكل عليه وأناب إليه.
{ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا (83) }
يقول تعالى آمرًا عباده بتدبر القرآن ، وناهيا لهم عن الإعراض عنه ، وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة ، ومخبرًا لهم أنه لا اختلاف فيه ولا اضطراب ، ولا تضادّ ولا تعارض ؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد ، فهو حق من حق ؛ ولهذا قال تعالى : { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا] (7) } [محمد : 24] ثم قال : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ } أي : لو كان مفتعلا مختلقا ، كما يقوله من يقوله من جهلة المشركين والمنافقين في بواطنهم { لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا } أي : اضطرابا وتضادًّا كثيرًا. أي : وهذا سالم من الاختلاف ، فهو من عند الله. كما قال تعالى مخبرا عن الراسخين في العلم
__________
(1) رواه البخاري برقم (7137) ومسلم برقم (1835) من طريق يونس بن يزيد عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة به.
(2) في ر : "فمن".
(3) رواه مسلم في صحيحه برقم (87) من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه.
(4) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(5) في ر : "عنهم".
(6) في أ : "بالله".
(7) زيادة من ر ، أ.

(2/364)


حيث قالوا : { آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا } [آل عمران : 7] أي : محكمه ومتشابهه حق ؛ فلهذا ردوا المتشابه إلى المحكم فاهتدوا ، والذين في قلوبهم زيغ ردوا المحكم إلى المتشابه فغووا ؛ ولهذا مدح تعالى الراسخين وذم الزائغين.
قال (1) الإمام أحمد : حدثنا أنس بن عياض ، حدثنا أبو حازم عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : لقد جلست أنا وأخي مجلسا ما أحب أن لي به حُمر النَّعم ، أقبلت أنا وأخي وإذا مشيخة من صحابة (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب من أبوابه ، فكرهنا أن نفرق بينهم ، فجلسنا حَجْرَة ، إذ ذكروا آية من القرآن ، فتماروا فيها حتى ارتفعت أصواتهم ، فخرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مُغْضَبًا حتى احمر وجهه ، يرميهم بالتراب ، ويقول : "مهلا يا قوم ، بهذا أهلكت الأمم من قبلكم باختلافهم على أنبيائهم ، وضربهم الكتب بعضها ببعض ، إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضا ، بل يصدّق بعضه بعضا ، فما عرفتم منه فاعملوا به ، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمِه" (3).
وهكذا رواه أيضا عن أبي معاوية ، عن داود بن أبي هند ، عن عَمْرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : خرج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، والناس يتكلمون في القدر ، فكأنما يُفْقَأ في وجهه حب الرُّمان من الغضب ، فقال لهم : "ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض ؟ بهذا هلك من كان قبلكم". قال : فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أشهده ما غبطت نفسي بذلك المجلس ، أني لم أشهده.
ورواه ابن ماجه من حديث داود بن أبي هند ، به نحوه (4).
وقال أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أبي عمْران الجَوْني قال : كتب إلي عبد الله بن رَبَاح ، يحدث عن عبد الله بن عمرو قال : هَجَّرتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ، فإنا لجلوس إذ اختلف اثنان في آية ، فارتفعت أصواتهما فقال : "إنما هلكت الأمم قبلكم باختلافهم في الكتاب" ورواه مسلم والنسائي ، من حديث حماد بن زيد ، به (5).
وقوله : { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ } إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها ، فيخبر بها ويفشيها وينشرها ، وقد لا يكون لها صحة.
وقد قال مسلم في "مقدمة صحيحه" حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا علي بن حفص ، حدثنا شعبة ، عن خبيب (6) بن عبد الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "كفى بالمرء كذبا أن يُحدِّث بكل ما سمع" وكذا رواه أبو داود في كتاب "الأدب" من سننه ، عن محمد بن الحسين بن إشكاب ، عن علي بن حفص ، عن شعبة مسندًا (7) ورواه مسلم أيضا من حديث
__________
(1) في ر ، أ : "وقال".
(2) في أ : "أصحاب".
(3) المسند (2/181).
(4) المسند (2/178) وسنن ابن ماجه برقم (85).
(5) المسند (2/192) وصحيح مسلم برقم (2666) وسنن النسائي الكبرى برقم (8095).
(6) في ر ، أ : "حبيب".
(7) صحيح مسلم برقم (5) وسنن أبي داود برقم (4992).

(2/365)


معاذ بن هشام العنبري ، وعبد الرحمن بن مهدي. وأخرجه أبو داود أيضا من حديث حفص بن عمر النمري ، ثلاثتهم عن شعبة ، عن خُبَيب (1) عن حفص بن عاصم ، به مرسلا (2).
وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال أي : الذي يكثر من الحديث عما يقول الناس من غير تَثبُّت ، ولا تَدبُّر ، ولا تبَيُّن (3).
وفي سنن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "بئس مَطِيَّة الرجل زَعَمُوا عليه".
وفي الصحيح : "من حَدَّث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبَيْن". (4) ويذكر (5) هاهنا حديث عمر بن الخطاب المتفق عليه ، حين بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طَلَّق نساءه ، فجاءه من منزله حتى دخل المسجد فوجد الناس يقولون ذلك ، فلم يصبر حتى استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفهمه : أطلقت نساءك ؟ قال : "لا". فقلت الله أكبر. وذكر الحديث (6) بطوله.
وعند مسلم : فقلت : أطلقتهن ؟ فقال : "لا" فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي : لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه. ونزلت هذه الآية : { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر.
ومعنى قوله : (يستنبطونه) أي : يستخرجونه ويستعلمونه من معادنه ، يقال : استنبط الرجل العين ، إذا حفرها واستخرجها من قعورها (7).
ومعنى قوله : { لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني المؤمنين.
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : { لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا } يعني : كلكم. واستشهد من نصر هذا القول. بقول الطرماح بن حكيم ، في مدح يزيد بن المُهَلَّب :
أشَمَّ (8) كثير يَدى النوال (9) قليل المَثَالب والقَادحة (10)
يعني : لا مثالب له ، ولا قادحة فيه.
__________
(1) في أ : "حبيب".
(2) صحيح مسلم برقم (5) وسنن أبي داود برقم (4992).
(3) صحيح البخاري برقم (1477) وصحيح مسلم برقم (593).
(4) رواه مسلم في مقدمة صحيحه (ص9) والترمذي في السنن برقم (2662) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
(5) في ر : "ونذكر".
(6) صحيح البخاري برقم (5191) وصحيح مسلم برقم (1479).
(7) في ر : "قرارها".
(8) في أ : "أنتم".
(9) في أ : "البوداي".
(10) البيت في تفسير الطبري (8/577).

(2/366)


فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)

{ فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلا (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) }

(2/367)


اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)

{ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) }
يأمر تعالى عبده ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يباشر القتال بنفسه ، ومن نكل عليه فلا عليه منه ؛ ولهذا قال : { لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن عمرو بن نُبَيْح ، حدثنا حَكَّام ، حدثنا الجراح الكندي ، عن أبي إسحاق قال : سألت البراء بن عازب عن الرجل يلقى مائة من العدو ، فيقاتل ، أيكون ممن يقول الله : { وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ } [البقرة : 195] قال : قد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ }
ورواه الإمام أحمد ، عن سليمان بن داود ، عن أبي بكر بن عيَّاش ، عن أبي إسحاق قال : قلت للبراء : الرجل يحمل على المشركين أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة ؟ قال : لا ؛ لأن الله بعث رسوله صلى الله عليه وسلم وقال : { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ } إنما ذلك في النفقة.
وكذا رواه ابن مردُويه ، من طريق أبي بكر بن عياش ، وعلي بن صالح ، عن أبي إسحاق ، عن البراء به.
ثم قال ابن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا أحمد بن النضر العسكري ، حدثنا مسلم بن عبد الرحمن الْجَرْمِيّ ، حدثنا محمد بن حِمْيَر ، حدثنا سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : لما نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم : { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ [عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا] (1) } الآية ، قال لأصحابه : "قد أمرني ربي بالقتال فقاتلوا" حديث غريب (2).
وقوله : { وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ } أي : على القتال ورغبهم فيه وشجعهم عنده كما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، وهو يسوي الصفوف : "قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض".
وقد وردت أحاديثُ كثيرة في الترغيب في ذلك ، فمن ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، وصام رمضان ، كان حقا على الله أن يدخله الجنة ، هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها" قالوا : يا رسول الله ، أفلا نبشر الناسَ بذلك ؟ فقال : "إن في الجنة مائةَ درجة ، أعدَّها الله للمجاهدين في سبيل الله ، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة. وأعلى الجنة ، وفوقه عرش الرحمن ، ومنه تُفَجَّر أنهار الجنة" (3).
ورُوي من حديث معاذ وأبي الدرداء وعُبادة نحو ذلك.
وعن أبي سعيد الخدْري أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يا أبا سعيد ، من رضي بالله ربا ، وبالإسلام
__________
(1) زيادة من ر ، أ.
(2) ذكره السيوطي في الدر (2/602) ووجه غرابته أنه روي موقوفا من عدة وجوه ، ولم يرو مرفوعا إلا من هذا الوجه.
(3) صحيح البخاري برقم (2790).

(2/367)


دينا ، وبمحمد نبيًا ، وجبت له الجنة" قال : فعجب لها أبو سعيد فقال : أعدها عليَّ يا رسول الله. ففعل. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة ، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض" قال : وما هي يا رسول الله ؟ قال : "الجهاد في سبيل الله" رواه مسلم (1).
وقوله : { عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي : بتحريضك إياهم على القتال تنبعث هممهم على مناجزة الأعداء ، ومدافعتهم عن حوزة الإسلام وأهله ، ومقاومتهم ومصابرتهم.
وقوله : { وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلا } أي : هو قادر عليهم في الدنيا والآخرة ، كما قال [تعالى] (2) { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مَنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ] (3) } [محمد : 4].
وقوله : { مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا } أي : من سعى في أمر ، فترتب عليه خير ، كان له نصيب من ذلك { وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا } أي : يكون عليه وزر من ذلك الأمر الذي ترتب على سعيه ونيته ، كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء".
وقال مجاهد بن جَبْر : نزلت هذه الآية في شفاعات الناس بعضهم لبعض.
وقال الحسن البصري : قال الله تعالى : { مَنْ يَشْفَعْ } ولم يقل : من يُشَفَّع.
وقوله : { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا } قال ابن عباس ، وعطاء ، وعطية ، وقتادة ، ومطر الوراق : { مُقِيتًا } أي : حفيظا. وقال مجاهد : شهيدا. وفي رواية عنه : حسيبا. وقال سعيد بن جبير ، والسدي ، وابن زيد : قديرا. وقال عبد الله بن كثير : المقيت : الواصب (4) وقال الضحاك : المقيت : الرزاق.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الرحيم بن مطرف ، حدثنا عيسى بن يونس ، عن إسماعيل ، عن رجل ، عن عبد الله بن رواحة ، وسأله رجل عن قول الله : { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا } قال : يُقيت كلّ إنسان على قدر عمله (5).
وقوله : { وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } أي : إذا سلم عليكم المسلم ، فردوا عليه أفضل مما سلم ، أو ردوا عليه بمثل ما سلم [به] (6) فالزيادة مندوبة ، والمماثلة مفروضة.
قال ابن جرير : حدثني موسى بن سهل الرملي ، حدثنا عبد الله بن السَّري الأنطاكي ، حدثنا هشام بن لاحق ، عن عاصم الأحول ، عن أبي عثمان النَّهْدي ، عن سلمان الفارسي قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : السلام عليك يا رسول الله. فقال : "وعليك السلام ورحمة الله". ثم أتى آخر
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1884)
(2) زيادة من ر.
(3) زيادة من ر ، ا ، وفي هـ : "الآية".
(4) في ر : "المواضب".
(5) في ر : "بقدر عمله".
(6) زيادة من د ، ر ، أ.

(2/368)


فقال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وعليك السلام ورحمة الله وبركاته". ثم جاء آخر فقال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته فقال له : "وعليك" فقال له الرجل : يا نبي الله ، بأبي أنت وأمي ، أتاك فلان وفلان فسلما عليك فرددت عليهما أكثر مما رددت علي. فقال : "إنك لم تدع لنا شيئا ، قال الله تعالى : { وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } فرددناها عليك".
وهكذا رواه ابن أبي حاتم معلقا فقال : ذكر عن أحمد بن الحسن الترمذي ، حدثنا عبد الله بن السري - أبو محمد الأنطاكي - قال أبو الحسن : وكان رجلا صالحا - حدثنا هشام بن لاحق ، فذكر بإسناده مثله.
ورواه أبو بكر بن مردويه : حدثنا عبد الباقي بن قانع ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن لاحق أبو عثمان ، فذكره بمثله ، ولم أره في المسند (1) والله (2) أعلم.
وفي هذا الحديث دلالة على أنه لا زيادة في السلام على هذه الصفة : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، إذ لو شرع أكثر من ذلك ، لزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن كثير - أخو سليمان بن كثير - حدثنا جعفر بن سليمان ، عن عوف ، عن أبي رجاء العُطَاردي ، عن عمران بن حُصَين ؛ أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : السلام عليكم (3) فرد عليه ثم جلس ، فقال : "عَشْرٌ". ثم جاء آخر فقال : "السلام عليكم (4) ورحمة الله. فرد عليه ، ثم جلس ، فقال : "عشرون". ثم جاء آخر فقال : السلام عليكم (5) ورحمة الله وبركاته. فرد عليه ، ثم جلس ، فقال : "ثلاثون".
وكذا رواه أبو داود عن محمد بن كثير ، وأخرجه الترمذي والنسائي والبزار من حديثه ، ثم قال الترمذي : حسن غريب من هذا الوجه ، وفي الباب عن أبي سعيد وعلي وسهل بن حُنَيف [رضي الله عنهم] (6).
وقال البزَّار : قد روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ، هذا أحسنها إسنادا (7) وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن حرب الموصلي ، حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي (8) عن الحسن بن صالح ، عن سِمَاك ، عن عكرمة عن ابن عباس قال : من يسلم (9) عليك من خلق الله ، فاردد عليه وإن كان مجوسيا ؛ ذلك بأن الله يقول : { فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا }
وقال قتادة : { فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا } يعني : للمسلمين { أَوْ رُدُّوهَا } يعني : لأهل الذمة.
وهذا التنزيل فيه نظر ، بل كما تقدم في الحديث من أن المراد أن يرد بأحسن مما حياه به ، فإن بلغ
__________
(1) في تفسير الطبري (8/589) وفي إسناده عبد الله بن السري. قال أبو نعيم : "يروى المناكير لا شيء". لكن تابعه الإمام أحمد في رواية ابن مردويه ، فرواه عن هشام به ، وهشام بن لاحق مختلف فيه ، وروايته عن عاصم الأحول متكلم فيها. قال الإمام أحمد : "رفع عن عاصم أحاديث لم ترفع ، أسندها هو إلى سلمان".
(2) في ر : "فالله".
(3) في أ : "عليك".
(4) في أ : "عليك".
(5) في أ : "عليك".
(6) زيادة من أ.
(7) سنن أبي داود برقم (1595) وسنن الترمذي برقم (2689) وسنن النسائي برقم (10169).
(8) في أ : "الرقاشي".
(9) في د ، ر : "من سلم".

(2/369)


فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آَخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)

المسلم غاية ما شرع في السلام ؛ رد عليه مثل ما قال ، فأما أهل الذمة فلا يُبْدؤون (1) بالسلام ولا يزادون ، بل يرد عليهم بما ثبت في الصحيحين ، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم : السام عليك فقل : وعليك" (2).
وفي صحيح مسلم ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام ، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه" (3).
وقال سفيان الثوري ، عن رجل ، عن الحسن البصري قال : السلام تطوع ، والرد فريضة.
وهذا الذي قاله هو قول العلماء قاطبة : أن الرد واجب على من سلم عليه ، فيأثم إن لم يفعل ؛ لأنه خالف أمر الله في قوله : { فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } وقد جاء في الحديث الذي رواه (4).
وقوله : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ } إخبار بتوحيده وتفرده بالإلهية لجميع المخلوقات ، وتضمَّن قسما ، لقوله : { لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ } وهذه اللام موطئة للقسم ، فقوله : { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ } خبر وقَسَم أنه سيجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد فيجازي كل عامل بعمله.
وقوله تعالى : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا } أي : لا أحد أصدق منه في حديثه وخبره ، ووعده ووعيده ، فلا إله إلا هو ، ولا رب سواه.
{ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (89) إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91) }
يقول تعالى منكرا على المؤمنين في اختلافهم في المنافقين على قولين ، واختلف في سبب ذلك ، فقال الإمام أحمد :
__________
(1) في ر : "يبتدئون".
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (6257) ومسلم في صحيحه برقم (2164).
(3) صحيح مسلم برقم (2167).
(4) بياض بجميع النسخ ، وفي نسخة مساعدة [أبو داود بسنده إلى أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده ، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ، أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم].

(2/370)


حدثنا بَهْز ، حدثنا شعبة ، قال عدي بن ثابت : أخبرني عبد الله بن يزيد ، عن زيد بن ثابت : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أُحُد ، فرجع ناس خرجوا معه ، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين : فرقة تقول : نقتلهم. وفرقة تقول : لا (1) فأنزل الله : { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنها طَيْبة ، وإنها تنفي الخَبَث كما تنفي النار خبث الفضة".
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث شعبة (2).
وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يَسار في وقعة أحد أن عبد الله بن أبي بن سلول رجع يومئذ بثلث الجيش ، رجع بثلاثمائة وبقي النبي صلى الله عليه وسلم في سبعمائة.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : نزلت في قوم كانوا بمكة ، قد تكلموا بالإسلام ، كانوا يظاهرون المشركين ، فخرجوا من مكة يطلبون (3) حاجة لهم ، فقالوا : إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس ، وأن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة ، قالت فئة من المؤمنين : اركبوا إلى الجبناء فاقتلوهم ، فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم. وقالت فئة أخرى من المؤمنين : سبحان الله! أو كما قالوا : أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به ؟ أمِنْ أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم تستحل دماؤهم وأموالهم. فكانوا كذلك فئتين ، والرسول عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين (4) عن شيء فأنزل الله : { فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ }
رواه ابن أبي حاتم ، وقد رُوي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعكرمة ومجاهد والضحاك وغيرهم قريب من هذا.
وقال زيد بن أسلم ، عن ابنٍ لسعد بن معاذ : أنها نزلت في تقاول الأوس والخزرج في شأن عبد الله بن أبيّ ، حين استعذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر في قضية الإفك.
وهذا غريب ، وقيل غير ذلك.
وقوله : { وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا } أي : ردهم وأوقعهم في الخطأ.
قال ابن عباس : { أَرْكَسَهُمْ } أي : أوقعهم. وقال قتادة : أهلكهم. وقال السدي : أضلهم.
وقوله : { بِمَا كَسَبُوا } أي : بسبب عصيانهم ومخالفتهم الرسول واتباعهم الباطل.
{ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا } أي : لا طريق له إلى الهدى ولا مخلص له إليه.
ثم قال : { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً } أي : هم يودون لكم الضلالة لتستووا أنتم وإياهم فيها ، وما ذاك إلا لشدة عداوتهم وبغضهم لكم ؛ ولهذا قال : { فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا } أي : تركوا الهجرة ، قاله العوفي عن ابن عباس. وقال السدي : أظهروا كفرهم { فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا } أي : لا توالوهم
__________
(1) في د : "غير ذلك".
(2) المسند (5/184) وصحيح البخاري برقم (1884 ، 4050) وصحيح مسلم برقم (1384).
(3) في د : "يريدون".
(4) في ر : "منهم".

(2/371)


ولا تستنصروا بهم على الأعداء ما داموا كذلك.
ثم استثنى الله ، سبحانه من هؤلاء فقال : { إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ } أي : إلا الذين لجؤوا وتحيزوا إلى قوم بينكم وبينهم مهادنة أو عقد ذمة ، فاجعلوا حكمهم (1) كحكمهم. وهذا قول السدي ، وابن زيد ، وابن جرير.
وقد روى ابن أبي حاتم : حدثنا أبي حدثنا أبو سلمة حدثنا حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جُدْعان ، عن الحسن : أن سراقة بن مالك المدلجي حدثهم قال : لما ظهر - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - على أهل بدر وأُحُد ، وأسلم من حولهم قال سراقة : بلغني أنه يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومي - بني مُدْلج - فأتيته (2) فقلت : أَنْشُدُك النعمة. فقالوا : صه (3) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "دعوه ، ما تريد ؟". قال : بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي ، وأنا أريد أن توادعهم ، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام ، وإن لم يسلموا لم تَخْشُن (4) قلوب قومك عليهم. فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد خالد بن الوليد فقال : "اذهب معه فافعل ما يريد". فصالحهم خالد على ألا يعينوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أسلمت قريش أسلموا معهم ، [ومن وصل إليهم من الناس كانوا على مثل عهدهم] (5) فأنزل الله : { وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ }
ورواه ابن مردويه من طريق حماد بن سلمة ، وقال (6) فأنزل الله : { إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ } فكان من وصل إليهم كانوا معهم على عهدهم (7) وهذا أنسب لسياق الكلام.
وفي صحيح البخاري في قصة صلح الحديبية فكان من أحب أن يدخل في صلح قريش وعهدهم ، ومن أحب أن يدخل في صلح محمد وأصحابه وعهدهم.
وقد روي عن ابن عباس أنه قال : نسخها قوله : { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ] } [التوبة : 5].
وقوله : { أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ [أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ] (8) } الآية ، هؤلاء قوم آخرون من المُسْتَثنَين عن الأمر بقتالهم ، وهم الذين يجيئون إلى المصاف وهم حَصِرَةٌ صدورهم أي : ضيقة صدورهم مُبْغضين (9) أن يقاتلوكم ، ولا يهون عليهم أيضا أن يقاتلوا قومهم معكم ، بل هم لا لكم ولا عليكم. { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ } أي : من لطفه بكم أن كفهم عنكم { فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ } أي : المسالمة { فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا } أي : فليس لكم أن تقتلوهم ، ما دامت حالهم (10) كذلك ، وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين ، فحضروا القتال وهم كارهون ، كالعباس ونحوه ، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ عن قتل العباس وعبّر (11) بأسره.
__________
(1) في أ : "حكمكم".
(2) في د : فأتيت".
(3) في أ : "مه".
(4) في د : "لم تحزن" وفي ر : "لم يحسن".
(5) زيادة من أ.
(6) في د : "وفيه".
(7) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (14/232) حدثنا أسود بن عامر عن حماد بن سلمة به.
(8) زيادة من د.
(9) في د : "منقبضين"
(10) في أ : "حالتهم".
(11) في د ، أ : "وأمر".

(2/372)


وقوله : { سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ [كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا] (1) } الآية ، هؤلاء في الصورة الظاهرة كمن تقدمهم ، ولكن نية هؤلاء غير نية أولئك ، فإن هؤلاء منافقون يظهرون للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه الإسلام ؛ ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهم وذراريهم ويصانعون الكفار في الباطن ، فيعبدون معهم ما يعبدون ، ليأمنوا بذلك عندهم ، وهم في الباطن مع أولئك ، كما قال تعالى : { وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ [إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ] (2) } [البقرة : 14] وقال هاهنا : { كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا } أي : انهمكوا فيها.
وقال السدّي : الفتنة هاهنا : الشرك. وحكى ابن جرير ، عن مجاهد : أنها نزلت في قوم من أهل مكة ، كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء ، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان ، يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا وهاهنا ، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا ؛ ولهذا قال تعالى : { فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ } أي : عن القتال { فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ } أي : أين لقيتموهم { وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا } أي : بيِّنا واضحا.
__________
(1) زيادة من د ، ر ، أ.
(2) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".

(2/373)


وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)

{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) }
يقول تعالى : ليس لمؤمن أن يقتل أخاه المؤمن بوجه من الوجوه ، كما ثبت في الصحيحين ، عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والثيب الزاني ، والتارك لدينه المفارق للجماعة" (1).
ثم إذا وقع شيء من هذه الثلاث ، فليس لأحد من آحاد الرعية أن يقتله ، وإنما ذلك إلى الإمام أو نائبه.
وقوله : { إِلا خَطَأً } قالوا : هو استثناء منقطع ، كقول الشاعر (2)
من البيض لم تَظْعن بعيدا ولم تَطَأ... على الأرض إلا رَيْطَ بُرْد مُرَحَّل (3)
.
ولهذا شواهد كثيرة.
واختلف في سبب نزول هذه [الآية] (4) فقال مجاهد وغير واحد : نزلت في عياش (5) بن
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6878) وصحيح مسلم برقم (1676).
(2) هو جرير بن عطية الغطفي ، والبيت في تفسير الطبري (9/31).
(3) في ر : "مرجل".
(4) زيادة من أ.
(5) في أ : "عباس".

(2/373)


أبي ربيعة أخي أبي جهل لأمه - وهي أسماء بنت مُخَرِّبَة (1) - وذلك أنه قتل رجلا كان يعذبه مع أخيه على الإسلام ، وهو الحارث بن يزيد العامري ، فأضمر له عَيّاش السوء ، فأسلم ذلك الرجل وهاجر ، وعياش لا يشعر ، فلما كان يوم الفتح رآه ، فظن أنه على دينه ، فحمل عليه فقتله. فأنزل الله هذه الآية (2).
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : نزلت في أبي الدرداء ؛ لأنه قتل رجلا وقد قال كلمة الإسلام (3) حين رفع (4) السيف ، فأهوى به إليه ، فقال كلمته ، فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال : إنما قالها متعوذا. فقال له : "هل شققت عن قلبه" (5) [وهذه القصة في الصحيح لغير أبي الدرداء] (6).
وقوله : { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ [إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا] (7) } هذان واجبان في قتل الخطأ ، أحدهما : الكفارة لما ارتكبه من الذنب العظيم ، وإن كان خطأ ، ومن شرطها أن تكون عتق رقبة مؤمنة فلا تجزئ الكافرة.
وحكى ابن جرير ، عن ابن عباس والشعبي وإبراهيم النَّخَعِي والحسن البصري أنهم قالوا : لا يجزئ الصغير حتى يكون قاصدًا للإيمان. وروي من طريق عبد الرزاق (8) عن معمر ، عن قتادة قال : في حرف ، أبي : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } لا يجزئ فيها صبي.
واختار ابن جرير إن كان مولودًا بين أبوين مسلمين أجزأ ، وإلا فلا. والذي عليه الجمهور : أنه متى كان مسلمًا صح عتقه عن الكفارة ، سواء كان صغيرًا أو كبيرًا.
وقال الإمام أحمد : أنبأنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن الزُّهري ، عن عبد الله بن عبد الله ، عن رجل من الأنصار ؛ أنه جاء بِأَمَةٍ سوداء ، فقال : يا رسول الله ، إن علي رقبة مؤمنة ، فإن كنت ترى هذه مؤمنة أعتقتها. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أتشهدين أن لا إله إلا الله ؟" قالت : نعم. قال : "أتشهدين أني رسول الله ؟" قالت نعم. قال : "أتؤمنين بالبعث بعد الموت ؟" قالت : نعم ، قال : "أعتقها".
وهذا إسناد صحيح ، وجهالة الصحابي لا تضر (9).
وفي موطأ [الإمام] (10) مالك ومسندي الشافعي وأحمد ، وصحيح مسلم ، وسنن (11) أبي داود والنسائي ، من طريق هلال بن أبي ميمونة ، عن عطاء بن يسار ، عن معاوية بن الحكم أنه لما جاء بتلك الجارية السوداء قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أين الله ؟" قالت : في السماء. قال : "من أنا" قالت : أنت
__________
(1) في ر : "محزبة".
(2) رواه الطبري في تفسيره (9/33).
(3) في ر : "الإيمان".
(4) في أ : "رفع عليه".
(5) رواه الطبري في تفسيره (9/34).
(6) زيادة من ر ، أ.
(7) زيادة من د.
(8) في أ "عبد العزيز".
(9) المسند (3/451).
(10) زيادة من أ.
(11) في ر ، أ : "وسنني".

(2/374)


رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أعتقها فإنها مؤمنة" (1).
وقوله : { وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ } هو الواجب الثاني فيما بين القاتل وأهل القتيل ، عوضا لهم عما فاتهم من قريبهم. وهذه الدية إنما تجب أخماسا ، كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، من حديث الحجاج بن أرطأة ، عن زيد بن جبير ، عن خشف بن مالك ، عن ابن مسعود قال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دية الخطأ عشرين بنت مخاض ، وعشرين بني مخاض ذكورا ، وعشرين بنت لبون ، وعشرين جَذَعة (2) وعشرين حِقَّة.
لفظ النسائي ، وقال الترمذي : لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه ، وقد روي عن عبد الله موقوفا (3).
وكذا روي عن [علي و] (4) طائفة.
وقيل : تجب أرباعا. وهذه الدية إنما تجب على عاقلة القاتل ، لا في ماله ، قال الشافعي ، رحمه الله : لم أعلم مخالفا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة ، وهو أكثر (5) من حديث الخاصة (6) وهذا الذي أشار إليه ، رحمه الله ، قد ثبت في غير ما حديث ، فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال : اقتتلت امرأتان من هُذَيل ، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها ، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقضى أن دية جنينها غُرَّة عبد أو أمة ، وقضى بدية المرأة على عاقلتها (7).
وهذا يقتضي أن حكم عمد الخطأ حكم الخطأ المحض في وجوب الدية ، لكن هذا تجب فيه الدية أثلاثا كالعمد ، لشبهه به.
وفي صحيح البخاري ، عن عبد الله بن عمر قال : بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة ، فدعاهم إلى الإسلام ، فلم يحسنوا أن يقولوا : أسلمنا. فجعلوا يقولون : صبأنا صبأنا. فجعل خالد يقتلهم ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرفع يديه وقال : "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد". وبعث عليا فودى قتلاهم وما أتلف من أموالهم ، حتى مِيلَغة الكلب (8).
وهذا [الحديث] (9) يؤخذ منه أن خطأ الإمام أو نائبه يكون في بيت المال.
وقوله : { إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا } أي : فتجب فيه الدية مسلمة إلى أهله إلا أن يتصدقوا (10) بها فلا تجب.
__________
(1) الموطأ (2/777) ومسند الشافعي برقم (1196) "بدائع المنن" ومسند أحمد (5/447) صحيح مسلم برقم (537) وسنن أبي داود برقم (2384) وسنن النسائي (3/14).
(2) في ر ، أ "جزعا".
(3) المسند (1/384) وسنن النسائي (8/43) وسنن أبي داود برقم (4545) وسنن الترمذي برقم (1386) وسنن ابن ماجة برقم (2631).
(4) زيادة من ر ، أ.
(5) في أ : "أكبر".
(6) الأم (6/101)
(7) صحيح البخاري برقم (6910) وصحيح مسلم برقم (1681).
(8) صحيح البخاري برقم (7189).
(9) زيادة من أ.
(10) في ر : "يصدقوا"

(2/375)


وقوله : { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } أي : إذا كان القتيل مؤمنا ، ولكن أولياؤه من الكفار أهل حرب ، فلا دية لهم ، وعلى القاتل (1) تحرير رقبة مؤمنة لا غير.
وقوله : { وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ] } (2) الآية ، أي : فإن كان القتيل أولياؤه أهل ذمة أو هدنة ، فلهم دية قتيلهم ، فإن كان مؤمنا فدية كاملة ، وكذا إن كان كافرا أيضا عند طائفة من العلماء. وقيل : يجب في الكافر نصف دية المسلم ، وقيل : ثلثها ، كما هو مفصل في [كتاب الأحكام] (3) ويجب أيضا على القاتل تحرير رقبة مؤمنة.
{ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } أي : لا إفطار بينهما ، بل يسرد (4) صومهما إلى آخرهما ، فإن أفطر من غير عذر ، من مرض أو حيض أو نفاس ، استأنف. واختلفوا في السفر : هل يقطع أم لا ؟ على قولين.
وقوله : { تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي : هذه توبة القاتل خطأ إذا لم يجد العتق صام شهرين متتابعين.
واختلفوا فيمن لا يستطيع الصيام : هل يجب عليه إطعام ستين مسكينا ، كما في كفارة الظهار ؟ على قولين ؛ أحدهما : نعم. كما هو منصوص عليه في كفارة الظهار ، وإنما لم يذكر هاهنا ؛ لأن هذا مقام تهديد وتخويف وتحذير ، فلا يناسب أن يذكر فيه الإطعام لما فيه من التسهيل والترخيص. القول الثاني : لا يعدل إلى الإطعام ؛ لأنه لو كان واجبا لما أخر بيانه عن وقت الحاجة.
{ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } قد تقدم تفسيره غير مرة.
ثم لما بين تعالى حكم القتل الخطأ ، شرع في بيان حكم القتل العمد ، فقال : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا [فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا] } (5) وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم ، الذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آية في كتاب الله ، حيث يقول ، سبحانه ، في سورة الفرقان : { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ [وَلا يَزْنُونَ] (6) } الآية [الفرقان : 68] وقال تعالى : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } [إلى أن قال :
{ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } (7) [الأنعام : 151].
والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جدا. من ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء" (8) وفي الحديث الآخر الذي رواه أبو داود ، من رواية عمرو بن الوليد بن عبدة المصري ، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يزال المؤمن مُعنقا (9) صالحا ما لم يصب دما حراما ، فإذا أصاب دما حراما بَلَّح" (10) وفي
__________
(1) في ر ، أ : "قاتله".
(2) زيادة من ر ، أ.
(3) زيادة من ر ، أ.
(4) في أ : "يرد".
(5) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(6) زيادة من ر ، أ.
(7) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : الآية.
(8) صحيح البخاري برقم (6864) وصحيح مسلم برقم (1678).
(9) في ر : "مستعفا".
(10) سنن أبي داود برقم (4270).

(2/376)


حديث آخر : "لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم" (1) وفي الحديث الآخر : "لو أجمع (2) أهل السموات والأرض على قتل رجل مسلم ، لأكبهم الله في النار" (3) وفي الحديث الآخر : "من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمة ، جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه : آيس من رحمة الله" (4).
وقد كان ابن عباس ، رضي الله عنهما ، يرى أنه لا توبة للقاتل عمدا لمؤمن.
وقال البخاري : حدثنا آدم ، حدثنا شعبة ، حدثنا مغيرة بن النعمان قال : سمعت ابن جبير قال : اختلف فيها أهل الكوفة ، فَرَحَلْتُ إلى ابن عباس فسألته عنها فقال : نزلت هذه الآية : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ [خَالِدًا] (5) } هي آخر ما نزل (6) وما نسخها شيء.
وكذا رواه هو أيضا ومسلم والنسائي من طرق ، عن شعبة ، به (7) ورواه أبو داود ، عن أحمد بن حنبل ، عن ابن مهدي ، عن سفيان الثوري ، عن مغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في (8) قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا } فقال : لم ينسخها شيء.
[وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار حدثنا ابن أبي عدي حدثنا شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير قال : قال عبد الرحمن بن أبزة : سئل ابن عباس عن قوله : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا } فقال : لم ينسخها شيء] (9) وقال في هذه الآية : { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ [وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ] (10) } [الفرقان : 68] قال نزلت في أهل الشرك (11).
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن منصور ، حدثني سعيد بن جبير - أو حدثنى الحكم ، عن سعيد بن جبير - قال : سألت ابن عباس عن قوله [تعالى] (12) { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ } قال : إن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام ، ثم قتل مؤمنا متعمدا ، فجزاؤه جهنم ولا توبة له. فذكرت ذلك لمجاهد فقال : إلا من ندم.
حدثنا ابن حميد ، وابن وَكِيع قالا حدثنا جرير ، عن يحيى الجابر ، عن سالم بن أبي الجَعْد قال : كنا عند ابن عباس بعد ما كُف بصره ، فأتاه رجل فناداه : يا عبد الله بن عباس ، ما ترى في رجل قتل
__________
(1) روي من حديث عبد الله بن عمرو ، ومن حديث البراء بن عازب ، أما حديث عبد الله بن عمرو ، فرواه الترمذي في السنن برقم (1395) ، والنسائي في السنن (7/82) وهذا هو لفظه.
(2) في أ : "لو اجتمعت".
(3) رواه الطبراني في المعجم الصغير برقم (565) من طريق جعفر بن جبير بن فرقد عن أبيه عن الحسن عن أبي بكرة رضي الله عنه. قال الهيثمي في المجمع (7/297) : "فيه جسر بن فرقد ، وهو ضعيف"
(4) رواه ابن ماجة في السنن برقم (2620) من طريق يزيد بن زياد عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال الذهبي رحمه الله : "هذا حديث باطل موضوع".
(5) زيادة من أ.
(6) في ر ، أ : "ما نزلت".
(7) صحيح البخاري برقم (4590) وصحيح مسلم برقم (3023) وسنن النسائي (8/62).
(8) في د ، ر : "عن".
(9) زيادة من أ.
(10) زيادة من ر ، أ.
(11) سنن أبي داود برقم (4275).
(12) زيادة من ر.

(2/377)


مؤمنا متعمدا ؟ فقال : { جَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } قال : أفرأيت إن تاب وعمل صالحا ثم اهتدى ؟ قال ابن عباس : ثكلته أمه ، وأنى له التوبة والهدى ؟ والذي نفسي بيده! لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : "ثكلته أمه ، قاتل مؤمن (1) متعمدا ، جاء يوم القيامة آخذه بيمينه أو بشماله ، تشخب أوداجه دمًا في قُبُل عرش الرحمن ، يلزم قاتله بشماله بيده الأخرى ، يقول : سل هذا فيم قتلني" (2) ؟ وأيم الذي نفس عبد الله بيده! لقد أنزلت هذه الآية ، فما نسختها من آية حتى قبض نبيكم صلى الله عليه وسلم ، وما نزل بعدها من برهان.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت يحيى بن المُجَبَّر يحدث عن سالم بن أبي الجعد ، عن ابن عباس ؛ أن رجلا أتاه فقال : أرأيت رجلا قتل رجلا متعمدا ؟ فقال : { جَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا [وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا] (3) } قال : لقد نزلت في آخر ما نزل ، ما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما نزل وحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال : أرأيت إن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى ؟ قال : وأنى له بالتوبة. وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول : "ثكلته أمه ، رجل قتل رجلا متعمدا ، يجيء يوم القيامة آخذا قاتله بيمينه أو بيساره - وآخذا رأسه بيمينه أو بشماله - تَشْخَب أوداجه دما من قبل العرش يقول : يا رب ، سل عبدك فيم قتلني ؟".
وقد رواه النسائي عن قتيبة (4) وابن ماجه عن محمد بن الصباح ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمار الدُّهني ، ويحيى الجابر وثابت الثمالي (5) عن سالم بن أبي الجعد ، عن ابن عباس ، فذكره (6) وقد روي هذا عن ابن عباس من طرق كثيرة.
وممن ذهب إلى أنه لا توبة له من السلف : زيد بن ثابت ، وأبو هريرة ، وعبد الله بن عمر ، وأبو سلمة بن عبد الرحمن ، وعبيد بن عمر ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك بن مزاحم ، نقله ابن أبي حاتم.
وفي الباب أحاديث كثيرة : من ذلك ما رواه أبو بكر بن مردويه الحافظ في تفسيره : حدثنا دَعْلَج بن أحمد ، حدثنا محمد بن إبراهيم بن سعيد البُوشَنْجي وحدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا إبراهيم بن فهد قالا حدثنا عبيد بن عبيدة ، حدثنا مُعْتمر بن سليمان ، عن أبيه ، عن الأعمش ، عن أبي عمرو بن شُرَحْبِيل ، عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يجيء المقتول متعلقا بقاتله يوم القيامة ، آخذًا رأسه بيده الأخرى فيقول : يا رب ، سل هذا فيم قتلني ؟" قال : "فيقول : قتلته لتكون العزة لك. فيقول : فإنها لي". قال : "ويجيء آخر متعلقا بقاتله فيقول : رب ، سل هذا فيم قتلني ؟" قال : "فيقول قتلته لتكون العزة لفلان". قال : "فإنها ليست له بؤْ بإثمه". قال : "فيهوى في النار سبعين خريفا".
وقد رواه عن النسائي ، عن إبراهيم بن المُسْتَمِرِّ العَوْفي ، عن عمرو بن عاصم ، عن معتمر بن
__________
(1) في د : "مؤمنا".
(2) تفسير الطبري (9/62 ، 63).
(3) زيادة من ر.
(4) في أ : "قتادة"
(5) في أ : "البناني".
(6) المسند (1/240) وسنن النسائي (8/63) وسنن ابن ماجة برقم (2621).

(2/378)


سليمان ، به (1)
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا صفوان بن عيسى ، حدثنا ثور بن يزيد ، عن أبي عون ، عن أبي إدريس قال : سمعت معاوية ، رضي الله عنه ، يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا ، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا".
وكذا رواه النسائي ، عن محمد بن المثنى ، عن صفوان بن عيسى ، به (2).
وقال ابن مردويه : حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا سَمُّوَيْه ، حدثنا عبد الأعلى بن مُسْهِر ، حدثنا صَدَقَةُ بن خالد ، حدثنا خالد بن دِهْقان ، حدثنا ابن أبي زكريا قال : سمعت أم الدرداء تقول : سمعت أبا الدرداء يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركا ، أو من قتل مؤمنا متعمدا".
وهذا غريب جدا من هذا الوجه. والمحفوظ حديث معاوية المتقدم (3) فالله أعلم.
ثم روى ابن مَردويه من طريق بَقَيَّةَ بن الوليد ، عن نافع بن يزيد ، حدثني ابن جبير الأنصاري ، عن داود بن الحُصَين ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من قتل مؤمنا متعمدا فقد كفر بالله عز وجل".
وهذا حديث منكر أيضا ، وإسناده تُكُلم (4) فيه جدا (5).
وقال الإمام أحمد : حدثنا النضر ، حدثنا سليمان بن المغيرة ، حدثنا حميد قال : أتاني أبو العالية أنا وصاحب لي ، فقال لنا : هلما فأنتما أشب شيئًا مني ، وأوعى للحديث مني ، فانطلق بنا إلى بِشْر بن عاصم - فقال له أبو العالية : حدث هؤلاء حديثك. فقال : حدثنا عقبة بن مالك الليثي قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية ، فأغارت على قوم ، فشد من القوم رجل ، فاتبعه رجل من السرية شاهرا سيفه فقال الشاد من القوم : إني مسلم. فلم ينظر فيما قال ، فضربه فقتله ، فَنَمَى الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال فيه قولا شديدا ، فبلغ القاتلَ. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ، إذ قال القاتلُ : والله ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل. قال : فأعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وعمن قبله من الناس ، وأخذ في خطبته ، ثم قال أيضا : يا رسول الله ، ما قال الذي قال إلا تعوذا من القتل ، فأعرض عنه وعمن قبله من الناس ، وأخذ في خطبته ، ثم لم يصبر ، فقال الثالثة : والله يا رسول الله ما قال إلا تعوذا من القتل.
__________
(1) سنن النسائي (7/84) ورواه أبو نعيم في الحلية (4/147) والطبراني في المعجم الكبير (10/119) وقال أبو نعيم : "غريب من حديث سليمان التيمي عن الأعمش لم يروه عنه إلا ابنه معتمر ، ورواه عمرو بن عاصم عن معتمر مثله".
(2) المسند (4/99) وسنن النسائي (7/81).
(3) ورواه أبو داود في سننه برقم (4270) وابن حبان في صحيحه برقم (51) والبيهقي في السنن الكبرى (8/21) من طريق خالد بن دهقان به.
وقول الحافظ ابن كثير ، رحمه الله ، هنا : "غريب جدا من هذا الوجه" لم يتبين لي سبب ذلك ، على أن حديث أبي الدرداء أقوى من حديث معاوية ، ففي إسناد حديث معاوية (أبو عون) لم يوثقه سوى ابن حبان ، أما حديث أبي الدرداء فرجاله كلهم ثقات.
(4) في ر ، أ : "مظلم".
(5) ورواه ابن عدي في الكامل (3/203) من طريق بقية به ، ثم قال : "وهذه الأحاديث عن زيد عن داود عن نافع عن ابن عمر غير محفوظات ، يرويه عن داود زيد بن جبيرة" ، وزيد بن جبيرة منكر الحديث لا يتابع على حديثه.

(2/379)


فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم تُعْرف المساءةُ في وجهه ، فقال : "إن الله أبى على من قتل مؤمنا" ثلاثًا.
ورواه النسائي من حديث سليمان بن المغيرة (1)
والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها : أن القاتل له توبة فيما بينه وبين ربه عز وجل ، فإن تاب وأناب وخشع وخضع ، وعمل عملا صالحا ، بدل الله سيئاته حسنات ، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن طلابته.
قال الله تعالى : { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا] (2). إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا [فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا] (3) } [الفرقان : 68 ، 69] وهذا خبر لا يجوز نسخه. وحمله على المشركين ، وحمل هذه الآية على المؤمنين خلاف الظاهر ، ويحتاج حمله إلى دليل ، والله أعلم.
وقال تعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ [إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ] (4) } [الزمر : 53] وهذا عام في جميع الذنوب ، من كفر وشرك ، وشك ونفاق ، وقتل وفسق ، وغير ذلك : كل من تاب من أي ذلك تاب الله عليه.
وقال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء : 48]. فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك ، وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية وقبلها ، لتقوية الرجاء ، والله أعلم.
وثبت في الصحيحين خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس ، ثم سأل عالما : هل لي من توبة ؟ فقال : ومن يحول بينك وبين التوبة ؟! ثم أرشده إلى بلد يَعْبد الله فيه ، فهاجر إليه ، فمات في الطريق ، فقبضته ملائكة الرحمة. كما ذكرناه غير مرة ، إن (5) كان هذا في بني إسرائيل فَلأن يكون في هذه الأمة التوبة مقبولة بطريق الأولى والأحرى ؛ لأن الله وضع عنا الأغلال والآصار التي كانت عليهم ، وبعث نبينا بالحنيفية السمحة. فأما الآية الكريمة ، وهي قوله تعالى : { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا [فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا] (6) } فقد قال أبو هريرة وجماعة من السلف : هذا جزاؤه إن جازاه ، وقد رواه ابن مردويه مرفوعا ، من طريق محمد بن جامع العطار ، عن العلاء بن ميمون العنبري ، عن حجاج الأسود ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة مرفوعا ، ولكن لا يصح (7) ومعنى هذه الصيغة : أن هذا جزاؤه إن جوزي عليه ، وكذا كل وعيد على ذنب ، لكن قد يكون كذلك مُعَارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه ، على قولي أصحاب الموازنة أو الإحباط. وهذا أحسن ما يسلك في باب الوعيد ، والله أعلم بالصواب. وبتقدير دخول
__________
(1) المسند (5/288) وسنن النسائي الكبرى برقم (8593).
(2) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ "إلى قوله".
(3) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(4) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(5) في ر : "إذا".
(6) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(7) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (3310) "مجمع البحرين" من طريق محمد بن جامع العطار عن العلاء بن ميمون به ، وفي إسناده العلاء بن ميمون ، ومحمد بن جامع العطار وهما ضعيفان.

(2/380)


القاتل إلى النار ، أما على قول ابن عباس ومن وافقه أنه لا توبة له ، أو على قول الجمهور حيث لا عمل له صالحا (1) ينجو به ، فليس يخلد فيها أبدًا ، بل الخلود هو المكث الطويل. وقد تواردت (2) الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى ذرة (3) من إيمان. وأما حديث معاوية : "كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا ، أو الرجل يقتل مؤمنا متعمدا" : "عسى" للترجي ، فإذا انتفى الترجي في هاتين الصورتين لا ينتفى وقوع ذلك في أحدهما ، وهو القتل ؛ لما ذكرنا من الأدلة. وأما من مات كافرا ؛ فالنص أنه لا يغفر له البتة ، وأما مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة فإنه حق من حقوق الآدميين وهي لا تسقط بالتوبة ، ولا فرق بين المقتول والمسروق منه ، والمغضوب منه والمقذوف وسائر حقوق الآدميين ، فإن الإجماع منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة ، ولا بد من أدائها إليهم في صحة التوبة ، فإن تعذر ذلك فلا بد من الطلابة يوم القيامة ، لكن لا يلزم من وقوع الطلابة وقوع المجازاة ، وقد (4) يكون للقاتل أعمال صالحة تصرف إلى المقتول أو بعضها ، ثم يفضل له أجر يدخل به (5) الجنة ، أو يعوض الله المقتول من فضله بمايشاء ، من قصور الجنة ونعيمها ، ورفع درجته فيها ونحو ذلك ، والله أعلم.
ثم للقتل العمد أحكام في الدنيا وأحكام في الآخرة (6) أما [في] (7) الدنيا فتسلط (8) أولياء المقتول عليه ، قال الله تعالى : { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا] (9) } [الإسراء : 33] ثم هم مخيرون بين أن يقتلوا ، أو يعفوا ، أو يأخذوا دية مغلظة أثلاثا : ثلاثون حِقَّة ، وثلاثون جَذْعَة ، وأربعون خَلِفَه (10) كما هو مقرر (11) في كتب الأحكام.
واختلف الأئمة : هل تجب عليه كفارة عتق رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين ، أو إطعام ؟ على أحد القولين ، كما تقدم في كفارة الخطأ ، على قولين : فالشافعي وأصحابه وطائفة من العلماء يقولون : نعم ، يجب (12) عليه ؛ لأنه إذا وجبت الكفارة في الخطأ فلأن تجب عليه في العمد أولى. وطردوا هذا في كفارة اليمين الغَمُوس ، واعتضدوا بقضاء الصلوات المتروكة عمدا ، كما أجمعوا على ذلك في الخطأ.
قال أصحاب الإمام أحمد وآخرون : قتل العمد أعظم من أن يكفر ، فلا كفارة فيه ، وكذا اليمين الغموس ، ولا سبيل لهم إلى الفرق بين هاتين الصورتين وبين الصلاة المتروكة عمدا ، فإنهم يقولون : بوجوب قضائها وإن تركت عمدًا.
وقد احتج من ذهب إلى وجوب الكفارة في قتل العمد بما رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا عارم بن الفضل ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن إبراهيم بن أبي عَبْلَة ، عن الغَرِيف بن عياش ، عن واثلة بن الأسقع قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم نفر من بني سليم فقالوا : إن صاحبا لنا قد أوجب. قال : "فليعتق رقبة ، يفدي الله بكل عضو منها عضوا (13) منه من النار" (14).
__________
(1) في ر : "صالح".
(2) في أ : "وفيه تواترات".
(3) في ر ، أ : "مثقال".
(4) في ر : "إذ قد".
(5) في ر : "بها".
(6) في ر : "الأخرى".
(7) زيادة من ر ، أ.
(8) في أ : "فيسلط".
(9) زيادة من ك ، أ. وفي هـ : "الآية".
(10) في ر : "حقه" ، وفي أ : "بياض".
(11) في ر : "مقدر".
(12) في ر ، أ : "تجب".
(13) في ر : "عضو".
(14) المسند (4/107).

(2/381)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)

وقال أحمد : حدثنا إبراهيم بن إسحاق ، حدثنا ضَمْرَة بن ربيعة ، عن إبراهيم بن أبي عبلة عن الغَريف الديلمي قال : أتينا واثلة بن الأسقع الليثي فقلنا : حدثنا حديثا سمعتَه من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب ، فقال : "أعتقوا عنه ، يُعْتق الله بكل عضو منه عضوا (1) منه من النار".
وكذا رواه أبو داود والنسائي ، من حديث إبراهيم بن أبي عبلة ، به (2) ولفظ أبي داود عن الغريف الديلمي (3) قال : أتينا واثلة بن الأسقع فقلنا : حدثنا حديثا ليس فيه زيادة ولا نقصان. فغضب فقال : إن أحدكم ليقرأ ومصحفه معلق في بيته فيزيد وينقص ، قلنا : إنا أردنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب - يعني النار - بالقتل ، فقال : "أعتقوا عنه ، يعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار" (4).
[قوله عز وجل] (5)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94) }
قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن أبي بُكَيْر ، وحسين بن محمد ، وخلف بن الوليد ، قالوا : حدثنا إسرائيل ، عن سِمَاك ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : مر رجل من بني سليم بنفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسوق غنما له ، فسلم عليهم فقالوا : ما سلم علينا إلا ليتعوذ منا. فعمدوا إليه فقتلوه ، وأتوا بغنمه النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا] (6) } إلى آخرها.
ورواه الترمذي في التفسير ، عن عبد بن حميد ، عن عبد العزيز بن أبي رِزْمَة ، عن إسرائيل ، به. وقال : هذا حديث حسن ، وفي الباب عن أسامة بن زيد. ورواه الحاكم من طريق عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، به. ثم قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
ورواه ابن جرير من حديث عبيد الله بن موسى وعبد الرحيم بن سليمان ، كلاهما عن إسرائيل ، به (7) وقال في بعض كتبه غير التفسير - وقد رواه من طريق عبد الرحمن (8) فقط - : وهذا خبر عندنا
__________
(1) في ر : "عضو".
(2) المسند (3/491) وسنن أبي داود برقم (3964) وسنن النسائي الكبرى برقم (4892).
(3) في ر : "ابن الديلمي".
(4) سنن أبي داود برقم (3964).
(5) زيادة من ر.
(6) زيادة من ر ، أ.
(7) المسند (1/229) من طريق يحيى بن بكير ، و(1/272) من طريق حسين بن محمد وخلف بن الوليد ، وسنن الترمذي برقم (3030) والمستدرك (2/235) وتفسير الطبري (9/76).
(8) في أ : "عبد الرحيم".

(2/382)


صحيح سنده ، وقد يجب أن يكون على مذهب الآخرين سقيما ، لعلل منها : أنه لا يعرف له مخرج عن سِمَاك إلا من هذا الوجه ، ومنها : أن عكرمة في روايته عندهم نظر ، ومنها : أن الذي أنزلت فيه الآية مختلف فيه ، فقال بعضهم : أنزلت في مُحَلِّم (1) بن جَثَّامَةَ ، وقال بعضهم : أسامة بن زيد. وقيل غير ذلك.
قلت : وهذا كلام غريب ، وهو مردود من وجوه أحدها : أنه ثابت عن سِمَاك ، حدث به عنه غير واحد من الكبار. الثاني : أن عكرمة محتج به في الصحيح. الثالث : أنه مروي من غير هذا الوجه عن ابن عباس ، كما قال البخاري : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن عطاء ، عن ابن عباس : { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتُ مُؤْمِنًا } قال : قال ابن عباس : كان رجل في غُنَيْمَة له ، فلحقه المسلمون ، فقال : السلام عليكم. فقتلوه وأخذوا غُنَيمته [فأنزل الله ذلك إلى قوله : { تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } تلك الغنيمة. قرأ ابن عباس(السلام) وقال سعيد بن منصور : حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال : لحق المسلمون رجلا في غُنَيْمَة فقال : السلام عليكم ، فقتلوه وأخذوا غُنَيْمَته] (2) فنزلت : { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتُ مُؤْمِنًا }
ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، من طريق سفيان بن عيينه ، به (3)
وأما قصة محلم (4) بن جَثَّامة فقال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن محمد بن إسحاق ، حدثنى يزيد بن عبد الله بن قُسيط ، عن القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد عن أبيه عبد الله ابن أبي حدرد ، رضي الله عنه ، قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضَم ، فخرجت في نفر من المسلمين ، فيهم : أبو قتادة الحارث بن رِبْعي ، ومحلم (5) بن جَثَّامة بن قيس ، فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضَم مر بنا عامر بن الأضبط الأشجعي ، على قَعُود له ، معه مُتَيَّع ووَطْب من لبن ، فلما مر بنا سلم علينا ، فأمسكنا عنه ، وحمل عليه محلم (6) بن جثامة فقتله ، بشيء كان بينه وبينه ، وأخذ بعيره مُتَيَّعه ، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه الخبر ، نزل فينا القرآن : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ] (7) خَبِيرًا. }
تفرد به أحمد (8)
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا جرير ، عن ابن إسحاق ، عن نافع ؛ أن ابن عمر قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مُحَلِّم (9) بن جَثَّامة مبعثا ، فلقيهم عامر بن الأضبط ، فحياهم بتحية الإسلام وكانت بينهم حسنة في الجاهلية ، فرماه محلم (10) بسهم فقتله ، فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتكلم فيه عيينة والأقرع ، فقال الأقرع : يا رسول الله ، سن اليوم وغير غدا. فقال عيينة : لا والله ، حتى تذوق نساؤه من الثُّكل ما ذاق نسائي. فجاء محلم (11) في بردين ، فجلس بين يدي رسول الله
__________
(1) في ر ، أ : "محكم".
(2) زيادة من أ.
(3) صحيح البخاري برقم (4591) وتفسير الطبري (9/75).
(4) في ر : "محكم".
(5) في ر : "محكم".
(6) في ر : "محكم".
(7) زيادة من ر ، وفي هـ : "إلى قوله تعالى".
(8) المسند (6/11).
(9) في ر : "محكم".
(10) في ر : "محكم".
(11) في ر : "محكم".

(2/383)


صلى الله عليه وسلم ليستغفر له ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا غَفَرَ الله لك". فقام وهو يتلقى دموعه ببرديه ، فما مضت له سابعة حتى مات ، ودفنوه ، فلفظته (1) الأرض ، فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له ، فقال : "إن الأرض تقبل من هو شر من صاحبكم ، ولكن الله أراد أن يعظكم من جرمتكم" ثم طرحوه بين صدفي جبل (2) وألقوا عليه الحجارة ، ونزلت : { يَا أَيُّهَا الَّذِيَن آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُم فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا } الآية (3).
وقال البخاري : قال حبيب بن أبي عَمْرَة ، عن سعيد ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله (4) صلى الله عليه وسلم للمقداد : "إذا كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار ، فأظهر إيمانه فقتلتَه ، فكذلك كنت أنت تخفي إيمانك بمكة من قبل".
هكذا ذكر البخاري هذا الحديث معلقا مختصرا (5) وقد روي مطولا موصولا فقال الحافظ أبو بكر البزار :
حدثنا حماد (6) بن علي البغدادي ، حدثنا جعفر بن سلمة ، حدثنا أبو بكر بن علي (7) بن مُقَدَّم ، حدثنا حبيب بن أبي عَمْرَة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية ، فيها المقداد بن الأسود ، فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا ، وبقي رجل له مال كثير لم يبرح فقال : أشهد أن لا إله إلا الله. وأهوى (8) إليه المقداد فقتله ، فقال له رجل من أصحابه : أقتلت رجلا شهد أن لا إله إلا الله ؟ والله لأذكرَن ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول الله ، إن رجلا شهد أن لا إله إلا الله ، فقتله المقداد. فقال : "ادعوا لي المقداد. يا مقداد ، أقتلت رجلا يقول : لا إله إلا الله ، فكيف لك بلا إله إلا الله غدا ؟ ". قال : فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد : "كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار ، فأظهر إيمانه ، فقتلْتَه ، وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل" (9).
وقوله : { فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ } أي : خير مما رغبتم فيه من عرض الحياة الدنيا الذي حملكم على قتل مثل هذا الذي ألقى إليكم السلام ، وأظهر إليكم (10) الإيمان ، فتغافلتم عنه ، واتهمتموه بالمصانعة والتقية ؛ لتبتغوا عَرَضَ الحياة الدنيا ، فما عند الله من المغانم الحلال خير لكم من مال هذا.
وقوله : { كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } أي : قد كنتم من قبل هذه (11) الحال كهذا (12) الذي
__________
(1) في أ : "ونفضته".
(2) في ر ، أ : "ثم طرحوه في جبل".
(3) تفسير الطبري (9/72).
(4) في د ، أ : "النبي".
(5) صحيح البخاري برقم (6866).
(6) في ر ، أ : "حمدان".
(7) في أ : "عامر".
(8) في د : "فأهوى".
(9) مسند البزار برقم (2202) "كشف الأستار" وقال البزار : "لا نعلمه يروي عن ابن عباس إلا من هذا الوجه ولا له عنه إلا هذا الطريق" وقال الهيثمي في المجمع (7/8) : "إسناده جيد".
(10) في ر : "لكم".
(11) في أ : "هذا".
(12) في ر : "لهذا".

(2/384)


يُسرّ إيمانه ويخفيه من قومه ، كما تقدم في الحديث المرفوع آنفا ، وكما قال تعالى : { وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ [تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ] (1) } الآية [الأنفال : 26] ، وهذا هو مذهب سعيد بن جبير ، كما رواه الثوري ، عن حبيب بن أبي عَمْرَة ، عن سعيد بن جبير في قوله : { كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ } تخفون إيمانكم في المشركين.
ورواه عبد الرزاق ، عن ابن جُرَيْج ، أخبرني عبد الله بن كثير ، عن سعيد بن جبير في قوله : { كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ } تستخفون بإيمانكم ، كما استخفى (2) هذا الراعي بإيمانه.
وهذا اختيار ابن جرير. وقال ابن أبي حاتم : وذُكر عن قيس ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير قوله : { كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ } [تورعون عن مثل هذا ، وقال الثوري عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق : { كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ } ] (3) لم تكونوا مؤمنين { فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [فَتَبَيَّنُوا } وقال السدي : { فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } ] (4) أي : تاب عليكم ، فحلف أسامة لا يقتل (5) رجلا يقول : "لا إله إلا الله" بعد ذلك الرجل ، وما لقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه.
وقوله : { فَتَبَيَّنُوا } تأكيد (6) لما تقدم. وقوله : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } قال سعيد بن جبير : هذا تهديد ووعيد.
__________
(1) زيادة من ر ، أ.
(2) في أ : "يستخفى"
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من أ.
(5) في ر : "لا يقاتل".
(6) في ر : "تأكيدا".

(2/385)


لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)

{ لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96) }
قال البخاري : حدثنا حفص بن عمر (1) حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : لما نزلت : { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدًا فكتبها ، فجاء ابن أم مكتوم فشكا ضرارته فأنزل الله [عز وجل] (2) { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ }
حدثنا محمد بن يوسف ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن البراء قال : لما نزلت : { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ادع فلانا " فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتف فقال : " اكتب : لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله " وخَلْف النبي صلى الله عليه وسلم ابن أم مكتوم ، فقال : يا رسول الله ، أنا ضرير فنزلت مكانها : { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ } (3)
وقال البخاري أيضا : حدثنا إسماعيل بن عبد الله ، حدثني إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن
__________
(1) في أ : "عمرو".
(2) زيادة من ر ، أ.
(3) صحيح البخاري برقم (4593) ورقم (4594).

(2/385)


كَيْسان ، عن ابن شهاب ، حدثني سهل بن سعد الساعدي : أنه رأى مَروان بن الحكم في المسجد ، قال : فأقبلت حتى جلست إلى جنبه ، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عَلَيّ : " لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله ". فجاءه ابن أم مكتوم ، وهو يمليها عليَّ ، قال : يا رسول الله ، والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت - وكان أعمى - فأنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفَخِذه على فخذي ، فثقلت علي حتى خفت أن تُرَض (1) فخذي ، ثم سري عنه ، فأنزل الله : { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ }
انفرد به البخاري (2) دون مسلم ، وقد روي من وجه آخر عن زيد فقال الإمام أحمد :
حدثنا سليمان بن داود ، أنبأنا عبد الرحمن بن (3) أبي الزناد ، عن خارجة بن زيد قال : قال زيد بن ثابت : إني قاعد إلى جنب رسول الله (4) صلى الله عليه وسلم ، إذ أُوحِي إليه ، قال : وغشيته السكينة ، قال : فوقع (5) فخذه على فخذي حين غشيته السكينة. قال زيد : فلا والله ما وجدت شيئًا قط أثقل من فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم سري عنه فقال : " اكتب يا زيد ". فأخذت كتفا فقال : "اكتب : { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ } إلى قوله (6) { أَجْرًا عَظِيمًا } فكتبت (7) ذاك في كتف ، فقام حين سمعها ابن أم مكتوم - وكان رجلا أعمى - فقام حين سمع فضيلة المجاهدين فقال : يا رسول الله ، وكيف بمن لا يستطيع الجهاد ممن هو أعمى ، وأشباه ذلك ؟ قال زيد : فوالله ما مضى (8) كلامه - أو ما هو إلا أن قضى كلامه - حتى غشيت النبي صلى الله عليه وسلم السكينة ، فوقعت فخذه على فخذي ، فوجدت من ثقلها كما وجدت في المرة الأولى ، ثم سري عنه فقال : " اقرأ ". فقرأت عليه : " لا يستوِي القاعدون من الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ " (9) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } قال زيد : فألحقتها ، فوالله لكأني أنظر إلى مُلْحَقها عند صدع كان في الكتف.
ورواه أبو داود ، عن سعيد بن منصور ، عن عبد الرحمن بن أبي الزِّناد ، عن أبيه ، عن خارجة بن زيد بن ثابت ، عن أبيه ، به نحوه (10).
وقال عبد الرزاق : أنبأنا (11) معمر ، عن الزهري ، عن قَبيصة بن (12) ذُؤَيب ، عن زيد بن ثابت ، قال : كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " اكتب لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله " فجاء (13) عبد الله ابن أم مكتوم فقال : يا رسول الله إني أحب الجهاد في سبيل الله ولكن بي من الزمانة ما قد ترى ، قد ذهب بصري. قال زيد : فثقلت فَخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي ، حتى خشيت أن ترضها (14) ثم سُرِّي عنه ، ثم قال : " اكتب : { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }
__________
(1) في ر : "يرض".
(2) صحيح البخاري برقم (4592).
(3) في ر ، أ : "عن".
(4) في أ : "النبي".
(5) في أ : "فرفع".
(6) في ر ، أ : "الآية كلها إلى قوله".
(7) في أ : "فكتب".
(8) في ر ، أ : "قضى".
(9) في ر : "والمجاهدين".
(10) المسند (5/191) وسنن أبي داود برقم (2507).
(11) في أ : "أخبرنا".
(12) في ر : "عن".
(13) في أ : "فجاءه".
(14) في أ : "يرضها".

(2/386)


ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير (1) وقال عبد الرزاق : أخبرني ابن جُرَيْج ، أخبرني عبد الكريم - هو ابن مالك الجَزري (2) - أن مِقْسما مولى عبد الله بن الحارث - أخبره أن ابن عباس أخبره : لا يستوي القاعدون من المؤمنين عن بدر ، والخارجون إلى بدر.
انفرد به البخاري (3) دون مسلم. وقد رواه الترمذي من طريق حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن عبد الكريم ، عن مِقْسم ، عن ابن عباس قال : لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضر عن بدر ، والخارجون إلى بدر ، لما نزلت غزوة بدر قال عبد الله بن جحش وابن أم مكتوم : إنا أعميان يا رسول الله فهل لنا رخصة ؟ فنزلت : { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } وفضل الله المجاهدين على القاعدين درجة ، فهؤلاء القاعدون غير أولي الضرر { وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } درجات منه على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر.
هذا لفظ الترمذي ، ثم قال : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. (4)
فقوله [تعالى] (5) { لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } كان مطلقا ، فلما نزل بوحي سريع : { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } صار (6) ذلك مخرجا لذوي الأعذار (7) المبيحة لترك الجهاد - من الْعَمَى والعَرَج والمرض - عن مساواتهم للمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم.
ثم أخبر تعالى بفضيلة المجاهدين على القاعدين ، قال ابن عباس : { غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } وكذا ينبغي أن يكون لما ثبت في الصحيح عند البخاري من طريق زهير بن معاوية ، عن حُمَيْد ، عن أنس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن بالمدينة أقوامًا ما سِرْتُم من مَسِير ، ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه " قالوا : وهم بالمدينة يا رسول الله ؟ قال : " نعم حبسهم العذر ".
وهكذا رواه الإمام أحمد عن محمد بن أبي عَدِيّ عن حُمَيد ، عن أنس ، به (8) وعلقه البخاري مجزوما. ورواه أبو داود عن حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن موسى بن أنس بن مالك ، عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرًا ، ولا أنفقتم من نفقة ، ولا قطعتم من وادٍ إلا وهم معكم فيه ". قالوا : يا رسول الله ، وكيف (9) يكونون معنا وهم بالمدينة ؟ قال : " حبسهم العذر ".
لفظ أبي داود (10) وفي هذا المعنى قال الشاعر :
يا راحلين إلى البَيت العتيق لَقَدْ... سرْتُم جُسُوما وسرْنا نحنُ أرواحا...
إنَّا أقَمنا على عُذْرٍ وعَنْ قَدَرٍ... ومَنْ أقامَ على عذْرٍ فقد راحا...
__________
(1) تفسير عبد الرزاق (1/164) وتفسير الطبري (9/91).
(2) في أ : "الجهزي".
(3) تفسير عبد الرزاق (1/165) وصحيح البخاري برقم (4595).
(4) سنن الترمذي برقم (3032).
(5) زيادة من ر ، أ.
(6) في أ : "كان".
(7) في أ : "الأضرار".
(8) صحيح البخاري برقم (2838) والمسند (3/103).
(9) في ر : "قالوا : وكيف يا رسول الله".
(10) صحيح البخاري برقم (2839) وسنن أبي داود برقم (2508).

(2/387)


إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)

وقوله : { وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى } أي : الجنة والجزاء الجزيل. وفيه دلالة على أن الجهاد ليس بفرض عين بل هو فرض على الكفاية.
ثم قال تعالى : { وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا } ثم أخبر تعالى بما فضلهم به من الدرجات ، في غرف الجِنَان (1) العاليات ، ومغفرة الذنوب والزلات ، وحلول الرحمة والبركات ، إحسانا منه وتكريما ؛ ولهذا قال تعالى : { دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا }
وقد ثبت في الصحيحين (2) عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن (3) في الجنة مائة درجة ، أعدها الله للمجاهدين في سبيله ، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض".
وقال الأعمش ، عن عمرو بن مُرّة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من بلغ بسهم فله أجره درجة " فقال رجل : يا رسول الله ، وما الدرجة ؟ فقال : " أما إنها ليست بعتبة أمك ، ما بين الدرجتين مائة عام " (4).
{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) }
قال البخاري : حدثنا عبد الله بن يزيد المقرئ ، حدثنا حَيْوَة وغيره قالا حدثنا محمد بن عبد الرحمن أبو الأسود قال : قطع على (5) أهل المدينة بعْثٌ ، فاكتتبت فيه ، فلقيتُ عكرمة مولى ابن عباس فأخبرته ، فنهاني عن ذلك أشد النهي ، ثم قال : أخبرني ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا مع المشركين ، يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السهم فَيُرمى (6) به ، فيصيب أحدهم فيقتله ، أو يضرب عنقه فيقتل ، فأنزل الله [عز وجل] (7) { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } رواه الليث عن أبي الأسود (8).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الرَّمَادِي ، حدثنا أبو أحمد - يعني الزبيري - حدثنا
__________
(1) في أ : "الجنات".
(2) رواه مسلم في صحيحه برقم (1884) ، وهو عند البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه لا من حديث أبي سعيد الخدري برقم (2790).
(3) في أ : "إنه".
(4) رواه ابن أبي حاتم في تفسيره وابن مردويه كما في الدر المنثور (2/645).
(5) في أ : "من".
(6) في د ، ر أ : "يرمى".
(7) زيادة من ر.
(8) صحيح البخاري برقم (4596).

(2/388)


محمد بن شَرِيك المكي ، حدثنا عمرو بن دينار ، عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان قوم من أهل مكة أسلموا ، وكانوا يستخفون بالإسلام ، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم ، فأصيب بعضهم بفعل بعض (1) قال المسلمون : كان أصحابنا هؤلاء مسلمين (2) وأكرهوا ، فاستَغْفَروا لهم ، فنزلت : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ [قَالُوا فِيمَ كُنْتُم } إلى آخر] (3) الآية ، قال : فكتب إلى من بقي من المسلمين بهذه الآية : لا عذر لهم. قال : فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة ، فنزلت هذه (4) الآية : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ } الآية (5) [البقرة : 8].
وقال عكرمة : نزلت هذه الآية في شباب من قريش ، كانوا تكلموا بالإسلام بمكة ، منهم : علي بن أمية بن خَلَف ، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة ، وأبو العاص بن منبه (6) بن الحجاج ، والحارث بن زَمْعة.
وقال الضحاك : نزلت في ناس (7) من المنافقين ، تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، وخرجوا مع المشركين يوم بدر ، فأصيبوا فيمن أصيب فنزلت هذه (8) الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة ، وليس متمكنا من إقامة الدين ، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراما بالإجماع ، وبنص هذه الآية حيث يقول تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ } أي : بترك الهجرة { قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ } أي : لم مكثتم هاهنا وتركتم الهجرة ؟ { قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ } أي : لا نقدر على الخروج من البلد ، ولا الذهاب في الأرض { قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً [فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا] (9) }.
وقال أبو داود : حدثنا محمد بن داود بن سفيان ، حدثني يحيى بن حسان ، أخبرنا سليمان بن موسى أبو داود ، حدثنا جعفر بن سعد بن سمرة بن جندب ، حدثني خبيب (10) بن سليمان ، عن أبيه سليمان بن سمرة ، عن سمرة بن جندب : أما بعد ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله " (11).
وقال السدي : لما أسر العباس وَعقِيل ونَوْفَل ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس : " افد نفسك وابن أخيك " قال : يا رسول الله ، ألم نصل قبلتك ، ونشهد شهادتك ؟ قال : " يا عباس ، إنكم خاصمتم فخُصمتم". ثم تلا عليه هذه الآية : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً [فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا] (12) } رواه ابن أبي حاتم.
وقوله : { إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ [مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا (13)
__________
(1) في ر ، أ : "بنبل".
(2) في ر : "مسلمون".
(3) زيادة من ر ، أ.
(4) في أ : "فيهم".
(5) ورواه الطبراني في تفسيره (9/102) حدثنا أحمد بن منصور الرمادي به.
(6) في د : "ابن منصور".
(7) في د ، ر : "أناس".
(8) في أ : "فهذه".
(9) زيادة من د ، ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(10) في ر ، أ : "حبيب".
(11) سنن أبي داود برقم (2787).
(12) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(13) زيادة من د ، ر ، أ ، وفي هـ : "إلى آخر الآية".

(2/389)


] } هذا عذر من الله تعالى لهؤلاء في ترك الهجرة ، وذلك أنهم لا يقدرون على التخلص من أيدي المشركين ، ولو قدروا ما عرفوا يسلكون الطريق ، ولهذا قال : { لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا } قال مجاهد وعكرمة ، والسدي : يعني طريقا.
وقوله تعالى : { فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ } أي : يتجاوز عنهم بترك (1) الهجرة ، وعسى من الله موجبة { وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (2) }.
قال البخاري : حدثنا أبو نُعَيْم ، حدثنا شَيْبَان ، عن يَحْيَى ، عن أبي سَلَمَة ، عن أبي هريرة قال : بينا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء إذ قال : " سمع الله لمن حمده " ثم قال قبل أن يسجد " اللهم نَج (3) عياش بن أبي ربيعة ، اللهم نج (4) سلمة بن هشام ، اللهم نج (5) الوليد بن الوليد ، اللهم نَج (6) المستضعفين من المؤمنين ، اللهم اشدد وطأتك على مُضَر ، اللهم اجعلها سنين كسِنِيِّ يوسف". (7)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو معمر المقري (8) حدثنا عبد الوارث ، حدثنا علي بن زيد ، عن سعيد بن المسَّيب ، عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع يده بعدما سلم ، وهو مستقبل القبلة فقال : " اللهم خلص الوليد بن الوليد ، وعياش بن أبي ربيعة ، وسَلَمة بن هشام ، وضعفة المسلمين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا من أيدي الكفار" (9).
وقال ابن جرير : حدثنا المثنى ، حدثنا حجاج ، حدثنا حماد ، عن علي بن زيد عن عبد الله (10) - أو إبراهيم بن عبد الله القرشي - عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في دُبُرِ صلاة الظهر : " اللهم خَلِّص الوليد ، وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة ، وضعفة المسلمين من أيدي المشركين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ".
ولهذا الحديث شاهد في الصحيح من غير هذا الوجه كما تقدم (11).
وقال عبد الرزاق : أنبأنا (12) ابن عيينة ، عن عبيد الله بن أبي يزيد قال : سمعت ابن عباس يقول : كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان (13)
وقال البخاري : أنبأنا أبو النعمان ، حدثنا حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن ابن أبي مُلَيْكَة ، عن ابن عباس : { إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ } قال : كانت أمي ممن عَذَر الله عز وجل (14).
وقوله : { وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً } هذا تحريض على
__________
(1) في د ، أ : "بتركهم".
(2) في ر : "عفوا غفورا" وهو خطأ.
(3) في ر ، أ : "أنج".
(4) في ر ، أ : "أنج".
(5) في ر ، أ : "أنج".
(6) في ر ، أ : "أنج".
(7) صحيح البخاري برقم (4598).
(8) في ر : "المنقري".
(9) وفي إسناده علي بن زيد بن عبد الله بن أبي مليكة ضعيف لا يحتج به ، وقد اختلف عليه فيه ، كما سيأتي في رواية الطبري.
(10) في ر ، أ : "عبيد الله".
(11) تفسير الطبري (9/110) وإسناده ضعيف.
(12) في أ : "أخبرنا".
(13) تفسير عبد الرزاق (1/166).
(14) صحيح البخاري برقم (4597).

(2/390)


الهجرة ، وترغيب في مفارقة المشركين ، وأن المؤمن حيثما ذهب وجد عنهم مندوحة وملجأ يتحصن فيه ، و "المراغم" مصدر ، تقول العرب : راغم فلان قومه مراغما ومراغمة ، قال نابغة (1) بني جعدة (2).
كَطَوْدٍ يُلاذُ بأرْكَانِه... عَزيز المُرَاغَم وَالْمَهْربِ...
وقال ابن عباس : "المراغَم" : التحول من أرض إلى أرض. وكذا رُوي عن الضحاك والربيع بن أنس ، الثوري ، وقال مجاهد : { مُرَاغَمًا كَثِيرًا } يعني : متزحزحا عما يكره. وقال سفيان بن عيينة : { مُرَاغَمًا كَثِيرًا } يعني : بروجا.
والظاهر - والله أعلم - أنه (3) التمنّع الذي يُتَحصَّن به ، ويراغم به الأعداء.
قوله : { وَسَعَةً } يعني : الرزق. قاله غير واحد ، منهم : قتادة ، حيث قال في قوله : { يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً } إي ، والله ، من الضلالة إلى الهدى ، ومن القلة إلى الغنى.
وقوله : { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } أي : ومن خرج من منزله بنية الهجرة ، فمات في أثناء الطريق ، فقد حصل له من (4) الله ثواب من هاجر ، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من الصحاح والمسانيد والسنن ، من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري (5) عن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن علقمة بن وَقّاص الليثي ، عن عمر بن الخطاب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها ، أو امرأة يتزوجها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه" (6).
وهذا عام في الهجرة وفي كل الأعمال. ومنه الحديث الثابت في الصحيحين (7) في الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نَفْسًا. ثم أكمل بذلك العابد المائة ، ثم سأل عالما : هل له من توبة ؟ فقال : ومن يَحُول بينك وبين التوبة ؟ ثم أرشده إلى أن يتحول من بلده إلى بلد آخر يعبد الله فيه ، فلما ارتحل من بلده مهاجرا إلى البلد الآخر ، أدركه الموت في أثناء الطريق ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فقال هؤلاء : إنه جاء تائبا. وقال هؤلاء : إنه لم يَصِلْ بَعْدُ. فأمروا أن يقيسوا ما بين الأرضين فإلى أيتهما (8) كان أقرب كان (9) منها ، فأمر الله هذه أن يُقرب (10) من هذه ، وهذه أن تبعد (11) فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بِشِبْر ، فقبضته ملائكة الرحمة. وفي رواية : أنه لما جاءه
__________
(1) في أ : "نابغة في بني جعدة.
(2) البيت في تفسير الطبري (10/112) واللسان مادة (رغم).
(3) في أ : "أن المراغم هو".
(4) في أ : "عند".
(5) في أ : "القطان".
(6) صحيح البخاري برقم (1 ، 54) وصحيح مسلم برقم (1907) وسنن أبي داود برقم (2201) وسن الترمذي برقم (1647) ، وسنن النسائي (1/59) وسنن ابن ماجه برقم (4227) ومسند أحمد (1/25) ومسند الحميدي (1/16) ومسند الطيالسي (2/27) "منحة المعبود".
(7) صحيح البخاري برقم (3470) وصحيح مسلم برقم (2766).
(8) في د ، ر : "أيها" ، وفي أ : "أيهما".
(9) في د ، ر : "فهو".
(10) في د : "تقترب" ، وفي ر : "تقرب".
(11) في د : "تبتعد".

(2/391)


الموت ناء بصدره إلى الأرض (1) التي هاجر إليها.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن محمد بن إبراهيم ، عن محمد بن عبد الله بن عَتِيك ، عن أبيه عبد الله بن عَتِيك قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من خرج من بيته مهاجرا (2) في سبيل الله - ثم قال بأصابعه هؤلاء الثلاث : الوسطى والسبابة والإبهام ، فجمعهن وقال : وأين المجاهدون - ؟ فخرَّ عن دابته فمات فقد وقع أجره على الله ، أو لدغته دابة فمات ، فقد وقع أجره على الله أو مات حَتْف أنفه ، فقد وقع أجره على الله - والله! إنها لكلمة ما سمعتها من أحد من العرب قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم - ومن قتل قَعْصًا (3) فقد استوجب المآب (4).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الملك بن شيبة الحزامي (5) حدثني عبد الرحمن بن المغيرة الحزامي (6) عن المنذر بن عبد الله ، عن هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ؛ أن الزبير بن العوام قال : هاجر خالد بن حِزَام (7) إلى أرض الحبشة ، فنهشته حية في الطريق فمات ، فنزلت فيه : { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } قال الزبير : فكنت أتوقعه وأنتظر قدومه وأنا بأرض الحبشة ، فما أحزنني شيء حزن وفاته حين بلغني ؛ لأنه قَلّ أحد ممن هاجر من قريش إلا معه بعض أهله ، أو ذوي رحمه ، ولم يكن معي أحد من بني أسد بن عبد العزى ، ولا أرجو غيره.
وهذا الأثر غريب جدا (8) فإن هذه القصة مكية ، ونزول هذه الآية مدنية ، فلعله أراد أنها أنزلت تعم حكمه مع غيره ، وإن لم يكن ذلك سبب النزول ، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا سليمان بن داود مولى عبد الله بن جعفر ، حدثنا سهل بن عثمان ، حدثنا عبد الرحمن (9) بن سليمان ، عن الأشعث (10) - هو ابن سَوَّار - عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : خرج ضَمْرَةُ بن جُنْدُب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمات في الطريق قبل أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت : { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ [ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا] (11) } (12).
وحدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن رَجَاء ، أنبأنا إسرائيل ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير عن أبي ضمرة بن العيص الزُّرَقِي ، الذي كان مصاب البصر ، وكان بمكة فلما نزلت : { إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً } فقلت : إني لغني ، وإني لذو حيلة ، [قال] (13) فتجهز يريد النبي صلى الله عليه وسلم فأدركه الموت بالتَّنْعِيم ، فنزلت هذه الآية : { وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ [فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا] (14) }
__________
(1) في د : "البلد".
(2) في أ : "مجاهدا".
(3) في د : "نفسا" ، وفي ر : "بعضا" ، وفي أ : "بعض".
(4) المسند (4/36) ، وقال الهيثمي في المجمع (5/260 : "فيه محمد بن إسحاق وهو مدلس ، وبقية رجاله ثقات".
(5) في أ : "الخزامي".
(6) في أ : "الخزامي".
(7) في أ : "ابن حرام".
(8) ووجه غرابته أيضا كما قال ابن حجر : أن الذي نزلت فيه هذه الآية جندب بن ضمرة ، وسيأتي حديثه عقب هذا.
(9) في ر : "عبد الرحيم".
(10) في ر : "أشعث".
(11) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(12) ورواه أبو يعلى في مسنده (5/81) والطبراني في المعجم الكبير (11/272 ) من طريق أشعث بن سوار به. قال الهيثمي بعد أن عزاه لأبي يعلى وحده : "رجاله ثقات ، لكن في إسناده أشعث بن سوار وهو ضعيف".
(13) زيادة من ر.
(14) تفسير ابن أبي حاتم (ق176) وقد روي هذا الأثر من طرق أخرى مرسلة ، فرواه سعيد بن منصور في سننه برقم (685) قال : أخبرنا هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير به مرسلا ، ورواه الطبري في تفسيره (9/118) من طريق قيس بن الربيع عن سالم عن سعيد بن جبير به مرسلا.

(2/392)


وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)

قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا إبراهيم بن زياد سَبَلانُ ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن حميد بن أبي حميد ، عن عطاء بن يزيد الليثي ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من خرج حاجا فمات ، كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة ، ومن خرج معتمرا فمات ، كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة ، ومن خرج غازيا في سبيل الله فمات ، كتب له أجر الغازي (1) إلى يوم القيامة".
وهذا حديث غريب من هذا الوجه (2).
{ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) }
يقول تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ } أي : سافرتم في البلاد ، كما قال تعالى : { عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ [وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ] (3) } الآية [المزمل : 20].
وقوله : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } أي : تخَفّفوا فيها ، إما من كميتها بأن تجعل (4) الرباعية ثنائية ، كما فهمه الجمهور من هذه الآية ، واستدلّوا بها على قصر الصلاة في السفر ، على اختلافهم في ذلك : فمن قائل لا بد أن يكون سفر طاعة ، من جهاد ، أو حج ، أو عمرة ، أو طلب علم ، أو زيارة ، وغير ذلك ، كما هو مروي عن ابن عمر وعطاء ، ويحكى عن مالك في رواية عنه نحوه ، لظاهر قوله : { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا }
ومن قائل (5) لا يشترط سفر القربة ، بل لا بد أن يكون مباحا ، لقوله : { فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ [فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ] (6) } [المائدة : 3] أباح له تناول الميتة مع اضطراره إلا بشرط ألا يكون عاصيا بسفره. وهذا قول الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة.
وقد قال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا وَكِيع ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله ، إني رجل تاجر ، أختلف إلى البحرين "فأمره أن يصلي ركعتين" وهذا مرسل (7).
ومن قائل : يكفي مطلق السفر ، سواء كان مباحا أو محظورا ، حتى لو خرج لقطع الطريق وإخافة السبيل ، تَرَخَّص ، لوجود مطلق السفر. وهذا قول أبي حنيفة ، رحمه الله ، والثوري وداود ،
__________
(1) في ر : "المغازي".
(2) مسند أبي يعلى (1/238) وفي إسناده جميل بن أبي ميمونة لم يوثقه سوى ابن حبان ، وابن إسحاق مدلس وقد عنعن.
(3) زيادة من ر ، أ.
(4) في ر : "ترجع".
(5) في ر : "ومن قال".
(6) زيادة من ر ، أ.
(7) المصنف (2/448).

(2/393)


لعموم الآية وخالفهم الجمهور. وأما قوله : { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } فقد يكون هذا خُرِّج مخرج الغالب حال نزول هذه الآية ، فإن في مبدأ الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة ، بل ما كانوا ينهضون إلا إلى غزو عام ، أو في سرية خاصة ، وسائر الأحيان حرب الإسلام وأهله ، والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب أو على حادثة فلا مفهوم له ، كقوله (1) { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } [النور : 33] ، وكقوله : (2) { وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ } الآية [النساء : 23].
وقال الإمام أحمد : حدثنا ابن إدريس ، حدثنا ابن جُرَيْج ، عن ابن أبي عمار ، عن عبد الله بن بابَيْه ، عن يعلى بن أمية قال : سألت عمر بن الخطاب قلت : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } وقد أمَّن الله الناس (3) ؟ فقال لي عمر : عجبتُ مما عجبتَ منه ، فسألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : "صدقة تصدق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته".
وهكذا رواه مسلم وأهل السنن ، من حديث ابن جريج ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار ، به. وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. وقال علي بن المديني : هذا حديث صحيح من حديث عمر ، ولا يحفظ إلا من هذا الوجه ، ورجاله معروفون (4) وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا أبو نعيم ، حدثنا مالك بن مِغْول ، عن أبي حنظلة الحذَّاء قال : سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال : ركعتان. فقلت : أين قوله تعالى : { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } ونحن آمنون ؟ فقال : سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم (5).
وقال ابن مَرْدُويه : حدثنا عبد الله بن محمد بن عيسى ، حدثنا علي بن محمد بن سعيد ، حدثنا مِنْجَاب ، حدثنا شُرَيْك ، عن قيس بن وهب ، عن أبي الودَّاك : سألت ابن عمر عن ركعتين في السفر ؟ فقال : هي رخصة ، نزلت من السماء ، فإن شئتم فردوها.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا ابن عَوْن ، عن ابن سِيرِين ، عن ابن عباس قال : صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة ، ونحن آمنون ، لا نخاف بينهما ، ركعتين ركعتين.
وكذا رواه النسائي ، عن محمد بن عبد الأعلى ، عن خالد الحذَّاء (6) عن عبد الله بن عون ، به (7) قال أبو عمر بن عبد البر : وهكذا رواه أيوب ، وهشام ، ويزيد بن إبراهيم التُّسْتَرِي ، عن محمد بن سيرين ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله.
قلت : وهكذا رواه الترمذي والنسائي جميعا ، عن قتيبة ، عن هُشَيم ، عن منصور بن زَاذَان ، عن
__________
(1) في ر : "لقوله".
(2) في ر : "لقوله".
(3) في أ : "البأس".
(4) المسند (1/25) وصحيح مسلم برقم (686) وسنن أبي داود برقم (1199) وسنن النسائي (3/116) وسنن ابن ماجه برقم (1065).
(5) المصنف (2/447) ورواه أحمد في مسنده (2/31) عن طريق يزيد بن إسماعيل عن أبي حنظلة عن ابن عمر رضي الله عنه.
(6) في أ : "ابن الحارث".
(7) المصنف (2/448) وسنن النسائي (3/117).

(2/394)


محمد بن سيرين ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة إلى مكة ، لا يخاف إلا ربَّ العالمين ، فصلى ركعتين ، ثم قال الترمذي : صحيح (1).
وقال البخاري : حدثنا أبو مَعْمَر ، حدثنا عبد الوارث ، حدثنا يحيى بن أبي إسحاق قال : سمعت أنسا يقول : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة ، فكان يصلي ركعتين ركعتين ، حتى رجعنا إلى المدينة. قلت : أقمتم بمكة شيئا ؟ قال : أقمنا بها عَشْرًا.
وهكذا أخرجه بقية الجماعة من طرق عن يحيى بن أبي إسحاق الحضرمي ، به (2).
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا سُفْيان ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن وهب الخُزَاعي قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر بمنى - أكثر ما كان الناس وآمنه - ركعتين.
ورواه الجماعة سوى ابن ماجه من طرق ، عن أبي إسحاق السَّبِيعي ، عنه ، به (3) ولفظ البخاري : حدثنا أبو الوليد ، حدثنا شعبة ، أنبأنا أبو إسحاق ، سمعت حارثة بن وهب قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم آمن ما كان بمنى ركعتين.
وقال البخاري : حدثنا مُسَدَّد ، حدثنا يحيى ، حدثنا عبيد الله ، أخبرنا نافع ، عن عبد الله بن عمر قال : صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ، وأبي بكر وعمر ، ومع عثمان صدرا من إمارته ، ثم أتمها.
وكذا رواه مسلم من حديث يحيى بن سعيد القطان [الأنصاري] (4) به (5).
وقال البخاري : حدثنا قتيبة ، حدثنا عبد الواحد ، عن الأعمش ، حدثنا إبراهيم ، سمعت عبد الرحمن بن يزيد يقول : صلى بنا عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، بمنى أربع ركعات ، فقيل في ذلك لعبد الله بن مسعود فاسترجع ، ثم قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين ، وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين ، وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين ، فليت حظي مع (6) أربع ركعات ركعتان متقبلتان.
ورواه البخاري أيضا من حديث الثوري ، عن الأعمش ، به. وأخرجه مسلم من طرق ، عنه. منها عن قتيبة كما تقدم (7).
فهذه الأحاديث دالة صريحا على أن القصر ليس من شرطه وجود الخوف ؛ ولهذا قال من قال من العلماء : إن المراد من القصر هاهنا إنما هو قصر الكيفية لا الكمية. وهو قول مجاهد ، والضحاك ، والسدي كما سيأتي بيانه ، واعتضدوا أيضا بما رواه الإمام مالك ، عن صالح بن كيسان ، عن عروة بن
__________
(1) سنن الترمذي برقم (547) وسنن النسائي (3/117).
(2) صحيح البخاري برقم (1081) وصحيح مسلم برقم (693) وسنن أبي داود برقم (1233) وسنن الترمذي برقم (548) وسنن النسائي (3/118) وسنن ابن ماجه برقم (1077).
(3) المسند (4/306) وصحيح البخاري برقم (1083) وصحيح مسلم برقم (696) وسنن أبي داود برقم (1965) وسنن الترمذي برقم (882) وسنن النسائي (3/120).
(4) زيادة من أ.
(5) صحيح البخاري برقم (1082) وصحيح مسلم برقم (694) وسنن النسائي (3/121).
(6) في ر ، أ : "من".
(7) صحيح البخاري برقم (1084) و ( 1657) وصحيح مسلم برقم (695).

(2/395)


الزبير ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، أنها قالت : فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في السفر والحضر ، فَأقرَّت صلاة السفر ؛ وَزِيد في صلاة الحضر.
وقد روى هذا الحديث البخاري عن عبد الله بن يوسف التنَّيسي ، ومسلم عن يحيى بن يحيى ، وأبو داود عن القَعْنَبي ، والنَّسائي عن قتيبةَ ، أربعتهم عن مالك ، به (1).
قالوا : فإذا كان أصل الصلاة في السفر هي الثنتين ، فكيف يكون المراد بالقصر هاهنا قصر الكمية ؛ لأن ما هو الأصل لا يقال فيه : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } ؟
وأصرح من ذلك دلالة على هذا ، ما رواه الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا سفيان - وعبد الرحمن حدثنا سفيان - عن زُبَيْد اليامي ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن عمر ، رضي الله عنه ، قال : صلاة السفر ركعتان ، وصلاة الأضحى (2) ركعتان ، وصلاة الفطر ركعتان ، وصلاة الجمعة ركعتان ، تمام غير قصر ، على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.
وهكذا رواه النسائي وابن ماجه ، وابن حبان في صحيحه ، من طرق عن زُبَيْد اليامي (3) به (4).
وهذا إسناد على شرط مسلم. وقد حَكَم مسلم في مقدمة كتابه بسماع ابن أبي ليلى ، عن عمر. وقد جاء مصرحا به في هذا الحديث وفي غيره ، وهو الصواب إن شاء الله. وإن كان يحيى بن مَعين ، وأبو حاتم ، والنسائي قد قالوا : إنه لم يسمع منه. وعلى هذا أيضا ، فقد وقع في بعض طرق أبي يَعْلى الموصِلي ، من طريق الثوري ، عن زُبَيد ، عن عبد الرحمن [بن أبي ليلى] (5) عن الثقة ، عن عمر فذكره ، وعند ابن ماجه من طريق يزيد بن أبي زياد بن أبي الجعد ، عن زبيد ، عن عبد الرحمن ، عن كعب بن عُجْرَة ، عن عمر ، به. ، فالله أعلم (6).
وقد روى مسلم في صحيحه ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، من حديث أبي عَوَانة الوضاح بن عبد الله اليَشْكُري - زاد مسلم والنسائي : وأيوب بن عائد - كلاهما عن بُكَير بن الأخنس ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عباس قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا ، وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة ، [هكذا رواه وكيع وروح بن عبادة عن أسامة بن زيد الليثي : حدثني الحسن بن مسلم بن يَسَاف عن طاوس عن ابن عباس قال : فرض الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الصلاة في الحضر أربعًا وفي السفر ركعتين] (7) فكما يصلى في الحضر قبلها وبعدها ، فكذلك يصلى في السفر (8).
ورواه ابن ماجه من حديث أسامة بن زيد ، عن طاوس نفسه (9).
__________
(1) الموطأ في قصر الصلاة في السفر برقم (8) ، (1/146) وصحيح البخاري برقم (350) وصحيح مسلم برقم (685) وسنن أبي داود برقم (1198) وسنن النسائي (1/225).
(2) في أ : "الضحى".
(3) في ر : "الأيامى".
(4) المسند (1/37) وسنن النسائي (3/111) وسنن ابن ماجه برقم (1063) وصحيح ابن حبان (4/197).
(5) زيادة من أ.
(6) انظر صحيح مسلم المقدمة (1/34) والمراسيل لابن أبي حاتم (125) وتاريخ الدروي عن يحيى بن معين (2/356). والصحيح أن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من عمر ، بل قال ابن معين في رواية ابن أبي شيبة عنه : لم يسمع من عمر ولا عثمان وسمع من علي. وانظر : تهذيب الكمال للمزي (17/376) وحاشية الدكتور بشار عواد عليه.
(7) زيادة من أ.
(8) صحيح مسلم برقم (687) وسنن أبي داود برقم (1247) وسنن النسائي (3/169) وسنن ابن ماجه برقم (1068).
(9) سنن ابن ماجه برقم (1072).

(2/396)


فهذا ثابت عن ابن عباس ، رضي الله عنهما (1) ولا ينافي ما تقدم عن عائشة لأنها أخبرت أن أصل الصلاة ركعتان ، ولكن زيد في صلاة الحضر ، فلما استقر ذلك صح أن يقال : إن فرض صلاة الحضر أربع ، كما قاله ابن عباس ، والله أعلم. لكن اتفق حديث ابن عباس وعائشة على أن صلاة السفر ركعتان ، وأنها تامة غير مقصورة ، كما هو مصرح به في حديث عمر ، رضي الله عنه ، وإذا كان كذلك ، فيكون المراد بقوله تعالى : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } قصر الكيفية كما في صلاة الخوف ؛ ولهذا قال : { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا] (2) }.
ولهذا قال بعدها : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ [فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ] (3) } الآية (4) فبين المقصود من القصر هاهنا وذكر صفته وكيفيته ؛ ولهذا لما اعتضد (5) البخاري
"كتاب (6) صلاة الخوف" صدره بقوله تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } إلى قوله : { إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا }
وهكذا قال جُوَيبر ، عن الضحاك في قوله : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } قال : ذاك عند القتال ، يصلي الرجل الراكب تكبيرتين حيث كان وجهه.
وقال أسباط ، عن السدي في قوله : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ } الآية : إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر فهي تمام ، التقصير لا يحل ، إلا أن تخاف من الذين كفروا أن يفتنوك عن الصلاة ، فالتقصير ركعة.
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } يوم كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعُسفان والمشركون (7) بضجْنان ، فتوافقوا ، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر أربع ركعات ، بركوعهم وسجودهم وقيامهم معا جميعا ، فَهَمَّ بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم.
روى ذلك ابن أبي حاتم. ورواه ابن جرير ، عن مجاهد والسدي ، وعن جابر وابن عمر ، واختار ذلك أيضا ، فإنه قال بعد ما حكاه من الأقوال في ذلك : وهو الصواب. وقال ابن جرير : حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، حدثنا ابن أبي فُدَيْك ، حدثنا ابن أبي ذئب ، عن ابن شهاب ، عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد : أنه قال لعبد الله بن عمر : إنا نجد في كتاب الله قصر صلاة الخوف ، ولا نجد قصر صلاة المسافر ؟ فقال عبد الله : إنا وجدنا نبينا صلى الله عليه وسلم يعمل عملا عملنا به.
فقد سمى صلاة الخوف مقصورة ، وحمل الآية عليها ، لا على قصر صلاة المسافر ، وأقره ابن عمر على ذلك ، واحتج على قصر الصلاة في السفر بفعل الشارع لا بنص القرآن.
وأصرح من هذا ما رواه ابن جرير أيضا : حدثني أحمد بن الوليد القرشي ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن سِمَاك الحنفي : سألت ابن عمر عن صلاة السفر ، فقال : ركعتان تمام غير
__________
(1) في ر : "عنه".
(2) زيادة من ر ، أ.
(3) زيادة من ر ، أ.
(4) في ر ، أ : "إلى آخرها".
(5) في أ : "عقد".
(6) في ر : "في كتاب".
(7) في ر : "والمسلمون".

(2/397)


قصر ، إنما القصر صلاة المخافة. فقلت : وما صلاة المخافة ؟ فقال : يصلي الإمام بطائفة ركعة ، ثم يجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء ، ويجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء ، فيصلي بهم ركعة ، فيكون للإمام ركعتان ، ولكل طائفة ركعة ركعة (1).
__________
(1) تفسير الطبري (9/134).

(2/398)


وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)

{ وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) }
صلاة الخوف أنواع كثيرة ، فإن العدو تارة يكون تجاه القبلة ، وتارة يكون في غير صَوْبها ، والصلاة تارة تكون رباعية ، وتارة ثلاثية كالمغرب ، وتارة ثنائية ، كالصبح وصلاة السفر ، ثم تارة يصلون جماعة ، وتارة يلتحم الحرب فلا يقدرون على الجماعة ، بل يصلون فرادى مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ، ورجالا وركبانا ، ولهم أن يمشوا والحالة هذه ويضربوا الضرب المتتابع في متن الصلاة.
ومن العلماء من قال : يصلون والحالة هذه ركعة واحدة ؛ لحديث ابن عباس المتقدم ، وبه قال أحمد بن حنبل. قال المنذري في الحواشي : وبه قال عطاء ، وجابر ، والحسن ، ومجاهد ، والحكم ، وقتادة ، وحماد. وإليه ذهب طاوس والضحاك.
وقد حكى أبو عاصم العَبَّادي (1) عن محمد بن نصر المروزي ؛ أنه يرى رَدَّ الصبح إلى ركعة في الخوف وإليه ذهب ابن حزم أيضًا.
وقال إسحاق بن راهويه : أما عند المسايفة فيجزيك ركعة واحدة ، تومئ بها إيماء ، فإن لم تقدر فسجدة واحدة ؛ لأنها ذكر الله.
وقال آخرون : تكفي تكبيرة واحدة. فلعله أراد ركعة واحدة ، كما قاله أحمد بن حنبل وأصحابه ، ولكن الذين حكوه إنما حكوه على ظاهره في الاجتزاء بتكبيرة واحدة ، كما هو مذهب إسحاق بن راهويه ، وإليه ذهب الأمير عبد الوهاب بن بُخْت المكي ، حتى قال : فإن لم يقدر على التكبيرة (2) فلا يتركها في نفسه ، يعني بالنية ، رواه سعيد بن منصور في سننه عن إسماعيل بن عَيَّاش ، عن شعيب بن دينار ، عنه ، فالله أعلم.
ومن العلماء من أباح تأخير الصلاة لعذر القتال والمناجزة ، كما أخر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب صلاة العصر ، قيل : والظهر ، فصلاهما بعد الغروب ، ثم صلى بعدهما المغرب ثم العشاء. وكما قال
__________
(1) في ر : "العادي".
(2) في أ : "التكبير".

(2/398)


بعدها - يوم بني قريظة ، حين جهز إليهم الجيش - : "لا يصلينّ أحدٌ منكم العصر إلا في بني قريظة" ، فأدركتهم الصلاة في أثناء الطريق ، فقال منهم قائلون : لم يرد منا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تعجيلَ المسير ، ولم يرد منا تأخير الصلاة عن وقتها ، فصلوا الصلاة لوقتها في الطريق. وأخَّر آخرون منهم العصر ، فصلوها في بني قريظة بعد الغروب ، ولم يُعَنِّف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا من الفريقين (1) وقد تكلمنا على هذا في كتاب السيرة ، وبَيَّنا أن الذين صلوا العصر لوقتها أقرب إلى إصابة الحق في نفس الأمر ، وإن كان الآخرون معذورين أيضًا ، والحجة هاهنا في عذرهم في تأخير الصلاة لأجل الجهاد والمبادرة إلى حصار الناكثين للعهد (2) من الطائفة الملعونة اليهود. وأما الجمهور فقالوا : هذا كله منسوخ بصلاة الخوف ، فإنها لم تكن نزلت بعد ، فلما نزلت نسخ تأخير الصلاة لذلك ، وهذا بين في حديث أبي سعيد الخدري ، الذي رواه الشافعي وأهل السنن ، ولكن يشكل على هذا (3) ما حكاه البخاري رحمه الله ، في صحيحه ، حيث قال :
"باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو" : قال الأوزاعي : إن كان تَهَيَّأ الفتحُ ولم يقدروا على الصلاة ، صَلُّوا إيماء ، كل امرئ لنفسه ، فإن لم يقدروا على الإيماء أخَّروا الصلاة حتى ينكشف القتال ، أو يأمنوا فيصلوا ركعتين. فإن لم يقدروا صَلُّوا ركعة وسجدتين ، فإن لم يقدروا لا يجزئهم التكبير ، ويؤخرونها حتى يأمنوا. وبه قال مكحول ، وقال أنس بن مالك : حضرت مناهضة (4) حصن تُسْتر عند إضاءة الفجر ، واشتد اشتعال القتال ، فلم يقدروا على الصلاة ، فلم نُصَلِّ إلا بعد ارتفاع النهار ، فصليناها ونحن مع أبي موسى ، فَفُتح لنا ، قال أنس : وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها. (5)
انتهى ما ذكره ، ثم أتبعه بحديث تأخير الصلاة يوم الأحزاب ، ثم بحديث أمره إياهم ألا يصلوا العصر إلا في بني قريظة ، وكأنه كالمختار لذلك ، والله أعلم.
ولمن جنح إلى ذلك له أن يحتج (6) بصنيع أبي موسى وأصحابه يوم فتح تستر فإنه يشتهر (7) غالبا ، ولكن كان ذلك في إمارة عمر بن الخطاب ، ولم ينقل أنه أنكر عليهم ، ولا أحد من الصحابة ، والله أعلم.
[و] (8) قال هؤلاء : وقد كانت صلاة الخوف مشروعة في الخندق ؛ لأن ذات الرِّقَاع كانت قبل الخندق في قول جمهور علماء السير والمغازي. وممن نص على ذلك محمد بن إسحاق ، وموسى بن عقبة ، والواقدي ، ومحمد بن سعد كاتبه ، وخليفة بن خَيَّاط وغيرهم (9) وقال البخاري وغيره : كانت ذات الرقاع بعد الخندق ، لحديث أبي موسى وما قَدم إلا في خيبر ، والله أعلم. والعجب - كل العجب -
__________
(1) صحيح البخاري برقم (946) وصحيح مسلم برقم (1770) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(2) في ر : "للعهود".
(3) في د : "يشكل عليه".
(4) في د : "مناهزة".
(5) ذكره البخاري تعليقا (2/434).
(6) في أ : "أن يقول".
(7) في أ : "شهر".
(8) زيادة من د.
(9) انظر : السيرة النبوية لابن هشام (2/203) والمغازي للواقدي (1/335) والطبقات الكبرى لابن سعد (2/61).

(2/399)


أن المُزْني ، وأبا يوسف القاضي ، وإبراهيم بن إسماعيل بن عُلَيَّة ذهبوا إلى أن صلاة الخوف منسوخة بتأخيره ، عليه السلام ، الصلاة يوم الخندق. وهذا غريب جدًّا ، وقد ثبتت الأحاديث بعد الخندق بصلاة الخوف ، وحمل تأخير الصلاة يومئذ على ما قاله مكحول والأوزاعي أقوى وأقرب ، والله أعلم.
فقوله تعالى : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ } أي : إذا صليت بهم إماما في صلاة الخوف ، وهذه حالة غير الأولى ، فإن تلك قصرها إلى ركعة ، كما دل عليه الحديث ، فرادى ورجالا وركبانا ، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ، ثم ذكر حال الاجتماع والائتمام بإمام واحد. وما أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية الكريمة ، حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة ، فلولا أنها واجبة لما ساغ ذلك ، وأما من استدل بهذه الآية على أن صلاة الخوف منسوخة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لقوله : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ } فبعده تفوت هذه الصفة ، فإنه استدلال ضعيف ، ويُرَدُّ عليه مثل قول مانعي الزكاة ، الذين احتجوا بقوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } [التوبة : 103] قالوا : فنحن لا ندفع زكاتنا بعده صلى الله عليه وسلم إلى أحد ، بل نخرجها نحن بأيدينا (1) على من نراه ، ولا ندفعها إلى من صلاته ، أي : دعاؤه ، سكن لنا ، ومع هذا ردَّ عليهم الصحابة وأبَوْا عليهم هذا الاستدلال ، وأجبروهم على أداء الزكاة ، وقاتلوا من منعها منهم.
ولنذكر سبب نزول هذه الآية الكريمة أولا قبل ذكر صفتها :
قال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا عبد الله بن هاشم ، أنبأنا سيف (2) عن أبي رَوْق ، عن أبي أيوب ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : سأل قوم من بني النجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، إنا نضرب في الأرض ، فكيف نصلي ؟ فأنزل الله عز وجل : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ } ثم انقطع الوحي ، فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى الظّهر ، فقال المشركون : لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم ، هلا شددتم عليهم ؟ فقال قائل منهم : إن لهم أخرى مثلها في إثرها. قال : فأنزل الله عز وجل بين الصلاتين : { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا. وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ } إلى قوله : { أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} ] (3) فنزلت صلاة الخوف.
وهذا سياق غريب جدا (4) ولكن لبعضه شاهد من رواية أبي عياش الزُّرَقي ، واسمه زيد بن الصامت ، رضي الله عنه ، قال الإمام أحمد :
حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد ، عن أبي عياش قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعُسْفان ، فاستقبلنا المشركون ، عليهم خالد بن الوليد ، وهم بيننا وبين القبلة ، فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم الظهر ، فقالوا : لقد (5) كانوا على حال لو أصبنا غُرَّتَهم. ثم قالوا : تأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم. قال : فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ } قال : فحضرت ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فأخذوا السلاح ، [قال] (6) فصفنا (7) خلفه
__________
(1) في ر : "من أيدينا".
(2) في أ : "سفيان".
(3) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآيتين".
(4) تفسير الطبري (9/126).
(5) في أ : "قد".
(6) زيادة من أ.
(7) في أ : "فصففنا".

(2/400)


صفين ، قال : ثم ركع فركعنا جميعا ، ثم رفع فرفعنا جميعا ، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم ، فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء ، وجاء هؤلاء إلى مصاف هؤلاء ، ثم ركع فركعوا جميعا ، ثم رفع فرفعوا جميعا ، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه ، والآخرون قيام يحرسونهم ، فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا ، ثم سلم عليهم ، ثم انصرف. قال : فصلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين : مرة بعسفان ، ومرة بأرض بني سليم.
ثم رواه أحمد ، عن غُنْدَر ، عن شعبة ، عن منصور ، به نحوه. وهكذا رواه أبو داود ، عن سعيد بن منصور ، عن جرير بن عبد الحميد ، والنسائي من حديث شعبة وعبد العزيز بن عبد الصمد ، كلهم عن منصور ، به (1).
وهذا إسناد صحيح ، وله شواهد كثيرة ، فمن ذلك ما رواه البخاري حيث قال : حدثنا حَيْوَة بن شُرَيح ، حدثنا محمد بن حرب ، عن الزُّبيدي ، عن الزُّهري ، عن عُبَيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس قال : قام النبي صلى الله عليه وسلم وقام الناس معه ، فكبر وكبروا معه ، وركع وركع ناس منهم ، ثم سجد وسجدوا معه ، ثم قام الثانية فقام الذين سجدوا ، وحرسوا إخوانهم ، وأتت الطائفة الأخرى فركعوا وسجدوا معه ، والناس كلهم في الصلاة ، ولكن يحرس بعضهم بعضًا (2).
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثني أبي ، عن قتادة ، عن سليمان اليَشْكُري : أنه سأل جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة : أي يوم أنزل ؟ أو : أي يوم هو ؟ فقال جابر : انطلقنا نتلقي عِيرَ قريش آتية من الشام ، حتى إذا كنا بنخل ، جاء رجل من القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد. قال : "نعم" ، قال : هل تخافني ؟ قال : "لا". قال : فما (3) يمنعك مني ؟ قال : "الله يمنعني منك". قال : فَسلَّ السيف ثم تهدده وأوعده ، ثم نادى بالترحل وأخذ السلاح ، ثم نودي بالصلاة ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفة من القوم وطائفة أخرى تحرسهم. فصلى بالذين يلونه ركعتين ، ثم تأخر الذين يلونه على أعقابهم فقاموا في مصاف أصحابهم ، ثم جاء الآخرون فصلى بهم ركعتين والآخرون يحرسونهم ، ثم سلم. فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم أربع ركعات ، والقوم ركعتين ركعتين ، فيومئذ أنزل الله في إقصار الصلاة وأمر المؤمنين بأخذ السلاح.
وقال الإمام أحمد : حدثنا سُرَيج (4) حدثنا أبو عَوَانة ، عن أبي بشر ، عن سليمان بن قيس اليَشْكُري ، عن جابر بن عبد الله قال : قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب خَصَفَة (5) فجاء رجل منهم يقال له : "غورث بن الحارث" حتى قام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف فقال : من يمنعك مني ؟ قال : "الله" ، فسقط السيف من يده ، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "ومن يمنعك مني" ؟ قال : كن خير آخذ. قال : "أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ؟" قال : لا ولكني أعاهدك ألا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك. فخلى سبيله ، فأتى قومه فقال : جئتكم (6) من عند خير الناس. فلما حضرت الصلاة صلى
__________
(1) المسند (4/59 ، 60) وسنن أبي داود برقم (1236) وسنن سعيد بن منصور برقم (686) وسن النسائي (3/176).
(2) صحيح البخاري برقم (944).
(3) في أ : "فمن".
(4) في ر : "شريح".
(5) في ر : "حفصة".
(6) في أ : "جئتك".

(2/401)


رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ، فكان الناس طائفتين : طائفة بإزاء العدو ، وطائفة صلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فصلى بالطائفة (1) الذين معه ركعتين ، وانصرفوا ، فكانوا بمكان أولئك الذين بإزاء عدوهم. وانصرف الذين بإزاء عدوهم فصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات ، وللقوم ركعتين ركعتين.
تفرد به من هذا الوجه (2).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنَان ، حدثنا أبو قَطَن عمرو بن الهيثم ، حدثنا المسعودي ، عن يزيد الفقير قال : سألت جابر بن عبد الله عن الركعتين في السفر : أقصرهما ؟ قال : الركعتان في السفر تمام ، إنما القصر واحدة عند القتال ، بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال إذْ أقيمت الصلاة ، فقام رسول الله صلى فصف طائفة ، وطائفة وجهها قِبَل العدو ، فصلَّى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين ، ثم الذين خلفوا انطلقوا إلى أولئك فقاموا مقامهم ومكانهم نحو ذا ، وجاء أولئك فقاموا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم ركعة وسجد بهم سجدتين ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس وسلم ، وسلم الذين خلفه ، وسلم أولئك ، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ، وللقوم ركعة ركعة ، ثم قرأ : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ } (3).
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن يزيد الفقير ، عن جابر بن عبد الله ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف ، فقام صفٌّ بين يديه ، وصفٌّ خلفه ، فصلى بالذي خلفه ركعة وسجدتين ، ثم تقدم هؤلاء حتى قاموا في مقام أصحابهم ، وجاء أولئك حتى قاموا مقام هؤلاء ، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة وسجدتين ، ثم سلم. فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ولهم ركعة.
ورواه النسائي من حديث شعبة ، ولهذا الحديث طرق عن جابر (4) وهو في صحيح مسلم من وجه آخر بلفظ آخر (5) وقد رواه عن جابر جماعة كثيرون في الصحيح والسنن والمساند.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نُعَيْم بن حمَّاد ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، أنبأنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه قال : { وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ } قال : هي صلاة الخوف ، صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإحدى الطائفتين ركعة ، والطائفة الأخرى مقبلة على العدو ، وأقبلت الطائفة الأخرى التي كانت مقبلة على العدو فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة أخرى ، ثم سلم بهم ، ثم قامت كل طائفة منهم فصلت ركعة ركعة. وقد روى هذا الحديث الجماعة في كتبهم من طريق معمر ، به ولهذا الحديث طرق كثيرة عن جماعة من الصحابة ، وقد أجاد الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في سرد طُرُقه وألفاظه ، وكذا ابن جرير ، ولنحرره في كتاب "الأحكام الكبير" إن شاء الله ، وبه الثقة.
__________
(1) في أ : "الطائفتين".
(2) المسند (3/390) وعلق البخاري قطعة منه في صحيحه (7/476) وقد رواه من غير هذا الوجه برقم (4135) فرواه من طريق الزهري عن سنان بن أبي سنان عن جابر بنحوه ، وراه من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر بنحوه.
(3) ورواه ابن أبي شيبة مختصرا (2/463) من طريق وكيع عن المسعودي به.
(4) المسند (3/298) وسنن النسائي (3/174).
(5) رواه مسلم برقم (840) من طريق عبد الملك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر رضي الله عنه.

(2/402)


فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)

وأما الأمر بحمل السلاح في صلاة الخوف ، فمحمول عند طائفة من العلماء على الوجوب لظاهر الآية ، وهو أحد قولي الشافعي ويدل عليه قوله : { وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ } أي : بحيث تكونون على أهبة إذا احتجتم إليها لبستموها بلا كلفة : { إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا }
{ فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104) }
يأمر الله تعالى بكثرة الذكر عقيب صلاة الخوف ، وإن كان مشروعا مرغبا فيه أيضا بعد غيرها ، ولكن هاهنا آكد لما وقع فيها من التخفيف في أركانها ، ومن الرخصة في الذهاب فيها والإياب وغير ذلك ، مما ليس يوجد في غيرها ، كما قال تعالى في (1) الأشهر الحرم : { فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } [التوبة : 36] ، وإن كان هذا منهيا عنه في غيرها ، ولكن فيها آكد لشدة حرمتها وعظمها ؛ ولهذا قال تعالى : { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ } أي في سائر أحوالكم.
ثم قال : { فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ } أي : فإذا أمنتم وذهب الخوف ، وحصلت الطمأنينة { فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ } أي : فأتموها وأقيموها كما أمرتم بحدودها ، وخشوعها ، وسجودها وركوعها ، وجميع شئونها.
وقوله : { إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } قال ابن عباس : أي مفروضا. وكذا روي عن مجاهد ، وسالم بن عبد الله ، وعلي بن الحسين ، ومحمد بن علي ، والحسن ، ومقاتل ، والسدي ، وعطية العوفي.
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : { إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } قال ابن مسعود : إن للصلاة وقتا (2) كوقت الحج.
وقال زيد بن أسلم : { إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } قال : منجما ، كلما مضى نجم ، جاءتهم يعني : كلما مضى وقت جاء وقت.
وقوله : { وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ } أي : لا تضعفوا في طلب عدوكم ، بل جدوا فيهم وقاتلوهم ، واقعدوا لهم كل مرصد : { إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ } أي : كما يصيبكم الجراح والقتل ، كذلك يحصل لهم ، كما قال (3) { إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ } [آل عمران : 140].
ثم قال : { وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ } أي : أنتم وإياهم (4) سواء فيما يصيبكم وإياهم من
__________
(1) في أ : "حين ذكر".
(2) في د ، ر : "للصلاة وقت".
(3) في د : "كقوله".
(4) في أ : "وهم".

(2/403)


إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)

الجراح والآلام ، ولكن أنتم ترجون من الله المثوبة والنصر والتأييد ، وهم لا يرجون شيئا من ذلك ، فأنتم أولى بالجهاد منهم ، وأشد رغبة في إقامة كلمة الله وإعلائها.
{ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي : هو أعلم وأحكم فيما يقدره ويقضيه ، وينفذه ويمضيه ، من أحكامه الكونية والشرعية ، وهو المحمود على كل حال.
{ إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) }

(2/404)


وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)

{ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا (109) }
يقول تعالى مخاطبا لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : { إِنّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } أي : هو حق من الله ، وهو يتضمن الحق في خبره وطلبه.
وقوله : { لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ } احتج به من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان ، عليه السلام ، له أن يحكم بالاجتهاد بهذه الآية ، وبما ثبت في الصحيحين من رواية هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن زينب بنت أم سلمة ، عن أم سلمة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع حَلَبَةَ خصم بباب حجرته ، فخرج إليهم فقال : "ألا إنما أنا بشر ، وإنما أقضي بنحو مما أسمع ، ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضي له ، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار فليحملها (1) أو ليذرها" (2).
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا أسامة بن زيد ، عن عبد الله بن رافع ، عن أم سلمة قالت : جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد دَرَسَتْ ، ليس عندهما (3) بينة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنكم تختصمون إلي ، وإنما أنا بشر ، ولعل بعضكم ألْحَن بحُجَّتِه من بعض ، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار ، يأتي بها إسطامًا في عنقه يوم القيامة". فبكى الرجلان وقال كل منهما : حقي لأخي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما ، ثم توخيا الحق ، ثم استهما ، ثم ليُحْللْ كل واحد منكما (4) صاحبه".
وقد رواه أبو داود من حديث أسامة بن زيد ، به. وزاد : "إني إنما أقضي بينكما برأي فيما لم
__________
(1) في أ : "فليأخذها".
(2) صحيح البخاري برقم (2458) وصحيح مسلم برقم (1713).
(3) في أ : "بينهما".
(4) في أ : "كل منهما".

(2/404)


ينزل عليّ فيه" (1).
وقد روى ابن مَرْدُويه ، من طريق العوفي ، عن ابن عباس قال : إن نفرا من الأنصار غزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته ، فسرقت درع لأحدهم ، فأظن بها رجل من الأنصار ، فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن طُعْمةَ بن أُبَيْرق سرق درعي ، فلما رأى السارق (2) ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء ، وقال لنفر من عشيرته : إني غَيَّبْتُ الدرع وألقيتها في بيت فلان ، وستوجد عنده. فانطلقوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليلا فقالوا : يا نبي الله ، إن صاحبنا بريء. وإن صاحب الدرع فلان ، وقد أحطنا بذلك علما ، فاعذُرْ صاحبنا على رءوس الناس وجادل عنه. فإنه إلا (3) يعصمه الله بك يهلك ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرأه وعذرَه على رءوس الناس ، فأنزل الله : { إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (4) } [ يقول : احكم بما أنزل الله إليك في الكتاب] (5) { وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا. وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ [إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا] (6) } ثم قال للذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مُسْتَخْفين بالكذب : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ [وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا. هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا] (7) } يعني : الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين يجادلون عن الخائنين ثم قال : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ [ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا] (8) } يعني : الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين بالكذب ، ثم قال : { وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا } يعني : السارق والذين جادلوا عن السارق. وهذا سياق غريب (9) وكذا (10) ذكر مجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، والسدى ، وابن زيد وغيرهم في هذه الآية أنها أنزلت (11) في سارق بني أبيرق على اختلاف سياقاتهم ، وهي متقاربة.
وقد روى هذه القصة محمد بن إسحاق مطولة ، فقال أبو عيسى الترمذي عند تفسير هذه الآية من جامعه ، وابن جرير في تفسيره :
حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب أبو مسلم الحرَّاني ، حدثنا محمد بن سلمة الحرَّاني ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عُمَر بن قتادة ، عن أبيه ، عن جده قَتَادة بن النعمان ، رضي الله عنه ، قال : كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أُبَيْرق : بِشْر وبشير ومُبَشّر ، وكان بُشَير رجلا منافقًا ، يقول (12) الشعر يهجو به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ينحله بعض العرب ، ثم يقول : قال فلان كذا وكذا ، وقال فلان كذا وكذا ، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا : والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الخبيث ؟ - أو كما قال الرجل - وقالوا (13) ابن الأبيرق قالها. قالوا : وكانوا أهل بيت
__________
(1) المسند (6/320) وسنن أبي داود برقم (3584).
(2) في ر : "البارق".
(3) في د : "إن لم".
(4) في ر : "وأنزل الله الذكر في الكتاب".
(5) زيادة من أ.
(6) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(7) زيادة من ر ، أ ، و ، وفي هـ : "الآيتين".
(8) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(9) ورواه الطبري في تفسيره (9/183) وإسناده مسلسل بالضعفاء كما تقدم.
(10) في أ : "وهكذا".
(11) في ر : "أن هذه الآية نزلت".
(12) في أ : "منافقا فكان يقول".
(13) في أ : "وقال".

(2/405)


حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام ، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير ، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة (1) من الشام من الدَّرْمَك ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه ، وأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير ، فقدمت ضَافطة (2) من الشام ، فابتاع عمي رفاعة بن زيد حملا من الدرمك فحطه في مَشْربة له ، وفي المشربة سلاح : درع وسيف ، فَعُدى عليه من تحت البيت ، فَنقّبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح. فلما أصبح أتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي ، إنه قد عدى علينا في ليلتنا هذه. فنقبت مشربتنا وذهب بطعامنا وسلاحنا. قال : فتجسسنا في الدار وسألنا ، فقيل لنا : قد رأينا بني أُبَيْرق استوقدوا في هذه الليلة ، ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم.
قال : وكان بنو أبيرق قالوا - ونحن نسأل في الدار - : والله ما نرى صاحبكم إلا لَبِيد بن سهل رجلا منا له صلاح وإسلام. فلما سمع لبيد اخترط سيفه وقال : أنا أسرق ؟ والله (3) ليخالطنكم هذا السيف ، أو لتبينن هذه السرقة. قالوا : إليك عنا أيها الرجل ، فما أنت بصاحبها. فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها.
فقال لي عمي : يا ابن أخي ، لو أتيتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له. قال قتادة : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد ، فنَقَبوا مشربة له ، وأخذوا سلاحه وطعامه. فَلْيردوا علينا سلاحنا ، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه. فقال النبي (4) صلى الله عليه وسلم "سآمُرُ في ذلك".
فلما سمع بنو أُبَيْرق أتوا رجلا منهم يقال له : أُسَير بن عمْرو (5) فكلموه في ذلك ، فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار فقالوا : يا رسول الله ، إن قتادة (6) بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح ، يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت. قال قتادة : فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فكلمته ، فقال : "عمدت إلى أهل بيت ذُكر منهم إسلام وصلاح ، ترميهم بالسرقة على غير ثَبَت ولا بينة ؟ (7) ؟
قال : فرجعت ولَوَدِدت أني خرجت من بعض مالي ، ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فأتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي ، ما صنعت ؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : الله المستعان. فلم نلبث أن نزل القرآن : { إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا } بني أبيرق { وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ } مما قلت لقتادة { إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا. وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ [إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا. يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ ] (8) } إلى قوله : { رَحِيمًا } أي : لو استغفروا الله لغفر لهم { وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ } إلى قوله : { إِثْمًا مُبِينًا } قولهم للبيد : { وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ } إلى قوله : { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا }
فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فردَّه إلى رفاعة.
__________
(1) في د : "غير" ، وفي ر : "صافطة".
(2) في د : "غير" ، وفي ر : "صافطة".
(3) في أ : "فوالله".
(4) في د : "رسول الله".
(5) في د ، أ : "ابن عروة".
(6) في أ : "قدادة".
(7) في أ : "ثبت وبينة".
(8) زيادة من ر ، أ.

(2/406)


فقال قتادة : لما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخًا ، قد عشا أو عسا - الشك من أبي عيسى - في الجاهلية وكنت أرى إسلامه مدخولا فلما أتيته بالسلاح قال : يا ابن أخي ، هو في سبيل الله. فعرفت أن إسلامه كان صحيحًا ، فلما نزل القرآن لحق بُشَيرٌ بالمشركين ، فنزل على سُلافةَ بنت سعد بن سُمَية ، فأنزل الله تعالى : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا. إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا } فلما نزل على سلافة رماها حسان بن ثابت بأبيات من (1) شعره ، فأخذت رَحْلَهُ فوضعته على رأسها ، ثم خرجت به فَرَمَتْ به في الأبطح ، ثم قالت : أهديتَ لي شِعْر حسان ؟ ما كنتَ تأتيني بخير.
لفظ الترمذي ، ثم قال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعلم أحدا أسنده غير محمد بن سلمة الحراني : وروى يونس بن بُكَير وغير واحد ، عن محمد بن إسحاق ، عن عاصم بن عُمَر بن قتادة مرسلا لم يذكروا فيه عن (2) أبيه عن جده.
ورواه ابن حاتم عن هاشم بن القاسم الحراني ، عن محمد بن سلمة ، به ببعضه.
ورواه ابن المنذر في تفسيره : حدثنا محمد بن إسماعيل - يعني الصائغ - حدثنا الحسن بن أحمد ابن أبي شعيب الحراني ، حدثنا محمد بن سلمة - فذكره بطوله.
ورواه أبو الشيخ الأصبهاني في تفسيره عن محمد بن العباس بن أيوب والحسن بن يعقوب ، كلاهما عن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني ، عن محمد بن سلمة ، به. ثم قال في آخره : قال محمد بن سلمة : سمع مني هذا الحديث يحيى بن معين ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن إسرائيل (3).
وقد روى الحاكم أبو عبد الله النيسابوري هذا الحديث في كتابه "المستدرك" عن أبي العباس الأصم ، عن أحمد بن عبد الجبار العُطاردي ، عن يونس بن بُكَير ، عن محمد بن إسحاق - بمعناه أتم منه ، وفيه الشعر ، ثم قال : وهذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه (4).
وقوله : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ [وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ] (5) } الآية ، هذا إنكار على المنافقين في كونهم يستخفون بقبائحهم من الناس لئلا ينكروا عليهم ، ويجاهرون الله بها لأنه (6) مطلع على سرائرهم وعالم بما في ضمائرهم ؛ ولهذا قال : { وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا } تهديد لهم ووعيد.
ثم قال : { هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا] (7) } أي : هَبْ أن هؤلاء انتصروا في الدنيا بما أبدوه أو أبدى لهم عند الحكام الذين
__________
(1) في ر : "في".
(2) في أ : "غير".
(3) سنن الترمذي برقم (3036) وتفسير الطبري (9/177) وانظر : حاشية الشيخ أحمد شاكر في كلامه على هذا الحديث (9/181).
(4) المستدرك (4/385 - 388) ووافقه الذهبي.
(5) زيادة من ر ، أ.
(6) في أ : "فإنه".
(7) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".

(2/407)


وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)

يحكمون بالظاهر - وهم مُتَعَبدون (1) بذلك - فماذا يكون صنيعهم يوم القيامة بين يدي الله ، عز وجل ، الذي يعلم السر وأخفى ؟ ومن ذا الذي يتوكل لهم يومئذ في ترويج دعواهم ؟ أي : لا أحد يكون يومئذ لهم وكيلا ولهذا قال : { أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا }
{ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113) }
يخبر ، تعالى ، عن كرمه وجوده : أن كل من تاب إليه تاب عليه من أيّ ذنب كان.
فقال تعالى : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا }
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، أنه قال في هذه الآية : أخبر الله عباده بحلمه وعفوه وكرمه وَسَعة رحمته ، ومغفرته ، فمن أذنب ذنبا صغيرا كان أو كبيرًا { ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال. رواه ابن جرير.
وقال ابن جرير أيضًا : حدثنا محمد بن مُثَنَّى ، حدثنا محمد بن أبي عدي ، عن شعبة ، عن عاصم ، عن أبي وائل قال : قال عبد الله : كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدُهم ذنبًا أصبح قد كُتب كفارة ذلك الذنب على بابه ، وإذا أصاب البول شيئًا منه قرضه بالمقراض (2) فقال رجل : لقد آتى الله بني إسرائيل خيرا - فقال عبد الله : ما آتاكم الله خيرا مما آتاهم ، جعل (3) الماء لكم طهورًا ، وقال : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ } [آل عمران : 135] وقال { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا }
وقال أيضًا : حدثني يعقوب ، حدثنا هُشَيْم ، حدثنا ابن عَوْن ، عن حبيب بن أبي ثابت قال : جاءت امرأة إلى عبد الله بن مُغَفَّل فسألته عن امرأة فَجَرت فحبلت ، فلما (4) ولدت قتلت ولدها ؟ قال عبد الله بن مغفل : ما لها ؟ لها النار! فانصرفت وهي تبكي ، فدعاها (5) ثم قال : ما أرى أمرك إلا أحد أمرين : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } قال : فمسحت عينها ، ثم مضت (6).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا شعبة ، عن عثمان بن المغيرة قال : سمعت علي بن ربيعة من بني أسد ، يحدث (7) عن أسماء - أو ابن أسماء من بني فزارة (8) - قال : قال
__________
(1) في ر ، أ : "معبدون".
(2) في ر : "بالمقاريض".
(3) في ر : "جعل الله".
(4) في أ : "ولما".
(5) في ر ، أ : "فدعاها قال".
(6) تفسير الطبري (9/195).
(7) في أ : "يتحدث".
(8) في أ : "مزارة".

(2/408)


علي ، رضي الله عنه : كنت إذا سمعت من رسول الله شيئًا نفعني الله بما شاء أن ينفعني منه. وحدثني أبو بكر - وصدق أبو بكر - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من مسلم يذنب (1) ذنبًا ثم يتوضأ فيصلي ركعتين ، ثم يستغفر الله لذلك الذنب إلا غفر له". وقرأ هاتين الآيتين : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ [ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا] (2) } { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } الآية (3).
وقد تكلما على هذا الحديث ، وعزيناه إلى من رواه من أصحاب السنن ، وذكرنا ما في سنده من مقال في مسند أبي بكر الصديق ، رضي الله عنه. وقد تقدم بعض ذلك في سورة آل عمران أيضًا.
وقد رواه ابن مَرْدُويه في تفسيره من وجه آخر عن علي فقال : حدثنا أحمد بن محمد بن زياد ، حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي ، حدثنا داود بن مِهْران الدباغ ، حدثنا عمر بن يزيد ، عن أبي إسحاق ، عن عبد خير ، عن علي قال : سمعت أبا بكر - هو الصديق - (4) يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ما من عبد أذنب فقام فتوضأ فأحسن وضوءه ، ثم قام فصلى واستغفر من ذنبه ، إلا كان حقا على الله أن يغفر له ؛ لأنه يقول : { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ [ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا] (5) }.
ثم رواه من طريق أبان بن أبي عياش ، عن أبي إسحاق السَّبِيعي ، عن الحارث ، عن علي ، عن الصديق - بنحوه. وهذا إسناد لا يصح (6).
وقال ابن مردويه : حدثنا محمد بن علي بن دُحَيم حدثنا أحمد بن حازم ، حدثنا موسى بن مروان الرَّقِّي ، حدثنا مُبَشِّر بن إسماعيل الحلبي ، عن تمام بن نَجِيح ، حدثني كعب بن ذُهْل الأزدي قال : سمعت أبا الدرداء يحدث قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلسنا حوله ، وكانت له حاجة فقام إليها وأراد الرجوع ، ترك نعليه في مجلسه أو بعض ما عليه ، وإنه قام فترك نعليه. قال أبو الدرداء : فأخذ رَكْوَة من ماء فاتبعته ، فمضى ساعة ، ثم رجع ولم يقض حاجته ، فقال : "إنه أتاني آت من ربي فقال : إنه : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا } فأردت أن أبشر أصحابي". قال أبو الدرداء : وكانت قد شقت على الناس الآية التي قبلها : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } فقلت : يا رسول الله ، وإن زنى وإن سرق ، ثم استغفر ربه ، غفر (7) له ؟ قال : "نعم" قلت الثانية ، قال : "نعم" ، ثم قلت الثالثة ، قال : "نعم ، وإن زنى وإن سرق ، ثم استغفر الله غفر له على رغم أنف عويمر". قال : فرأيت أبا الدرداء يضرب أنف نفسه بأصبعه.
__________
(1) في أ : "أذنب".
(2) زيادة من د ، ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(3) المسند (1/8) وانظر تخريجه فيما مضى عند سورة آل عمران ، الآية : 135.
(4) في ر ، أ : "وهو الصدوق".
(5) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(6) ذكره الدارقطني في العلل (1/179) ورواه في الأفراد كما في الأطراف لابن القيسراني (ق 13) وقال : "لم يروه عنه - أي عمر بن يزيد - غير داود بن مهران وهو غريب من حديث أبي إسحاق عن عبد خير". وقال في العلل : "أحسنها إسنادا وأصحها ما رواه الثوري ومسعر ومن تابعهما من عثمان بن المغيرة". وهي رواية أهل السنن.
(7) في أ : "غفر الله له".

(2/409)


هذا حديث غريب جدًّا من هذا الوجه بهذا السياق ، وفي إسناده ضعف (1).
وقوله : { وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ [وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا] (2) } كقوله تعالى : { وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى] (3) } الآية : [فاطر : 18] يعني أنه لا يجني أحد على أحد ، وإنما على كل نفس ما عملت ، لا يحمل عنها غيرها ؛ ولهذا قال تعالى : { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي : من (4) علمه وحكمته ، وعدله ورحمته كان ذلك.
ثم قال : { وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا [فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا] (5) } يعني : كما اتهم بنو أُبَيْرق بصنيعهم القبيح ذلك الرجل الصالح ، وهو لَبِيد بن سهل ، كما تقدم في الحديث ، أو زيد بن السمين اليهودي على ما قاله الآخرون ، وقد كان بريئًا وهم الظلمة الخونة ، كما أطلعَ الله على ذلك رسولَه صلى الله عليه وسلم. ثم هذا التقريع وهذا التوبيخ عام فيهم وفي غيرهم ممن اتصف مثل صفتهم (6) وارتكب مثل خطيئتهم ، فعليه مثل عقوبتهم.
وقوله : { وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ } قال الإمام ابن أبي حاتم : أنبأنا هاشم بن القاسم الحراني فيما كتب إليَّ ، حدثنا محمد بن سلمة ، عن محمد بن إسحاق. عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري عن أبيه ، عن جده قتادة بن النعمان - وذكر قصة بني أبيرق ، فأنزل الله : { لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ } يعني : أُسَيْر بن (7) عروة وأصحابه. يعني بذلك لما أثنوا على بني أبيرق ولاموا قتادة بن النعمان في كونه اتهمهم ، وهم صلحاء برآء ، ولم يكن الأمر كما أنهوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ولهذا أنزل الله فصل القضية (8) وجلاءها لرسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم امتن عليه بتأييده إياه في جميع الأحوال ، وعصمته له ، وما أنزل عليه من الكتاب ، وهو القرآن ، والحكمة ، وهي السنة : { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } أي : [من] (9) قبل نزول ذلك عليك ، كقوله : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ [وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ] (10) } [الشورى : 52 ، 53] وقال تعالى : { وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ } [القصص : 86] ؛ ولهذا قال تعالى : { وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا }
__________
(1) ورواه الطبراني في معجمه كما في المجمع (7/11) ، وقال الهيثمي : "فيه مبشر بن إسماعيل ، وثقه ابن معين وغيره ، وضعفه البخاري وغيره". ورواه أبو داود في سننه برقم (4854) حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي حدثنا مبشر بن إسماعيل فذكر أوله إلى قوله : "فترك نعليه".
(2) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(3) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(4) في أ : "عن".
(5) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(6) في أ : "اتصف بصفتهم".
(7) في ر : "بني".
(8) في أ : "القصة".
(9) زيادة من أ.
(10) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "إلى آخر السورة".

(2/410)


لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)

{ لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) }
يقول تعالى : { لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ } يعني : كلام الناس { إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } أي : إلا نجوى من قال ذلك كما جاء في الحديث الذي رواه ابن مَرْدُويه :
حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن سليمان بن الحارث ، حدثنا محمد بن يزيد بن خُنَيس (1) قال : دخلنا على سفيان الثوري نعوده - وأومأ إلى دار العطارين - فدخل عليه سعيد بن حسان المخزومي فقال له سفيان الثوري : الحديث الذي كنت حدثتني (2) به عن أم صالح اردُدْه علي. فقال : حدثتني أم صالح ، عن صَفية بنت شَيْبة ، عن أم حَبيبَة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كلام ابن آدم كله عليه لا له ما (3) خلا أمرا (4) بمعروف أو نهيا (5) عن منكر [أو ذكر الله عز وجل" ، قال سفيان : فناشدته (6) ] (7) فقال محمد بن يزيد : ما أشد هذا الحديث ؟ فقال سفيان : وما شدة هذا الحديث ؟ إنما جاءت به امرأة عن امرأة ، هذا في كتاب الله الذي أرسل به نبيكم صلى الله عليه وسلم أو ما سمعت الله يقول في كتابه : { لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } فهو هذا بعينه ، أو ما سمعت الله يقول : { يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا } [النبأ : 38] فهو هذا بعينه ، أو ما سمعت الله يقول في كتابه : { والْعَصْرِ. إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ. [إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] (8) } [سورة العصر] ، فهو هذا بعينه.
وقد روى هذا الحديث الترمذي وابن ماجه من حديث محمد بن يزيد بن خُنَيس (9) عن سعيد بن حسان ، به. ولم يذكرا أقوال (10) الثوري إلى آخرها ، ثم قال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن خُنَيس (11). (12)
وقال الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، حدثنا صالح بن كَيْسان ، حدثنا محمد بن مسلم بن عُبَيد الله بن شهاب : أن حميد بن عبد الرحمن بن عوف أخبره ، أن أمه أم كلثوم بنت عقبة
__________
(1) في ر : "حنيش".
(2) في أ : "حدثتنيه".
(3) في أ : "إلا ما".
(4) في ر ، أ : "أمر".
(5) في ر ، أ : "أو نهى".
(6) في أ : "وناشدته".
(7) زيادة من ر ، أ.
(8) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "إلى آخره".
(9) في ر : "حنيش".
(10) في أ : "قول".
(11) في ر : "حنيش".
(12) سنن الترمذي برقم (2412) وسنن ابن ماجه برقم (3974) ورواه ابن أبي الدنيا في الصمت برقم (14) من طريق محمد بن يزيد بن خنيس بنحو سياق ابن مردويه.

(2/411)


أخبرته : أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ليس الكذاب الذي (1) يصلح بين الناس فَيَنْمِي خيرًا - أو يقول خيرًا" وقالت : لم أسمعه يرخص في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث : في الحرب ، والإصلاح بين الناس ، وحديث الرجل امرأته ، وحديث المرأة زوجها. قال : وكانت أم كلثوم بنت عقبة من المهاجرات اللاتي بايعن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد رواه الجماعة ، سوى ابن ماجه ، من طرق ، عن الزهري ، به نحوه (2).
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مُرة (3) عن سالم بن أبي الجعد ، عن أم الدرداء ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة ، والصيام والصدقة ؟" قالوا : بلى. قال : "إصلاح ذات البين" قال : "وفساد ذات البين هي الحالقة".
ورواه أبو داود والترمذي ، من حديث أبي معاوية ، وقال الترمذي : حسن صحيح (4).
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا سُرَيج (5) بن يونس ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر ، حدثنا أبي ، عن حميد ، عن أنس ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي أيوب : "ألا أدلك على تجارة ؟" قال : بلى : قال : "تسعى في صلح بين الناس إذا تفاسدوا ، وتُقَارب بينهم إذا تباعدوا" ثم قال البزار : وعبد الرحمن بن عبد الله العُمَري لَيّن ، وقد حدث بأحاديث لم يتابع عليها (6).
ولهذا قال : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ } أي : مخلصا في ذلك محتسبا ثواب ذلك عند الله عز وجل { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } أي : ثوابًا كثيرًا واسعًا.
وقوله : { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى } أي : ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم ، فصار في شق والشرع في شق ، وذلك عن عَمْد منه بعدما ظهر له الحق وتبين له واتضح له. وقوله : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } هذا ملازم للصفة الأولى ، ولكن قد تكون (7) المخالفة لنص الشارع ، وقد تكون (8) لما أجمعت (9) عليه الأمة المحمدية ، فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقًا ، فإنه قد ضُمِنت لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ ، تشريفًا لهم وتعظيما لنبيهم
__________
(1) في ر : "بالذي".
(2) المسند (6/403) وصحيح البخاري برقم (2692) وصحيح مسلم برقم (2605) وسنن أبي داود برقم (4920) وسنن الترمذي برقم (1938) وسنن النسائي الكبرى برقم (9123).
(3) في ر ، أ : "محمد".
(4) المسند (6/444) وسنن أبي داود برقم (4919) وسنن الترمذي برقم (2509).
(5) في ر ، أ : "شريح".
(6) مسند البزار برقم (2060) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (8/79) : "فيه عبد الرحمن بن عبد الله العمري وهو متروك".
(7) في أ : "يكون".
(8) في أ : "يكون".
(9) في ر ، أ : "أجمع".

(2/412)


إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)

[صلى الله عليه وسلم]. (1) وقد وردت في ذلك أحاديث صحيحة كثيرة ، قد ذكرنا منها طرفًا صالحًا في كتاب "أحاديث الأصول" ، ومن العلماء من ادعى تواتر معناها ، والذي عول عليه الشافعي ، رحمه الله ، في الاحتجاج على كون الإجماع حجة تَحْرُم مخالفته هذه الآية الكريمة ، بعد التروي والفكر الطويل. وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها ، وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك واستبعد الدلالة منها على ذلك (2).
ولهذا توعد تعالى على ذلك بقوله : { نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } أي : إذا سلك هذه الطريق جازيناه على ذلك ، بأن نحسنها في صدره ونزينها له - استدراجًا له - كما قال تعالى : { فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ } [القلم : 44]. وقال تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [الصف : 5]. وقوله { وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [الأنعام : 110].
وجعل النار مصيره في الآخرة ، لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا إلى النار يوم القيامة ، كما قال تعالى : { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ [وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ اللهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ] (3) } [الصافات : 22 ، 23]. وقال : { وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا } [ الكهف : 53].
{ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) }
__________
(1) زيادة من أ.
(2) انظر : كلام الإمام الشافعي رحمه الله في الرسالة (ص 471) في إثبات حجية الإجماع ومناقشة الخصوم.
(3) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".

(2/413)


وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)

{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا (122) }
قد تقدم الكلام على هذه الآية الكريمة ، وهي قوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ [لِمَنْ يَشَاءُ] (1) } الآية [النساء : 48] ، وذكرنا ما يتعلق بها من الأحاديث في صدر هذه السورة.
وقد روى الترمذي حديث ثُوَيْر (2) بن أبي فَاخِتَة سعيد بن عَلاقَةَ ، عن أبيه ، عن علي رضي الله عنه أنه قال : ما في القرآن آية أحب إليَّ من هذه الآية : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ] (3)
__________
(1) زيادة من ر ، أ.
(2) في أ : "يزيد".
(3) زيادة من ر ، أ.

(2/413)


} الآية ، ثم قال : حسن غريب (1).
وقوله : { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا } أي : فقد سلك غير (2) الطريق الحق ، وضل عن الهدى وبعد عن الصواب ، وأهلك نفسه وخسرها (3) في الدنيا والآخرة ، وفاتته سعادة الدنيا والآخرة.
وقوله : { إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمود بن غَيْلان ، أنبأنا الفضل بن موسى ، أخبرنا الحسن (4) بن واقد ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب : { إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا } قال : مع كل صنم جنيَّة.
وحدثنا أبي ، حدثنا محمد بن سلمة الباهلي ، عن عبد العزيز بن محمد ، عن هشام - يعني ابن عروة - عن أبيه عن عائشة : { إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا } قالت : أوثانا.
وروى عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، (5) وعروة بن الزبير ، ومجاهد ، وأبي مالك ، والسدي ، ومقاتل بن حيان نحو ذلك.
وقال جُوَيْبر عن الضحاك في [قوله] (6) { إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا } قال المشركون : إن الملائكة بنات الله ، وإنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ، قال : اتخذوها أربابا وصوروهن صور الجواري ، فحكموا (7) وقلدوا ، وقالوا : هؤلاء يُشْبهن بنات الله الذي نعبده ، يعنون الملائكة.
وهذا التفسير شبيه بقوله تعالى : { أَفَرَأَيْتُمُ اللاتَ وَالْعُزَّى. [مَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخْرَى. أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى. تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى. إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ] (8) } [النجم : 19 - 23] ، وقال تعالى : { وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا [أشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ] (9) } [الزخرف : 19] ، وقال تعالى : { وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ. سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ] (10) } [الصافات : 158 ، 159].
وقال علي بن أبي طلحة والضحاك ، عن ابن عباس : { إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا } قال : يعني موتى.
وقال مبارك - يعني ابن فَضَالة - عن الحسن : { إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا } قال الحسن : الإناث كل شيء ميت ليس فيه روح ، إما خشبة يابسة وإما حجر يابس. ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير ، وهو غريب.
__________
(1) سنن الترمذي برقم (3037).
(2) في ر ، أ : "عن".
(3) في أ : "ضرها".
(4) في ر ، أ : "أنبأنا الحسين".
(5) في أ : "عن".
(6) زيادة من ر ، أ.
(7) في أ : "فحلوا".
(8) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآيات".
(9) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(10) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآيتين".

(2/414)


وقوله : { وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا } أي : هو الذي أمرهم بذلك وحسنه لهم وزينه ، وهم إنما يعبدون إبليس في نفس الأمر ، كما قال تعالى : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَلا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ [إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ] (1) } [يس : 60] وقال تعالى إخبارًا عن الملائكة أنهم يقولون يوم القيامة عن المشركين الذين ادعوا عبادتهم في الدنيا : { بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } [سبأ : 41].
وقوله : { لَعَنَهُ اللَّهُ } أي : طرده وأبعده من رحمته ، وأخرجه من جواره.
وقال : { لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا } أي : مُعَيَّنا مقدَّرًا معلومًا. قال مقاتل بن حيان : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون (2) إلى النار ، وواحد إلى الجنة.
{ وَلأضِلَّنَّهُمْ } أي : عن الحق { وَلأمَنِّيَنَّهُمْ } أي : أزين لهم ترك التوبة ، وأعدهم الأماني ، وآمرهم بالتسويف والتأخير ، وأغرهم من أنفسهم.
وقوله : { وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنْعَامِ } قال قتادة والسدي وغيرهما : يعني تشقيقها (3) وجعلها سمة وعلامة للبحيرة والسائبة.
{ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ } قال ابن عباس : يعني بذلك خصاء (4) الدواب. وكذا روى عن ابن عمر ، وأنس ، وسعيد بن المسيب ، وعكرمة ، وأبي عياض ، وأبي صالح ، وقتادة ، والثوري. وقد وَرَدَ في حديث النهي عن ذلك (5).
وقال الحسن ابن أبي الحسن البصري : يعني بذلك الوَشْم. وفي صحيح مسلم النهي عن الوشم في الوجه (6) وفي لفظٍ : "لعن (7) الله من فعل ذلك". وفي الصحيح عن ابن مسعود أنه قال : لعن الله الواشمات والمستوشِمات ، والنامصات والمُتَنَمِّصَاتِ ، والمُتَفَلِّجات للحُسْن المغيّرات خَلْقَ الله ، عز وجل ، ثم قال : ألا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله ، عز وجل ، يعني قوله : { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } [الحشر : 7] (8).
وقال ابن عباس في رواية عنه ، ومجاهد ، وعكرمة أيضا وإبراهيم النخَعي ، والحسن ، وقتادة ، والحكم ، والسدّي ، والضحاك ، وعطاء الخُراساني في قوله : { وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ } يعني : دين الله ، عز وجل. وهذا كقوله تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } [الروم : 30] على قول من جعل ذلك أمرا ، أي : لا تبدلوا فطرة الله ، ودعوا الناس على فطرتهم ، كما ثبت في الصحيحين (9) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كل مولود يولد على
__________
(1) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(2) في ر : "وتسعين".
(3) في ر : "يشققنها" ، وفي أ : "نشققها".
(4) في ر : "خصى".
(5) رواه ابن أبي شيبة في المصنف (12/225) والبيهقي في السنن الكبرى (10/24) من طريق نافع عن ابن عمر قال : "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خصاء الخيل والبهائم" وقال ابن عمر : فيه نماء الخلق.
(6) صحيح مسلم برقم (2117) عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم مر عليه حمار قد وسم في وجهه فقال : "لعن الله الذي وسمه".
(7) في د ، ر ، أ : "لعنة".
(8) صحيح البخاري برقم (5948).
(9) صحيح البخاري برقم (1385) ، وصحيح مسلم برقم (2658).

(2/415)


الفِطْرَة ، فأبواه يُهَوِّدانه ، ويُنَصِّرَانه ، ويُمَجِّسَانه ، كما تولد البهيمة بهيمة جَمْعاء ، هل يَحُسّون فيها من جدعاء ؟" وفي صحيح مسلم ، عن عياض بن حِمَار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قال الله عز وجل : إني خلقتُ عبادي حُنَفَاء ، فجاءتهم الشياطين فْاجْتَالَتْهُم عن دينهم ، وحَرّمت عليهم ما أحللت (1) لهم" (2).
وقوله تعالى : { وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا } أي : فقد خسر الدنيا والآخرة ، وتلك خسارة لا جبر لها ولا استدراك لفائتها.
وقوله : { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا } وهذا (3) إخبار عن الواقع ؛ لأن الشيطان يعد أولياءه ويمنيهم بأنهم هم الفائزون في الدنيا والآخرة ، وقد كذب وافترى في ذلك ؛ ولهذا قال : { وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا } كما قال تعالى مخبرًا عن إبليس يوم المعاد : { وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ [إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ] (4) إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [إبراهيم : 22].
وقوله : أي : المستحسنون له فيما وعدهم ومناهم { مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } أي : مصيرهم ومآلهم يوم حسابهم { وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا } أي : ليس لهم عنها مندوحة ولا مصرف ، ولا خلاص ولا مناص.
ثم ذكر حال السعداء الأتقياء وما لهم في مآلهم من الكرامة التامة ، فقال : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي : صَدّقت قلوبهم وعملت جوارحهم بما أمروا به من الخيرات ، وتركوا ما نهوا عنه من المنكرات { سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } أي : يصرفونها حيث شاءوا وأين شاءوا { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } أي : بلا زوال ولا انتقال { وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا } أي : هذا وعد من الله ووعد الله معلوم حقيقة أنه واقع لا محالة ، ولهذا أكده بالمصدر الدال على تحقيق الخبر ، وهو قوله : { حقا } ثُمَّ قَال { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا } أي : لا أحد أصدق منه قولا وخبرًا ، لا إله إلا هو ، ولا رب سواه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته : "إن أصدق الحديث كلام الله ، وخير الهَدْي هَدْي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور مُحْدَثاتها ، وكل مُحْدَثة بدعة وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار".
__________
(1) في ر : "ما حللت".
(2) صحيح مسلم برقم (2865).
(3) في أ : "هذا".
(4) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ" إلى قوله".

(2/416)


لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)

{ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126) }
قال قتادة : ذُكرَ لنا أنّ المسلمين وأهل الكتاب افتخروا ، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، فنحن أولى بالله منكم. وقال المسلمون : نحن أولى بالله منكم نبينا خاتم النبيين ، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله فأنزل الله : { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا] (1) } الآية. فأفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان.
وكذا روي عن السّدي ، ومسروق ، والضحاك وأبي صالح ، وغيرهم وكذا رَوَى العَوْفيّ عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : تخاصَمَ أهل الأديان فقال أهل التوراة : كتابنا خير الكتب ، ونبينا خير الأنبياء. وقال أهل الإنجيل مثل ذلك. وقال أهل الإسلام : لا دين إلا الإسلام. وكتابنا نَسَخَ كلّ كتاب ، ونبينا خاتم النبيين ، وأُمرْتُم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ونعمل بكتابنا. فقضى الله بينهم فقال : { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } وخَيَّر بين الأديان فقال : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا] (2) } إلى قوله : { وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا }
وقال مجاهد : قالت العرب : لن نبْعث ولن نُعذَّب. وقالت اليهود والنصارى : { لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى } [البقرة : 111] وقالوا { لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً } [البقرة : 80].
والمعنى في هذه الآية : أن الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني ، وليس كُلّ من ادعى شيئًا حصل له بمجرد دعواه ، ولا كل من قال : "إنه هو المُحق" سمع قوله بمجرد ذلك ، حتى يكون له من الله برهان ؛ ولهذا قال تعالى : { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ } أي : ليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني ، بل العبرة بطاعة الله ، واتباع ما شرعه على ألسنة رسله الكرام ؛ ولهذا قال بعده : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } كقوله { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [الزلزلة : 7 ، 8].
وقد روي أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على كثير من الصحابة. قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن نُمَيْر ، حدثنا إسماعيل ، عن أبي بكر بن أبي زهير قال : أخْبرْتُ أن أبا بكر قال : يا رسول الله ، كيف الصلاح بعد هذه الآية : { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } فَكُل سوء عملناه جزينا به ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "غَفَر اللَّهُ لكَ يا أبا بكر ، ألستَ تَمْرضُ ؟ ألستَ تَنْصَب ؟ ألست تَحْزَن ؟ ألست تُصيبك اللأواء (3) ؟" قال : بلى. قال : "فهو ما تُجْزَوْنَ به".
__________
(1) زيادة من ر ، أ.
(2) زيادة من ر.
(3) في أ : "ألست يصيبك أذى".

(2/417)


ورواه سعيد بن منصور ، عن خلف بن خليفة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، به. ورواه ابن حبان في صحيحه ، عن أبي يَعلى ، عن أبي خَيْثَمة ، عن يحيى بن سعيد ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، به. ورواه الحاكم من طريق سفيان الثوري ، عن إسماعيل به (1).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن زياد الجصاص ، عن علي بن زيد ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : سمعت أبا بكر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من يعمل سُوءًا يُجْزَ بِهِ في الدنيا" (2).
وقال أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا أحمد بن هُشَيْم بن جُهَيْمَة ، حدثنا يحيى بن أبي طالب ، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، حدثنا زياد الجصاص ، عن علي بن زيد ، عن مجاهد قال : قال عبد الله بن عمر : انظروا المكان الذي به عبد الله بن الزبير مصلوبًا ولا تمرُّنَّ عليه. قال : فسها الغلام ، فإذا ابن عمر ينظر إلى ابن الزبير فقال : يغفر الله لك ثلاثًا ، أما والله ما علمتك إلا صوّامًا قوّامًا وصّالا (3) للرحم ، أما والله إني لأرجو مع متساوى ما أصبتَ ألا يعذبك الله بعدها. قال : ثم التفت إلي فقال : سمعت أبا بكر الصديق يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من يعمل سوءًا في الدنيا يجز به".
ورواه أبو بكر البزار في مسنده ، عن الفضل بن سهل ، عن عبد الوهاب بن عطاء ، به (4) مختصرا. وقد قال في مسند ابن الزبير : حدثنا إبراهيم بن المستمر العُروفي (5) حدثنا عبد الرحمن بن سليم بن حَيّان ، حدثني أبي ، عن جدي حيان بن بسطام ، قال : كنت مع ابن عمر ، فمر بعبد الله بن الزبير وهو مصلوب ، فقال : رحمك الله أبا خُبيب ، سمعت أباك - يعني الزبير - يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من يعمل سوءًا يُجْزَ به في الدنيا والأخرى" ثم قال : لا نعلمه يروي عن الزبير إلا من هذا الوجه. (6)
وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا أحمد بن كامل ، حدثنا محمد بن سعد العوفي ، حدثنا روح بن عبادة ، حدثنا موسى بن عبيدة ، حدثني مولى بن سِبَاع قال : سمعت ابن عمر يحدث ، عن أبي بكر الصديق قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا أبا بكر ، هل أقرئك آية نزلت علي ؟" قال : قلت : بلى يا رسول الله. فأقرأنيها فلا أعلم إلا أني وجدت انقصَامًا في ظهري حتى تمطأت (7) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مالك يا أبا بكر ؟" قلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، وأينا لم يعمل السوء ، وإنا لمجْزيُّون بكل سوء عملناه ؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أما أنت وأصحابك يا أبا بكر المؤمنون فَتُجْزَوْنَ بذلك في
__________
(1) المسند (1/11) وسنن سعيد بن منصور برقم (696) وصحيح ابن حبان برقم (1734) "موارد" والمستدرك (3/74).
(2) المسند (1/6).
(3) في ر ، أ : "وصولا".
(4) مسند البزار برقم (21) ، وقال الدارقطني في العلل (4/223) : "رواه زياد الجصاص واختلف عنه ، فرواه عبد الوهاب بن عطاء عن زياد عن علي بن زيد عن مجاهد عن ابن عمر عن أبي بكر ، وخالفه أبو عاصم العباداني فرواه عن زياد الجصاص عن سالم عن ابن عمر عن عمر ، وليس فيه شيء يثبت".
(5) في ر ، أ : "العوفي".
(6) مسند البزار برقم (962) ، وقال الهيثمي في المجمع (7/12) "فيه عبد الرحمن بن سليم بن حيان ولم أعرفه ، وبقية رجاله ثقات" ، والظاهر أنه عبد الرحيم ، كما في العلل للدارقطني (4/223) حين سئل عن طريق سليم بن حيان عن أبيه عن ابن عمر فقال : يقوله عبد الرحمن بن سليم بن حيان عن أبيه عن ابن عمر ، وقال مرة : عن أبيه عن نافع عن ابن عمر ، وعبد الرحيم ضعيف ، وزياد ضعيف".
(7) في ر ، أ : "تمطأت لها".

(2/418)


الدنيا حتى تلقوا الله ، وليس لكم ذنوب ، وأما الآخرون فيجمع لهم ذلك حتى يجزوا به يوم القيامة".
وهكذا رواه الترمذي عن يحيى بن موسى ، وعبد بن حميد ، عن روح بن عبادة ، به. ثم قال : وموسى بن عبيدة يضعف ، ومولى بن سباع مجهول (1).
[وقال ابن جرير : حدثنا الغلام ، حدثنا الحسين ، حدثنا الحجاج ، عن ابن جريج ، أخبرني عطاء بن أبي رباح قال : لمَّا نزلت قال أبو بكر : يا رسول الله ، جاءت قاصمة الظهر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنما هي المصائب في الدنيا"] (2).
طريق أخرى عن الصديق : قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إسحاق العسكري ، حدثنا محمد بن عامر السعدي ، حدثنا يحيى بن يحيى ، حدثنا فضيل بن عياض ، عن سليمان بن مهران ، عن مسلم بن صُبَيح ، عن مسروق قال : قال أبو بكر [الصديق] (3) يا رسول الله ، ما أشد هذه الآية : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "المصائب والأمراض والأحزان في الدنيا جزاء" (4).
طريق أخرى : قال ابن جرير : حدثني عبد الله بن أبي زياد وأحمد بن منصور قالا حدثنا زيد بن الحُبَاب ، حدثنا عبد الملك بن الحسن الحارثي ، حدثنا محمد بن زيد بن قُنْفُذ (5) عن عائشة ، عن أبي بكر قال : لما نزلت : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } قال أبو بكر : يا رسول الله ، كل ما نعمل نؤاخذ به ؟ فقال : "يا أبا بكر ، أليس يصيبك كذا وكذا ؟ فهو كفارة" (6).
حديث آخر : قال سعيد بن منصور : أنبأنا عبد الله بن وهب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، أن بكر بن سوادة حدثه ، أن يزيد بن أبي يزيد حدثه ، عن عبيد بن عمير ، عن عائشة : أن رجلا تلا هذه الآية : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } فقال : إنا لنُجْزَى بكل عَمَل (7) ؟ هلكنا إذًا. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "نعم ، يجزى به المؤمن في الدنيا ، في نفسه ، في جسده ، فيما يؤذيه" (8).
طريق (9) أخرى : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سلمة بن بشير ، حدثنا هُشَيْم ، عن أبي عامر ، عن ابن أبي مُلَيْكة ، عن عائشة قالت : قلت : يا رسول الله ، إني لأعلم أشد آية في القرآن. فقال : "ما هي يا عائشة ؟" قلت : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } فقال : "هو ما يصيب العبد المؤمن حتى النَّكْبَة يَنْكُبها".
__________
(1) سنن الترمذي برقم (3039).
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من أ.
(4) ورواه أبو نعيم في الحلية (8/119) من هذا الطريق به ، وفيه محمد السعدي كان يكذب ويضع.
(5) في أ : "نمير".
(6) تفسير الطبري (9/240).
(7) في أ : "عمل عملنا".
(8) سنن سعيد بن منصور برقم (699) ورواه أحمد في المسند (6/65) من طريق عبد الله بن وهب به.
(9) في أ : "حديث".

(2/419)


رواه ابن جرير من حديث هشيم ، به. ورواه أبو داود ، من حديث أبي عامر صالح بن رستم الخزاز (1) به (2).
طريق أخرى : قال أبو داود الطيالسي : حدثنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أمية أنها سألت عائشة عن هذه الآية : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } فقالت : ما سألني عن هذه الآية أحد منذ سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "يا عائشة ، هذه مبايعة الله للعبد ، مما يصيبه من الحمى والنَّكْبَة والشوكة ، حتى البضاعة فيضعها في كُمِّه فيفزع لها ، فيجدها في جيبه ، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التِّبْرُ الأحمر من الكِير" (3).
طريق أخرى : قال ابن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن أحمد بن (4) إبراهيم ، حدثنا أبو القاسم ، حدثنا سُرَيج (5) بن يونس ، حدثنا أبو معاوية ، عن محمد بن إسماعيل ، عن محمد بن زيد بن المهاجر ، عن عائشة قالت : سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } قال : "إن المؤمن يؤجر في كل شيء حتى في الفَيْظ (6) عند الموت".
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسين ، عن زائدة ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا كثرت ذنوب العبد ، ولم يكن له ما يكفرها ، ابتلاه الله بالحَزَن ليُكَفِّرها عنه" (7).
حديث آخر : قال سعيد بن منصور ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمر بن عبد الرحمن بن مُحَيْصِن ، سمع محمد بن قيس بن مَخْرَمَة ، يخبر أن أبا هريرة ، رضي الله عنه ، قال : لما نزلت : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } شَقّ ذلك على المسلمين ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : "سَدِّدوا وقاربوا ، فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى الشوكة يُشَاكها ، والنَّكْبَة يَنْكُبُهَا".
وهكذا رواه أحمد ، عن سفيان بن عيينة ، ومسلم والترمذي والنسائي ، من حديث سفيان بن عيينة ، به (8) ورواه ابن مَردُويه من حديث روح ومعتمر كلاهما ، عن إبراهيم بن يزيد (9) عن عبد الله بن إبراهيم ، سمعت أبا هريرة يقول : لما نزلت هذه الآية : { لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } بكينا وحزنا وقلنا : يا رسول الله ، ما أبقت هذه الآية من شيء. قال : "أما والذي نفسي بيده إنّها لكما نزلت ، ولكن أبشروا وقاربوا وسَدِّدوا ؛ فإنه لا يصيب أحدًا منكم
__________
(1) في ر ، أ : "الجزار".
(2) تفسير الطبري (9/246) وسنن أبي داود برقم (3093).
(3) مسند الطيالسي برقم (1584) ورواه أحمد في المسند (6/218) من طريق حماد بن سلمة به.
تنبيه : وقع عند الطيالسي "معاتبة" بدل : "مبايعة" وعند أحمد "متابعة".
(4) في ر : "أبو".
(5) في ر ، أ : "شريح".
(6) في ر : "الغيض" ، وفي أ : "الغيط". الفيظ : خروج الروح.
(7) المسند (6/157).
(8) سنن سعيد بن منصور برقم (694) والمسند (2/248) وصحيح مسلم برقم (2574) ، وسنن الترمذي برقم (5029) ، وسنن النسائي الكبرى برقم (11122).
(9) في أ : "زيد".

(2/420)


في الدنيا إلا كفَّر الله بها خطيئته ، حتى الشوكة يُشَاكها أحدكم في قدمه" (1).
وقال عطاء بن يسار ، عن أبي سعيد وأبي هريرة : إنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ما يصيب المؤمن من نَصب ولا وَصَب ولا سَقَم ولا حَزَن ، حتى الهم يُهَمّه ، إلا كُفّر به من سيئاته" أخرجاه (2).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى ، عن سعد بن إسحاق ، حدثتني زينب بنت كعب بنُ عُجْرَة ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا ؟ ما لنا بها ؟ قال : "كفارات". قال أبي : وإن قَلَّتْ ؟ قال : "وإن شوكة فما فوقها" قال : فدعا أبي على نفسه أنه لا يفارقه الْوَعْك حتى يموت ، في ألا يشغله عن حج ولا عمرة ، ولا جهاد في سبيل الله ، ولا صلاة مكتوبة في جماعة ، فما مسه إنسان إلا وجد حره ، حتى مات ، رضي الله عنه. تفرد به أحمد (3).
حديث آخر : روى ابن مردويه من طريق حسين بن واقد ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال : قيل : يا رسول الله : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } ؟ قال : "نعم ، ومن يعمل حسنة يُجزَ بها عشرا. فهلك من غلب واحدته (4) عشرًا" (5).
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } قال : الكافر ، ثم قرأ : { وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ } [سبأ : 17].
وهكذا رُوي عن ابن عباس ، وسعيد بن جبير : أنهما فسرا السوء هاهنا بالشرك أيضًا.
وقوله : { وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : إلا أن يتوب فيتوب الله عليه. رواه ابن أبي حاتم.
والصحيح أن ذلك عامٌّ في جميع الأعمال ، لما تقدم من الأحاديث ، وهذا اختيار ابن جرير ، والله أعلم.
وقوله : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ [فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا] (6) } لما ذكر الجزاء على السيئات ، وأنه لا بد أن يأخذ مستحقها من العبد إما في الدنيا - وهو الأجود له - وإما في الآخرة - والعياذ بالله من ذلك ، ونسأله العافية في الدنيا والآخرة ، والصفح والعفو والمسامحة - شرع في بيان إحسانه وكرمه ورحمته في قبول الأعمال الصالحة من عباده ذُكْرَانهم وإناثهم ، بشرط الإيمان ، وأنه سيدخلهم الجنة ولا يظلمهم من حسناتهم ولا مقدار النقير ، وهو : النقرة التي في ظهر نواة التمرة ، وقد تقدم الكلام على الفتيل ، وهو الخيط الذي في شق النواة ، وهذا النقير وهما في نواة التمرة ، وكذا القطمير وهو اللفافة التي على نواة التمرة ، الثلاثة في القرآن.
__________
(1) وفي إسناده إبراهيم بن يزيد الخوزمي ضعيف.
(2) صحيح البخاري برقم (5641 ، 5642). وصحيح مسلم برقم (2573).
(3) المسند (3/23) ، ورواه أبو يعلى في مسنده (2/281) وقال الهيثمي في المجمع (2/301) : "رجاله ثقات".
(4) في ر : "واحد" وفي أ : "واحدة".
(5) وإسناده ضعيف جدا كما سبق في المقدمة.
(6) زيادة من و ، أ ، وفي هـ "الآية".

(2/421)


ثم قال تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } أخلص العمل لربه ، عز وجل ، فعمل إيمانًا واحتساباً { وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي : اتبع في عمله ما شرعه الله له ، وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق ، وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما ، أي : يكون خالصًا صوابًا ، والخالص أن يكون لله ، والصواب أن يكون متبعًا للشريعة فيصح ظاهره بالمتابعة ، وباطنه بالإخلاص ، فمن فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد. فمن فقد الإخلاص كان منافقًا ، وهم الذين يراءون الناس ، ومن فقد المتابعة كان ضالا جاهلا. ومتى جمعهما فهو عمل المؤمنين : { الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ [فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ] (1) } [الأحقاف : 16] ؛ ولهذا قال تعالى : { وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } وهم محمد وأتباعه إلى يوم القيامة ، كما قال تعالى : { إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ] (2) } [آل عمران : 68] وقال تعالى : { [قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ] (3) } [الأنعام : 161] و { ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [النحل : 123] والحنيف : هو المائل عن الشرك قصدا ، أي تاركًا له عن بصيرة ، ومقبل على الحق بكليته ، لا يصده عنه صاد ، ولا يرده عنه راد.
وقوله : { وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا } وهذا من باب الترغيب في اتباعه ؛ لأنه إمام يقتدى به ، حيث وصل إلى غاية ما يتقرب به العباد له ، فإنه انتهى إلى درجة الخُلَّة التي هي أرفع مقامات المحبة ، وما ذاك إلا لكثرة طاعته لربه ، كما وصفه به في قوله : { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } [النجم : 37] قال كثيرون (4) من السلف : أي قام بجميع ما أمر به ووفَّى (5) كل مقام من مقامات العبادة ، فكان لا يشغله أمر جليل عن حقير ، ولا كبير عن صغير. وقال تعالى : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا] (6) } الآية [البقرة : 124]. وقال تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ] (7) } [النحل : 120 - 122].
وقال البخاري : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا شعبة ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن عمرو بن ميمون قال : إن معاذًا لما قدم اليمن صلى الصبح بهم : فقرأ : { وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا } فقال رجل من القوم : لقد قَرّت عينُ أم إبراهيم.
وقد ذكر ابن جرير في تفسيره ، عن بعضهم أنه إنما سماه الله خليلا من أجل أنه أصاب أهل ناحيته جَدْب ، فارتحل إلى خليل له من أهل الموصل - وقال بعضهم : من أهل مصر - ليمتار طعامًا لأهله من قِبَله ، فلم يصب عنده حاجته. فلما قَرُب من أهله مَرَّ بمفازة ذات رمل ، فقال : لو ملأت غَرَائري من هذا الرمل ، لئلا أغُمّ أهلي برجوعي إليهم بغير ميرة ، وليظنوا أني أتيتهم بما يحبون. ففعل ذلك ، فتحول ما في غرائره من الرمل دقيقًا ، فلما صار إلى منزله نام وقام أهله ففتحوا الغرائر ،
__________
(1) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(2) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(3) زيادة من أ.
(4) في د : "كثير".
(5) في أ : "به وفى".
(6) زيادة من ر ، أ.
(7) زيادة من ر.

(2/422)


فوجدوا دقيقًا فعجنوا وخبزوا منه فاستيقظ ، فسألهم عن الدقيق الذي منه خبزوا ، فقالوا : من الدقيق الذي جئت به من عند خليلك فقال : نعم ، هو من خليلي الله. فسماه الله بذلك خليلا.
وفي صحة هذا ووقوعه نظر ، وغايته أن يكون خبرا إسرائيليا لا يُصدَّق ولا يُكذَّب ، وإنما سُمّي خليل الله لشدة محبة ربه ، عز وجل ، له ، لما قام له (1) من الطاعة التي يحبها ويرضاها ؛ ولهذا ثبت في الصحيحين ، من حديث (2) أبي سعيد الخدري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في آخر خطبة خطبها قال : "أما بعد ، أيها الناس ، فلو كنت متخذًا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر بن أبي قحافة خليلا ولكن صاحبكم خليل الله" (3).
وجاء من طريق جُنْدُب بن عبد الله البَجَلي ، وعبد الله بن عَمرو بن العاص ، وعبد الله بن مسعود ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا" (4).
وقال أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا عبد الرحيم بن محمد بن مسلم ، حدثنا إسماعيل بن أحمد بن أُسَيْد ، حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجَوْزجاني بمكة ، حدثنا عُبَيد الله (5) الحَنَفي ، حدثنا زَمْعة بن صالح ، عن سلمة بن وَهْرَام ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : جلس ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه ، فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون ، فسمع حديثهم ، وإذا بعضهم يقول : عجبًا إن الله اتخذ من خلقه خليلا فإبراهيم خليله! وقال آخر : ماذا بأعجب من أن الله كلم موسى تكليما! وقال آخر : فعيسى روح الله وكلمته! وقال آخر : آدم اصطفاه الله! فخرج عليهم فسلم وقال : "قد سمعت كلامكم وتعجبكم (6) أن إبراهيم خليل الله ، وهو كذلك ، وموسى كليمه ، وعيسى روحه وكلمته ، وآدم اصطفاه الله ، وهو كذلك ألا وإني حبيب الله ولا فخر ، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر ، وأنا أول شافع ، وأول مشَفع ولا فخر ، وأنا أول من يحرك حِلَق الجنة ، فيفتح الله فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر ، وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر".
وهذا حديث غريب من هذا الوجه ، ولبعضه شواهد في الصحاح (7) وغيرها.
وقال قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أنه قال : أتعجبون من أن تكون الخُلَّة لإبراهيم ، والكلام لموسى ، والرؤية لمحمد ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
رواه الحاكم في مستدركه وقال : صحيح على شرط البخاري ، ولم يخرجاه. وكذا روى عن أنس بن مالك ، وغير واحد من الصحابة والتابعين ، والأئمة من السلف والخلف.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يحيى بن عبدك القزويني ، حدثنا محمد - يعني ابن سعيد بن سابق -
__________
(1) في أ : "لديه".
(2) في أ : "رواية".
(3) صحيح البخاري برقم (3654) وصحيح مسلم برقم (2382) ولفظه : "صاحبكم خليل الله" هي من حديث عبد الله بن مسعود ، رواه مسلم برقم (2383).
(4) أما حديث جندب بن عبد الله فرواه مسلم في صحيحه برقم (532) ، وأما حديث عبد الله بن عمرو فرواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (9616) ، وأما حديث عبد الله بن مسعود ، فرواه مسلم في صحيحه برقم (2383).
(5) في د ، ر : "عبد الله".
(6) في أ : "عجبكم".
(7) ورواه الترمذي في السنن برقم (3616) وقال : "هذا حديث غريب".

(2/423)


وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)

حدثنا عمرو - يعني ابن أبي قيس - عن عاصم ، عن أبي راشد ، عن عُبَيْد بن عُمَير قال : كان إبراهيم عليه السلام يضيف الناس ، فخرج يومًا يلتمس إنسانًا يضيفه ، فلم يجد أحدًا يضيفه ، فرجع إلى داره فوجد فيها رجلا قائمًا ، فقال : يا عبد الله ، ما أدخلك داري بغير إذني ؟ قال : دخلتها بإذن ربها. قال : ومن أنت ؟ قال : أنا ملك الموت ، أرسلني ربي إلى عبد من عباده أبشره أن الله قد اتخذه خليلا. قال : من هو ؟ فوالله إن أخبرتني به ثم كان بأقصى البلاد لآتينّه (1) ثم (2) لا أبرح له جارًا حتى يفرق بيننا الموت. قال : ذلك العبد أنت. قال : أنا ؟ قال : نعم. قال : فيم اتخذني الله خليلا ؟ قال : إنك تعطي الناس ولا تسألهم (3).
وحدثنا أبي ، حدثنا محمود بن خالد السلمي ، حدثنا الوليد ، عن إسحاق بن يسار قال : لما اتخذ الله إبراهيم خليلا ألقى في قلبه الوَجَل ، حتى إن كان خفقانُ قلبه ليسمع من بعيد (4) كما يسمع خفقان الطير في الهواء. وهكذا جاء في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه كان يسمع لصدره أَزِيزٌ كأزيز المرْجل من البكاء.
وقوله : { وَللهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ } أي : الجميع ملكه وعبيده وخلقه ، وهو المتصرف في جميع ذلك ، لا راد لما قضى ، ولا معقب لما حكم ، ولا يسأل عما يفعل ، لعظمته وقدرته وعدله وحكمته ولطفه ورحمته.
وقوله : { وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا } أي : علمه نافذ في جميع ذلك ، لا تخفى (5) عليه خافية من عباده ، ولا يعْزُب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، ولا تخفى عليه ذرة لما (6) تراءى للناظرين وما توارى.
{ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127) }
قال البخاري : حدثنا عبيد بن إسماعيل ، حدثنا أبو أسامة قال : حدثنا هشام بن عروة ، أخبرني أبي (7) عن عائشة : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ } إلى قوله : { وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ } قالت : هو الرجل تكون عنده اليتيمة ، هو وليها ووارثها قد شَرِكته في ماله ، حتى في العَذْق ، فيرغب أن ينكحها ، ويكره أن يزوِّجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها ، فنزلت هذه الآية.
وكذلك رواه مسلم ، عن أبي كُرَيب ، وعن أبي بكر بن أبي شيبة ، كلاهما عن أبي أسامة (8).
وقال ابن أبي حاتم : قرأت على محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، أخبرني عروة بن الزبير ، قالت عائشة : ثم إن الناس استفْتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) في أ : "لأتيته".
(2) في أ : "ثم قال لا ".
(3) وإسناده مرسل.
(4) في ر : "بعد".
(5) في ر : "يخفي".
(6) في ر : "الذرة أما".
(7) في ر : "عن أبيه".
(8) صحيح البخاري برقم (5131) وصحيح مسلم برقم (3018).

(2/424)


بعد هذه الآية فيهن ، فأنزل الله : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ } الآية ، قالت : والذي ذكر الله أنه يتلى عليهم في الكتاب الآية الأولى التي قال الله [تعالى] (1) { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ } [النساء : 3].
وبهذا الإسناد ، عن عائشة قالت : وقول الله عز وجل : { وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ } رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال ، فنهوا أن ينكحوا ما رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط ، من أجل رغبتهم عنهن.
وأصله ثابت في الصحيحين ، من طريق يونس بن يزيد الأيْلي ، به (2).
والمقصود أن الرجل إذا كان في حجره يتيمة يحل له تزويجها ، فتارة يرغب في أن يتزوجها ، فأمره الله عز وجل أن يمهرها أسوة أمثالها من النساء ، فإن لم يفعل فليعدل إلى غيرها من النساء ، فقد وسع الله عز وجل. وهذا المعنى في الآية الأولى التي في أول السورة. وتارة لا يكون للرجل فيها رغبة لِدَمَامَتِهَا عنده ، أو في نفس الأمر ، فنهاه الله عز وجل أن يُعضِلها عن الأزواج خشية أن يَشْركوه في ماله الذي بينه وبينها ، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { فِي يَتَامَى النِّسَاء [اللاتي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ] (3) } الآية ، فكان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة ، فيلقي عليها ثوبه ، فإذا فعل ذلك [بها] (4) لم يقدر أحد أن يتَزَوّجها أبدًا ، فإن كانت جميلة وهويها تَزَوَّجَها وأكل مالها ، وإن كانت دميمة منعها الرجال أبدا حتى تموت ، فإذا ماتت ورثها. فَحَرَّم الله ذلك ونهى عنه.
وقال في قوله : { وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ } كانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات ، وذلك قوله : { لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ } فنهى الله عن ذلك ، وبيَّن لكل ذي سهم سهمه ، فقال : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ } [النساء : 11] صغيرًا أو كبيرًا.
وكذا قال سعيد بن جبير وغيره ، قال سعيد بن جبير في قوله : { وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ } كما إذا كانت ذات جمال ومال نكحتها واستأثرت بها ، كذلك إذا لم تكن ذات جمال ولا مال فأنكحها واستأثر بها.
وقوله : { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا } تهييجًا (5) على فعل الخيرات وامتثال الأمر (6) وأن الله عز وجل عالم بجميع ذلك ، وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمه.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) صحيح البخاري برقم (5064) وصحيح مسلم برقم (3018).
(3) زيادة من ر ، أ.
(4) زيادة من أ.
(5) في ر : "تهييج".
(6) في أ : "الأوامر".

(2/425)


وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)

{ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) }
يقول تعالى مخبرا ومشرعا عن حال الزوجين : تارة في حال نفور الرجل عن المرأة ، وتارة في حال اتفاقه معها ، وتارة في حال (1) فراقه لها.
فالحالة الأولى : ما إذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها ، أو يعرض عنها ، فلها أن تسقط حقها أو بعضه ، من نفقة أو كسوة ، أو مبيت ، أو غير ذلك من الحقوق عليه ، وله أن يقبل ذلك منها فلا جناح (2) عليها في بذلها ذلك له ، ولا عليه في قبوله منها ؛ ولهذا قال تعالى : { فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا } ثُمَّ قَالَ { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } أي : من الفراق. وقوله : { وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ } أي الصلح عند المُشَاحَّة خير من الفراق ؛ ولهذا لما كبرت سودة بنت زَمْعَة عزم (3) رسول الله صلى الله عليه وسلم على فراقها ، فصالحته على أن يمسكها ، وتترك يومها لعائشة ، فَقَبِل ذلك منها وأبقاها على ذلك.
ذكر الرواية بذلك :
قال أبو داود الطيالسي : حدثنا سليمان بن معاذ ، عن سِمَاك بن حرب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : خَشيت سَوْدَة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، لا تطلقني واجعل يومي لعائشة. ففعل ، ونزلت (4) هذه الآية : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا } الآية ، قال ابن عباس : فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز.
ورواه الترمذي ، عن محمد بن المثنى ، عن أبي داود الطيالسي ، به. وقال : حسن غريب (5)
وقال الشافعي أخبرنا مسلم ، عن ابن جُرَيْج ، عن عطاء ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي عن تسع نسوة ، وكان يقسم لثمان (6).
وفي الصحيحين ، من حديث هشام بن عُرْوة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : لما كَبرْت سودةُ بنتُ زَمعة وهبَتْ يومها لعائشة ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لها بيوم سودة (7).
وفي صحيح البخاري ، من حديث الزهري ، عن عروة ، عن عائشة ، نحوه.
وقال سعيد بن منصور : أنبأنا عبد الرحمن بن أبي الزِّناد ، عن هشام ، عن أبيه عروة (8) قال : أنزل (9) الله تعالى في سودة (10) وأشباهها : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا } وذلك أن
__________
(1) في أ : "عند".
(2) في ر ، أ : "فلا حرج".
(3) في أ : "وعزم".
(4) في أ : "فنزلت".
(5) سنن الترمذي برقم (3040).
(6) الأم (5/98).
(7) صحيح البخاري برقم (5212) وصحيح مسلم برقم (1463).
(8) في ر ، أ : "عن هشام بن عروة عن أبيه".
(9) في ر ، أ : "لما أنزل".
(10) في أ : "أنزلت في سودة".

(2/426)


سودة كانت امرأة قد أَسَنَّتْ ، ففزعت أن يفارقها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وضنَّت بمكانها منه ، وعرفت من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة ومنزلتها منه ، فوهبت يومها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة ، فقبل ذلك النبي صلى الله عليه وسلم (1).
قال البيهقي : وقد رواه أحمد بن يونس : عن ابن أبي الزِّناد (2) موصولا. وهذه الطريق رواها الحاكم في مستدركه فقال :
حدثنا أبو بكر بن إسحاق الفقيه ، أخبرنا الحسن بن علي بن زياد ، حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزِّناد ، عن هشام بن (3) عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : أنها قالت له : يا ابن أختي ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضنا على بعض في مكثه عندنا ، وكان قَلَّ يوم إلا وهو يطوف علينا ، فيدنو من كل امرأة من غير مَسِيس ، حتى يبلغ إلى من هو يومها فيبيت عندها ، ولقد قالت سودة بنت زَمْعة - حين أسنت وفَرِقت أن يفارقها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم - : يا رسول الله ، يومي هذا لعائشة. فَقَبِل ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة : ففي ذلك أنزل الله : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا }
وكذا رواه أبو داود ، عن أحمد بن يونس ، به. ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه (4).
وقد رواه [الحافظ أبو بكر] (5) بن مَرْدُويه من طريق أبي بلال الأشعري ، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد ، به نحوه. ومن رواية عبد العزيز بن (6) محمد الدَّرَاوَرْدي ، عن هشام بن عروة ، بنحوه مختصرا ، والله أعلم.
وقال أبو العباس محمد بن عبد الرحمن الدَّغُولي في أول معجمه : حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا هشام الدَّسْتُوائي ، حدثنا القاسم بن أبي بَزّة قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى سودة بنت زَمْعة بطلاقها ، فلما أن أتاها جلست له على طريق عائشة ، فلما رأته قالت له : أنشدك بالذي أنزل عليك كلامه (7) واصطفاك على خلقه لمَّا راجعتني ، فإني قد كبرت ولا حاجة لي في الرجال ، لكن أريد أن أبعث مع نسائك يوم القيامة. فراجعها فقالت : إني (8) جعلت يومي وليلتي لِحبّة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا غريب مرسل (9).
وقد قال البخاري : حدثنا محمد بن مقاتل ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا } قالت (10) الرجل تكون عنده المرأة ، ليس بمستكثر منها ، يريد أن يفارقها ، فتقول : أجعلك من شأني في حل. فنزلت هذه الآية.
__________
(1) سنن سعيد بن منصور برقم (702) وسنن البيهقي الكبرى (7/297).
(2) في هـ : "عن الحسن بن أبي الزناد" وهو تحريف.
(3) في ر : "عن".
(4) المستدرك (2/186) ووافقه الذهبي ، وسنن أبي داود برقم (2135).
(5) زيادة من : ر ، أ.
(6) في ر : "عن".
(7) في ر ، أ : "كتابه".
(8) في أ : "فإن".
(9) ورواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (8/54) من طريق مسلم بن إبراهيم به.
(10) في ر : "قال".

(2/427)


وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا أبي ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا (1) بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } قالت : هذا في المرأة تكون عند الرجل ، فلعله ألا يكون يستكثر منها ، ولا يكون لها ولد ، ولها صحبة فتقول : لا تطلقني وأنت في حل من شأني.
حدثني المثنى ، حدثنا حجاج بن مِنْهال ، حدثنا حمَّاد بن سلمة ، عن هشام ، عن عروة ، عن عائشة في قوله : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا } قالت : هو الرجل يكون له المرأتان : إحداهما قد كبرت ، أو هي دَمِيمة (2) وهو لا يستكثر منها فتقول : لا تطلقني ، وأنت في حل من شأني.
وهذا الحديث ثابت في الصحيحين ، من غير وجه ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عائشة (3) بنحو ما تقدم ، ولله الحمد والمنة.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حُمَيد وابنُ وكيع قالا حدثنا جرير ، عن أشعث ، عن ابن سيرين قال : جاء رجل إلى عمر ، رضي الله عنه ، فسأله عن آية ، فكَرِه ذلك وضربه بالدرّة ، فسأله آخر عن هذه الآية : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا } فقال : عن مثل هذا فسلوا. ثم قال : هذه المرأة تكون عند الرجل ، قد خلا من سنها ، فيتزوج المرأة الشابة يلتمس ولدها ، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز. وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسن الهِسِنْجاني ، حدثنا مُسَدَّد ، حدثنا أبو الأحوص ، عن سِمَاك بن حرب ، عن خالد بن عَرْعَرَة قال : جاء رجل إلى علي بن أبي طالب [رضي الله عنه] (4) فسأله عن قول الله عز وجل : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } قال علي : يكون الرجل عنده المرأة ، فتنبو عيناه عنها من دمامتها ، أو كبرها ، أو سوء خلقها ، أو قذذها ، فتكره فراقه ، فإن وضعت له من مهرها شيئا حل له ، وإن جعلت له من أيامها فلا حرج.
وكذا رواه أبو داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن حماد بن سلمة وأبي الأحوص. ورواه ابن جرير من طريق إسرائيل أربعتهم عن سِمَاك ، به (5) وكذا فسرها ابن عباس ، وعُبَيدة السَّلْمَاني ، ومجاهد بن جَبْر ، والشُّعَبِي ، وسعيد بن جبَيْر ، وعطاء ، وعطية العوْفي ومكحول ، والحكم بن عتبة ، والحسن ، وقتادة ، وغير واحد من السلف والأئمة ، ولا أعلم [في ذلك] (6) خلافا في أن المراد بهذه الآية هذا والله أعلم.
وقال الشافعي : أنبأنا ابن عيينة ، عن الزهري ، عن ابن المسيَّب : أن ابنة محمد بن مَسْلَمة كانت
__________
(1) في ر : "يصالحا".
(2) في أ : "وهى ذميمة".
(3) تفسير الطبري (9/271) وصحيح البخاري برقم (5206) وصحيح مسلم برقم (3021).
(4) زيادة من أ.
(5) تفسير الطبري (9/269).
(6) زيادة من أ.

(2/428)


عند رافع بن خديج فكره منها أمرا إما كِبَرًا أو غيره فأراد طلاقها فقالت : لا تطلقني واقسم لي ما بدا لك. فأنزل الله عز وجل : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا } الآية.
وقد رواه الحاكم في مستدركه ، من طريق عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار بأطول من هذا السياق (1).
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو ، حدثنا أبو محمد أحمد بن عبد الله المُزَني ، أنبأنا علي بن محمد بن عيسى ، حدثنا أبو اليمان ، أخبرني شعيب بن أبي حمزة ، عن الزهري ، أخبرني سعيد بن المسيب وسليمان بن يَسَار : أن السُّنَّة في هاتين الآيتين اللتين ذكر الله فيهما نشوز المرء وإعراضه عن امرأته في قوله : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا } إلى تمام الآيتين ، أن المرء (2) إذا نشز عن امرأته وآثر عليها ، فإن من الحق أن يعرض عليها أن يطلقها أو تستقر عنده على ما كانت من أثرة في القَسْم من ماله ونفسه ، فإن استقرت عنده على ذلك ، وكرهت أن يطلقها ، فلا حرج عليه فيما آثر عليها من ذلك ، فإن لم يعرض عليها الطلاق ، وصالحها على أن يعطيها من ماله ما ترضاه وتقر عنده على الأثرة في القَسْم من ماله ونفسه ، صلح له ذلك ، وجاز صلحها عليه ، كذلك ذكر سعيد بن المسيَّب وسليمان الصُّلحَ الذي قال الله عز وجل { فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْر }.
وقد ذكر لي أن رافع بن خُدَيْج الأنصاري - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - كانت عنده امرأة حتى إذا كبرت تزوج عليها فتاة شابة ، وآثر عليها الشابة ، فناشدته الطلاق فطلقها تطليقة ، ثم أمهلها ، حتى إذا كادت تحلّ راجعها ، ثم عاد فآثر الشابة عليها فناشدته الطلاق فطلقها تطليقة أخرى ، ثم أمهلها ، حتى إذا كادت تحل راجعها ، ثم عاد فآثر الشابة عليها ، فناشدنه الطلاق فقال لها : ما شئتِ ، إنما بقيت لك تطليقة واحدة ، فإن شئتِ استقررتِ على ما تَريْن من الأثرة ، وإن شئت فارقتك ، فقالت : لا بل أستقر على الأثرة. فأمسكها على ذلك ، فكان ذلك صلحهما ، ولم ير رافع عليه إثما حين رضيت (3) أن تستقر عنده على الأثرة فيما أثر به عليها.
وهذا رواه بتمامه عبد الرحمن بن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن أبي اليمان ، عن شعيب ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، وسليمان بن يسار ، فذكره بطوله ، والله أعلم (4)
وقوله : { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني التخيير ، أن يخير الزوج لها بين الإقامة والفراق ، خير من تمادي الزوج على أثرة غيرها عليها.
والظاهر من الآية أن صلحهما على ترك بعض حقها للزوج ، وقبول الزوج ذلك ، خير من المفارقة بالكلية ، كما أمسك النبي صلى الله عليه وسلم سودة بنت زَمْعة على أن تركت يومها لعائشة ، رضي الله عنها ، ولم يفارقها بل تركها من جملة نسائه ، وفعله ذلك لتتأسى به أمته في مشروعية ذلك وجوازه ، فهو أفضل في حقه عليه الصلاة والسلام. ولما كان الوفاق أحب إلى الله [عز وجل] (5) من الفراق قال : { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ }
__________
(1) المستدرك (2/308) ورواه الواحدي في أسباب النزول برقم (128) من طريق الربيع عن الشافعي به.
(2) في ر ، أ : "المراد".
(3) في أ : "عليها أنها حين رضيت".
(4) السنن الكبرى (7/296).
(5) زيادة من ر.

(2/429)


بل الطلاق بغيض إليه ، سبحانه وتعالى ؛ ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجه جميعًا ، عن كثير بن عبيد ، عن محمد بن خالد ، عن مُعَرِّف بن واصل ، عن محارب بن دِثَار ، عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أبغض الحلال إلى الله (1) الطلاق".
ثم رواه أبو داود عن أحمد بن يونس ، عن مُعَرِّف ، بن محارب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم... فذكر معناه مرسلا (2).
وقوله : { وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } [أي] (3) وإن تتجشموا مشقة الصبر على من تكرهون منهن ، وتقسموا لهن أسوة أمثالهن ، فإن الله عالم بذلك وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء.
وقوله تعالى : { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } أي : لن تستطيعوا أيها الناس أن تساووا بين النساء من جميع الوجوه ، فإنه وإن حصل القسْم الصوري : ليلة وليلة ، فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع ، كما قاله ابن عباس ، وعُبَيْدة السَّلْمَاني ، ومجاهد ، والحسن البصري ، والضحاك بن مزاحم.
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعة ، حدثنا ابن أبي شيبة ، حدثنا حسين الجُعَفِي ، عن زائدة ، عن عبد العزيز بن رُفَيع ، عن ابن أبي مُلَيكة قال : نزلت هذه الآية : { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ } في عائشة. يعني : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبها أكثر من غيرها ، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، من حديث حمَّاد بن سلمة ، عن أيوب ، عن أبي قِلابة ، عن عبد الله بن يزيد ، عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ، ثم يقول : "اللهم هذا قَسْمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك" يعني : القلب.
لفظ أبي داود ، وهذا إسناد صحيح ، لكن قال الترمذي : رواه حماد بن زيد وغير واحد ، عن أيوب ، عن أبي قلابة مرسلا قال : وهذا أصح (4).
وقوله { فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ } أي : فإذا ملتم إلى واحدة منهم (5) فلا تبالغوا في الميل بالكلية { فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ } أي : فتبقى هذه الأخرى مُعَلَّقة.
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، والضحاك ، والربيع بن أنس ، والسدي ، ومقاتل بن حيان : معناه لا ذات زوج ولا مطلقة.
وقد قال أبو داود الطيالسي : أنبأنا هَمَّام ، عن قتادة ، عن النضر بن أنس ، عن بشير بن نَهِيك ،
__________
(1) في ر ، أ : "الله سبحانه وتعالى".
(2) سنن أبي داود برقم (2178) وسنن ابن ماجة برقم (2018) من حديث ابن عمر.
وقال أبو حاتم : "إنما هو محارب عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل" العلل (1/431) والطريق المرسلة رواها أبو داود في السنن برقم (2177) وقد توسع الشيخ ناصر الألباني في الكلام على هذا الحديث في كتابه إرواء الغليل (2040) بما يكفي فليراجع.
(3) زيادة من ر ، أ.
(4) سنن أبي داود برقم (2134) وسنن الترمذي برقم (1140) وسنن النسائي (7/63) وسنن ابن ماجة برقم (1971).
(5) في ر ، أ : "منهن" وهو الصحيح".

(2/430)


وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآَخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)

عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما ، جاء يوم القيامة وأحد شِقَّيْهِ ساقط".
وهكذا رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، من حديث همَّام بن يحيى ، عن قتادة ، به. وقال الترمذي : إنما أسنده همَّام ، ورواه هشام الدستوائي عن قتادة - قال : "كان يقال". ولا نعرف هذا الحديث مرفوعا إلا من حديث همَّام (1).
وقوله : { وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } أي : وإن أصلحتم في أموركم ، وقسمتم بالعدل فيما تملكون ، واتقيتم الله في جميع الأحوال ، غفر الله لكم ما كان من ميل إلى بعض النساء دون بعض.
ثم قال تعالى : { وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا } وهذه هي الحالة الثالثة ، وهي حالة الفراق ، وقد أخبر تعالى أنهما إذا تفرقا فإن الله يغنيه عنها ويغنيها عنه ، بأن يعوضه بها من هو خير له منها ، ويعوضها عنه بمن هو خير لها منه : { وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا } أي : واسع الفضل عظيم المن ، حكيما في جميع أفعاله وأقداره وشرعه.
{ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134) }
يخبر تعالى أنه مالك السماوات والأرض ، وأنه الحاكم فيهما ؛ ولهذا قال : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ } أي : وصيناكم بما وصيناهم به ، من تقوى الله ، عز وجل ، بعبادته وحده لا شريك له.
ثم قال : { وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وِمَا فِي الأرْضِ [وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا] (2) } كما قال تعالى إخبارا عن موسى أنه قال لقومه : { إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } [إبراهيم : 8] ، وقال { فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } [التغابن : 6] أي : غني عن عباده ، { حَمِيدٌ } أي : محمود في جميع ما يقدره ويشرعه.
وقوله : { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا } أي : هو القائم على كل نفس بما كسبت ، الرقيب الشهيد على كل شيء.
__________
(1) مسند الطيالسي برقم (1597) والمسند (1/471) وسنن أبي داود برقم (2133) وسنن الترمذي برقم (1141) وسنن النسائي (7/63) وسنن ابن ماجه برقم (1969).
(2) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".

(2/431)


وقوله : { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا } أي : هو قادر على إذهابكم وتبديلكم بغيركم إذا عصيتموه ، وكما قال [تعالى] (1) { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [محمد : 38]. وقال بعض السلف : ما أهون العباد على الله إذا أضاعوا أمره! وقال تعالى : { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ. وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ } [إبراهيم : 19 ، 20] أي : ما هو عليه بممتنع.
وقوله : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } أي : يا من ليس (2) هَمُّه إلا الدنيا ، اعلم أن عند الله ثواب الدنيا والآخرة ، وإذا سألته من هذه وهذه أعطاك وأغناك وأقناك ، كما قال تعالى : { فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا [وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ] (3) } [البقرة : 200 - 202] ، وقال تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ [وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ] (4) } [الشورى : 20] ، وقال تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا. وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا. كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا. انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ [وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا] (5) } [الإسراء : 18 - 21].
وقد زعم ابن جرير أن المعنى في هذه الآية : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا } أي : من المنافقين الذين أظهروا الإيمان لأجل ذلك ، { فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا } وهو ما حصل لهم من المغانم وغيرها مع المسلمين. وقوله : { وَالآخِرَةِ } أي : وعند الله (6) ثواب الآخرة ، وهو ما ادخره لهم من العقوبة في نار جهنم. وجعلها كقوله : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا [نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا] (7) وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [هود : 15 ، 16].
ولا شك أن هذه الآية معناها ظاهر ، وأما تفسيره الآية الأولى بهذا ففيه نظر ؛ فإن قوله { فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ } ظاهر في حضور الخير في الدنيا والآخرة ، أي : بيده هذا وهذا ، فلا يقْتَصِرَنَّ قاصر الهمة على السعي للدنيا فقط ، بل لتكن همته سامية إلى نيل المطالب العالية في الدنيا والآخرة ، فإن مرجع ذلك كله إلى الذي بيده الضر والنفع ، وهو الله الذي لا إله إلا هو ، الذي قد قسم السعادة والشقاوة في الدنيا والآخرة بين الناس ، وعدل بينهم فيما علمه فيهم ، ممن يستحق هذا ، وممن يستحق (8) هذا ؛ ولهذا قال : { وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا }
__________
(1) زيادة من : د.
(2) في د ، ر : "وليس له".
(3) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(4) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(5) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(6) في د ، ر ، أ : "أي وعنده".
(7) زيادة من ر ، أ.
(8) في أ : "وعدل بينهم بمن يستحق هذا ومن يستحق هذا".

(2/432)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) }
يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط ، أي بالعدل ، فلا يعدلوا عنه يمينا ولا شمالا ولا تأخذهم في الله (1) لومة لائم ، ولا يصرفهم عنه صارف ، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين فيه.
وقوله : { شُهَدَاءَ لِلَّهِ } كَمَا قَالَ { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } أي : ليكن أداؤها ابتغاء وجه الله ، فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقا ، خالية من التحريف والتبديل والكتمان ؛ ولهذا قال : { وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ } أي : اشهد الحق (2) ولو عاد ضررها عليك وإذا سُئِلت عن الأمر فقل الحق فيه ، وإن كان مَضرة عليك ، فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجا ومخرجا من كل أمر يضيق عليه.
وقوله : { أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ } أي : وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك ، فلا تُراعهم فيها ، بل اشهد بالحق وإن عاد ضررها عليهم ، فإن الحق حاكم على كل أحد ، وهو مقدم على كل أحد.
وقوله : { إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا } أي : لا ترعاه (3) لغناه ، ولا تشفق عليه لفقره ، الله يتولاهما ، بل هو أولى بهما منك ، وأعلم بما فيه صلاحهما.
وقوله { فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا } أي : فلا يحملنكم الهوى والعصبية وبغْضَة الناس إليكم ، على ترك العدل في أموركم وشؤونكم ، بل الزموا العدل على أي حال كان ، كما قال تعالى : { ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [المائدة : 8]
ومن هذا القبيل قول عبد الله بن رواحة ، لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزرعهم ، فأرادوا أن يُرْشُوه ليرفق بهم ، فقال : والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليَّ ، ولأنتم أبغض إليَّ من أعدادكم من القردة والخنازير ، وما يحملني حُبي إياه وبغضي لكم على ألا أعدل فيكم. فقالوا : "بهذا قامت السماوات والأرض". وسيأتي الحديث مسندا في سورة المائدة ، إن شاء الله [تعالى] (4).
وقوله : { وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا } قال مجاهد وغير واحد من السلف : { تَلْوُوا } أي : تحرفوا الشهادة وتغيروها ، "واللّي" هو : التحريف وتعمد الكذب ، قال الله تعالى : { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ [لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ] (5) } [آل عمران : 78]. و "الإعراض" هو : كتمان الشهادة وتركها ، قال الله تعالى : { وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } [البقرة : 283] وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يُسألها". ولهذا توعدهم الله بقوله : { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا } أي : وسيجازيكم بذلك.
__________
(1) في ر : "لا يأخذهم في الحق لومة لائم".
(2) في ر : "بالحق".
(3) في أ : "لا يرضاه".
(4) زيادة من : أ.
(5) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".

(2/433)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نزلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا (136) }
يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بالدخول في جميع شرائع الإيمان وشعبه وأركانه ودعائمه ، وليس هذا من باب تحصيل الحاصل ، بل من باب تكميل الكامل وتقريره وتثبيته والاستمرار عليه. كما يقول المؤمن في كل صلاة : { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة : 6] أي : بَصِّرنا فيه ، وزدنا هدى ، وثبتنا عليه. فأمرهم بالإيمان به وبرسوله ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ } [الحديد : 28].
وقوله : { وَالْكِتَابِ الَّذِي نزلَ عَلَى رَسُولِهِ } يعني : القرآن { وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزلَ مِنْ قَبْلُ } وهذا جنس يشمل جميع الكتب المتقدمة ، وقال في القرآن : { نزلَ } ؛ لأنه نزل مفرقا منجما على الوقائع ، بحسب ما يحتاج إليه العباد إليه في معادهم ومعاشهم ، وأما الكتب المتقدمة فكانت تنزل جملة واحدة ؛ ولهذا قال : { وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزلَ مِنْ قَبْلُ } ثُمَّ قَالَ { وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا } أي : فقد خرج عن طريق الهدى ، وبعد عن القصد كل البعد.
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نزلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) }
يخبر تعالى عمن دخل في الإيمان ثم رجع عنه ، ثم عاد فيه ثم رجع ، واستمر على ضلاله (1) وازداد حتى مات ، فإنه لا توبة بعد موته ، ولا يغفر الله له ، ولا يجعل له مما هو فيه فرجا ولا مخرجا ، ولا طريقا إلى الهدى ؛ ولهذا قال : { لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن عبدة ، حدثنا حفص بن جُمَيع ، عن سِمَاك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : { ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا } قال : تَمَّمُوا (2) على كفرهم حتى ماتوا. وكذا قال مجاهد.
وروى ابن أبي حاتم من طريق جابر المعلى ، عن عامر الشّعْبي ، عن علي ، رضي الله عنه ، أنه قال : يستتاب المرتد ، ثلاثًا ، ثم تلا هذه الآية : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا }
__________
(1) في أ : "ضلالته".
(2) في ر ، أ : "تموا".

(2/434)


ثم قال : { بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } يعنى : أن المنافقين من هذه الصفة فإنهم آمنوا ثم كفروا ، فطبع على قلوبهم ، ثم وصفهم بأنهم يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، بمعنى أنهم معهم في الحقيقة ، يوالونهم ويسرون إليهم بالمودة ، ويقولون لهم إذا خلوا بهم : إنما نحن معكم ، إنما نحن مستهزئون. أي بالمؤمنين في إظهارنا لهم الموافقة. قال الله تعالى منكرا عليهم فيما سلكوه من موالاة الكافرين : { أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ } ؟
ثم أخبر تعالى بأن العزة كلها لله وحده لا شريك له ، ولمن جعلها له. كما قال في الآية الأخرى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا } [فاطر : 10] ، وقال تعالى : { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ } [المنافقون : 8].
والمقصود من هذا التهييج على طلب العزة من جناب الله ، والالتجاء إلى عبوديته ، والانتظام في جملة عباده المؤمنين الذين لهم النصرة في هذه الحياة الدنيا ، ويوم يقوم الأشهاد.
ويُنَاسبُ أن يُذْكَرَ (1) هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد :
حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن حُمَيْد الكندي ، عن عبادة بن نُسَيِّ ، عن أبي ريحانه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من انتسب إلى تسعة آباء كفار ، يريد بهم عزًّا وفخرًا ، فهو عاشرهم في النار".
تفرد به أحمد (2) وأبو ريحانة هذا هو أزدي ، ويقال : أنصاري. اسمه (3) شمعون بالمعجمة ، فيما قاله البخاري ، وقال غيره : بالمهملة ، والله (4) أعلم.
وقوله [تعالى] (5) { وَقَدْ نزلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ } أي : إذا ارتكبتم النهي بعد وصوله إليكم ، ورضيتم بالجلوس معهم في المكان الذي يكفر فيه بآيات الله ويستهزأ وينتقص بها ، وأقررتموهم على ذلك ، فقد شاركتموهم في الذي هم فيه. فلهذا قال تعالى : { إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ } [أي] (6) في المأثم ، كما جاء في الحديث : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يُدَار عليها الخَمْر" (7).
والذي أحيل عليه في هذه الآية من النهي في (8) ذلك ، هو قوله تعالى في سورة الأنعام ، وهي مكية : { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ] (9) } [الأنعام : 68] قال مقاتل بن حيان : نَسَخَت هذه الآية التي في الأنعام. يعني نُسخَ قوله : { إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ } لقوله { وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [الأنعام : 69].
__________
(1) في ر : "ومناسب أن ذكر".
(2) المسند (4/133) قال الهيثمي في المجمع (8/85) : "رجال أحمد ثقات".
(3) في ر ، أ : "واسمه".
(4) في ر ، أ : "فالله".
(5) زيادة من ر ، أ.
(6) زيادة من ر ، أ.
(7) رواه الترمذي في سننه برقم (2801) من حديث جابر ، وفي إسناده ليث بن أبي سليم ضعيف ، ورواه أحمد في المسند (1/20) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وفي إسناده مجهول ، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (11/191) من حديث عبد الله ابن عباس ، وفي إسناده يحيى بن أبي سليمان وهو ضعيف.
(8) في ر : "عن".
(9) زيادة من : ر ، أ ، وفي ه : "الآية".

(2/435)


وقوله : { إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا } أي : كما أشركوهم (1) في الكفر ، كذلك شارك الله بينهم (2) في الخلود في نار جهنم أبدا ، وجمع بينهم في دار العقوبة والنكال ، والقيود والأغلال. وشراب (3) الحميم والغِسْلين لا الزّلال.
__________
(1) في ر ، أ : "اشتركوا".
(2) في أ : "عليهم".
(3) في ر ، أ : "وشرب".

(2/436)


الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)

{ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا (141) }
يخبر تعالى عن المنافقين أنهم يتربصون بالمؤمنين دوائر السوء ، بمعنى ينتظرون زوال دولتهم ، وظهور الكفر (1) عليهم ، وذهاب ملتهم {. فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ } أي : نصر وتأييد وظَفَر وغنيمة { قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ } ؟ أي : يتوددون إلى المؤمنين بهذه المقالة { وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ } أي : إدالة على المؤمنين في بعض الأحيان ، كما وقع يوم أحد ، فإنّ الرسل تبتلى ثم يكون لها (2) العاقبة { قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } ؟ أي : ساعدناكم في الباطن ، وما ألوناهم خبالا وتخذيلا حتى انتصرتم عليهم.
وقال السدي : { نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ } نغلب عليكم ، كقوله : { اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ } [المجادلة : 19] وهذا أيضًا تودد منهم إليهم ، فإنهم كانوا يصانعون هؤلاء وهؤلاء ؛ ليحظوا عندهم ويأمنوا كيدهم ، وما ذاك إلا لضعف إيمانهم ، وقلة إيقانهم.
قال الله تعالى : { فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ (3) يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي : بما يعلمه منكم - أيها المنافقون - من البواطن الرديئة ، فلا تغتروا بجريان الأحكام الشرعية عليكم ظاهرًا في الحياة الدنيا ، لما له [تعالى] (4) في ذلك من الحكمة ، فيوم القيامة لا تنفعكم (5) ظواهركم ، بل هو يوم تبلى فيه السرائر ويُحَصَّل ما في الصدور.
وقوله : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا } قال عبد الرزاق : أنبأنا الثوري ، عن الأعمش ، عن ذَرّ ، عن يُسَيْع الكندي قال : جاء رجل إلى علي بن أبي طالب ، فقال : كيف هذه الآية : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا } ؟ فقال علي ، رضي الله عنه : ادْنُه ادنه ، ثم قال : { فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا }
وكذا روى ابن جريج عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا } قال : ذاك يوم القيامة. وكذا روى السدي عن أبي مالك الأشجعي : يعني يوم القيامة. وقال السدي : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا } أي : حجة.
__________
(1) في د ، ر ، أ : "الكفرة".
(2) في ر : "تكون لها" ، وفي أ : "تكون لهم".
(3) في ر : "بينهم".
(4) زيادة من : أ.
(5) في ر : "ينفعكم".

(2/436)


إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)

ويحتمل أن يكون المراد : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا } أي : في الدنيا ، بأن يُسَلَّطُوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية ، وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض الناس ، فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ] (1) } [غافر : 51 ، 52]. وعلى هذا فيكون ردا على المنافقين فيما أملوه وتربصوه (2) وانتظروه من زوال دولة المؤمنين ، وفيما سلكوه من مصانعتهم الكافرين ، خوفا على أنفسهم منهم إذا هم ظهروا على المؤمنين فاستأصلوهم ، كما قال تعالى : { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ [ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ] (3) نَادِمِينَ } [المائدة : 52].
وقد استدل كثير من العلماء (4) بهذه الآية الكريمة على أصح قولي العلماء ، وهو المنع من بيع العبد المسلم من الكافر لما في صحة ابتياعه من التسليط له عليه والإذلال ، ومن قال منهم بالصحة يأمره بإزالة ملكه عنه في الحال ؛ لقوله تعالى : { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا }
{ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا (143) }
قد تقدم في أول سورة البقرة قوله تعالى : { يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا } [البقرة : 9] وقال هاهنا : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ } ولا شك أن الله تعالى لا يخادع ، فإنه العالم بالسرائر والضمائر ، ولكن المنافقين لجهلهم وقلة علمهم وعقلهم ، يعتقدون أن أمرهم كما راج عند الناس وجَرَت عليهم أحكامُ الشريعة ظاهرا ، فكذلك (5) يكون حكمهم يوم القيامة عند الله ، وأن أمرهم يروج عنده ، كما أخبر عنهم تعالى أنهم يوم القيامة يحلفون له : أنهم كانوا على الاستقامة والسداد ، ويعتقدون أن ذلك نافع لهم عنده ، فقال تعالى : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ [وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ] (6) } [المجادلة : 18].
وقوله : { وَهُوَ خَادِعُهُمْ } أي : هو الذي يستدرجهم في طغيانهم وضلالهم ، ويخذلهم عن الحق والوصول إليه في الدنيا وكذلك في يوم القيامة كما قال تعالى : { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ. يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ. فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ] (7) وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
__________
(1) زيادة من ر أ ، وفي هـ : "الآية".
(2) في ر : "ويرجوه".
(3) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "إلى قوله".
(4) في ر ، أ : "الفقهاء".
(5) في ر : "فلذلك".
(6) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(7) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "إلى قوله".

(2/437)


}. [الحديد : 13 - 15] وقد ورد في الحديث : "من سَمَّع سَمَّع الله به ، ومن راءي راءي الله به" (1) وفي حديث آخر : "إن الله يأمر بالعبد إلى الجنة فيما يبدو للناس ، ويعدل به إلى النار" عياذًا بالله من ذلك.
وقوله : { وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى [يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إَلا قَلِيلا] (2) } هذه صفة المنافقين في أشرف الأعمال وأفضلها وخيرها ، وهي الصلاة. إذا قاموا إليها قاموا وهم كسالى عنها ؛ لأنهم لا نية لهم فيها ، ولا إيمانَ لهم بها ولا خشية ، ولا يعقلون معناها كما روى (3) ابن مردويه ، من طريق عُبَيد الله بن زَحْر ، عن خالد بن أبي عِمْران ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس قال : يكرَه أن يقوم الرجلُ إلى الصلاة وهو كسلان ، ولكن يقوم إليها طلق الوجه ، عظيم الرغبة ، شديد الفرح ، فإنه يناجي الله [تعالى] (4) وإن الله أمامه يغفر له ويجيبه إذا دعاه ، ثم يتلو ابن عباس هذه الآية : { وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى }
وروي من غير هذا الوجه ، عن ابن عباس ، نحوه.
فقوله تعالى : { وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى } هذه صفة ظواهرهم ، كما قال : { وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى } [التوبة : 54] ثم ذكر تعالى صفة بواطنهم الفاسدة ، فقال : { يُرَاءُونَ النَّاسَ } أي : لا إخلاص لهم [ولا معاملة مع الله بل إنما يشهدون الناس تقية من الناس ومصانعة لهم] (5) ؛ ولهذا يتخلفون كثيرا عن الصلاة التي لا يُرَون غالبًا فيها كصلاة العشاء وقت العَتَمَة ، وصلاة الصبح في وقت الغَلَس ، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حَبْوًا ، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ، ثم آمر رجلا فيصلي بالناس ، ثم أنطلق معي برجال ، معهم حُزَم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة ، فأحرّق عليهم بيوتهم بالنار (6) " (7).
وفي رواية : "والذي نفسي بيده ، لو علم أحدهم (8) أنه يجد عَرْقًا سمينًا أو مَرْمَاتين حسنتين ، لشهد الصلاة ، ولولا ما في البيوت من النساء والذرية لحرقت عليهم بيوتهم بالنار" (9).
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا محمد - هو بن أبي بكر المقدمي (10) - حدثنا محمد بن دينار ، عن إبراهيم الهَجَري ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أحْسَنَ الصلاة حيث يراه الناس ، وأساءها حيث يخلو ، فتلك استهانة ، استهان بها ربه عز وجل" (11)
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6499) وصحيح مسلم برقم (2787).
(2) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(3) في أ : "رواه".
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من ر ، أ.
(6) في ر : "في النار".
(7) صحيح البخاري برقم (657) وصحيح مسلم برقم (651).
(8) في أ : "لو يعلم أحدكم".
(9) رواه البخاري في صحيحه برقم (644).
(10) في أ : "محمد بن أبي بكر المقدسي".
(11) مسند أبو يعلى (9/54) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (2/290) من طريق زائدة عن إبراهيم الهجري به. قال الهيثمي في المجمع (10/221) : "فيه إبراهيم بن مسلم الهجري وهو ضعيف".

(2/438)


.
وقوله : { وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا } أي : في صلاتهم لا يخشعُون [فيها] (1) ولا يدرون (2) ما يقولون ، بل هم في صلاتهم ساهون لاهون ، وعما يراد بهم من الخير معرضون.
وقد روى الإمام مالك ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق : يجلس يَرْقُب الشمس ، حتى إذا كانت بين قَرْنَي الشيطان ، قام فَنَقَر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا".
وكذا رواه مسلم ، والترمذي ، والنسائي ، من حديث إسماعيل بن جعفر المدني ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، به. وقال الترمذي : حسن صحيح (3).
وقوله : { مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ } يعني : المنافقين محيرين بين الإيمان والكفر ، فلا هم مع المؤمنين ظاهرًا وباطنًا ، ولا مع الكافرين ظاهرًا وباطنًا ، بل ظواهرهم مع المؤمنين ، وبواطنهم مع الكافرين. ومنهم من يعتريه الشك ، فتارة يميل إلى هؤلاء ، وتارة يميل إلى أولئك { كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا } الآية [البقرة : 20].
قال مجاهد : { مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ } يعني : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم { وَلا إِلَى هَؤُلاءِ } يعني : اليهود.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين ، تَعِيرُ إلى هذه مرة ، وإلى هذه مرة ، ولا تدري أيتهما تتبع".
تفرد به مسلم. وقد رواه عن محمد بن المثنى مرة أخرى ، عن عبد الوهاب ، فوقف به على ابن عمر ، ولم يرفعه ، قال : حدثنا به عبد الوهاب مرتين كذلك (4).
قلت : وقد رواه الإمام أحمد ، عن إسحاق بن يوسف بن عبيد الله ، به مرفوعًا. وكذا رواه إسماعيل بن عياش وعلي بن عاصم ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر مرفوعا. وكذا رواه عثمان بن محمد بن أبي شيبة ، عن عبدة ، عن عبد الله ، به مرفوعا. ورواه حماد بن سلمة ، عن عبيد الله - أو عبد الله بن عمر - عن نافع ، عن ابن عمر مرفوعا. ورواه أيضًا صخر بن جُوَيْرِية ، عن نافع عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بمثله (5).
وقال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا الهُذَيل بن بلال ، عن ابن عبيد ، عن أبيه : أنه جلس ذات يوم بمكة وعبد الله بن عمر معه ، فقال أبي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن مثل المنافق يوم القيامة كالشاة بين الرّبضَين من الغنم ، إن أتت هؤلاء نطحتها ، وإن أتت هؤلاء نطحتها" فقال له ابن عمر : كذبت. فأثنى القوم على أبي خيرا - أو معروفا - فقال ابن عمر : لا أظن صاحبكم إلا كما
__________
(1) زيادة من د.
(2) في د ، ر ، أ : "ولا يتدبرون".
(3) الموطأ (1/220) وصحيح مسلم برقم (622) وسنن أبي داود برقم (412) وسنن الترمذي برقم (160) وسنن النسائي (1/254).
(4) تفسير الطبري (9/333) وصحيح مسلم برقم (2784).
(5) المسند (2/47).

(2/439)


تقولون ، ولكني شاهد (1) نبي الله إذ قال : كالشاة بين الغنمين. فقال : هو سواء. فقال : هكذا سمعته (2).
وقال أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا المسعودي ، عن أبي جعفر محمد بن علي قال : بينما عبيد بن عُمير يقص ، وعنده عبد الله بن عمر ، فقال عبيد بن عمير : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مثل المنافق كالشاة بين ربضين ، إذا أتت هؤلاء نطحتها ، وإذا أتت هؤلاء نطحتها". فقال ابن عمر : ليس كذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كشاة بين غنمين". قال : فاحتفظ الشيخ وغضب ، فلما رأى ذلك ابن عمر قال : أما إني لو لم أسمعه لم أردد ذلك عليك (3).
طريق أخرى : عن ابن عمر ، قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن عثمان بن بُودِويه ، عن يَعْفُر بن زُوذي قال : سمعت عبيد بن عمير وهو يقص يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مثل المنافق كمثل الشاة الرابضة بين الغنمين". فقال ابن عمر : ويلكم. لا تكذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. إنما قال صلى الله عليه وسلم : "مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين" (4).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال : مثل المؤمن والمنافق والكافر مثل ثلاثة نفر انتهوا إلى واد ، فدفع أحدهم فعبر ، ثم وقع الآخر حتى إذا أتى على نصف الوادي ناداه الذي على شفير الوادي : ويلك. أين تذهب ؟ إلى الهلكة ؟ ارجع عودك على بدئك ، وناداه الذي عبر : هَلُمّ إلى النجاة. فجعل ينظر إلى هذا مرة وإلى هذا مرة ، قال : فجاءه سيل فأغرقه ، فالذي عبر المؤمن ، والذي غرق المنافق : { مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ } والذي مكث الكافر وقال ابن جرير : حدثنا بِشْر ، حدثنا يزيد ، حدثنا شعبة (5) عن قتادة : { مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ } يقول : ليسوا بمؤمنين مخلصين ولا مشركين مصرّحين بالشرك. قال : وذُكرَ لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يضرب مثلا للمؤمن وللمنافق وللكافر ، كمثل رهط ثلاثة دَفَعوا إلى نهر ، فوقع المؤمن فقطع ، ثم وقع المنافق حتى إذا كاد يصل إلى المؤمن ناداه الكافر : أن هَلُمّ إليّ ، فإني أخشى عليك. وناداه المؤمن : أن هَلُمّ إليّ ، فإني عندي وعندي ؛ يُحصى له ما عنده. فما زال المنافق يتردد بينهما حتى أتى أذى فغرّقه. وإن المنافق لم يزل في شك وشبهة ، حتى أتى عليه الموت وهو كذلك. قال : وذُكرَ لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : "مثل المنافق كمثل ثاغية بين غنمين ، رأت غنمًا على نَشَزٍ فأتتها وشامتها فلم تعرف ، ثم رأت غنمًا على نَشَز فأتتها وشامتها فلم تعرف".
ولهذا قال تعالى : { وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا } أي : ومن صرفه عن طريق الهدى { فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا }
__________
(1) في أ : "شاهدي".
(2) المسند (2/68).
(3) المسند (2/32).
(4) المسند (2/88).
(5) في ر : "سعيد".

(2/440)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)

فإنه : { مَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ } والمنافقون الذين أضلهم عن سبيل النجاة فلا هادي لهم ، ولا منقذ لهم مما هم فيه ، فإنه تعالى لا مُعَقّب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147) }
ينهى تعالى عباده المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، يعني مصاحبتهم ومصادقتهم ومناصحتهم وإسرار المودة إليهم ، وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم ، كما قال تعالى : { لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } [آل عمران : 28] أي : يحذركم عقوبته في ارتكابكم نهيه. ولهذا قال هاهنا : { أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا } أي : حجة عليكم في عقوبته إياكم.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة عن ابن عباس قوله : { سُلْطَانًا مُبِينًا } [قال] (1) كل سلطان في القرآن حجة.
وهذا إسناد صحيح. وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، ومحمد بن كعب القُرَظي ، والضحاك ، والسدي والنضر بن عَرَبي.
ثم أخبر تعالى : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ } أي : يوم القيامة ، جزاء على كفرهم الغليظ. قال الوالبي عن ابن عباس : { فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ } أي : في أسفل النار. وقال غيره : النار دركات ، كما أن الجنة درجات. "وقال سفيان الثوري ، عن عاصم ، عن ذَكْوان أبي صالح ، عن أبي هريرة : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ } قال : في توابيت ترتج عليهم. كذا رواه ابن جرير ، عن ابن وَكِيع ، عن يحيى بن يمان ، عن سفيان ، به. ورواه ابن أبي حاتم ، عن المنذر بن شاذان ، عن عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن عاصم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ } قال : الدرك الأسفل بيوت لها أبواب تطبق عليهم ، فتوقد من تحتهم ومن فوقهم.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن سلمة بن كُهَيْل ، عن خَيْثَمَة ، عن عبد الله - يعني ابن مسعود : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ } قال : في توابيت
__________
(1) زيادة من أ.

(2/441)


من نار تطبق عليهم. ورواه ابن أبي حاتم ، عن أبي سعيد الأشج ، عن وكيع ، عن سفيان ، عن سلمة ، عن خيثمة ، عن ابن مسعود : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ } قال : في توابيت من حديد مبهمة عليهم ، ومعنى قوله : (مبهمة) أي : مغلقة مقفلة لا يهتدى لمكان فتحها.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا علي بن يزيد (1) عن القاسم بن عبد الرحمن : أن ابن مسعود سئل عن المنافقين ، فقال : يجعلون في توابيت من نار ، فتطبق عليهم في أسفل درك من النار.
{ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا } أي : ينقذهم مما هم فيه ، ويخرجهم من أليم العذاب.
ثم أخبر تعالى أن من تاب [منهم] (2) في الدنيا تاب عليه (3) وقَبِلَ ندمه إذا أخلص في توبته وأصلح عمله ، واعتصم بربه في جميع أمره ، فقال : { إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ } أي : بَدَّلوا الرياء بالإخلاص ، فينفعهم العمل الصالح وإن قل.
قال ابن أبي حاتم : أخبرنا يونس بن عبد الأعلى قراءة ، أنبأنا ابن وهب ، أخبرني يحيى بن أيوب ، عن عبيد الله بن زَحْر ، عن خالد بن أبي عِمْران ، عن عمرو بن مرة ، عن معاذ بن جبل : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أخلص دينك ، يكفك القليل من العمل" (4).
{ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } أي : في زمرتهم يوم القيامة { وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا }
ثم قال مخبرًا عن غناه عما سواه ، وأنه إنما يعذب العباد بذنوبهم ، فقال : { مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ } أي : أصلحتم العمل وآمنتم بالله ورسوله ، { وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا } أي : من شكر شكر له ومن آمن قلبه به علمه ، وجازاه على ذلك أوفر الجزاء.
__________
(1) في ر ، أ : "زيد".
(2) زيادة من أ.
(3) في أ : "عليهم".
(4) ورواه الحاكم في المستدرك (1/570) وأبو نعيم في الحلية (1/244) وابن أبي الدنيا في الإخلاص برقم (79) من طريق عمرو بن مرة به ، وفي إسناده انقطاع بين عمرو بن مرة ومعاذ فإنه لم يسمع منه.

(2/442)


لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)

{ لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) }
قال [علي] (1) بن أبي طلحة عن ابن عباس : { لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ } يقول : لا يحب الله أن يدعو أحد على أحد ، إلا أن يكون مظلوما ، فإنه قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه ، وذلك قوله : { إِلا مَنْ ظُلِمَ } وإن صبر فهو خير له.
وقال (2) أبو داود : حدثنا عبيد الله بن معاذ ، حدثنا أبي ، حدثنا سفيان ، عن حبيب ، عن عطاء ، عن عائشة قالت : سُرق لها شيء ، فجعلت تدعو عليه ، فقال النبي (3) صلى الله عليه وسلم "لا تُسَبّخي عنه" (4).
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ر : "وقد قال".
(3) في أ : "فقال رسول الله"
(4) سنن أبي داود برقم (4909).

(2/442)


وقال الحسن البصري : لا يدع عليه ، وليقل : اللهم أعني عليه ، واستخرج حقي منه. وفي رواية عنه قال : قد أرخص له أن يدعو على من ظلمه من غير أن يعتدي عليه.
وقال عبد الكريم بن مالك الجَزَريّ في هذه الآية : هو الرجل يشتمك فتشتمه ، ولكن إن افترى عليك فلا تفتر عليه ؛ لقوله : { وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ } [الشورى : 41].
وقال (1) أبو داود : حدثنا القَعْنَبِيّ ، حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "المُسْتَبَّانِ ما قالا فعلى البادئ منهما ، ما لم يعتد المظلوم" (2).
وقال عبد الرزاق : أنبأنا المثنى بن الصباح ، عن مجاهد في قوله : { لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ } قال : ضاف رجل رجلا فلم يؤدّ إليه حقّ ضيافته ، فلما خرج أخبر الناس ، فقال : "ضفت فلانا فلم يؤدّ إليّ حق ضيافتي". فذلك الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ، حين لم يؤد الآخر إليه حق ضيافته.
وقال محمد بن إسحاق ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ } قال : قال هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته ، فيخرج فيقول : "أساء ضيافتي ، ولم يحسن". وفي رواية هو الضيف المحول رحلُه ، فإنه يجهر لصاحبه بالسوء من القول.
وكذا روي عن غير واحد ، عن مجاهد ، نحو هذا. وقد روى الجماعة سوى النسائي والترمذي ، من طريق الليث بن سعد - والترمذي من حديث ابن لَهِيعة - كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير مَرْثَد بن عبد الله ، عن عقبة بن عامر قال : قلنا يا رسول الله ، إنك تبعثنا (3) فننزل بقوم فلا يَقْرُونا ، فما ترى في ذلك ؟ قال : "إذا نزلتم بقوم فأمَرُوا لكم بما ينبغي للضيف ، فاقبلوا منهم ، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم" (4).
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت أبا الجودي يحدث ، عن سعيد بن المهاجر ، عن المقدام أبي كريمة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "أيما مسلمٍ ضاف قومًا ، فأصبح الضيف محرومًا ، فإن حقًا على كل مسلم نَصْرَه حتى يأخذ بقِرى ليلته من زرعه وماله".
تفرد به أحمد من هذا الوجه (5) وقال أحمد أيضًا : حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا شعبة ، حدثني منصور ، عن الشَّعْبي عن المقدام أبي كريمة ، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ليلة الضيف واجبة على كل مسلم ، فإن أصبح بفِنَائه محرومًا كان دَيْنًا له عليه ، إن شاء اقتضاه وإن شاء تركه".
ثم رواه أيضًا عن غُنْدَر عن شعبة. وعن زياد (6) بن عبد الله البكَّائي. عن وَكِيع ، وأبي نُعَيْم ،
__________
(1) في أ : "وقد قال".
(2) سنن أبي داود برقم (4894).
(3) في ر : "بعثتنا".
(4) صحيح البخاري برقم (2461 ، 6137) وصحيح مسلم برقم (1727) وسنن أبي داود برقم (3752) وسنن الترمذي برقم (1589) وسنن ابن ماجة برقم (3676).
(5) المسند (4/133) ولم يتفرد به من هذا الوجه ، فقد رواه أبو داود في سننه برقم (3751) من طريق يحيى عن شعبة به.
(6) في ر : "زيادة".

(2/443)


عن سفيان الثوري - ثلاثتهم عن منصور ، به. وكذا رواه أبو داود من حديث أبي عَوَانة ، عن منصور ، به (1).
ومن هذه الأحاديث وأمثالها ذهب أحمد وغيره إلى وجوب الضيافة ، ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزَّار.
حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا صفوان بن عيسى ، حدثنا محمد بن عَجْلان ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ؛ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن لي جارا يؤذيني ، فقال له : "أخرج متاعك فضعه على الطريق". فأخذ الرجل متاعه فطرحه على الطريق ، فجعل كل من مر به قال : مالك ؟ قال : جاري يؤذيني. فيقول : اللهم العنه ، اللهم أخزه! قال : فقال الرجل : ارجع إلى منزلك ، وقال (2) لا أوذيك أبدًا".
وقد رواه أبو داود في كتاب الأدب ، عن أبي توبة الربيع بن نافع ، عن سليمان بن حيان أبي خالد الأحمر ، عن محمد بن عجلان به (3).
ثم قال البزار : لا نعلمه يروى عن أبي هريرة إلا بهذا الإسناد ، ورواه أبو جُحَيفة وهب بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ويوسف بن عبد الله بن سلام ، عن النبي صلى الله عليه وسلم (4).
وقوله : { إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا } أي : إن تظهروا - أيها الناس - خيرًا ، أو أخفيتموه ، أو عفوتم عمن أساء إليكم ، فإن ذلك مما يقربكم عند الله ويجزل ثوابكم لديه ، فإن من صفاته تعالى أن يعفو عن عباده مع قدرته على عقابهم. ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا } ؛ ولهذا ورد في الأثر : أن حملة العرش يسبحون الله ، فيقول بعضهم : سبحانك على حلمك بعد علمك. ويقول بعضهم : سبحانك على عفوك بعد قدرتك. وفي الحديث الصحيح : "ما نقص مال من صدقة ، ولا (5) زاد الله عبدا بعفو إلا عزًّا ، ومن تواضع لله رفعه الله" (6).
__________
(1) المسند (4/130 - 133) وسنن أبي داود برقم (3750)
(2) في د : "والله".
(3) سنن أبي داود برقم (5153) ورواه الحاكم في المستدرك (4/165) من طريق صفوان بن عيس به ، وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه وهو على شرط مسلم ووافقه الذهبي.
(4) أما حديث أبي جحيفة فرواه البزار في مسنده برقم (1903) "كشف الأستار". قال الهيثمي في المجمع (8/170) : "فيه أبو عمر المنيهي تفرد عنه شريك وبقية رجاله ثقات.
(5) في د : "وما".
(6) رواه مسلم في صحيحه برقم (2588) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(2/444)


إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)

{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152) }
يتوعد [تبارك و] (1) تعالى الكافرين به وبرسله من اليهود والنصارى ، حيث فَرّقوا بين الله ورسله في الإيمان ، فآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض ، بمجرد التشهي والعادة ، وما ألفوا عليه آباءهم ، لا عن دليل قادهم إلى ذلك ، فإنه لا سبيل لهم إلى ذلك بل بمجرد الهوى والعصبية. فاليهود - عليهم لعائن الله - آمنوا بالأنبياء إلا عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، والنصارى آمنوا بالأنبياء وكفروا بخاتمهم وأشرفهم محمد صلى الله عليه وسلم ، والسامرة لا يؤمنون بنبي بعد يوشع خليفة موسى بن عمران ، والمجوس يقال : إنهم كانوا يؤمنون بنبي لهم يقال له (2) زرادشت ، ثم كفروا بشرعه ، فرفع من بين أظهرهم ، والله (3) أعلم.
والمقصود أن من كفر بنبي من الأنبياء ، فقد كفر بسائر الأنبياء ، فإن الإيمان واجب بكل نبي بعثه الله إلى أهل الأرض ، فمن رد نبوته للحسد أو العصبية أو التشهي تبين أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيمانًا شرعيًّا ، إنما هو عن غرض وهوى وعصبية ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ } فوسمهم بأنهم كفار بالله ورسله { وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ } أي : في الإيمان { وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا } أي : طريقًا ومسلكًا.
ثم أخبر تعالى عنهم ، فقال : { أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا } أي : كفرهم محقق لا محالة بمن ادعوا الإيمان به ؛ لأنه ليس شرعيًّا ، إذ لو كانوا مؤمنين به لكونه رسول الله لآمنوا بنظيره ، وبمن هو أوضح دليلا وأقوى برهانًا منه ، لو نظروا حق النظر في نبوته.
وقوله : { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا } أي : كما استهانوا بمن كفروا به إما لعدم نظرهم فيما جاءهم به من الله ، وإعراضهم عنه وإقبالهم على جمع حطام الدنيا مما لا ضرورة بهم إليه ، وإما بكفرهم به بعد علمهم بنبوته ، كما كان يفعله كثير من أحبار اليهود في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث حسدوه على ما آتاه الله من النبوة العظيمة ، وخالفوه وكذبوه وعادوه وقاتلوه ، فسلط الله عليهم الذل الدنيوي الموصول بالذل الأخروي : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } [البقرة : 61] في الدنيا والآخرة.
وقوله : { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ } يعني بذلك : أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنهم يؤمنون بكل كتاب أنزله الله وبكل نبي بعثه الله ، كما قال تعالى : { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ [ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ] (4) } [البقرة : 285].
ثم أخبر تعالى بأنه قد أعد لهم الجزاء الجزيل والثواب الجليل والعطاء الجميل ، فقال : { أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ } على ما آمنوا بالله ورسله { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } أي : لذنوبهم أي : إن كان لبعضهم ذنوب.
__________
(1) زيادة من ر ، أ.
(2) في ر ، أ : "اسمه".
(3) في ر : "فالله".
(4) زيادة من : ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".

(2/445)


يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآَتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)

{ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) }
قال محمد بن كعب القرظي ، والسدي ، وقتادة : سأل اليهود رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابًا من السماء. كما نزلت التوراة على موسى مكتوبة.
قال ابن جُرَيج : سألوه أن ينزل عليهم صحفا من الله مكتوبة إلى فلان وفلان وفلان ، بتصديقه فيما جاءهم به. وهذا إنما قالوه على سبيل التعنت والعناد والكفر والإلحاد ، كما سأل كفارُ قريش قبلهم نظير ذلك ، كما هو مذكور في سورة "سبحان" : { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا } [الإسراء : 90 ، 93] الآيات. ولهذا قال تعالى : { فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ } أي : بطغيانهم وبغيهم ، وعتوهم وعنادهم. وهذا مفسر في سورة "البقرة" حيث يقول تعالى : { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ. ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [البقرة : 55 ، 56].
وقوله تعالى : { ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ } أي : من بعد ما رأوا من الآيات الباهرة والأدلة القاهرة على يد موسى ، عليه السلام ، في بلاد مصر وما كان من إهلاك عدو الله فرعون (1) وجميع جنوده في اليمّ ، فما جاوزوه إلا يسيرًا حتى أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم ، فقالوا لموسى (2) { اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ. إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (3) } [الأعراف : 138 ، 139]. ثم ذكر تعالى قصة اتخاذهم العجل مبسوطة (4) في سورة "الأعراف" ، وفي سورة "طه" بعد ذهاب موسى إلى مناجاة الله ، عز وجل ، ثم لما رجع وكان ما كان ، جعل الله توبتهم من الذي صنعوه وابتدعوه : أن يقتُلَ من لم يعبد العجل منهم من عبده ، فجعل يقتل بعضهم بعضا ثم أحياهم الله ، عز وجل ، فقال الله عز وجل (5) { فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا }
ثم قال تعالى : { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ } وذلك حين امتنعوا من الالتزام بأحكام التوراة ، وظهر منهم إباء عما جاءهم به موسى ، عليه السلام ، ورفع الله على رؤوسهم جبلا ثم ألزموا فالتزموا وسجدوا ، وجعلوا ينظرون إلى فوق رؤوسهم خشية أن يسقط عليهم ، كما قال تعالى : { وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ [وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] (6) } [الأعراف : 171].
__________
(1) في أ : "فرعون هو".
(2) في د ، ر ، أ : "يا موسى".
(3) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآيتين".
(4) في ر : "مبسوط".
(5) في أ : "قال الله تعالى".
(6) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".

(2/446)


{ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا } أي : فخالفوا ما أمروا به من القول والفعل ، فإنهم أمروا أن يدخلوا باب بيت القدس سجدا ، وهم يقولون : حطة. أي : اللهم حط (1) عنا ذنوبنا في تركنا الجهاد ونكولنا عنه ، حتى تهنا في التيه أربعين سنة. فدخلوا يزحفون على أستاههم ، وهم يقولون : حنطة في شعرة.
{ وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ } أي : وصيناهم بحفظ السبت والتزام ما حرّم الله عليهم ، ما دام مشروعًا لهم { وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا } أي : شديدا ، فخالفوا وعَصَوْا وتحيلوا على ارتكاب مناهى الله ، عز وجل ، كما هو مبسوط في سورة الأعراف عند قوله : { وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ [إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ] (2) } [الأعراف : 163 - 166] الآيات ، وسيأتي حديث صفوان بن عسال ، في سورة "سبحان" عند قوله : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } [الإسراء : 101] ، وفيه : "وعليكم - خاصة يهود - أن لا تعدوا في السبت".
__________
(1) في د : "احطط".
(2) زيادة من ر ، أ.

(2/447)


فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)

{ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) }
وهذه من الذنوب التي ارتكبوها ، مما أوجب لعنتهم وطردهم وإبعادهم عن الهدى ، وهو نقضهم المواثيق والعهود التي أخذت عليهم ، وكفرهم بآيات الله ، أي : حججه وبراهينه ، والمعجزات التي شاهدوها على أيدي الأنبياء ، عليهم السلام.
قوله (1) { وَقَتْلَهُمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ } وذلك لكثرة إجرامهم واجترائهم على أنبياء الله ، فإنهم قتلوا جمّا غفيرًا من الأنبياء [بغير حق] (2) عليهم السلام.
وقولهم : { قُلُوبُنَا غُلْفٌ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جُبَير ، وعكرمة ، والسّدّي ، وقتادة ، وغير واحد : أي في غطاء. وهذا كقول المشركين : { وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ [وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ] (3) } [فصلت : 5]. وقيل : معناه أنهم ادعَوْا أن قلوبهم غُلُف للعلم ، أي : أوعية للعلم قد حوته وحصلته. رواه الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس. وقد تقدم نظيره (4) في سورة البقرة.
__________
(1) في أ : "وقوله".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من د ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(4) في أ : "تفسيره".

(2/447)


قال الله تعالى : { بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } فعلى القول الأول كأنهم يعتذرون إليه بأن قلوبهم لا تعي ما يقول ؛ لأنها في غلف وفي أكنة ، قال الله [تعالى] (1) بل هو مطبوع عليها بكفرهم. وعلى القول الثاني عكس عليهم ما ادَّعَوْه من كل وجه ، وقد تقدم الكلام على مثل هذا في سورة البقرة.
{ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا } أي : مَرَدت قلوبهم على الكفر والطغيان وقلة الإيمان.
{ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : "يعني أنهم رموها بالزنا". وكذا قال السدي ، وجُوَيْبِر ، ومحمد بن إسحاق وغير واحد. وهو ظاهر من الآية : أنهم رموها وابنها بالعظائم ، فجعلوها زانية ، وقد حملت بولدها من ذلك - زاد بعضهم : وهي حائض - فعليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة.
وقولهم : { إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ } أي (2) هذا الذي يدعي لنفسه هذا (3) المنصب قتلناه. وهذا منهم من باب التهكم والاستهزاء ، كقول المشركين : { يَا أَيُّهَا الَّذِي نزلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [الحجر : 6].
وكان من خبر اليهود - عليهم لعائن الله وسخطه وغضبه وعقابه - أنه لما بعث الله عيسى ابن مريم بالبينات والهدى ، حسدوه على ما آتاه الله من النبوة والمعجزات الباهرات ، التي كان يبرئ بها الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ، ويصور من الطين طائرًا ثم ينفخ فيه فيكون طائرًا يشاهَدُ طيرانه بإذن الله ، عز وجل ، إلى غير ذلك من المعجزات التي أكرمه الله بها وأجراها على يديه ، ومع هذا كذبوه وخالفوه ، وسَعَوْا في أذاه بكل ما أمكنهم ، حتى جعل نبي الله عيسى ، عليه السلام ، لا يساكنهم في بلدة ، بل يكثر السياحة هو وأمه ، عليهما السلام ، ثم لم يقنعهم ذلك حتى سعوا إلى ملك دمشق في ذلك الزمان - وكان رجلا مشركًا من عبدة الكواكب ، وكان يقال لأهل ملته : اليونان - وأنهوا إليه : أن ببيت المقدس رجلا يفتن الناس ويضلهم ويفسد على الملك رعاياه. فغضب (4) الملك من هذا ، وكتب إلى نائبه بالقدس أن يحتاط على هذا المذكور ، وأن يصلبه ويضع الشوك على رأسه ، ويكف أذاه على الناس. فلما وصل الكتاب امتثل مُتَولِّي بيت المقدس (5) ذلك ، وذهب هو وطائفة من اليهود إلى المنزل الذي فيه عيسى ، عليه السلام ، وهو في جماعة من أصحابه ، اثنا عشر أو ثلاثة عشر - وقيل : سبعة عشر نفرًا - وكان ذلك يوم الجمعة بعد العصر ليلة السبت ، فحصروه هنالك. فلما أحس بهم وأنه لا محالة من دخولهم عليه ، أو خروجه عليهم قال لأصحابه : أيكم يُلْقَى عليه شبهي ، وهو رفيقي في الجنة ؟ فانتَدَب لذلك شاب منهم ، فكأنه استصغره عن ذلك ، فأعادها ثانية وثالثة وكل ذلك لا يَنْتَدبُ إلا ذلك الشاب - فقال : أنت هو - وألقى اللهُ عليه شبه عيسى ، حتى كأنه هو ،
__________
(1) زيادة من أ.
(2) بعدها في أ : "وبدعواهم البهتان والكذب والإفك والعدوان في قولهم : "إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله".
(3) في ر : : ذلك".
(4) في أ : "فغضب ذلك".
(5) في ر ، أ : "متولي البلد".

(2/448)


وفُتحَت رَوْزَنَة من سقف البيت ، وأخذت عيسى عليه السلام سِنةٌ من النوم ، فرفع إلى السماء وهو كذلك ، كما قال [الله] (1) تعالى : { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا] (2) } الآية [آل عمران : 55].
فلما رفع خرج أولئك النفر فلما رأى أولئك ذلك الشاب ظنوا أنه عيسى ، فأخذوه في الليل وصلبوه ، ووضعوا الشوك على رأسه ، فأظهر اليهود أنهم سعوا في صلبه وتبجحوا بذلك ، وسلم لهم طوائف من النصارى ذلك لجهلهم وقلة عقلهم ، ما عدا من كان في البيت مع المسيح ، فإنهم شاهدوا رفعه ، وأما الباقون فإنهم ظنوا كما ظن اليهود أن المصلوب هو المسيح (3) ابن مريم ، حتى ذكروا أن مريم جلست تحت ذلك المصلوب وبكت ، ويقال : إنه خاطبها ، والله (4) أعلم.
وهذا كله من امتحان الله عباده ؛ لما له في ذلك من الحكمة البالغة ، وقد أوضح (5) الله الأمر وجلاه وبينه وأظهره في القرآن العظيم ، الذي أنزله على رسوله الكريم ، المؤيد بالمعجزات والبينات والدلائل الواضحات ، فقال تعالى - وهو أصدق القائلين ، ورب العالمين ، المطلع على السرائر والضمائر ، الذي يعلم السر في السموات والأرض ، العالم بما كان وما يكون ، وما لم يكن لو كان كيف (6) يكون - : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ } أي : رأوا شبهه فظنوه إياه ؛ ولهذا قال : { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ [وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ] (7) } يعني بذلك : من ادعى قتله من اليهود ، ومن سَلَّمه من جهال النصارى ، كلهم في شك من ذلك وحيرة وضلال وسُعُر. ولهذا قال : { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا } أي : وما قتلوه متيقنين أنه هو ، بل شاكين متوهمين. { بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } أي منيع الجناب لا يرام جنابه ، ولا يضام من لاذ ببابه { حَكِيمًا } أي : في جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور التي يخلقها وله الحكمة البالغة ، والحجة الدامغة ، والسلطان العظيم ، والأمر القديم.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنَان ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن المِنْهَال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء ، خرج على أصحابه - وفي البيت اثنا عشر رجلا من الحواريين - يعني : فخرج عليهم من عين في البيت ، ورأسه يقطر ماء ، فقال : إن منكم من يكفر بي اثنتي عشرة (8) مرة ، بعد أن آمن بي. ثم قال : أيكم يُلْقَى عليه شبهي ، فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي ؟ فقام شاب من أحدثهم سنا ، فقال له : اجلس. ثم أعاد عليهم فقام ذلك الشاب ، فقال : اجلس. ثم أعاد عليهم فقام الشاب فقال : أنا. فقال : أنت هو ذاك. فألقي عليه شَبَه عيسى ورفع عيسى من رَوْزَنَة في البيت إلى السماء. قال : وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبه فقتلوه ، ثم صلبوه وكفر به بعضهم اثنتي عشرة (9) مرة ، بعد أن آمن به ،
__________
(1) زيادة من ، أ.
(2) زيادة من ر ، أ.
(3) في أ : "هو عيسى".
(4) في د ، ر ، أ : "فالله".
(5) في ر : "وضح".
(6) في ر ، أ : "كيف كان يكون".
(7) زيادة من أ.
(8) في د : "اثني عشر" ، وفي ر : "اثنا عشر".
(9) في د : "اثني عشر" ، وفي ر : "اثنا عشر".

(2/449)


وافترقوا ثلاث فرق ، فقالت طائفة : كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء. وهؤلاء اليعقوبية ، وقالت فرقة : كان فينا ابن الله ما شاء ، ثم رفعه الله إليه. وهؤلاء النسطورية ، وقالت فرقة : كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء ، ثم رفعه الله إليه. وهؤلاء المسلمون ، فتظاهرت الكافرتان على المسلمة ، فقتلوها ، فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم.
وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس ، ورواه النسائي عن أبي كُرَيب ، عن أبي معاوية ، بنحوه (1) وكذا ذكر غير واحد من السلف أنه قال لهم : أيكم يلقى عليه شبهي فيقتلَ مكاني ، وهو رفيقي في الجنة ؟
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب القُمّي ، عن هارون بن عنترة ، عن وهب بن مُنَبِّه قال : أتى عيسى وعنده سبعة عشر من الحواريين في بيت وأحاطوا بهم. فلما دخلوا عليه صَوَّرهم الله ، عز وجل ، كلهم على صورة عيسى ، فقالوا لهم : سحرتمونا. ليبرزن لنا عيسى أو لنقتلنكم جميعا. فقال عيسى لأصحابه : من يشري نفسه منكم اليوم بالجنة ؟ فقال رجل منهم : أنا. فخرج إليهم وقال : أنا عيسى - وقد صوره الله على صورة عيسى - فأخذوه وقتلوه وصلبوه. فمن ثَمَّ شُبّه لهم ، فظنوا أنهم قد قتلوا عيسى ، وظنت النصارى مثل ذلك أنه عيسى ، ورفع الله عيسى من يومه ذلك. وهذا سياق غريب جدًّا (2).قال ابن جرير : وقد روي عن وهب نحو هذا القول ، وهو ما حدثني به المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، حدثني عبد الصمد بن مِعْقَل : أنه سمع وهبًا يقول : إن عيسى ابن مريم لما أعلمه الله أنه خارج من الدنيا ، جزع من الموت وشَقَّ عليه ، فدعا الحواريين فصنع لهم طعاما ، فقال : احضروني الليلة ، فإن لي إليكم حاجة. فلما اجتمعوا إليه من الليل عَشَّاهم وقام يخدمهم. فلما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم ويوضئهم بيده ، ويمسح أيديهم بثيابه ، فتعاظموا ذلك وتكارهوه ، فقال : ألا من رد عليَّ شيئا الليلة مما أصنع ، فليس مني ولا أنا منه. فأقرّوه ، حتى إذا فرغ من ذلك قال : أمّا ما صنعت بكم الليلة ، مما خدمتكم على الطعام ، وغسلت أيديكم بيدي ، فليكن لكم بي أسوة ، فإنكم ترون أني خيركم ، فلا يتعظَّم بعضكم على بعض ، وليبذلْ بعضكم نفسه لبعض ، كما بذلت نفسي لكم. وأما حاجتي الليلة التي أستعينكم عليها فتدعون لي الله ، وتجتهدون في الدعاء أن يؤخر أجلي. فلما نصبوا أنفسهم للدعاء ، وأرادوا أن يجتهدوا ، أخذهم النوم حتى لم يستطيعوا دعاء ، فجعل يوقظهم ويقول : سبحان الله! أما تصبرون لي ليلة واحدة تعينونني فيها ؟ قالوا : والله ما ندري ما لنا. لقد كنا نَسْمُر فنكثر السَّمَرَ ، وما نطيق الليلة سَمَرا ، وما نريد دعاء إلا حيل بيننا وبينه. فقال : يُذْهَب بالراعي (3) وتفرق الغنمُ. وجعل يأتي بكلام نحو هذا ينعَي به نفسه. ثم قال : الحقَّ ، ليَكْفُرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات ، وليبيعنّي أحدكم بدراهم يسيرة ، وليأكلن
__________
(1) سنن النسائي الكبرى برقم (11591).
(2) تفسير الطبري (9/368) ، وقد صوب قول وهب بن منبه مع أن الحافظ هنا استغربه. انظر : تفسير الطبري (9/374).
(3) في ر : "الراعي".

(2/450)


ثمني ، فخرجوا وتفرقوا ، وكانت اليهود تطلبه ، وأخذوا شمعون أحد الحواريين ، وقالوا : هذا من أصحابه. فجحد وقال : ما أنا بصاحبه فتركوه ، ثم أخذه آخرون ، فجحد كذلك. ثم سَمعَ صوتَ ديك فبكى وأحزنه ، فلما أصبح أتى أحد الحواريين إلى اليهود فقال : ما تجعلون لي إن دَلَلْتُكُمْ على المسيح ؟ فجعلوا له ثلاثين درهما ، فأخذها ودلَّهم عليه ، وكان شُبِّه عليهم قبل ذلك ، فأخذوه فاستوثقوا منه ، وربطوه بالحبل ، وجعلوا يقودونه ويقولون ، له : أنت كنت تحيي الموتى ، وتنهر الشيطان ، وتبرئ المجنون ، أفلا تنجي نفسك من هذا الحبل ؟ ويبصقون عليه ، ويلقون عليه الشوك ، حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها ، فرفعه الله إليه ، وصلبوا ما شُبِّه لهم فمكث سبعًا.
ثم إن أمه والمرأة التي كان يداويها عيسى عليه السلام ، فأبرأها الله من الجنون ، جاءتا تبكيان حيث المصلوب ، فجاءهما عيسى فقال : علام تبكيان ؟ فقالتا : عليك. فقال : إني قد رفعني الله إليه ، ولم يصبني إلا خير ، وإن هذا شُبِّه لهم فَأمُرَا الحواريين يلقوني إلى مكان كذا وكذا. فلقوه إلى ذلك المكان أحد عشر. وفقدوا الذي كان باعه ودل عليه اليهود ، فسأل عنه أصحابه فقال : إنه ندم على ما صنع فاختنق ، وقتل نفسه فقال : لو تاب لتاب الله عليه. ثم سألهم عن غلام كاد يتبعهم ، يقال له : يحيى ، قال : هو معكم ، فانطلقوا ، فإنه سيصبح كل إنسان يحدّثُ بلغة قومه ، فلينذرهم وليدعهم. سياق غريب جدًّا (1).
ثم قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق قال : كان اسم ملك بني إسرائيل الذي بعث إلى عيسى ليقتله رجلا منهم ، يقال له : داود ، فلما أجمعوا لذلك منه ، لم يفْظع عبد من عباد الله بالموت - فيما ذكر لي - فَظَعَه ولم يجزع منه جزعه ، ولم يدع الله في صرفه عنه دعاءه ، حتى إنه ليقول - فيما يزعمون - "اللهم إن كنت صارفا هذه الكأس عن أحد من خلقك فاصرفها عني" وحتى إن جلده من كرب ذلك ليتفصَّد دما. فدخل المدخل الذي أجمعوا أن يَدْخلوا عليه فيه ليقتلوه هو وأصحابه ، وهم ثلاثة عشر بعيسى ، عليه السلام ، فلما أيقن أنهم داخلون عليه قال لأصحابه من الحواريين - وكانوا اثني عشر رجلا فطرس (2) ويعقوب بن زبدي (3) ويحنس أخو يعقوب ، وأنداربيس ، وفيلبس ، وأبرثلما ومنى وتوماس ، ويعقوب بن حلفيا ، وتداوسيس ، وقثانيا ويودس زكريا يوطا.
قال ابن حميد : قال سلمة ، قال ابن إسحاق : وكان [فيهم فيما] (4) ذكر لي رجل اسمه سرجس ، فكانوا ثلاثة عشر رجلا سوى عيسى ، عليه السلام ، جحدته النصارى ، وذلك أنه هو الذي شُبّه لليهود مكان عيسى [عليه السلام] (5) قال : فلا أدري ما هو ؟ من هؤلاء الاثني عشر ، أو كان ثالث عشر ، فجحدوه حين أقروا لليهود بصلب عيسى ، وكفروا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الخبر عنه. فإن كانوا ثلاثة عشر فإنهم دخلوا المدخل حين دخلوا وهم بعيسى أربعة عشر ، وإن كانوا اثني عشر ، فإنهم دخلوا المدخل [حين دخلوا] (6) وهم ثلاثة عشر.
__________
(1) تفسير الطبري (9/368).
(2) في ر : "فرطوس" ، وفي أ : "قطوس".
(3) في أ : "ويعقونس وندا".
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من أ.
(6) زيادة من أ.

(2/451)


قال ابن إسحاق : وحدثني رجل كان نصرانيا فأسلم : أن عيسى حين جاءه (1) من الله { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ورَافِعُكَ إِلَيَّ } قال : يا معشر الحواريين ، أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة على أن (2) يشبه للقوم في صورتي ، فيقتلوه في مكاني ؟ فقال سرجس : أنا ، يا روح الله. قال : فاجلس في مجلسي. فجلس فيه ، ورفِع عيسى ، عليه السلام ، فدخلوا عليه فأخذوه فصلبوه ، فكان هو الذي صلبوه وشُبّه لهم به ، وكانت عدتهم حين دخلوا مع عيسى معلومة ، قد رأوهم وأحصوا عدتهم. فلما دخلوا عليه ليأخذوه وجدوا عيسى ، فيما يُرَون وأصحابه ، وفقدوا رجلا من العدة ، فهو الذي اختلفوا فيه وكانوا لا يعرفون عيسى ، حتى جعلوا ليودس زكريا يوطا ثلاثين درهما على أن يدلهم عليه ويعرفهم إياه ، فقال لهم : إذا دخلتم عليه فإني سَأقَبلهُ ، وهو الذي أقبل ، فخذوه. فلما دخلوا وقد رفع عيسى ، ورأى سرجس في صورة عيسى ، فلم يشكل (3) أنه عيسى ، فأكب عليه فقبله (4) فأخذوه فصلبوه.
ثم إن يودس زكريا يوطا ندم على ما صنع ، فاختنق بحبل حتى قتل نفسه ، وهو ملعون في النصارى ، وقد كان أحد المعدودين من أصحابه ، وبعض النصارى يزعم أن يودس زكريا يوطا هو الذي شبه لهم ، فصلبوه وهو يقول : "إني لست بصاحبكم. أنا الذي دللتكم عليه". والله (5) أعلم أي ذلك كان (6).
وقال ابن جرير ، عن مجاهد : صلبوا رجلا شبهوه بعيسى ، ورفع الله ، عز وجل ، عيسى إلى السماء حيا.
واختار ابن جرير أن شبه عيسى ألقي على جميع أصحابه.
وقوله تعالى : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا }
قال ابن جرير : اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ } يعني بعيسى { قَبْلَ مَوْتِهِ } يعنى : قبل موت عيسى - يُوَجه ذلك إلى أن جميعهم يصدقون به إذا نزل لقتل الدجال ، فتصير الملل كلها واحدة ، وهي ملة الإسلام الحنيفية ، دين إبراهيم ، عليه السلام.
ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن أبي حُصَين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } قال : قبل موت عيسى ابن مريم. وقال العوفي عن ابن عباس مثل ذلك (7).
وقال أبو مالك في قوله : { إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } قال : ذلك عند نزول عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا آمن به.
__________
(1) في ر ، أ : "جاءه الوحي".
(2) في ر : "حتى".
(3) في أ : "يشكك".
(4) في أ : "فقتله".
(5) في ر : "فالله".
(6) رواه الطبري في تفسيره (9/371) من طريق سلمة عن ابن إسحاق به.
(7) تفسير الطبري (9/380).

(2/452)


وقال الضحاك ، عن ابن عباس : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } يعني : اليهود خاصة. وقال الحسن البصري : يعني النجاشي وأصحابه. ورواهما ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير : وحدثني يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، حدثنا أبو رجاء ، عن الحسن : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } قال : قبل موت عيسى. والله إنه الآن حي عند الله ، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن عثمان اللاحقي ، حدثنا جويرية بن بشر قال : سمعت رجلا قال للحسن : يا أبا سعيد ، قول الله ، [عز وجل] (1) { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } قال : "قبل موت عيسى. إن الله رفع إليه عيسى [إليه] (2) وهو باعثه قبل يوم القيامة مقامًا يؤمن به البر والفاجر".
وكذا قال قتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغير واحد. وهذا القول هو الحق ، كما سنبينه بعد بالدليل القاطع ، إن شاء الله ، وبه الثقة وعليه التكلان.
قال ابن جرير : وقال آخرون : معنى ذلك : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ } قبل موت الكتابي. ذكرَ من كان يُوَجه ذلك إلى أنه إذا عاين علم الحق من الباطل ؛ لأن كل من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين (3) له الحق من الباطل في دينه.
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } قال لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى.
حدثني المثنى ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا شِبْل ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد في قوله : { إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } كل صاحب كتاب يؤمن بعيسى قبل موته - قبل موت صاحب الكتاب - وقال ابن عباس : لو ضربت عنقه لم تخرج نَفْسُه حتى يؤمن بعيسى.
حدثنا ابن حُمَيد ، حدثنا أبو نُمَيْلة يحيى بن واضح ، حدثنا حسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لا يموت اليهودي حتى يشهد أن عيسى عبد الله ورسوله ، ولو عجل عليه بالسلاح.
حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد ، حدثنا عتَّاب بن بَشِير (4) عن خُصَيْف ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } قال : هي في قراءة أبي : { قَبْلَ مَوْتِهِمْ } ليس يهودي يموت أبدا حتى يؤمن بعيسى. قيل لابن عباس : أرأيت إن خَرّ من فوق بيت ؟ قال : يتكلم به في الهُوِيّ. فقيل : أرأيت إن ضربت عنق أحد منهم ؟ قال : يُلَجْلج بها لسانه.
وكذا رَوَى سفيان الثوري عن خصيف ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } قال : لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى ، عليه السلام ، وإن ضرب بالسيف تكلم
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من أ.
(3) في د : "يعلم".
(4) في د : "غياث بن بشير" ، وفي ر : "عتاب بن يشكر".

(2/453)


به ، قال : وإن هَوَى تكلم [به] (1) وهو يَهْوي.
وكذا روى أبو داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن أبي هارون الغَنَوي (2) عن عكرمة ، عن ابن عباس. فهذه كلها أسانيد صحيحة إلى ابن عباس ، وكذا صَحّ عن مجاهد ، وعكرمة ، ومحمد بن سيرين. وبه يقول الضحاك وجُوَيْبر ، والسدي ، وحكاه عن ابن عباس ، ونَقل قراءة أبيّ بن كعب : "قبل موتهم".
وقال عبد الرزاق ، عن إسرائيل ، عن فرات القزاز ، عن الحسن في قوله : { إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } قال : لا يموت أحد منهم حتى يؤمن بعيسى قبل أن يموت.
وهذا يحتمل أن يكون مراد الحسن ما تقدم عنه ، ويحتمل أن يكون مراده ما أراده هؤلاء (3)
قال ابن جرير : وقال آخرون : معنى ذلك : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل موت الكتابي.
ذكر من قال ذلك :
حدثني ابن المثنى ، حدثنا الحجاج بن مِنْهال ، حدثنا حماد ، عن حميد قال : قال عكرمة : لا يموت النصراني ولا اليهودي حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ }
ثم قال ابن جرير : وأولى هذه الأقوال بالصحة القولُ الأولُ ، وهو أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب بعد نزول عيسى ، عليه السلام ، إلا آمن به قبل موته ، أي قبل موت عيسى ، عليه السلام ، ولا شك أن هذا الذي قاله ابن جرير ، رحمه [الله] (4) هو الصحيح ؛ لأنه المقصود من سياق الآي في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه ، وتسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة ذلك ، فأخبر الله أنه لم يكن الأمر كذلك ، وإنما شبه لهم فقتلوا الشبيه وهم لا يتبينون ذلك ، ثم إنه رفعه إليه ، وإنه باق حي ، وإنه سينزل قبل يوم القيامة ، كما دلت عليه الأحاديث المتواترة - التي سنوردها إن شاء الله قريبا - فيقتل مسيح (5) الضلالة ، ويكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية - يعني : لا يقبلها من أحد من أهل الأديان ، بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف - فأخبرت هذه الآية الكريمة أن (6) يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ ، ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم ؛ ولهذا قال : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } أي : قبل موت عيسى ، الذي زعم اليهود ومن وافقهم من النصارى أنه قتل وصلب.
{ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا } أي : بأعمالهم التي شاهدها منهم قبل رفعه إلى السماء وبعد نزوله إلى الأرض. فأما من فسر هذه الآية بأن المعنى : أن كل كتابي لا يموت حتى يؤمن بعيسى أو بمحمد ، عليهما [الصلاة و] (7) والسلام (8) فهذا هو الواقع ، وذلك أن كل أحد عند احتضاره يَتَجَلي له
__________
(1) زيادة من ر.
(2) في د : "العوفي".
(3) تفسير عبد الرزاق (1/170).
(4) زيادة من ر ، أ.
(5) في أ : "مسيخ".
(6) في د ، ر ، أ : "أنه".
(7) زيادة من أ.
(8) في د : "صلى الله عليه وسلم".

(2/454)


ما كان جاهلا به ، فيؤمن به ، ولكن لا يكون ذلك إيمانا نافعا له ، إذا كان قد شاهد الملك ، كما قال تعالى في [أول] (1) هذه السورة : { وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ [ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ] } الآية [النساء : 18] وقال تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْا بَأَْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بَاللهِ وَحْدَهُ[وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا] (2) } الآيتين (3) [غافر : 84 ، 85] وهذا يدل على ضعف ما احتج به ابن جرير في رد (4) هذا القول ، حيث قال : ولو كان المراد بهذه الآية هذا ، لكان كل من آمن بمحمد أو بالمسيح ، ممن كفر بهما - يكون على دينهما ، وحينئذ لا يرثه أقرباؤه من أهل دينه ؛ لأنه قد أخبر الصادق أنه يؤمن به قبل موته. فهذا ليس بجيد ؛ إذ لا يلزم من إيمانه في حالة لا ينفعه إيمانه أنه يصير بذلك مسلمًا ، ألا ترى إلى قول ابن عباس : ولو تردى من شاهق أو ضُرب بسيف أو افترسه سَبُع ، فإنه لا بد أن يؤمن بعيسى" فالإيمان في مثل هذه الحالات ليس بنافع ، ولا ينقل صاحبه عن كفره لما قدمناه ، والله أعلم.
ومن تأهل هذا جيدًا وأمعن النظر ، اتضح له أن هذا ، وإن كان هو الواقع ، لكن لا يلزم منه أن يكون المرادُ بهذه الآية هذا ، بل المراد بها ما ذكرناه من تقرير وجود عيسى ، عليه السلام ، وبقاء حياته في السماء ، وأنه سينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة ؛ ليكذب هؤلاء وهؤلاء من اليهود والنصارى الذين تباينت أقوالهم فيه وتضادّت وتعاكست وتناقضت ، وخلت عن الحق ، ففرّط هؤلاء اليهود وأفرط هؤلاء النصارى : تَنَقَّصه اليهود بما رموه به وأمه من العظائم ، وأطراه النصارى بحيث ادعوا فيه بما ليس فيه ، فرفعوه في مقابلة أولئك عن مقام النبوة إلى مقام الربوبية ، تعالى الله عن قول هؤلاء وهؤلاء علوًّا كبيرًا ، وتنزه وتَقَدّس لا إله إلا هو.
ذكر الأحاديث الواردة في نزول عيسى ابن مريم إلى الأرض من السماء في آخر الزمان قبل يوم القيامة ، وأنه يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له :
قال البخاري ، رحمه الله ، في كتاب ذكر الأنبياء ، من صحيحه المتلقى بالقبول : (نزول عيسى ابن مريم - عليه السلام) : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا أبي ، عن صالح ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "والذي نفسي بيده لَيُوشكَنّ أن ينزل فيكم ابن مريم حَكَمًا عدلا فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ، حتى تكون السجدة خيرا (5) من الدنيا وما فيها". ثم يقول أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا }
وكذا رواه مسلم عن الحسن (6) الحُلْواني وعبد بن حميد كلاهما ، عن يعقوب ، به (7) وأخرجه البخاري ومسلم ، أيضًا ، من حديث سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، به (8) وأخرجاه من طريق الليث عن الزهري به (9) ورواه ابن مردويه من طريق محمد بن أبي حفصة ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يوشك أن يكون فيكم ابنُ مريم حكمًا عدلا
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من أ.
(3) في أ : "الآية".
(4) في د : "رده".
(5) في أ : "خير".
(6) في ر : "حسن".
(7) صحيح البخاري برقم (3448) وصحيح مسلم برقم (155).
(8) صحيح البخاري برقم (2476) وصحيح مسلم برقم (155).
(9) صحيح البخاري برقم (2222) وصحيح مسلم برقم (155).

(2/455)


يقتل الدجال ، ويقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويضع الجزية ، ويفيض المال ، وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين". قال أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ } موت عيسى ابن مريم ، ثم يعيدها أبو هريرة ثلاث مرات (1).
طريق أخرى عن أبي هريرة : قال الإمام أحمد : حدثنا رَوْحٌ ، حدثنا محمد بن أبي حَفْصَة ، عن الزُّهْري ، عن حنظلة (2) بن علي الأسلمي ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لَيُهِلَّن عيسى ابن مريم بفَجِّ الرَّوْحَاء بالحج أو العمرة أو ليثنينهما جميعًا".
وكذا رواه مسلم منفردًا به من حديث سفيان بن عيينة ، والليث بن سعد ، ويونس بن يزيد ، ثلاثتهم عن الزهري به (3).
وقال أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا سفيان - هو ابن حسين - عن الزهري ، عن حنظلة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الخنزير ، ويمحو الصليب ، وتجمع له الصلاة ، ويعطي المال حتى لا يقبل ، ويضع الخراج ، وينزل الروحاء فيحج منها أو يعتمر أو يجمعهما" قال : وتلا أبو هريرة : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ] } فزعم حنظلة (4) أن أبا هريرة قال : يؤمن به قبل موت عيسى ، فلا أدري هذا كله حديث النبي صلى الله عليه وسلم أو شيء قاله أبو هريرة.
وكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن أبي موسى محمد بن المثنى ، عن يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين عن الزهري ، به (5).
طريق أخرى : قال البخاري : حدثنا أبن بُكَير ، حدثنا الليث ، عن يونس ، عن ابن شهاب ، عن نافع مولى أبي قتادة الأنصاري ؛ أن أبا هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كيف أنتم إذا نزل فيكم المسيح ابن مريم ، وإمامكم منكم ؟" تابعه عقيل والأوزاعي.
وهكذا رواه الإمام أحمد ، عن عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، وعن عثمان بن عمر ، عن ابن أبي ذئب ، كلاهما عن الزهري ، به. وأخرجه مسلم من رواية يونس والأوزاعي وابن أبي ذئب ، به (6).
طريق أخرى : قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا همَّام ، أنبأنا قتادة ، عن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الأنبياء إخوة لِعَلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد ، وإني أولى الناس بعيسى ابن مريم ؛ لأنه لم يكن بيني وبينه نبي ، وإنه نازل ، فإذا رأيتموه فاعرفوه : رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ، عليه ثوبان مُمَصّرَان ، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بَلَل ، فيدق الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويدعو الناس إلى الإسلام ، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام ،
__________
(1) ذكره السيوطي في الدر المنثور (2/735).
(2) في أ : "أبي حنظلة".
(3) المسند (2/513) وصحيح مسلم برقم (1252).
(4) في أ : "أبو حنظلة".
(5) المسند (2/290).
(6) صحيح البخاري برقم (3449) والمسند (2/272) من رواية عبد الرزاق و (2/336) من رواية عثمان بن عمر ، وصحيح مسلم برقم (155).

(2/456)


ويهلك الله في زمانه المسيح (1) الدجال ، ثم تقع الأمنة على الأرض ، حتى ترتع الأسود مع الإبل ، والنّمار مع البقر ، والذئاب مع الغنم ، ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم ، فيمكث أربعين سنة ، ثم يُتَوَفى ويصلي عليه المسلمون".
وكذا رواه أبو داود ، عن هُدْبَة بن خالد ، عن همام بن يحيى. رواه ابن جرير - ولم يورد (2) عند هذه الآية سواه - عن بِشْر (3) بن معاذ ، عن يزيد بن هارون ، عن سعيد بن أبي عَروبة - كلاهما عن قتادة ، عن عبد الرحمن بن آدم - وهو مولى أمّ بُرْثُن - صاحب السقاية ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه ، وقال : فيقاتل الناس على الإسلام (4).
وقد روى البخاري ، عن أبي اليمان ، عن شعيب ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم ، والأنبياء أولاد علات ، ليس بيني وبينه نبي" (5).
ثم روى عن محمد بن سِنَان : عن فُلَيْح بن سليمان ، عن هلال بن علي ، عن عبد الرحمن بن أبي عَمْرَة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة ، والأنبياء إخوة لعلات ، أمهاتهم شتى ودينهم واحد" وقال إبراهيم بن طَهْمَان ، عن موسى بن عقبة ، عن صفوان بن سليم ، عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. (6).
حديث آخر : قال مسلم في صحيحه : حدثني زُهَير بن حرب ، حدثنا مُعَلى بن منصور ، حدثنا سليمان بن بلال ، حدثنا سهيل ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق - أو بدابق - فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ ، فإذا تصافّوا قال الروم : خلوا بيننا وبين الذين سَبَوا منا نقاتلهم. فيقول المسلمون : لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا. فيقاتلونهم ، فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدًا ، ويُقْتَلُ ثلثه أفضل الشهداء عند الله [عز وجل] (7) ويفتح الثلث لا يفتنون أبدا فيفتتحون قسطنطينية ، فبينما هم يقسمون الغنائم قد عَلَّقوا سيوفهم بالزيتون ، إذْ صاح فيهم الشيطان : إن المسيح قد خلفكم في أهليكم. فيخرجون ، وذلك باطل. فإذا جاؤوا الشام خرج ، فبينما هم يُعدّون للقتال : يسوون الصفوف ، إذ أقيمت الصلاة ، فينزل عيسى ابن مريم فأمَّهم (8) فإذا رآه عدوّ الله ذاب كما يذوب الملح في الماء ، فلو تركه لانذاب حتى يهلك ولكن يقتله الله بيده ، فيريهم دمه في حَرْبته" (9).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيْم ، عن العَوَّام بن حَوْشَب ، عن جَبَلة بن (10) سُحَيْم ، عن مُؤثر بن عَفَازَة ، عن ابن مسعود ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى
__________
(1) في أ : "المسيخ".
(2) في أ : "يروه".
(3) في أ : "بشير".
(4) المسند (2/406) وسنن أبي داود برقم (4324) وتفسير الطبري (9/388).
(5) صحيح البخاري برقم (3443).
(6) صحيح البخاري برقم (3443).
(7) زيادة من ر ، أ.
(8) في ر : : إمامهم".
(9) صحيح مسلم برقم (2897).
(10) في ر : "عن".

(2/457)


وعيسى ، عليه (1) السلام ، فتذاكروا أمر الساعة ، فردوا أمرهم إلى إبراهيم ، فقال : لا علم لي بها. فردوا أمرهم إلى موسى ، فقال : لا علم لي بها. فردوا أمرهم إلى عيسى ، فقال : أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله ، وفيما عهد إلي ربي - عز وجل - أن الدجال خارج قال : ومعي قضيبان ، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص (2) قال : فيهلكه الله إذا رآني حتى إن الحجر والشجر يقول : يا مسلم ، إن تحتي كافرًا فتعالَ فاقتله : قال : فيهلكهم الله ، ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم ، فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج ، وهم من كل حَدَب ينسلون ، فيطؤون بلادهم ، فلا (3) يأتون على شيء إلا أهلكوه ، ولا يمرون على ماء إلا شربوه ، قال : ثم يرجع الناس إليّ يشكونهم ، فأدعو الله عليهم ، فيهلكهم ويميتهم ، حتى تَجْوَى الأرضُ من نَتْن ريحهم ، وينزل الله المطر ، فيجترف أجسادهم حتى نقذفهم في البحر ، ففيما عهد إلي ربي - عز وجل - أن ذلك إذا كان كذلك أن الساعة كالحامل المتِمّ ، لا يدري أهلها متى تفجؤهم بولادها (4) ليلا أو نهارا.
رواه ابن ماجه ، عن محمد بن بشَّار ، عن يزيد بن هارون ، عن العوام بن حَوْشَب ، به نحوه (5).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن أبي نَضرة قال : أتينا عثمان بن أبي العاص في يوم جمعة ؛ لنعرض عليه مصحفًا لنا على مصحفه ، فلما حضرت الجمعة أمرنا فاغتسلنا ، ثم أتينا (6) بطيب فتطيبنا ، ثم جئنا المسجد فجلسنا إلى رجل ، فحدثنا عن الدجال ، ثم جاء عثمان بن أبي العاص فقمنا إليه ، فجلسنا فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "يكون للمسلمين ثلاثة أمصار : مصر بملتقى البحرين ، ومصر بالحيرة ، ومصر بالشام. فيفزع (7) الناس ثلاث فزعات ، فيخرج الدجال في أعراض الناس ، فيهزم من قبل المشرق ، فأول مصر يرده المصر الذي بملتقى البحرين ، فيصير أهلهم ثلاث فرق : فرقة تُقيم تقول : نُشَامه ننظر ما هو ؟ وفرقة تلحق بالأعراب ، وفرقة تلحق بالمصر الذي يليهم. ومع الدجال سبعون ألفًا عليهم السيجان وأكثر من معه اليهود والنساء ، ثم يأتي المصر الذي يليه ، فيصير أهله ثلاث فرق : فرقة تقول : نشامه وننظر ما هو ؟ وفرقة تلحق بالأعراب ، وفرقة تلحق بالمصر الذي يليهم بغرب الشام وينحاز المسلمون إلى عقبة أَفِيق فيبعثون سَرْحًا لهم ، فيصاب سَرْحهم ، فيشتد ذلك عليهم وتصيبهم (8) مجاعة شديدة وجهد شديد ، حتى إن أحدهم ليحرقُ وتَرَ قَوْسه (9) فيأكله ، فبينما هم كذلك إذ نادى مناد من السَّحَر : "يا أيها الناس ، أتاكم الغوث ثلاثا" فيقول بعضهم لبعض : إن هذا لَصَوْت (10) رجل شبعان ، وينزل عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، عند صلاة الفجر ، فيقول له أميرهم : رُوح الله ، تَقَدَّمْ صَلِّ. فيقول : هذه الأمة أمراء ، بعضهم على بعض. فيتقدم أميرهم فيصلي ، فإذا قضى صلاته أخذ عيسى حَرْبَته ، فيذهب نحو الدَّجال ، فإذا رآه الدجال ذاب كما يذوب الرصاص ، فيضع حَرْبته بين
__________
(1) في د ، ر ، أ : "عليهم".
(2) في ر : "الرضاب".
(3) في د : "ولا".
(4) في أ : "بولادتها".
(5) المسند(1/375) وسنن ابن ماجة برقم (4081) وقال البوصيري في الزوائد (3/260) : "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات".
(6) في ر : "أتانا".
(7) في د : "فزع".
(8) في د : "ويصيبهم".
(9) في ر : "ليحترق وتر قوته".
(10) في ر : "الصوت".

(2/458)


ثَنْدوَته (1) فيقتله وينهزم (2) أصحابه ، فليس يومئذ شيء يواري أحدًا ، حتى إن الشجرة لتقول : يا مؤمن ، هذا كافر. ويقول الحجر : يا مؤمن ، هذا كافر". تفرد به أحمد من هذا الوجه (3).
حديث آخر : قال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه في سننه المشهورة : حدثنا علي بن محمد ، حدثنا عبد الرحمن المحاربي ، عن إسماعيل بن رافع أبي رافع ، عن أبي زُرْعَة الشيباني يحيى بن أبي عمرو ، عن أبي أُمَامة الباهلي قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكان أكثرُ خطبته حديثًا حدثناه عن الدجال ، وحذرناه ، فكان من قوله أن قال :
"لم تكن فتنة في الأرض ، منذ ذرأ الله ذُرِّية آدم ، عليه السلام ، أعظم من فتنة الدجال ، وإن الله لم يبعث نبيًا إلا حَذَّر أُمَّته الدجال. وأنا آخر الأنبياء ، وأنتم آخر الأمم ، وهو خارج فيكم لا محالة ، فإن يخرج وأنا بين ظَهْرَانيكم ، فأنا حجيج لكل مسلم ، وإن يَخْرُجُ من بعدي فكل [امرئ] (4) حجيج نفسه ، والله خليفتي على كل مسلم وإنه يخرج من خَلّة بين الشام والعراق ، فيعيث يمينًا ويعيث شمالا".
"[ألا] (5) يا عباد الله ، أيها الناس ، فاثبتوا. وإني سأصفه لكم صفة لم يصفها إياه نبي قبلي : إنه يبدأ فيقول (6) أنا نبي" فلا نبي بعدي ، ثم يثني فيقول : "أنا ربكم" ، ولا ترون ربكم حتى تموتوا. وإنه أعور وإن ربكم ، عز وجل ، ليس بأعور ، وإنه مكتوب بين عينيه : كافر ، يقرؤه كلّ مؤمن ، كاتب وغير (7) كاتب. وإن من فتنته أن معه جنة ونارا ، فناره جنة وجنته نار. فمن ابتلي بناره فليستغث بالله وليقرأ فواتح الكهف ، فتكون عليه بردًا وسلاما ، كما كانت النار (8) على إبراهيم [عليه السلام] (9) وإن من فتنته أن يقول لأعرابيّ : أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك أتشهد أني ربك ؟ فيقول : نعم. فيتمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه ، فيقولان : يا بني ، اتبعه ، فإنه ربك. وإن من فتنته أن يُسَلّط على نفس واحدة فيقتلها وينشرها بالمنشار ، حتى يُلْقَى شقين ثم يقول : انظروا إلى عبدي هذا ، فإني أبعثه الآن ، ثم يزعم أن له ربًّا غيري. فيبعثه الله ، فيقول له الخبيث : من ربك ، فيقول : ربي الله. وأنت عدو الله ، الدجال ، والله ما كنتُ بعدُ أشدّ بصيرة بك مني اليوم". قال أبو حسن الطَّنَافِسيّ : فحدثنا المحاربي ، حدثنا عبيد الله (10) بن الوليد الوصّافي ، عن عطية ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ذلك الرجل (11) أرفع أمتي درجة في الجنة".
قال : قال أبو (12) سعيد : والله ما كنا نُرَى ذلك الرجل إلا عمر بن الخطاب ، حتى مضى لسبيله (13).
قال (14) المحاربي : ثم رجعنا إلى حديث أبي رافع قال : وإن من فتنته أن يأمر السماء أن تُمْطر ، فتمطر ، ويأمر الأرض أن تنبت ، فتنبت ، [وإن من فتنته أن يَمُر بالحي فيكذبونه ، فلا تبقى لهم سائمة
__________
(1) في أ : "ثندوتيه".
(2) في ر : "ويهزم".
(3) المسند (4/216) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (9/51) من طريق حماد بن سلمة به. وقال الهيثمي في المجمع (7/342) : "فيه علي بن زيد ، وفيه ضعف وقد وثق وبقية رجالهما رجال الصحيح
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من د.
(6) في د : "يقول".
(7) في د : "أو غير".
(8) في أ : "النار بردا".
(9) زيادة من أ.
(10) في ر : "عبد الله".
(11) في أ : "وذلك الرجال".
(12) في ر : "أبي".
(13) في د : "سبيله".
(14) في ر : "ثم قال".

(2/459)


إلا هلكت] (1) وإن من فتنته أن يمر بالحي فيصدقونه ، فيأمر السماء أن تمطر ، فتمطر ، ويأمر الأرض أن تنبت ، فتنبت. حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما كانت وأعظمه ، وأمَدّه خواصر ، وأدره ضُروعا ، وإنه لا يبقى شيء من الأرض إلا وطئه وظهر عليه ، إلا مكة والمدينة ، فإنه لا يأتيهما من نَقْب من نقابهما إلا لقيته الملائكة بالسيوف صَلتة ، حتى ينزل عند الظّرَيب (2) الأحمر ، عند مُنْقَطع السَّبخَة ، فترجف المدينة بأهلها ثلاث رَجَفات ، فلا يبقى منافق ولا منافقة إلا خرج إليه ، فَتَنْفى الخَبَثَ منها كما ينفي الكِيرُ خَبَثَ الحديد ، ويُدعى ذلك اليوم يوم الخلاص.
فقالت أم شَرِيك بنت أبي العَكَر (3) يا رسول الله ، فأين العرب يومئذ ؟ قال : "هم قليل ، وجلهم ببيت المقدس ، وإمامهم رجل صالح ، فبينما إمامهم قد تقدم يُصلي بهم الصبح إذ نزل [عليهم] (4) عيسى [ابن مريم] (5) عليه السلام ، الصبح ، فرجع ذلك الإمام ينكص ، يمشي القهقرى ؛ ليقدم (6) عيسى يصلي بالناس ، فيضع عيسى ، عليه السلام ، يده بين كتفيه ثم يقول : تقدم فصل ، فإنها لك أقيمت. فيصلي بهم إمامهم ، فإذا انصرف قال عيسى ، عليه السلام : افتحوا الباب. فيفتح ، ووراءه الدجال ، معه سبعون ألف يهودي كلهم ذو سيف محلى وساج ، فإذا نظر إليه (7) الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء ، وينطلق هاربًا ، ويقول عيسى [عليه السلام] (8) إن لي فيك ضَرْبَة لن تستبقني بها. فيدركه عند باب لُدّ الشرقي ، فيقتله ، ويهزم الله اليهود ، فلا يبقى شيء مما خلق الله تعالى (9) يتوارى به اليهودي (10) إلا أنطق الله ذلك الشيء ، لا حجر ، ولا شجر ، ولا حائط ، ولا دابة - إلا الغَرْقدة فإنها من شجرهم لا تنطق - إلا قال : يا عبد الله المسلم ، هذا يهودي ، فتعال (11) اقتله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "وإن أيامه أربعون سنة ، السنة كنصف السنة ، والسنة كالشهر ، والشهر كالجمعة ، وآخر أيامه كالشررة ، يصبح أحدكم على باب المدينة فلا يبلغ بابها الآخر حتى يمسي". فقيل له : يا نبي الله (12) كيف نصلي ، في تلك الأيام القصار ؟ قال : "تقدرون فيها الصلاة كما تقدرون في هذه الأيام الطوال. ثم صَلّوا".
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فيكون عيسى ابن مريم في أمتي حكما عدلا وإماما مُقْسطا ، يَدُقُّ الصليب ، ويقتل (13) الخنزير ، ويضع الجزية ، ويترك الصدقة ، فلا يُسْعَى على شاة ولا بعير ، وترتفع الشحناء والتباغض ، وتُنزع حُمَة كل ذات حمة ، حتى يدخل الوليد يده في (14) الحية فلا تضره ، وتُفرُّ الوليدة الأسدّ فلا يضرها ، ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها ، وتملأ الأرضُ من السّلم (15) كما يُمْلأ الإناء من الماء ، وتكون الكلمة واحدة ، فلا يعبد إلا الله ، وتضع الحرب أوزارها ، وتسلب قريش ملكها ، وتكون الأرض كفاثور الفضة تنبت نباتها كعهد آدم ، حتى يجتمع النفر على القِطْف من العنب فيشبعهم ، ويجتمع النفر على الرمانة فتشبعهم ، ويكون الثور بكذا وكذا ، من المال ، ويَكون (16) الفرس بالدريهمات.
__________
(1) زيادة من أ ، وابن ماجه.
(2) في د : "الضرب" ، وفي ر : " : الضريب".
(3) في ر : "العكم".
(4) زيادة من أ ، وابن ماجة".
(5) زيادة من أ ، وابن ماجه.
(6) في ر : "ليتقدم".
(7) في أ : "إليهم".
(8) زيادة من أ.
(9) في أ : "عز وجل".
(10) في د : "يهودي".
(11) في د : "فيقال".
(12) في أ : "يا رسول الله".
(13) في د ، أ : "ويذبح".
(14) في ر ، أ : "في في".
(15) في ر : "المسلم".
(16) في د : "وتكون".

(2/460)


قيل : يا رسول الله ، وما يرخص الفرس ؟ قال : "لا تركب (1) لحرب أبدًا" قيل له : فما يُغلي الثور ؟ قال : "تُحْرث الأرض كلها".
وإن قَبْلَ خروج (2) [الدجال] ثلاث سنوات شداد ، يصيب الناس فيها جوع شديد ، يأمر الله السماء في السنة [الأولى أن تحبس ثلث مطرها ، ويأمر الأرض فتحبس ثلث نباتها ، ثم يأمر السماء في الثانية فتحبس ثلثي مطرها ، ويأمر الأرض فتحبس ثلثي نباتها ، ثم يأمر الله السماء في السنة] (3) الثالثة فتحبس مطرها كله ، فلا تَقْطر قطرة ، ويأمر الأرض أن تحبس نباتها كله ، فلا تُنْبتُ خضراء ، فلا تبقى ذات ظلْف إلا هلكت ، إلا ما شاء الله".
فقيل : فما يعيش الناس في ذلك الزمان ؟ قال : "التهليل والتكبير والتسبيح والتحميد ، ويجرى ذلك عليهم مجرى الطعام".
قال ابن ماجه : سمعت أبا الحسن الطَّنَافِسي يقول : سمعت عبد الرحمن المحاربي يقول : ينبغي أن يدفع هذا الحديث إلى المؤدب ، حتى يعلمه الصبيان في الكتاب.
هذا حديث غريب جدًّا من هذا الوجه (4) ، ولبعضه شواهد من أحاديث أخر ؛ ولنذكر حديث النواس بن سمعان هاهنا لشبهه بسياقه هذا الحديث ، قال مسلم بن الحجاج في صحيحه :
حدثنا أبو خَيْثَمَةَ زُهَير بن حرب ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، حدثني يحيى بن جابر الطائي قاضي حمص ، حدثني عبد الرحمن بن جبير ، عن أبيه جبير بن نُفَير الحضرمي أنه سمع النواس بن سمعان الكلابي(ح) وحدثنا محمد بن مِهْران الرازي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن يحيى بن جابر الطائي ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن أبيه جُبَيْر ، بن نُفَيْر ، عن النوّاس بن سَمْعان قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة ، فخفَّض فيه ورَفَّع ، حتى ظنناه في طائفة النخل ، فلما رحلنا إليه عرف ذلك فينا ، فقال : "ما شأنكم ؟" قلنا : يا رسول الله ، ذكرت الدجال غداة فخفَّضت فيه ورفَّعت حتى ظنناه في طائفة النخل فقال : "غير الدجال أخْوَفُني عليكم ، إن يخرج وأنا فيكم فأنا حَجيجه دونكم ، وإن يَخْرُجْ ولست فيكم فامرؤ حَجيجُ نفسه ، والله خليفتي على كل مسلم : إنه شابٌّ قَططُ عينه طافية ، كأني أشبهه بعبد العزى بن قَطَن ، من أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف ، إنه خارجُ خَلَّة بين الشام والعراق ، فعاثَ يمينًا وعاثَ شمالا. يا عباد الله ، فاثبتوا" : قلنا : يا رسول الله ، وما (5) لَبْثَتَه (6) في الأرض ؟ قال : "أربعين يوما ، يوم كسنة ، ويوم كشهر ، ويوم كجمعة ، وسائر أيامه كأيامكم".
__________
(1) في د : "يركب".
(2) في د : "خروجه".
(3) زيادة من د ، ر ، وابن ماجه.
(4) سنن ابن ماجة برقم (4077) ، وفي إسناده عبد الرحمن بن محمد المحاربي. قال ابن معين : "يروي المناكير عن المجهولين" ، وقال أبو حاتم : صدوق إذا حدث عن الثقات ، ويروي عن المجهولين أحاديث منكرة فيفسر حديثه بروايته عن المجهولين.
وهو هنا يروي عن إسماعيل بن رافع المدني ، وهو ضعيف ضعفه ابن معين والنسائي. وقال أبو حاتم : منكر الحديث ، وقال ابن عدي : "أحاديثه كلها مما فيه نظر ، إلا أنه يكتب حديثه في جملة الضعفاء".
(5) في ر : "فما".
(6) في أ : "لبثه".

(2/461)


قلنا : يا رسول الله ، فذلك (1) اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم ؟ قال : "لا اقدروا له قدره". قلنا : يا رسول الله ، وما إسراعه في الأرض ؟ قال (2) كالغيث استدبرته الريح ، فيأتي على قوم فيدعوهم ، فيؤمنون به ويستجيبون له ، فيأمر السماءَ فتمطر ، والأرض فتنبت ، فتروح عليهم سارحتُهم أطول ما كانت ذُرَي ، وأسبغه ضُروعا ، وأمده خواصر ، ثم يأتي القوم فيدعوهم ، فيردون عليه قوله ، فينصرف عنهم ، فيصبحون مُمْحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم. ويمر بالخَرِبة فيقول لها : أخرجي كنوزك. فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل. ثم يدعو رجلا ممتلئًا شبابًا ، فيضربه بالسيف ، فيقطعه جزْلتين رَمْيَةَ الغرض ، ثم يدعوه فيُقْبلُ ويتهلل (3) وجهه ويضحك (4) فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح ابن مريم ، عليه السلام ، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق ، بين مَهْرودَتَيْنِ ، واضعًا كفيه على أجنحة مَلَكين ، إذا طأطأ رأسه قَطَر ، وإذا رفعه تَحدّر منه جُمَان كاللؤلؤ ، ولا يَحل لكافر يجد ريح نَفسه إلا مات ونَفَسُه ينتهي (5) حيث ينتهي طَرفه ، فيطليه حتى يدركه بباب لُدّ فيقتله.
ثم يأتي عيسى ، عليه السلام ، قومًا قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويحدِّثهم بدرجاتهم في الجنة ، فبينما (6) هو كذلك إذ أوحى الله ، عز وجل ، إلى عيسى إني قد أخرجت عبادا لي لا يَدَانِ لأحد بقتالهم ، فحرّز عبادي إلى الطور.
ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حَدَب يَنْسلون ، فيمر أوائلهم على بحيرة طَبَرية (7) فيشربون ما فيها ، ويمر آخرهم (8) فيقولون : لقد كان بهذه مَرّة ماء. ويُحْصَر نبي الله عيسى وأصحابه ، حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيرًا (9) من مائة دينار لأحدكم اليوم ، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه ، فيرسل الله عليهم النَّغَفَ في رقابهم فيصبحون فَرْسَى كموت نفس واحدة.
ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض ، فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زَهَمُهُمْ ونَتْنُهم ، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله ، فيرسل الله طيرًا كأعناق البُخْت ، فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله.
ثم يرسل الله مطرا لا يكُن (10) منه بيت مَدَر ولا وَبَر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلَفَة ، ثم يقال للأرض : أخرجي ثَمَرَك ورُدّي بركتك. فيومئذ تأكل العُصَابة من الرمانة ، ويستظلون بقَحْفِها ، ويبارك الله في الرَّسْل حتى إن اللَّقْحَة من الإبل لتكفي الفئام من الناس واللقحة من الفَم لتكفى الفخذ من الناس ، فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحًا طيبة ، فتأخذهم تحت آباطهم ، فتقبض الله روح كل مؤمن وكل مسلم ، ويبقى شرار الناس يَتَهَارَجُون فيها تهارُجَ الحُمُر ، فعليهم تقوم الساعة" (11).
ورواه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، به. وسنذكره أيضًا
__________
(1) في د : "وذلك".
(2) في ر : "فقال".
(3) في د : "متهلل".
(4) في و : "وجهه يضحك
(5) في ر : "تنتهي".
(6) في د : "فبينما هم وهو".
(7) في ر : "الطبرية".
(8) في ر : "أحدهم".
(9) في أ : "خير".
(10) في ر : "يمكن".
(11) صحيح مسلم برقم (2137) والمسند (4/182) وسنن أبي داود برقم (4321) وسنن الترمذي برقم (2240) وسنن النسائي الكبرى برقم (10783) وسنن ابن ماجة برقم (40375).

(2/462)


من طريق أحمد ، عند قوله تعالى في سورة الأنبياء : { حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ [وَهُمْ مِنْ كُلِ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ] (1) } [الأنبياء : 96].
حديث آخر : قال مسلم في صحيحه أيضًا : حدثنا عبيد الله (2) بن معاذ بن معاذ العَنْبِريّ ، حدثنا أبي ، حدثنا شعبة ، عن النعمان بن سالم قال : سمعت يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي يقول : سمعت عبد الله بن عمرو - وجاءه رجل فقال - : ما هذا الحديث الذي تُحدث به تقول : إن الساعة تقوم إلى (3) كذا وكذا ؟ فقال : سبحان الله ؟! - أو : لا إله إلا الله ، أو كلمة نحوها - لقد هممتُ ألا أحدث أحدا شيئا أبدا ، إنما قلت : إنكم سترون بعد قليل أمرًا عظيمًا : يُحرِّق البيت ، ويكون ويكون. ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يخرج الدجال في أمتي ، فيمكث أربعين ، لا أدري أربعين يومًا ، أو أربعين شهرًا ، أو أربعين عامًا ، فيبعث الله تعالى عيسى ابن مريم ، كأنه عروة بن مسعود ، فيطلبه فيهلكه ، ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة ، ثم يرسل الله ريحًا باردة من قبل الشام ، فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير (4) - أو إيمان - إلا قبضته ، حتى لو أن أحدكم دخل في كَبَد جبل لَدَخَلَتْه عليه حتى تَقْبضَه" قال : سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "فيبقى شرار الناس في خفَّة الطير وأحلام السباع ، لا يعرفون معروفا ، ولا ينكرون منكرًا ، فيتمثل لهم الشيطان فيقول : ألا تستجيبون ؟ فيقولون : فما تأمرنا ؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان ، وهم في ذلك دارٌّ رزقهم ، حسن عيشهم. ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى لِيتًا ، ورفع لِيتًا ، قال : وأول من يسمعه رجل يَلُوط حوض إبله ، قال : فَيَصْعَقُ ويَصعَقُ الناس. ثم يرسل الله - أو قال : ينزل الله - مطرًا كأنه الطَّل - أو قال : الظل - نُعْمَان الشاك (5) - فتنبت منه أجساد الناس ، ثم يَنْفُخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون. ثم يقال : يا أيها الناس ، هلموا إلى ربكم ، { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ } [الصافات : 24] قال : "ثم يقال : أخرجوا بَعْثَ النار. فيقال : من كم ؟ فيقال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين". قال (6) { يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا } [المزمل : 17] وذلك { يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ } [القلم : 42].
ثم رواه مسلم والنسائي في تفسيره جميعًا عن محمد بن بشار ، عن غُنْدَر ، عن شعبة ، عن النعمان بن سالم ، به (7).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن عبد الله بن عبيد الله (8) بن ثعلبة الأنصاري ، عن عبد الله بن يزيد (9) الأنصاري ، عن مُجَمِّع بن جارية (10) قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "يقتل ابن مريم المسيح الدجال بباب لُدّ - أو : إلى جانب لُدّ" (11).
ورواه أحمد أيضا ، عن سفيان بن عيينة من حديث الليث والأوزاعي ، ثلاثتهم عن الزُّهري ،
__________
(1) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(2) في ر : "عبد الله".
(3) في أ : "على".
(4) في د : "حبة خردل".
(5) في أ : "بعمان السيل".
(6) في د ، ر ، أ : "قال وذلك يوم".
(7) صحيح مسلم برقم (2940) وسنن النسائي الكبرى برقم (11629).
(8) في د : "عبيد الله بن عبد الله".
(9) في "هـ" : زيد.
(10) في أ : "حارثة".
(11) المسند (3/420).

(2/463)


عن عبد الله بن عبيد الله بن ثعلبة ، عن عبد الرحمن بن يزيد عن عمه مُجَمِّع ابن جارية (1) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يقتل ابن مريم الدجال بباب لُد".
وكذا رواه الترمذي ، عن قتيبة ، عن الليث ، به. وقال : هذا حديث صحيح. قال : وفي الباب عن عمران بن حصين ، ونافع بن عتبة ، وأبي بَرْزَة ، وحذيفة بن أسيد ، وأبي هريرة. وكَيْسان ، وعثمان بن أبي العاص ، وجابر ، وأبي أمامة ، وابن مسعود ، وعبد الله بن عمرو ، وسَمُرة بن جُنْدب ، والنواس بن سمعان ، وعمرو بن عوف ، وحذيفة بن اليمان ، رضي الله عنهم (2) (3).
ومراده برواية هؤلاء ما فيه ذكر الدجال. وقتل عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، له. فأما أحاديث ذكر الدجال فقط فكثيرة جدًّا ، وهي أكثر من أن تحصر ؛ لانتشارها وكثرة رواتها في الصحاح والحسان والمسانيد ، وغير ذلك (4).
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، عن فُرَات ، عن أبي الطُّفَيل ، عن حذيفة بن أسيد الغِفَاري قال : أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ونحن نتذاكر الساعة ، فقال : "لا تقوم الساعة حتى ترون عشر آيات : طلوع الشمس من مغربها ، والدُّخَان ، والدابة ، وخروج يأجوج ومأجوج ، ونزول (5) عيسى ابن مريم ، والدجال ، وثلاثة خُسوف : خَسْف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب. ونار تخرج من قعر عَدَن ، تسوق - أو تحشر - الناس ، تبيت معهم حيث باتوا ، وتَقيل معهم حيث قالوا".
وهكذا رواه مسلم وأهل السنن من حديث فُرَات القزاز (6) به. ورواه مسلم أيضًا من رواية عبد العزيز بن رُفَيع عن أبي الطفيل عن أبي سَريحَة حذيفة بن أُسَيد الغفاري ، موقوفًا (7) والله أعلم.
فهذه أحاديث متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة ، وابن مسعود ، وعثمان بن أبي العاص ، وأبي أمامة ، والنواس بن سمعان ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، ومُجَمِّع بن جارية (8) وأبي سَرِيحة وحذيفة بن أُسَيْد ، رضي الله عنهم.
وفيها دلالة على صفة نزوله ومكانه ، من أنه بالشام ، بل بدمشق ، عند المنارة (9) الشرقية ، وأن ذلك يكون عند إقامة الصلاة للصبح (10) وقد بنيت في هذه الأعصار ، في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة منارة للجامع الأمَويّ بيضاء ، من حجارة منحوتة ، عِوَضا عن المنارة التي هدمت بسبب الحريق المنسوب إلى صنيع النصارى - عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة - وكان أكثر عمارتها
__________
(1) في أ : "حارثة".
(2) في أ : "رضي الله عنهم أجمعين".
(3) المسند (3/420) وسنن الترمذي برقم (2244).
(4) وقد ذكر هذه الأحاديث وبسط الكلام عليها المؤلف الحافظ ابن كثير في كتابه : النهاية في الفتن والملاحم.
(5) في د ، أ : "وخروج".
(6) المسند (4/6) بسياق مختلف ، وهذا هو سياق رواية ابن مهدي عن سفيان ، وهي في المسند (4/7) ورواه مسلم في صحيحه برقم (2901) وأبو داود في السنن برقم (4311) والترمذي في السنن برقم (2183) وابن ماجة في السنن برقم (4055).
(7) صحيح مسلم برقم (2901)
(8) في أ : "حارثة".
(9) في د : "منارته".
(10) في د : "عند إقامة صلاة الصبح".

(2/464)


من أموالهم ، وقويت الظنون أنها هي التي ينزل عليها [المسيح] (1) عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، فيقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ويضع الجزية ، فلا يقبل إلا الإسلام كما تقدم في الصحيحين ، وهذا إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، وتقرير وتشريع وتسويغ له على ذلك في ذلك الزمان ، حيث تنزاح عللهم ، وترتفع شبههم من أنفسهم ؛ ولهذا كلهم يدخلون في دين الإسلام مُتَابَعَة لعيسى ، عليه السلام ، وعلى يديه ؛ ولهذا قال تعالى : { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا] (2) }.
وهذه الآية كقوله [تعالى] (3) { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ } [الزخرف : 61] وقرئ : "عَلَم" بالتحريك ، أي إشارة (4) ودليل على اقتراب الساعة ، وذلك لأنه ينزل بعد خروج المسيح الدجال ، فيقتله الله على يديه ، كما ثبت في الصحيح : "إن الله لم يخلق داء إلا أنزل له شفاء" (5) ويبعث الله في أيامه يأجوج ومأجوج ، فيهلكهم الله [به] (6) ببركة دعائه ، وقد قال تعالى : { حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ. وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ } الآية [الأنبياء : 96 ، 97].
صفة عيسى عليه السلام :
قد تقدم في حديث عبد الرحمن بن آدم ، عن أبي هريرة [رضي الله عنه] (7) فإذا رأيتموه فاعرفوه : رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ، عليه ثوبان ممصران ، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل". وفي حديث النواس بن سمعان : "فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق ، بين مَهْرُودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين ، إذا طأطأ رأسه قطر ، وإذا رفعه تحدّر منه مثل جُمَان اللؤلؤ ، ولا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونَفَسُه ينتهي حيث ينتهى طَرْفُه".
وروى البخاري ومسلم ، من طريق الزهري ، عن سعيد بن المسيَّب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ليلة أسري بي لقيت موسى" ، قال : فَنَعَتَه "فإذا رجل - حسبته قال : - مضطرب (8) رجْلُ الرأس ، كأنه من رجال شنوءة". قال : "ولقيت عيسى" فنعته النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "رَبْعَة أحمر ، كأنما خرج من ديماس - يعني الحمام - ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به" (9) الحديث.
وروى البخاري ، من حديث مجاهد ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "رأيت موسى وعيسى وإبراهيم ، فأما (10) عيسى فأحمر جَعْدُ عريض الصدر ، وأما موسى فآدم جسيم سبط ، كأنه من رجال الزّط" (11).
__________
(1) زيادة من د ، أ.
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من : د ، ر ، أ.
(4) في د ، أ : "أمارة".
(5) صحيح البخاري برقم (5678) من حديث أبي هريرة ولفظه : "ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء".
(6) زيادة من د.
(7) زيادة من أ.
(8) في د : "قال حسبته مضطرب".
(9) صحيح البخاري برقم (3437) وصحيح مسلم برقم (168).
(10) في د : "أما".
(11) صحيح البخاري برقم (3438) وقد رجح الحافظ ابن حجر في فتح الباري (6/484) أن الصواب عن ابن عباس لا عن ابن عمر فليراجع هناك.

(2/465)


وله ولمسلم من طريق موسى بن عقبة ، عن نافع قال : قال عبد الله بن عمر : ذَكَر النبي صلى الله عليه وسلم يوما بين ظَهْرَاني الناس المسيح الدجال فقال : "إن الله ليس بأعور ، ألا إن المسيح الدجال أعور العين اليمنى ، كأن عينه عنَبَةٌ طافية وأراني الله عند الكعبة في المنام ، فإذا رجل آدَم ، كأحسن ما ترى من أدم الرجال ، تضرب لمَّته بين منكبيه ، رَجْل الشعر ، يقطر رأسه ماء ، واضعا يديه على منكبي رجلين ، وهو يطوف بالبيت ، فقلت : من هذا ؟ فقالوا : المسيح ابن مريم (1) ثم رأيت وراءه رجلا جَعْدًا قَطَطًا ، أعور عين اليمنى ، كأشبه من رأيت بابن قَطَن ، واضعا يديه على منكبي رجل يطوف بالبيت ، فقلت : من هذا ؟ قالوا : المسيح الدجال". تابعه عبيد الله عن نافع (2).
ثم رواه (3) البخاري عن أحمد بن محمد المكِّي ، عن إبراهيم بن سعد ، عن الزهري ، عن سالم ، عن أبيه قال : لا والله ما قال النبي صلى الله عليه سلم لعيسى [عليه السلام] (4) أحمر ، ولكن قال : "بينما أنا نائم أطوف بالكعبة ، فإذا رجل آدم سَبْط الشعر ، يتهادى بين رجلين يَنْطف رأسه ماء - أو يُهرَاق رأسه ماء - فقلت : من هذا ؟ فقالوا : ابن مريم. فذهبت ألتفت ، فإذا رجل أحمر جسيم ، جَعْد الرأس ، أعور عينه اليمنى ، كأن عينه عنبة طافية. قلت : من هذا ؟ قالوا : الدجال. وأقرب الناس به شبها ابن قَطَن". قال الزهري : رجل من خزاعة هلك في الجاهلية (5).
هذه كلها ألفاظ البخاري ، رحمه الله ، وقد تقدم في حديث عبد الرحمن بن آدم عن أبي هريرة : أن عيسى ، عليه السلام ، يمكث في الأرض بعد نزوله أربعين سنة ، ثم يُتوفى ويصلي عليه المسلمون.
وفي حديث عبد الله بن عمرو عند مسلم : أنه يمكث سبع سنين ، فيحتمل - والله أعلم - أن يكون المراد بلبثه في الأرض أربعين سنة ، مجموع إقامته فيها قبل رفعه وبعد نزوله ، فإنه رفع وله ثلاث وثلاثون سنة في الصحيح ، وقد ورد ذلك في حديث في صفة أهل الجنة : أنهم على صورة آدم وميلاد عيسى ثلاث وثلاثين سنة. وأما ما حكاه ابن عساكر عن بعضهم أنه رُفع وله مائة وخمسون سنة ، فشاذ غريب بعيد. وذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر في ترجمة عيسى ابن مريم من تاريخه ، عن بعض السلف : أنه يدفن مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجرته ، فالله أعلم (6).
وقوله تعالى : { وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا } قال قتادة : يشهد عليهم أنه قد بلغهم الرسالة من الله ، وأقر بالعبودية لله (7) عز وجل ، وهذا كقوله تعالى في آخر سورة المائدة : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ. مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ] (8) الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } [المائدة : 116 - 118].
__________
(1) في د : "قالوا هو المسيح".
(2) صحيح البخاري برقم (3439 ، 3440) ، وصحيح مسلم برقم (169).
(3) في د : "روى".
(4) زيادة من أ.
(5) صحيح البخاري برقم (3441).
(6) تاريخ دمشق (14/106 المخطوط) ومختصر تاريخ دمشق لابن منظور (20/154) بإسناده إلى عبد الله بن سلام رضي الله عنه ، قال البخاري : هذا لا يصح عندي ولا يتابع عليه.
(7) في د : "بعبودية الله".
(8) زيادة من أ ، وفي هـ : "إلى قوله".

(2/466)


فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)

{ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162) }
يخبر ، تعالى ، أنه بسبب ظلم اليهود بما ارتكبوه من الذنوب العظيمة ، حَرّم عليهم طيبات كان أحلها لهم ، كما قال ابن أبي حاتم :
حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المُقْرِي ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عَمْرو ، وقال : قرأ ابن عباس : "طيبات كانت أحلت لهم".
وهذا التحريم قد يكون قدريا ، بمعنى : أنه تعالى قيضهم لأن تأولوا في كتابهم ، وحرَّفوا وبدلوا أشياء كانت حلالا لهم ، فحرموها على أنفسهم ، تشديدًا منهم على أنفسهم وتضييقًا وتنطعا. ويحتمل أن يكون شرعيًا بمعنى : أنه تعالى حَرّم عليهم في التوراة أشياء كانت حلالا لهم قبل ذلك ، كما قال تعالى : { كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنزلَ التَّوْرَاةُ } [آل عمران : 93] وقد قدمنا الكلام على هذه الآية وأن المراد : أن الجميع من الأطعمة كانت حلالا لهم ، من قبل أن تنزل التوراة ما عدا ما كان حرم إسرائيل على نفسه من لحوم الإبل وألبانها. ثم إنه تعالى حرم أشياء كثيرة في التوراة ، كما قال في سورة الأنعام : { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } [الأنعام : 146] أي : إنما حرمنا عليهم ذلك ؛ لأنهم يستحقون ذلك بسبب بغيهم وطغيانهم ومخالفتهم رسولهم واختلافهم عليه. ولهذا قال : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا } أي : صدوا الناس وصدوا أنفسهم عن اتباع الحق. وهذه سَجِيَّة لهم متصفون بها من قديم الدهر وحديثه ؛ ولهذا كانوا أعداء الرسل ، وقتلوا خَلْقًا من الأنبياء ، وكذَبوا عيسى ومحمدًا ، صلوات الله وسلامه عليهما.
وقوله : { وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ } أي : أن الله قد نهاهم عن الربا فتناولوه وأخذوه ، واحتالوا عليه بأنواع من الحيل وصنوف من الشبه ، وأكلوا أموال الناس بالباطل. قال تعالى : { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا }

(2/467)


ثم قال تعالى : { لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ } أي : الثابتون في الدين لهم قدم راسخة في العلم النافع. وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة آل عمران.
{ وَالْمُؤْمِنُونَ } عطف على الراسخين ، وخبره { يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ }
قال ابن عباس : أنزلت في عبد الله بن سلام ، وثعلبة بن سعية. وأسد وزيد بن سعية وأسد بن عبيد ، الذين دخلوا في الإسلام ، وصدقوا بما أرسل الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم.
وقوله : { وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ } هكذا هو في جميع المصاحف الأئمة ، وكذا هو في مصحف أُبَيّ بن كعب. وذكر ابن جرير أنها في مصحف ابن مسعود : "والمقيمون الصلاة" ، قال : والصحيح قراءة الجميع. ثم رَدّ على من زعم أن ذلك من غلط الكُتَّاب (1) ثم ذكر اختلاف الناس فقال بعضهم : هو منصوب على المدح ، كما جاء في قوله : { وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا } [البقرة : 177] ، قالوا : وهذا سائغ في كلام العرب ، كما قال الشاعر (2) :
لا يَبْعَدَن قومي الذين همُو... سُمّ (3) العداة وآفة الجُزرِ...
النازلين بكل مُعَْتركٍ... والطَّيّبُونَ مَعَاقِدَ الأزْرِ...
وقال آخرون : هو مخفوض عطفا على قوله : { بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ } يعني : وبالمقيمين الصلاة.
وكأنه يقول : وبإقامة الصلاة ، أي : يعترفون بوجوبها وكتابتها عليهم ، أو أن المراد بالمقيمين الصلاة الملائكة ، وهذا اختيار ابن جرير ، يعني : يؤمنون بما أنزل إليك ، وما أنزل من قبلك ، وبالملائكة. وفي هذا نظر والله أعلم.
وقوله : { وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } يحتمل أن يكون المراد زكاة الأموال ، ويحتمل زكاة النفوس ، ويحتمل الأمرين ، والله أعلم.
{ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي : يصدقون بأنه لا إله إلا الله ، ويؤمنون بالبعث بعد الموت ، والجزاء على الأعمال خيرها وشرها.
وقوله : { أُولَئِكَ } هو الخبر عما تقدم { سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا } يعني : الجنة.
__________
(1) في د ، ر ، أ : "الكاتب".
(2) وهي الخرنق بنت بدر بن هفان ، والبيت في ديوانها : (29) أ. هـ مستفاد من مطبوعة الشعب.
(3) في ر : "أزد" وفي أ : "أسد".

(2/468)


إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)

{ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا (163) وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) }
قال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال سُكَين وعَديّ بن زيد : يا محمد ، ما نعلم أن الله أنزل (1) على بشر من شيء بعد موسى. فأنزل الله في ذلك من قولهما : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ } إلى آخر الآيات.
وقال ابن جرير : حدثنا الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا أبو مَعْشر ، عن محمد بن كعب القرظي قال : أنزل الله : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ } إلى قوله { وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا } فما تلاها عليهم - يعني على اليهود - وأخبرهم بأعمالهم الخبيثة ، جحدوا كل ما أنزل الله وقالوا : ما أنزل الله على بشر من شيء ، ولا موسى ولا عيسى ، ولا على نبي من شيء. قال : فحَلّ حُبْوته ، وقال : ولا على أحد.. فأنزل الله عز وجل : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ } [الأنعام : 91].
وفي هذا الذي قاله محمد بن كعب القرظي نظر ؛ فإن هذه الآية مكية في سورة الأنعام ، وهذه الآية التي في سورة النساء مدنية ، وهي رد عليهم لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتابًا من السماء ، قال الله تعالى { فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ } [النساء : 153] ، ثم ذكر فضائحهم ومعايبهم وما كانوا عليه ، وما هم عليه الآن من الكذب والافتراء. ثم ذكر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم كما أوحى إلى غيره من الأنبياء المتقدمين ، فقال : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا }
والزبور : اسم الكتاب الذي أوحاه الله إلى داود ، عليه السلام ، وسنذكر ترجمة كل واحد من هؤلاء الأنبياء ، عليهم من الله [أفضل] (2) الصلاة والسلام ، عند قصصهم في السور الآتية ، إن شاء الله ، وبه الثقة ، وعليه التكلان.
وقوله { وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ } أي : من قبل هذه الآية ، يعني : في السور المكية وغيرها.
وهذه تسمية الأنبياء الذين نُصَّ (3) على أسمائهم في القرآن ، وهم : آدم وإدريس ، ونوح ، وهود ، وصالح ، وإبراهيم ، ولوط ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، ويوسف ، وأيوب ، وشعيب ، وموسى ، وهارون ، ويونس ، وداود ، وسليمان ، وإلياس ، والْيَسَع ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى [عليهم الصلاة والسلام] (4) وكذا ذو الكفل عند كثير من المفسرين ، وسيدهم محمد صلى الله وعليه وسلم.
وقوله : { وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ } أي : خلقا آخرين لم يذكروا في القرآن ، وقد (5) اختلف في
__________
(1) في ر : "ما نعلم أنزل الله".
(2) زيادة من أ.
(3) في د : "نص الله".
(4) زيادة من أ.
(5) في د : "ولذا".

(2/469)


عدة الأنبياء والمرسلين والمشهور في ذلك حديث أبي ذر الطويل ، وذلك فيما رواه ابن مَرْدُويه ، رحمه الله ، في تفسيره ، حيث قال : حدثنا إبراهيم بن محمد ، حدثنا جعفر بن محمد بن الحسن ، والحسين بن عبد الله بن يزيد قالا حدثنا إبراهيم بن هشام بن يحيى الغساني (1) حدثني أبي عن جدي ، عن أبي إدريس الخَوْلاني ، عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله ، كم الأنبياء ؟ قال : "مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا". قلت : يا رسول الله ، كم الرسل منهم ؟ قال : "ثلاثمائة وثلاثة عشر جَمّ غَفِير". قلت : يا رسول الله ، من كان أولهم ؟ قال : "آدم". قلت : يا رسول الله ، نبي مرسل ؟ قال : "نعم ، خلقه الله بيده ، ونفخ فيه من روحه ، ثم سَوَّاه قِبَلا". ثم قال : "يا أبا ذر ، أربعة سريانيون : آدم ، وشيث ، ونوح ، وخَنُوخ - وهو إدريس ، وهو أول من خط بقلم - وأربعة من العرب : هود ، وصالح ، وشعيب ، ونبيك يا أبا ذر ، وأول نبي من أنبياء بني إسرائيل موسى ، وآخرهم عيسى. وأول النبيين آدم ، وآخرهم نبيك".
قد روى هذا الحديث بطوله الحافظ أبو حاتم ابن حبان البستي في كتابه : "الأنواع والتقاسيم" وقد وَسَمَه بالصحة ، وخالفه أبو الفرج بن الجوزي ، فذكر هذا الحديث في كتابه "الموضوعات" ، واتهم به إبراهيم بن هشام هذا ، ولا شك أنه قد تكلم فيه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل من أجل هذا الحديث (2) فالله أعلم.
وقد روي الحديث (3) من وجه آخر ، عن صحابي آخر ، فقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عوف ، حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا مُعَان بن رفاعة ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أُمَامة قال : قلت : يا نبي الله ، كم الأنبياء ؟ قال : "مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غَفِيرًا".
مُعَان بن رفاعة السَّلامي ضعيف ، وعلي بن يزيد ضعيف ، والقاسم أبو عبد الرحمن ضعيف أيضا (4).
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا أحمد بن إسحاق أبو عبد الله الجوهري البصري ، حدثنا مكي بن إبراهيم ، حدثنا موسى بن عبيدة الرَّبَذي ، عن يزيد الرَّقَاشي ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بعث الله ثمانية آلاف نبي ، أربعة آلاف إلى بني إسرائيل ، وأربعة آلاف إلى سائر الناس".
وهذا أيضا إسناد ضعيف فيه الربذي ضعيف ، وشيخه الرَّقَاشي أضعف منه أيضا (5) والله أعلم.
وقال أبو يعلى : حدثنا أبو الربيع ، حدثنا محمد بن ثابت العَبْدِي ، حدثنا محمد بن خالد
__________
(1) في أ : "يحيى بن يحيى الغساني".
(2) صحيح ابن حبان برقم (94) "موارد" ورواه أبو نعيم في الحلية (1/166) من طريق إبراهيم بن هشام بن يحيى به.
وإبراهيم بن هشام الغساني كذبه أبو حاتم وأبو زرعة ، وقال الذهبي : "وهو صاحب حديث أبي ذر الطويل انفرد به عن أبيه عن جده".
(3) في ر : "هذا".
(4) ذكره السيوطي في الدر المنثور(2/746).
(5) مسند أبي يعلى (7/160) ورواه أبو نعيم في الحلية(3/53) من طريق مكي بن إبراهيم به.
قال الهيثمي في المجمع (8/210) : "فيه موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف جدًا".

(2/470)


الأنصاري ، عن يزيد الرَّقَاشي ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كان فيمن خلا من إخواني من الأنبياء ثمانية آلاف نبي ، ثم كان عيسى ابن مريم ، ثم كنت أنا" (1).
وقد رويناه عن أنس من وجه آخر ، فأخبرني الحافظ أبو عبد الله الذهبي ، أخبرنا أبو الفضل بن عساكر ، أنبأنا الإمام أبو بكر القاسم بن أبي سعيد الصفار ، أخبرتنا عمة أبي ، عائشة بنت أحمد بن منصور بن الصفار ، أخبرنا الشريف أبو السنابك هبة الله بن أبي الصهباء محمد بن حيدر القُرَشِي ، حدثنا الإمام الأستاذ أبو إسحاق الإسْفَراييني قال : أخبرنا الإمام أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي ، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا أحمد بن طارق ، حدثنا مسلم بن خالد ، حدثنا زياد بن سعد ، عن محمد بن المُنْكَدِر ، عن صفوان بن سُلَيْم ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بعثت على إثر من ثلاثة آلاف نبي من بني إسرائيل". وهذا غريب من هذا الوجه وإسناده لا بأس به ، رجاله كلهم معروفون إلا أحمد بن طارق هذا ، فإني لا أعرفه بعدالة ولا جرح (2) والله أعلم.
حديث أبي ذر الغفاري الطويل في عدد الأنبياء عليهم السلام :
قال محمد بن الحسين الآجري : حدثنا أبو بكر جعفر بن محمد بن الفِرْيابي إملاء في شهر رجب سنة سبع وتسعين ومائتين ، حدثنا إبراهيم بن هشام بن يحيى الغسَّاني ، حدثنا أبي ، عن جده عن أبي إدريس الخولاني ، عن أبي ذر قال : دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده ، فجلست إليه فقلت : يا رسول الله ، إنك أمرتني بالصلاة. قال : "الصلاة خير موضوع فاستكثر أو استقل". قال : قلت : يا رسول الله ، فأي الأعمال أفضل ؟ قال : "إيمان بالله ، وجهاد في سبيله". قلت : يا رسول الله ، فأي المؤمنين أفضل ؟ قال : "أحسنهم خلقا". قلت : يا رسول الله ، فأي المسلمين أسلم ؟ قال : "من سَلِمُ الناسُ من لسانه ويده". قلت : يا رسول الله ، فأي الهجرة أفضل ؟ قال : "من هَجَر السيئات". قلت : يا رسول الله ، أيّ الصلاة أفضل ؟ قال : "طول القنوت". قلت : يا رسول الله ، فأي الصيام أفضل ؟ قال : "فَرْضٌ مجزئ وعند الله أضعاف كثيرة". قلت : يا رسول الله ، فأي الجهاد أفضل ؟ قال : "من عُقِر جَواده وأهرِيق دَمُه". قلت : يا رسول الله ، فأيّ الرقاب أفضل ؟ قال : "أغلاها ثمنًا وأنفسها عند أهلها". قلت : يا رسول الله فأيّ الصدقة أفضل ؟ قال : "جَهْد من مُقِلٍّ ، وسر إلى فقير". قلت : يا رسول الله ، فأيّ آية ما أنزل عليك أعظم [منها] (3) ؟ قال : "آية الكرسي". ثم قال : "يا أبا ذر ، وما السموات السبع مع الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فَلاة ، وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة". قال : قلت : يا رسول الله ، كم الأنبياء ؟ قال : "مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا" قال : قلت : يا رسول الله ، كم الرسل من ذلك ؟ قال : "ثلاثمائة ، وثلاثة عشر جمٌّ غَفيرٌ كثير طيب". قلت : فمن كان أولهم ؟ قال : "آدم". قلت : أنبي مرسل ؟ قال : "نعم ، خلقه الله بيده ، ونفخ (4) فيه من روحه ، وسَوَّاه قَبِيلا (5) ثم قال : "يا أبا ذر ، أربعة سريانيون : آدم ، وشيث ، وخَنُوخ - وهو إدريس ، وهو أول من خط بقلم - ونوح. وأربعة من العرب : هود ، وشعيب ،
__________
(1) مسند أبي يعلى (7/131) وقال الهيثمي في المجمع (8/211) : "فيه محمد بن ثابت العبدي وهو ضعيف".
(2) ورواه أبو نعيم في الحلية (3/162) من طريق مسلم بن خالد الزنجي به. وقال : "غريب".
(3) زيادة من أ.
(4) في د : "ثم نفخ".
(5) في أ : "قبلا".

(2/471)


وصالح ، ونبيك يا أبا ذر. وأول أنبياء بني إسرائيل موسى ، وآخرهم عيسى. وأول الرسل (1) آدم ، وآخرهم محمد". قال : قلت : يا رسول الله ، كم كتابًا أنزله الله ؟ قال : "مائة كتاب وأربعة كتب ، وأنزل الله على شيث خمسين ، صحيفة ، وعلى خَنُوخ ثلاثين صحيفة ، وعلى إبراهيم عشر صحائف ، وأنزل على موسى من قبل التوراة عشر صحائف والإنجيل والزبور والفرقان". قال : قلت : يا رسول الله ، ما كانت صحف إبراهيم ؟ قال : "كانت كلها : يا أيها الملك المسلط المبتلى المغرور ، إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض ، ولكني بعثتك لترد عني دعوة المظلوم ، فإني لا أردها ولو كانت من كافر. وكان فيها مثال : وعلى العاقل أن يكون له ساعات : ساعة يناجي فيها ربه ، وساعة يحاسب فيها نفسه ، وساعة يفكر في صنع الله ، وساعة يخلو فيها لحاجته من المطعم والمشرب. وعلى العاقل ألا يكون ضاغنا إلا لثلاث : تزود لمعاد ، أو مَرَمَّة لمعاش ، أو لذة في غير محرم. وعلى العاقل أن يكون بصيرًا بزمانه ، مقبلا على شأنه ، حافظًا للسانه ، ومَنْ حَسِب كلامه من عمله قَلَّ كلامه إلا فيما يعنيه". قال : قلت : يا رسول الله ، فما كانت صحف موسى ؟ قال : "كانت عِبَرًا كلها : عجبت لمن أيقن بالموت ثم هو يفرح ، عجبت لمن أيقن بالقَدَر ثم هو يَنْصب ، وعجبت لمن يرى الدنيا وتَقَلُّبَهَا بأهلها ثم يطمئن إليها ، وعجبت لمن أيقن بالحساب غدًا ثم هو لا يعمل" قال : قلت : يا رسول الله ، فهل في أيدينا شيء مما في أيدي إبراهيم وموسى ، وما أنزل الله عليك ؟ قال : "نعم ، اقرأ يا أبا ذر : { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى. بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى. إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأولَى. صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } [الأعلى : 14 - 19].
قال : قلت يا رسول الله ، فأوصني. قال : "أوصيك بتقوى الله ، فإنه رأس أمرك".
قال : قلت يا رسول الله ، زدْني. قال : "عليك بتلاوة القرآن ، وذِكْر الله ، فإنه ذكرٌ لك في السماء ، ونورٌ لك في الأرض".
قال : قلت : يا رسول الله ، زدني. قال : "إياك وكثرة الضحك. فإنه يميت القلب ، ويُذْهِبُ بنور الوجه". قلت : زدني. قال : "عليك بالجهاد ، فإنه رهبانية أمتي". قلت : زدني. قال : "عليك بالصمت إلا من خير ، فإنه مَطْرَدَةٌ للشيطان (2) وعون لك على أمر دينك".
قلت : زدني. قال : "انظر إلى من هو تحتك ، ولا تنظر إلى من هو فوقك ، فإنه أجدر لك ألا تزدري نعمة الله عليك".
قلت : زدني. قال : "أحبب المساكين وجالسهم ، فإنه أَجْدرُ أن لا تزدري نعمة الله عليك". قلت : زدني. قال : "صل قرابتك وإن قطَعوك". قلت : زدني. قال : "قل الحق وإن كان مرا".
قلت : زدني. قال : "لا تخف في الله لومة لائم".
قلت : زدني. قال : "يَرُدَّك عن الناس ما تعرف عن نفسك ، ولا تَجِدُ عليهم فيما تحب ، وكفى بك عيبًا أن تعرف من الناس ما تجهل من نفسك. أو تجد عليهم فيما تحب".
__________
(1) في د : "النبيين".
(2) في أ : "للشياطين".

(2/472)


ثم ضرب بيده صدري ، فقال : "يا أبا ذر ، لا عَقْل كالتدبير ، ولا وَرَع كالكف ، ولا حسب كحسن الخلق" (1)
وروى الإمام أحمد ، عن أبي المغيرة ، عن مُعَان بن رفاعة ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة : أن أبا ذر سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر أمر الصلاة ، والصيام ، والصَدقة ، وفَضْلَ آية الكرسي ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وأفضلَ الشهداءِ ، وأفضلَ الرقاب ، ونبوة آدم ، وأنه مُكَلَّم ، وعددَ الأنبياء والمرسلين ، كنحو ما تقدم (2).
وقال عبد الله بن الإمام أحمد : وجدت في كتاب أبي بخطه : حدثني عبد المتعالي بن عبد الوهاب ، حدثنا يحيى بن سعيد الأمَوي ، حدثنا مُجَالِد عن أبي الوَدَّاك قال : قال أبو سعيد : هل تقول الخوارج بالدجال ؟ قال : قلت : لا. فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إني خاتمُ ألفِ نبيّ أو أكثرَ ، وما بُعِثَ نبيٌّ يُتَّبعُ إلا وقد حذر أمته منه ، وإني قد بُيِّنَ لي ما لم يُبَيَّن [لأحد] (3) وإنه أعور ، وإن ربكم ليس بأعور ، وعينه اليمنى عوراء جاحظة لا تخفى ، كأنها نخامة في حائط مُجَصَّص ، وعينه اليسرى كأنها كوكب دري ، معه من كل لسان ، ومعه صورة الجنة خضراء يجري فيها الماء ، وصورة النار سوداء تَدْخُن" (4).
وقد رويناه في الجزء الذي فيه رواية أبي يعلى الموصلي ، عن يحيى بن مَعين ، حدثنا مروان بن معاوية ، حدثنا مُجَالِد ، عن أبي الودَّاك ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إني أختم ألفَ ألفَ نبيٍّ أو أكثرَ ، ما بعث الله من نبي إلى قومه إلا حذَّرهم الدجالَ...." وذكر تمام الحديث ، هذا لفظه بزيادة "ألْف" وقد تكون مُقْحَمة (5) والله أعلم. وسياق رواية الإمام أحمد أثبت وأولى بالصحة ، ورجال إسناد هذا الحديث لا بأس بهم ، وروي هذا الحديث من طريق جابر بن عبد الله ، رضي الله عنه ، قال الحافظ أبو بكر البزار :
حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا مُجَالد ، عن الشَّعبي ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إني لخاتمُ ألف نبيٍّ أو أكثر ، وإنه ليس منهم نبيٌّ إلا وقد أنذر قومه الدَّجالَ ، وإني قد بُيِّن (6) لي ما لم يُبَيَّن لأحد منهم وإنه أعور ، وإن ربكم ليس بأعورَ" (7).
وقوله : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } وهذا تشريف لموسى ، عليه السلام ، بهذه الصفة ؛ ولهذا يقال
__________
(1) الشريعة للآجري (ص 404) وفي إسناده إبراهيم بن هشام الغسائي ، كذبه أبو حاتم وأبو زرعة ، وقد انفرد به عن أبيه عن جده.
(2) المسند (5/265).
(3) زيادة من أ ، والمسند.
(4) المسند(3/79) وقال الهيثمي في المجمع (7/346) : "فيه مجالد بن سعيد وثقه النسائي في رواية ، وقال في أخري : ليس بالقوي. وضعفه جماعة.
(5) ورواه الحاكم في المستدرك (2/597) من طريق يحيى بن معين به ، وقال الذهبي : مجالد وهو ضعيف ، وليس فيه زيادة "ألف" وهي مقمحة كما ذكر المؤلف.
(6) في أ : "تبين".
(7) مسند البزار برقم (3380) "كشف الأستار".

(2/473)


له : الكليم. وقد قال الحافظ أبو بكر بن مَرْدويه : حدثنا أحمد بن محمد بن سليمان المالكي ، حدثنا مَسيحُ بن حاتم ، حدثنا عبد الجبار (1) بن عبد الله قال : جاء رجل إلى أبي بكر بن عيَّاش فقال : سمعت رجلا يقرأ : "وكلم الله موسى تكليما" فقال أبو بكر : ما قرأ هذا إلا كافر ، قرأتُ على الأعمش ، وقرأ الأعمش على [يحيى] (2) بن وثاب ، وقرأ يحيى بن وثَّاب على أبي عبد الرحمن السَّلْمِيّ ، وقرأ أبو عبد الرحمن ، عَلَى عَلِيِّ بن أبي طالب ، وقرأ علي بن أبي طالب على رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا } (3).
وإنما اشتد غضب أبي بكر بن عياش ، رحمه الله ، على مَن قرأ كذلك ؛ لأنه حَرّف لفظ القرآن ومعناه ، وكان هذا من المعتزلة الذين ينكرون أن [يكون] (4) الله كلَّم موسى ، عليه السلام ، أو يكلم أحدًا من خلقه ، كما رويناه (5) عن بعض المعتزلة أنه قرأ على بعض المشايخ : "وكلم الله موسى تكليما" فقال له : يا ابن اللَّخْنَاء ، فكيف تصنع بقوله تعالى : { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } [الأعراف : 143] ، يعني : أن هذا لا يحتمل التحريف ولا التأويل.
وقال ابن مَرْدُوَية : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا أحمد بن الحسين بن بَهْرَام ، حدثنا محمد بن مرزوق ، حدثنا هانئ بن يحيى ، عن الحسن بن أبي جعفر ، عن قتادة عن يحيى بن وَثَّاب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لَما كلم الله موسى كان يُبْصِرُ دبيبَ النمل على الصفا في الليلة الظلماء". وهذا حديث غريب ، وإسناده لا يصح ، وإذا صح موقوفًا كان جيدًا (6).
وقد روى الحاكم في مستدركه وابن مردويه ، من حديث حميد بن قيس الأعرج ، عن عبد الله بن الحارث ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كان على موسى يوم كلمه ربُّه جبة صوف ، وكساء صوف ، وسراويل صوف ، ونعلان من جلد حمار غير ذكي" (7).
وقال ابن مردويه بإسناده عن جُوَيْبر ، عن الضَّحاك عن ابن عباس قال : إن الله ناجَى موسى بمائة ألف كلمة وأربعين ألف كلمة ، في ثلاثة أيام ، وصايا كلها ، فلما سمع موسى كلام الآدميين مَقتهم مما وقع في مسامعه من كلام الرب ، عز وجل.
وهذا أيضًا إسناد ضعيف ، فإن جُوَيْبِرًا ضعيف ، والضَّحاك لم يدرك ابنَ عباس ، رضي الله عنه. فأما الأثر الذي رواه ابن أبي حاتم وابن مَرْدُويه وغيرهما من طريق الفضل بن عيسى الرَّقَاشي ، عن محمد بن المُنْكَدِر ، عن جابر بن عبد الله قال : لما كلم الله موسى يوم الطورِ ، كلَّمه بغير الكلام الذي
__________
(1) في د : "عبد الجليل".
(2) زيادة من أ.
(3) ورواه الطبراني في الأوسط برقم (3325) "مجمع البحرين" من طريق مسيح بن حاتم به. وقال الطبراني : "لم يروه عن الأعمش إلا أبو بكر ، تفرد به عبد الجبار بن عبد الله لم أعرفه ، وبقية رجاله ثقات".
(4) زيادة من أ.
(5) في أ : "تروا".
(6) ورواه الطبراني في المعجم الصغير برقم (77) ، من طريق أحمد بن الحسين بن بهرام به ، وقال الهيثمي في المجمع (8/203) : "فيه الحسين بن أبي جعفر الجفري : وهو متروك".
(7) المستدرك (2/379) ورواه الترمذي في السنن برقم (1734) من طريق حميد الأعرج به.
قال الحاكم : "على شرط البخاري" ، وتعقبه الذهبي بقوله : "بل ليس على شرطه ، وإنما غره أن في إسناده حميد بن قيس كذا ، وهو خطأ ، إنما هو حميد الأعرج الكوفي ابن علي أو ابن عمار أحد المتروكين فظن أنه المكي الصادق.

(2/474)


كلَّمه يوم ناداه ، فقال له موسى : يا رب ، هذا كلامك الذي كلمتني به ؟ قال : لا يا موسى ، أنا كلمتك بقوة عَشَرةِ آلاف لسان ، ولي قوةُ الألْسِنة كلها ، وأنا أقوى من ذلك. فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا : يا موسى ، صِفْ لنا كلام الرحمن. قال : لا أستطيعه. قالوا : فشبه لنا. قال : ألم تسمعوا (1) إلى صوت الصواعق فإنها قريب منه ، وليس به. وهذا إسناد ضعيف ، فإن الفضلَ هذا الرقاشي ضعيف بمرة.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ، عن جَزْء بن جابر الخَثْعَمي ، عن كعب قال : إن الله لما كلم موسى كلمه بالألسنة كلها سِوَى كلامه ، فقال له موسى يا رب ، هذا كلامك ؟ قال : لا ولو كلمتك بكلامي لم تَستَقِمْ له. قال : يا رب ، فهل من خلقك شيء يشبه كلامك ؟ قال : لا وأشد خلقي شبها بكلامي أشد ما تسمعون من الصواعق.
فهذا موقوف على كعب الأحبار ، وهو يحكي عن الكتب المتقدمة المشتملة على أخبار بني إسرائيل ، وفيها الغَثُّ والسَّمِين.
وقوله : { رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ } أي : يبشرون من أطاع الله واتبع رضوانه بالخيرات ، وينذرون من خالف أمره وكذب رسله بالعقاب والعذاب.
وقوله : { لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } أي : أنه تعالى أنزل كتبه وأرسل رسله بالبشارة والنذارة ، وبين ما يحبه ويرضاه مما يكرهه ويأباه ؛ لئلا يبقى لمعتذر عذر ، كما قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى } [طه : 134] ، وكذا قوله تعالى : { وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ [فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ] (2) } [القصص : 47].
وقد ثبت في الصحيحين (3) عن ابن مسعود ، [رضي الله عنه] (4) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا أحَدَ أغَيْرَ من الله ، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظَهَر منها وما بطن ، ولا أحدَ أحبَّ إليه المدحُ من الله ، من أجل ذلك مدح نفسه ، ولا أحدَ أحَبَّ إليه العُذر من الله ، من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين" وفي لفظ : "من أجل ذلك أرسل رسله ، وأنزل كتبه".
__________
(1) في أ : "تروا".
(2) زيادة من د ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(3) صحيح البخاري برقم (4634) وصحيح مسلم برقم (2760).
(4) زيادة من أ.

(2/475)


لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآَمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)

{ لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزلَ إِلَيْكَ أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170) }
لما تضمن قوله تعالى : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ } إلى آخر السياق ، إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم (1) والرد على من أنكر نبوته من المشركين وأهل الكتاب ، قال الله تعالى : { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزلَ إِلَيْكَ } أي : وإن كفر به من كفر به ممن كذبك وخالفك ، فالله يشهد لك بأنك رسوله الذي أنزل عليه الكتاب ، وهو : القرآن العظيم الذي { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [فصلت : 42] ؛ ولهذا قال : { أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ } أي : فيه علمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه ، من البينات والهدى والفرقان وما يحبه الله ويرضاه ، وما يكرهه ويأباه ، وما فيه من العلم بالغيوب من الماضي والمستقبل ، وما فيه من ذكر صفاته تعالى المقدسة ، التي لا يعلمها نبي مرسل ولا ملك مقرب ، إلا أن يُعْلِمَه الله به ، كما قال [تعالى] (2) { وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ } [البقرة : 255] ، وقال { وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } [طه : 110].
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا الحسن بن سَهْل الجعفري وخَزَزُ بن المبارك قالا حدثنا عمران بن عيينة ، حدثنا عطاء بن السائب قال : أقرأني أبو عبد الرحمن السَّلمي القرآنَ ، وكان إذا قرأ عليه أحدنا القرآن قال : قد أخذتَ علم الله ، فليس أحدٌ اليوم أفضلَ منك إلا بعمل ، ثم يقرأ : { أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا } وقوله { وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ } أي : بصدق ما جاءك وأوحى إليك وأنزل عليك ، مع شهادة الله تعالى لك بذلك { وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا }
وقد قال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عكرمة أو سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس قال : دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعةٌ من اليهود ، فقال لهم : "إني لأعلم - والله - إنكم لتعلمون أني رسول الله". فقالوا : ما نعلم ذلك. فأنزل الله عز وجل : { لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزلَ إِلَيْكَ أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ [وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا] (3) }.
وقوله : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالا بَعِيدًا } أي : كفروا في أنفسهم (4) فلم يتبعوا الحق ، وسَعوْا في صد الناس عن اتباعه والاقتداء به ، قد خرجوا عن الحق وضلوا عنه ، وبَعُدُوا منه بعدًا عظيما شاسعًا.
ثم أخبر تعالى عن حكمه في الكافرين بآياته وكتابه ورسوله ، الظالمين لأنفسهم بذلك ، وبالصد عن سبيله وارتكاب مآثمه وانتهاك محارمه ، بأنه لا يغفر لهم { وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا } أي : سبيلا إلى الخير { إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ } وهذا استثناء منقطع { خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا [وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا] (5) }.
ثم قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ } أي : قد جاءكم محمد - صلوات الله وسلامه عليه - بالهدى ودين الحق ، والبيان الشافي من الله ، عز وجل ، فآمنوا بما جاءكم به واتبعوه (6) يكن خيرًا لكم.
ثم قال : { وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي : فهو غني عنكم وعن إيمانكم ، ولا يتضرر بكفرانكم ، كما قال تعالى : { وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } [إبراهيم : 8] وقال هاهنا : { وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا } أي : بمن يستحق منكم الهداية فيهديه ، وبمن يستحق الغَوَاية فيغويه { حَكِيمًا } أي : في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره.
__________
(1) في أ : "بنبوته صلوات الله وسلامه عليه".
(2) زيادة من د ، أ.
(3) زيادة من أ ، وفي هـ : "الآية".
(4) في د : "بأنفسهم".
(5) زيادة من أ.
(6) في د : "فاتبعوه".

(2/476)


يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)

{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا (171) }
ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء ، وهذا كثير في النصارى ، فإنهم تجاوزوا حد التصديق بعيسى ، حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها ، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدونه ، بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ، ممن زعم أنه على دينه ، فادَّعوْا فيهم العصمة واتبعوهم في كل ما قالوه ، سواء كان حقًا أو باطلا أو ضلالا أو رشادًا ، أو صحيحًا أو كذبًا ؛ ولهذا قال تعالى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [التوبة : 31].
وقال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيم قال : زعم الزُّهْرِي ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عُتْبة بن مسعود ، عن ابن عباس ، عن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا تُطْرُوني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ، فإنما أنا عبد الله ورسوله".
ثم رواه هو وعلي بن المديني ، عن سفيان بن عُيَيْنة ، عن الزُّهري كذلك. وقال علي بن المديني : هذا حديث صحيح سنده (1) وهكذا رواه البخاري ، عن الحُميدي ، عن سفيان بن عيينة ، عن الزهري ، به. ولفظه : "فإنما أنا عبد ، فقولوا : عبد الله ورسوله" (2).
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا حمَّاد بن سَلَمَة ، عن ثابت البُناني ، عن أنس بن مالك : أن رجلا قال : محمد يا سيدنا وابن سيدنا ، وخيرنا وابن خيرنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا أيها الناس ، عليكم بقولكم ، ولا يَسْتَهْويَنَّكُمُ الشيطانُ ، أنا محمدُ بنُ عبد الله ، عبد الله ورسوله ، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني اللَّهُ عز وجل". تفرد به من هذا الوجه (3).
وقوله : { وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ } أي : لا تفتروا عليه وتجعلوا له صاحبة وولدا - تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، وتنزه وتقدس وتوحد في سؤدده وكبريائه وعظمته - فلا إله إلا هو ، ولا رب سواه ؛ ولهذا قال : { إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ } أي : إنما هو عبد من عباد الله وخَلق من خلقه ، قال له : كن فكان ، ورسول من رسله ، وكلمته ألقاها إلى مريم ، أي : خَلقَه بالكلمة التي أرسل بها جبريل ، عليه السلام ، إلى مريم ، فنفخ فيها من روحه بإذن ربه ، عز وجل ، فكان عيسى بإذن الله ، عز وجل ، وصارت تلك النفخة التي نفخها في جَيْب درعها ،
__________
(1) في أ : "مسند".
(2) المسند (1/23 ، 24) وصحيح البخاري برقم (3445).
(3) المسند (3/153) وهو على شرط مسلم.

(2/477)


فنزلت حتى وَلَجت فرجها بمنزلة لقاح الأب الأم (1) والجميع مخلوق لله ، عز وجل ؛ ولهذا قيل لعيسى : إنه كلمة الله وروح منه ؛ لأنه لم يكن له أب تولد (2) منه ، وإنما هو ناشئ عن الكلمة التي قال له بها : كن ، فكان. والروح التي أرسل بها جبريل ، قال الله تعالى : { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ } [المائدة : 75]. وقال تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [آل عمران : 59]. وقال تعالى : { وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا (3) مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ } [الأنبياء : 91] وقال تعالى : { وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا [فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ] (4) } [التحريم : 12]. وقال تعالى إخبارا عن المسيح : { إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ [وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ] (5) } [الزخرف : 59].
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ } هو كقوله : { كُنْ } [آل عمران : 59] فكان وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان الواسطي قال : سمعت شَاذَّ بن يحيى يقول : في قول الله : { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ } قال : ليس الكلمةُ صارت عيسى ، ولكن بالكلمة صار عيسى.
وهذا أحسن مما ادعاه ابن جرير (6) في قوله : { أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ } أي : أعلمها بها ، كما زعمه في قوله : { إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ } [آل عمران : 45] أي : يعلمك بكلمة منه ، ويجعل ذلك كما قال تعالى : { وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ } [القصص : 86] بل الصحيح أنها الكلمة التي جاء بها جبريل إلى مريم ، فنفخ فيها بإذن الله ، فكان عيسى ، عليه السلام.
وقال البخاري : حدثنا صَدَقَةُ بن الفضل ، حدثنا (7) الوليد ، حدثنا الأوزاعي ، حدثني عُمَيْر بن هانئ ، حدثني جُنَادةُ بن أبي أمية ، عن عبادة بن الصامت ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدًا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه ، والجنةَ حق ، والنارَ حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل". قال الوليد : فحدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن عُمير بن هانئ ، عن جُنَادة زاد : "من أبواب الجنة الثمانية من أيها شاء".
وكذا رواه مسلم ، عن داود بن رُشَيد ، عن الوليد ، عن ابن جابر ، به (8) ومن وجه آخر ، عن الأوزاعي ، به (9).
فقوله في الآية والحديث : { وَرُوحٌ مِنْهُ } كقوله { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ }
__________
(1) في د : "والأم".
(2) في أ : "مولد".
(3) في أ : "فيه" ، وهو خطأ.
(4) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(5) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(6) تفسير الطبري (9/418).
(7) في ر : "ابن".
(8) صحيح البخاري برقم (3435) وصحيح مسلم برقم (28).
(9) صحيح مسلم برقم (28).

(2/478)


[الجاثية : 13]أي : مِنْ خَلْقه ومن عنده ، وليست "مِنْ" للتبعيض ، كما تقوله النصارى - عليهم لعائن الله المتتابعة - بل هي لابتداء الغاية ، كما في الآية الأخرى.
وقد قال مجاهد في قوله : { وَرُوحٌ مِنْهُ } أي : ورسول منه. وقال غيره. ومحبة منه. والأظهر الأول أنَّه مخلوق من روح مخلوقة ، وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف ، كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله ، في قوله : { هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ } [هود : 64]. وفي قوله : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ } [الحج : 26] ، وكما ورد في الحديث الصحيح : "فأدخل على رَبِّي في داره" أضافها إليه إضافة تشريف لها ، وهذا كله من قبيل واحد ونمَط واحد.
وقوله : { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ } أي : فصدقوا بأن الله واحد أحد ، لا صاحبة له ولا ولد ، واعلموا وتيقنوا بأن عيسى عبد الله ورسوله ؛ ولهذا قال : { وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ } أي : لا تجعلوا عيسى وأمه مع الله شريكين ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وهذه الآية والتي تأتي في سورة المائدة حيث يقول تعالى : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ } [المائدة : 73]. وكما قال في آخر السورة المذكورة : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي [وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ] (1) } الآية [المائدة : 116] ، وقال في أولها : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ } الآية [المائدة : 72] ، فالنصارى - عليهم لعنة الله - من جهلهم ليس لهم ضابط ، ولا لكفرهم حد ، بل أقوالهم وضلالهم منتشر ، فمنهم من يعتقده إلهًا ، ومنهم من يعتقده شريكا ، ومنهم من يعتقده ولدًا. وهم طوائف كثيرة لهم آراء مختلفة ، وأقوال غير مؤتلفة ، ولقد أحسن بعض المتكلمين حيث قال : لو اجتمع عشرة من النصارى لافترقوا على أحد عشر قولا. ولقد ذكر بعض علمائهم المشاهير ، وهو سعيد بن بَطْرِيق - بتْرَكُ الإسكندرية - في حدود سنة أربعمائة من الهجرة النبوية ، أنهم اجتمعوا المجمع الكبير الذي عقدوا فيه الأمانة الكبيرة التي لهم ، وإنما هي الخيانة الحقيرة الصغيرة ، وذلك في أيام قسطنطين باني المدينة المشهورة ، وأنهم اختلفوا عليه اختلافًا لا ينضبط ولا ينحصر ، فكانوا أزيد من ألفين أَسْقُفًا ، فكانوا أحزابًا كثيرة ، كل خمسين منهم على مقالة ، وعشرون على مقالة ، ومائة على مقالة ، وسبعون على مقالة ، وأزيد من ذلك وأنقص. فلما رأى عصابة منهم قد زادوا على الثلاثمائة بثمانية عشر نفرًا ، وقد توافقوا على مقالة ، فأخذها الملك ونصرها وأيدها - وكان فيلسوفًا ذا هيئة (2) - ومَحَقَ ما عداها من الأقوال ، وانتظم دَسْتُ (3) أولئك الثلاثمائة والثمانية عشر ، وبنيت لهم الكنائس ، ووضعوا لهم كتبًا وقوانين ، وأحدثوا الأمانة التي يلقنونها الولدان من الصغار (4) - ليعتقدوها - ويُعَمّدونهم عليها ، وأتباع هؤلاء هم الملكية. ثم إنهم اجتمعوا مجمعا ثانيًا فحدث فيهم اليعقوبية ، ثم مجمعًا ثالثًا فحدث فيهم النسطورية. وكل هذه الفرق تثبت الأقانيم الثلاثة في المسيح ، ويختلفون في كيفية ذلك وفي اللاهوت والناسوت على زعمهم! هل اتحدا ، أو ما اتحدا ، بل امتزجا أو حل فيه ؟ على ثلاث مقالات ، وكل منهم يكفر الفرقة الأخرى ، ونحن نكفر الثلاثة ؛ ولهذا قال تعالى : { انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ } أي : يكن خيرا لكم { إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } أي : تعالى وتقدس عن ذلك علوا كبيرا { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا }
__________
(1) زياد من ر ، أ.
(2) في د ، ر ، أ : "داهية".
(3) في أ : "دست الملك".
(4) في ر : "الصغر".

(2/479)


لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)

أي : الجميع ملكه وخلقه ، وجميع ما فيها عبيده ، وهم تحت تدبيره وتصريفه ، وهو وكيل على كل شيء ، فكيف يكون له منهم صاحبة أو ولد ؟ كما قال في الآية الأخرى : { بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [الأنعام : 101] ، (1) وقال تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا. [تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا. وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا. إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا. لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا] (2) } [مريم : 88 : 95].
{ لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (173) }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن موسى ، حدثنا هشام ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء ، عن ابن عباس قوله : { لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ } لن يستكبر.
وقال قتادة : لن يحتشم { الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ } وقد استدل بعض من ذهب إلى تفضيل الملائكة على البشر بهذه الآية حيث قال : { وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ } وليس له في ذلك دلالة ؛ لأنه إنما عطف الملائكة على المسيح ؛ لأن الاستنكاف هو الامتناع ، والملائكة أقدر على ذلك من المسيح ؛ فلهذا قال : { وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ } ولا يلزم من كونهم أقوى وأقدر على الامتناع أن يكونوا أفضل.
وقيل : إنما ذكروا ؛ لأنهم اتّخذُوا آلهة مع الله ، كما اتخذ المسيح ، فأخبر تعالى أنهم عبيد من عبيده وخَلْق من خلقه ، كما قال الله تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ [لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ. وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ] (3) } الأنبياء : [26 - 29].
ثم (4) قال : { وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا } أي : فيجمعهم إليه يوم القيامة ، ويفصل بينهم بحكمه العدل ، الذي لا يجور فيه ولا يَحِيف ؛ ولهذا قال : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } يعني : فيعطيهم من الثواب على قدر أعمالهم الصالحة ويزيدهم على ذلك من فضله وإحسانه وسَعَة رحمته وامتنانه.
وقد روى ابن مَرْدُوَيه من طريق بَقِيَّة ، عن إسماعيل بن عبد الله الكندي ، عن الأعمش ، عن سفيان (5) عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } قال :
__________
(1) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(2) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "إلى قوله : "فردا".
(3) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآيات".
(4) في أ : "ولهذا".
(5) في أ : "شقيق".

(2/480)


يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)

أجورهم : أدخلهم الجنة". { وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ } قال : "الشفاعة فيمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف في دنياهم". (1)
وهذا إسناد لا يثبت ، وإذا روي عن ابن مسعود موقوفًا فهو جيد (2).
{ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا } أي : امتنعوا من طاعة الله وعبادته واستكبروا عن ذلك { فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا } كما قال تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر : 60] أي : صاغرين حقيرين ذليلين ، كما كانوا ممتنعين مستكبرين.
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175) }
يقول تعالى مخاطبًا جميع الناس ومخبرا (3) بأنه قد جاءهم منه برهان عظيم ، وهو الدليل القاطع للعُذْر ، والحجة المزيلة للشبهة ؛ ولهذا قال : { وَأَنزلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا } أي : ضياء واضحا على الحق ، قال ابن جُرَيج (4) وغيره : وهو القرآن.
{ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ } أي : جمعوا بين مقامي العبادة والتوكل على الله في جميع أمورهم. وقال ابن جريج : آمنوا بالله واعتصموا بالقرآن. رواه ابن جرير.
{ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ } أي : يرحمهم فيدخلهم الجنة ويزيدهم ثوابا ومضاعفة ورفعا في درجاتهم ، من فضله عليهم وإحسانه إليهم ، { وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا } أي : طريقا واضحا قَصْدا قَوَاما لا اعوجاج فيه ولا انحراف. وهذه صفة المؤمنين في الدنيا والآخرة ، فهم في الدنيا على منهاج الاستقامة وطريق السلامة في جميع الاعتقادات والعمليات ، وفي الآخرة على صراط الله المستقيم المفضي إلى روضات الجنات. وفي حديث الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " القرآن صراطُ اللهِ المستقيمُ وحبلُ الله المتين ". وقد تقدم الحديث بتمامه في أول التفسير ولله الحمد والمنة.
__________
(1) في أ : "في الدنيا".
(2) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (10/248) من طريق بقية عن إسماعيل الكندي به.
وقال الهيثمي في المجمع(7/13) : "فيه إسماعيل بن عبد الله الكندي ضعفه الذهبي من عند نفسه ، فقال : أتى بخبر منكر وبقية رجاله وثقوا".
ورواه أبو نعيم في الحلية (4/108) من طريق ابن حمير عن الثوري عن شقيق عن عبد الله بن مسعود بنحوه ، وقال : "غريب من حديث الأعمش ، عزيز عجيب من حديث الثوري ، تفرد به إسماعيل بن عبيد الله الكندي عن الأعمش ، وعن إسماعيل بقية بن الوليد ، وحديث الثوري لم نكتبه إلا عن هذا الشيخ".
(3) في ر ، أ : "ومخبرا لهم".
(4) في أ : "جرير".

(2/481)


يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)

{ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً

(2/481)


رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) }.
قال البخاري : حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء قال : آخر سورة نزلت : "براءة" ، وآخر آية نزلت : { يَسْتَفْتُونَكَ } (1).
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن محمد بن المنكدر قال : سمعت جابر بن عبد الله قال : دخل عَلَيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنا مريض لا أَعْقِل ، قال : فتوضأ ، ثم صَبَّ عَلَيّ - أو قال صبوا عليه - فَعَقَلْتُ فَقُلت : إنه لا يرثني إلا كلالة ، فكيف الميراث ؟ قال : فنزلت آية الفرائض.
أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة (2) ، ورواه الجماعة من طريق سفيان بن عُيَيْنة ، عن محمد بن المُنْكَدر ، عن جابر ، به (3). وفي بعض الألفاظ : فنزلت آية الميراث : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ } الآية.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد ، حدثنا سفيان وقال ابن الزبير قال - يعني جابرا - : نزلت في : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ }.
وكأن معنى الكلام - والله أعلم - { يَسْتَفْتُونَكَ } : عن الكلالة قل : الله يفتيكم فيها ، فدل المذكور على المتروك.
وقد تقدم الكلام على الكلالة واشتقاقها ، وأنها مأخوذة من الإكليل الذي يحيط بالرأس من جوانبه ؛ ولهذا فسرها أكثر العلماء : بمن يموت وليس له ولد ولا والد ، ومن الناس من يقول : الكلالة من لا ولد له ، كما دلت عليه هذه الآية : { إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ } [أي مات] (4) { لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ }.
وقد أُشْكِل حُكْم الكلالة على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، كما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال : ثلاث وَدِدْتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه : الجد ، والكلالة ، وأبواب من أبواب الربا.
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، عن سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قَتَادة ، عن سالم بن أبي الجَعْد ، عن مَعْدان بن أبي طلحة قال : قال عمر بن الخطاب : ما سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة ، حتى طعن بأُصْبُعِه في صدري وقال : " يكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء".
هكذا رواه مختصرًا وقد أخرجه مسلم مطولا أكثر من هذا (5).
__________
(1) صحيح البخاري برقم (2605).
(2) المسند (3/298) وصحيح البخاري برقم (6743) وصحيح مسلم برقم (1616).
(3) صحيح البخاري برقم (6723) وصحيح مسلم برقم (1616) وسنن أبي داود برقم (2886) وسنن الترمذي برقم (2097) وسنن النسائي الكبرى برقم (11134) وسنن ابن ماجة برقم (1436).
(4) زيادة من أ.
(5) المسند (1/26) وصحيح مسلم برقم (1617).

(2/482)


طريق أخرى : قال [الإمام] (1) أحمد : حدثنا أبو نُعَيم ، حدثنا مالك - يعني ابن مِغْل - سمعت الفضل بن عمرو ، عن إبراهيم ، عن عمر قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلالة ، فقال : " يكفيك آية الصيف ". فقال : لأن أكون سألت النبي صلى الله عليه وسلم عنها أحبَّ إليّ من أن يكونَ لي حُمْر النَّعم. وهذا إسناد جيد إلا أن فيه انقطاعًا بين إبراهيم وبين عُمَر ، فإنه لم يدركه (2).
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا أبو بكر ، عن أبي إسحاق ، عن البَراءِ بن عازبٍ قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن الكلالة ، فقال : " يكفيك آية الصيف ". وهذا إسناد جيد ، رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي بكر بن عيَّاش ، به (3). وكأن المراد بآية الصيف : أنها نزلت في فصل الصيف ، والله أعلم.
ولما أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى تفهمها - فإن فيها كفاية - نسي أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن معناها ؛ ولهذا قال : فلأن أكون سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها أحب إليّ من أن يكون لي حُمْر النَّعَم.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا جرير عن (4) الشيباني ، عن عمرو بن مُرة ، عن سعيد بن المسيَّب قال : سأل عمر بن الخطاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلالة ، فقال : " أليس قد بين الله ذلك ؟ " فنزلت : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَةِ] (5) } الآية. وقال قتادة : ذُكر (6) لنا أن أبا بكر الصديق [رضي الله عنه] (7) قال في خطبته : ألا إن الآية التي أنزلت (8) في أول "سورة النساء" في شأن الفرائض ، أنزلها الله في الولد والوالد. والآية الثانية أنزلها في الزوج والزوجة والإخوة من الأم. والآية التي ختم بها "سورة النساء" أنزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأم ، والآية التي ختم بها "سورة الأنفال" أنزلها في أولي الأرحام ، بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، مما جَرّت الرحم من العَصَبة. رواه ابن جرير (9).
ذكر الكلام على معناها وبالله المستعان ، وعليه التكلان :
قوله تعالى : { إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ } أي : مات ، قال الله تعالى : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ } [القصص : 88] كل شيء يفنى ولا يبقى إلا (10) الله ، عز وجل ، كما قال : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ. وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ } [الرحمن : 26 ، 27].
وقوله : { لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ } تمسك به من ذهب إلى أنه ليس من شرط الكلالة انتفاء الوالد (11) ، بل يكفي في وجود الكلالة انتفاء الولد ، وهو رواية عن عمر بن الخطاب ، رواها ابن جرير عنه بإسناد صحيح إليه. ولكن الذي رجع (12) إليه هو قول الجمهور وقضاء الصديق : أنه مَنْ لا ولد له ولا
__________
(1) زيادة من أ.
(2) المسند (1/38).
(3) المسند (4/293) وسنن أبي داود برقم (2889) وسنن الترمذي برقم (3042).
(4) في أ : "حدثنا".
(5) زيادة من أ.
(6) في د : "وذكر".
(7) زيادة من أ.
(8) في د : "نزلت".
(9) تفسير الطبري (9/431).
(10) في ر : "إلا وجه الله".
(11) في أ : "الولد".
(12) في د : "يرجع".

(2/483)


والد ، ويدل على ذلك قوله : { وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ } ولو كان معها أب لم ترث شيئًا ؛ لأنه يحجبها بالإجماع ، فدل على أنه من لا ولد له بنص القرآن ، ولا والد بالنص عند التأمل أيضًا ؛ لأن الأخت لا يفرض لها النصف مع الوالد ، بل ليس لها ميراث بالكلية.
وقال الإمام أحمد : حدثنا الحكم بن نافع ، حدثنا أبو بكر بن عبد الله ، عن مَكْحُول وعطية وحمزة وراشد ، عن زيد بن ثابت : أنه سئلَ عن زوج وأخت لأب وأم ، فأعطى الزوجَ النصفَ والأخت النصفَ. فكُلِّم في ذلك ، فقال : حضرتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قضى بذلك.
تفرد به أحمد من هذا الوجه (1) ، وقد نقل ابن جرير (2) وغيره عن ابن عباس وابن الزبير أنهما كانا يقولان في الميت ترك بنتًا وأختًا : إنه لا شيء للأخت لقوله : { إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ } قال : فإذا ترك بنتًا فقد ترك ولدًا (3) ، فلا شيء للأخت ، وخالفهما الجمهور ، فقالوا في هذه المسألة : للبنت النصف بالفرض ، وللأخت النصف الآخر بالتعصيب ، بدليل غير هذه الآية وهذه نَصب (4) أن يفرض لها في هذه الصورة ، وأما وراثتها بالتعصيب ؛ فلما رواه البخاري من طريق سليمان ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، قال : قضى فينا معاذ بن جبل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : النصف للابنة ، والنصف للأخت. ثم قال سليمان : قضى فينا ولم يذكر : على عهد رسول الله (5) صلى الله عليه وسلم (6). وفي صحيح البخاري أيضًا عن هُزيل بن شرحبيل قال : سئل أبو موسى الأشعري عن ابنة وابنة ابن وأخت ، فقال : للابنة (7) النصف ، وللأخت النصف ، وأت ابن مسعود فسيتابعني. فسئل ابنُ مسعود - وأخبر بقول أبي موسى - فقال : لقد ضَلَلْتُ إذًا وما أنا من المهتدين ، أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم للابنة النصف ، ولابنة الابن السدس ، تكملة الثلثين ، وما بقي فللأخت ، فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود ، فقال : لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم (8).
وقوله : { وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ } أي : والأخ يرث جميع ما لها إذا ماتت كلالة ، وليس لها ولد ، أي : ولا والد ؛ لأنه لو كان لها والد لم يرث الأخ شيئًا ، فإن فرض أن معه من له فرض ، صرف إليه فرضه ؛ كزوج ، أو أخ من أم ، وصرف الباقي إلى الأخ ؛ لما ثبت في الصحيحين ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أَلْحِقُوا الفرائض بأهلها ، فما أبقت الفرائض فَلأوْلَى رجلٍ ذَكَر" (9).
وقوله : { فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ } أي : فإن كان لمن يموت كلالة ، أختان ، فرض لهما الثلثان ، وكذا ما زاد على الأختين في حكمهما ، ومن هاهنا أخذ الجماعة حكم البنتين كما استفيد حكم الأخوات من البنات ، في قوله : { فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ }.
وقوله : { وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ }. هذا حكم العصبات من البنين وبني البنين والإخوة إذا اجتمع ذكورهم وإناثهم ، أعطي الذكر مثل حظ الأنثيين.
__________
(1) المسند (5/188).
(2) تفسير الطبري (9/443).
(3) في ر : "ولد".
(4) في أ : "تعصيب".
(5) في ر : "النبي".
(6) صحيح البخاري برقم (6734).
(7) في ر ، أ : "للبنت".
(8) صحيح البخاري برقم (6736).
(9) صحيح البخاري برقم (6735) وصحيح مسلم برقم (1615).

(2/484)


وقوله : { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ } أي : يفرض لكم فرائضه ، ويحدّ لكم حدوده ، ويوضح لكم شرائعه.
وقوله : { أَنْ تَضِلُّوا } أي : لئلا تضلوا عن الحق بعد البيان. { وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي : هو عالم بعواقب الأمور ومصالحها وما فيها من الخير لعباده ، وما يستحقه كل واحد من القرابات بحسب قربه من المتوفى.
وقد قال أبو جعفر ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثني ابن عُلَيَّة ، أنبأنا ابن عَوْن ، عن محمد بن سيرين قال : كانوا في مسير ، ورأس راحلة حذيفة عند رِدْف راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورأس راحلة عمر عند ردف راحلة حذيفة. قال : ونزلت : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ } فلقَّاها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حذيفة ، فلقاها حذيفة عُمَر ، فلما كان بعد ذلك سأل عُمَرُ عنها حذيفة فقال : والله إنك لأحمق إن كنت ظننت أنه لقَّانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيتكها كما لقانيها (1) ، والله لا أزيدك عليها شيئًا أبدًا. قال : فكان عمر [رضي الله عنه] (2) يقول : اللهم إن (3) كنت بينتها له فإنها لم تُبَين لي.
كذا (4) رواه ابن جرير. ورواه أيضًا عن الحسن بن يحيى (5) ، عن عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين كذلك بنحوه. وهو منقطع بين ابن سيرين وحذيفة (6) ، وقد قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو البزَّار في مسنده : حدثنا يوسف بن حماد المَعْنيُّ ، ومحمد بن مرزوق قالا : أخبرنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى ، حدثنا هشام بن حسَّان ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي عبيدة بن حذيفة ، عن أبيه : "نزلت الكلالة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مسير له ، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم وإذا هو بحذيفة ، وإذا رأس ناقة حذيفة عند مُؤتَزَر النبي صلى الله عليه وسلم ، فلقَّاها إياه ، فنظر حذيفة فإذا عمر ، رضي الله عنه ، فلقاها إياه ، فلما كان في خلافة عمر نظر عمر في الكلالة ، فدعا حذيفة فسأله عنها ، فقال حذيفة : لقد لقَّانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فَلَقَّيتُك كما لقاني ، والله (7) إني لصادق ، ووالله لا أزيد على ذلك شيئًا أبدًا.
ثم قال البزار : وهذا الحديث لا نعلم أحدا رواه إلا حذيفة ، ولا نعلم له طريقًا عن حذيفة إلا هذا الطريق ، ولا رواه عن هشام إلا عبد الأعلى. وكذا رواه ابن مَردُوَيه من حديث عبد الأعلى (8).
وقال عثمان بن أبي شَيْبَة : حدثنا جرير ، عن الشَّيباني ، عن عمرو بن مُرّة ، عن سعيد - [هو] (9) ابن المسيَّب - أن عمر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يُوَرّث الكلالة ؟ قال : فأنزل الله { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ] (10) } الآية (11) ، قال : فكأن عمر لم يفهم. فقال لحفصة : إذا رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم طيب نَفْس فسليه عنها ، فرأت منه طيب نفس فسألته عنها (12) ، فقال : "أبوك ذكر لك هذا ؟ ما
__________
(1) في أ : "لقاني" وفي د : "لقانيها رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(2) زيادة من أ.
(3) في ر : "من".
(4) في ر : "وكذا".
(5) في أ : "محمد".
(6) تفسير الطبري (9/435).
(7) في ر : "ووالله".
(8) مسند البزار برقم (2206) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (7/13) : "رجاله رجال الصحيح غير أبي عبيدة بن حذيفة ، ووثقه ابن حبان".
(9) زيادة من ر ، أ.
(10) زيادة من ر ، أ.
(11) في ر ، أ : "إلى آخرها".
(12) في ر : "عنه".

(2/485)


أرى أباك يعلمها". قال : وكان (1) عمر يقول : ما أراني أعلمها ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال.
رواه ابن مَرْدُوَيه (2) ، ثم رواه من طريق ابن عيينة ، عن عمرو ، عن طاوس : أن عمر أمر حَفْصَة أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلالة ، فأملاها عليها في كَتَفٍ ، فقال : "من أمرك بهذا ؟ أعمر ؟ ما أراه يقيمها ، أوما تكفيه (3) آية الصيف ؟" قال سفيان : وآية الصيف التي في النساء : { وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ } ، فلما سألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نزلت الآية التي هي خاتمة النساء ، فألقى عمر الكتف. كذا قال في هذا الحديث ، وهو مرسل (4).
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرِيْبٍ ، حدثنا عَثَّام ، عن الأعمش ، عن قيس بن مُسْلِم ، عن طارق بن شهاب قال : "أخذ عمر كَتفًا وجمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : لأقضينَّ في الكلالة قضاء تحدث به النساء في خدورهن. فخرجت حينئذ حَيّة من البيت ، فتفرقوا ، فقال : لو أراد الله ، عز وجل ، أن يتم هذا الأمر لأتمه. وهذا إسناد صحيح (5).
وقال الحاكم أبو عبد الله النَّيْسَابُورِي : حدثنا علي بن محمد بن عقبة الشَّيْبَاني بالكوفة ، حدثنا الهيثمُ بن خالد ، حدثنا أبو نُعَيْم ، حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، سمعت محمد بن طلحة بن يزيد بن رُكَانَة يحدث عن عمر بن الخطاب قال : لأن أكون سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلاث أحبُّ إليّ من حُمْر النَّعَم : مَن الخليفة بعده ؟ وعن قوم قالوا : نُقرُّ في الزكاة من أموالنا ولا نؤديها إليك ، أيحل قتالهم ؟ وعن الكلالة. ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه (6). ثم روي بهذا الإسناد إلى سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن مُرَّة ، عن مُرة ، عن عمر قال : ثلاث لأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بَيَّنَهُنّ لنا أحبُّ إليّ من الدنيا وما فيها : الخلافة ، والكلالة ، والربا. ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه (7).
وبهذا الإسناد إلى سفيان بن عيينة قال : سمعتُ سليمان الأحولَ يحدث ، عن طاوس قال : سمعت ابن عباس قال : كنتُ آخر الناس عهدا بعمر ، فسمعته يقول : القولُ ما قلتُ : قلتُ : وما قلتَ ؟ قال : قلتُ : الكلالة ، من لا ولد له. ثم قال : صحيح على شرطهما ولم يخرجاه.
وهكذا رواه ابن مَرْدُوَيه من طريق زَمْعة بن صالح ، عن عمرو بن دينار وسليمان الأحول ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : كنتُ آخر الناس عهدا بعمر بن الخطاب ، قال : اختلفت أنا وأبو بكر في الكلالة ، والقولُ ما قلتُ. قال : وذكر أن عمر شرك بين الإخوة للأب وللأم (8) ، وبين الإخوة للأم في الثلث إذا اجتمعوا ، وخالفه أبو بكر ، رضي الله عنهما (9).
__________
(1) في ر : "فكان".
(2) ورواه إسحاق بن راهويه في مسنده كما في الدر المنثور (2/753).
(3) في ر : "وما تكفيه".
(4) ورواه سعيد بن منصور في السنن برقم (587) وعبد الرزاق في المصنف برقم (19194) من طريق سفيان بن عيينة به.
(5) تفسير الطبري (9/439).
(6) المستدرك (2/303) وتعقبه الذهبي بقوله : "بل ما خرجا لمحمد شيئا ولا أدرك عمر" ، فالسند فيه انقطاع.
(7) المستدرك (2/304) ووافقه الذهبي.
(8) في ر : "للأب والأم".
(9) المستدرك (2/303) ورواه سعيد بن منصور في السنن برقم (589) من حديث سفيان عن سليمان الأحول به.

(2/486)


وقال ابن جرير : حدثنا ابن وكيع ، حدثنا محمد بن حُمَيْد الْمَعْمَرِي (1) ، عن مَعْمَر عن الزُّهْرِي ، عن سعيد بن المسيَّب : أن عمر كتب في الجَدِّ والكلالةِ كتابًا ، فمكث يستخير الله فيه يقول : اللهم إن علمت فيه خيرًا فأمضه ، حتى إذا طَعِن دعا بكتاب فمحى ، ولم يدرِ أحدٌ ما كتب فيه. فقال : إني كنت كتبت في الجَدِّ والكلالة كتابًا ، وكنت استخرت الله فيه ، فرأيت أن أترككم على ما كنتم عليه (2).
قال ابن جرير : وقد رُوِي عن عمر ، رضي الله عنه ، أنه قال : إني لأستحي أن أخالف فيه أبا بكر. وكأن أبو بكر ، رضي الله عنه ، يقول : هو ما عدا الولد والوالد (3).
وهذا الذي قاله الصديق عليه جمهور الصحابة والتابعين والأئمة ، في قديم الزمان وحديثه ، وهو مذهب الأئمة الأربعة ، والفقهاء السبعة. وقول علماء الأمصار قاطبة ، وهو الذي يدل عليه القرآن ، كما أرشد الله أنه قد بين ذلك ووضحه (4) في قوله (5) : { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }.
__________
(1) في ر : "العمري".
(2) تفسير الطبري (9/438).
(3) رواه سعيد بن منصور في السنن برقم (591) ومن طريقه البيهقي في السنن الكبرى (6/224) من طريق سفيان عن عاصم عن الشعبي قال : قال عمر فذكره.. وهو منقطع.
(4) في ر : "وصححه".
(5) في ر : "وفي قول".

(2/487)


تفسير سورة المائدة
[ وهي مدنية] (1)
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو النَّضر ، حدثنا أبو معاوية شَيْبان ، عن لَيْث ، عن شَهر بن حَوْشَب ، عن أسماء بنت يزيد قالت : إني لآخذة (2) بزِمَام العَضْباء ناقةِ رسول الله (3) صلى الله عليه وسلم ، إذ نزلت (4) عليه المائدة كلها ، وكادت من ثقلها تَدُقّ عَضُد الناقةَ (5).
وروى ابن مَرْدُويه من حديث صالح (6) بنِ سُهَيْل ، عن عاصم الأحول قال : حدثتني أم عمرو ، عن عمها ؛ أنه كان في مَسِير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت عليه سورة المائدة ، فاندَقَّ عُنُق الراحلة من ثقلها (7).
وقال أحمد أيضًا : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعَة ، حدثني حُيَيُّ بن عبد الله ، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي (8) عن عبد الله بن عمرو قال : أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته ، فلم تستطع أن تحمله ، فنزل عنها.
تفرد به أحمد (9) وقد روى الترمذي عن قُتَيْبَة ، عن عبد الله بن وَهْب ، عن حُيَيٍّ ، عن أبي عبد الرحمن ، عن عبد الله بن عمرو قال : آخر سورة أنزلت : سورة المائدة والفتح ، ثم قال الترمذي : هذا حديث غريب حسن. وقد روي عن ابن عباس أنه قال : آخر سورة أنزلت : " إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ " [ سورة النصر : 1 ].
وقد روى الحاكم في مستدركه ، من طريق عبد الله بن وهب بإسناده (10) نحو رواية الترمذي ، ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه (11).
وقال الحاكم أيضا : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا بحر (12) بن نصر قال : قُرئ على عبد الله بن وَهْب ، أخبرني معاوية بن صالح ، عن أبي الزاهرية ، عن جبير بن نُفَيْر قال : حججت فدخلت على عائشة ، فقالت لي : يا جبير ، تقرأ المائدة ؟ فقلت : نعم. فقالت : أما إنها آخر سورة نزلت (13) فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه ، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه. ثم قال :
__________
(1) زيادة من ر ، أ.
(2) في د : "لآخذة يوما".
(3) في ر : "النبي".
(4) في د : "إذ أنزلت".
(5) المسند (6/455) وقال الهيثمي في المجمع (7/13) : "فيه شهر بن حوشب وهو ضعيف وقد وثق".
(6) في ر : "صباح".
(7) ورواه ابن أبي شيبة في مسنده ، والبغوي في معجمه ، والبيهقي في دلائل النبوة كما في الدر المنثور (3/3).
(8) في ر : "الختلي" ، وفي أ : "الجبلي".
(9) المسند (2/176) وقال الهيثمي في المجمع (7/13) : "فيه ابن لهيعة ، والأكثر على ضعفه وقد يحسن حديثه".
(10) في ر : "بإسناده نحوه".
(11) سنن الترمذي برقم (3063) والمستدرك (2/311).
(12) في أ : "محمد".
(13) في ر : "نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم".

(2/5)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)

صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
ورواه الإمام أحمد ، عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن معاوية بن صالح ، وزاد : وسألتها (1) عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : القرآن. وراوه النسائي من حديث ابن مهدي (2).
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) }.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نُعَيْم بن حماد ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، حدثنا مِسْعَر ، حدثني مَعْن وعَوْف - أو : أحدهما - أن رجلا أتى عبد الله بن مسعود [رضي الله عنه] (3) فقال : اعهد إليَّ. فقال : إذا سمعت الله يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فارْعِها سَمْعَك ، فإنه خَيْر يأمر به ، أو شَر ينهى عنه.
وقال : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم - دُحيم - حدثنا الوليد ، حدثنا الأوزاعي ، عن الزهري قال : إذا قال الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } افعلوا ، فالنبي صلى الله عليه وسلم منهم.
وحدثنا أحمد بن سنَان ، حدثنا محمد بن عُبيد (4) حدثنا الأعمش ، عن خَيْثَمَة قال : كل شيء في القرآن : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فهو في التوراة : "يأ يها المساكين".
فأما (5) ما رواه عن زيد بن إسماعيل الصائغ البغدادي ، حدثنا معاوية - يعني : ابن هشام - عن عيسى بن راشد ، عن علي بن بُذَيْمَة ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : ما في القرآن آية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } إلا أن عليًا سيدها وشريفها وأميرها ، وما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحد إلا قد عوتب في القرآن إلا علي بن أبي طالب ، فإنه لم يعاتبْ في شيء منه. فهو أثر غريب ولفظه فيه نكارة ، وفي إسناده نظر.
قال البخاري : عيسى بن راشد هذا مجهول ، وخبره منكر. قلت : وعلي بن بذيمة - وإن كان ثقة - إلا أنه شيعي غالٍ ، وخبره في مثل هذا فيه تُهمة فلا يقبل. وقوله : "ولم يبق أحد من الصحابة إلا
__________
(1) في ر ، أ : "فسألتها".
(2) المستدرك (2/311) والمسند (6/188) وسنن النسائي الكبرى برقم (11138).
(3) زيادة من أ.
(4) في أ : "محمد بن سنان".
(5) في ر : "فإنه".

(2/6)


عوتب في القرآن إلا عليًا" إنما يشير به إلى الآية الآمرة بالصدقة بين يدي النجوي ، فإنه قد ذَكَر غير واحد أنه لم يعمل بها أحد إلا عليٌّ ، ونزل قوله : { أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ (1) فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ } الآية [ سورة المجادلة : 13] وفي كون هذا عتابًا نظر ؛ فإنه قد قيل : إن الأمر كان ندبا لا إيجابا ، ثم قد نسخ ذلك عنهم قبل الفعل ، فلم ير (2) من أحد منهم خلافه. وقوله عن علي : "إنه لم يعاتب في شيء من القرآن" فيه نظر أيضًا ؛ فإن الآية التي في الأنفال التي فيها المعاتبة على أخذ الفِداء عَمَّت جميع من أشار بأخذه ، ولم يسلم منها إلا عُمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، فعلم بهذا ، وبما تقدم ضَعفُ هذا الأثر ، والله أعلم.
وقال (3) ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا اللَّيْث ، حدثني يونس قال : قال محمد بن مسلم : قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كُتب لعمرو بن حَزْم حين بعثه إلى نَجْران ، وكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم ، فيه : هذا بيان من الله ورسوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } فكتب الآيات منها حتى بلغ : { إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } (4).
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا يونس بن بُكَيْر ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن أبيه قال : هذا كتابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عندنا ، الذي كتبه لعمرو بن حَزْم ، حين بعثه إلى اليمن يُفَقه أهلها ويعلمهم السنة ، ويأخذ صدقاتهم. فكتب (5) له كتابا وعهدا ، وأمره فيه بأمره ، فكتب : " بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من الله ورسوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } عَهْدٌ من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم ، حين بعثه إلى اليمن ، أمره بتقوى الله في أمره كله ، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون" (6).
قوله تعالى { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : يعني بالعقود : العهود. وحكى ابن جرير الإجماع على ذلك (7) قال : والعهود ما كانوا يتعاهدون (8) عليه من الحلف وغيره. وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } يعني بالعهود : يعني ما أحل الله وما حرم ، وما فرض وما حَد في القرآن كله ، فلا (9) تغدروا ولا تنكثوا ، ثم شدد في ذلك فقال : { وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } إلى قوله : { سُوءُ الدَّارِ } [ الرعد : 25 ].
وقال الضحاك : { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } قال : ما أحل الله وما حرم (10) وما أخذ الله من الميثاق على من أقر بالإيمان بالنبي [صلى الله عليه وسلم] (11) والكتاب أن يوفوا بما أخذ الله عليهم من الفرائض من الحلال والحرام.
__________
(1) في ر ، أ : "صدقة".
(2) في أ : "فلم يصدر".
(3) بداية تفسير الآيات من المخطوطة د.
(4) تفسير الطبري (9/454).
(5) في د : "كتب".
(6) ورواه البيهقي في دلائل النبوة (5/413) من طريق أحمد بن عبد الجبار ، عن يونس بن بكير به.
(7) في د : "عليه".
(8) في د ، أ : "والعقود ما كانوا يتعاقدون".
(9) في د ، ر ، أ : "ولا".
(10) في د : "ما أحل الله وحرم" ، وفي ر : "ما أحل وحرم".
(11) زيادة من أ.

(2/7)


وقال زيد بن أسلم : { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } قال : هي ستة : (1) عهد الله ، وعقد الحلف ، وعقد الشركة ، وعقد البيع ، وعقد النكاح ، وعقد اليمين.
وقال محمد بن كعب : هي خمسة منها : حلف الجاهلية ، وشركة المفاوضة.
وقد استدل بعض من ذهب إلى أنه لا خيار في مجلس البيع بهذه الآية : { أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } قال : فهذا يدل على لزوم العقد وثبوته ، فيقتضي نفي خيار المجلس ، وهذا مذهب أبي حنيفة ، ومالك. وخالفهما الشافعي وأحمد بن حنبل والجمهور ، والحجة في ذلك ما ثبت في الصحيحين ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "البَيِّعان بالخيار ما لم يَتَفرَّقا" (2) وفي لفْظ للبخاري : "إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا" (3) وهذا صريح في إثبات خيار المجلس المتعقب لعقد البيع ، وليس هذا منافيًا للزوم العقد ، بل هو من مقتضياته شرعا ، فالتزامه من تمام الوفاء بالعقد.
وقوله تعالى : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ } هي : الإبل والبقر ، والغنم. قاله الحسن وقتادة وغير واحد. قال ابن جرير : وكذلك هو عند العرب. وقد استدل ابن عمر ، وابن عباس ، وغير واحد بهذه الآية على إباحة الجنين إذا وجد ميتا في بطن أمه إذا ذبحت ، وقد ورد في ذلك حديث في السنن ، رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ، من طريق مُجالد ، عن أبي الودَّاك جبر بن نَوْف ، عن أبي سعيد ، قال : قلنا : يا رسول الله ، ننحر الناقة ، ونذبح البقرة أو الشاة في بطنها الجنين ، أنلقيه أم نأكله ؟ فقال : "كلوه إن شئتم ؛ فإن ذكاته ذكاة أمه". وقال الترمذي : حديث حسن (4).
[و] (5) قال أبو داود : حدثنا محمد بن يحيى بن فارس ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا عَتَّاب بن بشير ، حدثنا عبيد الله بن أبي زياد القداح المكي ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ذكاة الجنين ذكاة أمه". تفرد به أبو داود (6).
وقوله : { إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني بذلك : الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير.
وقال قتادة : يعني بذلك الميتة ، وما لم يذكر اسم الله عليه.
والظاهر - والله أعلم - أن المراد بذلك قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ } فإن هذه وإن كانت من الأنعام إلا أنها تحرم بهذه العوارض ؛ ولهذا قال : { إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } يعني : منها. فإنه حرام لا يمكن استدراكه ، وتلاحقُه ؛ ولهذا قال تعالى : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ } أي : إلا ما سيتلى (7) عليكم من تحريم بعضها في بعض الأحوال.
__________
(1) في ر ، أ : "سنة".
(2) صحيح البخاري برقم (2109) وصحيح مسلم برقم (1531).
(3) اللفظ في صحيح البخاري برقم (2112) وصحيح مسلم برقم (1531).
(4) سنن أبي داود برقم (2827) وسنن الترمذي برقم (1476) وسنن ابن ماجة برقم (3199).
(5) زيادة من ر.
(6) سنن أبي داود برقم (2828).
(7) في د : "يتلى".

(2/8)


وقوله : { غَيْرَ (1) مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } قال بعضهم : هذا منصوب على الحال. والمراد من الأنعام : ما يعم الإنسي من الإبل والبقر والغنم ، وما يعم الوحشي كالظباء والبقر والحمر ، فاستثنى من الإنسي ما تقدم ، واستثنى من الوحشي الصيد في حال الإحرام.
وقيل : المراد [أحللنا لكم الأنعام إلا ما استثني لمن التزم تحريم الصيد وهو حرام ، كقوله : { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ } أي : أبحنا تناول الميتة للمضطر بشرط أن يكون غير باغ ولا عاد ، أي : كما] (2) أحللنا (3) الأنعام لكم في جميع الأحوال ، فحرموا الصيد في حال الإحرام ، فإن الله قد حكم بهذا وهو الحكيم في جميع ما يأمر به وينهى عنه ؛ ولهذا قال : { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ }
ثم قال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ } قال ابن عباس : يعني بذلك مناسك الحج.
وقال مجاهد : الصفا والمروة والهدي والبُدن من شعائر الله.
وقيل : شعائر الله محارمه [التي حرمها] (4) أي : لا تحلوا محارم الله التي حرمها تعالى ؛ ولهذا قال [تعالى] (5) { وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ } يعني بذلك تحريمه والاعتراف بتعظيمه ، وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه (6) من الابتداء بالقتال وتأكيد اجتناب المحارم ، كما قال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } [ البقرة : 217 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا [فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ] } (7) الآية.[ التوبة : 36 ].
وفي صحيح البخاري : عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع : "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حُرُم ، ثلاث متواليات : ذو القَعْدة ، وذو الحجة ، والمحرم ، ورجب مُضَر الذي بين جُمادى وشعبان".
وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت ، كما هو مذهب طائفة من السلف.
وقال علي بن أبي طلحة (8) عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ } يعني : (9) لا تستحلوا قتالا فيه. وكذا قال مُقَاتل بن حَيَّان ، وعبد الكريم بن مالك الجزَريُّ ، واختاره ابن جرير أيضًا ، وقد ذهب الجمهور إلى أن ذلك منسوخ ، وأنه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم ، (10) واحتجوا بقوله : { فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } [التوبة : 5] قالوا : والمراد أشهر التسيير الأربعة ، [ { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } ] (11) قالوا : فلم يستثن شهرا حراما من غيره.
وقد حكى الإمام أبو جعفر (12) [رحمه الله] (13) الإجماع على أن الله قد أحل قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم ، وغيرها من شهور السنة ، قال : وكذلك (14) أجمعوا على أن المشرك لو قلد عنقه أو
__________
(1) في د ، ر ، أ : "بالأنعام".
(2) زيادة من د.
(3) في د : "حللنا".
(4) زيادة من د.
(5) زيادة من د.
(6) في د : "ما نهى الله عنه فيه".
(7) زيادة من د ، أ.
(8) في د : " وقال ابن أبي طلحة".
(9) في د : : أي".
(10) في د : "الشهر الحرام".
(11) زيادة من ر.
(12) في د : "وحكى ابن جرير".
(13) زيادة من أ.
(14) في أ : "ولذلك".

(2/9)


ذراعيه (1) بلحاء (2) جميع أشجار الحرم ، لم يكن ذلك له أمانا من القتل ، إذا لم يكن تقدم له عقد ذمة من المسلمين أو أمان (3) ولهذه المسألة بحث آخر ، له موضع أبسط من هذا.
[و] (4) قوله : { وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ } يعني : لا تتركوا الإهداء إلى البيت ؛ فإن فيه تعظيمًا لشعائر الله ، ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به عما عداها من الأنعام ، وليعلم أنها هدي إلى الكعبة فيجتنبها من يريدها بسوء ، وتبعث من يراها على الإتيان بمثلها ، فإن من دعا إلى هدْيٍ كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه ، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا ؛ ولهذا لما حَج رسول الله صلى الله عليه وسلم بات بذي الحُلَيْفة ، وهو وادي العَقيق ، فلما أصبح طاف على نسائه ، وكن تسعا ، ثم اغتسل وتَطيَّب وصلَّى ركعتين ، ثم أشعر هَدْيَه وقلَّدَه ، وأهَلَّ بالحج والعمرة وكان هديه إبلا كثيرة تنيفُ على الستين ، من أحسن الأشكال والألوان ، كما قال تعالى : { ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } [الحج : 32].
قال بعض السلف : إعظامها : استحسانها واستسمانها.
وقال علي بن أبي طالب : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن. رواه أهل السنن (5)
وقال مُقاتل بن حَيَّان : { وَلا الْقَلائِدَ } فلا تستحلوا (6) وكان أهل الجاهلية إذا خرجوا من أوطانهم في غير الأشهر الحرم (7) قلَّدوا أنفسهم بالشَّعْر والوَبَر ، وتقلد مشركو الحرم من لَحاء شجر الحرم ، فيأمنون به.
رواه ابن أبي حاتم ، ثم قال : حدثنا محمد بن عَمَّار ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا عَبَّاد بن العَوَّام ، عن سفيان بن حسين ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : نسخ من هذه السورة آيتان : آية القلائد ، وقوله : { فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } [المائدة : 42].
وحدثنا المنذر بن شاذان ، حدثنا زكريا بن عَدِيّ ، حدثنا محمد بن أبي عَدِيّ ، عن ابن عَوْن قال : قلت للحسن : نسخ من المائدة شيء ؟ قال : لا.
وقال عطاء : كانوا يتقلدون من شجر الحرم ، فيأمنون ، فنهى الله عن قطع شجره. وكذا قال مُطرِّف بن عبد الله.
وقوله : { وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا } أي : ولا تستحلوا قتال القاصدين إلى بيت الله الحرام ، الذي من دخله كان آمنا ، وكذا من قصده طالبا فضل الله وراغبا في رضوانه ، فلا تصدوه ولا تمنعوه ولا تهيجوه.
قال مجاهد ، وعطاء ، وأبو العالية ، ومُطَرِّف بن عبد الله ، وعبد الله (8) بن عُبَيد بن عُمير ، والربيع
__________
(1) في د : ذراعيه أو عنقه".
(2) في د ، ر : "لحاء".
(3) تفسير الطبري (9/479).
(4) زيادة من د.
(5) سنن أبي داود برقم (2804) وسنن الترمذي برقم (1498) وسنن النسائي (7/216) وسنن ابن ماجة برقم (3142).
(6) في د ، ر ، أ : "فلا تستحلوه".
(7) في ر : "أشهر الحرم".
(8) في أ : "وعبيد الله".

(2/10)


بن أنس ، وقتادة ، ومُقاتل بن حَيَّان في قوله : { يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ } يعني بذلك : التجارة.
وهذا كما تقدم في قوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ } [البقرة : 198]
وقوله : { وَرِضْوَانَا } قال ابن عباس : يترضَّون الله بحجهم.
وقد ذكر عِكْرِمة ، والسُّدِّي ، وابن جُرَيْجٍ : أن هذه الآية نزلت في الحُطم (1) بن هند البكري ، كان قد أغار على سَرْح المدينة ، فلما كان من العام المقبل اعتمر إلى البيت ، فأراد بعض الصحابة أن يعترضوا (2) في طريقه إلى البيت ، فأنزل الله عز وجل { وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا }.
وقد حكى ابن جرير الإجماع على أن المشرك يجوز قتله ، إذا لم يكن له أمان ، وإن أمَّ البيت الحرام أو بيت المقدس ؛ فإن هذا الحكم منسوخ في حقهم ، والله أعلم. فأما من قصده بالإلحاد فيه والشرك عنده والكفر به ، فهذا يمنع كما قال [تعالى] (3) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } [التوبة : 28] ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تسع - لما أمَّر الصديق على الحجيج - علِيّا ، وأمره أن ينادي على سبيل النيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة ، وألا يحج بعد العام مُشْرِك ، ولا يطوفن بالبيت عُرْيان (4).
وقال [على] (5) بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } يعني من توجه قِبَل البيت الحرام ، فكان المؤمنون والمشركون يحجون البيت الحرام ، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدا يحج البيت أو يعرضوا له من مؤمن أو كافر ، ثم أنزل الله بعدها : { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } [التوبة : 28] وقال تعالى : { مَا كَانَ (6) لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ } [التوبة : 17] وقال [تعالى] : (7) { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } [ التوبة : 18 ] فنفى المشركين من المسجد الحرام.
وقال عبد الرزاق : حدثنا مَعْمَر ، عن قتادة في قوله : { وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ } قال : منسوخ ، كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تَقلَّد من الشجر ، فلم يعرض له أحد ، وإذا رجع تقلد قلادة من شَعرٍ فلم يعرض له أحد. وكان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت ، فأمروا ألا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت ، فنسخها قوله : { فَاقْتُلُوا (8) الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ]..
وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله : { وَلا الْقَلائِدَ } يعني : إن تقلدوا قلادة من الحرم فأمنوه ، قال : ولم تزل العرب تعير من أخفر ذلك ، قال الشاعر (9) :
__________
(1) في د : "الحطيم".
(2) في أ : "يعترضوا عليه".
(3) زيادة من ر ، أ.
(4) رواه البخاري في صحيحه برقم (3177) من حديث أبي بكر ، رضي الله عنه.
(5) زيادة من ر ، أ.
(6) في ر : " وما كان" وهو خطأ.
(7) زيادة من ر.
(8) في د ، ر : "اقتلوا" ، وهو خطأ.
(9) وهو حذيفة بن أنس الهذلي ، والبيت في تفسير الطبري (9/470).

(2/11)


ألَمْ تَقْتُلا الحرْجَين إذ أعورا لكم... يمرَّان الأيدي اللَّحاء المُضَفَّرا (1)
وقوله : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } أي : إذا فرغتم من إحرامكم وأحللتم منه ، فقد أبحنا لكم ما كان محرما عليكم في حال الإحرام من الصيد. وهذا أمر بعد الحظر ، والصحيح الذي يثبت على السَّبْر : أنه يرد الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي ، فإن كان واجبًا رده واجبًا ، وإن كان مستحبًا فمستحب ، أو مباحًا فمباح. ومن قال : إنه على الوجوب ، ينتقض عليه بآيات كثيرة ، ومن قال : إنه للإباحة ، يرد عليه آيات أخر ، والذي ينتظم الأدلة كلها هذا الذي ذكرناه ، كما اختاره بعض علماء الأصول ، والله أعلم.
وقوله : { وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا } ومن القراء من قرأ : "أن صدوكم" بفتح الألف من "أن" ومعناها ظاهر ، أي : لا يحملنكم بغض قوم قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام ، وذلك عام الحديبية ، على أن تعتدوا [في] (2) حكم الله فيكم (3) فتقتصوا منهم ظلمًا وعدوانًا ، بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في كل أحد. وهذه الآية كما سيأتي من قوله تعالى : { وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [ المائدة : 8 ] أي : لا يحملنكم بغض أقوام على ترك العدل ، فإن العدل واجب على كل أحد ، في كل أحد في كل حال.
وقال بعض السلف : ما عاملتَ من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه ، والعدل به قامت السموات والأرض.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سَهْل بن عثمان (4) حدثنا عبد الله بن جعفر ، عن زيد بن أسلم قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية وأصحابه حين صدهم المشركون عن البيت ، وقد اشتد ذلك عليهم ، فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق ، يريدون العمرة ، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : نصد (5) هؤلاء كما صدنا أصحابهم. فأنزل الله هذه الآية (6).
والشنآن هو : البغض. قاله ابن عباس وغيره ، وهو مصدر من شنَأته أشنؤه شنآنا ، بالتحريك ، مثل قولهم : جَمَزَان ، ودَرَجَان ورَفَلان ، من جمز ، ودرج ، ورفل. قال ابن جرير : من العرب من يسقط التحريك في شنآن ، فيقول : شنان. قال : ولم أعلم أحدًا قرأ بها ، ومنه قول الشاعر (7) :
ومَا العيشُ إلا ما تُحبُّ وتَشْتَهي (8) وَإنْ لامَ فيه ذو الشنَّان وفَنَّدَا...
وقوله : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ } يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات ، وهو البر ، وترك المنكرات وهو التقوى ، وينهاهم عن التناصر على الباطل.
__________
(1) في ر : "للحاء المضفرا".
(2) زيادة من د.
(3) في د ، أ : "فيهم".
(4) في أ : "سهل بن عفان".
(5) في ر ، أ : "قصد"
(6) وذكره الواحدي في أسباب النزول ولم يسنده
(7) هو الأحوص بن محمد الأنصاري ، والبيت في تفسير الطبري (9/487).
(8) في د : "إلا ما يحب ويشتهي

(2/12)


والتعاون على المآثم والمحارم.
قال ابن جرير : الإثم : ترك ما أمر الله بفعله ، والعدوان : مجاوزة ما حد الله في دينكم ، ومجاوزة ما فرض عليكم في أنفسكم وفي غيركم (1).
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيْم ، حدثنا عبيد الله بن أبي بكر بن أنس ، عن جده أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "انْصُرْ أخاك ظالمًا أو مظلومًا". قيل : يا رسول الله ، هذا نَصَرْتُه مظلوما ، فكيف أنصره إذا كان ظالما ؟ قال : "تحجزه تمنعه (2) فإن ذلك نصره".
انفرد به البخاري من حديث هُشَيْم به نحوه (3) وأخرجاه (4) من طريق ثابت ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "انصر أخاك ظالما أو مظلوما". قيل : يا رسول الله ، هذا نصرته مظلوما ، فكيف أنصره ظالما ؟ قال : "تمنعه من الظلم ، فذاك نصرك إياه".
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا سفيان بن سعيد ، عن يحيى بن وَثَّاب ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (5) قال : "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ، أعظم أجرا من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم" (6).
وقد رواه أحمد أيضا في مسند عبد الله بن عمر : حدثنا حجاج ، حدثنا شعبة عن الأعمش ، عن يحيى بن وثاب ، عن شيخ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، [قال الأعمش : هو ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم] (7) أنه قال : "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم ، خير من الذي لا يخالطهم (8) ولا يصبر على أذاهم".
وهكذا رواه الترمذي من حديث شعبة ، وابن ماجه من طريق إسحاق بن يوسف ، كلاهما عن الأعمش ، به (9).
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن محمد أبو شيبة الكوفي ، حدثنا بكر بن عبد الرحمن ، حدثنا عيسى بن المختار ، عن ابن أبي ليلى ، عن فُضَيْل بن عمرو ، عن أبي وائل ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الدَّالُّ على الخير كفاعله". ثم قال : لا نعلمه يروى إلا بهذا الإسناد (10).
__________
(1) تفسير الطبري (9/490)
(2) في أ : "تمنعه من الظلم".
(3) المسند (3/99) وصحيح البخاري برقم (2443).
(4) لم أهتد إليه من هذا الطريق في الصحيحين ، ولعله خطأ ، فقد راجعت تحفة الأشراف للمزي فلم أجده ، وقد أخرجه البخاري في صحيحه برقم (2444) من طريق حميد ، عن أنس به.
(5) في د : "النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا".
(6) المسند (5/365).
(7) زيادة من ر ، أ.
(8) في أ : "لا يخالط الناس".
(9) المسند (2/32) وسنن الترمذي برقم (2507) وسنن ابن ماجة برقم (4032).
(10) مسند البزار برقم (154) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (1/166) : "فيه عيسي بن المختار ، تفرد عنه بكر بن عبد الرحمن".

(2/13)


قلت : وله شاهد (1) في الصحيح : "من دعا إلى هدي كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة ، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة ، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا" (2).
وقال أبو القاسم الطبراني : حدثنا عمرو بن إسحاق بن إبراهيم بن العلاء بن زبريق الحمصي ، حدثنا أبي ، حدثنا عمرو بن الحارث ، عن عبد الله بن سالم ، عن الزبيدي ، قال عباس بن يونس : إن أبا الحسن نِمْرَان بن مخُمر حدثه (3) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من مشى مع ظالم ليعينه ، وهو يعلم أنه ظالم ، فقد خرج من الإسلام" (4).
__________
(1) في أ : "شواهد".
(2) رواه مسلم في صحيحه برقم (2674) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.
(3) في ر ، أ : "حدثه أن أوس بن شرحبيل أحدبني المجمع حدثه".
(4) المعجم الكبير (1/197) وفي إسناده إسحاق بن إبراهيم ضعيف.

(2/14)


حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)

{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) }
يخبر تعالى عباده خبرا متضمنا النهي عن تعاطي هذه المحرمات من الميتة وهي : ما مات من الحيوان حَتْف أنفه ، من غير ذكاة ولا اصطياد ، وما ذاك إلا لما فيها من المضرة ، لما فيها من الدم المحتقن ، فهي ضارة للدين وللبدن فلهذا حرمها الله ، عز وجل ، ويستثني من الميتة السمك ، فإنه حلال سواء مات بتذكية أو غيرها ، لما رواه مالك في موطئه ، والشافعي وأحمد في مسنديهما ، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في سننهم ، وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ماء البحر ، فقال : "هو الطَّهُور ماؤه الحِلُّ ميتته (1) ".
وهكذا الجراد ، لما سيأتي من الحديث ، وقوله : { وَالدَّمُ } يعني [به] (2) المسفوح ؛ لقوله : { أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا } [ الأنعام : 145 ] قاله ابن عباس وسعيد بن جُبَيْر.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا كثير بن شهاب المذْحِجي ، حدثنا محمد بن سعيد بن سابق ، حدثنا
__________
(1) الموطأ (1/22) ومسند الشافعي برقم (25) "بدائع المنن" ومسند أحمد ( 2/237 ، 361) وسنن أبي داود برقم (83) وسنن الترمذي برقم (69) وسنن النسائي (1/50) وسنن ابن ماجه برقم (386) وصحيح ابن خزيمة برقم (111) وصحيح ابن حبان برقم (119) "موارد" كلهم من طريق صفوان بن سليم ، عن سعيد بن سلمة - من آل بني الأزرق - أن المغيرة بن أبي بردة أخبره أنه سمع أبا هريرة فذكره. وقد صحح هذا الحديث بن خزيمة والحاكم والبيهقي ، وقال الترمذي : "حديث حسن صحيح".
(2) زيادة من د ، أ.

(3/14)


عمرو - يعني ابن قيس - عن سِمَاك ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس : أنه سئل عن الطحال فقال : كلوه فقالوا : إنه دم. فقال : إنما حُرم عليكم الدم المسفوح.
وكذا رواه حماد بن سلمة ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم ، عن عائشة ، قالت : إنما نهى عن الدم السافح.
وقد قال أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي : حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) "أحِلَّ لنا ميتتان ودمان ، فأما الميتتان فالحوت (2) والجراد ، وأما الدمان فالكبد والطحال".
وكذا رواه أحمد بن حنبل ، وابن ماجه ، والدارقطني ، والبيهقي ، من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (3) وهو ضعيف. قال الحافظ البيهقي : ورواه إسماعيل بن أبي إدريس (4) عن أسامة ، وعبد الله ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر مرفوعا.
قلت : وثلاثتهم ضعفاء ، ولكن بعضهم أصلح من بعض. وقد رواه سليمان بن بلال أحد الأثبات ، عن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر ، فوقفه بعضهم عليه. قال الحافظ أبو زرعة الرازي : وهو أصح.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسن ، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب ، حدثنا بَشير بن سُرَيج ، عن أبي غالب ، عن أبي أمامة - وهو صُدَيّ بن عجلان - قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله ، وأعرض عليهم شرائع الإسلام ، فأتيتهم ، فبينا نحن كذلك إذ جاؤوا بقَصْعَة من دم ، فاجتمعوا (5) عليها يأكلونها ، قالوا : هلم يا صُديّ ، فكل. قال : قلت : ويحكم! إنما أتيتكم من عند مُحرِّم (6) هذا عليكم ، وأنزل الله عليه ، قالوا : وما ذاك ؟ قال : فتلوت عليهم هذه الآية : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [وَلَحْمُ الْخِنزيرِ] } (7) الآية.
ورواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه من حديث ابن أبي الشوارب بإسناد مثله ، وزاد بعد هذا السياق : قال : فجعلت أدعوهم إلى الإسلام ، ويأبون علي ، فقلت لهم : ويحكم ، اسقوني شربة من ماء ، فإني شديد العطش - قال : وعليّ عباءتي - فقالوا : لا ولكن ندعك حتى تموت عطشا. قال : فاغتممت وضربت (8) برأسي في العباء ، ونمت على الرمضاء في حر شديد ، قال : فأتاني آت في منامي بقَدَح من زجاج لم ير الناس أحسن منه ، وفيه شراب لم ير الناس [شرابا] (9) ألذ منه ، فأمكنني منها فشربتها ، فحيث فرغت من شرابي استيقظت ، فلا والله ما عطشت ولا عريت بعد تيك الشربة. (10)
__________
(1) في د : "عن ابن عمر مرفوعا".
(2) في د : "فالسمك".
(3) مسند الشافعي برقم (1734) "بدائع المنن" ومسند أحمد (2/97) وسنن ابن ماجة برقم (3314) وسنن الدارقطني (4/271) والسنن الكبرى للبيهقي (1/254).
(4) في د : "إسماعيل بن أبي أويس".
(5) في ر : "واجتمعوا"
(6) في د ، ر ، أ : "من يحرم".
(7) زيادة من أ.
(8) في د : "وجثوت".
(9) زيادة من ر ، أ.
(10) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (8/335) من طريق محمد بن أبي الشوارب به. قال الهيثمي في المجمع (9/387) : "فيه بشير بن سريج وهو ضعيف".

(3/15)


ورواه الحاكم في مستدركه ، عن علي بن حُمْشاذ (1) عن عبد الله بن أحمد بن حنبل ، حدثني عبد الله بن سلمة بن عياش العامري ، حدثنا صدقة بن هرمز ، عن أبي غالب ، عن أبي أمامة ، قد ذكر نحوه (2) وزاد بعد قوله : "بعد تيك الشربة" : فسمعتهم يقولون : أتاكم رجل من سراة قومكم ، فلم تَمْجعَوه بمذقة ، فأتوني بمذقة فقلت : لا حاجة لي فيها ، إن الله (3) أطعمني وسقاني ، وأريتهم بطني فأسلموا عن آخرهم.
وما أحسن ما أنشد الأعشى في قصيدته التي ذكرها ابن إسحاق : (4)
وإياكَ والميتات لا تقربنَّها... ولا تأخذن عظمًا حديدًا فتفصدا...
أي : لا تفعل كما يفعل (5) الجاهلية ، وذلك أن أحدهم كان إذا جاع أخذ شيئًا محددًا من عظم ونحوه ، فَيفْصِد به بعيره أو حيوانا من أي صنف كان ، فيجمع ما يخرج منه من الدم فيشربه ؛ ولهذا حرَّم الله الدم على هذه الأمة ، ثم قال الأعشى :
وذا النّصُب المنصوبَ لا تَأتينّه... ولا تعبد الأصنام والله فاعبدا...
وقوله : { وَلَحْمُ الْخِنزيرِ } يعني : إنسيه ووحشيه ، واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم ، ولا يحتاج إلى تحذلق الظاهرية في جمودهم هاهنا وتعسفهم في الاحتجاج بقوله : { فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا } يعنون قوله تعالى : { إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } [ الأنعام : 145 ] أعادوا الضمير فيما فهموه على الخنزير ، حتى يعم جميع أجزائه ، وهذا بعيد من حيث اللغة ، فإنه لا يعود الضمير إلا إلى المضاف دون المضاف إليه ، والأظهر أن اللحم يعم جميع الأجزاء كما هو المفهوم من لغة العرب ، ومن العرف المطرد ، وفي صحيح مسلم ، عن بُرَيدة بن الخصيب الأسلمي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من لعب بالنردَشير فكأنما صَبَغَ يده في لحم الخنزير ودمه" (6) فإذا كان هذا التنفير لمجرد اللمس (7) فكيف يكون التهديد والوعيد الأكيد على أكله والتغذي به ، وفيه دلالة على شُمُول اللحم لجميع الأجزاء من الشحم وغيره.
وفي الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام". فقيل : يا رسول الله ، أرأيت شحوم الميتة ، فإنها تطلى بها السفن ، وتدهن بها الجلود ، ويَسْتَصبِحُ بها الناس ؟ فقال : "لا هو حرام". (8)
وفي صحيح البخاري من حديث أبي سفيان : أنه قال لهرقل ملك الروم : "نهانا عن الميتة والدم". (9)
__________
(1) في ر ، أ : "علي بن حماد".
(2) في ر : "فذكر نحوه" ، وهو في المستدرك (3/642) وفيه صدقة بن هرمز ضعفه ابن معين وغيره.
(3) في ر : "إن ربي".
(4) أنظر القصيدة في : السيرة النبوية لابن هشام (1/386).
(5) في د : "كما فعل".
(6) صحيح مسلم برقم (2260).
(7) في ر : "تنفيرا بمجرد ملابسته باللمس".
(8) صحيح البخاري برقم (2236) وصحيح مسلم برقم (1581) من حديث جابر ، رضي الله عنه.
(9) لم أجد هذا اللفظ في صحيح البخاري في مواضع روايته لحديث هرقل.

(3/16)


وقوله : { وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } أي : ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله ، فهو حرام ؛ لأن الله أوجب أن تذبح (1) مخلوقاته على اسمه العظيم ، فمتى عُدِل بها عن ذلك وذكر عليها اسم غيره من صنم أو طاغوت أو وثن أو غير ذلك ، من سائر المخلوقات ، فإنها حرام بالإجماع. وإنما اختلف العلماء في المتروك التسمية عليه ، إما عمدًا أو نسيانا ، كما سيأتي تقريره في سورة الأنعام.
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسن الهِسِنْجَاني ، حدثنا نعيم بن حماد ، حدثنا ابن فضيل ، عن الوليد بن جُمَيْع ، عن أبي الطُّفَيْل قال : نزل آدم بتحريم أربع : الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به ، وإن هذه الأربعة الأشياء (2) لم تحل قط ، ولم تزل حراما منذ خلق الله السموات والأرض ، فلما كانت بنو إسرائيل حرم الله عليهم طيبات أحلت لهم بذنوبهم ، فلما بعث الله عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، نزل بالأمر الأول الذي جاء به آدم [عليه السلام] (3) وأحل لهم ما سوى ذلك فكذبوه وعصوه. وهذا أثر غريب.
وقال ابن أبي حاتم أيضا : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا ربعي بن عبد الله قال : سمعت الجارود بن أبي سَبْرَة - قال : هو جدي - قال : كان رجل من بني رَيَاح (4) يقال له : ابن وَثَيِل ، وكان شاعرا ، نافر - غالبا - أبا الفرزدق بماء بظهر الكوفة ، على أن يعقر هذا مائة من إبله ، وهذا مائة من إبله ، إذا وردت الماء ، فلما وردت الماء قاما إليها بالسيوف ، فجعلا يَكْسفان عَرَاقيبها. قال : فخرج الناس على الحمرات والبغال يريدون اللحم - قال : وعَليٌّ بالكوفة - قال : فخرج عليّ على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء وهو ينادي : يا أيها الناس ، لا تأكلوا من لحومها فإنما (5) أهل بها لغير الله.
هذا أثر غريب ، ويشهد له بالصحة ما رواه أبو داود : حدثنا هارون بن عبد الله ، حدثنا (6) حماد بن مَسْعَدة ، عن عوف ، عن أبي رَيْحانة ، عن ابن عباس قال : نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مُعاقرة الأعراب.
ثم قال أبو داود : محمد بن جعفر - هو غُنْدَر - أوقفه على ابن عباس. تفرد به أبو داود (7)
وقال أبو داود أيضا : حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء ، حدثنا أبي ، حدثنا جرير بن حازم ، عن الزبير بن خريت قال : سمعت عِكْرِمة يقول : (8) إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن طعام المتباريين (9) أن يؤكل.
ثم قال أبو داود : أكثر من رواه عن جرير لا يذكر فيه ابن عباس. تفرد به أيضا. (10)
وقوله : { وَالْمُنْخَنِقَةُ } وهي التي تموت بالخنق إما قصدًا أو اتفاقا ، بأن تَتَخبل في وثاقتها (11) فتموت به ، فهي حرام.
__________
(1) في ر : "يذبح".
(2) في ر : "أشياء".
(3) زيادة من أ.
(4) في ر : "رياح".
(5) في د ، ر : "فإنها".
(6) في ر : "بن".
(7) سنن أبي داود برقم (2820).
(8) في أ : "يقول : كان ابن عباس يقول".
(9) في د : "المتبارزين".
(10) سنن أبي داود برقم (3754)
(11) في ر : "وثاقها".

(3/17)


وأما { الْمَوْقُوذَةُ } فهي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدد حتى تموت ، كما قال ابن عباس وغير واحد : هي التي تضرب بالخَشَب حتى تُوقَذَ بها (1) فتموت.
وقال قتادة : كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصى حتى إذا ماتت أكلوها.
وفي الصحيح : أن عدي بن حاتم قال : قلت : يا رسول الله ، إني أرمي بالمِعراض الصيد فأصيب. قال : "إذا رميت بالمعراض فخَزَق فَكُلْه ، وإن أصابه بعَرْضِه فإنما هو وَقِيذ فلا تأكله". (2)
ففرق بين ما أصابه بالسهم ، أو بالمزراق ونحوه بحده فأحله ، وما أصابه بعرضه فجعله وقيذا فلم يحله ، وقد أجمع الفقهاء على هذا الحكم هاهنا ، واختلفوا فيما إذا صدم الجارحةُ الصيد فقتله بثقله ولم يجرحه ، على قولين ، هما قولان للشافعي ، رحمه الله :
أحدهما : [ أنه] (3) لا يحل ، كما في السهم ، والجامع أن كلا منهما ميت بغير جرح فهو وقيذ.
والثاني : أنه يحل ؛ لأنه حكم بإباحة ما صاده الكلب ، ولم يستفصل ، فدل على إباحة ما ذكرناه ؛ لأنه قد دخل في العموم. وقد قررت لهذه المسألة فصلا فليكتب هاهنا..
فصل :
اختلف العلماء رحمهم الله تعالى ، فيما إذا أرسل كلبا على صيد فقتله بثقله ولم يجرحه ، أو صدمه ، هل يحل أم لا ؟ على قولين :
أحدهما : أن ذلك حلال ؛ لعموم قوله تعالى : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } [ المائدة : 4 ] وكذا عمومات حديث عَدي (4) بن حاتم. وهذا قول حكاه الأصحاب عن الشافعي ، رحمه الله ، وصححه بعض المتأخرين [منهم] (5) كالنووي والرافعي.
قلت : وليس ذلك بظاهر من كلام الشافعي في الأم والمختصر ، فإنه قال في كلا الموضعين : "يحتمل معنيين". ثم وجه كلا منهما ، فحمل ذلك الأصحاب منه فأطلقوا في المسألة قولين عنه ، اللهم إلا أنه في بحثه حكايته للقول بالحل رشحه قليلا ولم يصرح بواحد منهما ولا جزم به. والقول بذلك ، أعني الحل ، نقله ابن الصباغ عن أبي حنيفة ، من رواية الحسن بن زياد ، عنه ، ولم يذكر غير ذلك وأما أبو جعفر بن جرير فحكاه في تفسيره عن سلمان الفارسي ، وأبي هريرة ، وسعد بن أبي وقاص ، وابن عمر. وهذا غريب جدًا ، وليس يوجد ذلك مصرحا به عنهم ، إلا أنه من تصرفه ، رحمه الله ورضي عنه.
والقول الثاني : أن ذلك لا يحل ، وهو أحد القولين عن الشافعي ، رحمه الله ، واختاره المُزَني ويظهر من كلام ابن الصباغ ترجيحه أيضا ، والله أعلم. ورواه أبو يوسف ومحمد عن (6) أبي حنيفة ،
__________
(1) في ر : "توقذها".
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (5475) ومسلم في صحيحه برقم (1929).
(3) زيادة من أ.
(4) سيأتى حديث عدي بن حاتم بتمامه.
(5) زيادة من أ.
(6) في ر : "بن".

(3/18)


وهو المشهور عن الإمام أحمد بن حنبل ، رضي الله عنه (1) وهذا القول أشبه بالصواب ، والله أعلم ، لأنه أجرى عن (2) القواعد الأصولية ، وأمس بالأصول (3) الشرعية. واحتج ابن الصباغ له بحديث رافع بن خَدِيج ، قلت : يا رسول الله ، إنا لاقو العدو غدًا وليس معنا مُدًى ، أفنذبح بالقَصَب ؟ قال : (4) "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه". الحديث بتمامه وهو في الصحيحين.
وهذا وإن كان واردًا على سبب خاص ، فالعبرة بعموم اللفظ عند جمهور من العلماء في الأصول والفروع ، كما سئل عليه السلام (5) عن البتع - وهو نبيذ العسل - فقال : "كل شراب أسكر فهو حرام" (6) أفيقول فقيه : إن هذا اللفظ مخصوص بشراب العسل ؟ وهكذا هذا كما سألوه عن شيء من الذكاة فقال لهم كلاما عاما يشمل ذاك المسئول عنه وغيره ؛ لأنه عليه السلام (7) قد أوتي جوامع الكلم.
إذا تقرر هذا فما صدمه الكلب أو غَمَّه بثقله ، ليس مما أنهر دمه ، فلا يحل لمفهوم هذا الحديث. فإن قيل : هذا الحديث ليس من هذا القبيل بشيء ؛ لأنهم إنما سألوا عن الآلة التي يُذكّى بها ، ولم يسألوا عن الشيء الذي يذَكَّى ؛ ولهذا استثنى من ذلك السن والظفر ، حيث قال : "ليس السن والظفر ، وسأحدثكم عن ذلك : أما السن فعظم ، وأما الظفر فَمُدي الحبشة". والمستثنى يدل على جنس المستثنى منه ، وإلا لم يكن متصلا فدل على أن المسئول عنه هو الآلة ، فلا يبقى فيه دلالة لما ذكرتم.
فالجواب عن هذا : بأن في الكلام ما يشكل عليكم أيضا ، حيث يقول : "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه". ولم يقل : "فاذبحوا به" فهذا يؤخذ منه الحكمان معا ، يؤخذ حكم الآلة التي يذكى بها ، وحكم المذكى ، وأنه لا بد من إنهار دمه بآلة ليست سنا ولا ظفرًا. هذا مسلك.
والمسلك الثاني : طريقة المُزَني ، وهي أن السهم جاء التصريح فيه بأنه إن قتل بعَرْضِه فلا تأكل ، وإن خَزَق فَكُل. والكلب جاء مطلقا فيحمل على ما قيد هناك من الخَزْق ؛ لأنهما اشتركا في الموجب ، وهو الصيد ، فيجب الحمل هنا وإن اختلف السبب ، كما وجب حمل مطلق الإعتاق في الظهار على تقييده بالإيمان في القتل ، بل هذا أولى. وهذا يتوجه له على من يسلم له أصل هذه القاعدة من حيث هي ، وليس فيها خلاف بين الأصحاب قاطبة ، فلا بد لهم من جواب عن هذا. وله أن يقول : هذا قتله الكلب بثقله ، فلم يحل قياسا على ما قتله السهم بعَرْضه (8) والجامع أن كلا منهما آلة للصيد ، وقد مات بثقله فيهما. ولا يعارض ذلك بعموم الآية ؛ لأن القياس مقدم على العموم ، كما هو مذهب الأئمة الأربعة والجمهور ، وهذا مسلك حسن أيضا.
مسلك آخر ، وهو : أن قوله تعالى : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } [ المائدة : 4 ] عام فيما قتلن بجرح أو
__________
(1) في أ : "رحمه الله".
(2) في ر ، أ : "على".
(3) في ر ، أ : " وأمشي عن الأصول".
(4) في ر : "فقال".
(5) في أ : "صلى الله عليه وسلم"
(6) رواه البخاري في صحيحه برقم (242) ومسلم في صحيحه برقم (2001) من حديث عائشة ، رضي الله عنها.
(7) في أ : "صلى الله عليه وسلم"
(8) في ر ، أ : "بثقله".

(3/19)


غيره ، لكن هذا المقتول على هذه الصورة المتنازع فيها لا يخلو : (1) إما أن يكون نطيحا أو في حكمه ، أو منخنقا أو في حكمه ، وأيا ما كان فيجب تقديم [حكم] (2) هذه الآية على تلك لوجوه :
أحدها : أن الشارع قد اعتبر حكم هذه الآية حالة الصيد ، حيث يقول لعديّ بن حاتم : "وإن أصابه بعرضه (3) فإنما هو وَقِيذ فلا تأكله". ولم نعلم أحدًا من العلماء فصل بين حكم وحكم من هذه الآية ، فقال : إن الوقيذ معتبر حالة الصيد ، والنطيح ليس معتبرا ، فيكون القول بحل المتنازع فيه خرقا للإجماع لا قائل به ، وهو محظور عند كثير من العلماء.
الثاني : أن تلك الآية : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } [ المائدة : 4 ] ليست على عمومها بالإجماع ، بل مخصوصة بما صدن من الحيوان المأكول ، وخرج من عموم لفظها الحيوان غير المأكول بالاتفاق ، والعموم المحفوظ مقدم على غير المحفوظ..
المسلك الآخر : أن هذا الصيد والحالة هذه في حكم الميتة سواء ؛ لأنه قد احتقن فيه الدماء وما يتبعها من الرطوبات ، فلا تحل قياسا على الميتة.
المسلك الآخر : أن آية التحريم ، أعني قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } إلى آخرها ، محكمة لم يدخلها نسخ ولا تخصيص ، وكذا ينبغي أن تكون آية التحليل محكمة ، أعني قوله : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ[وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ] } [ المائدة : 4 ] (4) فينبغي ألا يكون بينهما تعارض أصلا وتكون السنة جاءت لبيان ذلك ، وشاهد ذلك قصة السهم ، فإنه ذكر حكم ما دخل في هذه الآية ، وهو ما إذا خَزَفه المِعْرَاض فيكون حلالا ؛ لأنه من الطيبات ، وما دخل في حكم تلك الآية ، آية التحريم ، وهو ما إذا أصابه بعرض فلا يؤكل ؛ لأنه وقيذ ، فيكون أحد أفراد آية التحريم ، وهكذا يجب أن يكون حكم هذا سواء ، إن كان قد جرحه الكلب فهو داخل في حكم آية التحليل. وإن لم يجرحه بل صدمه أو قتله بثقله فهو نطيح أو في حكمه فلا يكون حلالا.
فإن قيل : فلم لا فَصَّل في حكم الكلب ، فقال ما ذكرتم : إن جرحه فهو حلال ، وإن لم يجرحه فهو حرام ؟
فالجواب : أن ذلك نادر ؛ لأن من شأن الكلب أن يقتل بظفره أو نابه أو بهما معا ، وأما اصطدامه هو والصيد فنادر ، وكذا قتله إياه بثقله ، فلم يحتج إلى الاحتراز من ذلك لندوره ، أو لظهور حكمه عند من علم تحريم الميتة والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة. وأما السهم والمعراض فتارة يخطئ لسوء رمي راميه أو للهواء أو نحو ذلك ، بل خطؤه أكثر من إصابته ؛ فلهذا ذكر كلا من حكميه مفصلا والله أعلم ؛ ولهذا لما كان الكلب من شأنه أنه قد يأكل من الصيد ، ذكر حكم ما إذا أكل من الصيد فقال : "إن أكل فلا تأكل ، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه" وهذا صحيح ثابت في الصحيحين وهو أيضا مخصوص من عموم آية التحليل عند كثيرين (5) فقالوا : لا يحل ما أكل منه الكلب ، حكي ذلك عن أبي هريرة ، وابن عباس. وبه قال الحسن ، والشعبي ، والنخَعي. وإليه ذهب
__________
(1) في ر : "لا تخلو"
(2) زيادة من ر ، أ.
(3) في ر ، أ : "بعرض".
(4) زيادة من أ.
(5) في ر : "عند كثير من العلماء".

(3/20)


أبو حنيفة وصاحباه ، وأحمد بن حنبل ، والشافعي في المشهور عنه. وروى ابن جرير في تفسيره عن علي ، وسعد ، وسلمان ، وأبي هريرة ، وابن عمر ، وابن عباس : أن الصيد يؤكل وإن أكل منه الكلب ، حتى قال سعد ، وسلمان ، وأبو هريرة وابن عمر ، وغيرهم : يؤكل ولو لم يبق منه إلا بضعة. وإلى ذلك ذهب مالك والشافعي في قوله القديم ، وأومأ في الجديد إلى قولين ، قال ذلك الإمام أبو نصر ابن الصباغ وغيره من الأصحاب عنه.
وقد روى أبو داود بإسناد جيد قوي ، عن أبي ثعلبة الخُشَنِي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في صيد الكلب : "إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه ، وكل ما ردت عليك يدك". (1)
ورواه أيضا النسائي من حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ؛ أن أعرابيا يقال له : أبو ثعلبة قال : يا رسول الله ، فذكر نحوه.
وقال محمد بن جرير في تفسيره : حدثنا عمران بن بَكَّار الكَلاعِيّ ، حدثنا عبد العزيز بن موسى - هو اللاحوني - حدثنا محمد بن دينار - هو الطاحي - عن أبي إياس - وهو معاوية بن قرة - عن سعيد بن المسيب ، عن سلمان الفارسي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه وقد أكل منه ، فليأكل ما بقي.
ثم إن ابن جرير علله بأنه قد رواه قتادة وغيره عن سعيد بن المسيب ، عن سلمان موقوفا (2) وأما الجمهور فقدموا حديث "عَديّ" على ذلك ، وراموا تضعيف حديث أبي ثعلبة وغيره. وقد حمله بعض العلماء على أنه إن أكل بعد ما انتظر صاحبه وطال عليه الفصل ولم يجئ ، فأكل منه لجوعه ونحوه ، فإنه لا بأس بذلك ؛ لأنه - والحالة هذه ؛ لا يخشى أنه أمسك على نفسه ، بخلاف ما إذا أكل منه أول وهلة ، فإنه يظهر منه أنه أمسك على نفسه ، والله أعلم.
فأما الجوارح من الطير (3) فنص الشافعي على أنها كالكلاب ، فيحرم ما أكلت منه عند الجمهور ، ولا يحرم عند الآخرين. واختار المزني من أصحابنا أنه لا يحرم أكل ما أكلت منه الطيور والجوارح ، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد ، قالوا : لأنه لا يمكن تعليمها كما يعلم الكلب بالضرب ونحوه ، وأيضا فإنها لا تعلم إلا بأكلها من الصيد ، فيعفى عن ذلك ، وأيضا فالنص إنما ورد في الكلب لا في الطير. وقال الشيخ أبو علي في "الإفصاح" : إذا قلنا : يحرم ما أكل منه الكلب ، ففي تحريم ما أكل منه الطير وجهان ، وأنكر القاضي أبو الطيب هذا التفريع والترتيب ، لنص الشافعي ، رحمه الله على التسوية بينهما ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وأما { الْمُتَرَدِّيَةُ } فهي التي تقع من شاهق أو موضع عال فتموت بذلك ، فلا تحل.
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { الْمُتَرَدِّيَةُ } التي تسقط من جبل. وقال قتادة : هي التي تتردى في بئر.
__________
(1) سنن أبي داود برقم (2852).
(2) تفسير الطبري (9/565) وفي إسناده مرفوعا محمد بن دينار الأزدي ضعيف
(3) في ر ، أ : "من الطيور".

(3/21)


وقال السدي : هي التي تقع من جبل أو تتردى في بئر.
وأما { النَّطِيحَةُ } فهي التي ماتت بسبب نطح غيرها لها ، فهي حرام ، وإن جرحها القرن وخرج منها الدم ولو من مذبحها.
والنطيحة فعيلة بمعنى مفعولة ، أي : منطوحة. وأكثر ما ترد هذه البِنْيَة في كلام العرب بدون تاء التأنيث ، فيقولون : كَفٌّ خضيب ، وعينٌ كحيل ، ولا يقولون : كف خضيبة ، ولا عين كحيلة : وأما هذه فقال بعض النحاة : إنما استعمل فيها تاء التأنيث ؛ لأنها أجريت مجرى الأسماء ، كما في قولهم : طريقة طويلة. وقال بعضهم : إنما أتي بتاء التأنيث فيها لتدل على التأنيث من أول وهلة ، بخلاف : عين كحيل ، وكف خضيب ؛ لأن التأنيث مستفاد من أول الكلام.
وقوله : { وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ } أي : ما عدا عليها أسد ، أو فهد ، أو نمر ، أو ذئب ، أو كلب ، فأكل بعضها فماتت بذلك ، فهي حرام وإن كان قد سال منها الدماء ولو من مذبحها ، فلا تحل بالإجماع. وقد كان أهل الجاهلية يأكلون ما أفضل السبع من الشاة أو البعير أو البقرة ونحو ذلك فحرم الله ذلك على المؤمنين.
وقوله : { إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ } عائد على ما يمكن عوده عليه ، مما انعقد سبب موته فأمكن تداركه بذكاة ، وفيه حياة مستقرة ، وذلك إنما يعود على قوله : { وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ }
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ } يقول : إلا ما ذبحتم من هؤلاء وفيه روح ، فكلوه ، فهو ذكي. وكذا رُوي عن سعيد بن جبير ، والحسن البصري ، والسدي.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا حَفْص بن غياث (1) حدثنا جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي قال : { وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ } قال : إن مَصَعَتْ بذنبها أو رَكَضَتْ برجلها ، أو طَرَفَتْ بعينها فكُلْ.
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا هشيم وعباد قالا حدثنا حجاج ، عن حصين ، عن الشعبي ، عن الحارث ، عن علي قال : إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة ، وهي تحرك يدًا أو رجلا فكلها.
وهكذا رُوي عن طاوس ، والحسن ، وقتادة وعُبَيد بن عُمير ، والضحاك وغير واحد : أن المذكاة متي تحركت بحركة تدل على بقاء الحياة فيها بعد الذبح ، فهي حلال. وهذا مذهب جمهور الفقهاء ، وبه قال (2) أبو حنيفة والشافعي ، وأحمد بن حنبل. وقال ابن وهب : سُئل مالك عن الشاة التي يخرق جوفَها السَّبُعُ حتى تخرج أمعاؤها ؟ فقال مالك : لا أرى أن تذكى أيّ شيء يُذَكَّى منها.
وقال أشهب : سئل مالك عن الضبع يعدو على الكبش ، فيدق ظهره أترى أن يذكى قبل أن
__________
(1) في د : "حفص بن عياش".
(2) في أ : "يقول".

(3/22)


يموت ، فيؤكل ؟ قال (1) إن كان قد بلغ السُّحْرة ، فلا أرى أن يؤكل وإن كان أصاب أطرافه ، فلا أرى بذلك بأسًا. قيل له : وثب عليه فدق ظهره ؟ فقال : (2) لا يعجبني ، هذا لا يعيش منه. قيل له : فالذئب يعدو على الشاة فيشق بطنها ولا يشق الأمعاء ؟ فقال : إذا شق بطنها فلا أرى أن تؤكل.
هذا مذهب مالك ، رحمه الله ، وظاهر الآية عام فيما استثناه مالك ، رحمه الله من الصور التي بلغ الحيوان فيها إلى حالة لا يعيش بعدها ، فيحتاج إلى دليل مخصص (3) للآية ، والله أعلم.
وفي الصحيحين : عن رافع بن خَدِيج أنه قال : قلت : يا رسول الله ، إنا لاقو العدو غدًا ، وليس معنا مُدَى ، أفنذبح بالقَصَب ؟ فقال : "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه ، ليس السنُّ والظَّفُر ، وسأحدثكم عن ذلك ، أما السن فعظم ، وأما الظفر فمدى الحبشة". (4)
وفي الحديث الذي رواه الدارقطني [عن أبي هريرة] (5) مرفوعا ، وفيه نظر ، وروي عن عمر موقوفا ، وهو أصح (6) "ألا إن الذكاة في الحلق واللبّة ، ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق". (7)
وفي (8) الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن ، من رواية حماد بن سلمة ، عن أبي العشراء الدارمي ، عن أبيه قال : قلت : يا رسول الله ، أما تكون الذكاة إلا من اللبة والحلق ؟ فقال : "لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك.
وهو حديث صحيح (9) ولكنه محمول على ما [لم] (10) يقدر على ذبحه في الحلق واللبة.
وقوله : { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ } قال مجاهد وابن جُرَيْج (11) كانت النصب حجارة حول الكعبة ، قال (12) ابن جريج : وهي ثلاثمائة وستون نصبا ، كان العرب في جاهليتها يذبحون عندها ، وينضحون ما أقبل منها إلى البيت بدماء تلك الذبائح ، ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب.
وكذا ذكره غير واحد ، فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع ، وحرم عليهم أكل هذه الذبائح التي فعلت عند النصب حتى ولو كان يذكر (13) عليها اسم الله في الذبح عند النصب من الشرك (14) الذي حرمه الله ورسوله. وينبغي أن يحمل هذا على هذا ؛ لأنه قد تقدم تحريم ما أهل به لغير الله.
__________
(1) في ر : "فقال".
(2) في ر : "قال".
(3) في أ : "مخصوص".
(4) صحيح البخاري برقم (2507) وصحيح مسلم برقم (1968).
(5) زيادة من د ، ر.
(6) في ر ، أ : "وقال".
(7) سنن الدارقطني (4/283) من طريق سعيد بن سلام ، عن عبدالله بن بديل ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بديل بن ورقاء على أورق يصيح في فجاج منى : "ألا إن الذكاة في الحلق واللبة ، ألا ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق". وسعيد بن سلام ضعيف قال البخاري : يذكر بوضع الحديث ، وروي موقوفا على عمر بن الخطاب. رواه البيهقي في السنن الكبرى (9/278) من طريق يحيى بن أبي كثير ، عن فرافصة الحنفي ، عن عمر به.
(8) في ر : "فأما" ، وفي أ : "وأما"
(9) المسند (4/334) وسنن أبي داود برقم (2825) وسنن الترمذي برقم (1481) وسنن النسائي (7/228) وسنن ابن ماجة برقم (3184).
(10) زيادة من ر.
(11) في أ : "وابن جرير".
(12) في ر : "وقال".
(13) في أ : "ولو كان قد ذكر".
(14) في أ : "من التبرك".

(3/23)


وقوله تعالى : { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ } أي : حرم عليكم أيها المؤمنون الاستقسام بالأزلام : واحدها : زُلَم ، وقد تفتح الزاي ، فيقال : زَلم ، وقد كانت العرب في جاهليتها يتعاطون ذلك ، وهي عبارة عن قداح ثلاثة ، على أحدها مكتوب : "افعل" وعلى الآخر : "لا تفعل" والثالث "غُفْل ليس عليه شيء. ومن الناس من قال : مكتوب على الواحد : "أمرني ربي" وعلى الآخر : "نهاني ربي". والثالث غفل (1) ليس عليه شيء ، فإذا أجالها فطلع السهم الآمر فعله ، أو الناهي تركه ، وإن طلع الفارغ أعاد [الاستقسام.] (2)
والاستقسام : مأخوذ من طلب القَسم من هذه الأزلام. هكذا قرر ذلك أبو جعفر بن جرير.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا الحجاج بن محمد ، أخبرنا ابن جريج وعثمان بن عطاء ، عن عطاء ، عن ابن عباس : { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ } قال : والأزلام : قداح كانوا يستقسمون بها في الأمور.
وكذا روي عن مجاهد ، وإبراهيم النَّخَعِي ، والحسن البصري ، ومُقَاتِل بن حَيَّان.
وقال ابن عباس : هي القداح ، كانوا يستقسمون بها الأمور. وذكر محمد بن إسحاق وغيره : أن أعظم أصنام قريش صنم كان يقال له : هُبَل ، وكان داخل الكعبة ، منصوب على بئر فيها ، توضع الهدايا وأموال الكعبة فيه ، كان عنده سبعة أزلام مكتوب فيها ما يتحاكمون فيه ، مما أشكل عليهم ، فما خرج لهم منها رجعوا إليه ولم يعدلوا عنه.
وثبت في الصحيح : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة ، وجد إبراهيم وإسماعيل مصورين فيها ، وفي أيديهما الأزلام ، فقال : "قاتلهم الله ، لقد علموا أنهما لم يستقسما بها أبدا." (3)
وفي الصحيح : أن سراقة بن مالك بن جُعْشُم لما خرج في طلب النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وهما ذاهبان إلى المدينة مهاجرين ، قال : فاستقسمت بالأزلام هل أضرهم أم لا ؟ فخرج الذي أكره : لا تضرهم (4) قال : فعصيت الأزلام وأتبعتهم ، ثم إنه استقسم بها ثانية وثالثة ، كل ذلك يخرج الذي يكره : لا تضرهم (5) وكان كذلك وكان سراقة لم يسلم إذ ذاك ، ثم أسلم بعد ذلك. (6)
وروى ابن مَرْدُويه من طريق إبراهيم بن يزيد ، عن رَقَبةَ ، عن عبد الملك بن عُمَيْر ، عن رَجاء بن حَيْوَة ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لن يَلِج الدرجات من تَكَهَّن أو استقسم أو رجع من سفر طائرًا". (7)
وقال مجاهد في قوله : { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ } قال : هي سهام العرب ، وكعاب فارس والروم ، كانوا يتقامرون بها.
__________
(1) في د ، ر : "عطل".
(2) زيادة من ر ، أ.
(3) صحيح البخاري برقم (4288).
(4) في أ : "لا يضرهم".
(5) في أ : "لا تكبر".
(6) صحيح البخاري برقم (3906).
(7) ورواه الطبراني في مسند الشاميين برقم (2104) وتمام الرازي في الفوائد برقم (1444) من طريق يحيى بن داود ، عن إبراهيم بن يزيد به. قال الحافظ ابن حجر في الفتح (10/213) : "رجاله ثقات إلا أنني أظن أن فيه انقطاعًا".

(3/24)


وهذا الذي ذكر عن مجاهد في الأزلام أنها موضوعة للقمار ، فيه نظر ، اللهم إلا أن يقال : إنهم كانوا يستعملونها في الاستخارة تارة ، وفي القمار أخرى ، والله أعلم. فإن الله سبحانه [وتعالى] (1) قد فرَّق بين هذه وبين القمار وهو الميسر ، فقال في آخر السورة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ[فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ] منتهون } (2) [ الآيتان : 90 ، 91 ] وهكذا قال هاهنا : { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ } أي : تعاطيه فسق وغي وضلال وجهالة وشرك ، وقد أمر الله المؤمنين إذا ترددوا في أمورهم أن يستخيروه بأن يعبدوه ، ثم يسألوه الخيَرَة في الأمر الذي يريدونه ، كما رواه الإمام أحمد والبخاري وأهل السنن ، من طرق عن عبد الرحمن بن أبي الموالي ، عن محمد بن المُنْكَدِر ، عن جابر بن عبد الله قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا (3) الاستخارة (4) كما يعلمنا السورة من القرآن ، ويقول : "إذا هَمَّ أحدُكُم بالأمْرِ فليركع ركعتين من غير الفريضة ، ثم ليقل : اللهم إني أسْتَخِيركَ بعلمكَ ، وأسْتَقْدِرُك بقدرتكَ ، وأسألُكَ من فَضْلك العظيم ؛ فإنك تَقْدِر ولا أقْدِر ، وتَعْلَمُ ولا أَعْلَم ، وأنت عَلام الغيوب ، اللهم إن كنتَ تعلم (5) هذا الأمر - ويسميه باسمه - خيرًا لي في دِينِي ومَعاشي وعاقِبة أمري ، فاقدُرْهُ لي ويَسِّره لي (6) وبارك لي فيه ، اللهم إن كنتَ تَعْلَمْهُ شرا لي (7) في ديني ومَعاشي وعاقبة أمري ، فاصْرِفْنِي عنه ، واصرفه عنِّي ، واقْدُرْ لي الخير حيث كان ، ثم رَضِّني به". لفظ أحمد. (8)
وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب ، لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي الموالي.
قوله : { الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني : يئسوا أن يراجعوا دينهم..
وكذا رُوي عن عطاء بن أبي رباح ، والسّدِّي ومُقاتِل بن حَيَّان. وعلى هذا المعنى يرد (9) الحديث الثابت في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الشيطان قد يئس أن يعبده المُصَلُّون في جزيرة العرب ، ولكن بالتَّحْرِيش (10) بينهم".
ويحتمل أن يكون المراد : أنهم يئسوا من مشابهة المسلمين ، بما تميز به المسلمون من هذه الصفات المخالفة للشرك وأهله ؛ ولهذا قال تعالى آمرا عباده المؤمنين أن يصبروا ويثبتوا في مخالفة الكفار ، ولا يخافوا أحدا إلا الله ، فقال : { فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ } أي : لا تخافوا منهم في مخالفتكم إياهم واخشوني ، أنصركم عليهم وأبيدهم وأظفركم بهم ، وأشف صدوركم منهم ، وأجعلكم فوقهم في الدنيا والآخرة.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من ر ، وفي هـ : "إلى قوله".
(3) في د : "يعلمنا دعاء".
(4) في د : "الاستخارة في الأمور".
(5) في د : "تعلم أن".
(6) في أ : "ثم".
(7) في د : "تعلم أنه شر".
(8) المسند (3/344) وصحيح البخاري برقم (1162) وسنن أبي داود برقم (1538) وسنن الترمذي برقم (480) وسنن النسائي (6/80) وسنن ابن ماجة برقم (1383).
(9) في ر : "يورد"
(10) في د : "التحريش".

(3/25)


وقوله : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا } هذه أكبر نعم الله ، عز وجل ، على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم ، فلا يحتاجون إلى دين غيره ، ولا إلى نبي غير نبيهم ، صلوات الله وسلامه عليه ؛ ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء ، وبعثه إلى الإنس والجن ، فلا حلال إلا ما أحله ، ولا حرام إلا ما حرمه ، ولا دين إلا ما شرعه ، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خُلْف ، كما قال تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ (1) رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا } [ الأنعام : 115 ] أي : صدقا في الأخبار ، وعدلا في الأوامر والنواهي ، فلما أكمل (2) الدين لهم تمت النعمة عليهم (3) ؛ ولهذا قال [تعالى] (4) { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا } أي : فارضوه أنتم لأنفسكم ، فإنه الدين الذي رضيه الله وأحبه (5) وبعث به أفضل رسله الكرام ، وأنزل به أشرف كتبه.
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } وهو الإسلام ، أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه أكمل لهم الإيمان ، فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا ، وقد أتمه الله فلا ينقصه أبدا ، وقد رضيه الله فلا يَسْخَطُه أبدا.
وقال أسباط عن السدي : نزلت هذه الآية يوم عَرَفَة ، فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام ، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات. قالت أسماء بنت عُمَيس : حَجَجْتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الحجة ، فبينما نحن نسير إذ تَجلَّى له جبريل ، فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم على الراحلة ، فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن ، فبركت فأتيته فَسَجَّيْتُ عليه بُرْدا (6) كان علي.
قال ابن جُرَيْج (7) وغير واحد : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوما.
رواهما (8) ابن جرير ، ثم قال : حدثنا سفيان بن وَكِيع ، حدثنا ابن فُضَيْل ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه قال : لما نزلت { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } وذلك يوم الحج الأكبر ، بكى عمر ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "ما يبكيك ؟" قال : أبكاني أنّا كنا في زيادة من ديننا ، فأما إذْ أكمل (9) فإنه لم يكمل شيء إلا نقص. فقال : "صدقت". (10)
ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت : "إن الإسلام بدأ غَرِيبًا ، وسيعود غريبا ، فَطُوبَى للغُرَبَاء". (11)
وقال الإمام أحمد : حدثنا جعفر بن عَوْن ، حدثنا أبو العُمَيْس ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب قال : جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] (12) فقال : يا أمير المؤمنين ، إنكم تقرءون آية في كتابكم ، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. قال : وأي آية ؟ قال قوله : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } فقال (13) عمر : والله إني
__________
(1) في د : "كلمة" وهي قراءة.
(2) في د : "فلما كمل".
(3) في د : "تمت عليهم النعمة"
(4) زيادة من د.
(5) في د : "الذي أحبه الله ورضيه".
(6) في أ : "برداء"
(7) في ر : "ابن جرير".
(8) في د : "رواه".
(9) في ر : "إذ كمل".
(10) تفسير الطبري (9/519).
(11) رواه مسلم في صحيحه برقم (145) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، وبرقم (146) من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(12) زيادة من أ.
(13) في أ : "قال".

(3/26)


لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نزلت عَشية عَرَفَة في يوم جمعة.
ورواه البخاري عن الحسن بن الصباح عن جعفر بن عون ، به. ورواه أيضا مسلم والترمذي والنسائي ، من طرق عن قيس بن مسلم ، به (1) ولفظ البخاري عند تفسير هذه الآية من طريق سفيان الثوري ، عن قيس ، عن طارق قال : قالت اليهود لعمر : إنكم تقرؤون آية ، لو نزلت فينا لاتخذناها (2) عيدا. فقال عمر : إني لأعلم حين أنزلت ، وأين أنزلت (3) وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أنزلت : يوم عرفة ، وأنا والله بعرفة - قال سفيان : وأشك كان يوم الجمعة أم لا { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } الآية. (4)
وشك سفيان ، رحمه الله ، إن كان في الرواية فهو تَوَرُّعٌ ، حيث شك هل أخبره شيخه بذلك أم لا ؟ وإن كان شكا في كون الوقوف في حجة الوداع كان يوم جمعة ، فهذا ما أخاله يصدر عن الثوري ، رحمه الله ، فإن هذا أمر معلوم مقطوع به ، لم يختلف فيه أحد من أصحاب المغازي والسير ولا من الفقهاء ، وقد وردت في ذلك أحاديث متواترة لا يشك في صحتها ، والله أعلم ، وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن عمر.
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّةَ ، أخبرنا رَجاء بن أبي سلمة ، أخبرنا عبادة بن نُسَيّ ، أخبرنا أميرنا إسحاق - قال أبو جعفر بن جرير : هو إسحاق بن خَرَشة - عن قَبِيصة - يعني ابن ذُؤيب - قال : قال كعب : لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية ، لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم ، فاتخذوه عيدا يجتمعون فيه. فقال عمر : أي آية يا كعب ؟ فقال : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } فقال عمر : قد علمت اليوم الذي أنزلت فيه ، والمكان الذي أنزلت (5) فيه ، نزلت في يوم جمعة ويوم عرفة ، وكلاهما بحمد الله لنا عيد.
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا قَبيصة ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن عمار - هو مولى بني هاشم - أن ابن عباس قرأ : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا } فقال يهودي : لو نزلت هذه الآية علينا لاتخذنا يومها عيدًا. فقال ابن عباس : فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين : يوم عيد ويوم جمعة. (6)
وقال ابن مَرْدُويه : حدثنا أحمد بن كامل ، حدثنا موسى بن هارون ، حدثنا يحيى بن الحُمَّاني ، حدثنا قيس بن الربيع ، عن إسماعيل بن سَلْمان ، عن أبي عمر البَزّار ، عن ابن الحنفية ، عن علي [رضي الله عنه] (7) قال : نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو قائم عَشِيَّةَ عرفة : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ }
__________
(1) المسند (1/28) وصحيح البخاري برقم (45) وصحيح مسلم برقم (3017) وسنن الترمذي برقم (3043) وسنن النسائي (5/251).
(2) في أ : "لاتخذنا بها"
(3) في ر : "نزلت".
(4) صحيح البخاري برقم (4606).
(5) في ر : "نزلت".
(6) تفسير الطبري (9/525).
(7) زيادة من أ.

(3/27)


وقال ابن جرير : حدثنا أبو عامر إسماعيل بن عمرو السَّكُوني ، حدثنا هشام (1) بن عمار ، حدثنا بن عياش ، حدثنا عمرو بن قيس السكوني : أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر ينتزع بهذه الآية : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } حتى ختمها ، فقال : نزلت في يوم عرفة ، في يوم جمعة.
وروى ابن مَرْدُويه ، من طريق محمد بن إسحاق ، عن عمر بن موسى بن وجيه ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سَمُرَة قال : نزلت هذه الآية : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا } يوم عرفة ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف على الموقف. (2)
فأما ما رواه ابن جرير وابن مردويه ، والطبراني من طريق ابن لَهيعَة ، عن خالد بن أبي عمران ، عن حَنَش بن عبد الله الصنعاني ، عن ابن عباس قال : ولد نبيكم صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين ، [ونبئ يوم الاثنين] (3) وخرج من مكة يوم الاثنين ، ودخل المدينة يوم الاثنين ، وأنزلت سورة المائدة يوم الاثنين : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } ورفع الذكر يوم الاثنين ، فإنه أثر غريب (4) وإسناده ضعيف.
وقد رواه الإمام أحمد : حدثنا موسى بن داود ، حدثنا ابن لَهيعة ، عن خالد بن أبي عمران ، عن حَنَش الصنعاني ، عن ابن عباس قال : ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين ، واستنبئ يوم الاثنين ، وخرج مهاجرا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين ، وقدم المدينة يوم الاثنين ، وتوفي يوم الاثنين ، ووضع (5) الحجر الأسود يوم الاثنين.
هذا لفظ أحمد ، ولم يذكر نزول المائدة يوم الاثنين (6) فالله أعلم. ولعل ابن عباس أراد أنها نزلت يوم عيدين اثنين كما تقدم ، فاشتبه على الراوي ، والله أعلم.
[و] (7) قال ابن جرير : وقد قيل : ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس ، ثم روي من طريق العَوْفِيِّ عن ابن عباس في قوله : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } يقول : ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس قال : وقد قيل : إنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسِيره إلى حجة الوداع. ثم رواه من طريق أبى جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس.
قلت : وقد روى ابن مَرْدُويه من طريق أبي هارون العَيْدي ، عن أبي سعيد الخدري ؛ أنها أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غَدِير خُم (8) حين قال لعلي : "من كنتُ مولاه فَعَليٌّ مولاه". ثم رواه عن أبي هريرة (9) وفيه : أنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة ، يعني مرجعه عليه السلام (10) من حجة الوداع.
__________
(1) في ر : "هاشم".
(2) في أ : "يوم".
(3) زيادة من أ.
(4) تفسير الطبري (9/530).
(5) في أ : "ورفع".
(6) المسند (1/277) وقال الهيثمي في المجمع (1/196) : "فيه ابن لهيعة وهو ضعيف وبقية رجاله ثقات من أهل الصحيح".
(7) زيادة من أ.
(8) في ر : "غديرهم"
(9) وفي إسناده أبو هارون العبدي شيعي متروك ، لكن تابعه عطية العوفي رواه الطبراني في الأوسط برقم (3737) "مجمع البحرين" ، وحديث أبي هريرة رواه الطبراني في الأوسط برقم (3738) "مجمع البحرين". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة النبوية : "ليس في الصحاح لكن هو مما رواه العلماء ، وتنازع الناس في صحته فنقل عنه البخاري وإبراهيم الحربي وطائفة من أهل العلم بالحديث أنهم طعنوا فيه وضعفوه ، ونقل عن أحمد بن حنبل أنه حسنه كما حسنه الترمذي". وقد جمع طرق هذا الحديث الشيخ ناصر الألباني في السلسلة الصحيحة (1750).
(10) في أ : "صلى الله عليه وسلم".

(3/28)


ولا يصح هذا ولا هذا ، بل الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية : أنها أنزلت يوم عرفة ، وكان يوم جمعة ، كما روى ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب ، وأول ملوك الإسلام معاوية بن أبي سفيان ، وترجمان القرآن عبد الله بن عباس ، وسَمُرَة بن جندب ، رضي الله عنهم ، وأرسله [عامر] (1) الشعبي ، وقتادة بن دعامة ، وشَهْر بن حَوْشَب ، وغير واحد من الأئمة والعلماء ، واختاره ابن جرير الطبري ، رحمه (2) الله.
وقوله : { فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : فمن احتاج إلى تناول شيء من هذه المحرمات التي ذكرها تعالى (3) لضرورة ألجأته إلى ذلك ، فله تناول ذلك ، والله غفور رحيم له ؛ لأنه تعالى يعلم حاجة عبده المضطر ، وافتقاره إلى ذلك ، فيتجاوز عنه ويغفر له. وفي المسند وصحيح ابن حبَّان ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله يحب أن تؤتى رُخْصته (4) كما يكره أن تؤتى مَعْصِيته" (5) لفظ ابن حبان. وفي لفظ لأحمد (6) من لم يقبل رُخْصَة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة". (7)
ولهذا قال الفقهاء : قد يكون تناول الميتة واجبًا في بعض الأحيان ، وهو ما إذا خاف على مهجته (8) التلف ولم يجد غيرها ، وقد يكون مندوبا ، و [قد] (9) يكون مباحا بحسب الأحوال. واختلفوا : هل يتناول منها قدر ما يسد به الرَّمَق ، أو له أن يشبع ، أو يشبع ويتزود ؟ على أقوال ، كما هو مقرر في كتاب الأحكام. وفيما إذا وجد ميتة وطعام الغير ، أو صيدًا (10) وهو محرم : هل يتناول الميتة ، أو ذلك الصيد ويلزمه الجزاء ، أو ذلك الطعام ويضمن بدله ؟ على قولين ، هما قولان للشافعي ، رحمه الله. وليس من شرط جواز تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاما ، كما قد يتوهمه كثير من العوام (11) وغيرهم ، بل متى اضطر إلى ذلك جاز له ، وقد قال الإمام أحمد : حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا الأوزاعي ، حدثنا حسان بن عطية ، عن أبي واقد الليثي أنهم قالوا : يا رسول الله ، إنا بأرض تصيبنا (12) بها المخمصة ، فمتى تحل (13) لنا بها الميتة ؟ فقال : "إذا لم تَصْطَبِحوا ، ولم تَغْتَبِقُوا ، ولم تَجتفئوا (14) بقْلا فشأنكم بها ".
تفرد به أحمد من هذا الوجه ، وهو إسناد صحيح على شرط الصحيحين. وكذا رواه ابن جرير ، عن عبد الأعلى بن واصل ، عن محمد بن القاسم الأسدي ، عن الأوزاعي به (15) لكن رواه بعضهم
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ : "رحمهم".
(3) في أ : "الله".
(4) في د : "رخصه".
(5) المسند (2/108) وصحيح ابن حبان برقم (545) "موارد" وقال الهيثمي في المجمع (3/162) : "رجاله رجال الصحيح".
(6) في د : "لفظ أحمد".
(7) المسند (2/71).
(8) في د : "نفسه" ، وفي أ : "مهجة"
(9) زيادة من ر.
(10) في ر : "وصيدًا".
(11) في ر : "الأعوام".
(12) في أ : "يصيبنا".
(13) في د : "فما يحل" ، وفي أ : "فمتى يحل".
(14) في أ : "تحتفنوا".
(15) المسند (5/218) وتفسير الطبري (9/538) ورواه الحاكم في المستدرك (4/125) من طريق الأوزاعي به وقال : "على شرطهما ولم يخرجاه". وتعقبه الذهبي فقال : "فيه انقطاع".

(3/29)


عن الأوزاعي ، عن حسان بن عطية ، عن مسلم بن يزيد ، عن أبي واقد ، به (1) ومنهم من رواه عن الأوزاعي ، عن حسان ، عن مرثد - أو أبي مرثد - عن أبي واقد ، به (2) ورواه ابن جرير عن هناد بن السري ، عن عيسي بن يونس ، عن حسان ، عن رجل قد سمي له ، فذكره. ورواه أيضا عن هناد ، عن ابن المبارك ، عن الأوزاعي ، عن حسان ، مرسلا (3)
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن عَوْن قال : وجدت عند الحسن كتاب سَمُرة ، فقرأته عليه ، فكان فيه : "ويُجزى من الأضرار غَبُوق أو صبوح ".
حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا هُشَيْم ، عن الخَصيب بن زيد التميمي (4) حدثنا الحسن ، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : [إلى] (5) متى يحل [لي] (6) الحرام ؟ قال : فقال : "إلى متى يَرْوى أهلك من اللبن ، أو تجيء مِيرَتُهم ".
حدثنا ابن حميد ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، حدثنا عمر بن عبد الله بن عروة ، عن جده عروة بن الزبير ، عن جدته (7) ؛ أن رجلا من الأعراب أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه في الذي حرم الله عليه ، والذي أحل له ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "تَحِلُّ لك الطيبات ، وتَحْرُم عليك الخبائث (8) إلا أن تَفْتَقِر إلى طعام لا يحل لك ، فتأكل منه حتى تَسْتَغْنِيَ عنه". فقال الرجل : وما فَقْرِي الذي يحل لي ؟ وما غناي الذي يغنيني عن ذلك ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إذا كنت ترجو نِتَاجًا ، فتبلغ بلُحُوم ماشيتك إلى نتاجك ، أو كنت ترجو غِنًى ، تطلبه ، فتبلغ من ذلك شيئا ، فأطعم أهلك ما بدا لك حتى تستغني عنه". فقال الأعرابي : ما غناي الذي أدعه إذا وجدته ؟ فقال [النبي] (9) صلى الله عليه وسلم : "إذا أرويت أهلك غَبُوقا من الليل ، فاجتنب ما حرم الله عليك من طعام ، وأما مالك فإنه ميسور كله ، ليس فيه حرام". (10)
ومعنى قوله : "ما لم تصطبحوا" : يعني به : الغداء ، "وما لم (11) تغتبقوا" : يعني به : العشاء ، "أو تختفئوا (12) بقلا (13) فشأنكم بها" [أي] (14) فكلوا منها. وقال ابن جرير : يروى هذا الحرف - يعني قوله : "أو تختفئوا (15) [بقلا] (16) على أربعة أوجه : "تختفئوا" بالهمزة ، "وتحتفيوا" بتخفيف الياء والحاء ، "وتحتفوا" بتشديد [الفاء] (17) وتحتفوا" بالحاء وبالتخفيف ، ويحتمل الهمز ، كذا ذكره في التفسير.
حديث آخر : قال أبو داود : حدثنا هارون بن عبد الله ، حدثنا الفضل بن دُكَيْن ، حدثنا عُقْبَة بن وَهْب بن عقبة العامري (18) سمعت أبي يحدث عن الفجيع العامري ؛ أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
__________
(1) رواهما الطبراني في المعجم الكبير (3/284) من طريق الأوزاعي به.
(2) رواهما الطبراني في المعجم الكبير (3/284) من طريق الأوزاعي به
(3) تفسير الطبري (9/542).
(4) في أ : "يزيد التيمي".
(5) زيادة من ر ، أ.
(6) زيادة من أ.
(7) في أ : "عمن حدثه".
(8) في ر ، أ : "يحل لك الطيبات ويحرم عليك الخبائث".
(9) زيادة من ر ، أ.
(10) تفسير الطبري (9/540).
(11) في أ : "ولم".
(12) في أ : "تحتفنوا".
(13) في د : "ليلا".
(14) زيادة من ر.
(15) في أ : "تحتفؤوا".
(16) زيادة من أ.
(17) زيادة من ر ، أ.
(18) في أ : "وهب بن عقبة بن وهب العامري".

(3/30)


يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)

ما يحل لنا من الميتة ؟ قال : "ما طعامكم ؟" قلنا : نغتبق ونصطبح. قال أبو نعيم : فَسَّرَه لي عقبة : قدح غُدوة ، وقدح عَشيَّة (1) قال : "ذَاكَ وأبي الجُوعُ". وأحل لهم الميتة على هذه (2) الحال.
تفرد به أبو داود (3) وكأنهم كانوا يصطبحون ويغتبقون شيئًا لا يكفيهم ، فأحل لهم الميتة لتمام كفايتهم ، وقد يحتج به من يرى جواز الأكل منها حتى يبلغ حد الشبع ، ولا يتقيد ذلك بسد الرَّمَق ، والله أعلم.
حديث آخر : قال أبو داود : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، حدثنا سماك ، عن جابر بن سَمُرَة ، أن رجلا نزل الحَرَّةَ ، ومعه أهله وولده ، فقال له رجل : إن ناقة لي ضَلَّت ، فإن وجدتها فأمسكها ، فوجدها ولم يجد صاحبها ، فمرضت فقالت امرأته : انحرها ، فأبى ، فَنَفَقَتْ ، فقالت له امرأته : اسلخها حتى نُقدد شَحْمَها ولحمها فنأكله. فقال : حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاه فسأله ، فقال : "هل عندك غنًى يُغْنِيك ؟" قال : لا. قال : " فكلوها". قال : فجاء صاحبها فأخبره (4) الخبر ، فقال : هلا كنت نحرتها ؟ قال : استحييت منك.
تفرد به (5) وقد يحتج به من يُجوز الأكل والشبع ، والتزود منها مدة يغلب على ظنه الاحتياج إليها والله أعلم.
وقوله : { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ } أي : [غير] (6) مُتَعَاطٍ لمعصية الله ، فإن الله قد أباح ذلك له وسكت عن الآخر ، كما قال في سورة البقرة : { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [ الآية : 173 ].
وقد استدل بهذه الآية من يقول بأن العاصي بسفره لا يترخص بشيء من رخص السفر ؛ لأن الرخص لا تنال (7) بالمعاصي ، والله أعلم.
{ يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) }
لما ذكر تعالى ما حرمه في الآية المتقدمة من الخبائث الضارة لمتناولها ، إما في بَدَنِه ، أو في دينه ، أو فيهما ، واستثنى ما استثناه في حالة (8) الضرورة ، كما قال : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } [ الأنعام : 119 ] قال بعدها : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } كما [قال] (9) في سورة الأعراف في صفة محمد صلى الله عليه وسلم : أنه { يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ } [ الآية : 157 ].
__________
(1) في أ : "عشوة".
(2) في د ، ر ، أ : "هذا".
(3) سنن أبي داود برقم (2817).
(4) في د : "فأخبر".
(5) سنن أبي داود برقم (2817).
(6) زيادة من ر.
(7) في أ : "لأن الترخص لا ينال".
(8) في ر ، أ : "في حال".
(9) زيادة من أ.

(3/31)


قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا يحيى بن عبد الله بن بُكَيْر ، حدثني عبد الله بن لَهِيعة ، حدثني عطاء بن دينار ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن عَدِيّ بن حاتم ، وزيد بن المهَلْهِل الطائيين (1) سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالا يا رسول الله ، قد حرم الله الميتة ، فماذا يحل لنا منها ؟ فنزلت : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } قال سعيد [بن جبير] (2) يعني : الذبائح الحلال الطيبة لهم. وقال مقاتل : [بن حيان] (3) [ في قوله : { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } ] (4) فالطيبات ما أحل لهم من كل شيء أن يصيبوه (5) وهو الحلال من الرزق. وقد سئل الزهري عن شرب البول للتداوي فقال : ليس هو من الطيبات.
رواه ابن أبي حاتم (6) وقال ابن وَهْبٍ : سئل مالك عن بيع الطين الذي يأكله الناس. فقال : ليس هو من الطيبات.
وقوله تعالى : { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } أي : أحل لكم الذبائح التي ذكر اسم الله عليها والطيبات من الرزق ، وأحل لكم ما اصطدتموه (7) بالجوارح ، وهي من الكلاب والفهود والصقور وأشباه ذلك ، كما هو مذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والأئمة ، وممن قال ذلك : علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } وهن (8) الكلاب المعلمة (9) والبازي ، وكل طير يعلم للصيد (10) والجوارح : يعني الكلاب الضواري والفهود والصقور وأشباهها.
رواه ابن أبى حاتم ، ثم قال : وروي عن خَيْثَمَة ، وطاوس ، ومجاهد ، ومكحول ، ويحيى بن أبي كثير ، نحو ذلك. وروي عن الحسن أنه قال : الباز والصقر من الجوارح. وروي عن علي بن الحسين مثله. ثم روي عن مجاهد أنه كره صيد الطير كله ، وقرأ قول الله [عز وجل] (11) { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } قال : وروي عن سعيد بن جبير نحو ذلك.
ونقله ابن جرير عن الضحاك والسُّدِّي ، ثم قال : حدثنا هَنَّاد ، حدثنا ابن أبي زائدة ، أخبرنا ابن جُرَيْجٍ ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : أما ما صاد من الطير البُزاة وغيرها من الطير ، فما أدركتَ فهو لك ، وإلا فلا تطعمه.
قلت : والمحكي عن الجمهور أن صيد الطيور كصيد الكلاب (12) ؛ لأنها تَكْلَبُ الصيد بمخالبها (13) كما تكلبه الكلاب ، فلا فرق. وهذا (14) مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم ، واختاره ابن جرير ، واحتج في ذلك بما رواه عن هناد ، حدثنا عيسي بن يونس ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي ، فقال : "ما أمسك عليك فَكُلْ". (15)
__________
(1) في أ : "الطائي".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من د ، أ.
(4) زيادة من أ.
(5) في أ : "أن تصيبوه"
(6) سنن أبي داود برقم (2817).
(7) في د : " ما صدتموه".
(8) في د : "وهي".
(9) في أ : "المعلمين".
(10) في د ، أ : "يعلم الصيد".
(11) زيادة من ر.
(12) في د : "كالصيد بالكلاب".
(13) في ر : "بمخاليبها".
(14) في د : "وهو".
(15) تفسير الطبري (9/550).

(3/32)


واستثنى الإمام أحمد صيد الكلب الأسود ؛ لأنه عنده مما يجب قتله ولا يحل اقتناؤه ؛ لما ثبت في صحيح مسلم عن أبي ذر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يَقْطَع الصلاةَ الحمارُ والمرأةُ والكلبُ الأسودُ" فقلت : ما بال الكلب الأسود من الأحمر (1) ؟ فقال : "الكلب الأسود شيطان" (2) وفي الحديث الآخر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب ، ثم قال : "ما بالهم وبال الكلاب ، اقتلوا (3) منها كل أسود بَهِيم". (4)
وسميت هذه الحيوانات التي يصطاد بهن : جوارح ، من الجرح ، وهو : الكسب. كما تقول (5) العرب : فلان جَرح أهله خيرا ، أي : كسبهم خيرا. ويقولون : فلان لا جارح له ، أي : لا كاسب له ، وقال الله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ } [ الأنعام : 60 ] أي : ما كسبتم من خير وشر.
وقد ذكر في سبب نزول هذه الآية الكريمة الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم : حدثنا حجاج بن حمزة ، حدثنا زيد بن الحُبَاب ، حدثني موسى بن عبيدة ، حدثني أبان بن صالح ، عن القعقاع بن حكيم ، عن سلمى أم رافع ، عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب ، فقتلت ، فجاء الناس فقالوا : يا رسول الله ، ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت (6) بقتلها ؟ قال : فسكت ، فأنزل الله : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا أرسل الرجل كلبه وسَمَّى ، فأمسك عليه ، فليأكل ما لم يأكل ".
وهكذا رواه ابن جرير ، عن أبي كُرَيْب ، عن زيد بن الحباب بإسناده ، عن أبي رافع قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليستأذن (7) عليه ، فأذن له فقال : قد أذنا لك يا رسول الله. قال : أجل ، ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب ، قال أبو رافع : فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة ، فقتلت ، حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها ، فتركته رحمة لها ، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأمرني ، فرجعت إلى الكلب فقتلته ، فجاءوا فقالوا : يا رسول الله ، ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فأنزل الله عز وجل : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ }
ورواه الحاكم في مستدركه من طريق محمد بن إسحاق ، عن أبَان بن صالح ، به. وقال : صحيح ولم يخرجاه. (8)
__________
(1) في أ : "الأصفر".
(2) صحيح مسلم برقم (510).
(3) في أ : "وقالوا".
(4) صحيح مسلم برقم (1573) وسنن أبي داود برقم (74) وسنن النسائي (1/177) وسنن ابن ماجة برقم (365).
(5) في أ : "يقول".
(6) في د : "أمر".
(7) في ر : "يستأذن عليه".
(8) ورواه الطبري في تفسيره (9/545) من طريق زيد بن الحباب به ، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (1/326) من طريق موسى بن عبيدة به. قال الهيثمي في المجمع (4/42) : "فيه موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف". قلت : وقد توبع : تابعه محمد بن إسحاق. رواه البيهقي في السنن الكبرى (9/235) ، والحاكم في المستدرك (2/311) من طريق معلى بن منصور ، عن ابن أبي زائدة ، عن محمد بن إسحاق به مختصرا.

(3/33)


وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا حجاج ، عن ابن جُرَيْج ، عن عِكْرَمة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا (1) رافع في قتل الكلاب ، حتى بلغ العَوالي فدخل (2) عاصم بن عَدِيٍّ ، وسعد بن خَيْثَمةَ ، وعُوَيْم بن ساعدة ، فقالوا : ماذا أحل لنا يا رسول الله ؟ فنزلت : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ } [الآية] (3)
ورواه الحاكم من طريق سِمَاك ، عن عكرمة (4) وهكذا قال محمد بن كعب القُرَظِيّ في سبب نزول هذه الآية : إنه في قتل الكلاب.
وقوله تعالى : { مُكَلِّبِينَ } يحتمل أن يكون حالا من الضمير في { عَلَّمْتُمْ } فيكون حالا من الفاعل ، ويحتمل أن يكون حالا من المفعول وهو { الْجَوَارِحِ } أي : وما علمتم من الجوارح في حال كونهن مكلَّبات للصيد ، وذلك أن تقتنصه (5) [الجوارح] (6) بمخالبها أو أظفارها (7) فيستدل بذلك - والحالة هذه - على أن الجارحة إذا قتل الصيد بصدمته أو بمخلابه وظفره أنه لا يحل ، كما هو أحد قولي الشافعي وطائفة من العلماء ؛ ولهذا قال : { تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ } وهو أنه إذا أرسله استرسل ، وإذا أشلاه استشلى (8) وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه حتى يجيء إليه ولا يمسكه لنفسه ؛ ولهذا قال تعالى : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } فمتى كان (9) الجارحة معلما وأمسك على صاحبه ، وكان قد ذكر اسم الله عند إرساله حل الصيد ، وإن قتله بالإجماع.
وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، كما ثبت في الصحيحين عن عَدِيّ بن حاتم قال : قلت : يا رسول الله ، إني أرسل الكلاب المعلَّمة وأذكر اسم الله. فقال : "إذا أرسلت كلبك المعلَّم وذكرت اسم الله ، فكل ما أمسك (10) عليك". قلت : وإن قتلن ؟ قال : "وإن قتلن ما لم يشركها كلب (11) ليس منها ، فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره". قلت له : فإني أرمي بالمِعْرَاض الصيد فأصيب ؟ فقال : "إذا رميت بالمعراض فَخَزق (12) فكله ، وإن أصابه بعَرْض فإنه وَقِيذٌ ، فلا تأكله". وفي لفظ لهما : "إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله ، فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه ، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله ، فإن أخْذ الكلب ذكاته". وفي رواية لهما : "فإن أكل فلا تأكل ، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه." (13) فهذا دليل للجمهور (14) وهو الصحيح من مذهب الشافعي ، وهو أنه إذا أكل الكلب من الصيد يحرم مطلقا ، ولم يستفصلوا كما ورد بذلك الحديث. وحكي عن طائفة من السلف أنهم قالوا : لا يحرم مطلقا.
__________
(1) في أ : "بعث أبي" وهو خطأ ، والصواب ما أثبتناه.
(2) في د : "فجاء".
(3) زيادة من د.
(4) تفسير الطبري (9/546) والمستدرك (2/311).
(5) في د : "تصيد".
(6) زيادة من ر.
(7) في أ : "وأظفارها".
(8) أشلاه استشلى : أي دعاه إليه.
(9) في أ : "كانت".
(10) في أ : "أمسكن".
(11) في ر : "كلب ما".
(12) في أ : "فخرق"
(13) صحيح البخاري برقم (5483) وصحيح مسلم برقم (1929).
(14) في ر ، أ : "الجمهور".

(3/34)


ذكر الآثار بذلك :
قال ابن جرير : حدثنا هَنَّاد ، حدثنا وَكِيع ، عن شُعْبَة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب قال : قال سلمان الفارسي : كل وإن أكل ثلثيه (1) - يعني الصيد - إذا أكل منه الكلب. وكذا رواه سعيد بن أبي عَرُوبَة ، وعمر (2) بن عامر ، عن قتادة. وكذا رواه محمد بن زيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن سلمان.
ورواه ابن جرير أيضا عن مجاهد بن (3) موسى ، عن يزيد ، عن بكر بن عبد الله المُزَنِيّ (4) والقاسم ؛ أن (5) سلمان قال : إذا أكل الكلب فكل ، وإن أكل ثلثيه.
وقال ابن جرير : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وَهْب ، أخبرني مَخْرَمَة بن بُكَيْر (6) عن أبيه ، عن حميد بن مالك بن خُثَيْم (7) الدؤلي ؛ أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن الصيد يأكل منه الكلب ، فقال : كل ، وإن لم يبق منه إلا حِذْيَة (8) - يعني : [إلا] (9) بضعة.
ورواه شعبة ، عن عبد ربه بن سعيد ، عن بكير بن الأشَجِّ ، عن سعيد بن المسيب ، عن سعد بن أبي وقاص قال : كل وإن أكل ثلثيه.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن المُثَنَّى ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا داود ، عن عامر ، عن أبي هريرة قال : لو أرسلت كلبك فأكل منه ، فإن أكل ثلثيه وبقي ثلثه فكل.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا المُعْتَمِر قال : سمعت عُبَيد الله (10) وحدثنا هناد ، حدثنا (11) عبدة ، عن عبيد الله (12) بن عمر - عن نافع ، عن عبد الله بن عمر قال : إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله (13) فكل ما أمسك عليك ، أكل أو لم يأكل.
وكذا رواه عبيد الله (14) بن عمر وابن أبي ذئب وغير واحد ، عن نافع.
فهذه الآثار ثابتة عن سلمان ، وسعد بن أبي وقاص ، وأبي هريرة ، وابن عمر. وهو محكي عن علي ، وابن عباس. واختلف فيه عن عطاء ، والحسن البصري. وهو قول الزهري ، وربيعة ، ومالك. وإليه ذهب الشافعي في القديم ، وأومأ إليه في الجديد.
وقد روي من طريق سلمان الفارسي مرفوعا ، فقال ابن جرير : حدثنا عمران بن بَكَّار الكُلاعِيّ ، حدثنا عبد العزيز بن موسى اللاحوني ، حدثنا محمد بن دينار - هو الطاحي - عن أبي إياس معاوية بن قُرَّة ، عن سعيد بن المسيَّب ، عن سلمان الفارسي ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه ، وقد أكل منه ، فليأكل ما بقي ".
ثم قال ابن جرير : وفي إسناد هذا الحديث نظر ، وسعيد غير معلوم له سماع من سلمان ،
__________
(1) في ر : "ثلثه".
(2) في أ : "وعمرو".
(3) في ر : "عن".
(4) في أ : "عن حميد عن ابن عبد الله المزني".
(5) في أ : "بن".
(6) في أ : "بكر".
(7) في أ : "هشيم".
(8) في ر : "جذية".
(9) زيادة من ر.
(10) في أ : "عبد الله".
(11) في د : "بن".
(12) في أ : "عبد الله".
(13) في أ : "اسم الله عليه".
(14) في أ : "عبد الله".

(3/35)


والثقات يروونه من كلام سلمان غير مرفوع. (1)
وهذا الذي قاله ابن جرير صحيح ، لكن قد روي هذا المعنى مرفوعا من وجوه أخر ، فقال أبو داود : حدثنا محمد بن مِنْهال الضرير ، حدثنا يزيد بن زُرَيْع ، حدثنا حبيب المعلم ، عن عَمْرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ؛ أن أعرابيا - يقال له : أبو ثعلبة - قال : يا رسول الله ، إن لي كلابا مُكَلَّبة ، فأفتني في صيدها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن كان لك كلاب مكلبة ، فكل مما أمسكن عليك". فقال : ذكيا وغير ذكي ؟ قال : "نعم". قال : وإن أكل منه ؟ قال : "نعم ، وإن أكل منه". قال : يا رسول الله ، أفتني في قوسي. فقال : "كُلْ ما ردت عليك قوسك" قال : ذكيا وغير ذكي ؟ قال : "وإن تغيب عنك ما لم يصل ، أو تجد فيه أثر غير سهمك". قال : أفتني في آنية المجوس إذا اضطررنا إليها. قال : "اغسلها وكل فيها". (2).
هكذا رواه أبو داود (3) وقد أخرجه النسائي. وكذا رواه أبو داود ، من طريق بُسْر بن عبيد الله (4) عن أبي إدريس الخولاني ، عن أبي ثعلبة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل ، وإن أكل منه ، وكل ما ردت عليك يدك" (5)
وهذان إسنادان جيدان ، وقد روى الثوري ، عن سِماك بن حَرْب ، عن عَدِيٍّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما كان من كلب ضار أمسك عليك ، فكل". قلت : وإن أكل ؟ قال : "نعم".
وروى عبد الملك بن حبيب : حدثنا أسد بن موسى ، عن ابن أبي زائدة ، عن الشعبي ، عن عَدي مثله. (6)
فهذه آثار دالة على أنه يغتفر إن أكل منه الكلب. وقد احتج بها من لم يحرم الصيد بأكل الكلب وما أشبهه ، كما تقدم عمن حكيناه عنهم ، وقد توسط آخرون فقالوا : إن أكل عقب ما أمسكه فإنه يحرم لحديث عدي بن حاتم. وللعلة التي أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم : "فإن أكل فلا تأكل ، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه" وأما إن أمسكه ثم انتظر صاحبه فطال عليه وجاع (7) فأكل من الصيد لجوعه ، فإنه لا يؤثر في التحريم. وحملوا على ذلك حديث أبي ثعلبة الخُشَنِيّ ، وهذا تفريق حسن ، وجمع بين الحديثين صحيح. وقد تمنى الأستاذ أبو المعالي الجُوَيني في كتابه "النهاية" أن لو فصل مفصل هذا التفصيل ، وقد حقق الله أمنيته ، وقال بهذا القول والتفريق طائفة من الأصحاب منهم ، وقال آخرون قولا رابعا في المسألة ، وهو التفرقة بين أكل الكلب فيحرم لحديث عَدِيّ ، وبين أكل الصقور ونحوها فلا يحرم ؛ لأنه لا يقبل التعليم إلا بالأكل.
__________
(1) تفسير الطبري (9/565 ، 566).
(2) في أ : "منها".
(3) سنن أبي داود برقم (2857).
(4) في ر : "يوسف بن سيف" ، وفي أ : "يونس بن سيف".
(5) سنن أبي داود برقم (2852) ولم أجده في سنن النسائي.
(6) ورواه البخاري في صحيحه برقم (5475) ومسلم في صحيحه برقم (1929) من طريق زكريا بن أبي زائدة ، به.
(7) في أ : "فجاع".

(3/36)


وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا أسباط بن محمد ، حدثنا أبو إسحاق الشيباني ، عن حماد ، عن (1) إبراهيم ، عن ابن عباس ؛ أنه قال في الطير : إذا أرسلته فقتل فكل ، فإن الكلب إذا ضربته لم يَعُدْ ، وإن تَعَلّم الطير أن يرجع إلى صاحبه وليس يضرب ، فإذا أكل من الصيد ونتف الريش فكل. (2)
وكذا قال إبراهيم النَّخَعِي ، والشعبي ، وحماد بن أبي سليمان.
وقد يحتج لهؤلاء بما رواه ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا المحاربي ، حدثنا مُجالد ، عن الشعبي ، عن عدي بن حاتم قال : قلت : يا رسول الله ، إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة ، فما يحل لنا منها ؟ قال : "يحل لكم ما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله ، فكلوا مما أمسكن عليكم ، واذكروا اسم الله عليه" ثم قال : "ما أرسلت من كلب وذكرت اسم الله عليه ، فكل مما أمسك عليك". قلت : وإن قتل ؟ قال : "وإن قتل ، ما لم يأكل". قلت : يا رسول الله ، وإن خالطت كلابنا كلابا غيرها ؟ قال : فلا تأكل حتى تعلم أن كلبك هو الذي أمسك". قال : قلت : إنا قوم نرمي ، فما يحل لنا ؟ قال : "ما ذكرت اسم الله عليه وخزَقَتْ فكل ".
فوجه الدلالة لهم أنه اشترط في الكلب ألا يأكل ، ولم يشترط ذلك في البزاة ، فدل على التفرقة بينهما في الحكم ، والله أعلم.
وقوله : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } أي : عند الإرسال ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم : "إذا أرسلت كلبك المعلم (3) وذكرت اسم الله ، فكل ما أمسك عليك". وفي حديث أبي ثعلبة المخرج في الصحيحين أيضا : "إذا أرسلت كلبك ، فاذكر اسم الله ، وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله" ؛ ولهذا اشترط من اشترط من الأئمة كأحمد [بن حنبل] (4) - في المشهور عنه (5) - التسمية - عند إرسال الكلب والرمي بالسهم لهذه الآية وهذا الحديث ، وهذا القول هو المشهور عن (6) الجمهور ، أن (7) المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الإرسال ، كما قال (8) السُّدِّي وغير واحد.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } يقول : إذا أرسلت جارحك فقل : باسم الله ، وإن نسيت فلا حرج.
وقال بعض الناس : المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الأكل كما ثبت في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَّم رَبِيبه عمر بن أبي سلمة فقال : "سَمّ الله ، وكُل بيمينك ، وكل مما يليك". (9) وفي صحيح البخاري : عن عائشة أنهم قالوا : يا رسول الله ، إن قوما يأتوننا - حديث عهدهم بكفر - بلُحْمانٍ لا ندري أذكر اسم الله عليها (10) أم لا ؟ فقال : "سَمّوا الله أنتم وكلوا." (11)
__________
(1) في ر ، أ : "بن".
(2) تفسير الطبري (9/557).
(3) في أ : "المكلب".
(4) زيادة من ر ، أ.
(5) في أ : "عند".
(6) في أ : "عند".
(7) في أ : "وأن".
(8) في أ : "قاله".
(9) صحيح البخاري برقم (5376) وصحيح مسلم برقم (2022).
(10) في ر ، أ : "عليه".
(11) صحيح البخاري برقم (5507).

(3/37)


حديث آخر : وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا هشام ، عن بُدَيل ، عن عبد الله بن عُبَيد بن عُمَير ، عن عائشة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل الطعام في ستة نفر من أصحابه ، فجاء أعرابي فأكله بلقمتين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أما إنه لو (1) كان ذكر اسم الله لكفاكم ، فإذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله ، فإن نسي أن يذكر اسم الله أوله فليقل : باسم الله (2) أوله وآخره ".
وهكذا رواه ابن ماجه عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن يزيد بن هارون ، به (3) وهذا منقطع بين عبد الله (4) بن عبيد بن عمير وعائشة ، فإنه لم يسمع منها هذا الحديث ، بدليل ما رواه الإمام أحمد :
حدثنا عبد الوهاب ، أخبرنا هشام - يعني ابن أبي عبد الله الدَّسْتَوائي - عن بديل ، عن عبد الله بن عبيد بن عمير ؛ أن امرأة منهم - يقال لها : أم كلثوم - حدثته ، عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل طعاما في ستة من أصحابه ، فجاء أعرابي جائع فأكله بلقمتين ، فقال : "أما إنه لو ذكر اسم الله لكفاكم ، فإذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله ، فإن نسي اسم الله في أوله فليقل : باسم الله أوله وآخره ".
[و] (5) رواه أحمد أيضا ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي من غير وجه ، عن هشام الدستوائي ، به (6) وقال الترمذي : حسن صحيح.
حديث آخر : وقال أحمد : حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا جابر بن صبح (7) حدثني المثنى بن عبد الرحمن الخزاعي ، وصحبته إلى واسط ، فكان يسمي في أول طعامه (8) وفي آخر لقمة يقول : بسم الله أوله وآخره.
فقلت له : إنك تسمي في أول ما تأكل ، أرأيت (9) قولك في آخر ما تأكل : باسم الله أوله وآخره ؟ فقال : أخبرك عن ذلك إن جدي أمية بن مخشى (10) - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - سمعته يقول : إن رجلا كان يأكل ، والنبي ينظر ، فلم يسم ، حتى كان في آخر طعامه لقمة ، فقال : باسم الله أوله وآخره. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "والله ما زال الشيطان يأكل معه حتى سَمّى ، فلم يبق شيء في بطنه حتى قاءه ".
وهكذا رواه أبو داود والنسائي ، من حديث جابر بن صبح (11) الراسبي أبي بشر البصري (12) ووثقه ابن مَعِين والنسائي ، وقال أبو الفتح الأزدي : لا تقوم به الحجة. (13)
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن خَيْثَمَة ، عن أبي حذيفة
__________
(1) في ر : "أما لو أنه".
(2) في أ : "باسم الله على".
(3) المسند (6/143) وسنن ابن ماجه برقم (3264).
(4) في أ : "عبيد الله".
(5) زيادة من ر.
(6) المسند (6/265) ، (6/246) وسنن أبي داود برقم (3767) وسنن الترمذي برقم (1858) وسنن النسائي الكبرى برقم (10112).
(7) في أ : "صبيح"
(8) في أ : "الطعام".
(9) في أ : "أفرأيت".
(10) في ر : "خالد بن أمية بن مخشى".
(11) في أ : "صبيح".
(12) المسند (4/336) وسنن أبي داود برقم (3768) وسنن النسائي الكبرى برقم (10113).
(13) في أ : "لا يقوم به حجة.

(3/38)


الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)

قال أبو عبد الرحمن عبد الله بن الإمام أحمد : واسمه سلمة بن الهيثم بن صهيب - من أصحاب ابن مسعود - عن حذيفة قال : كنا إذا حضرنا مع النبي [صلى الله عليه وسلم] (1) على طعام ، لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (2) فيضع يده ، وإنا حضرنا معه طعاما فجاءت جارية ، كأنما تُدفع ، فذهبت تضع يدها في الطعام ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها ، وجاء أعرابي كأنما يُدفع ، فذهب يضع يده في الطعام ، فأخذ رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (3) بيده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الشيطان يَسْتَحِلُّ الطعام إذا لم يذكر اسم الله عليه ، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل (4) بها ، فأخذت بيدها ، وجاء بهذا الأعرابي ليستحل به ، فأخذت بيده ، والذي نفسي بيده ، إن يده في يدي مع يدهما (5) يعني الشيطان. وكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي ، من حديث الأعمش به. (6)
حديث آخر : روى مسلم وأهل السنن إلا الترمذي (7) من طريق ابن جُرَيْج ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا دخل الرجل بيته ، فذكر الله (8) عند دخوله وعند طعامه ، قال الشيطان : لا مَبِيت لكم ولا عَشَاء ، وإذا دخل فلم (9) يذكر اسم الله عند دخوله قال الشيطان : أدركتم (10) المبيت ، فإذا لم يذكر اسم الله عند طعامه قال : أدركتم (11) المبيت والعشاء". لفظ أبي داود.
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن عبد ربه ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن وَحْشِيّ بن حَرْب بن وَحْشِي بن حَرْب ، عن أبيه ، عن جده ؛ أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا نأكل وما نشبع ؟ قال : "فلعلكم (12) تأكلون متفرقين ، اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله ، يبارك لكم فيه ".
ورواه أبو داود ، وابن ماجه ، من طريق الوليد بن مسلم. (13)
{ الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5) }
لما ذكر تعالى ما حرمه على عباده المؤمنين من الخبائث ، وما أحله لهم من الطيبات ، قال بعده : { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ }
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من و ، أ.
(4) في أ : "فيستحل".
(5) في أ : "بيديهما".
(6) المسند (5/382) وصحيح مسلم برقم (2017) وسنن أبي داود برقم (3766) وسنن النسائي الكبرى برقم (6754).
(7) صحيح مسلم برقم (2018) وسنن أبي داود برقم (3765) وسنن النسائي الكبرى برقم (6757) وسنن ابن ماجة برقم (3887).
(8) في أ : "فذكر اسم الله".
(9) في أ : "ولم".
(10) في أ : "أدركتكم".
(11) في أ : "أدركتكم".
(12) في أ : "فعلكم".
(13) المسند (3/501) وسنن أبي داود برقم (3764) وسنن ابن ماجة برقم (3286).

(3/39)


ثم ذكر حكم ذبائح أهل الكتابين من اليهود والنصارى ، فقال : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ حِلٌّ لَكُمْ } قال ابن عباس ، وأبو أمامة ، ومجاهد ، وسعيد بن جُبَيْر ، وعِكْرِمة ، وعَطاء ، والحسن ، ومَكْحول ، وإبراهيم النَّخَعِي ، والسُّدِّي ، ومُقاتل بن حيَّان : يعني ذبائحهم.
وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء : أن ذبائحهم حلال للمسلمين ؛ لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله ، ولا يذكرون على ذبائحهم إلا اسم الله ، وإن اعتقدوا فيه تعالى ما هو منزه عن قولهم ، تعالى وتقدس. وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مُغَفَّل قال : دُلِّي بجراب من شحم يوم خيبر. [قال] (1) فاحتضنته (2) وقلت : لا أعطي اليوم من هذا أحدًا ، والتفتُّ فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يتبسم. (3)
فاستدل به الفقهاء على أنه يجوز تناولُ ما يحتاج إليه من الأطعمة ونحوها من الغنيمة قبل القسمة ، وهذا ظاهر. واستدل به الفقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة على أصحاب مالك في منعهم أكل (4) ما يعتقد اليهود تحريمه (5) من ذبائحهم ، كالشحوم ونحوها مما حرم عليهم. فالمالكية لا يجوزون للمسلمين أكله ؛ لقوله تعالى : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } قالوا : وهذا ليس من طعامهم. واستدل عليهم (6) الجمهور بهذا الحديث ، وفي ذلك نظر ؛ لأنه قضية عين ، ويحتمل أنه كان شحما يعتقدون حله ، كشحم الظهر والحوايا ونحوهما ، والله أعلم.
وأجود منه في الدلالة ما ثبت في الصحيح : أن أهل خيبر أهدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مَصْليَّة ، وقد سَمّوا ذراعها ، وكان يعجبه الذراع ، فتناوله فنَهَشَ منه نَهْشةً ، فأخبره الذراع أنه مسموم ، فلَفَظَه وأثر ذلك السم في ثنايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبْهَرِه ، وأكل معه منها بشر بن البراء بن مَعْرور ؛ فمات ، فقتل اليهودية التي سمتها ، وكان اسمها زينب ، فقتلت ببشر بن البراء. (7)
ووجه الدلالة منه أنه عزم على أكلها ومن معه ، ولم يسألهم هل نزعوا منها ما يعتقدون تحريمه من شحمها أم لا.
وفي الحديث الآخر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أضافه يهودي على خبز شعير وإهالة سنَخَة ، يعني : ودَكا زنخا (8)
وقال ابن أبي حاتم : قرئ على العباس بن الوليد بن مَزْيَد ، أخبرنا محمد بن شعيب ، أخبرني النعمان بن المنذر ، عن مكحول قال : أنزل الله : { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } [ الأنعام : 121 ] ثم نسخها الرب ، عز وجل ، ورحم المسلمين ، فقال : { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } فنسخها بذلك ، وأحل طعام أهل الكتاب.
وفي هذا الذي قاله مكحول ، رحمه الله ، نظر ، فإنه لا يلزم من إباحته طعام أهل الكتاب إباحةُ أكل ما لم يذكر اسم الله عليه ؛ لأنهم يذكرون اسم الله على ذبائحهم وقرابينهم ، وهم متعبدون
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ : "فاحتبسته".
(3) صحيح البخاري برقم (3153) وصحيح مسلم برقم (1772).
(4) في أ : "كل".
(5) في أ : "وتحريمه".
(6) في ر : "عليه".
(7) ورواه أبو داود في سننه برقم (4512) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.
(8) رواه أحمد في مسنده (3/211) من حديث أنس ، رضي الله عنه.

(3/40)


بذلك ؛ ولهذا لم يبح ذبائح من عداهم من أهل الشرك ومن شابههم ، لأنهم لم يذكروا اسم الله على ذبائحهم ، بل ولا يتوقفون فيما يأكلونه من اللحم على ذكاة ، بل يأكلون الميتة ، بخلاف أهل الكتابين ومن شاكلهم من السامرة والصابئة ، ومن تَمَسّك بدين إبراهيم وشيث وغيرهما من الأنبياء ، على أحد قولي العلماء ، ونصارى العرب كبني تَغْلِب وتَنُوخ وبَهْرَاء وجُذام ولَخْم وعَاملة ومن أشبههم ، لا تؤكل ذبائحهم عند الجمهور.
[و] (1) قال أبو جعفر بن جرير : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن أيوب ، عن (2) محمد بن عَبِيدة قال : قال علي : لا تأكلوا ذبائح بنى تغلب ؛ لأنهم (3) إنما يتمسكون من النصرانية بشرب الخمر.
وكذا قال غير واحد من الخلف والسلف.
وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة عن سعيد بن المسيب ، والحسن ؛ أنهما كانا لا يريان بأسا بذبيحة نصارى بني تغلب.
وأما المجوس ، فإنهم وإن أخذت منهم الجزية تبعا وإلحاقا لأهل الكتاب فإنهم (4) لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم ، خلافا لأبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي ، أحد الفقهاء من أصحاب الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، ولما قال ذلك واشتهر عنه أنكر عليه الفقهاء ذلك ، حتى قال عنه الإمام أحمد : أبو ثور كاسمه! يعني في هذه المسألة ، وكأنه تمسك بعموم حديث روي مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "سُنوا بهم سنة أهل الكتاب" ، (5) ولكن لم يثبت بهذا اللفظ ، وإنما الذي في صحيح البخاري : عن عبد الرحمن بن عوف ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مَجوس هَجَر (6) ولو سلم صحة هذا الحديث ، فعمومه مخصوص بمفهوم هذه الآية : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } فدل بمفهومه - مفهوم المخالفة - على أن طعام من عداهم من أهل الأديان (7) لا يحل (8)
وقوله : { وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ } أي : ويحل لكم أن تطعموهم من ذبائحكم ، وليس هذا إخبارا عن الحكم عندهم ، اللهم إلا أن يكون خبرا عما أمروا به من الأكل من كل طعام ذكر اسم الله عليه ، سواء كان من أهل ملتهم أو غيرها. والأول أظهر في المعنى ، أي : ولكم أن تطعموهم من ذبائحكم كما أكلتم من ذبائحهم. وهذا من باب المكافأة والمقابلة والمجازاة ، كما ألبس النبي صلى الله عليه وسلم ثوبه لعبد الله بن أبيّ بن سلول حين مات ودفنه فيه ، قالوا : لأنه كان قد كسا العباس حين قدم المدينة ثوبه ، فجازاه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بذلك ، فأما (9) الحديث الذي فيه : "لا تَصْحَبْ إلا مُؤْمِنا ، ولا يأكل طعامك إلا تقي" (10) فمحمول على الندب والاستحباب ، والله أعلم.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ر ، أ : "بن".
(3) في ر ، أ : "فإنهم".
(4) في أ "فإنه".
(5) رواه مالك في الموطأ (1/278) ومن طريقة الشافعي في السنن (1183) والبيهقي في السنن الكبرى (9/189) عن جعفر بن محمد ، عن أبيه أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس ، فقال : ما أدري كيف أصنع في أمرهم ؟ فقال عبد الرحمن بن عوف : أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "سنوا بهم سنة أهل الكتاب". ومحمد بن علي لم يسمع من عمر ، فهو منقطع.
(6) صحيح البخاري برقم (3156).
(7) في أ : "الأوثان".
(8) في د : "طعام غير أهل الكتاب لا يحل".
(9) في أ : "وأما".
(10) رواه أبو دواد في السنن برقم (4832) وابن ماجة في السنن برقم (2395) من حديث أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه.

(3/41)


وقوله : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ } أي : وأحل لكم نكاح الحرائر العفائف من النساء المؤمنات ، وذكر هذا توطئة لما بعده ، وهو قوله : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُم } فقيل : (1) أراد بالمحصنات : الحرائر دون الإماء ، حكاه ابن جرير عن مجاهد. وإنما قال مجاهد : المحصنات : الحرائر ، فيحتمل (2) أن يكون أراد ما حكاه عنه ، ويحتمل أن يكون أراد بالحرة العفيفة ، كما قاله مجاهد في الرواية الأخرى عنه. وهو (3) قول الجمهور هاهنا ، وهو الأشبه ؛ لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية وهي مع ذلك غير عفيفة ، فيفسد حالها بالكلية ، ويتحصل زوجها على ما قيل (4) في المثل : "حَشفَا (5) وسَوء كيلة". (6) (7) والظاهر من الآية أن المراد بالمحصنات : العفيفات عن الزنا ، كما قال في الآية الأخرى : { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } [ النساء : 25 ].
ثم اختلف المفسرون والعلماء في قوله : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } هل يعم كل كتابية عفيفة ، سواء كانت حرة أو أمة ؟ حكاه ابن جرير عن طائفة من السلف ، ممن فسر المحصنة بالعفيفة. وقيل : المراد بأهل الكتاب هاهنا الإسرائيليات ، وهو مذهب الشافعي. وقيل : المراد بذلك : الذميات دون الحربيات ؛ لقوله : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ[وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ] } [ التوبة : 29 ] (8)
وقد كان عبد الله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية ، ويقول : لا أعلم شركا أعظم من أن تقول : إن ربها عيسى ، وقد قال الله تعالى : { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } الآية [ البقرة : 221 ].
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن حاتم بن سليمان المؤدب ، حدثنا القاسم بن مالك - يعني المُزَنِيّ - حدثنا إسماعيل بن سَمِيع ، عن أبي مالك الغفاري ، عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } قال : فحجز الناس عنهن حتى نزلت التي بعدها : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } فنكح الناس [من] (9) نساء أهل الكتاب.
وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء النصارى ولم يروا بذلك بأسا ، أخذا بهذه الآية الكريمة : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } فجعلوا (10) هذه مخصصة للآية التي البقرة : { وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } [ الآية : 221 ] إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها ، وإلا فلا معارضة بينها وبينها (11) ؛ لأن أهل الكتاب قد يُفْصَل في ذكرهم عن المشركين في غير موضع ، كما قال تعالى : { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ } [ البينة : 1 ] وكقوله (12) { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا } الآية [ آل عمران : 20 ]
__________
(1) في د : "قيل" ، وفي أ : "قلت".
(2) في أ : "يحتمل".
(3) في أ : "وهي".
(4) في د : "كما قيل".
(5) في ر ، د : "حثف".
(6) في أ : "كلية" ، وهو خطأ.
(7) الحشف : أردأ التمر ، وانظر : مجمع الأمثال للميداني (1/207).
(8) زيادة من ر ، أ. وفي هـ : "الآية".
(9) زيادة من أ.
(10) في أ : "وجعلوا".
(11) في ر ، أ : "وبيننا".
(12) في ر : "ولقوله".

(3/42)


، وقوله : { إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أي : (1) مهورهن ، أي : كما هن محصنات عفائف ، فابذلوا لهن المهور (2) عن طيب نفس. وقد أفتى جابر بن عبد الله ، وإبراهيم النخعي ، وعامر الشعبي ، والحسن البصري بأن الرجل إذا نكح امرأة فزنت قبل دخوله بها : أنه يفرق بينه وبينها ، وتَرُدّ عليه ما بذل لها من المهر. رواه ابن جرير عنهم..
وقوله : { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } فكما شرط الإحصان في النساء - وهي العفة - عن الزنا كذلك شرطها في الرجال وهو أن يكون الرجل أيضا محصنا عفيفا ؛ ولهذا قال : { غَيْرَ مُسَافِحِينَ } وهم : الزناة الذين لا يرتدعون عن معصية ، ولا يردون أنفسهم عمن جاءهم ، { وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } أي : ذوي العشيقات الذين (3) لا يفعلون إلا معهن ، كما تقدم في سورة النساء سواء ؛ ولهذا ذهب الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله ، إلى أنه لا يصح نكاح المرأة البَغي حتى تتوب ، وما دامت كذلك لا يصح تزويجها من رجل عفيف ، وكذلك لا يصح عنده عقد الرجل الفاجر على عفيفة حتى يتوب ويقلع عما هو فيه من الزنا ؛ لهذه الآية وللحديث الآخر : "لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله." (4)
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بَشّار ، حدثنا سليمان بن حَرْب ، حدثنا أبو هلال ، عن قتادة ، عن الحسن قال : قال عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] (5) لقد هممت ألا أدع أحدًا أصاب فاحشة في الإسلام أن يتزوج محصنة. فقال له أبيّ بن كعب : يا أمير المؤمنين ، الشرك أعظم من ذلك ، وقد يقبل منه إذا تاب. (6)
وسيأتي الكلام على هذه المسألة مستقصى [إن شاء الله تعالى] (7) عند قوله : { الزَّانِي لا يَنْكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } [ النور : 3 ] ؛ ولهذا قال تعالى هاهنا : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
__________
(1) في أ : "يعني".
(2) في أ : "مهورهن".
(3) في ر ، أ : "اللاتي".
(4) رواه أبو داود في سننه برقم (2052) من طريق عمرو بن شعيب ، عن سعيد المقبري ، عن أبي هريرة به.
(5) زيادة من أ.
(6) تفسير الطبري (9/584).
(7) زيادة من أ.

(3/43)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) }
قال كثيرون من السلف : قوله : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ } معناه وأنتم مُحْدِثون.

(3/43)


وقال آخرون : إذا قمتم من النوم إلى الصلاة ، وكلاهما قريب.
وقال آخرون : بل المعنى أعم من ذلك ، فالآية آمرة بالوضوء عند القيام إلى الصلاة ، ولكن هو في حق المحدث على سبيل الإيجاب ، وفي حق المتطهر على سبيل الندب والاستحباب. وقد قيل : إن الأمر بالوضوء لكل صلاة كان واجبا في ابتداء الإسلام ، ثم نسخ.
قال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن عَلْقَمَة بن مرثد ، عن سليمان بن بُرَيْدة (1) عن أبيه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة ، فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه ، وصلى الصلوات بوضوء واحد. فقال له عمر : يا رسول الله ، إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله ؟ قال : "إني عمدًا فعلته يا عمر.
وهكذا رواه مسلم وأهل السنن من حديث سفيان الثوري ، عن علقمة بن مرثد (2) ووقع في سنن ابن ماجه ، عن سفيان عن محارب بن دِثَار - بدل علقمة بن مرثد - كلاهما عن سليمان بن بُريدة (3) به وقال الترمذي : حسن صحيح.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عباد بن موسى ، أخبرنا زياد بن عبد الله بن الطفيل البكائي ، حدثنا الفضل بن المُبَشِّر قال : رأيت جابر بن عبد الله يصلي الصلوات بوضوء واحد ، فإذا بال أو أحدث ، توضأ ومسح بفضل طَهُوره الخفين. فقلت : أبا عبد الله ، شيء (4) تصنعه برأيك ؟ قال : بل رأيت النبي (5) صلى الله عليه وسلم يصنعه ، فأنا أصنعه ، كما رأيت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (6) يصنع. (7)
وكذا رواه ابن ماجه ، عن إسماعيل بن تَوْبة ، عن زياد البكائي ، به (8) وقال أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن ابن (9) إسحاق ، حدثني محمد بن يحيى بن حَبَّان الأنصاري ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر قال : قلت له : أرأيت وضوء عبد الله بن عمر لكل صلاة طاهرًا كان أو غير طاهر ، عَمَّن هو ؟ قال : حدثته أسماء بنت زيد بن الخطاب ؛ أن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر بن الغسيل حدثها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرًا كان أو غير طاهر ، فلما شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالسواك عند كل صلاة وَوُضِع عنه الوضوء ، إلا من حدث. فكان عبد الله يرى أن به قوة على ذلك ، كان يفعله حتى مات. (10)
وكذا رواه أبو داود ، عن محمد بن عَوْف (11) الحِمْصِيّ ، عن أحمد بن خالد الذهني ، عن محمد
__________
(1) في أ : "يزيد".
(2) المسند (5/358) وصحيح مسلم برقم (277) وسنن أبي داود برقم (172) وسنن الترمذي برقم (61) وسنن النسائي (1/86) وسنن ابن ماجة برقم (510).
(3) في أ : "يزيد".
(4) في أ : "أشيء".
(5) في أ : "رسول الله".
(6) زيادة من أ.
(7) في أ : "يصنعه".
(8) تفسير الطبري (10/11) وسنن ابن ماجة برقم (511) وقال البوصيري في الزوائد (1/202) : "هذا إسناد ضعيف ، الفضل بن مبشر ضعفه الجمهور ، وهو في البخاري وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة من حديث أنس بن مالك".
(9) في ر : "أبي".
(10) المسند (5/225).
(11) في أ : "عون".

(3/44)


بن إسحاق ، عن محمد بن يحيى بن حَبَّان ، عن عبد الله بن عبد الله (1) بن عمر (2) ثم قال أبو داود : ورواه إبراهيم بن سعد ، عن محمد بن إسحاق فقال : عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، يعني كما تقدم في رواية الإمام أحمد.
وأيا ما كان فهو (3) إسناد صحيح ، وقد صرح ابن إسحاق فيه بالتحديث والسماع من محمد بن يحيى بن حَبَّان ، فزال محذور التدليس. لكن قال الحافظ ابن عساكر : رواه سلمة بن الفضل وعلي بن مجاهد ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن طلحة بن يزيد بن رُكَانة ، عن محمد بن يحيى بن حَبَّان ، به ، والله (4) أعلم. وفي فعل ابن عمر هذا ، ومداومته على إسباغ الوضوء لكل صلاة ، دلالة على استحباب ذلك ، كما هو مذهب الجمهور..
وقال ابن جرير : حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، حدثنا أزْهَر ، عن ابن عَوْن ، عن ابن سِيرين : أن الخلفاء كانوا يتوضئون لكل صلاة.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن المثنى (5) حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شُعْبَة ، سمعت مسعود بن علي الشيباني ، سمعت عِكْرِمة يقول : كان علي ، رضي الله عنه ، يتوضأ عند كل صلاة ، ويقرأ هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ } الآية.
وحدثنا ابن المثنى ، حدثني وَهْب بن جرير ، أخبرنا شعبة ، عن عبد الملك بن ميسرة ، عن النزال بن سبرة قال : رأيت عليًا صلى الظهر ، ثم قعد للناس في الرّحْبة ، ثم أتي بماء فغسل وجهه ويديه ، ثم مسح برأسه ورجليه ، وقال (6) هذا وضوء من لم يُحْدث.
وحدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا هُشَيْم (7) عن مغيرة ، عن إبراهيم ؛ أن عليًا اكماز (8) من حُبٍّ ، فتوضأ وضوءا فيه تجوّز (9) فقال : هذا وضوء من لم يحدث ". وهذه طرق جيدة عن علي [رضي الله عنه] (10) يقوي بعضها بعضا.
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا ابن بَشَّار ، حدثنا ابن أبي عَدِيٍّ ، عن حُمَيْد ، عن أنس قال : توضأ عمر بن الخطاب وضوءا فيه تَجَوّز ، خفيفا ، فقال (11) هذا وضوء من لم يحدث. وهذا إسناد صحيح. (12)
__________
(1) في ر ، أ : "عبيد الله".
(2) سنن أبي داود برقم (48).
(3) في أ. "فهو ثقة فهو".
(4) في ر ، أ : "فالله".
(5) في ر : "مثنى".
(6) في أ : "ثم قال".
(7) في أ : "هشام".
(8) في هـ : "أدار" ، والمثبت من ر ، أ.
(9) في ر ، أ : "تجاوز".
(10) زيادة من أ.
(11) في أ : "وقال".
(12) تفسير الطبري (10/13).

(3/45)


وقال محمد بن سيرين : كان الخلفاء يتوضئون لكل صلاة..
وأما ما رواه أبو داود الطيالسي ، عن أبي هلال ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب أنه قال : الوضوء من غير حدث اعتداء. فهو غريب عن سعيد بن المسيب ، ثم هو محمول على أن من اعتقد وجوبه فهو معتد ، وأما مشروعيته استحبابا فقد دلت السنة على ذلك.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِيٍّ ، حدثنا سفيان ، عن عمرو بن عامر الأنصاري ، سمعت أنس بن مالك يقول : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة ، قال : قلت (1) فأنتم كيف كنتم تصنعون ؟ قال : كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث.
وقد رواه البخاري وأهل السنن من غير وجه عن عَمْرو بن عامر ، به. (2)
وقال ابن جرير : حدثني أبو سعيد البغدادي ، حدثنا إسحاق بن منصور ، عن هُرَيم ، عن عبد الرحمن بن زياد - هو الإفريقي - عن أبي غُطَيف ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من توضأ على طُهْر كتب (3) له عشر حسنات ".
ورواه أيضا من حديث عيسى بن يونس ، عن الإفريقي ، عن أبي غطيف ، عن ابن عمر ، فذكره ، وفيه قصة. (4)
وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه من حديث الإفريقي ، به نحوه (5) وقال الترمذي : وهو إسناد ضعيف.
قال ابن جرير : وقد قال قوم : إن هذه الآية نزلت إعلاما من الله أن الوضوء لا يجب إلا عند القيام إلى الصلاة ، دون غيرها من الأعمال ؛ وذلك لأنه عليه السلام (6) كان إذا أحدث امتنع من الأعمال كلها حتى يتوضأ.
حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا معاوية بن هشام ، عن سفيان (7) عن جابر ، عن عبد الله بن أبي بكر بن عَمْرو بن حزم ، عن عبد الله بن عَلْقَمَة بن الفَغَواء ، عن أبيه ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراق البول نكلمه فلا يكلمنا ، ونسلم عليه فلا يرد علينا ، حتى نزلت آية الرخصة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ } الآية.
ورواه ابن أبي حاتم عن محمد بن مسلم ، عن أبي كُرَيْب ، به (8) نحوه. وهو حديث غريب
__________
(1) في أ : "فقلت".
(2) المسند (3/132) وصحيح البخاري برقم (214) وسنن أبي داود برقم (171) وسنن الترمذي برقم (60) وسنن النسائي (1/85) وسنن ابن ماجة برقم (509).
(3) في أ : "كتبت".
(4) تفسير الطبري (10/21 ، 22).
(5) سنن أبي داود برقم (62) وسنن الترمذي برقم (59) وسنن ابن ماجة برقم (512).
(6) في أ : "صلى الله عليه وسلم".
(7) في أ : "شيبان".
(8) تفسير الطبري (10/23) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (18/6) من طريق أبي كريب به. وقال الهيثمي في المجمع (1/276) : "فيه جابر الجعفي وهو ضعيف".

(3/46)


جدًا ، وجابر هذا هو ابن يزيد (1) الجعفي ، ضعفوه.
وقال أبو داود : حدثنا مُسَدَّد ، حدثنا إسماعيل ، حدثنا أيوب ، عن عبد الله بن أبي مُلَيكة ، عن عبد الله بن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء ، فَقُدِّم إليه طعام ، فقالوا : ألا نأتيك بوَضُوء فقال : "إنما أمرت بالوضوء إذا قُمْتُ إلى الصلاة.
وكذا رواه الترمذي عن أحمد بن مَنِيع والنسائي عن زياد بن أيوب ، عن إسماعيل - وهو ابن علية - به (2) وقال الترمذي : هذا حديث حسن.
وروى مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن سعيد بن الحويرث ، عن ابن عباس قال : كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتى الخلاء ، ثم إنه رجع فأتى بطعام ، فقيل : يا رسول الله ، ألا تتوضأ ؟ فقال : "لِمَ ؟ أأصلي (3) فأتوضأ ؟". (4)
وقوله : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } قد استدل طائفة من العلماء بقوله : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } على وجوب النية في الوضوء ؛ لأن تقدير الكلام : "إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم لها" ، كما تقول العرب : "إذا رأيت الأمير فقم" أي : له. وقد ثبت في الصحيحين حديث : "الأعمال (5) بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى". (6) ويستحب قبل غسل الوجه أن يذكر اسم الله تعالى على وضوئه ؛ لما ورد في الحديث من طرق (7) جيدة ، عن جماعة من الصحابة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه". (8)
ويستحب أن يغسل كفيه قبل إدخالهما في الإناء (9) ويتأكد ذلك عند القيام من النوم ؛ لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إذا استيقظ أحدكم من نَوْمِه ، فلا يُدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها ثلاثا ، فإن أحدَكم لا يَدْرِي أين باتت يده". (10)
وحَدُّ الوجه عند الفقهاء : ما بين منابت شعر الرأس - ولا اعتبار بالصَّلع ولا بالغَمَم - إلى منتهى اللحيين والذقن طولا ومن الأذن إلى الأذن عرضا ، وفي النزعتين (11) والتحذيف خلاف ، هل هما
__________
(1) في ر ، أ : "ابن زيد".
(2) سنن أبي داود برقم (3760) وسنن الترمذي برقم (1847) وسنن النسائي (1/85).
(3) في أ : "لم أصل".
(4) صحيح مسلم برقم (374).
(5) في أ : "إنما الأعمال".
(6) صحيح البخاري برقم (1) وصحيح مسلم برقم (1907).
(7) في أ : "طريق".
(8) روي من حديث أبي هريرة : رواه أبو داود في السنن برقم (101) ، وروي من حديث أبي سعيد الخدري : رواه ابن ماجة في السنن برقم (397) ، وروي من حديث سهل بن سعد : رواه ابن ماجة في السنن برقم (400).
(9) في أ : "إدخالهما الماء".
(10) صحيح البخاري برقم (162) وصحيح مسلم برقم (278).
(11) في ر ، أ : "النزعتان" وهو خطأ.

(3/47)


من الرأس أو الوجه ، وفي المسترسل من اللحية عن محل الفرض قولان ، أحدهما : أنه يجب إفاضة الماء عليه لأنه تقع به المواجهة. وروي في حديث : أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا مغطيا لحيته ، فقال : "اكشفها ، فإن اللحية من الوجه" (1) وقال مجاهد : هي من الوجه ، ألا تسمع إلى قول العرب في الغلام إذا نبتت لحيته : طلع وجهه.
ويستحب للمتوضئ أن يخلل لحيته إذا كانت كَثَّة ، قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا إسرائيل ، عن عامر بن شقيق بن جَمْرَة ، عن أبي وائل (2) قال : رأيت عثمان توضأ - فذكر الحديث - قال : وخلل اللحية ثلاثا حين غسل وجهه ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل الذي رأيتموني فعلت.
رواه الترمذي ، وابن ماجه من حديث عبد الرزاق (3) وقال الترمذي : حسن صحيح ، وحسنه البخاري.
وقال أبو داود : حدثنا أبو تَوْبَة الربيع بن نافع ، حدثنا أبو المَلِيح ، حدثنا الوليد بن زَوْرَانَ (4) عن أنس بن مالك ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ كَفًّا من ماء فأدخله تحت حنكه ، يخلل (5) به لحيته ، وقال : "هكذا أمرني به ربي عز وجل.
تفرد به أبو داود (6) وقد رُوي هذا (7) من غير وجه عن أنس. قال البيهقي : وروينا في تخليل اللحية عن عمار ، وعائشة ، وأم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم عن علي وغيره ، وروينا في الرخصة في تركه عن ابن عمر ، والحسن بن علي ، ثم عن النخعي ، وجماعة من التابعين. (8)
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه في الصحاح وغيرها : أنه كان إذا توضأ تمضمض (9) واستنشق ، فاختلف الأئمة في ذلك : هل هما واجبان في الوضوء والغسل ، كما هو مذهب أحمد بن حنبل ، رحمه الله ؟ أو مستحبان فيهما ، كما هو مذهب الشافعي ومالك ؟ لما ثبت في الحديث الذي رواه أهل السنن وصححه ابن خُزَيمة ، عن رفاعة بن رافع الزّرقي ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمسيء في صلاته : "توضأ كما أمرك الله" (10) أو يجبان في الغسل دون الوضوء ، كما هو مذهب أبي حنيفة ؟ أو يجب
__________
(1) المسند (1/149) وسنن الترمذي برقم (31) وسنن ابن ماجة (430) وقال الإمام أحمد : "أحسن شيء في تخليل اللحية حديث شقيق عن عثمان".
(2) في ر ، أ : "عن شقيق بن سلمة".
(3) سنن أبي داود برقم (145).
(4) في ر : "زروان" ، وفي أ : "وردان".
(5) في أ : "فخلل".
(6) 1 - روي عن طريق عمر بن ذؤيب عن ثابت عن أنس : رواه العقيلي في الضعفاء (3/157).
2 - روي من طريق الحسن البصري عن أنس : رواه الدارقطني في السنن (1/106).
3 - روي من طريق الزهري عن أنس.
4 - وروي من طريق موسى بن أبي عائشة عن أنس : رواهما الحاكم في المستدرك (1/149).
(7) في أ : "هذا الوجه".
(8) السنن الكبرى للبيهقي (1/54) أما حديث عمار : فيرويه سفيان بن عيينة ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن حسان بن بلال عنه ، أخرجه الترمذي في السنن برقم (30).
وأما حديث عائشة : فيرويه موسى بن ثروان عن طلحة بن عبيد عنها ، أخرجه أحمد في المسند (6/235) ، وقال الهيثمي في المجمع (1/235) : "رجاله موثقون". وأما حديث أم سلمة : فيرويه خالد بن إلياس ، عن عبد الله بن رافع عنهما ، أخرجه الطبري في تفسيره (10/39).
(9) في أ : "مضمض".
(10) سنن أبي داود برقم (861) وسنن الترمذي برقم (302) وسنن النسائي (2/20) وسنن ابن ماجة برقم (460) وصحيح ابن خزيمة برقم (545).

(3/48)


الاستنشاق دون المضمضة كما هو رواية عن الإمام أحمد لما ثبت في الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من توضأ فليستنثر" (1) وفي رواية : "إذا توضأ أحدكم فليجعل في منخريه من الماء ثم لينتثر" (2) والانتثار : هو المبالغة في الاستنشاق.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سلمة الخزاعي ، حدثنا سليمان بن بلال ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس ؛ أنه توضأ فغسل وجهه ، ثم أخذ غرفة من ماء فتمضمض بها واستنثر ، ثم أخذ غرفة فجعل بها هكذا ، يعني أضافها إلى يده الأخرى ، فغسل بهما وجهه. ثم أخذ غرفة من ماء ، فغسل بها يده اليمنى ، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليسرى ، ثم مسح رأسه ، ثم أخذ غرفة من ماء ، ثم رش على رجله اليمنى حتى غسلها ، ثم أخذ غرفة أخرى فغسل بها رجله اليسرى ، ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعني يتوضأ.
ورواه البخاري ، عن محمد بن عبد الرحيم ، عن أبي سلمة منصور بن سلمة الخزاعي ، به (3)
وقوله : { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ } أي : مع المرافق ، كما قال تعالى : { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا } [ النساء : 2 ]
وقد روى الحافظ الدارقطني وأبو بكر البيهقي ، من طريق القاسم بن محمد ، عن (4) عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جده ، عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه. ولكن القاسم هذا متروك الحديث ، وجده ضعيف (5) والله أعلم.
ويستحب للمتوضئ أن يشرع في العضد ليغسله مع ذراعيه ؛ لما روى البخاري ومسلم ، من حديث نُعَيم المُجْمِر ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أمتي يُدْعَوْن يوم القيامة غُرًّا مُحَجَّلين من آثار الوضوء ، فمن استطاع منكم أن يطيل غُرَّته فليفعل". (6)
وفي صحيح مسلم : عن قُتَيْبَة ، عن خَلَف بن خليفة ، عن أبي مالك الأشجعي ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : سمعت خليلي (7) صلى الله عليه وسلم يقول : "تبلغ الحِلْية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء". (8)
وقوله : { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ } اختلفوا في هذه "الباء" هل هي للإلصاق ، وهو الأظهر أو للتبعيض ؟ وفيه نظر ، على قولين. ومن الأصوليين من قال : هذا مجمل فليرجع (9) في بيانه إلى السنة ، وقد ثبت في الصحيحين من طريق مالك ، عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه ، أن رجلا قال لعبد الله بن زيد بن عاصم - وهو جد عمرو بن يحيى ، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - : هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ؟ فقال عبد الله بن زيد : نعم ، فدعا بوضوء ، فأفرغ على يديه ، فغسل يديه مرتين مرتين ، ثم مضمض (10) واستنشق ثلاثا ، وغسل وجهه ثلاثا ، ثم غسل يديه
__________
(1) صحيح البخاري برقم (161) وصحيح مسلم برقم (237).
(2) في أ : "ثم لينثره".
(3) المسند (1/268) وصحيح البخاري برقم (140).
(4) في أ : "بن".
(5) سنن الدارقطني (1/83) وسنن البيهقي الكبرى (1/56). قال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/293) : "ضعيف".
(6) صحيح البخاري برقم (136) وصحيح مسلم برقم (246).
(7) في أ : "خليلي رسول الله".
(8) صحيح مسلم برقم (246).
(9) في أ : "فيرجع".
(10) في أ "تمضمض".

(3/49)


مرتين مرتين إلى المرفقين ، ثم مسح بيديه ، فأقبل بهما وأدبر ، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه ، ثم غسل رجليه. (1)
وفي حديث عبد خير ، عن علي في صفة وضوء رسول الله (2) صلى الله عليه وسلم نحو هذا ، وروى أبو داود ، عن معاوية والمقدام بن معد يكرب ، في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله. (3)
ففي هذه الأحاديث دلالة لمن ذهب إلى وجوب تكميل مسح جميع الرأس ، كما هو مذهب الإمام مالك وأحمد بن حنبل ، لا سيما على قول من زعم أنها خرجت مخرج البيان لما أجمل في القرآن.
وقد ذهب الحنفية إلى وجوب مسح ربع الرأس ، وهو مقدار الناصية.
وذهب أصحابنا إلى أنه إنما يجب ما يطلق عليه اسم مسح ، لا يتقدر ذلك بحدٍّ ، بل لو مسح بعض شعره من رأسه أجزأه.
واحتج الفريقان بحديث المغيرة بن شعبة ، قال : تخلف النبي صلى الله عليه وسلم فتخلفت معه ، فلما قضى حاجته قال : "هل معك ماء ؟" فأتيته بمطهرة فغسل كفيه ووجهه ، ثم ذهب يحسر عن ذراعيه فضاق كم الجبة ، فأخرج يديه من تحت الجبة وألقى الجبة على منكبيه (4) فغسل ذراعيه ومسح بناصيته ، وعلى العمامة وعلى خفيه... وذكر باقي الحديث ، وهو في صحيح مسلم ، وغيره. (5)
فقال لهم أصحاب الإمام أحمد : إنما اقتصر على مسح الناصية لأنه كمل مسح بقية الرأس على العمامة ، ونحن نقول بذلك ، وأنه يقع عن الموقع كما وردت بذلك أحاديث كثيرة ، وأنه كان يمسح على العمامة وعلى الخفين ، فهذا (6) أولى ، وليس لكم فيه دلالة على جواز الاقتصار على مسح الناصية أو بعض الرأس من غير تكميل على العمامة ، والله أعلم.
ثم اختلفوا في أنه : هل يستحب تكرار مسح الرأس ثلاثا ، كما هو المشهور من مذهب الشافعي ، أو إنما (7) يستحب مسحة واحدة ، كما هو مذهب أحمد بن حنبل ومن تابعه ، على قولين. فقال عبد الرزاق : عن مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عطاء بن يزيد الليثي ، عن حُمْران بن أبان قال : رأيت عثمان بن عفان توضأ فأفرغ على يديه ثلاثا فغسلهما ، ثم مضمض (8) واستنشق ، ثم غسل وجهه ثلاثا ، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثا ، ثم غسل اليسرى مثل ذلك ، ثم مسح برأسه ، ثم غسل قدمه اليمنى ثلاثا ، ثم اليسرى ثلاثا مثل ذلك (9) ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ، ثم قال : "من تَوَضَّأ نحو وضوئي هذا ، ثم صلَّى ركعتين لا يُحدِّث فيهما نفسه ، غفر له ما تقدم من ذنبه ".
__________
(1) صحيح البخاري برقم (185 ، 186) وصحيح مسلم برقم (235).
(2) في أ : "وضوء النبي".
(3) حديث علي رواه أبو دواد في سننه برقم (111) وكذا حديث المقدام برقم (121) وحديث معاوية برقم (124).
(4) في ر : "منكبه".
(5) صحيح مسلم برقم (274).
(6) في أ : "وهذا".
(7) في أ : "وإنما".
(8) في أ : "تمضمض".
(9) في أ : "ثم مسح برأسه ، ثم غسل رجليه ثلاث مرار إلى الكعبين".

(3/50)


أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين من طريق الزهري به نحو هذا (1) وفي سنن أبي داود من رواية عبد الله بن عبيد الله بن أبي مُلَيْكَة ، عن عثمان في صفة الوضوء : ومسح برأسه مرة واحدة (2) وكذا من رواية عبد خير ، عن علي مثله.
واحتج من استحب تكرار مسح الرأس بعموم الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه ، عن عثمان ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : توضأ ثلاثا ثلاثا.
وقال أبو داود : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا الضحاك بن مَخْلَد ، حدثنا عبد الرحمن بن وَرْدَان ، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن ، حدثني حمران قال : رأيت عثمان بن عفان توضأ. (3) فذكر نحوه ، ولم يذكر المضمضة والاستنشاق ، قال فيه : ثم مسح رأسه ثلاثا ، ثم غسل رجليه ثلاثا ، ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ هكذا وقال : "من توضأ دون هذا كفاه.
تفرد به أبو داود (4) ثم قال : وأحاديث عثمان الصحاح تدل على أنه مسح الرأس مرة واحدة.
وقوله : { وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ } قُرئ : { وَأَرْجُلَكُمْ } بالنصب عطفا على { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا وُهَيْب ، عن خالد ، عن عِكَرِمة ، عن ابن عباس ؛ أنه قرأها : { وَأَرْجُلَكُمْ } يقول : رجعت إلى الغسل.
وروي عن عبد الله بن مسعود ، وعُرْوَة ، وعطاء ، وعكرمة ، والحسن ، ومجاهد ، وإبراهيم ، والضحاك ، والسُّدِّي ، ومُقاتل بن حيان ، والزهري ، وإبراهيم التيمي ، نحو ذلك.
وهذه قراءة ظاهرة في وجوب الغسل ، كما قاله السلف ، ومن هاهنا ذهب من ذهب إلى وجوب الترتيب (5) كما هو مذهب الجمهور ، خلافا لأبي حنيفة حيث لم يشترط الترتيب ، بل لو غسل قدميه ثم مسح رأسه وغسل يديه ثم وجهه أجزأه ذلك ؛ لأن الآية أمرت بغسل هذه الأعضاء ، و"الواو" لا تدل على الترتيب. وقد سلك الجمهور في الجواب عن هذا البحث طرقا ، فمنهم من قال : الآية دلت على وجوب غسل الوجه ابتداء عند القيام إلى الصلاة ؛ لأنه مأمور به بفاء التعقيب ، وهي مقتضية للترتيب ، ولم يقل أحد من الناس بوجوب غسل الوجه أولا ثم لا يجب الترتيب بعده ، بل القائل اثنان ، أحدهما : يوجب الترتيب ، كما هو واقع في الآية. والآخر يقول : لا يجب الترتيب مطلقا ، والآية دلت على وجوب غسل الوجه ابتداء ، فوجب (6) الترتيب فيما بعده بالإجماع ، حيث لا فارق. ومنهم من قال : لا نسلم أن "الواو" لا تدل على الترتيب ، بل هي دالة - كما هو مذهب طائفة من النحاة وأهل اللغة وبعض الفقهاء. ثم نقول (7) - بتقدير تسليم كونها لا تدل على الترتيب اللغوي - : هي
__________
(1) صحيح البخاري برقم (159) وصحيح مسلم برقم (226).
(2) سنن أبي داود برقم (108).
(3) في أ : "يتوضأ".
(4) سنن أبي داود برقم (107).
(5) في أ : "الترتيب في الوضوء".
(6) في أ : "فيجب".
(7) في أ : "يقول".

(3/51)


دالة على الترتيب شرعا فيما من شأنه أن يرتب ، والدليل على ذلك أنه (1) صلى الله عليه وسلم لما طاف بالبيت ، خرج من باب الصفا وهو يتلو قوله تعالى : { إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ } [ البقرة : 158 ] ثم قال : "ابدأ بما بدأ الله به" لفظ مسلم ، ولفظ النسائي : "ابدءوا بما بدأ الله به". وهذا لفظ أمر ، وإسناده صحيح ، فدل على وجوب البداءة بما بدأ الله به ، وهو معنى كونها تدل على الترتيب شرعا ، والله أعلم.
ومنهم من قال : لما ذكر تعالى هذه الصفة في هذه الآية على هذا الترتيب ، فقطع النظير عن النظير ، وأدخل الممسوح بين المغسولين ، دل ذلك على إرادة الترتيب.
ومنهم من قال : لا شك أنه قد روى أبو داود وغيره من طريق عَمْرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة ، ثم قال : "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" (2) قالوا : فلا يخلو (3) إما أن يكون توضأ مرتبا فيجب الترتيب ، أو يكون توضأ غير مرتب فيجب عدم الترتيب ، ولا قائل به ، فوجب ما ذكره. (4)
وأما القراءة الأخرى ، وهي قراءة من قرأ : { وَأَرْجُلِكُمْ } (5) بالخفض. فقد احتج بها الشيعة في قولهم بوجوب مسح الرجلين ؛ لأنها عندهم معطوفة على مسح الرأس. وقد رُوي عن طائفة من السلف ما يوهم القول بالمسح ، فقال ابن جرير :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّةَ ، حدثنا حُمَيْد قال : قال موسى بن أنس لأنس ونحن عنده : يا أبا حمزة ، إن الحجاج خَطَبَنا بالأهواز ونحن معه ، فذكر الطهور فقال : اغسلوا وجوهكم وأيديكم ، وامسحوا برءوسكم وأرجلكم ، وأنه ليس شيء من ابن آدم أقرب من خبثه من قدميه ، فاغسلوا بطونهما وظهورهما عَرَاقيبهما (6) فقال أنس : صدق الله وكذب الحجاج ، قال الله [تعالى] (7) { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ } قال : وكان أنس إذا مسح قدميه بَلَّهما (8) إسناد صحيح إليه.
وقال ابن جرير : حدثنا علي بن سَهْل ، حدثنا مُؤَمَّل ، حدثنا حماد ، حدثنا عاصم الأحول ، عن أنس (9) قال : نزل القرآن بالمسح ، والسنة الغسل (10) وهذا أيضا إسناد صحيح.
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا محمد بن قَيْس الخراساني ، عن ابن جُرَيْج ، عن عمرو بن دينار ، عن عِكرِمة ، عن ابن عباس قال : الوضوء غَسْلتَان ومسحتان. (11)
وكذا روى سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة.
__________
(1) في أ : "أن رسول الله".
(2) رواه أبو داود في سننه برقم (135) من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، لكن سياقه مغاير لهذا السياق. وهذا السياق رواه ابن ماجة في السنن برقم (419) من حديث عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما.
(3) في أ : "ولا يخلو".
(4) في أ : "ما ذكرناه".
(5) وأرجلِكم
(6) في أ : "عراقيبها".
(7) زيادة من أ.
(8) في أ : "بلها".
(9) في ر : "عن الحسن".
(10) في أ : "بالغسل".
(11) تفسير الطبري (10/58) ورواه عبد الرزاق في المصنف برقم (55) من طريق ابن جريج به.

(3/52)


وقال ابن أبي حاتم : حدثني أبي ، حدثنا أبو مَعْمَر المِنْقَريّ ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا علي بن زيد ، عن يوسف بن مِهْران ، عن ابن عباس : { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ } قال : هو المسح. ثم قال : وروي عن ابن عمر (1) وعلقمة ، وأبي جعفر ، [و] (2) محمد بن علي ، والحسن - في إحدى الروايات - وجابر بن زيد ، ومجاهد - في إحدى الروايات - نحوه.
وقال ابن جرير : حدثنا يعقوب ، حدثنا ابن علية ، حدثنا أيوب ، قال : رأيت عكرمة يمسح على رجليه ، قال : وكان يقوله.
وقال ابن جرير : حدثني أبو السائب ، حدثنا ابن إدريس ، عن داود بن أبي هند ، عن الشعبي قال : نزل جبريل بالمسح. ثم قال الشعبي : ألا ترى أن "التيمم" أنْ يمسح ما كان غسلا ويلغي (3) ما كان مسحا ؟
وحدثنا ابن أبي زياد ، حدثنا يزيد ، أخبرنا إسماعيل ، قلت لعامر : إن ناسا يقولون : إن جبريل نزل بغسل الرجلين ؟ فقال : نزل جبريل بالمسح.
فهذه آثار غريبة جدًا ، وهي محمولة على أن المراد بالمسح هو الغسل الخفيف ، لما سنذكره من السنة الثابتة (4) في وجوب غسل الرجلين. وإنما جاءت هذه القراءة بالخفض إما على المجاورة وتناسب الكلام ، كما في قول العرب : "جُحْرُ ضَب خربٍ" ، وكقوله تعالى : { عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ } [ الإنسان : 21 ] وهذا سائغ ذائع ، في لغة العرب شائع. ومنهم من قال : هي محمولة على مسح القدمين إذا كان عليهما الخفان ، قاله أبو عبد الله الشافعي ، رحمه الله. ومنهم من قال : هي دالة على مسح الرجلين ، ولكن المراد بذلك الغسل الخفيف ، كما وردت (5) به السنة. وعلى كل تقدير فالواجب غسل الرجلين فرضا ، لا بد منه للآية والأحاديث (6) التي سنوردها.
ومن أحسن ما يستدل به على أن المسح يطلق على الغسل الخفيف ما رواه الحافظ البيهقي ، حيث قال : أخبرنا أبو علي الروذباري ، حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن محمويه العسكري ، حدثنا جعفر بن محمد القلانسي ، حدثنا آدم ، حدثنا شعبة ، حدثنا عبد الملك بن مَيْسَرَة ، سمعت النزال بن سَبْرَة يحدث عن علي بن أبي طالب ، أنه صلى الظهر ، ثم قعد في حوائج الناس في رَحَبَة الكوفة حتى حضرت صلاة العصر ، ثم أتي بكوز من ماء ، فأخذ منه حفنة واحدة ، فمسح بها وجهه ويديه ورأسه ورجليه ، ثم قام فشرب (7) فضله وهو قائم ، ثم قال : إن ناسا يكرهون الشرب قائما ، وإن رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (8) صنع ما صنعتُ. وقال : "هذا وضوء من لم يحدث ".
رواه البخاري في الصحيح ، عن آدم ، ببعض معناه. (9)
ومن أوجب (10) من الشيعة مسحهما كما يمسح الخف ، فقد ضل وأضل. وكذا من جوز مسحهما
__________
(1) في أ : "معمر".
(2) زيادة من ر.
(3) في أ : "ويكفي".
(4) في أ : "الثانية".
(5) في أ : "ورد".
(6) في ر : "وللأحاديث".
(7) في ر : "فشرب منه".
(8) زيادة من ر ، أ.
(9) السنن الكبرى (1/75) وصحيح البخاري برقم (5616)
(10) في ر : "أحب".

(3/53)


وجوز غسلهما فقد أخطأ أيضا ، ومن نقل عن أبي جعفر بن جرير أنه أوجب غسلهما للأحاديث ، وأوجب مسحهما للآية ، فلم يحقق مذهبه في ذلك ، فإن كلامه في تفسيره إنما يدل على أنه أراد أنه يجب دَلْك الرجلين من دون سائر أعضاء الوضوء ؛ لأنهما يليان الأرض والطين وغير ذلك ، فأوجب (1) دَلْكَهما ليذهب ما عليهما ، ولكنه عَبَّر عن الدلك بالمسح ، فاعتقد من لم يتأمل كلامه أنه أراد وجوب الجمع بين (2) غسل الرجلين ومسحهما ، فحكاه من حكاه كذلك ؛ ولهذا يستشكله كثير من الفقهاء وهو معذور (3) فإنه لا معنى للجمع بين المسح والغسل ، سواء تقدمه أو تأخر عليه ؛ لاندراجه فيه ، وإنما أراد الرجلُ ما ذكرتهُ ، والله أعلم. ثم تأملت كلامه أيضًا فإذا هو يحاول الجمع بين القراءتين ، في قوله : { وَأَرْجُلَكُمْ } خفضا على المسح وهو الدلك (4) ونصبا على الغسل ، فأوجبهما أخذا بالجمع بين هذه وهذه.
ذكر الأحاديث الواردة في غسل الرجلين وأنه لا بد منه :
قد تقدم في حديث أميري المؤمنين عثمان وعلي ، وابن عباس ومعاوية ، وعبد الله بن زيد بن عاصم ، والمقداد بن معد يكرب ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل الرجلين (5) في وضوئه ، إما مرة ، وإما مرتين ، أو ثلاثا ، على اختلاف رواياتهم.
وفي حديث عمرو بن شُعَيْب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل قدميه ، ثم قال : "هذا وُضُوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ".
وفي الصحيحين ، من رواية أبي عَوَانة ، عن أبي بِشْر ، عن يوسف بن مَاهَك ، عن عبد الله بن عمرو قال : تَخَلَّف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها ، فأدرَكَنا وقد أرْهَقَتْنَا الصلاةُ ، صلاةُ العصر ونحن نتوضأ ، فجعلنا نمسح على أرجلنا ، فنادى بأعلى صوته : "أسبِغوا الوضوء وَيْلٌ للأعقاب من النار". (6)
وكذلك هو في الصحيحين عن أبي هريرة (7) وفي صحيح مسلم عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار". (8)
وروى الليث بن سعد ، عن حَيْوة بن شُرَيْح ، عن عُقْبة بن مسلم ، عن عبد الله بن الحارث بن جزء (9) أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "وَيْلٌ للأعْقَاب وبُطون الأقدام من النار". رواه البيهقي والحاكم (10) وهذا إسناد صحيح.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق : أنه سمع سعيد بن
__________
(1) في أ : "فالواجب".
(2) في أ : "من".
(3) في أ : "مقدور".
(4) في أ : "كذلك".
(5) في ر : "الوجه".
(6) صحيح البخاري برقم (60) وصحيح مسلم برقم (241).
(7) صحيح البخاري رقم (165) وصحيح مسلم برقم (242).
(8) صحيح مسلم برقم (240).
(9) في أ : "صرد".
(10) السنن الكبرى (1/70) والمستدرك (1/162) ورواه ابن خزيمة في صحيحه برقم (163) من طريق الليث به.

(3/54)


أبي كرب - أو شعيب بن أبي كرب (1) - قال : سمعت جابر بن عبد الله - وهو على جمل (2) - يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ويل للعراقيب من النار". (3)
وحدثنا أسود بن عامر ، أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن أبي كرب (4) عن جابر بن عبد الله قال : رأى النبي صلى الله عليه وسلم في رِجْل رَجُل منا مثْل الدرهم لم يغسله ، فقال : "ويل للعَقِبِ من النار".
ورواه ابنُ ماجه ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن الأحْوص (5) عن أبي إسحاق ، عن سعيد ، به نحوه (6) وكذا رواه ابن جرير من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج وغير واحد ، عن أبي إسحاق السَّبِيعي ، عن سعيد بن أبي كرب (7) عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، مثله. ثم قال :
حدثنا (8) علي (9) بن مسلم ، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، حدثنا حفص ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قوما يتوضئون ، لم يصب أعْقابهم الماءُ ، فقال : "وَيْلٌ للعَراقِيبِ من النار". (10)
وقال الإمام أحمد : حدثنا خَلَف بن الوليد ، حدثنا أيوب بن عُتْبة ، عن يحيى (11) بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن مُعَيْقيب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ويل للأعقاب من النار". تفرد به أحمد. (12)
وقال ابن جرير : حدثني علي بن عبد الأعلى ، حدثنا المحاربي ، عن مُطَرَّح بن يزيد ، عن عبيد الله بن زَحْر ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة قال : قال (13) رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ويل للأعقاب من النار ، ويل للأعقاب من النار". قال : فما بقي في المسجد شَرِيف ولا وَضِيع ، إلا نظرت إليه يُقلب عُرْقوبيه ينظر إليهما". (14)
وحدثنا أبو كريب ، حدثنا حسين ، عن زائدة ، عن ليث ، حدثني عبد الرحمن بن سابط ، عن أبي أمامة - أو عن أخي أبي أمامة - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر قومًا يتوضئون (15) وفي عَقِب أحدهم - أو : كعب أحدهم - مثل موضع الدرهم - أو : موضع الظفر - لم يمسه الماء ، فقال : "ويل للأعقاب من
__________
(1) في أ : "سمع ابن أبي كريب".
(2) في ر : "جبل".
(3) المسند (3/369).
(4) في أ : "كريب".
(5) في ر ، أ : "عن أبي الأحوص".
(6) المسند (3/390) وسنن ابن ماجة برقم (454) وقال البوصيري في الزوائد (1/182) : "هذا إسناد رجاله ثقات".
(7) في أ : "كريب".
(8) في أ : "حدثني".
(9) في ر : "عفان".
(10) تفسير الطبري (10/71)
(11) في ر : "محمد" ، وفي أ : "عون".
(12) المسند (3/426) وقال الهيثمي في المجمع (1/240) : "فيه أيوب بن عتبة والأكثر على تضعيفه".
(13) في أ : "أن".
(14) تفسير الطبري (10/73) وفي إسناده مطرح بن يزيد ضعيف.
(15) في ر : "يصلون".

(3/55)


النار". قال : فجعل الرجل إذا رأى في عقبه شيئًا لم يصبه (1) الماء أعاد وضوءه". (2)
ووجه الدلالة من هذه الأحاديث ظاهرة ، وذلك أنه لو كان فَرْض الرجلين مَسْحهما ، أو أنه يجوز ذلك فيهما لما توَعّد على تركه ؛ لأن المسح لا يستوعب جميع الرجل ، بل يجري (3) فيه ما يجري (4) في مسح الخف ، وهكذا وجه (5) الدلالة على الشيعة الإمام أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله.
وقد روى مسلم في صحيحه ، من طريق أبي الزبير ، عن جابر ، عن عمر بن الخطاب ؛ أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه (6) فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "ارجع فأحسن وضوءك". (7)
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، حدثنا محمد بن إسحاق الصاغاني (8) حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا ابن وَهْبٍ ، حدثنا جرير بن حازم : أنه سمع قتادة بن دعامة قال : حدثنا أنس بن مالك ؛ أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد توضأ ، وترك على قدمه مثل موضع الظفر ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ارجع فأحسن وضوءك ".
وهكذا رواه أبو داود عن هارون بن معروف ، وابن ماجه ، عن حَرْمَلَة بن يحيى ، كلاهما عن ابن وَهْب به (9) وهذا إسناد جيد ، رجاله كلهم ثقات ، لكن قال أبو داود : [و] (10) ليس هذا الحديث بمعروف ، لم يروه إلا ابن وهب.
وحدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد (11) أخبرنا يونس وحميد ، عن الحسن ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم... بمعنى حديث قتادة.
وقال الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن أبي العباس ، حدثنا بَقيةُ ، حدثني بَحِير (12) بن سعد ، عن خالد بن مَعْدان ، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يصلي وفي ظهر قدمه لُمْعَة قدر الدرهم لم يصبها الماء ، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء.
ورواه أبو داود من حديث بقية (13) وزاد : "والصلاة". وهذا إسناد جيد قوي صحيح ، والله أعلم.
وفي حديث حُمْران ، عن عثمان ، في صفة وضوء النبي (14) صلى الله عليه وسلم : أنه خلل بين أصابعه. وروى
__________
(1) في أ : "يمسه".
(2) تفسير الطبري (10/74) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (8/347) من طريق ليث بن أبي سليم به. وقال الهيثمي في المجمع (1/240) : "مدار طرقه كلها على ليث بن أبي سليم وقد اختلط".
(3) في ر : "يجزئ".
(4) في ر : "يجزئ".
(5) في أ : "وهكذا هذه وجه".
(6) في أ : "قدميه".
(7) صحيح مسلم برقم (243).
(8) في أ : "الصنعاني".
(9) السنن الكبرى (1/70) وسنن أبي داود برقم (173) وسنن ابن ماجة برقم (665).
(10) زيادة من أ.
(11) في أ : "موسى بن المعلى نبأنا".
(12) في أ : "مخبر".
(13) المسند (3/424) وسنن أبي داود : برقم (175).
تنبيه : وقع في المسند وسنن أبي داود : "عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم".
(14) في أ : "رسول الله".

(3/56)


أهل السنن من حديث إسماعيل بن كثير ، عن عاصم بن لَقِيط بن صَبرةَ ، عن أبيه قال ، قلت : يا رسول الله ، أخبرني عن الوضوء : فقال : "أسبغ الوضوء ، وخَلِّل بين الأصابع ، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما". (1)
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الله بن يزيد ، أبو عبد الرحمن المقري (2) حدثنا عِكْرِمة بن عمار ، حدثنا شداد بن عبد الله الدمشقي قال (3) قال أبو أمامة : حدثنا عَمْرو بن عبسة (4) قال : قلت : يا نبي الله ، أخبرني عن الوضوء. قال : "ما منكم من أحد يقرب وضوءه ، ثم يتمضمض ويستنشق وينتثر (5) إلا خرّت خطاياه من فمه وخياشيمه مع الماء حين ينتثر ، ثم يغسل وجهه كما أمره (6) الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء ، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرت خطايا يديه من أطراف أنامله ، ثم يمسح رأسه إلا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء ، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمره الله إلا خرت خطايا قدميه من أطراف أصابعه مع الماء ، ثم يقوم فيحمد الله ويثني عليه بالذي هو له أهل ، ثم يركع ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه". قال أبو أمامة : يا عمرو ، انظر ما تقول ، سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أيعطى هذا الرجل كله في مقامه ؟ فقال عمرو بن عَبْسة (7) يا أبا أمامة ، لقد كبرت سنِّي ، وَرَقَّ عظمي ، واقترب أجلي ، وما بي حاجة أن أكذب على الله ، وعلى رسول الله (8) صلى الله عليه وسلم [و] (9) لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا ، لقد سمعته [منه] (10) سبع مرات أو أكثر من ذلك. (11)
وهذا إسناد صحيح ، وهو في صحيح مسلم من وجه آخر ، وفيه : "ثم يغسل قدميه كما أمره الله". فدل على أن القرآن يأمر بالغسل.
وهكذا روى أبو إسحاق السَّبِيعي ، عن الحارث ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، أنه قال : اغسلوا القدمين إلى الكعبين كما أمرتم.
ومن هاهنا يتضح لك المراد من حديث عبد خير ، عن علي ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رَش على قدميه الماء وهما في النعلين فدلكهما. إنما أراد غسلا خفيفًا وهما في النعلين ولا مانع من إيجاد الغسل والرِجل في نعلها ، ولكن في هذا رد على المتعمقين والمتنطعين من الموسوسين. وهكذا الحديث الذي أورده ابن جرير على نفسه ، وهو من روايته ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن حذيفة قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سُبَاطةَ قوم فبال قائما ، ثم دعا بماء فتوضأ ، ومسح على نعليه (12) وهو حديث صحيح. وقد أجاب ابن جرير عنه بأن الثقات الحفاظ رووه عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن حذيفة قال : فبال قائما ثم توضأ ومسح على خفيه.
قلت : ويحتمل الجمع بينهما بأن يكون في رجليه خفان ، وعليهما نعلان.
__________
(1) سنن أبي داود برقم (142) وسنن الترمذي برقم (788) وسنن النسائي (1/66) وسنن ابن ماجة برقم (448).
(2) في أ : "المقبري".
(3) في أ : "حدثنا شداد بن عبد الله الدمشقي قالا".
(4) في أ : "عنبسة".
(5) في أ : "ويستنثر".
(6) في ر : "أمر".
(7) في أ : "عنبسة".
(8) في أ : "رسوله".
(9) زيادة من أ.
(10) زيادة من أ.
(11) المسند (4/112).
(12) تفسير الطبري (10/75).

(3/57)


وهكذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا يحيى عن شُعْبَة ، حدثني يَعْلَى ، عن أبيه ، عن أوس بن أبي أوس قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه ، ثم قام إلى الصلاة. وقد رواه أبو داود عن مُسَدَّد وعباد بن موسى كلاهما ، عن هُشَيْم ، عن يعلى بن عَطاء ، عن أبيه ، عن أوس بن أبي أوس قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سُبَاطة قوم فبال ، وتوضأ (1) ومسح على نعليه وقدميه.
وقد رواه ابن جرير من طريق شعبة ومن طريق هشيم (2) ثم قال : وهذا محمول على أنه توضأ كذلك وهو غير محدث ؛ إذ كان غير جائز أن تكون فرائض الله وسنن رسوله متنافية متعارضة ، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم الأمر بعموم غسل القدمين في الوضوء بالماء بالنقل (3) المستفيض القاطع عُذْر من انتهى إليه وبلغه.
ولما كان القرآن آمرًا بغسل الرجلين - كما في قراءة النصب ، وكما هو الواجب في حمل قراءة الخفض عليها - توهم بعض السلف أن هذه الآية ناسخة لرخصة المسح على الخفين ، وقد روي ذلك عن علي بن أبي طالب ، ولكن لم يصح إسناده ، ثم الثابت عنه خلافه ، وليس كما زعموه ، فإنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين بعد نزول هذه الآية الكريمة.
قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا زياد بن عبد الله بن عُلاثة ، عن عبد الكريم بن مالك الجَزَري ، عن مجاهد ، عن جرير بن عبد الله البَجَلي قال : أنا أسلمت بعد نزول (4) المائدة ، وأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح بعدما أسلمت. تفرد به أحمد. (5)
وفي الصحيحين ، من حديث الأعمش ، عن إبراهيم ، عن هَمَّام قال : بال جرير ، ثم توضأ ومسح على خفيه ، فقيل : تفعل هذا ؟ فقال : نعم ، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ، ثم توضأ ومسح على خفيه. قال الأعمش : قال إبراهيم : فكان يعجبهم هذا الحديث ؛ لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة. لفظ مسلم. (6)
وقد ثبت بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشروعية المسح على الخفين قولا منه وفعلا كما هو مقرر في كتاب "الأحكام الكبير" ، وما (7) يحتاج إلى ذكره هناك ، من تأقيت المسح أو عدمه أو التفصيل فيه ، كما هو مبسوط في موضعه. وقد خالفت الروافض ذلك كله بلا مستند ، بل بجهل وضلال ، مع أنه ثابت في صحيح مسلم ، من رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه. كما ثبت في الصحيحين عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن نكاح المتعة وهم يستبيحونها. وكذلك هذه الآية الكريمة دالة على وجوب غسل الرجلين ، مع ما ثبت بالتواتر من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على وفق ما دلت عليه الآية
__________
(1) في أ : "فتوضأ".
(2) المسند (4/8) وسنن أبي داود برقم (160) وتفسير الطبري (10/76).
(3) في ر : "بالفعل".
(4) في أ : "بعدما أنزلت".
(5) المسند (4/363)
(6) صحيح البخاري برقم (387) وصحيح مسلم برقم (272).
(7) في أ : "مع ما".

(3/58)


الكريمة ، وهم مخالفون لذلك كله ، وليس لهم دليل صحيح في نفس الأمر ، ولله الحمد.
وهكذا خالفوا الأئمة والسلف في الكعبين اللذين في القدمين ، فعندهم أنهما في ظهر القدم ، فعندهم في كل رجل كعب ، وعند الجمهور أن الكعبين هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم. قال (1) الربيع : قال الشافعي : لم أعلم مخالفًا في أن الكعبين اللذين ذكرهما الله في كتابه في الوضوء هما الناتئان ، وهما مجمع مفصل الساق والقدم. هذا لفظه. فعند الأئمة ، رحمهم الله ، [أن] (2) في كل قدم كعبين كما هو المعروف عند الناس ، وكما دلت عليه السنة ، ففي الصحيحين من طريق (3) حُمْران عن عثمان ؛ أنه توضأ فغسل رجله اليمنى إلى الكعبين ، واليسرى مثل ذلك.
وروى البخاري تعليقًا مجزوما به ، وأبو داود وابن خزيمة في صحيحه ، من رواية أبي القاسم الحسيني بن الحارث الجدلي ، عن النعمان بن بشير قال : أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال : "أقيموا صفوفكم - ثلاثا - والله لتقيمُن صفوفكم أو ليخالفَنَّ الله بين قلوبكم". قال : فرأيت الرجل يُلْزِق كعبه بكعب صاحبه ، وركبته بركبة صاحبه ، ومَنْكبِه بمنكبه. لفظ ابن خزيمة. (4)
فليس يمكن أن يلزق كعبه بكعب صاحبه إلا والمراد به العظم الناتئ في الساق ، حتى يحاذي كعب الآخر ، فدل ذلك على ما ذكرناه ، من أنهما العظمان الناتئان عند مَفْصِل الساق والقدم كما هو مذهب أهل السنة.
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إسماعيل بن موسى ، أخبرنا شريك ، عن يحيى بن عبد الله بن الحارث التيمي - يعني الجابر - قال : نظرت في قتلى أصحاب زيد ، فوجدت الكعب فوق ظهر القدم ، وهذه عقوبة عوقب بها الشيعة بعد قتلهم ، تنكيلا بهم في مخالفتهم الحق وإصرارهم عليه.
وقوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ } كل ذلك قد تقدَّم الكلام عليه في تفسير آية النساء ، فلا حاجة بنا إلى إعادته ؛ لئلا يطول الكلام. وقد ذكرنا سبب نزول آية التيمم هناك ، لكن البخاري روى هاهنا حديثا خاصا بهذه الآية الكريمة ، فقال :
حدثنا يحيى بن سليمان ، حدثنا ابن وَهْبٍ ، أخبرني عمرو بن الحارث ، أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه ، عن أبيه ، عن عائشة : سقطت قلادة لي بالبيداء ، ونحن داخلون المدينة ، فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل ، فثَنَى رأسه في حِجْري راقدًا ، أقبل أبو بكر فلَكَزَني لكزة شديدة ، وقال : حَبَسْت الناس في قلادة ، فَبى الموتُ لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد أوجعني ، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ وحضرت الصبح ، فالتمس الماء فلم يوجَد ، فنزلت : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } هذه الآية ، فقال أسَيْد بن الحُضَير لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر ، ما أنتم إلا بركة لهم. (5)
__________
(1) في أ : "وقال".
(2) زيادة من أ.
(3) في أ : "حديث".
(4) سنن أبي داود برقم (662) وصحيح ابن خزيمة برقم (160).
(5) صحيح البخاري برقم (4608).

(3/59)


وقوله : { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ } أي : فلهذا سهل عليكم ويسَّر ولم يعسِّر ، بل أباح التيمم عند المرض ، وعند فقد الماء ، توسعة عليكم ورحمة بكم ، وجعله في حق من شرع الله يقوم مقام الماء إلا من بعض الوجوه ، كما تقدم بيانه ، وكما هو مقرر في كتاب "الأحكام الكبير".
وقوله : { وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي : لعلكم تشكرون نعمَه عليكم فيما شرعه لكم من التوسعة والرأفة والرحمة والتسهيل والسماحة ، وقد وردت السنة بالحث على الدعاء عقب الوضوء ، بأن يجعل فاعله من المتطهرين الداخلين في امتثال هذه الآية الكريمة ، كما رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن ، عن عقبة بن عامر قال : كانت علينا رعاية الإبل ، فجاءت نَوْبَتي فَرَوَّحتها بعَشِيّ ، فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما يحدث الناس ، فأدركت من قوله : "ما من مسلم يتوضأ فيحسن وُضُوءه ، ثم يقوم فيصلي ركعتين مُقْبلا عليهما بقلبه ووجهه ، إلا وجبت له الجنة". قال : قلت : ما أجود هذه! فإذا قائل بين يدي يقول : التي قبلها أجود منها. فنظرت فإذا عمر ، رضي الله عنه ، فقال : إني قد رأيتك جئت آنفا قال : "ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ - أو : فيسبغ - الوضوء ، يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله ، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية ، يدخل من أيها شاء". لفظ مسلم. (1)
وقال مالك : عن سُهَيل (2) بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إذا توَضّأ العبد المسلم - أو : المؤمن - فغسل وجهه ، خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء - أو : مع آخر قطر الماء - فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء - أو : مع آخر قطْر الماء - فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء - أو : مع آخر قطْر الماء - حتى يخرج نقيا من الذنوب".
رواه مسلم عن أبي الطاهر ، عن ابن وهب ، عن مالك ، به. (3)
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا معاوية بن هشام ، عن سفيان ، عن منصور ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن كعب بن مُرَّة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من رجل يتوضأ فيغسل يديه - أو : ذراعيه - إلا خرجت خطاياه منهما ، فإذا غسل وجهه خرجت خطاياه من وجهه ، فإذا مسح رأسه خرجت خطاياه من رأسه ، فإذا غسل رجليه خرجت خطاياه من رجليه". (4)
هذا لفظه. وقد رواه الإمام أحمد ، عن محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن منصور ، عن سالم ، عن مرة بن كعب ، أو كعب بن مرة السلمي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "وإذا توضأ العبد فغسل يديه ، خرجت (5) خطاياه من بين يديه ، وإذا غسل وجهه خرجت (6) خطاياه من وجهه ، وإذا غسل ذراعيه خرجت (7) خطاياه من ذراعيه ، وإذا غسل رجليه خرجت (8) خطاياه من رجليه". قال شعبة : ولم يذكر مسح الرأس. وهذا إسناد صحيح. (9)
__________
(1) المسند (4/153) وصحيح مسلم برقم (234) وسنن أبي داود برقم (169) وسنن النسائي (1/95).
(2) في أ : "سهل".
(3) الموطأ (1/32) وصحيح مسلم برقم (244).
(4) تفسير الطبري (10/87).
(5) في أ : "خرت".
(6) في أ : "خرت".
(7) في أ : "خرت".
(8) في أ : "خرت".
(9) المسند (4/334) قال الهيثمي في المجمع (1/224) : "رجاله رجال الصحيح".

(3/60)


وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)

وروى ابن جرير من طريق شَمِر بن عطية ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من توضأ فأحسن الوضوء ، ثم قام إلى الصلاة ، خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ويديه ورجليه". (1)
وروى مسلم في صحيحه ، من حديث يحيى بن أبي كثير ، عن زيد بن سلام ، عن جده ممطور ، عن أبي مالك الأشعري ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "الطَّهور شَطْر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان الله والحمد لله (2) تملآن ما بين السماء والأرض ، والصلاة نور ، والصدقة بُرهان ، والصبر ضياء ، والقرآن حُجَّة لك أو عليك ، كل الناس يَغْدُو ، فبائع نفسه فَمعتِقهَا ، أو مُوبِقُهَا". (3)
وفي صحيح مسلم ، من رواية سِمَاك بن حَرْب ، عن مُصْعب بن سعد ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يقبل الله صدقة من غُلُول ، ولا صلاة بغير طهور". (4)
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، سمعت أبا المَلِيح الهُذَلي يحدث عن أبيه قال : كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ، فسمعته يقول : "إن الله لا يقبل صلاة من غير طهور ، ولا صدقة من غُلُول".
وكذا رواه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، من حديث شعبة. (5)
{ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) }
__________
(1) تفسير الطبري (10/86) ورواه أحمد في مسنده (5/252) من طريق شمر بن عطية به.
(2) في أ : " وسبحان الله والله أكبر".
(3) صحيح مسلم برقم (223).
(4) صحيح مسلم برقم (224).
(5) مسند الطيالسي برقم (153) وسنن أبي داود برقم (59) وسنن النسائي (1/87) وسنن ابن ماجة برقم (271).

(3/61)


وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)

{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) }
يقول تعالى مُذكرًا عباده المؤمنين نعمتَه عليهم في شرعه لهم هذا الدين العظيم ، وإرساله إليهم هذا الرسول الكريم ، وما أخذ عليهم من العهد والميثاق في مبايعته على متابعته ومناصرته ومؤازرته ، والقيام بدينه وإبلاغه عنه وقبوله منه ، فقال [تعالى] (1) { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي
__________
(1) زيادة من أ.

(3/61)


وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } وهذه هي البيعة التي كانوا يبايعون رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها عند إسلامهم ، كما قالوا : "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة ، في منشطنا ومكرهنا ، وأثرةً علينا ، وألا ننازع الأمر أهله" ، وقال تعالى : { وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [ الحديد : 8 ] وقيل : هذا تذكار لليهود بما أخذ عليهم من المواثيق والعهود في متابعة محمد صلى الله عليه وسلم والانقياد لشرعه ، رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس. وقيل : هو تذكار بما أخذ تعالى من العهد على ذرية آدم حين استخرجهم من صلبه وأشهدهم على أنفسهم : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا } [ الأعراف : 172 ] قاله مجاهد ، ومُقَاتِل بن حَيَّان. والقول الأول أظهر ، وهو المحكي عن ابن عباس ، والسُّدِّي. واختاره (1) ابن جرير.
ثم قال تعالى : { وَاتَّقُوا اللَّهَ } تأكيد وتحريض على مواظبة التقوى في كل حال.
ثم أعلمهم أنه يعلم ما يتخالج في الضمائر والسرائر من الأسرار والخواطر ، فقال : { إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }
وقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ } أي : كونوا قوامين بالحق لله ، عز وجل ، لا لأجل الناس والسمعة ، وكونوا { شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ } أي : بالعدل لا بالجور. وقد ثبت في الصحيحين ، عن النعمان بن بشير أنه قال : نحلني أبي نَحْلا فقالت أمي عمرة بنت رواحة : لا أرضى حتى تُشْهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاءه ليشهده على صدقتي فقال : "أكل ولدك نحلت مثله ؟" قال : لا. قال : "اتقوا الله ، واعدلوا في (2) أولادكم". وقال : "إني لا أشهد على جَوْر". قال : فرجع أبي فرد تلك الصدقة. (3)
وقوله : { وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا } أي : لا يحملنكم بُغْض قوم على ترك العدل فيهم ، بل استعملوا العدل في كل أحد ، صديقا كان أو عدوًا ؛ ولهذا قال : { اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } أي : عَدْلُكم أقرب إلى التقوى من تركه. ودل الفعل على المصدر الذي عاد الضمير عليه ، كما في نظائره من القرآن وغيره ، كما في قوله : { وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ } [ النور : 28 ]
وقوله : { هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } من باب استعمال أفعل التفضيل في المحل الذي ليس في الجانب الآخر منه شيء ، كما في قوله [تعالى] (4) { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا } [ الفرقان : 24 ] وكقول (5) بعض الصحابيات لعمر : أنت أفَظُّ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم. (6)
ثم قال تعالى : { وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي : وسيجزيكم على ما علم من أفعالكم التي عملتموها ، إن خيرًا فخير ، وإن شرا فشر ؛ ولهذا قال بعده : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ } أي : لذنوبهم { وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } وهو : الجنة التي هي من رحمته على عباده ، لا ينالونها بأعمالهم ، بل برحمة منه وفضل ، وإن كان سبب وصول الرحمة إليهم أعمالهم ، وهو تعالى
__________
(1) في ر ، أ : "واختيار".
(2) في أ : "بينكم".
(3) صحيح البخاري برقم (2586) وصحيح مسلم برقم (1623).
(4) زيادة من أ.
(5) في ر : "ولقول".
(6) صحيح البخاري برقم (3294) وصحيح مسلم برقم (1396)

(3/62)


الذي جعلها أسبابًا إلى نيل رحمته وفضله وعفوه ورضوانه ، فالكل منه وله ، فله الحمد والمنة.
ثم قال : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } وهذا من عدله تعالى ، وحكمته وحُكْمه الذي لا يجور فيه ، بل هو الحَكَمُ العدل الحكيم (1) القدير.
وقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ } قال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، ذكره عن أبي سلمة ، عن جابر ؛ أن النبي (2) صلى الله عليه وسلم نزل منزلا وتَفَرّق الناس في العضَاه يستظلون تحتها ، وعلق النبي صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة ، فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله (3) صلى الله عليه وسلم فأخذه فسلَّه ، ثم أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : من يمنعك مني ؟ قال : "الله"! قال الأعرابي مرتين أو ثلاثا : من يمنعك مني ؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : "الله"! قال : فَشَام الأعرابي السيف ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأخبرهم خَبَرَ الأعرابي ، وهو جالس إلى جنبه ولم يعاقبه - وقال معمر : وكان (4) قتادة يذكر نحو هذا ، وذكر أن قوما من العرب أرادوا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا هذا الأعرابي ، وتأول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ } الآية.
وقصة هذا الأعرابي - وهو غَوْرَث بن الحارث - ثابتة في الصحيح. (5)
وقال العَوْفِيّ ، عن ابن عباس في هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ } وذلك أن قوما من اليهود صنعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه طعاما ليقتلوهم (6) فأوحى الله تعالى إليه بشأنهم ، فلم يأت الطعام ، وأمر أصحابه فلم يأتوه (7) رواه ابن أبي حاتم.
وقال أبو مالك : نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه ، حين أرادوا أن يَغْدروا بمحمد [صلى الله عليه وسلم] (8) وأصحابه في دار كعب بن الأشرف. رواه ابن أبي حاتم.
وذكر محمد بن إسحاق بن يَسار ، ومجاهد وعكْرِمَة ، وغير واحد : أنها نزلت في شأن بني النَّضير ، حين أرادوا أن يلقوا على رأس رسول الله (9) صلى الله عليه وسلم الرحَى ، لما جاءهم يستعينهم في (10) ديَةِ العامرييْن ، ووكلوا عمرو بن جَحَّاش بن كعب بذلك ، وأمروه إن جلس النبي صلى الله عليه وسلم تحت الجدار واجتمعوا عنده أن يلقي تلك الرحى من فوقه ، فأطلع الله رسوله على ما تمالؤوا (11) عليه ، فرجع إلى المدينة وتبعه أصحابه ، فأنزل الله [تعالى] (12) في ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } ثم أمر رسول
__________
(1) في ر : "الحليم".
(2) في أ : "أن رسول الله".
(3) في ر ، أ : "النبي".
(4) في أ : "فكان".
(5) تفسير عبد الرزاق (1/182) ورواه البخاري في صحيحه برقم (139) من طريق عبد الرزاق به.
(6) في ر : "يقتلوه".
(7) في ر : "فأتوه".
(8) زيادة من أ.
(9) في أ : "رأس النبي".
(10) في ر : "على".
(11) في ر : "تمالوا".
(12) زيادة من ر ، أ.

(3/63)


وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)

الله صلى الله عليه وسلم أن يغدو إليهم فحاصرهم ، حتى أنزلهم فأجلاهم.
وقوله تعالى : { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } يعني : من توكل على الله كفاه الله ما أهمه ، وحفظه من شر الناس وعصمه.
{ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) }

(3/64)


وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)

{ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) }
لما أمر [الله] (1) تعالى عباده المؤمنين بالوفاء بعهده وميثاقه ، الذي أخذه عليهم على لسان عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمرهم بالقيام بالحق والشهادة بالعدل ، وذكرهم نعَمَه عليهم الظاهرة والباطنة ، فيما هداهم له من الحق والهدى ، شرع يبين لهم كيف أخذ العهود والمواثيق على من كان قبلهم من أهل الكتابين : اليهود والنصارى ، فلما نقضوا عهوده ومواثيقه أعقبهم ذلك لعنًا منه لهم ، وطردا عن بابه وجنابه ، وحجابا لقلوبهم (2) عن الوصول إلى الهدى ودين الحق ، وهو العلم النافع والعمل الصالح ، فقال تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا } يعني : عُرَفاء على قبائلهم بالمبايعة والسمع ، والطاعة لله ولرسوله ولكتابه.
وقد ذكر ابن عباس ومحمد بن إسحاق وغير واحد أن هذا كان لما توجه موسى ، عليه السلام ، لقتال الجبابرة ، فأمر بأن يقيم النقباء ، من كل سبط نقيب - قال محمد بن إسحاق : فكان من سبط روبيل : "شامون بن زكور (3) ، ومن سبط شمعون : "شافاط بن حُرّي" ، ومن سبط يهوذا : "كالب بن يوفنا" ، ومن سبط أبين : "فيخائيل بن يوسف" ، ومن سبط يوسف ، وهو سبط أفرايم : "يوشع بن نون" ، ومن سبط بنيامين : "فلطمى بن رفون" ، ومن سبط زبلون (4) جدي بن سودى" ، ومن سبط يوسف وهو منشا بن يوسف : "جدي بن سوسى" ، ومن سبط دان : "حملائيل بن جمل" ، ومن سبط أسير : "ساطور بن ملكيل" ، ومن سبط نفتالي (5) نحى بن وفسى" ، ومن سبط جاد : "جولايل بن ميكي". (6)
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ر" : "لعيوبهم".
(3) في ر : "زكون".
(4) في ر : "زايكون" ، وفي أ : "زيالون".
(5) في ر : "ثقال".
(6) في ر : "مليدن".

(3/64)


وقد رأيت في السفر الرابع من التوراة تعداد النقباء على أسباط بني إسرائيل وأسماء مخالفة لما ذكره ابن إسحاق ، والله أعلم ، قال فيها : فعلى بني روبيل : "الصوني بن سادون" ، وعلى بني شمعون : "شموال بن صورشكي" ، وعلى بني يهوذا : "يحشون بن عمبيا ذاب (1) وعلى بني يساخر : "شال بن صاعون" ، وعلى بني زبلون : "الياب بن حالوب (2) ، وعلى بني يوسف إفرايم : "منشا (3) بن عمنهود" ، وعلى بني منشا : "حمليائيل بن يرصون" ، وعلى بني بنيامين : "أبيدن بن جدعون" ، وعلى بني دان : "جعيذر بن عميشذي" ، وعلى بني أسير : "نحايل بن عجران" ، وعلى بني حاز : "السيف بن دعواييل" ، وعلى بني نفتالي : "أجزع بن عمينان".
وهكذا لما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار ليلة العقبة ، كان فيهم اثنا عشر نقيبًا ، ثلاثة من الأوس وهم : أسيد بن الحُضَيْر ، وسعد بن خَيْثَمَة ، ورفاعة بن عبد المنذر - ويقال بدله : أبو الهيثم بن التيهان - رضي الله عنهم ، وتسعة من الخزرج ، وهم : أبو أمامة أسعد بن زُرَارة ، وسعد بن الربيع ، وعبد الله بن رواحة ، ورافع بن مالك بن العَجْلان (4) والبراء بن مَعْرور ، وعبادة بن الصامت ، وسعد بن عُبَادة ، وعبد الله بن عَمْرو بن حرام ، والمنذر بن عَمْرو بن خُنَيس ، رضي الله عنهم. وقد ذكرهم كعب بن مالك في شعر له ، كما أورده ابن إسحاق ، رحمه الله. (5)
والمقصود أن هؤلاء كانوا عرفاء على قومهم ليلتئذ عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك ، وهم الذين ولوا المبايعة والمعاقدة عن قومهم للنبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة.
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن بن موسى ، حدثنا حماد بن زيد ، عن مُجالد ، عن الشعبي ، عن مسروق قال : كنا جلوسا عند عبد الله بن مسعود وهو يقرئنا القرآن ، فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن ، هل سألتم رسول الله صلى الله عليه وسلم : كم يملك هذه الأمة من خليفة ؟ فقال عبد الله : ما سألني عنها أحد منذ قدمتُ العراق قبلك ، ثم قال : نعم ولقد سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل".
هذا حديث غريب من هذا الوجه (6) وأصل هذا الحديث ثابت في الصحيحين من (7) حديث جابر بن سَمُرة قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا". ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت عَلَيّ ، فسألت أبي : ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : "كلهم من قريش".
وهذا لفظ مسلم (8) ومعنى هذا الحديث البشارة بوجود اثني عشر خليفة صالحًا (9) يقيم الحق ويعدل فيهم ، ولا يلزم من هذا تواليهم (10) وتتابع أيامهم ، بل قد وجد منهم أربعة على نَسَق ، وهم الخلفاء الأربعة : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، رضي الله عنهم ، ومنهم عمر بن عبد العزيز بلا شك عند الأئمة ، وبعض بني العباس. ولا تقوم الساعة حتى تكون ولايتهم لا محالة ، والظاهر أن
__________
(1) في ر : "عمينا ذاب".
(2) في ر : "جالوت".
(3) في ر : "ومنشا".
(4) في أ : "عجلان".
(5) انظر : السيرة النبوية لابن هشام (1/443).
(6) المسند (1/398) وقال الهيثمي في المجمع (5/190) : "فيه مجالد بن سعيد وثقه النسائي وضعفه الجمهور ، وبقية رجاله ثقات".
(7) في أ : "عن".
(8) صحيح مسلم برقم (1822).
(9) في ر : "صالح".
(10) في ر : "تتاليهم".

(3/65)


منهم المهدي المبشر به في الأحاديث الواردة بذكره : أنه يُواطئُ اسمُه اسم النبي صلى الله عليه وسلم ، واسم أبيه اسم أبيه ، فيملأ الأرض عدْلا وقِسْطًا ، كما ملئت جَوْرا وظُلْمًا ، وليس هذا بالمنتظر الذي يتوهم الرافضة وجوده ثم ظهوره من سرداب "سَامرّاء". فإن ذلك ليس له حقيقة ولا وجود بالكلية ، بل هو من هَوَسِ العقول السخيفة ، وَتَوَهُّم الخيالات الضعيفة ، وليس المراد بهؤلاء الخلفاء الاثني عشر الأئمة [الاثني عشر] (1) الذين يعتقد فيهم الاثنا عشرية من الروافض ، لجهلهم وقلة عقلهم. وفي التوراة البشارة بإسماعيل ، عليه السلام ، وأن الله يقيم من صُلْبِه اثني عشر عظيما ، وهم هؤلاء الخلفاء الاثنا عشر المذكورون في حديث ابن مسعود ، وجابر بن سَمُرة ، وبعض الجهلة ممن أسلم (2) من اليهود إذا اقترن بهم بعض الشيعة يوهمونهم أنهم الأئمة الاثنا عشر ، فيتشيع كثير منهم جهلا وسَفَها ، لقلة علمهم وعلم من لقنهم ذلك بالسنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى : { وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ } أي : بحفظي وكَلاءتي ونصري { لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي } أي : صدقتموهم فيما يجيئونكم به من الوحي { وَعَزَّرْتُمُوهُمْ } أي : نصرتموهم وآزرتموهم على الحق { وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } وهو : الإنفاق في سبيله وابتغاء مرضاته { لأكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } أي : ذنوبكم أمحوها وأسترها ، ولا أؤاخذكم بها { وَلأدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } أي : أدفع عنكم المحذور ، وأحصل لكم المقصود.
وقوله : { فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } أي : فمن خالف هذا الميثاق بعد عَقْده وتوكيده وشدَه ، وجحده وعامله معاملة من لا يعرفه ، فقد أخطأ الطريق الحق ، وعدل عن الهدى إلى الضلال.
ثم أخبر تعالى عما أحل بهم من العقوبة عند مخالفتهم ميثاقه ونقضهم عهده ، فقال : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ } أي : فبسبب نقضهم الميثاقَ الذي أخذ عليهم لعناهم ، أي أبعدناهم عن الحق وطردناهم عن الهدى ، { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } أي : فلا يتعظون (3) بموعظة لغلظها وقساوتها ، { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ } أي : فسدت (4) فُهومهم ، وساء تصرفهم في آيات الله ، وتأولوا كتابه على غير ما أنزله ، وحملوه على غير مراده ، وقالوا عليه ما لم يقل ، عياذًا بالله من ذلك ، { وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ } أي : وتركوا العمل به رغبة عنه.
قال الحسن : تركوا عُرَى دينهم ووظائف الله التي لا يقبل العمل إلا بها. وقال غيره : تركوا العمل فصاروا إلى حالة رديئة ، فلا قلوب سليمة ، ولا فطر مستقيمة ، ولا أعمال قويمة.
{ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ } يعني : مكرهم وغَدْرهم لك ولأصحابك.
وقال مجاهد وغيره : يعني بذلك تمالؤهم على الفتك بالنبي ، صلى الله عليه وسلم.
{ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ } وهذا هو عين النصر والظفر ، كما قال بعض السلف : ما عاملت من
__________
(1) زيادة من ر ، أ.
(2) في ر : "يسلم".
(3) في أ : "فلا تنتفع".
(4) في ر : "وفسدت".

(3/66)


يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)

عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه. وبهذا يحصل لهم تأليف وجمع على الحق ، ولعل الله أن يهديهم ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } يعني به : الصفح عمن أساء إليك.
وقال قتادة : هذه الآية { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ } منسوخة بقوله : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِر[ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ] } (1) [ التوبة : 29 ]
وقوله : { وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ } أي : ومن الذين ادعوا لأنفسهم أنهم نصارى يتابعون المسيح ابن مريم عليه السلام ، وليسوا كذلك ، أخذنا عليهم العهود والمواثيق على متابعة الرسول ومناصرته ومؤازرته واقتفاء آثاره ، والإيمان بكل نبي يرسله الله إلى أهل الأرض ، أي : ففعلوا كما فعل اليهود ، خالفوا المواثيق ونقضوا العهود ؛ ولهذا قال : { فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } أي : فألقينا بينهم العداوة والتباغض لبعضهم بعضا ، ولا يزالون كذلك إلى (2) قيام الساعة. وكذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين ، يكفر بعضهم بعضا ، ويلعن بعضهم بعضا ؛ فكل فرقة تُحَرم الأخرى ولا تدعها تَلجُ معبدها ، فالملكية تكفر اليعقوبية ، وكذلك الآخرون ، وكذلك النسطورية والآريوسية ، كل طائفة تكفر (3) الأخرى في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.
ثم قال تعالى : { وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } وهذا تهديد ووعيد أكيد للنصارى على ما ارتكبوه من الكذب على الله وعلى رسوله ، وما نسبوه إلى الرب ، عز وجل ، وتعالى وتقدس عن قولهم علوًا كبيرًا ، من جعلهم له صاحبة وولدا ، تعالى الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كُفوًا أحد.
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) }
يقول تعالى مخبرًا عن نفسه الكريمة : أنه قد أرسل رسوله محمدًا بالهدى ودين الحق إلى جميع أهل الأرض ، عربهم وعجمهم ، أميهم وكتابيّهم ، وأنه بعثه بالبينات والفرق بين الحق والباطل ، فقال تعالى : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ } أي : يبين ما بدلوه وحرفوه وأولوه ، وافتروا على الله فيه ، ويسكت (4) عن كثير مما غيروه ولا فائدة في بيانه.
وقد روى الحاكم في مستدركه ، من حديث الحسين بن واقد ، عن يزيد النحوي ، عن عكرمة ،
__________
(1) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(2) في أ : "إلى يوم القيامة وهو".
(3) في أ : "تلعن".
(4) في أ : "وسكت".

(3/67)


لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)

عن ابن عباس قال : من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب ، قوله : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ } فكان الرجم مما أخفوه. (1)
ثم قال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (2)
ثم أخبر تعالى عن القرآن العظيم الذي أنزله على نبيه الكريم فقال : { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ } أي : طرق النجاة والسلامة ومناهج الاستقامة { وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ (3) وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } أي : ينجيهم من المهالك ، ويوضح لهم أبين المسالك فيصرف (4) عنهم المحذور ، ويحصل لهم أنجب الأمور ، وينفي عنهم الضلالة ، ويرشدهم إلى أقوم حالة.
{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) }
__________
(1) في أ : "مما أخفوا".
(2) المستدرك (4/359).
(3) في أ : بإذن ربهم" وهو خطأ.
(4) في ر ، أ : "فصرف".

(3/68)


وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)

{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) }
يقول تعالى مخبرًا وحاكمًا بكفر النصارى في ادعائهم في المسيح ابن مريم - وهو عبدٌ من عباد الله ، وخلق من خلقه - أنه هو الله ، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا.
ثم قال مخبرًا عن قدرته على الأشياء وكونها تحت قهره وسلطانه : { قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا } أي : لو أراد ذلك ، فمن ذا الذي كان يمنعه (1) ؟ أو من (2) ذا الذي يقدر على صرفه عن ذلك ؟
ثم قال : { وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ } أي : جميعُ الموجودات ملكهُ وخلقه ، وهو القادر على ما يشاء ، لا يُسأل عما يفعل ، لقدرته وسلطانه ، وعدله وعظمته ، وهذا رد على النصارى عليهم لعائن الله المتتابعة (3) إلى يوم القيامة.
ثم قال تعالى رادًا على اليهود والنصارى في كذبهم وافترائهم : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } أي : نحن منتسبون إلى أنبيائه وهم بنوه وله بهم عناية ، وهو يحبنا. ونقلوا عن كتابهم أن
__________
(1) في أ : "يمنعه منه".
(2) في أ : "ومن".
(3) في ر ، أ : "التابعة".

(3/68)


الله [تعالى] (1) قال لعبده إسرائيل : "أنت ابني بكري". فحملوا هذا على غير تأويله ، وحَرّفوه. وقد رد عليهم غير واحد ممن أسلم من عقلائهم ، وقالوا : هذا يطلق عندهم على التشريف والإكرام ، كما نقل النصارى عن كتابهم أن عيسى قال لهم : إني ذاهب إلى أبي وأبيكم ، يعني : ربي وربكم. ومعلوم أنهم لم يدعوا لأنفسهم من البنوة ما ادعوها في عيسى ، عليه السلام ، وإنما أرادوا بذلك (2) معزتهم لديه وحظْوتهم عنده ، ولهذا قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه.
قال الله تعالى (3) رادا عليهم : { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ } أي : لو كنتم كما تدعون أبناءه وأحباءه ، فلم أعَد (4) لكم نار جهنم على كفركم وكذبكم وافترائكم ؟. وقد قال بعض شيوخ الصوفية لبعض الفقهاء : أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه ؟ فلم يرد عليه ، فتلا الصوفي هذه الآية : { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ }
وهذا الذي قاله حسن ، وله شاهد في المسند للإمام أحمد حيث قال : حدثنا ابن أبي عَدِيٍّ ، عن حُمَيْد ، عن أنس قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه ، وصبي في الطريق ، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يُوْطَأ ، فأقبلت تسعى وتقول : ابني ابني! وسعت فأخذته ، فقال القوم : يا رسول الله ، ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار. قال : فَخفَّضَهُم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "لا والله ما يلقي حبيبه في النار". تفرد به. (5)
[وقوله] (6) { بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ } أي : لكم أسوة أمثالكم من بني آدم ، وهو تعالى هو الحاكم في جميع عباده { يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ } أي : هو فعال لما يريد ، لا مُعَقِّب لحكمه وهو سريع الحساب. { وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا } أي : الجميع ملكه وتحت قهره وسلطانه ، { وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ } أي : المرجع والمآب إليه ، فيحكم في عباده بما يشاء ، وهو العادل الذي لا يجور.
[و] (7) قال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عِكْرِمَة ، أو سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن أضاء (8) وبحري بن عمرو ، وشاس بن عدي ، فكلموه وكلمهم (9) رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته ، فقالوا : ما تخوفنا يا محمد! نحن والله أبناء الله وأحباؤه ، كقول النصارى ، فأنزل [الله] (10) فيهم : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } إلى آخر الآية. رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.
ورويا أيضا من طريق أسباط عن السدي في قول الله [تعالى] (11) { وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } أما قولهم : { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } فإنهم قالوا : إن الله أوحى إلى إسرائيل أن
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ر ، أ : "من ذلك".
(3) في أ : "عز وجل".
(4) في أ : أعددت".
(5) المسند (3/104).
(6) زيادة من أ.
(7) زيادة من أ.
(8) في أ : "عتمان بن صا".
(9) في أ : "فكلمهم."
(10) زيادة من أ.
(11) زيادة من أ.

(3/69)


يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)

ولدك (1) - بكرك من الولد - فيدخلهم النار (2) فيكونون فيها أربعين ليلة حتى تطهرهم وتأكل خطاياهم ، ثم يناد مناد (3) أن أخرجوا كل مختون من ولد إسرائيل. فأخرجوهم (4) فذلك قولهم : { لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ } [ آل عمران : 24 ]
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) }
يقول تعالى مخاطبا أهل الكتاب من اليهود والنصارى : إنه قد أرسل إليهم رسوله محمدا (5) خاتم النبيين ، الذي لا نبي بعده ولا رسول بل هو المعقب لجميعهم ؛ ولهذا قال : { عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ } أي : بعد مدة متطاولة ما بين إرساله وعيسى ابن مريم.
وقد اختلفوا في مقدار هذه الفترة ، كم هي ؟ فقال أبو عثمان النَّهْديّ وقتادة - في رواية عنه - : كانت ستمائة سنة. ورواه البخاري عن سلمان الفارسي. وعن قتادة : خمسمائة وستون سنة ، وقال مَعْمَر ، عن بعض أصحابه : خمسمائة وأربعون سنة. وقال : الضحاك : أربعمائة (6) وبضع وثلاثون سنة.
وذكر ابن عساكر في ترجمة عيسى ، عليه السلام (7) عن الشعبي أنه قال : ومنْ رفع المسيح إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم تسعمائة وثلاث (8) وثلاثون سنة.
والمشهور هو الأول ، وهو أنه ستمائة سنة. ومنهم من يقول : ستمائة وعشرون سنة. ولا منافاة بينهما ، فإن القائل الأول أراد ستمائة سنة شمسية ، والآخر أراد قمرية ، وبين كل مائة سنة شمسية وبين القمرية نحو من ثلاث (9) سنين ؛ ولهذا قال تعالى في قصة أصحاب الكهف : { وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا } [ الكهف : 25 ] أي : قمرية ، لتكميل الثلاثمائة الشمسية التي كانت معلومة لأهل (10) الكتاب. وكانت الفترة بين عيسى ابن مريم ، آخر أنبياء بني إسرائيل ، وبين محمد [صلى الله عليه وسلم] (11) خاتم النبيين من بني آدم على الإطلاق ، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن (12) أولى الناس بابن مريم ؛ لأنه لا نبي بيني وبينه (13) (14) هذا فيه رد على من زعم أنه بعث بعد عيسى [عليه السلام] (15) نبي ، يقال له : خالد بن سنان ، كما حكاه القضاعي وغيره.
والمقصود أن الله [تعالى] (16) بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل ، وطُمُوس من السبل ،
__________
(1) في أ : "ولدي".
(2) كذا في جميع النسخ ، ونص الطبري : "أن ولدا من ولدك أدخلهم النار" (6/106).
(3) في أ : "منادي".
(4) في ر : "فأخرجهم".
(5) في ر : "محمد".
(6) في أ : "أربعمائة سنة".
(7) تاريخ دمشق لابن عساكر (14/30 القسم المخطوط) ومختصر تاريخ دمشق لابن منظور (20/86).
(8) في أ : "ثلاثة".
(9) في أ : "ثلاثة".
(10) في ر ، أ : "عند أهل".
(11) زيادة من أ.
(12) في ر ، أ : "أنا".
(13) في ر : "لم يكن بيني وبينه نبي".
(14) صحيح البخاري برقم (3442).
(15) زيادة من أ.
(16) زيادة من أ.

(3/70)


وتَغَير الأديان ، وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان ، فكانت النعمة به أتم النعم ، والحاجة إليه أمر عَمَم ، فإن الفساد كان قد عم (1) جميع البلاد ، والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد ، إلا قليلا من المتمسكين ببقايا من دين الأنبياء الأقدمين ، من بعض أحبار اليهود وعباد النصارى والصابئين ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا هشام حدثنا قتادة ، عن مُطَّرَّف ، عن عياض بن حِمَار المُجَاشِعِيِّ ، رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم فقال في خطبته : "وإن ربي أمرني أن أعلِّمكم ما جهلتم مما عَلَّمني في يومي هذا : كل مال نَحَلْته عبادي حلال ، وإني خلقت عبادي حُنَفَاء كلَّهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فأضَلَّتْهُم (2) عن دينهم ، وحَرَّمَتْ عليهم ما أحللت لهم ، وأمرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ، ثم إن الله ، عز وجل ، نظر إلى أهل الأرض فَمَقَتَهُمْ ، عجَمَهم وعَرَبَهُم ، إلا بقايا من أهل الكتاب (3) وقال : إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك ، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء ، تقرؤه نائما ويَقْظان ، ثم إن الله أمرني أن أُحَرِّقَ قريشا ، فقلت : يا رب ، إذن يَثْلَغُوا رأسي فيدعوه خُبْزة ، فقال : استخرجهم كما استخرجوك ، واغزهم نُغْزِك ، وأنفق عليهم فَسَنُنفق عليك ، وابعث جندا نبعث خمسة أمثاله (4) وقاتل بمن أطاعك من عصاك ، وأهل الجنة ثلاثة : ذو سلطان مُقْسِطٌ مُتصدِّق موفق (5) ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم ، ورجل عَفِيف فقير (6) متصدق ، وأهل النار خمسة : الضعيف الذي لا زَبْرَ (7) له ، الذين هم فيكم تَبْعًا أو تُبعاء - شك يحيى - لا يبتغون أهلا ولا مالا والخائن الذي لا يَخْفَى له طَمَعٌ وإن دَقَّ إلا خانه ، ورجل لا يُصْبِح ولا يُمْسِي إلا وهو يخادعك عن أهلك ومالك" ، وذكر البخيل (8) أو الكذب ، "والشِّنْظير : الفاحش". (9)
ثم رواه الإمام أحمد ، ومسلم ، والنسائي من غير وجه ، عن قتادة ، عن مطرف بن عبد الله بن الشّخير. وفي رواية سعيد (10) عن قتادة التصريح بسماع قتادة هذا الحديث من مطرف. وقد ذكر الإمام أحمد في مسنده : أن قتادة لم يسمعه من مطرف ، وإنما سمعه من أربعة ، عنه. ثم رواه هو ، عن روح ، عن عوف ، عن حكيم الأثرم ، عن الحسن قال : حدثني مطرف ، عن عياض بن حمَار ، فذكره. و [كذا] (11) رواه النسائي من حديث غُنْدَر ، عن عوف الأعرابي به. (12)
والمقصود من إيراد هذا الحديث قوله : "وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم ، عربهم وعجمهم إلا بقايا من بني إسرائيل". وفي لفظ مسلم : "من أهل الكتاب". وكان (13) الدين قد التبس على أهل
__________
(1) في ر : "عمم".
(2) في أ : "فاحتالتهم".
(3) في ر ، أ : "إلا بقايا من بني إسرائيل أهل الكتاب".
(4) في أ : "أمثالهم".
(5) في أ : "موقن".
(6) في أ : "فقير ذو عيال".
(7) في أ : "رض".
(8) في ر ، أ : "البخل".
(9) المسند (4/162).
(10) في ر ، أ : "شعبة".
(11) زيادة من ر ، أ.
(12) المسند (4/162) وصحيح مسلم برقم (2865) وسنن النسائي الكبرى برقم (8071).
(13) في ر ، أ : "فكان"

(3/71)


وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)

الأرض كلهم ، حتى بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم ، فهدى الخلائق ، وأخرجهم الله به من الظلمات إلى النور ، وتركهم على المحَجَّة البيضاء ، والشريعة الغرَّاء ؛ ولهذا قال تعالى : { أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ } أي : لئلا تحتجوا وتقولوا (1) - : يا أيها الذين بدلوا دينهم وغيروه - ما جاءنا من رسول يبشر بالخير وينذر من الشر ، فقد جاءكم بشير ونذير ، يعني محمدا صلى الله عليه وسلم { وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
قال ابن جرير : معناه : إني قادر على عقاب من عصاني ، وثواب من أطاعني.
{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) }
__________
(1) في ر ، أ : "يحتجوا ويقولوا".

(3/72)


قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)

{ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) }
يقول تعالى مخبرًا عن عبده ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام ، فيما ذكر به قومه نعَمَ الله عليهم وآلاءه لديهم ، في جمعه لهم خير الدنيا والآخرة لو استقاموا على طريقتهم المستقيمة ، فقال تعالى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ } أي : كلما هلك نبي قام فيكم نبي ، من لدن أبيكم إبراهيم وإلى من بعده. وكذلك (1) كانوا ، لا يزال فيهم الأنبياء يدعون إلى الله ويحذرون نقمته ، حتى ختموا بعيسى ، عليه السلام ، ثم أوحى الله [تعالى] (2) إلى خاتم الرسل والأنبياء على الإطلاق محمد بن عبد الله ، المنسوب إلى إسماعيل بن إبراهيم ، عليه (3) السلام ، وهو أشرف من كل من تقدمه منهم صلى الله عليه وسلم.
وقوله : { وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا } قال عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن منصور ، عن الحكم أو غيره ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا } قال : الخادم والمرأة والبيت.
وروى الحاكم في مستدركه ، من حديث الثوري أيضا ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس
__________
(1) في أ : "ولذلك".
(2) زيادة من ر.
(3) في أ : "عليهما".

(3/72)


قال : المرأة والخادم { وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } قال : الذين هم بين ظَهرانيهِم يومئذ ، ثم قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين (1) ولم يخرجاه. (2)
وقال ميمون بن مِهْران ، عن ابن عباس قال : كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له الزوجة (3) والخادم والدار (4) سمي مَلِكًا.
وقال ابن جرير : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أنبأنا ابن وَهْب ، أنبأنا أبو هانئ ؛ أنه سمع أبا عبد الرحمن الحُبُلي يقول : سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص ، وسأله رجل فقال : ألسنا (5) من فقراء المهاجرين ؟ فقال عبد الله : ألك امرأة تأوي إليها ؟ قال : نعم. قال : ألك مسكن تسكنه ؟ قال : نعم. قال : فأنت من الأغنياء. فقال : إن لي خادما. قال (6) فأنت من الملوك. (7)
وقال الحسن البصري : هل الملك إلا مركب وخادم ودار ؟
رواه ابن جرير. ثم روي عن منصور والحكم ، ومجاهد ، وسفيان الثوري نحوًا من هذا. وحكاه ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران.
وقال ابن شَوْذَب : كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له منزل وخادم ، واستؤذن عليه ، فهو ملك.
وقال قتادة : كانوا أول من ملك الخدم.
وقال السُّدِّي في قوله : { وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا } قال : يملك الرجل منكم نفسه وأهله وماله. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن ابن لَهِيعَة ، عن دَرَاج ، عن أبي الهَيْثَم ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة ، كُتِب ملكا". (8)
وهذا حديث غريب من هذا الوجه.
وقال ابن جرير : حدثنا الزبير بن بكار ، حدثنا أبو ضَمْرَة أنس بن عياض ، [قال] (9) سمعت زيد بن أسلم يقول : { وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا } فلا أعلم إلا أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من كان له بيت وخادم فهو ملك".
وهذا مرسل غريب. (10) وقال مالك : بيت وخادم وزوجة.
__________
(1) في د : "على شرطهما".
(2) الحاكم في المستدرك (2/311 ، 312).
(3) في د : "المرأة".
(4) في ر ، أ : "المرأة".
(5) في ر : "ألست" ، وفي د : "أنا من الفقراء".
(6) في أ : "فقال".
(7) تفسير الطبري (10/163).
(8) وفي إسناده ابن لهيعة ودراج ضعيفان ورواية دراج عن أبي الهيثم ضعيفة.
(9) زيادة من أ.
(10) تفسير الطبري (10/161).

(3/73)


وقد ورد (1) في الحديث : "من أصبح منكم مُعَافى (2) في جسده ، آمنا في سِربه ، عنده قُوت يومه ، فكأنما حِيزت له الدنيا بحذافيرها". (3)
وقوله : { وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } يعني عالمي زمانكم ، فكأنهم (4) كانوا أشرف (5) الناس في زمانهم ، من اليونان والقبط وسائر أصناف بني آدم ، كما قال : { وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } [ الجاثية : 16 ] وقال تعالى إخبارًا عن موسى لما قالوا : { اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ. إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } [ الأعراف : 138 - 140 ]
والمقصود : أنهم كانوا أفضل أهل زمانهم ، وإلا فهذه الأمة أشرف منهم ، وأفضل عند الله ، وأكمل شريعة ، وأقوم منهاجا ، وأكرم نبيا ، وأعظم ملكا ، وأغزر أرزاقا ، وأكثر أموالا وأولادا ، وأوسع مملكة ، وأدوم عزا ، قال الله [عز وجل] (6) { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] وقال { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } [ البقرة : 143 ] وقد ذكرنا الأحاديث المتواترة في فضل هذه الأمة وشرفها وكرمها ، عند الله ، عند قوله عز وجل : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } من (7) سورة آل عمران.
وروى ابن جرير عن ابن عباس ، وأبي مالك وسعيد بن جبير أنهم قالوا في قوله : { وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } يعني : أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وكأنهم أرادوا أن هذا الخطاب في قوله : { وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } مع هذه الأمة. والجمهور على أنه خطاب من موسى لقومه وهو محمول على عالمي زمانهم كما قدمنا.
وقيل : المراد : { وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } يعني بذلك : ما كان تعالى نزله (8) عليهم من المن والسلوى ، وتَظلَّلهم (9) من الغمام وغير ذلك ، مما كان تعالى يخصهم به من خوارق العادات ، فالله (10) أعلم.
ثم قال تعالى مخبرًا عن تحريض ، موسى ، عليه السلام ، لبني (11) إسرائيل على الجهاد والدخول إلى بيت المقدس ، الذي كان بأيديهم في زمان أبيهم يعقوب ، لما ارتحل هو وبنوه وأهله إلى بلاد مصر أيام يوسف عليه السلام ، ثم لم يزالوا بها حتى خرجوا مع موسى [عليه السلام] (12) فوجدوا فيها قوما من العمالقة الجبارين ، قد استحوذوا عليها وتملكوها ، فأمرهم رسول الله موسى ، عليه السلام ، بالدخول
__________
(1) في أ : "روي".
(2) في : "معافا".
(3) رواه الترمذي في السنن برقم (2346) ورواه ابن ماجة في السنن برقم (4141) من حديث عبد الله بن محصن الأنصاري.
(4) في أ : "فإنهم".
(5) في ر : "أشراف".
(6) زيادة من ر ، وفي أ : "تعالى".
(7) في أ : "في".
(8) في أ : "ينزله".
(9) في أ : "ويظللهم".
(10) في أ : "والله".
(11) في ر : "بني".
(12) زيادة من أ.

(3/74)


إليها ، وبقتال أعدائهم ، وبَشَّرهم بالنصرة والظفر عليهم ، فَنَكَلُوا وعَصوْا وخالفوا أمره ، فعوقبوا بالذهاب في التيه والتمادي في سيرهم حائرين ، لا يدرون كيف يتوجهون فيه إلى مقصد ، مُدّة أربعين سنة ، عقوبة لهم على تفريطهم في أمر الله [تعالى] (1) فقال تعالى مخبرا عن موسى أنه قال : { يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ } أي : المطهرة.
قال سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، عن ابن عباس في قوله : { ادْخُلُوا الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ } قال : هي الطور وما حوله. وكذا قال مجاهد وغير واحد.
وقال سفيان الثوري ، عن أبي سعيد البقال ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : هي أريحا. وكذا ذكر غير واحد من المفسرين.
وفي هذا نظر ؛ لأن أريحا ليست هي المقصود (2) بالفتح ، ولا كانت في طريقهم إلى بيت المقدس ، وقد قدموا من بلاد مصر ، حين أهلك الله عدوهم فرعون ، [اللهم] (3) إلا أن يكون المراد بأريحا أرض بيت المقدس ، كما قاله - السدي فيما رواه ابن جرير عنه - لا أن المراد بها هذه البلدة المعروفة في طرف الغَوْر شرقي بيت المقدس.
وقوله تعالى : { الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } أي : التي وعدكموها الله على لسان أبيكم إسرائيل : أنه وراثة (4) من آمن منكم. { وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ } أي : ولا تنكلوا عن الجهاد { فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ } (5) أي : اعتذروا بأن في هذه البلدة - التي أمرتنا بدخولها وقتال أهلها - قوما جبارين ، أي : ذوي خلَقٍ هائلة ، وقوى شديدة ، وإنا لا نقدر على مقاومتهم ولا مُصَاولتهم ، ولا يمكننا الدخول إليها ما داموا فيها ، فإن يخرجوا منها دخلناها (6) وإلا فلا طاقة لنا بهم.
وقد قال ابن جرير : حدثني عبد الكريم بن الهيثم ، حدثنا إبراهيم بن بَشَّار ، حدثنا سفيان قال : قال أبو سعيد (7) قال عِكْرَمَة ، عن ابن عباس قال : أمرَ موسى أن يدخل مدينة الجبارين. قال : فسار موسى بمن معه حتى نزل قريبًا من المدينة - وهي أريحا - فبعث إليهم اثني عشر عينًا ، من كل سبط منهم عين ، ليأتوه بخبر القوم. قال : فدخلوا المدينة فرأوا أمرًا عظيما من هيئتهم وجُثَثهم (8) وعِظَمِهم ، فدخلوا حائطا لبعضهم ، فجاء صاحب الحائط ليجتني الثمار من حائطه ، فجعل يجتني الثمار. وينظر (9) إلى آثارهم ، فتتبعهم (10) فكلما (11) أصاب واحدًا منهم أخذه فجعله في كمه مع الفاكهة ، حتى التقت الاثنى عشر كلهم ، فجعلهم في كمه مع الفاكهة ، وذهب (12) إلى ملكهم فنثرهم بين يديه فقال لهم الملك : قد رأيتم شأننا وأمرنا ، فاذهبوا فأخبروا صاحبكم. قال : فرجعوا إلى موسى ، فأخبروه بما عاينوا من أمرهم.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ : "المقصودة".
(3) زيادة من ر ، أ.
(4) في أ : "ورثه".
(5) في ر : "وإنا لن ندخلها ما داموا فيها" وهو خطأ.
(6) في أ : "منها فإنا داخلون".
(7) في ر : "أبو سعد".
(8) في د ، ر ، أ : "وجسمهم.".
(9) في ر ، أ : "فنظر".
(10) في أ : "فتبعهم".
(11) في ر : "فلما".
(12) في ر : "فذهب" ، وفي أ : "ثم ذهب".

(3/75)


وفي هذا الإسناد نظر. (1)
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : لما نزل موسى وقومه ، بعث منهم اثني عشر رجلا (2) - وهم النقباء الذين ذكر (3) الله ، فبعثهم ليأتوه بخبرهم ، فساروا ، فلقيهم رجل من الجبارين ، فجعلهم في كسائه ، فحملهم حتى أتى بهم المدينة ، ونادى في قومه فاجتمعوا إليه ، فقالوا : من أنتم ؟ قالوا : نحن قوم موسى ، بعثنا نأتيه (4) بخبركم. فأعطوهم حبة من عنب تكفي الرجل ، فقالوا لهم : اذهبوا إلى موسى وقومه فقولوا لهم : اقدروا قَدْر فاكهتهم (5) فلما أتوهم قالوا : يا موسى ، { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُون }
رواه ابن أبي حاتم ، ثم قال : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا يحيى بن أيوب عن يزيد بن الهاد ، حدثني يحيى بن عبد الرحمن قال : رأيت أنس بن مالك أخذ عصا ، فذرع (6) فيها بشيء ، لا أدري كم ذرع ، ثم قاس بها في الأرض خمسين أو خمسا (7) وخمسين ، ثم قال : هكذا طول العماليق.
وقد ذكر كثير من المفسرين هاهنا أخبارًا من وضع بني إسرائيل ، في عظمة خلق هؤلاء الجبارين ، وأنه كان فيهم عوج بن عنق ، بنت آدم ، عليه السلام ، وأنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون ذراعا وثلث ذراع ، تحرير الحساب! وهذا شيء يستحي من ذكره. ثم هو مخالف لما ثبت في الصحيح (8) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله [تعالى] (9) خلق آدم وطوله ستون ذراعًا ، ثم لم يزل الخلق ينقص (10) حتى الآن". (11)
ثم قد ذكروا أن هذا الرجل كان كافرا ، وأنه كان ولد زِنْية ، وأنه امتنع من ركوب السفينة ، وأن الطوفان لم يصل إلى ركبته (12) وهذا كذب وافتراء ، فإن الله ذكر أن نوحا دعا على أهل الأرض من الكافرين ، فقال (13) { رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا } [ نوح : 26 ] وقال تعالى : { فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ } (14) [ الشعراء : 119 - 120 ] وقال تعالى : [قَال] (15) { لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ } [ هود : 43 ] وإذا كان ابن نوح الكافر غرق ، فكيف يبقى عوج بن عنق ، وهو كافر وولد زنية ؟! هذا لا يسوغ في عقل ولا شرع. ثم في وجود رجل يقال له : "عوج بن عنق" نظر ، والله أعلم.
وقوله : { قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا } أي : فلما نكل بنو إسرائيل عن طاعة الله ومتابعة رسول الله موسى ، عليه السلام ، حرضهم رجلان لله عليهما نعمة عظيمة ، وهما ممن يخاف أمر الله ويخشى عقابه.
__________
(1) تفسير الطبري (10/173).
(2) في أ : "نقيبا".
(3) في أ : "ذكرهم".
(4) في ر : "نأتيهم".
(5) في ر : "قدروا قدر فاكهتكم".
(6) في أ : "وذرع".
(7) في أ : "خمسة".
(8) في د ، أ : "الصحيحين".
(9) زيادة من أ.
(10) في ر : "تنقص".
(11) رواه البخاري في صحيحه برقم (3326) ورواه مسلم في صحيحه برقم (2841) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.
(12) في ر ، أ : "ركبتيه".
(13) في أ : "وقال".
(14) في ر : "فأنجيناه ومن معه أجمعين" وهو خطأ.
(15) زيادة من ر.

(3/76)


وقرأ بعضهم : { قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يُخَافُونَ } أي : ممن لهم (1) مهابة وموضع من الناس. ويقال : إنهما "يوشع بن نون" و "كالب بن يوفنا" ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعطية ، والسُّدِّي ، والربيع بن أنس ، وغير واحد من السلف ، والخلف ، رحمهم الله ، فقالا { ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي : متى توكلتم على الله واتبعتم أمره ، ووافقتم رسوله ، نصركم الله على أعدائكم وأيدكم وظفركم بهم ، ودخلتم البلدة التي كتبها الله لكم. فلم ينفع ذاك فيهم شيئًا. { قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُون } وهذا نكول منهم عن الجهاد ، ومخالفة لرسولهم (2) وتخلف عن مقاتلة (3) الأعداء.
ويقال : إنهم لما نكلوا على الجهاد وعزموا على الانصراف والرجوع إلى بلادهم ، سجد موسى وهارون ، عليهما السلام ، قُدام ملأ من بني إسرائيل ، إعظاما لما هموا به ، وشَق "يوشع بن نون" و "كالب بن يوفنا" ثيابهما ولاما قومهما على ذلك ، فيقال : إنهم رجموهما. وجرى أمر عظيم وخطر جليل.
وما أحسن ما أجاب به الصحابة ، رضي الله عنهم (4) يوم بدر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استشارهم في قتال النفير ، الذين جاءوا لمنع العِير الذي كان مع أبي سفيان ، فلما فات اقتناص العير ، واقترب منهم النفير ، وهم في جمع ما بين التسعمائة إلى الألف ، في العُدة (5) والبَيْض واليَلب ، فتكلم أبو بكر ، رضي الله عنه ، فأحسن ، ثم تكلم من تكلم من الصحابة من المهاجرين ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "أشيروا عليَّ أيها المسلمون". وما يقول ذلك إلا ليستعلم ما عند الأنصار ؛ لأنهم كانوا جمهور الناس يومئذ. فقال سعد بن معاذ [رضي الله عنه] (6) كأنك تُعرض بنا يا رسول الله ، فوالذي (7) بعثك بالحق لو اسْتَعرضْتَ بنا هذا البحر فخُضْتَه لخُضناه معك ، وما تخلَّف منا رجل واحد ، وما نَكْرَه أن تلقى بنا عدونا غدا ، إنا لصُبُر في الحرب ، صدق في اللقاء ، لعل الله يريك منا ما تَقَرُّ (8) به عينك ، فَسِرْ بنا على بركة الله فَسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ، ونَشَّطه (9) ذلك. (10)
وقال أبو بكر بن مَرْدُويَه : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا أبو حاتم الرازي ، حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري ، حدثنا حميد عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سار إلى بدر استشار المسلمين ، فأشار إليه عمر ، ثم استشارهم فقالت الأنصار : يا معشر الأنصار إياكم يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالوا : إذًا لا نقول له كما قالت (11) بنو إسرائيل لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } والذي بعثك بالحق لو ضَرَبْت أكبادها إلى بَرْك الغمَاد لاتبعناك.
ورواه الإمام أحمد ، عن عبيدة (12) بن حميد ، الطويل ، عن أنس ، به. ورواه النسائي ، عن محمد بن المثنى ، عن خالد بن الحارث ، عن حميد به ، ورواه ابن حبان عن أبي يعلى ،
__________
(1) في ر : "لهما".
(2) في ر : "لرسوله".
(3) في أ : "مقابلة".
(4) في أ : "رضوان الله عليهم أجمعين".
(5) في أ : " العدد".
(6) زيادة من أ.
(7) في ر : "والذي".
(8) في أ : "ما يقر".
(9) في ر ، أ : "وبسطه".
(10) انظر : السيرة النبوية لابن هشام (1/615).
(11) في أ : "كما قال".
(12) في أ : "عبدة".

(3/77)


عن عبد الأعلى بن حماد ، عن مَعْمَر (1) بن سليمان ، عن حميد ، به. (2)
وقال ابن مَرْدُويه : أخبرنا عبد الله بن جعفر ، أخبرنا إسماعيل بن عبد الله ، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن شعيب ، عن الحسن (3) بن أيوب ، عن عبد الله بن ناسخ ، عن عتبة بن عبد السلمي قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : "ألا تقاتلون ؟" قالوا : نعم ، ولا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما (4) مقاتلون. (5)
وكان ممن أجاب (6) يومئذ المقداد بن عمرو الكندي ، رضي الله عنه ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا وكيع ، حدثنا سفيان ، عن مخارق بن عبد الله الأحْمَسِي ، عن طارق - هو ابن شهاب - : أن المقداد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر : يا رسول الله ، إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما (7) مقاتلون.
هكذا رواه أحمد من هذا الوجه ، وقد رواه من طريق أخرى فقال :
حدثنا أسود بن عامر ، حدثنا إسرائيل ، عن مخارق ، عن طارق بن شهاب قال : قال عبد الله - هو ابن مسعود - رضي الله عنه : لقد شهدت من المقداد مشهدًا لأن أكون أنا صاحبه أحب إليَّ مما عدل به : أتى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (8) وهو يدعو على المشركين ، فقال : والله يا رسول الله لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ولكنا نقاتل عن يمينك وعن يسارك ، ومن بين يديك ومن خلفك. فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرق لذلك ، وسره (9) بذلك. (10)
وهكذا رواه البخاري "في المغازي" وفي "التفسير" من طرق عن مخارق ، به. ولفظه في "كتاب التفسير" عن عبد الله قال : قال المقداد يوم بدر : يا رسول الله ، إنا لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ولكن (11) [نقول] (12) امض ونحن معك فكأنه سرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال البخاري : ورواه وَكِيع ، عن سفيان ، عن مخارق ، عن طارق ؛ أن المقداد قال للنبي صلى الله عليه وسلم. (13)
وقال ابن جرير : حدثنا بشر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم الحُدَيبية ، حين صَدّ المشركون الهَدْي وحِيلَ بينهم وبين مناسكهم : "إني ذاهب
__________
(1) في أ : "معتمر".
(2) المسند (3/105) وسنن النسائي الكبرى برقم (11141) ومسند أبي يعلى الموصلي (6/407).
(3) في أ : "الحكم" ، والمثبت من الجرح.
(4) في أ : "معكم".
(5) ورواه أحمد في مسنده (4/183) من طريق الحسن بن أيوب به.
(6) في ر : "أجاد".
(7) في ر ، أ : "معكم".
(8) زيادة من أ.
(9) في ر ، أ : "وسر".
(10) المسند (1/389).
(11) في أ : "ولكنا".
(12) زيادة من أ.
(13) صحيح البخاري برقم (3952 ، 4609).

(3/78)


بالهَدْي فناحِرُه عند البيت". فقال له المقداد بن الأسود : أما (1) والله لا نكون كالملأ من بني إسرائيل إذ قالوا لنبيهم : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون. فلما سمعها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تتابعوا (2) على ذلك. (3)
وهذا. إن كان محفوظا يوم الحديبية ، فيحتمل أنه كرر هذه المقالة يومئذ كما قاله يوم بَدْر.
وقوله : { قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } يعني : لما نكل بنو إسرائيل عن القتال غضب عليهم موسى عليه السلام ، وقال داعيا عليهم : { رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي } أي : ليس أحد يطيعني منهم فيمتثل أمر الله ، ويجيب إلى ما دعوتَ إليه إلا أنا وأخي هارون ، { فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } قال العَوْفِي ، عن ابن عباس : يعني اقض بيني وبينهم. وكذا قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس.
وكذا قال الضحاك : اقض بيننا وبينهم ، وافتح بيننا وبينهم ، وقال غيره : افرق : افصل بيننا وبينهم ، كما قال الشاعر (4)
يَا رب فافرق بَيْنَه وبَيْني... أشدّ ما فَرقْت بَيْن اثنين...
وقوله تعالى : { [قَالَ] (5) فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ [فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ] (6) } لما دعا عليهم موسى ، عليه السلام ، حين نكَلُوا عن الجهاد حكم الله عليهم بتحريم دخولها قدرًا مدة أربعين سنة ، فوقعوا في التيه يسيرون دائمًا لا يهتدون للخروج منه ، وفيه كانت أمور عجيبة ، وخوارق كثيرة ، من تظليلهم بالغَمام وإنزال المن والسلوى عليهم ، ومن إخراج الماء الجاري من صخرة صماء تحمل (7) معهم على دابة ، فإذا ضربها موسى بعصاه انفجرت من ذلك الحجر اثنتا عشرة (8) عينا تجري لكل شعب عين ، وغير ذلك من المعجزات التي أيد الله بها موسى بن عمران. وهناك أنزلت التوراة ، وشرعت لهم الأحكام ، وعملت قبة العهد ، ويقال لها : قبة الزمان.
قال يزيد بن هارون ، عن أصبغ بن زيد (9) عن القاسم بن أبي أيوب ، عن سعيد بن جبير : سألت ابن عباس عن قوله : { فَإِنَّهَا (10) مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ } الآية. قال : فتاهوا في الأرض أربعين سنة ، يصبحون كل يوم يسيرون ليس لهم قرار ، ثم ظلل عليهم الغمام في التيه ، وأنزل عليهم المن والسلوى وهذا قطعة من حديث "الفتون" ، ثم كانت وفاة هارون ، عليه السلام ، ثم بعده بمدة ثلاثة سنين مات موسى الكليم ، عليه السلام ، وأقام الله فيهم "يوشع بن نون" عليه السلام ، نبيا خليفة عن موسى بن عمران ، ومات أكثر بني إسرائيل هناك في تلك المدة ، ويقال : إنه لم يبق منهم أحد سوى "يوشع" و "كالب" ، ومن هاهنا قال بعض المفسرين في قوله : { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } هذا وقف تام ، وقوله : { أَرْبَعِينَ سَنَةً } منصوب بقوله : { يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ } فلما انقضت
__________
(1) في ر ، أ : "إنا".
(2) في ر ، أ : "تبايعوا".
(3) تفسير الطبري (10/186).
(4) يقول الأستاذ محمود شاكر حفظه الله : "لعله حبينة بن طريف العكلي". انظر : حاشية تفسير الطبري (10/188).
(5) زيادة من أ.
(6) زيادة من ر ، وفي هـ : "الآية".
(7) في ر : "تحتمل".
(8) في ر ، أ : "اثنا عشر".
(9) في ر ، أ : "يزيد".
(10) في ر ، هـ : "إنها" ، والصواب ما أثبتناه.

(3/79)


المدة خرج بهم "يوشع بن نون" عليه السلام ، أو بمن بقي منهم وبسائر بني إسرائيل من الجيل الثاني ، فقصد (1) بهم بيت المقدس فحاصرها ، فكان فتحها يوم الجمعة بعد العصر ، فلما تَضَيَّفَتِ الشمس للغروب ، وخَشي دخول السبت عليهم قال (2) "إنك مأمورة وأنا مأمور ، اللهم احبسها عليَّ" ، فحبسها الله تعالى حتى فتحها ، وأمر الله "يوشع بن نون" أن يأمر بني إسرائيل ، حين يدخلون بيت المقدس ، أن يدخلوا بابها سُجّدا ، وهم يقولون : حطّة ، أي : حط عنا ذنوبنا ، فبدلوا ما أمروا به ، فدخلوا (3) يزحفون على أستاههم ، وهم يقولون : حَبَّة في شَعْرة ، وقد تقدم هذا كله في سورة البقرة.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن أبي عمر العَدَنِيُّ ، حدثنا سفيان ، عن أبي سعيد ، عن عِكْرِمَة ، عن ابن عباس قوله : { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ } قال : فتاهوا أربعين سنة ، فهلك موسى وهارون في التيه وكل من جاوز الأربعين سنة ، فلما مضت الأربعون سنة ناهضهم "يوشع بن نون" ، وهو الذي قام بالأمر بعد موسى ، وهو الذي افتتحها ، وهو الذي قيل له : "اليوم يوم الجمعة" فهَمُّوا بافتتاحها ، ودنت (4) الشمس للغروب ، فخشي إن دخلت ليلة السبت أن يسبتوا ، فنادى الشمس : "إني مأمور وإنك مأمورة" فوقفت حتى افتتحها ، فوجد فيها من الأموال ما لم ير مثله قط ، فقربوه إلى النار فلم تأت فقال : فيكم الغلول ، فدعا رءوس الأسباط ، وهم اثنا عشر رجلا فبايعهم ، والتصقت يد رجل منهم بيده ، فقال : الغلول عندك ، فأخرجه فأخرج رأس بقرة من ذهب ، لها عينان من ياقوت ، وأسنان من لؤلؤ ، فوضعه مع القربان ، فأتت النار فأكلتها.
وهذا السياق له شاهد في الصحيح. وقد اختار ابن جرير أن قوله : { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } هو العامل في "أربعين سنة" ، وأنهم مَكَثوا لا يدخلونها أربعين سنة ، وهم تائهون في البرية لا يهتدون لمقصد. قال : ثم خرجوا مع موسى ، عليه السلام ، ففتح بهم بيت المقدس. ثم احتج على ذلك قال : بإجماع علماء أخبار الأولين أن (5) عوج بن عنق" قتله موسى ، عليه السلام ، قال : فلو كان قتله إياه قبل التيه لما رهبت بنو إسرائيل من العماليق ، فدل على أنه كان بعد التيه. قال : وأجمعوا على أن "بلعام بن باعورا" أعان الجبارين بالدعاء على موسى ، قال : وما ذاك إلا بعد التيه ؛ لأنهم كانوا قبل التيه لا يخافون من موسى وقومه هذا استدلاله ، ثم قال :
حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا ابن عطية ، حدثنا قَيْس ، عن أبي إسحاق ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كانت عصا موسى عشرة أذرع ، ووثبته عشرة أذرع ، وطوله عشرة أذرع ، فوثب فأصاب كعب "عوج" فقتله ، فكان جسرًا لأهل النيل سنة. (6)
وروي أيضا عن محمد بن بَشّار ، حدثنا مُؤَمَّل ، حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن نَوْف البِكالي قال : كان سرير "عوج" ثمانمائة (7) ذراع ، وكان طول موسى عشرة أذرع ، وعصاه عشرة أذرع ،
__________
(1) في أ : "يقصد".
(2) في أ : "فقال".
(3) في أ : "ودخلوا".
(4) في أ : "وقربت".
(5) في ر : "وأن".
(6) في أ : "سنين".
(7) في ر ، أ : "ثلثمائة".

(3/80)


وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)

ووثب في السماء عشرة أذرع ، فضرب "عوجا" فأصاب كعبه ، فسقط ميتا ، وكان جسْرًا للناس يمرون عليه. (1)
وقوله تعالى : { فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ } تسلية لموسى ، عليه السلام ، عنهم ، أي : لا تتأسف ولا تحزن عليهم فمهما (2) حكمت عليهم ، به فإنهم يستحقون ذلك.
وهذه القصة تضمنت تقريع اليهود وبيان فضائحهم ، ومخالفتهم لله ولرسوله ونكولهم عن طاعتهما ، فيما (3) أمرهم (4) به من الجهاد ، فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجالدتهم ، ومقاتلتهم ، مع أن بين أظهرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكليمه وصفيه من خلقه في ذلك الزمان ، وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم ، هذا وقد شاهدوا ما أحل الله بعدوهم فرعون من العذاب والنكال والغرق له ولجنوده في اليم ، وهم ينظرون لتَقَرَّ به أعينهم وما بالعهد من قدم ، ثم ينكلون عن مقاتلة (5) أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازي عشر المعشار في عدّة أهلها وعُدَدهم ، فظهرت (6) قبائح صنيعهم للخاص والعام ، وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل ، ولا يسترها الذيل ، هذا وهم في (7) جهلهم يعمهون ، وفي غَيِّهم يترددون ، وهم البُغَضَاء إلى الله وأعداؤه ، ويقولون مع ذلك : { نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] فقبح الله وجوههم التي مسخ منها الخنازير والقرود ، وألزمهم لعنة تصحبهم إلى النار ذات الوقود ، ويقضي لهم فيها بتأبيد الخلود ، وقد فعل وله الحمد من (8) جميع الوجود.
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) }
يقول تعالى مبينا وخيم عاقبة البغي والحسد والظلم في خبر ابني (9) آدم لصلبه - في قول الجمهور - وهما هابيل وقابيل كيف عدا أحدهما على الآخر ، فقتله بغيا عليه وحسدا له ، فيما وهبه الله من النعمة وتَقَبّل القربان الذي أخلص فيه لله عز وجل ، ففاز المقتول بوضع الآثام والدخول إلى
__________
(1) حديث عوج بن عنق حديث طويل باطل ، ولا يصح ما ذكر عن أوصافه ، وقد تكلم عليه الإمام ابن القيم - رحمه الله - في المنار المنيف (ص76) بما يكفي.
(2) في أ : "فيما".
(3) في ر : "في الذي".
(4) في أ : "أمرهما".
(5) في أ : "معاملة".
(6) في ر : "وظهرت".
(7) في أ : "من".
(8) في أ : "في".
(9) في ر : "بني".

(3/81)


الجنة ، وخاب القاتل ورجع بالصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة ، فقال تعالى : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ } أي : واقصص على هؤلاء البغاة الحسدة ، إخوان الخنازير والقردة من اليهود وأمثالهم وأشباههم - خبر ابني (1) آدم ، وهما هابيل وقابيل فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف.
وقوله : { بِالْحَقِّ } أي : على الجلية والأمر الذي لا لبس فيه ولا كذب ، ولا وَهْم ولا تبديل ، ولا زيادة ولا نقصان ، كما قال تعالى : { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقّ } [آل عمران : 62] وقال تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ } [ الكهف : 13] وقال تعالى : { ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ] (2) } [مريم : 34]
وكان من خبرهما فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف ، أن الله تعالى قد شرع لآدم ، عليه السلام ، أن يزوج بناته من بنيه لضرورة الحال ، ولكن قالوا : كان يُولَد له في كل بطن ذكر وأنثى ، فكان يزوج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر ، وكانت أخت هابيل دَميمةً ، وأخت قابيل وضيئةً ، فأراد أن يستأثر بها على أخيه ، فأبى آدم ذلك إلا أن يقربا قربانًا ، فمن تقبل منه فهي له ، فقربا فَتُقُبِّل من هابيل ولم يتَقَبَّل من قابيل ، فكان من أمرهما ما قص الله في كتابه.
ذكر أقوال المفسرين هاهنا :
قال السُّدي - فيما ذكر - عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مُرَّة ، عن ابن مسعود - وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أنه كان لا يولد لآدم مولود إلا ولد معه جارية ، فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر ، ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر ، حتى ولد له ابنان يقال لهما : قابيل وهابيل (3) وكان قابيل صاحب زرع ، وكان هابيل صاحب ضَرع ، وكان قابيل أكبرهما ، وكان له أخت أحسن من أخت هابيل ، وإن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل ، فأبى عليه وقال : هي أختي ، ولدت معي ، وهي أحسن من أختك ، وأنا أحق أن أتزوج بها. فأمره أبوه أن يزوجها هابيل ، فأبى ، وأنهما قربا قربانا إلى الله عز وجل أيهما أحق بالجارية ، وكان آدم ، عليه السلام ، قد غاب عنهما ، أتى (4) مكة ينظر إليها ، قال الله عز وجل : هل تعلم أن لي بيتا في الأرض ؟ قال : اللهم لا قال : إن لي بيتا في مكة (5) فأته. فقال آدم للسماء : احفظي ولدي بالأمانة ، فأبت. وقال للأرض ، فأبت. وقال للجبال ، فأبت. فقال (6) لقابيل ، فقال : نعم ، تذهب وترجع وتجد أهلك كما يسرك فلما انطلق آدم قَربا قربانا ، وكان قابيل يفخر عليه ، فقال : أنا أحق بها منك ، هي أختي ، وأنا أكبر منك ، وأنا وصي والدي. فلما قَربا ، قرب هابيل جَذعَة سمنة ، وقرب قابيل حَزْمَة سنبل ، فوجد فيها سنبلة عظيمة ، ففركها فأكلها. فنزلت النار فأكلت قربان هابيل ، وتركت قربان قابيل ، فغضب وقال : لأقتلنك حتى لا تنكح أختي. فقال هابيل : إنما يتقبل الله من المتقين. رواه ابن جرير. (7)
__________
(1) في ر : "بني".
(2) زيادة من ر ، أ.
(3) في ر : "هابيل وقابيل".
(4) في أ : "إلى".
(5) في ر ، أ : "بمكة".
(6) في أ : "وقال".
(7) تفسير الطبري (10/206) وسيأتي كلام الحافظ ابن كثير في رد هذا الأثر.

(3/82)


وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، أخبرني ابن خُثَيْم قال : أقبلت مع سعيد بن جبير فحدثني عن ابن عباس قال : نهي أن تنكح المرأة أخاها تَوْأمها ، وأمر أن ينكحها غيره من إخوتها ، وكان يولد له في كل بطن رجل (1) وامرأة ، فبينما هم كذلك ولد له امرأة وضيئة ، وولد له أخرى قبيحة دميمة ، فقال أخو الدميمة : أنكحني أختك وأنكحك أختي. قال : لا أنا أحق بأختي فقربا قربانا ، فتقبل من صاحب الكبش ، ولم يتقبل من صاحب الزرع ، فقتله. إسناد جيد.
وحدثنا أبي ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قوله { إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا } فقربا قربانهما ، فجاء صاحب الغنم بكبش أعْين أقرن أبيض ، وصاحب الحرث بصَبرة من طعام ، فقبل (2) الله الكبش فخزنه في الجنة أربعين خريفا ، وهو الكبش الذي ذبحه إبراهيم صلى الله عليه وسلم (3) إسناد جيد.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بَشَّار ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا عَوْف ، عن أبي المغيرة ، عن عبد الله بن عمرو (4) قال : إن ابني آدم اللذين قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر ، كان أحدهما صاحب حرث والآخر صاحب غنم ، وإنهما (5) أمرا أن يقربا قربانا ، وإن صاحب الغنم قرب أكرم غنمه وأسمنَها وأحسنها ، طيبة بها نفسه ، وإن صاحب الحرث قرب أشَرَّ حرثه الكودن والزُّوان غير طيبة بها نفسه ، وإن الله ، عز وجل ، تقبل قربان صاحب الغنم ، ولم يتقبل قربان صاحب الحرث ، وكان من قصتهما ما قص الله في كتابه ، قال : وأيم الله ، إن كان المقتول لأشد الرجلين ، ولكن منعه التحرج أن يبسط [يده] (6) إلى أخيه.
وقال إسماعيل بن رافع المدني القاص : بلغني أن ابني آدم لما أمرا بالقربان ، كان أحدهما صاحب غَنَم ، وكان أنْتج له حَمَل في غنمه ، فأحبه حتى كان يؤثره بالليل ، وكان يحمله على ظهره من حبه ، حتى لم يكن له مال أحب إليه منه. فلما أمر بالقربان قربه لله ، عز وجل ، فقبله (7) الله منه ، فما زال يرتع في الجنة حتى فَدى به ابن إبراهيم ، عليه السلام. رواه ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا الأنصاري ، حدثنا القاسم بن عبد الرحمن ، حدثنا محمد بن علي بن الحسين قال : قال آدم ، عليه السلام ، لهابيل وقابيل : إن ربي عهد إلي أنه كائن من ذريتي من يُقَرِّب القربان ، فقربا قربانا حتى تَقَر عيني إذا تُقُبّل قربانكما ، فقربا. وكان هابيل صاحب غنم فقرب أكُولة غنمه ، خَيْر ماله ، وكان قابيل صاحب زرع ، فقرب مشاقة (8) من زرعه ، فانطلق آدم معهما ، ومعهما قربانهما ، فصعدا الجبل فوضعا قربانهما ، ثم جلسوا ثلاثتهم : آدم وهما ، ينظران إلى القربان ، فبعث الله نارًا حتى إذا كانت فوقهما دنا منها عنق ، فاحتمل قربان هابيل وترك قربان قابيل ، فانصرفوا. وعلم آدم أن قابيل مسخوط عليه ، فقال : ويلك يا قابيل رد عليك قربانك. فقال قابيل : أحببتَه فصليتَ على قربانه ودعوت له فتُقُبل قربانه ، ورد عليَّ قرباني. وقال قابيل لهابيل : لأقتلنك
__________
(1) في ر : "طريق ذكر وامرأة".
(2) في أ : "فتقبل".
(3) في أ : "عليه السلام."
(4) في أ : "عمر".
(5) في ر : "وإنما".
(6) زيادة من د.
(7) في : أ : "فتقبله".
(8) في أ : "مشاقد".

(3/83)


فأستريح منك ، دعا لك أبوك فصلى على قربانك ، فتقبل منك. وكان (1) يتواعده بالقتل ، إلى أن احتبس هابيل ذات عشية في غنمه ، فقال آدم : يا قابيل ، أين أخوك ؟ [قال] (2) قال : وبَعثتني له راعيا ؟ لا أدري. فقال [له] (3) آدم : ويلك يا قابيل. انطلق فاطلب أخاك. فقال قابيل في نفسه : الليلة أقتله. وأخذ معه حديدة فاستقبله وهو منقلب ، فقال : يا هابيل ، تقبل قربانك ورد علي قرباني ، لأقتلنك. فقال هابيل : قربتُ أطيب مالي ، وقربتَ أنت أخبث مالك ، وإن الله لا يقبل (4) إلا الطيب ، إنما يتقبل الله من المتقين ، فلما قالها غضب قابيل فرفع الحديدة وضربه (5) بها ، فقال : ويلك يا قابيل أين أنت من الله ؟ كيف يجزيك بعملك ؟ فقتله فطرحه في جَوْبة (6) من الأرض ، وحثى عليه شيئًا من التراب. (7)
وقال محمد بن إسحاق ، عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول : إن آدم أمر ابنه قينًا (8) أن ينكح أخته تَوأمة هابيل ، وأمر هابيل أن ينكح أخته توأمة قين ، فسلم لذلك هابيل ورضي ، وأبى ذلك قين وكره ، تكرما عن أخت هابيل ، ورغب بأخته عن هابيل ، وقال : نحن ولادة الجنة ، وهما من ولادة (9) الأرض ، وأنا أحق بأختي - ويقول بعض أهل العلم بالكتاب الأول : كانت أخت قين من أحسن الناس ، فَضَنّ بها عن أخيه وأرادها لنفسه ، فالله (10) أعلم أي ذلك كان - فقال له أبوه : يا بني ، إنها لا تحل لك ، فأبى قابيل (11) أن يقبل ذلك من قول أبيه. فقال له أبوه : يا بني ، قرب (12) قربانا ، ويقرب أخوك هابيل قربانا ، فأيكما تُقُبِّل (13) قربانه فهو أحق بها ، وكان قين على بَذْر الأرض ، وكان هابيل على رعاية الماشية ، فقرب قين قمحا ، وقرب هابيل أبكارا من أبكار غنمه - وبعضهم يقول : قرب بقرة - فأرسل الله نارا بيضاء ، فأكلت قربان هابيل ، وتركت قربان قين ، وبذلك كان يُقْبَل (14) القربان إذا (15) قبله. رواه ابن جرير.
وقال العَوْفِيُّ ، عن ابن عباس قال : كان من شأنهما أنه لم يكن مسكين يُتَصَدّق عليه ، وإنما كان القربان يقربه الرجل. فبينا (16) ابنا آدم قاعدان إذ قالا لو قربنا قربانا وكان الرجل إذا قرب قربانا فرضيه (17) الله ، أرسل إليه نارا فتأكله (18) وإن لم يكن رضيه الله خَبَت النار ، فقربا قربانا ، وكان أحدهما راعيا ، وكان الآخر حَرّاثا ، وإن صاحب الغنم قرب خير غنمه وأسمنها ، وقرب الآخر بعض زرعه ، فجاءت النار فنزلت بينهما ، فأكلت الشاة وتركت الزرع ، وإن ابن آدم قال لأخيه : أتمشي في الناس وقد علموا أنك قَرّبت قربانا فَتُقُبِّل منك وَرُدّ عليَّ ؟ فلا والله لا ينظر الناس إليك وإليَّ وأنت
__________
(1) في أ : "فكان".
(2) زيادة من ر.
(3) زيادة من أ.
(4) في أ : "لا يتقبل".
(5) في أ : "فضربه".
(6) في أ : "حفرة".
(7) قال الشيخ أحمد شاكر في "عمدة التفسير" (4/124) : "هذا من قصص أهل الكتاب ، ليس له أصل صحيح ، ثم قد ساق الحافظ المؤلف هنا آثارا كثيرة في هذا المعنى ، مما امتلأت به كتب المفسرين ، وقد أعرضنا عن ذلك ، وأبقينا شيئا منها هو أجودها إسنادا ، على سبيل المثال لا على سبيل الرواية الصحيحة المنقولة" ثم ذكر الرواية عن ابن عباس كما ستأتي.
(8) في أ : "قابيل".
(9) في ر : "ولاد".
(10) في ر ، أ : "والله".
(11) في ر ، أ : "قين".
(12) في أ : "فقرب".
(13) في أ : "فأيكما قبل الله".
(14) في أ : "تقبل".
(15) في ر : "وإذا".
(16) في ر : "فبينما".
(17) في أ : "ورضيه".
(18) في أ : "فأكلته".

(3/84)


خير مني. فقال : لأقتلنك. فقال له أخوه : ما ذنبي ؟ إنما يتقبل الله من المتقين. رواه ابن جرير.
فهذا الأثر يقتضي أن تقريب القربان كان لا عن سبب ولا عن تدارئ في امرأة ، كما تقدم عن جماعة مَنْ تقدم ذكرهم ، وهو ظاهر القرآن : { إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } فالسياق يقتضي إنه إنما غضب عليه وحسده لقبول قربانه دونه.
ثم المشهور عند الجمهور أن الذي قرب الشاة هو هابيل ، وأن الذي قرب الطعام هو قابيل ، وأنه تُقُبل من هابيل شاته ، حتى قال ابن عباس وغيره : إنه الكبش الذي فدي به الذبيح ، وهو مناسب ، والله أعلم ، ولم يتقبل من قابيل. كذلك نص عليه غير واحد من السلف والخلف ، وهو المشهور عن مجاهد أيضًا ، ولكن روى ابن جرير ، عنه أنه قال : الذي قرب الزرع قابيل ، وهو المتقبل منه ، وهذا خلاف المشهور ، ولعله لم يحفظ عنه جيدا والله أعلم.
ومعنى (1) قوله : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ } أي : ممن اتقى الله في فعله ذلك.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا إبراهيم بن العلاء بن زبريق ، حدثنا إسماعيل بن عَيَّاش ، حدثني صَفْوان بن (2) عمرو ، عن تَمِيم ، يعني ابن مالك المقري ، قال : سمعت أبا الدرداء يقول : لأن أستيقن أن الله قد تقبل مني صلاة واحدة أحب إليّ من الدنيا وما فيها ، إن الله يقول : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ }
وحدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن عمران ، حدثنا إسحاق بن سليمان - يعني الرازي - عن المغيرة بن مسلم ، عن ميمون بن أبي حمزة قال : كنت جالسًا عند أبي وائل ، فدخل علينا رجل - يقال له : أبو عفيف ، من أصحاب معاذ - فقال له شقيق بن سلمة : يا أبا عفيف ، ألا تحدثنا عن معاذ بن جبل ؟ قال : بلى ، سمعته يقول : يحبس الناس في بقيع واحد ، فينادي مناد : أين المتقون ؟ فيقومون في كَنَف من الرحمن ، لا يحتجب الله منهم (3) ولا يستتر. قلت : من المتقون ؟ قال : قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان ، وأخلصوا العبادة ، فيمرون إلى الجنة.
وقوله : { لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } يقول له أخوه الرجل الصالح ، الذي تقبل الله قربانه لتقواه حين تواعده أخوه بالقتل على غير ما ذنب منه إليه : { لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ } أي : (4) لا أقابلك على صنيعك الفاسد بمثله ، فأكون أنا وأنت سواء في الخطيئة ، { إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } أي : من أن أصنع كما تريد أن تصنع ، بل أصبر وأحتسب.
قال عبد الله بن عمرو : وأيم الله ، إن كان لأشد الرجلين ولكن منعه التحرج ، يعني الورع.
__________
(1) في ر : "ومنه".
(2) في أ : "أبوا".
(3) في أ : "عنهم".
(4) في أ : "إني".

(3/85)


ولهذا ثبت في الصحيحين ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما ، فالقاتل والمقتول في النار". قالوا : يا رسول الله ، هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال : "إنه كان حريصا على قتل صاحبه". (1)
وقال الإمام أحمد : حدثنا قُتَيْبَةُ بن سعيد ، حدثنا لَيْثُ بن سعد ، عن عَيَّاش (2) بن عباس ، عن بكير بن عبد الله ، عن بُسْر بن سعيد (3) ؛ أن سعد بن أبي وقاص قال عند فتنة عثمان : أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إنها ستكون فتنة ، القاعد فيها خير من القائم ، والقائم خير من الماشي ، والماشي خير من الساعي". قال : أفرأيت إن دخل عليّ بيتي فبسط يده إليَّ ليقتلني قال : "كن كابن آدم".
وكذا رواه الترمذي عن قُتَيْبَة بن سعيد (4) وقال : هذا الحديث حسن ، وفي الباب عن أبي هريرة ، وخَباب بن الأرت ، وأبي بَكْرَة (5) وابن مسعود ، وأبي واقد ، وأبي موسى ، وخَرَشَة. ورواه بعضهم عن الليث بن سعد ، وزاد في الإسناد رجلا.
قال الحافظ ابن عساكر : الرجل هو حسين الأشجعي.
قلت : وقد رواه أبو داود من طريقه فقال : حدثنا يزيد بن خالد الرملي ، حدثنا المفضل ، عن عياش بن عباس (6) عن بُكَيْر ، عن بُسْر بن سعيد (7) عن حسين (8) بن عبد الرحمن الأشجعي ؛ أنه سمع سعد بن أبي وقاص ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث قال : فقلت : يا رسول الله ، أرأيت إن دخل عليّ بيتي وبسط يده ليقتلني ؟ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كن كابن آدم" وتلا يزيد : { لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } (9)
قال أيوب السَّخْتَياني : إن أول من أخذ بهذه الآية من هذه الأمة : { لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } لَعُثْمان بن عفان رضي الله عنه. رواه ابن أبي حاتم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا مَرْحوم ، حدثني أبو عمران الجَوْني ، عن عبد الله بن الصامت ، عن أبي ذر قال : ركب النبي صلى الله عليه وسلم حمارا وأردفني خلفه ، وقال : "يا أبا ذر ، أرأيت إن أصاب الناس جوعٌ شديد لا تستطيع أن تقوم من فراشك إلى مسجدك ، كيف تصنع ؟". قال : قال الله ورسوله أعلم. قال : "تعفف" قال : "يا أبا ذر ، أرأيت إن أصاب الناس موتٌ شديد ، ويكون البيت فيه بالعبد ، يعني القبر ، كيف تصنع ؟" قلت : الله ورسوله أعلم. قال : "اصبر". قال : "يا أبا ذر ، أرأيت إن قتل الناس بعضهم بعضا ، يعني حتى تغرق حجارة الزيت من الدماء ، كيف تصنع ؟". قال : الله ورسوله أعلم. قال : "اقعد في بيتك وأغلق عليك بابك". قال : فإن لم أتْرَك ؟ قال : "فأت من أنت منهم ، فكن
__________
(1) صحيح البخاري برقم (31) وصحيح مسلم برقم (2888) من حديث أبي بكرة ، رضي الله عنه.
(2) في أ : "عباس".
(3) في ر : "بشر بن سعد" ، وفي أ : "بشر بن سعيد".
(4) المسند (1/185) وسنن الترمذي برقم (3194).
(5) في أ : "وأبي بكر".
(6) في أ : "المفضل بن عباس عن ابن عباس".
(7) في ر : "بشر بن سعيد".
(8) في ر : "سعيد".
(9) سنن أبي داود برقم (4257).

(3/86)


فيهم (1) قال : فآخذ سلاحي ؟ قال : "إذًا تشاركهم فيما هم فيه ، ولكن إن خشيت أن يروعك (2) شعاع السيف ، فألق طرف ردائك على وجهك حتى (3) يبوء بإثمه وإثمك". (4)
رواه مسلم وأهل السنن سوى النسائي ، من طرق عن أبي عمران الجوني ، عن عبد الله بن الصامت به (5) ورواه أبو داود وابن ماجه ، من طريق حماد بن زيد ، عن أبي عمران ، عن المُشَعَّث (6) بن طريف ، عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر (7) بنحوه. (8)
قال أبو داود : ولم يذكر المشعث (9) في هذا الحديث غير حماد بن زيد.
وقال ابن مَرْدُويَه : حدثنا محمد بن علي بن دُحَيْم ، حدثنا أحمد بن حازم ، حدثنا قَبِيصَة بن عُقْبَة ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن رِبْعِيّ قال : كنا في جنازة حُذَيفة ، فسمعت رجلا يقول : سمعت هذا يقول في ناس : مما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لئن اقتتلتم لأنظرن إلى أقصى بيت في داري ، فلألجنَّه ، فلئن دخل (10) عَليّ فلان لأقولن : ها (11) بؤ بإثمي وإثمك ، فأكون كخير ابني آدم.
وقوله : { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، والسُّدِّي ، في قوله : { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } أي : بإثم قتلي وإثمك الذي عليك قبل ذلك.
قال ابن جرير : وقال آخرون : يعني ذلك أني أريد أن تبوء بخطيئتي ، فتتحمل وزرها ، وإثمك في قتلك إياي. وهذا قول وجدته عن مجاهد ، وأخشى أن يكون غلطًا ؛ لأن الصحيح من الرواية عنه خلافه. يعني : ما رواه سفيان الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد : { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي } قال : بقتلك إياي ، { وَإِثْمِكَ } قال : بما كان منك قبل ذلك.
وكذا روى (12) عيسى عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثْله ، وروى شِبْل عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } يقول : إني أريد أن يكون عليك خطيئتي ودمي ، فتبوء بهما جميعًا.
قلت : وقد يتوهم (13) كثير من الناس هذا القول ، ويذكرون في ذلك حديثا لا أصل له : ما ترك القاتل على المقتول من ذنب.
وقد روى الحافظ أبو بكر البزار حديثًا يشبه هذا ، ولكن ليس به ، فقال : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا عامر بن إبراهيم الأصبهاني ، حدثنَا يعقوب بن عبد الله ، حدثنا عتبة (14) بن سعيد ، عن هشام
__________
(1) في ر : "منهم".
(2) في ر ، أ : "يردعك".
(3) في ر ، أ : "كي".
(4) المسند (5/149).
(5) صحيح مسلم برقم (648) وسنن أبي داود برقم (431) وسنن الترمذي برقم (176) وسنن ابن ماجة برقم (1256).
(6) في ر : "الشعث" ، وفي أ : "المشعب".
(7) في أ : "عن أبي إسحاق".
(8) سنن أبي داود برقم (4261) وسنن ابن ماجة برقم (3958).
(9) في ر : "الشعث" ، وفي أ : "المشعب".
(10) في ر : "فإن على".
(11) في أ : "لأقرأها".
(12) في أ : "رواه".
(13) في أ : "توهم".
(14) في أ : "عنبسة".

(3/87)


بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قتل الصَّبْر لا يمر بذنب إلا محاه".
وهذا بهذا لا يصح (1) ولو صح فمعناه أن الله يكفر عن المقتول بألم القتل ذنوبه ، فأما أن تحمل على القاتل فلا. ولكن قد يتفق هذا في بعض الأشخاص ، وهو الغالب ، فإن المقتول يطالب القاتل في العَرَصات فيؤخذ له من حسناته بقدر مظلمته ، فإن نفدت (2) ولم يستوف حقه أخذ من سيئات المقتول فطُرِحَت (3) على القاتل ، فربما لا يبقى على المقتول خطيئة إلا وضعت على القاتل. وقد صح الحديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المظالم كلها ، والقتل من أعظمها وأشدها ، والله أعلم.
وأما ابن جرير فقال (4) والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن تأويله : إني أريد أن تنصرف بخطيئتك في قتلك إياي - وذلك هو معنى قوله : { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي } وأما معنى { وَإِثْمِكَ } فهو إثمه بغير (5) قتله ، وذلك معصيته الله ، عز وجل ، في أعمال سواه.
وإنما قلنا هو الصواب ، لإجماع أهل التأويل عليه ، وأن الله ، عز وجل ، أخبرنا أن كل عامل فجزاء عمله له أو عليه (6) وإذا كان هذا (7) حكمه في خلقه ، فغير جائز أن تكون (8) آثام المقتول مأخوذًا بهذا القاتل ، وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل المحرم وسائر آثام معاصيه التي ارتكبها بنفسه دون ما ركبه قتيله.
هذا لفظه ثم أورد سؤالا حاصله : كيف أراد هابيل أن يكون على أخيه قابيل إثم قتله ، وإثم نفسه ، مع أن قتله له محرم ؟ وأجاب بما حاصله (9) أن هابيل أخبر عن نفسه بأنه لا يقاتل أخاه إن قاتله ، بل يكف يده عنه ، طالبًا - إنْ وقع قتل - أن يكون من أخيه لا منه.
قلت : وهذا الكلام متضمن موعظة له لو اتعظ ، وزجرًا له لو انزجر ؛ ولهذا قال : { إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } أي : تتحمل إثمي وإثمك { فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ }
وقال ابن عباس : خوفه النار فلم ينته ولم ينزجر.
وقوله تعالى : { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ } أي : فحسنت (10) وسوّلت له نفسه ، وشجعته على قتل أخيه فقتله ، أي : بعد هذه الموعظة وهذا الزجر.
وقد تقدم في الرواية عن أبي جعفر الباقر ، وهو محمد بن علي بن الحسين : أنه قتله بحديدة في يده.
وقال السُّدِّي ، عن أبي مالك وعن أبي صالح ، عن ابن عباس - وعن مرة ، عن عبد الله ، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ } فطلبه ليقتله ، فراغ الغلام منه في رءوس الجبال ، فأتاه يومًا من الأيام وهو يرعى غنمًا له ، وهو نائم فرفع صخرة ، فشدخ بها رأسه فمات ،
__________
(1) مسند البزار برقم (1545) "كشف الأستار" وقال البزار : "لا نعلمه يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه ، ولا نعلم أسنده إلا يعقوب".
(2) في د : "فنيت".
(3) في أ : "فيطرح".
(4) في ر : "قال" ، وفي أ : "فإنه قال".
(5) في ر ، أ : "يعني".
(6) في أ : "وعليه".
(7) في ر : "ذلك".
(8) في أ : "يكون".
(9) في أ : "بما هو حاصله".
(10) في أ : "فحسنت له".

(3/88)


فتركه بالعَرَاء. رواه ابن جرير.
وعن بعض أهل الكتاب : أنه قتله خنقًا وعضًا ، كما تَقْتُل (1) السباع ، وقال ابن جرير (2) لما أراد أن يقتله جعل (3) يلوي عنقه ، فأخذ إبليس دابة ووضع (4) رأسها على حجر ، ثم أخذ حجرًا آخر فضرب به رأسها حتى قتلها ، وابن آدم ينظر ، ففعل بأخيه مثل ذلك. رواه ابن أبي حاتم.
وقال عبد الله بن وَهْب ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه قال : أخذ برأسه ليقتله ، فاضطجع له ، وجعل يغمز رأسه وعظامه ولا يدري كيف يقتله ، فجاءه (5) إبليس فقال : أتريد أن تقتله ؟ قال : نعم. قال : فخذ هذه الصخرة فاطرحها على رأسه. قال : فأخذها ، فألقاها عليه ، فشَدَخ رأسه. ثم جاء إبليس إلى حواء مسرعًا ، فقال : يا حواء ، إن قابيل قتل هابيل. فقالت له : ويحك. أيّ (6) شيء يكون القتل ؟ قال : لا يأكل ولا يشرب ولا يتحرك. قالت : ذلك الموت. قال : فهو الموت. فجعلت تصيح حتى دخل عليها آدم وهي تصيح ، فقال : ما لك ؟ فلم تكلمه ، فرجع (7) إليها مرتين ، فلم تكلمه. فقال : عليك الصيحة وعلى بناتك ، وأنا وبنيّ منها برآء. رواه ابن أبي حاتم.
وقوله : { فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ } أي : في الدنيا والآخرة ، وأيّ خسارة أعظم من هذه ؟. و قد قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية (8) ووَكِيع قالا حدثنا الأعمش ، عن عبد الله بن مُرّة ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تُقتَل نفس ظلمًا ، إلا كان على ابن آدم الأول كِفْلٌ من دمها ، لأنه كان أول من سن القتل".
وقد أخرجه الجماعة سوى أبي داود من طرق ، عن الأعمش ، به. (9)
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثني حجاج قال : قال ابن جُرَيْج : قال مجاهد : عُلّقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة ، ووجهه في الشمس حيثما دارت دار ، عليه في الصيف حظيرة من نار ، وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج - قال : وقال عبد الله بن عمرو : إنا لنجد ابن آدم القاتل يقاسم أهل النار قسمة صحيحة العذابِ ، عليه شطر عذابهم.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حُمَيْد ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن حكيم بن حكيم ، أنه حدّث عن عبد الله بن عمرو أنه كان يقول : إن أشقى أهل النار (10) رجلا ابن آدم الذي قتل أخاه ، ما سُفِك دم في الأرض منذ قَتَل أخاه إلى يوم القيامة ، إلا لحق به منه شر ، وذلك أنه أول من سَنّ القتل. (11)
وقال إبراهيم النخعي : ما من مقتول يقتل ظلما ، إلا كان على ابن آدم الأول والشيطان كِفْل منه.
__________
(1) في أ : "يقتل".
(2) في هـ : "ابن جريج".
(3) في أ : "فجعل".
(4) في ر ، أ : "فوضع".
(5) في أ : "فجاء".
(6) في ر ، أ : "وأي".
(7) في أ : "ثم رجع".
(8) في أ : "يعقوب".
(9) صحيح البخاري برقم (3335) وصحيح مسلم برقم (1677) وسنن الترمذي برقم (2673) وسنن النسائي الكبرى برقم (3447) وسنن ابن ماجة برقم (2616).
(10) في أ : "إن أشقى الناس".
(11) تفسير الطبري (10/219).

(3/89)


رواه ابن جرير أيضًا.
وقوله تعالى : { فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } قال السدي بإسناده المتقدم إلى الصحابة : لما مات الغلام تركه بالعَرَاء ، ولا يعلم كيف يدفن ، فبعث الله غرابين أخوين ، فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ، فحفر له ثم حثى عليه. فلما رآه قال : { قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي }.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : جاء غراب إلى غراب ميت ، فبَحَث عليه من التراب حتى واراه ، فقال الذي قتل أخاه : { قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي }
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : مكث يحمل أخاه في جراب على عاتقه سنة ، حتى بعث الله الغُرابين ، فرآهما يبحثان ، فقال : { أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ } فدفن أخاه.
وقال لَيْثُ بن أبي سليم ، عن مجاهد : وكان يحمله على عاتقه مائة سنة ميتًا ، لا يدري ما يصنع به يحمله ، ويضعه إلى الأرض حتى رأى الغراب يدفن الغراب ، فقال : { يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وقال عطية العوفي : لما قتله ندم. فضمه إليه حتى أروح ، وعكفت عليه الطيور والسباع تنتظر متى يرمي به فتأكله. رواه ابن جرير.
وقال محمد بن إسحاق ، عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول : لما قتله سُقِط في يديه ، ولم يدر كيف يواريه. وذلك أنه كان ، فيما يزعمون ، أول قتيل في (1) بني آدم وأول ميت { فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } قال : وزعم (2) أهل التوراة أن قينًا لما قتل أخاه هابيل ، قال له الله ، عز وجل : يا قين ، أين أخوك هابيل ؟ قال : قال : ما أدري ، ما كنت عليه رقيبًا. فقال الله : إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض ، والآن أنت ملعون من الأرض التي فتحت فاها فبلعت (3) دم أخيك من يدك ، فإن أنت عملت في الأرض ، فإنها لا تعود تعطيك حرثها حتى تكون فزعًا تائهًا في الأرض.
وقوله : { فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ } قال الحسن البصري : علاه الله بندامة بعد خسران.
فهذه أقوال المفسرين في هذه القصة ، وكلهم متفقون على أن هذين ابنا آدم لصلبه ، كما هو ظاهر القرآن ، وكما نطق به الحديث في قوله : "إلا كان على ابن آدم الأول كِفْل من دمها ؛ لأنه أول من سن القتل". وهذا ظاهر جَليّ ، ولكن قال ابن جرير :
حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا سَهْل بن يوسف ، عن عمرو ، عن الحسن - هو البصري - قال : كان
__________
(1) في أ : "من".
(2) في ر ، أ : "ويزعم".
(3) في ر : "فتلقت".

(3/90)


الرجلان اللذان في القرآن ، اللذان قال الله : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ } من بني إسرائيل ، ولم يكونا ابني آدم لصلبه ، وإنما كان القُربان في بني إسرائيل ، وكان آدم أول من مات. وهذا غريب جدًا ، وفي إسناده نظر.
وقد قال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن ابني آدم ، عليه السلام ، ضُربا لهذه الأمة مثلا فخذوا بالخير منهما (1) (2)
ورواه ابن المبارك عن عاصم الأحول ، عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا من خيرهم ودعوا الشر".
وكذا أرسل هذا الحديث بكر بن عبد الله المزني ، روى ذلك كله ابن جرير. (3)
وقال سالم بن أبي الجَعْد : لما قتل ابن آدم أخاه ، مكث آدم مائة سنة حزينًا لا يضحك ، ثم أتي فقيل له : حياك الله وبيّاك. أي : أضحكك.
رواه ابن جرير ، ثم قال : حدثنا ابن حُمَيْد ، حدثنا سلمة ، عن غِياث (4) بن إبراهيم عن أبي إسحاق الهمْداني قال : قال علي بن أبي طالب : لما قتل ابن آدم أخاه ، بكاه آدم فقال :
تَغيَّرت البلاد ومَنْ عَلَيها... فَلَوْنُ الأرض مُغْبر قَبيح...
تغيَّر كل ذي لون وطعم... وقلَّ بَشَاشَة الوجْه المليح...
فأجيب آدم عليه السلام :
أبَا هَابيل قَدْ قُتلا جَميعًا... وصار الحي كالميْت (5) الذبيح
وجَاء بشرةٍ قد كان مِنْها (6) عَلى خَوف فجاء بها يَصيح (7)
__________
(1) في أ : "منها".
(2) تفسير عبد الرزاق (1/183) وتفسير الطبري (10/320).
(3) تفسير الطبري (10/320)
(4) في أ : "عتاب".
(5) في ر : "بالميت".
(6) في أ : "منه".
(7) تفسير الطبري (10/209 ، 210).
وقال الشيخ محمد أبو شهبة في كتابه القيم : "الإسرائيليات وأثرها في كتب التفسير" (ص183) : "وقد طعن في نسبة هذه الأشعار إلى نبي الله آدم الإمام الذهبي في كتابه : "ميزان الاعتدال" وقال : إن الآفة فيه من المخرمي أو شيخه.
وما الشعر الذي ذكروه إلا منحول مختلق ، والأنبياء لا يقولون الشعر ، وصدق الزمخشري حيث قال : "روي أن آدم مكث بعد قتل ابنه مائة سنة لا يضحك ، وأنه رثاه بشعر ، وهو كذب بحت ، وما الشعر إلا منحول ملحون ، وقد صح أن الأنبياء معصومون من الشعر.
وقد قال الله تبارك وتعالى : ( وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين ).
وقد قال الإمام الألوسي في تفسيره : وروي عن ميمون بن مهران عن الحبر ابن عباس ، رضي الله عنهما ، أنه قال : "من قال : آدم - عليه السلام - قد قال شعرًا فقد كذب ، إن محمدًا صلى الله عليه وسلم والأنبياء كلهم في النهي عن الشعر سواء ، ولكن لما قتل قابيل هابيل بكاه آدم بالسريانية ، فلم يزل ينقل ، حتى وصل إلى يعرب بن قحطان ، وكان يتكلم بالعربية ، والسريانية ، فقدم فيه وأخر ، وجعله شعرًا عربيًا" ، وذكر بعض علماء العربية : أن في ذلك لحنًا ، وإقواء ، وارتكاب ضرورة ، والأولى عدم نسبته إلى يعرب ؛ لما فيه من الركاكة الظاهرة.
والحق : أنه شعر في غاية الركاكة ، والأشبه أن يكون هذا الشعر اختلاق إسرائيلي ليس له من العربية إلا حظ قليل ، أو قصاص يريد أن يستولي على قلوب الناس بمثل هذا الهراء".

(3/91)


والظاهر أن قابيل عُوجل بالعقوبة ، كما ذكره مجاهد (1) بن جَبْر أنه علقت ساقه بفخذه يوم قتله ، وجعل الله وجهه إلى الشمس حيث دارت عقوبة له وتنكيلا به. وقد ورد في الحديث عن (2) النبي صلى الله عليه وسلم [أنه] (3) قال : "ما من ذنب أجدر أن يُعَجَّل الله عقوبته في الدنيا مع ما يَدَّخر لصاحبه في الآخرة ، من البَغْي وقطيعة الرحم". (4) وقد اجتمع في فعل قابيل هذا وهذا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
__________
(1) في ر : "ابن مجاهد".
(2) في هـ : "أن" ، والمثبت من أ.
(3) زيادة من ر.
(4) رواه أبو داود في سننه برقم (4902) وابن ماجة في سننه برقم (4211) من حديث أبي بكرة ، رضي الله عنه.

(3/92)


مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)

{ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) }
يقول تعالى : { مِنْ أَجْلِ } قَتْل ابن آدم أخاه ظلما وعدوانًا : { كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ } أي : شرعنا لهم وأعلمناهم { أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } أي : ومن قتل نفسًا بغير سبب من قصاص ، أو فساد في الأرض ، واستحل قتلها بلا سبب ولا جناية ، فكأنما قتل الناس جميعًا ؛ لأنه لا فرق عنده بين نفس ونفس ، { وَمَنْ أَحْيَاهَا } أي : حرم قتلها واعتقد ذلك ، فقد سلم الناس كلهم منه بهذا الاعتبار ؛ ولهذا قال : { فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا }.
وقال الأعمش وغيره ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : دخلت على عثمان يوم الدار فقلت : جئت لأنصرك وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين. فقال : يا أبا هريرة ، أيسرك أن تَقْتُل (1) الناس جميعًا وإياي معهم ؟ قلت : لا. قال فإنك إن قتلت رجلا واحدًا فكأنما قتلت الناس جميعًا ، فانْصَرِفْ مأذونًا لك ، مأجورًا غير مأزور. قال : فانصرفت ولم أقاتل.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هو كما قال الله تعالى : { مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } وإحياؤها : ألا يقتل نفسًا حَرّمها الله ، فذلك الذي أحيا الناس جميعًا ، يعني : أنه من حَرّم قتلها إلا بحق ، حَيِي الناس منه
__________
(1) في أ : "يقتل".

(3/92)


[جميعا] (1)
وهكذا قال مجاهد : { وَمَنْ أَحْيَاهَا } أي : كف عن قتلها.
وقال العَوْفِيّ عن ابن عباس ، في قوله : { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } يقول : من قتل نفسًا واحدة حرمها الله ، فهو مثل من قتل الناس جميعًا. وقال سعيد بن جبير : من استحل دمَ مُسْلِم فكأنما استحل دماء الناس جميعًا ، ومن حرم دم مسلم فكأنما حرم دماء الناس جميعًا.
هذا قول ، وهو الأظهر ، وقال عِكْرمة والعوفي ، عن ابن عباس [في قوله : { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } يقول] (2) من قتل نبيًا أو إمام عَدْل ، فكأنما قتل الناس جميعًا ، ومن شَدّ على عَضد نبي أو إمام عَدل ، فكأنما أحيا الناس جميعًا. رواه ابن جرير.
وقال مجاهد في رواية أخرى عنه : من قتل نفسًا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعًا ؛ وذلك لأنه من قتل النفس فله النار ، فهو كما لو قتل الناس كلهم.
وقال ابن جُرَيْج (3) عن الأعرج ، عن مجاهد في قوله : { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } من قتل النفس المؤمنة متعمدا ، جعل الله جزاءه جهنم ، وغضب الله عليه ولعنه ، وأعد له عذابًا عظيمًا ، يقول : لو قتل الناس جميعًا لم يزد على مثل ذلك العذاب.
قال ابن جريج : قال مجاهد { وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } قال : من لم يقتل أحدًا فقد حيي الناس منه.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : من قتل نفسًا فكأنما قتل الناس [جميعا] (4) يعني : فقد وجب عليه القصاص ، فلا (5) فرق بين الواحد والجماعة { وَمَنْ أَحْيَاهَا } أي : عفا عن قاتل وليه ، فكأنما أحيا الناس جميعًا. وحكي ذلك عن أبيه. رواه ابن جرير.
وقال مجاهد - في رواية - : { وَمَنْ أَحْيَاهَا } أي : أنجاها من غَرق أو حَرق أو هَلكة.
وقال الحسن وقتادة في قوله : { أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } هذا تعظيم لتعاطي القتل - قال قتادة : عَظُم والله وزرها ، وعظم والله أجرها.
وقال ابن المبارك ، عن سلام بن مسكين ، عن سليمان بن علي الرِّبْعِي قال : قلت للحسن : هذه الآية لنا يا أبا سعيد ، كما كانت لبني إسرائيل ؟ فقال : إي والذي لا إله غيره ، كما كانت لبني إسرائيل. وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا.
وقال الحسن البصري : { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } قال : وزرًا. { وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } قال : أجرًا.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من أ.
(3) في أ : "وقال ابن جرير".
(4) زيادة من أ.
(5) في ر : "ولا".

(3/93)


وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعَة ، حدثنا حُيَي (1) بن عبد الله ، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي ، عن عبد الله بن عمرو قال : جاء حمزة بن عبد المطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، اجعلني على شيء أعيش به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا حمزة ، نفس تحييها أحب إليك أم نفس تميتها ؟" قال : بل نفس أحييها : قال : "عليك بنفسك". (2) (3)
وقوله : { وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ } أي : بالحجج والبراهين والدلائل الواضحة { ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأرْضِ لَمُسْرِفُونَ } وهذا تقريع لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها ، كما كانت بنو قُرَيْظَة والنَّضير وغيرهم من بني قَيْنُقاع ممن حول المدينة من اليهود ، الذين كانوا يقاتلون مع الأوس والخزرج إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهلية ، ثم إذا وضعت الحروب أوزارها فدوا من أسروه ، وودوا من قتلوه ، وقد أنكر الله عليهم ذلك في سورة البقرة ، حيث يقول : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ (4) إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } [البقرة : 84 ، 85].
وقوله تعالى : { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ } الآية. المحاربة : هي المضادة والمخالفة ، وهي صادقة (5) على الكفر ، وعلى قطع الطريق وإخافة السبيل ، وكذا الإفساد في الأرض يطلق على أنواع من الشر ، حتى قال كثير من السلف ، منهم سعيد بن المسيب : إن قرض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض ، وقد قال الله تعالى : { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ } [البقرة : 205].
ثم قال بعضهم : نزلت هذه الآية الكريمة في المشركين ، كما قال ابن جرير :
حدثنا ابن حُمَيْد ، حدثنا يحيى بن واضح ، حدثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد ، عن عِكْرِمَة والحسن البصري قالا (6) [قال تعالى] (7) { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } إلى { أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } نزلت هذه الآية في المشركين ، فمن تاب منهم من قبل أن تقدروا عليه ، لم يكن عليه سبيل ، وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد ، إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله ، ثم لحق (8) بالكفار قبل أن يقدر عليه ، لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصاب.
ورواه أبو داود والنسائي ، من طريق عكرمة ، عن ابن عباس : { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا } نزلت في المشركين ، فمن (9) تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه
__________
(1) في ر : "يحيى".
(2) في ر : "عليك نفسك".
(3) المسند (2/175)
(4) في أ : "تردون".
(5) في ر : "صابرة".
(6) في أ : "قال".
(7) زيادة من ر.
(8) في ر : "ألحق".
(9) في ر : "فيمن".

(3/94)


ذلك أن يقام فيه الحد الذي أصابه.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، في قوله : { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا } قال : كان قوم من أهل الكتاب ، بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق ، فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض ، فخيَّر الله رسوله : إن شاء أن يقتل ، وإن شاء أن تقطع (1) أيديهم وأرجلهم من خلاف. رواه ابن جرير.
وروى شعبة ، عن منصور ، عن هلال بن يَسَاف ، عن مُصْعَب بن سعد ، عن أبيه قال : نزلت في الحرورية : { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا } رواه ابن مردويه.
والصحيح أن هذه الآية عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات ، كما رواه البخاري ومسلم (2) من حديث أبي قِلابة - واسمه عبد الله بن زيد الجَرْمي البصري - عن أنس بن مالك : أن نفرًا من عُكْل ثمانية ، قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام ، فاستوخموا الأرض (3) وسَقَمت أجسامهم ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "ألا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبوا من أبوالها وألبانها ؟" فقالوا : بلى. فخرجوا ، فشربوا من أبوالها وألبانها ، فَصَحُّوا (4) فقتلوا الراعي وطردوا الإبل. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث في آثارهم ، فأُدْرِكُوا ، فجيء بهم ، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم ، وسُمرت (5) أعينهم ، ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا.
لفظ مسلم. وفي لفظ لهما : "من عكل أو عُرَيْنَة" ، وفي لفظ : "وألقوا في الحَرَّة فجعلوا يَسْتَسْقُون (6) فلا يُسْقَون. وفي لفظ لمسلم : "ولم يَحْسمْهم". وعند البخاري : قال أبو قلابة : فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم ، وحاربوا الله ورسوله. ورواه مسلم من طريق هُشَيْم ، عن عبد العزيز بن صُهَيب وحميد ، عن أنس ، فذكر نحوه ، وعنده : "وارتدوا". وقد أخرجاه من رواية قتادة عن أنس ، بنحوه. وقال سعيد عن قتادة : "من عكل وعُرَينة". ورواه مسلم من طريق سليمان التيمي ، عن أنس قال : إنما سَمَلَ النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك ؛ لأنهم سملوا أعين الرعاء. ورواه مسلم ، من حديث معاوية بن قرة عن أنس قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفرٌ من عُرَينة ، فأسلموا وبايعوه ، وقد وقع بالمدينة المُومُ - وهو البرْسام - ثم ذكر نحو حديثهم ، وزاد : وعنده شباب من الأنصار ، قريب من عشرين فارسًا فأرسلهم ، وبعث معهم قائفًا يَقْتَصّ (7) أثرهم. وهذه كلها ألفاظ مسلم ، رحمه الله. (8)
وقال حماد بن سلمة : حدثنا قتادة وثابت البنَاني وحُمَيْد الطويل ، عن أنس بن مالك : أن ناسًا من عُرَينة قدموا المدينة ، فاجْتَوَوْها ، فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبل الصدقة ، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها ففعلوا ، فصَحُّوا فارتدوا (9) عن الإسلام ، وقتلوا الراعي ، وساقوا الإبل ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) في ر : "يقطع".
(2) صحيح البخاري (233) وانظر أطرافه هناك ، وصحيح مسلم برقم (1671).
(3) في أ : "المدينة".
(4) في ر : "فنصحوا".
(5) في ر : "وسملت".
(6) في أ : "فيستقون".
(7) في ر : "يقص".
(8) صحيح مسلم برقم (1671).
(9) في أ : "وارتدوا".

(3/95)


في آثارهم ، فجيء بهم ، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وسَمَرَ (1) أعينهم وألقاهم في الحرة. قال أنس : فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشًا حتى ماتوا ، ونزلت : { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } الآية.
وقد رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن مردويه - وهذا لفظه - وقال الترمذي : "حسن صحيح". (2)
وقد رواه ابن مردويه من طرق كثيرة ، عن أنس بن مالك ، منها ما رواه من طريقين ، عن سلام بن أبى الصهباء ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك قال : ما ندمتُ على حديث ما ندمت على حديث سألني عنه الحجاج قال (3) أخبرني عن أشد عقوبة عاقب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : قلت : قَدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من عُرَيْنة ، من البحرين ، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقوا من (4) بطونهم ، وقد اصفرت ألوانهم ، وضَخُمت بطونهم ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة ، فيشربوا من أبوالها وألبانها ، حتى إذا رجعت إليهم ألوانهم وانخمصت بطونهم عَدَوا (5) على الراعي فقتلوه ، واستاقوا الإبل ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم ، فقطع أيديهم وأرجلهم وسَمَر (6) أعينهم ، ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا. فكان الحجاج إذا صعد المنبر يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قطع أيدي قوم وأرجلهم ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا لِحال (7) ذَوْدٍ [من الإبل] (8) وكان يحتج بهذا الحديث على الناس.
وقال ابن جرير : حدثنا علي بن سهل ، حدثنا الوليد - يعني ابن مسلم - حدثني سعيد ، عن قتادة ، عن أنس قال : كانوا أربعة نفر من عرينة ، وثلاثة نفر من عُكْل ، فلما أتي بهم قطع أيديهم وأرجلهم ، وسَمَل أعينهم ، ولم يحسمهم ، وتركهم يتَلقَّمون الحجارة بالحرة ، فأنزل الله في ذلك : { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } الآية.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن حرب الموصلي ، حدثنا أبو مسعود - يعني عبد الرحمن بن الحسن الزجاج - حدثنا أبو سعد - يعني البقال - عن أنس بن مالك قال : كان رهط من عُرَينة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبهم جَهْد ، مُصْفرّة ألوانهم ، عظيمة بطونهم ، فأمرهم أن يلحقوا بالإبل فيشربوا من أبوالها وألبانها ، ففعلوا ، فصفت ألوانهم وخمصت بطونهم ، وسمنوا ، فقتلوا الراعي واستاقوا الإبل ، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طَلَبهم ، فأتي بهم ، فقتل بعضهم ، وسَمَرَ أعين بعضهم ، وقطع أيدي بعضهم وأرجلهم ، ونزلت : { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } إلى آخر الآية.
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا علي بن سهل ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا ابن لهيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس يسأله عن هذه الآية ، فكتب إليه أنس يخبره أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العُرنيين ، وهم من بَجِيلة (9) قال أنس : فارتدوا عن الإسلام ، وقتلوا الراعي ، واستاقوا الإبل ، وأخافوا السبيل ، وأصابوا الفرج الحرام.
__________
(1) في ر : "وسمل".
(2) سنن أبي داود برقم (4367) وسنن الترمذي برقم (72) وسنن النسائي (7/97).
(3) في أ : "فقال".
(4) في ر : "في".
(5) في أ : "عمدوا".
(6) في ر : "وسمل".
(7) في أ : "بحال".
(8) زيادة من أ.
(9) في أ : "يجيلة".

(3/96)


وقال : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وَهْب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن أبي الزناد ، عن عبد الله بن عبيد الله ، عن عبد الله بن عمر (1) - أو : عمرو ، شك يونس - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك - يعني بقصة العرَنيين - ونزلت فيهم آية المحاربة. ورواه أبو داود والنسائي من طريق أبي الزناد ، وفيه : "عن ابن عمر" من غير شك. (2)
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن خَلَف ، حدثنا الحسن بن حماد ، عن عمرو (3) بن هاشم ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن إبراهيم ، عن جرير قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قومٌ من عُرَيْنَة حُفَاة مضرورين ، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما صحوا واشتدوا قتلوا رعَاء اللقاح ، ثم خرجوا باللقاح عامدين بها إلى أرض قومهم ، قال جرير : فبعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين حتى أدركناهم بعدما أشرفوا على بلاد قومهم ، فقدمنا بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وسَمَل أعينهم ، فجعلوا يقولون : الماء. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "النار"! حتى هلكوا. قال : وكره الله ، عز وجل ، سَمْل الأعين ، فأنزل الله هذه الآية : { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } إلى آخر الآية.
هذا حديث غريب (4) وفي إسناده الرَّبَذيّ وهو ضعيف ، وفيه فائدة ، وهو ذكر أمير هذه السرية ، وهو (5) جرير بن عبد الله البجلي (6) وتقدم في صحيح مسلم أن السرية كانوا عشرين فارسا من الأنصار. وأما قوله : "فكره الله سمل الأعين ، فأنزل الله هذه الآية" فإنه منكر ، وقد تقدم في صحيح مسلم أنهم سَملوا أعين الرعاء ، فكان ما فعل بهم قصاصا ، والله أعلم.
وقال عبد الرزاق ، عن إبراهيم بن محمد الأسلمي ، عن صالح مولى التوأمة ، عن أبي هريرة قال : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم رجال من بني فَزَارة قد ماتوا هزلا. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى لقاحه ، فشربوا منها حتى صحوا ، ثم عمدوا إلى لقاحه فسرقوها ، فطُلِبوا ، فأتي بهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقطع أيديهم وأرجلهم ، وسَمَر أعينهم. قال أبو هريرة : ففيهم نزلت هذه الآية : { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ }
__________
(1) في أ : "عن أبي عبد الله بن عمر".
(2) تفسير الطبري (10/249) وسنن أبي داود برقم (4369) وسنن النسائي (7/100).
(3) في أ : "عمر".
(4) تفسير الطبري (10/250).
(5) في ر ، أ : "وإنه".
(6) قال الشيخ أحمد شاكر في حاشيته على تفسير الطبري (10/248) :
"وهذا الخبر ضعيف جدًا ، وهو أيضًا لا يصح ؛ لأن جرير بن عبد الله البجلي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد على النبي صلى الله عليه وسلم في العام الذي توفي فيه ، وخبر العرنيين كان في شوال سنة ست ، في رواية الواقدي (ابن سعد 2/1/67) ، وكان أمير السرية كرز بن جابر الفهري. وذلك قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول سنة 11 من الهجرة ، بأعوام.
وهذا الخبر ، ذكره الحافظ ابن حجر ، في ترجمة "جرير بن عبد الله البجلي" ، وضعفه جدا. أما ابن كثير ، فذكره في تفسيره (3/139) وقال : "هذا حديث غريب ، وفي إسناده الربذي ، وهو ضعيف. وفي إسناده فائدة : وهو ذكر أمير هذه السرية. وهو جرير ابن عبد الله البجلي. وتقدم في صحيح مسلم أن هذه السرية كانوا عشرين فارسًا من الأنصار. وأما قوله : "فكره الله سمل الأعين" فإنه منكر. وقد تقدم في صحيح مسلم أنهم سملوا أعين الرعاء ، فكان ما فعل بهم قصاصا ، والله أعلم".
والعجب لابن كثير ، يظن فائدة فيما لا فائدة له ، فإن أمير هذه السرية ، كان ولا شك ، كرز بن جابر الفهري ، ولم يرو أحد أن أميرها كان جرير بن عبد الله البجلي ، إلا في هذا الخبر المنكر.

(3/97)


فترك النبي صلى الله عليه وسلم سَمْر الأعين بعدُ.
وروي من وجه آخر عن أبي هريرة.
وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا أحمد بن إسحاق ، حدثنا الحسين بن إسحاق التُسْتَرِيّ ، حدثنا أبو القاسم محمد بن الوليد ، عن (1) عمرو بن محمد المديني ، حدثنا محمد بن طلحة ، عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن سلمة بن الأكوع قال : كان للنبي صلى الله عليه وسلم غلام يقال له : "يَسار" فنظر إليه يُحسن الصلاة فأعتقه ، وبعثه (2) في لقاح له بالحَرَّة ، فكان بها ، قال : فأظهر قوم الإسلام من عُرَينة ، وجاءوا وهم مرضى موعوكون قد عظمت بطونهم ، قال : فبعث بهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى "يسار" فكانوا يشربون من ألبان الإبل حتى انطوت بطونهم ، ثم عدوا على "يسار" فذبحوه ، وجعلوا الشوك في عينيه ، ثم أطردوا الإبل ، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم خيلا من المسلمين ، أميرهم كُرْزُ بن جابر الفِهْري ، فلحقهم فجاء بهم إليه ، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم. غريب جدًا. (3)
وقد روى قصة العرنيين من حديث جماعة من الصحابة ، منهم جابر وعائشة وغير واحد. وقد اعتنى الحافظ الجليل أبو بكر بن مردُويه بتطريق (4) هذا الحديث من وجوه كثيرة جدًا ، فرحمه الله وأثابه.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شَقِيق ، سمعت أبي يقول : سمعت أبا حمزة ، عن عبد الكريم - وسُئِلَ عن أبوال الإبل - فقال : حدثني سعيد بن جُبير عن المحاربين فقال : كان أناس (5) أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : نبايعك على الإسلام. فبايعوه ، وهم كذَبَة ، وليس الإسلام يريدون. ثم قالوا : إنا نَجْتوي المدينة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "هذه اللقاح تغدو عليكم وتروح ، فاشربوا من أبوالها وألبانها" قال : فبينا هم كذلك ، إذ جاءهم الصريخ ، فصرخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : قتلوا الراعي ، واستاقوا (6) النعم. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فنُودي في الناس : أن "يا خيل الله اركبي". قال : فركبوا لا ينتظر فارس فارسًا ، قال : وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أثرهم ، فلم يزالوا يطلبونهم حتى أدخلوهم مأمنهم ، فرجع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أسروا منهم ، فأتوا بهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } الآية. قال : فكان نفْيهم : أن نفوهم حتى أدخلوهم مأمنهم وأرضهم ، ونفوهم من أرض المسلمين. وقتل نبي الله صلى الله عليه وسلم منهم ، وصلب ، وقطع ، وسَمَر الأعين. قال : فما مَثَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلُ ولا بعدُ. قال : ونهى عن المُثْلة ، قال : "ولا تمثلوا (7) بشيء" قال : وكان أنس يقول ذلك ، غير أنه قال : أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم.
__________
(1) في ر ، أ : "بن".
(2) في أ : "فبعثه".
(3) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (7/6) من طريق الحسين التستري به. قال الهيثمي في المجمع (6/249) : "فيه موسى بن إبراهيم التيمي وهو ضعيف".
(4) في أ : "بطرق".
(5) في ر : "ناس".
(6) في أ : "وساقوا".
(7) في ر : "وقال لا تمثلوا بشيء".

(3/98)


قال : وبعضهم يقول : هم ناس من بني سليم ، ومنهم عُرينة ناس من بَجيلة. (1)
وقد اختلف الأئمة في حكم هؤلاء العُرَنيين : هل هو منسوخ أو محكم ؟ فقال بعضهم : هو منسوخ بهذه الآية ، وزعموا أن فيها عتابًا للنبي صلى الله عليه وسلم كما في قوله [تعالى] (2) { عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ } [التوبة : 43] ومنهم من قال : هو منسوخ بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المُثْلة. وهذا القول فيه نظر ، ثم صاحبه مطالب (3) ببيان تأخر الناسخ الذي ادعاه عن المنسوخ. وقال بعضهم : كان هذا قبل أن تنزل الحدود ، قاله محمد بن سيرين ، وفي هذا نظر ، فإن قصتهم متأخرة ، وفي (4) رواية جرير بن عبد الله لقصتهم ما يدل على تأخرها (5) فإنه أسلم بعد نزول المائدة. ومنهم من قال : لم يسمل النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم ، وإنما عزم على ذلك ، حتى نزل القرآن فبيَّن حكم المحاربين. وهذا القول أيضا فيه نظر ؛ فإنه قد تقدم في الحديث المتفق عليه أنه (6) سمَلَ - وفي رواية : سمر - أعينهم.
وقال ابن جرير : حدثنا علي بن سهل ، حدثنا الوليد بن مسلم قال : ذاكرت الليث بن سعد ما كان من سَمْل النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم ، وتَركه (7) حَسْمهم حتى ماتوا ، قال : سمعت محمد بن عجلان يقول : أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم معاتبة في ذلك ، وعلَّمه (8) عقوبة مثلهم : من القتل والقطع والنفي ، ولم يسمل بعدهم غيرهم. قال : وكان هذا القول ذكر لأبي عمرو - يعني الأوزاعي - فأنكر أن يكون (9) نزلت معاتبة ، وقال : بل كانت عقوبة أولئك النفر بأعيانهم ، ثم نزلت هذه الآية في عقوبة غيرهم ممن حارب بعدهم ، ورفع عنهم السمل.
ثم قد احتج بعموم هذه الآية جمهور العلماء في ذهابهم إلى أن المحاربة (10) في الأمصار وفي السبلان على السواء لقوله : { وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا } وهذا مذهب مالك ، والأوزاعي ، والليث بن سعد ، والشافعي ، أحمد بن حنبل ، حتى قال مالك - في الذي يغتال الرجل فيخدعه حتى يدخله بيتًا فيقتله ، ويأخذ ما معه - : إن هذا محاربة ، ودمه إلى السلطان لا [إلى] (11) ولي المقتول ، ولا اعتبار بعفوه عنه في إنفاذ القتل.
وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا تكون المحاربة إلا في الطرقات ، فأما في الأمصار فلا ؛ لأنه يلحقه الغوث إذا استغاث ، بخلاف الطريق لبعده ممن يغيثه ويعينه. [والله أعلم] (12)
وأما قوله : { أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ } الآية : قال (13) [علي] (14) بن أبي طلحة عن ابن عباس في [قوله : { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } ]
__________
(1) تفسير الطبري (10/247)
(2) زيادة من ر ، أ.
(3) في أ : "ثم قائله يطالب".
(4) في ر : "في".
(5) في أ : "تأخيرها".
(6) في أ : "إنما".
(7) في أ : "وترك".
(8) في أ : "وعلمهم".
(9) في أ : "تكون".
(10) في أ : "أن حكم المحاربة".
(11) زيادة من ر.
(12) زيادة من أ.
(13) في ر ، أ : "فقال".
(14) زيادة من ر ، أ.

(3/99)


(1) الآية [قال] (2) من شهر السلاح في قبَّة الإسلام ، وأخاف السبيل ، ثم ظفر به وقدر عليه ، فإمام المسلمين فيه بالخيار : إن شاء قتله ، وإن شاء صلبه ، وإن شاء قطع يده ورجله.
وكذا قال سعيد بن المسيب ، ومجاهد ، وعطاء ، والحسن البصري ، وإبراهيم النَّخَعي ، والضحاك. وروى ذلك كله أبو جعفر بن جرير ، وحكي مثله عن مالك بن أنس ، رحمه الله. ومستند هذا القول أن ظاهر "أو" للتخيير ، كما في نظائر ذلك من القرآن ، كقوله في جزاء الصيد : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } [المائدة : 95] وقوله في كفارة الترفه : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } [البقرة : 196] وكقوله في كفارة اليمين : { إِطْعَامُ (3) عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } [المائدة : 89]. [و] (4) هذه كلها على التخيير ، فكذلك فلتكن هذه الآية. وقال الجمهور : هذه الآية منزلة على أحوال كما قال أبو عبد الله الشافعي [رحمه الله] (5) أنبأنا إبراهيم - هو ابن أبي يحيى - عن صالح مولى التوأمة ، عن ابن عباس في قطاع الطريق : إذا قَتَلوا وأخذوا المال قُتلوا وصلبوا ، وإذا قَتَلوا ولم يأخذوا المال قُتلوا ولم يصلبوا ، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قُطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض.
وقد رواه ابن أبي شَيْبَة ، عن عبد الرحيم بن سليمان ، عن حجاج ، عن عطية ، عن ابن عباس ، بنحوه. وعن أبي مجلز ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم النَّخَعِي ، والحسن ، وقتادة ، والسُّدِّي ، وعطاء الخُراساني ، نحو ذلك. وهكذا قال غير واحد من السلف والأئمة.
واختلفوا : هل يُصْلَب حيا ويُتْرَك حتى يموت بمنعه من الطعام والشراب ، أو بقتله برمح ونحوه ، أو يقتل أولا ثم يصلب تنكيلا وتشديدا لغيره من المفسدين ؟ وهل يصلب ثلاثة أيام ثم ينزل ، أو يترك حتى يسيل صديده ؟ في ذلك كله خلاف محرر في موضعه ، وبالله الثقة وعليه التكلان.
ويشهد لهذا التفصيل الحديث الذي رواه ابن جرير في تفسيره - إن صح سنده - فقال :
حدثنا علي بن سهل ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن ابن لَهِيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ؛ أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس [بن مالك] (6) يسأله عن هذه الآية ، فكتب إليه يخبره : أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العُرَنِيِّين - وهم من بَجِيلة - قال أنس : فارتدوا عن الإسلام ، وقتلوا الراعي ، واستاقوا الإبل ، وأخافوا السبيل ، وأصابوا الفرج الحرام. قال أنس : فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل ، عليه السلام ، عن القضاء فيمن حارب ، فقال : من سرق وأخاف السبيل فاقطع يده بسرقته ، ورجله بإخافته ، ومن قتل فاقتله ، ومن قتل وأخاف السبيل واستحل الفرج الحرام ، فاصلبه. (7)
وأما قوله تعالى : (8) { أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ } قال بعضهم : هو أن يطلب حتى يقدر عليه ، فيقام
__________
(1) زيادة من ر ، أ.
(2) زيادة من ر ، أ.
(3) في ر ، أ : "فإطعام" وهو خطأ.
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من أ.
(6) زيادة من أ.
(7) تفسير الطبري (10/250).
(8) في أ : "عز وجل".

(3/100)


عليه الحد أو يهرب من دار الإسلام.
رواه ابن جرير عن ابن عباس ، وأنس بن مالك ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، والربيع بن (1) أنس ، والزهري ، والليث بن سعد ، ومالك بن أنس.
وقال آخرون : هو أن ينفى من بلده (2) إلى بلد آخر ، أو يخرجه السلطان أو نائبه من معاملته بالكلية ، وقال الشعبي : ينفيه - كما قال ابن هبيرة - من عمله كله. وقال عطاء الخراساني : ينفى من جُنْد إلى جند سنين ، ولا يخرج من أرض الإسلام.
وكذا قال سعيد بن جبير ، وأبو الشعثاء ، والحسن ، والزهري ، والضحاك ، ومقاتل بن حيان : إنه ينفى ولا يخرج من أرض الإسلام.
وقال آخرون : المراد بالنفي هاهنا السجن ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، واختار ابن جرير : أن المراد بالنفي هاهنا : أن يخرج من بلده إلى بلد آخر فيسجن فيه.
وقوله : { ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي : هذا الذي ذكرته من قتلهم ، ومن صلبهم ، وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، ونفيهم - خزْي لهم بين الناس في هذه الحياة الدنيا ، مع ما ادخر الله لهم من العذاب العظيم يوم القيامة ، وهذا قد يتأيد به من ذهب إلى أن هذه الآية نزلت في المشركين ، فأما أهل الإسلام فقد ثبت في الصحيح عند مسلم ، عن عبادة بن الصامت قال : أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء : ألا نشرك بالله شيئًا : ولا نسرق ، ولا نزني ، ولا نقتل أولادنا ولا يَعْضَه (3) بعضنا بعضًا ، فمن وَفَّى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب فهو كفارة له ، ومن ستره الله فأمْرُه إلى الله ، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له (4)
وعن علي [رضي الله عنه] (5) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أذنب ذنبًا في الدنيا ، فعوقب به ، فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده ، ومن أذنب ذنبًا في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه ، فالله أكرم من أن يعود في شيء قد عفا عنه".
رواه الإمام أحمد ، والترمذي ، وابن ماجه ، وقال الترمذي : "حسن غريب". وقد سئل الحافظ الدارقطني عن هذا الحديث ، فقال : روي مرفوعًا وموقوفًا ، قال : ورفعه صحيح. (6)
وقال ابن جرير في قوله : { ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا } يعني : شَرٌّ وعَارٌ ونَكَالٌ وذلة وعقوبة في عاجل الدنيا قبل الآخرة ، { وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي : إذا لم يتوبوا من فعلهم ذلك حتى هلكوا - في الآخرة مع الجزاء الذي جازيتهم (7) به في الدنيا ، والعقوبة التي عاقبتهم (8) بها فيها (9) - { عَذَابٌ عَظِيمٌ } يعني : عذاب جهنم.
__________
(1) في ر : "عن".
(2) في ر : "بلد".
(3) في ر : "يغتب" ، وفي أ : "تغتب".
(4) صحيح مسلم برقم (1709).
(5) زيادة من أ.
(6) المسند (1/99) وسنن الترمذي برقم (2626) وسنن ابن ماجة برقم (2604) والعلل للدارقطني (3/129).
(7) في أ : "جازاهم".
(8) في أ : "عاقبهم".
(9) في ر ، أ : "في الدنيا".

(3/101)


وقوله : { إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أما على قول من قال : هي في أهل الشرك فظاهر ، وأما المحاربون المسلمون فإذا تابوا قبل القدرة عليهم ، فإنه يسقط عنهم انحتام القتل والصلب وقطع الرجل ، وهل يسقط قطع اليد أم لا ؟ فيه قولان للعلماء.
وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع ، وعليه عمل الصحابة ، كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا أبو أسامة ، عن مجاهد (1) عن الشعبي قال : كان حارثة (2) بن بدر التميمي من أهل البصرة ، وكان قد أفسد في الأرض وحارب ، فكلم رجالا من قريش منهم : الحسن بن علي ، وابن عباس ، وعبد الله بن جعفر ، فكلموا عليًا ، فلم يؤمنه. فأتى سعيد بن قيس الهمداني فخلفه في داره ، ثم أتى عليًا فقال : يا أمير المؤمنين ، أرأيت من حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فسادًا ، فقرأ حتى بلغ : { إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } قال : فكتب له أمانًا. قال سعيد بن قيس : فإنه حارثة (3) بن بدر.
وكذا رواه ابن جرير من غير وجه ، عن مجاهد (4) عن الشعبي ، به. وزاد : فقال حارثة (5) بن بدر :
ألا أبلغَن (6) هَمْدان إمَّا لقيتَها... عَلى النَّأي لا يَسْلمْ عَدو يعيبُها...
لَعَمْرُ أبِيها إنَّ هَمْدان تَتَّقِي الـ... إلَه ويَقْضي بالكتاب خَطيبُها (7)
وروى ابن جرير من طريق سفيان الثوري ، عن السُّدِّي - ومن طريق أشعث ، كلاهما عن عامر الشعبي قال : جاء رجل من مَراد إلى أبي موسى ، وهو على الكوفة في إمارة عثمان ، رضي الله عنه ، بعدما صلى المكتوبة فقال : يا أبا موسى ، هذا مقام العائذ بك ، أنا فلان بن فلان المرادي ، وإني كنت حاربت الله ورسوله وسعيت في الأرض فسادًا ، وإني تبت من قبل أن يُقْدر عليَّ. فقام أبو موسى فقال : إن هذا فلان بن فلان ، وإنه كان حارب الله ورسوله ، وسعى في الأرض فسادًا ، وإنه تاب من قبل أن يُقْدَرَ عليه ، فمن لقيه فلا يعرض له إلا بخير ، فإن يك صادقا فسبيل من صدق ، وإن يك كاذبًا تدركه ذنوبه ، فأقام الرجل ما شاء الله ، ثم إنه خرج فأدركه الله تعالى بذنوبه فقتله.
ثم قال ابن جرير : حدثني علي ، حدثنا الوليد بن مسلم قال : قال الليث ، وكذلك حدثني موسى بن إسحاق المدني ، وهو الأمير عندنا : أن عليًا الأسدي حارب وأخاف (8) السبيل وأصاب الدم والمال ، فطلبه الأئمة والعامة ، فامتنع ولم يُقْدر عليه ، حتى جاء تائبًا ، وذلك أنه سمع رجلا يقرأ هذه الآية : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الزمر : 53] ، فوقف عليه فقال : يا عبد الله ، أعد قراءتها. فأعادها عليه ، فغمد سيفه ، ثم جاء تائبًا. حتى قدم المدينة من السحر ، فاغتسل ، ثم أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الصبح ، ثم قعد إلى أبي هريرة في غمار أصحابه ، فلما أسفروا عرفه الناس ، فقاموا (9) إليه ، فقال :
__________
(1) في ر ، أ : "مجالد".
(2) في ر : "جارية".
(3) في ر : "جارية".
(4) في ر ، أ : "مجالد".
(5) في ر ، أ : "جارية".
(6) في أ : "بلغا".
(7) تفسير الطبري (10/280).
(8) في ر : "وخاف".
(9) في أ : "وقاموا".

(3/102)


لا سبيل لكم عليّ جئت تائبًا من قبل أن تقدروا علي. فقال أبو هريرة : صدق. وأخذ بيده أبو هريرة حتى أتى مروان بن الحكم - وهو أمير على المدينة (1) في زمن معاوية - فقال : هذا عليّ (2) جاء تائبا ، ولا سبيل لكم عليه ولا قتل. قال : فتُرك من ذلك كله ، قال : وخرج عليّ (3) تائبًا مجاهدًا في سبيل الله في البحر ، فلقوا الروم ، فقربوا سفينته إلى سفينة من سفنهم (4) فاقتحم على الروم في سفينتهم ، فهربوا منه إلى شقها الآخر ، فمالت به وبهم ، فغرقوا جميعًا. (5)
__________
(1) في ر : "في إمرته على المدينة".
(2) في ر : "عليًا".
(3) في ر : "عليًا".
(4) في أ : "سفينتهم".
(5) تفسير الطبري (10/284).

(3/103)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) }.
يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين بتقواه ، وهي إذا قرنت بالطاعة كان المراد بها الانكفاف عن المحارم وترك المنهيات ، وقد قال بعدها : { وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ } قال سفيان الثوري ، حدثنا أبي ، عن طلحة ، عن عطاء ، عن ابن عباس : أي القربة. وكذا قال مجاهد [وعطاء] (1) وأبو وائل ، والحسن ، وقتادة ، وعبد الله بن كثير ، والسدي ، وابن زيد.
وقال قتادة : أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه. وقرأ ابن زيد : { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ } [الإسراء : 57] وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه (2) وأنشد ابن جرير عليه قول الشاعر (3)
إذا غَفَل الواشُون عُدنَا لِوصْلنَا... وعَاد التَّصَافي بَيْنَنَا والوسَائلُ...
والوسيلة : هي التي يتوصل (4) بها إلى تحصيل المقصود ، والوسيلة أيضًا : علم على أعلى منزلة في الجنة ، وهي منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وداره في الجنة ، وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش ، وقد ثبت في صحيح البخاري ، من طريق محمد بن المُنكَدِر ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة ، والصلاة القائمة ، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقامًا محمودا الذي وعدته ، إلا حَلَّتْ له الشفاعة يوم القيامة".
حديث آخر في صحيح مسلم : من حديث كعب عن علقمة ، عن عبد الرحمن بن جُبير ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلُّوا عَليّ ، فإنه من صلى عَليّ صلاة صلى الله عليه بها عشرًا ، ثم سلوا الله لي الوسيلة ، فإنها منزلة
__________
(1) زيادة من ر.
(2) في ر : "لا خلاف فيه بين المفسرين".
(3) البيت في تفسير الطبري (10/290).
(4) في د : "لوصلها".

(3/103)


في الجنة ، لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله ، وأرجو أن أكون أنا هو ، فمن سأل لي الوسيلة حَلًّتْ عليه الشفاعة." (1)
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا سفيان ، عن لَيْث ، عن كعب ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إذا صليتم عَليّ فَسَلُوا لي الوسيلة". قيل : يا رسول الله ، وما الوسيلة ؟ قال : "أعْلَى درجة في الجنة ، لا ينالها إلا رَجُلٌ واحد (2) وأرجو أن أكون أنا هو".
ورواه الترمذي ، عن بُنْدَار ، عن أبي عاصم ، عن سفيان - هو الثوري - عن لَيْث بن أبي سُلَيم ، عن كعب قال : حدثني أبو هريرة ، به. ثم قال : غريب ، وكعب ليس بمعروف ، لا نعرف أحدًا روى عنه غير ليث بن أبي سليم. (3)
طريق أخرى : عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا عبد الباقي بن قانع ، حدثنا محمد بن نصر الترمذي ، حدثنا عبد الحميد بن صالح ، حدثنا أبو شهاب ، عن ليث ، عن المعلى ، عن محمد بن كعب ، عن أبي هريرة رفعه قال : "صلوا عليَّ صلاتكم ، وسَلُوا الله لي الوسيلة". فسألوه وأخبرهم : "أن الوسيلة درجة في الجنة ، ليس ينالها إلا رجل واحد ، وأرجو أن أكونه". (4) (5)
حديث آخر : قال الحافظ أبو القاسم الطبراني : أخبرنا أحمد بن علي الأبار ، حدثنا الوليد بن عبد الملك الحراني ، حدثنا موسى بن أعين ، عن ابن أبي ذئب (6) عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "سلوا الله لي الوسيلة ، فإنه لم يسألها لي عبد في الدنيا إلا كنت له شهيدا - أو : شفيعًا - يوم القيامة".
ثم قال الطبراني : "لم يروه عن ابن أبي ذئب إلا موسى بن أعين". كذا قال ، وقد رواه ابن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن علي بن دحيم ، حدثنا أحمد بن حازم ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، حدثنا موسى بن عبيدة ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، فذكر بإسناده نحوه. (7)
حديث آخر : روى ابن مردويه بإسناده عن عمارة بن غَزِيةَ ، عن موسى بن وَرْدان : أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الوسيلة درجة عند الله ، ليس فوقها درجة ، فسَلُوا
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1384).
(2) في ر : "واحد في الجنة".
(3) المسند (2/265) وسنن الترمذي برقم (3612).
(4) في ر : "أكون" ، وفي أ : "أن أكون هو".
(5) وفي إسناده ليث بن أبي سليم وهو ضعيف.
ورواه البزار في مسنده برقم (252) "كشف الأستار" من طريق آخر ، فرواه من طريق داود بن علية ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن أبي هريرة بنحوه ، وقال الهيثمي : "دواد بن علية ضعيف".
(6) في هـ : "ابن أبي حبيب" وهو خطأ.
(7) المعجم الأوسط للطبراني برقم (639) "مجمع البحرين" وقال الهيثمي في المجمع (1/333) : "فيه الوليد بن عبد الملك الحراني قد ذكره ابن حبان في الثقات ، وقال : مستقيم الحديث إذا روي عن الثقات. قلت : وهذا من روايته عن موسى بن أعين وهو ثقة".

(3/104)


الله أن يؤتيني الوسيلة على خلقه". (1)
حديث آخر : روى ابن مردويه أيضًا من طريقين ، عن عبد الحميد بن بحر : حدثنا شَريك ، عن أبي إسحاق ، عن الحارث ، عن علي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "في الجنة درجة تدعى الوسيلة ، فإذا سألتم الله فسلوا لي الوسيلة". قالوا : يا رسول الله ، من يسكن معك ؟ قال : "علي وفاطمة والحسن والحسين".
هذا حديث غريب منكر من هذا الوجه (2)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا الحسن الدَّشْتَكِيّ ، حدثنا أبو زهير ، حدثنا سعد (3) بن طَرِيف ، عن علي بن الحسين الأزْدِي - مولى سالم بن ثَوْبان - قال : سمعت علي بن أبي طالب ينادي على منبر الكوفة : يا أيها الناس ، إن في الجنة لؤلؤتين : إحداهما بيضاء ، والأخرى صفراء ، أما الصفراء فإنها إلى بُطْنَان العرش ، والمقام المحمود من اللؤلؤة البيضاء سبعون ألف غرفة ، كل بيت منها ثلاثة أميال ، وغرفها وأبوابها وأسرتها وكأنها (4) من عرق واحد ، واسمها الوسيلة ، هي لمحمد صلى الله عليه وسلم وأهل بيته ، والصفراء فيها مثل ذلك ، هي لإبراهيم ، عليه السلام ، وأهل بيته.
وهذا أثر غريب أيضا (5)
وقوله : { وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } لما أمرهم بترك المحارم وفعل الطاعات ، أمرهم بقتال الأعداء من الكفار والمشركين الخارجين عن الطريق المستقيم ، التاركين للدين القويم ، ورغبهم في ذلك بالذي أعده للمجاهدين في سبيله يوم القيامة ، من الفلاح والسعادة العظيمة الخالدة المستمرة التي لا تَبِيد ولا تَحُول ولا تزول في الغرف العالية الرفيعة الآمنة ، الحسنة مناظرها ، الطيبة مساكنها ، التي من سكنها يَنْعَم لا ييأس ، ويحيا لا يموت ، لا تبلى ثيابه ، ولا يفنى شبابه.
ثم أخبر تعالى بما أعد لأعدائه الكفار من العذاب والنكال يوم القيامة ، فقال : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : لو أن أحدهم جاء يوم القيامة بملء الأرض ذهبًا ، وبمثله ليفتدي بذلك من عذاب الله الذي قد أحاط به (6) وتيقن وصوله إليه (7) ما تُقُبل ذلك منه (8) بل لا مندوحة عنه ولا محيص له ولا مناص (9) ؛ ولهذا قال : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : موجع { يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ } كما قال تعالى : { كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا } الآية [الحج : 22] ،
__________
(1) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (640 ، 641) "مجمع البحرين" من طريق عمارة بن غزية به.
(2) ووجه غرابته أنه من رواية عبد الحميد بن بحر البصري ، قال ابن حبان : كان يسرق الحديث ، والحارث هو الأعور كذبه الشعبي وضعفه جماعة.
(3) في ر : "سعيد".
(4) في أ : "وأكوابها".
(5) وفي إسناده سعد بن طريف الإسكافي ، قال ابن معين : لا يحل لأحد أن يروي عنه ، وقال أحمد وأبو حاتم : ضعيف ، وقال النسائي والدارقطني : متروك الحديث ، وقال ابن حبان : كان يضع الحديث على الفور. ميزان الاعتدال (2/122).
(6) في ر : "بهم".
(7) في ر : "إليهم".
(8) في ر : "ما يقبل ذلك منهم".
(9) في ر : "ولا مخلص لهم ولا مناص".

(3/105)


فلا يزالون يريدون الخروج مما هم فيه من شدته وأليم مسه ، ولا سبيل لهم إلى ذلك ، كلما رفعهم اللهب فصاروا في أعالي (1) جهنم ، ضربتهم الزبانية بالمقامع الحديد ، فيردونهم (2) إلى أسفلها ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ } أي : دائم مستمر لا خروج لهم منها ، ولا محيد لهم عنها.
وقد قال حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يُؤتَى بالرجل من أهل النار ، فيقول : يا ابن آدم ، كيف وجدت مَضْجَعك ؟ فيقول : شَرَّ مضجع ، فيقول : هل تفتدي بقُراب الأرض ذهبًا ؟" قال : "فيقول : نعم ، يا رب! فيقول : كذبت! قد سألتك أقل من ذلك فلم تفعل : فيؤمر به إلى النار".
رواه مسلم والنسائي (3) من طريق حماد بن سلمة (4) بنحوه. وكذا رواه البخاري ومسلم (5) من طريق معاذ بن هشام الدَّسْتَوائي ، عن أبيه ، عن قتادة ، عن أنس ، به. وكذا أخرجاه (6) من طريق أبي عمران الجَوْني ، واسمه عبد الملك بن حبيب ، عن أنس بن مالك ، به. ورواه مَطَر الورَّاق ، عن أنس بن مالك ، ورواه ابن مردويه من طريقه ، عنه.
ثم رواه (7) ابن مَردويه ، من طريق المسعودي ، عن يزيد بن صُهَيب الفقير ، عن جابر بن عبد الله ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم [قال] (8) "يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة" قال : فقلت لجابر بن عبد الله : يقول الله : { يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا } قال : اتل أول الآية : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ } الآية ، ألا إنهم الذين كفروا.
وقد روى الإمام أحمد ومسلم هذا الحديث من وجه آخر ، عن يزيد الفقير ، عن جابر (9) وهذا أبسط سياقًا.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسين بن محمد بن شنبة (10) الواسطي ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا مبارك بن فضالة ، حدثني يزيد الفقير قال : جلست إلى جابر بن عبد الله ، وهو يحدث ، فحدّث أن أُنَاسًا (11) يخرجون من النار - قال : وأنا يومئذ أنكر ذلك ، فغضبت وقلت : ما أعجب من الناس ، ولكن أعجب منكم يا أصحاب محمد! تزعمون أن الله يخرج ناسًا من النار ، والله يقول : { يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا [وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ] } (12) فانتهرني أصحابه ، وكان أحلمهم فقال : دعوا الرجل ، إنما ذلك للكفار : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ } حتى بلغ : { وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ } أما تقرأ القرآن ؟ قلت : بلى قد جمعته قال : أليس الله يقول : { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } ؟ [الإسراء : 79]
__________
(1) في أ : "إلى أعلى".
(2) في هـ : "فيردوهم" وهو خطأ ؛ لعدم وجود عامل النصب أو الجزم في الفعل ، والمثبت من أ.
(3) في د : "البخاري".
(4) صحيح مسلم برقم (2807) وسنن النسائي (6/36).
(5) صحيح البخاري برقم (6538) وصحيح مسلم برقم (2805).
(6) صحيح البخاري برقم (6557) وصحيح مسلم برقم (2805).
(7) في أ : "ثم روى".
(8) زيادة من أ ، ر.
(9) المسند (3/355) وصحيح مسلم برقم (191).
(10) في ر : "ابن أبي شيبة" ، وفي أ : "الحسن بن محمد بن شيبة الواسطي".
(11) في ر : "ناسًا".
(12) زيادة من أ ، وفي هـ : "الآية".

(3/106)


وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)

فهو ذلك المقام ، فإن الله [تعالى] (1) يحتبس أقوامًا بخطاياهم في النار ما شاء ، لا يكلمهم ، فإذا أراد أن يخرجهم أخرجهم. قال : فلم أعد بعد ذلك إلى أن أكذب به.
ثم قال ابن مردويه : حدثنا دَعْلَج بن أحمد ، حدثنا عمرو بن حفص السَّدُوسي ، حدثنا عاصم بن علي ، حدثنا العباس بن الفضل ، حدثنا سعيد بن المُهَلَّب ، حدثني طَلْق بن حبيب قال : كنت من أشد الناس تكذيبًا بالشفاعة ، حتى لقيت جابر بن عبد الله ، فقرأت (2) عليه كل آية أقدر عليها يذكر الله [تعالى] (3) فيها خلود أهل النار ، فقال : يا طلق ، أتُرَاك أَقْرَأُ لكتاب الله وأعلم بسنة رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (4) مني ؟ إن الذين قرأت هم أهلها ، هم المشركون ، ولكن هؤلاء قوم أصابوا ذنوبًا فعذبوا ، ثم أخرجوا منها ثم أهوى بيديه (5) إلى أذنيه ، فقال (6) صُمَّتًا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "يخرجون من النار بعدما دخلوا". ونحن نقرأ كما قرأت.
{ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) }
يقول تعالى حاكمًا وآمرًا بقطع يد السارق والسارقة ، وروى الثوري عن جابر بن يزيد الجُعْفي ، عن عامر بن شراحيل الشعبي ؛ أن ابن مسعود كان يقرؤها : "والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما". وهذه قراءة شاذة ، وإن كان الحكم عند جميع العلماء موافقًا لها ، لا بها ، بل هو مستفاد من دليل آخر. وقد كان القطع معمولا به في الجاهلية ، فقُرِّرَ في الإسلام وزيدت شروط أخَر ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى ، كما كانت القسامة والدية والقرَاض وغير ذلك من الأشياء التي ورد الشرع بتقريرها على ما كانت عليه ، وزيادات هي من تمام المصالح. ويقال : إن أول من قطع الأيدي في الجاهلية قريش ، قطعوا رجلا يقال له : "دويك" مولى لبني مُلَيح بن عمرو من خُزَاعة ، كان قد سرق كنز الكعبة ، ويقال : سرقه قوم فوضعوه عنده.
وقد ذهب بعض الفقهاء من أهل الظاهر إلى أنه متى سرق السارق شيئًا قطعت يده به ، سواء كان قليلا أو كثيرًا ؛ لعموم هذه الآية : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } فلم يعتبروا نصابًا ولا حِرْزًا ، بل أخذوا بمجرد السرقة.
وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عبد المؤمن ، عن نَجْدَة الحَنَفِي قال : سألت ابن عباس عن قوله : { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } أخاص أم عام ؟
__________
(1) زيادة من د.
(2) في د : "وقرأت".
(3) زيادة من ر.
(4) زيادة من د ، أ.
(5) في أ : "بيده".
(6) في ر : "ثم قال".

(3/107)


فقال : بل عام.
وهذا يحتمل أن يكون موافقة من ابن عباس لما ذهب إليه هؤلاء ، ويحتمل غير ذلك ، فالله أعلم.
وتمسكوا بما ثبت في الصحيحين ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لَعَن الله السارق ، يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده". (1) وأما الجمهور فاعتبروا النصاب في السرقة ، وإن كان قد وقع بينهم الخلاف في قدره ، فذهب كل من الأئمة الأربعة إلى قول على حِدَةٍ ، فعند الإمام مالك بن أنس ، رحمه الله : النصاب ثلاثة دراهم مضروبة خالصة ، فمتى سرقها أو ما يبلغ ثمنها فما فوقها وجب القطع ، واحتج في ذلك بما رواه عن نافع ، عن ابن عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مِجَن ثمنه ثلاثة دراهم. أخرجاه في الصحيحين. (2)
قال مالك ، رحمه الله : وقطع عثمان ، رضي الله عنه ، في أتْرُجَّة قُوِّمَت بثلاثة دراهم ، وهو أحب ما سمعت في ذلك. وهذا الأثر عن عثمان ، رضي الله عنه ، قد رواه مالك عن عبد الله بن أبي بكر ، عن أبيه ، عن عَمْرة بنت عبد الرحمن : أن سارقًا سرق في زمان عثمان أترجة ، فأمر بها عثمان أن تُقَوم ، فَقُومَت بثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهمًا بدينار ، فقطع عثمان يده. (3)
قال أصحاب مالك : ومثل هذا الصنيع (4) يشتهر ، ولم (5) ينكر ، فمن مثله يحكى الإجماع السُّكوتي ، وفيه دلالة على القطع في الثمار خلافًا للحنفية. وعلى اعتبار ثلاثة دراهم خلافًا لهم في أنه لا بد من عشرة دراهم ، وللشافعية في اعتبار ربع دينار ، والله أعلم.
وذهب الشافعي ، رحمه الله ، إلى أن الاعتبار في قطع يد السارق بربع دينار أو ما يساويه من الأثمان أو العروض فصاعدًا. والحجة (6) في ذلك ما أخرجه الشيخان : البخاري ومسلم ، من طريق الزهري ، عن عَمْرة ، عن عائشة ، رضي الله عنها ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "تقطع يد السارق (7) في ربع دينار فصاعدا". (8)
ولمسلم من طريق أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن عَمْرة ، عن عائشة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا". (9)
قال أصحابنا : فهذا الحديث فاصل في المسألة ونص في اعتبار ربع الدينار لا ما ساواه. قالوا : وحديث ثمن المجن ، وأنه كان ثلاثة (10) دراهم ، لا ينافي هذا ؛ لأنه إذ ذاك كان الدينار باثني عشر
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6799) وصحيح مسلم برقم (1687).
(2) صحيح البخاري برقم (6797) وصحيح مسلم برقم (1686).
(3) الموطأ (2/832).
(4) في ر : "الصنع".
(5) في أ : "فلم".
(6) في ر : "أو الحجة".
(7) في ر : "يقطع السارق".
(8) صحيح البخاري برقم (6789) وصحيح مسلم برقم (1684).
(9) صحيح مسلم (1684).
(10) في أ : "بثلاثة".

(3/108)


درهمًا ، فهي ثمن ربع دينار ، فأمكن الجمع بهذه الطريق.
ويروى هذا المذهبُ عن عُمَر بن الخطاب ، وعثمان بن عفان ، وعلي بن أبي طالب ، رضي الله عنهم. وبه يقول عمر بن عبد العزيز ، والليث بن سعد ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأصحابه ، وإسحاق بن راهويه - في رواية عنه - وأبو ثور ، وداود بن علي الظاهري ، رحمهم الله.
وذهب الإمام أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه - في رواية عنه - إلى أن كل واحد من ربع الدينار والثلاثة دراهم مَرَدٌ شرعي ، فمن سرق واحدًا منهما ، أو ما يساويه قطع عملا بحديث ابن عمر ، وبحديث عائشة ، رضي الله عنهما ، ووقع في لفظ عند الإمام أحمد ، عن عائشة [رضي الله عنها] (1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "اقطعوا في ربع دينار ، ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك" (2) وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم ، والدينار اثني عشر درهمًا. وفي لفظ للنسائي : لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن. قيل (3) لعائشة : ما ثمن المجَن ؟ قالت : ربع دينار. (4)
فهذه كلها نصوص دالة على عدم اشتراط عشرة دراهم ، والله أعلم.
وأما الإمام أبو حنيفة وأصحابه : أبو يوسف ، ومحمد ، وزُفَر ، وكذا سفيان الثوري ، رحمهم الله ، فإنهم ذهبوا إلى أن النصاب عشرة دراهم مضروبة غير مغشوشة. واحتجوا بأن ثمن المجن الذي قطع فيه السارق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان ثمنه عشرة دراهم. وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا ابن نُمَير وعبد الأعلى (5) وعن (6) محمد بن إسحاق ، عن أيوب بن موسى ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : كان ثمن المجن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم. (7)
ثم قال : حدثنا عبد الأعلى ، عن محمد بن إسحاق ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تقطع يد السارق في دون ثمن المِجَن". وكان ثمن المجن عشرة دراهم. (8)
قالوا : فهذا ابن عباس وعبد الله بن عمرو قد خالفا ابن عمر في ثمن المجن ، فالاحتياط الأخذ بالأكثر ؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات.
وذهب بعض السلف إلى أنه تُقْطَعُ يدُ السارق في عشرة دراهم ، أو دينار ، أو ما يبلغ قيمته واحدًا منهما ، يحكى هذا عن علي ، وابن مسعود ، وإبراهيم النَّخَِي ، وأبي جعفر الباقر ، رحمهم الله تعالى.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) المسند (6/80).
(3) في أ : "فقيل".
(4) سنن النسائي (8/80).
(5) في أ : "بن عبد الأعلى" وهو خطأ.
(6) في أ : "حدثنا".
(7) المصنف (9/474) ورواه الدارقطني في السنن (3/191) من طريق محمد بن إسحاق به.
(8) المصنف (9/474) ورواه الدارقطني في السنن (3/190) من طريق محمد بن إسحاق به ، والحديث مضطرب ، اختلف فيه على محمد بن إسحاق - كما ترى - وروي من أوجه أخرى كثيرة

(3/109)


وقال بعض السلف : لا تقطع الخمس إلا في خمس ، أي : في خمسة دنانير ، أو خمسين درهمًا. وينقل هذا عن سعيد بن جبير ، رحمه الله.
وقد أجاب الجمهور عما تمسك به الظاهرية من حديث أبي هريرة : "يَسْرقُ البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده" بأجوبة :
أحدها : أنه منسوخ بحديث عائشة. وفي هذا نظر ؛ لأنه لا بد من بيان التاريخ.
والثاني : أنه مؤول ببيضة الحديد وحبل السفن ، قاله الأعمش فيما حكاه البخاري وغيره عنه.
والثالث : أن هذا وسيلة إلى التدرج في السرقة من القليل إلى الكثير الذي تقطع فيه يده ، ويحتمل أن يكون هذا خرج مخرج الإخبار عما كان الأمر عليه في الجاهلية ، حيث كانوا يقطعون في القليل والكثير ، فلعن السارق الذي يبذل يده الثمينة في الأشياء المهينة.
وقد ذكروا أن أبا العلاء المَعرِّي ، لما قدم بغداد ، اشتهر عنه أنه أورد إشكالا على الفقهاء في جعلهم نصاب السرقة ربع دينار ، ونظم في ذلك شعرًا دل على جهله ، وقلة عقله فقال :
يَدٌ بخمس مئين عسجد وديَتُ (1) ما بالها قُطعَتْ في رُبْع دينار...
تَناقض ما لنا إلا السكوت له... وأن نَعُوذ بمَوْلانا من النارِ (2)
ولما قال ذلك واشتهر عنه تَطَلّبه (3) الفقهاء فهرب منهم. وقد أجابه الناس في ذلك ، فكان جواب القاضي عبد الوهاب المالكي ، رحمه الله ، أنه قال : لما كانت أمينة كانت ثمينة ، فلما خانت هانت. ومنهم من قال : هذا من تمام الحكمة والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة ، فإنه في باب الجنايات ناسب أن تعظم قيمة اليد بخمسمائة دينار لئلا يُجْنى عليها ، وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدر الذي تقطع فيه ربع دينار لئلا يتسارع الناس في سرقة الأموال ، فهذا هو عين الحكمة عند ذوي الألباب ؛ ولهذا قال [تعالى] (4) { جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي : مجازاة على صنيعهما السِّيئ في أخذهما أموال الناس بأيديهم ، فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك { نَكَالا مِنَ اللَّهِ } أي : تنكيلا من الله بهما على ارتكاب ذلك { وَاللَّهُ عَزِيزٌ } أي : في انتقامه { حِكِيمٌ } أي : في أمره ونهيه وشرعه وقدره.
ثم قال تعالى : { فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : من تاب بعد سرقته وأناب إلى الله ، فإن الله يتوب عليه فيما بينه وبينه ، فأما (5) أموال الناس فلا بد من ردها إليهم أو بدلها عند الجمهور.
وقال أبو حنيفة : متى قطع وقد تلفت في يده فإنه لا يرد بدلها. وقد روى الحافظ أبو الحسن الدارقطني من حديث محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بسارق قد سرق شملة فقال : "ما إخَاله سرق"! فقال السارق : بلى يا رسول الله. قال : "اذهبوا به
__________
(1) في ر ، أ : "فديت".
(2) رواهما الذهبي في سير أعلام النبلاء (18/30).
(3) في أ : "فطلبه".
(4) زيادة من ر ، أ.
(5) في د : "وأما".

(3/110)


فاقطعوه ، ثم احسموه ، ثم ائتوني به". فقطع فأتي به ، فقال : "تب إلى الله". فقال : تبت إلى الله. فقال : "تاب الله عليك". (1)
وقد روي من وجه آخر مرسلا ورجح إرساله علي بن المديني وابن خُزَيْمة (2) رحمهما الله ، روى (3) ابن ماجه من حديث ابن لَهِيعَة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن عبد الرحمن بن ثعلبة الأنصاري ، عن أبيه ؛ أن عَمْرو بن سَمُرة بن حبيب بن عبد شمس جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني سرقت جملا لبني فلان فطهرني! فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنا افتقدنا جملا لنا. فأمر به فقطعت يده. قال ثعلبة : أنا أنظر إليه حين وقعت يده وهو يقول : الحمد لله الذي طهرني منك ، أردت أن تدخلي جسدي النار. (4)
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا موسى بن داود ، حدثنا ابن لَهِيعَة ، عن حُيَي بن عبد الله عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي ، عن عبد الله بن عمرو قال : سرقت امرأة حُليًّا ، فجاء الذين سرقتهم فقالوا : يا رسول الله ، سرقتنا هذه المرأة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اقطعوا يدها اليمنى". فقالت المرأة : هل من توبة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك"! قال : فأنزل الله عز وجل : { فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (5)
وقد رواه الإمام أحمد بأبسط من هذا ، فقال : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهيعة ، حدثني حُيَي بن عبد الله ، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي ، عن عبد الله بن عمرو ؛ أن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء بها الذين سرقتهم فقالوا : يا رسول الله ، إن هذه المرأة سرقتنا! قال قومها : فنحن نفديها ، فقال رسول الله : "اقطعوا يدها" فقالوا : نحن نفديها بخمسمائة دينار. قال : "اقطعوا يدها". قال : فقطعت يدها اليمنى. فقالت المرأة : هل لي من توبة يا رسول الله ؟ قال : "نعم ، أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك". فأنزل الله في سورة المائدة : { فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (6)
وهذه المرأة هي المخزومية التي سرقت ، وحديثها ثابت في الصحيحين ، من رواية الزهري ، عن عُرْوَة ، عن عائشة ؛ أن قريشا أهمهم شأنُ المرأة التي سرقت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، في غزوة الفتح ، فقالوا : من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا : ومن يَجْتَرِئ عليه إلا أسامة بن زيد حِبُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأتي بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فكلمه فيها أسامة بن زيد ، فتلوّن وجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "أتشفع في حَدٍّ من حدود الله ، عز وجل ؟" فقال له أسامة : استغفر لي يا رسول الله. فلما كان
__________
(1) سنن الدارقطني (3/102) ورواه الحاكم في المستدرك (4/381) من طريق محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان به موصولا وقال : "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". وسكت عنه الذهبي.
(2) رواه الدارقطني في السنن (3/103) وأبو داود في المراسيل برقم (244) وعبد الرزاق في المصنف برقم (13583) من طريق سفيان عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان مرسلا.
(3) في أ "وقد روى".
(4) سنن ابن ماجة برقم (2588) وقال البوصيري في الزوائد (2/317) : "هذا إسناد ضعيف لضعف عبد الله بن لهيعة".
(5) تفسير الطبري (10/299).
(6) المسند (2/177).

(3/111)


العَشي قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختطب ، فأثنى على الله بما هو أهله ، ثم قال : "أما بعد ، فإنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيفُ أقاموا عليه الحد ، وإني والذي نفسي بيده ، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها". ثم أمر بتلك المرأة التي سرقت فقطعت يدها. قالت عائشة [رضي الله عنها] (1) فحَسنَتْ توبتها بعد ، وتزوجت ، وكانت تأتي بعد ذلك فأرفع حاجتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا لفظ مسلم (2) وفي لفظ له عن عائشة قالت : كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحده ، فأمر نبي الله صلى الله عليه وسلم بقطع يدها. (3)
وعن ابن عمر قال : كانت امرأة مخزومية تستعير متاعًا على ألسنة جاراتها (4) وتجحده ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع يدها.
رواه الإمام أحمد ، وأبو داود والنسائي (5) - وهذا لفظه - وفي لفظ له : أن امرأة كانت تستعير الحلي للناس ثم تمسكه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لتتب هذه المرأة إلى الله ورسوله وترد ما تأخذ على القوم ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قم يا بلال فخذ بيدها (6) فاقطعها" (7)
وقد ورد في أحكام السرقة أحاديث كثيرة مذكورة في كتاب "الأحكام" ، ولله الحمد والمنة.
ثم قال تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي : هو المالك لجميع ذلك ، الحاكم فيه ، الذي لا مُعَقِّبَ لحكمه ، وهو الفعال لما يريد { يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ (8) وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
__________
(1) زيادة من أ.
(2) صحيح البخاري برقم (2648) وصحيح مسلم برقم (1688).
(3) صحيح مسلم برقم (1688).
(4) في ر : "جارتها".
(5) المسند (2/151) وسنن أبي داود برقم (4395) وسنن النسائي (8/70).
(6) في أ : "فخذ يدها".
(7) سنن النسائي (8/71).
(8) في ر : "يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء" وهو خطأ.

(3/112)


يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)

{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) }

(3/113)


{ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ 42 وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) }
نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر ، الخارجين عن طاعة الله ورسوله ، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله ، عز وجل { مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ } أي : أظهروا الإيمان بألسنتهم ، وقلوبهم خراب خاوية منه ، وهؤلاء هم المنافقون. { وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا } أعداء الإسلام وأهله. وهؤلاء كلهم { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } أي : يستجيبون (1) له ، منفعلون عنه { سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } أي : يستجيبون لأقوام آخرين لا يأتون (2) مجلسك يا محمد. وقيل : المراد أنهم يتسمعون الكلام ، ويُنْهُونه إلى أقوام آخرين ممن لا يحضر عندك ، من أعدائك { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } (3) أي : يتأولونه على غير تأويله ، ويبدلونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا }
قيل : نزلت في أقوام من اليهود ، قتلوا قتيلا وقالوا : تعالوا حتى نتحاكم إلى محمد ، فإن أفتانا بالدية فخذوا ما قال ، وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه.
والصحيح أنها نزلت في اليهوديَّيْن (4) اللذين زنيا ، وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم ، من الأمر برجم من أحْصن منهم ، فحرفوا واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة ، والتحميم والإركاب على حمار مقلوبين. فلما وقعت تلك الكائنة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا فيما بينهم : تعالوا حتى نتحاكم إليه ، فإن حكم بالجلد والتحميم فخذوا عنه ، واجعلوه حجة بينكم وبين الله ، ويكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك ، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك.
وقد وردت الأحاديث بذلك ، فقال مالك ، عن نافع ، عن عبد الله بن عمر أنه قال : أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟" فقالوا : نفضحهم ويُجْلَدون. قال عبد الله بن سلام : كذبتم ، إن فيها الرجم. فأتوا بالتوراة فنشروها ، فوضع أحدهم يده على آية الرجم ، فقرأ (5) ما قبلها وما بعدها ، فقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك. فرفع يده فإذا فيها آية الرجم ، فقالوا (6) صدق (7) يا محمد ، فيها
__________
(1) في د ، أ : "مستجيبون".
(2) في أ : "لم يأتون" وهو خطأ ؛ لأن الفعل مجزوم.
(3) في أ : "من بعض" وهو خطأ.
(4) في أ : "في اليهود".
(5) في ر : "فقال".
(6) في ر ، أ : "قالوا".
(7) في أ : "صدقت".

(3/113)


آية الرجم! فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما (1) فرأيت الرجل يَحْني على المرأة يقيها الحجارة.
وأخرجاه (2) وهذا لفظ البخاري. وفي لفظ له : "فقال لليهود : ما تصنعون بهما ؟" قالوا : نُسخّم وجوههما ونُخْزِيهما. قال : { فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [آل عمران : 93] فجاءوا ، فقالوا لرجل منهم ممن يرضون أعورَ : اقرأ ، فقرأ حتى انتهى إلى موضع منها فوضع يده عليه ، قال : ارفع يدك. فرفع ، فإذا آية الرجم تلوح ، قال : يا محمد ، إن فيها آية الرجم ، ولكنا نتكاتمه بيننا. فأمر بهما فَرُجما. (3)
وعند مسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بيهودي ويهودية قد زنيا ، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يَهُود ، فقال : "ما تجدون في التوراة على من زنى ؟" قالوا : نُسَوّد وجوههما ونُحَمّلهما ، ونخالف بين وجوههما ويُطَاف بهما ، قال : { فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } قال : فجاءوا بها ، فقرأوها ، حتى إذا مر بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم ، وقرأ ما بين يديها وما وراءها. فقال له عبد الله بن سَلام - وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - : مُرْه فلْيرفع يده. فرفع يده ، فإذا تحتها آيةُ الرجم. فأمر بهما رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فَرُجما. قال عبد الله بن عمر : كنت فيمن رجمهما ، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه. (4)
وقال أبو داود : حدثنا أحمد بن سعيد الهَمْداني ، حدثنا ابن وَهْب ، حدثنا هشام بن سعد ؛ أن زيد بن أسلم حَدثه ، عن ابن عمر قال : أتَى نفر من اليهود ، فدعَوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القُفِّ فأتاهم في بيت المِدْارس ، فقالوا : يا أبا القاسم ، إن رجلا منا زنى بامرأة ، فاحكم قال : ووضعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة ، فجلس عليها ، ثم قال : "ائتوني بالتوراة". فأتي بها ، فنزع الوسادة من تحته ، ووضع التوراة عليها ، وقال : "آمنت بك وبمن أنزلك". ثم قال : "ائتوني بأعلمكم". فأتي بفتى شاب ، ثم ذكر قصة الرجم نحو حديث مالك عن نافع. (5)
وقال الزهري : سمعت رجلا من مُزَيْنَة ، ممن يتبع العلم ويعيه ، ونحن عند ابن المسيب ، عن أبي هريرة قال : زنى رجل من اليهود بامرأة ، فقال بعضهم لبعض : اذهبوا إلى هذا النبي ، فإنه بعث بالتخفيف ، فإن أفتانا بفُتْيا دون الرجم قبلناها ، واحتججنا بها عند الله ، قلنا : فتيا نبي من أنبيائك ، قال : فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في أصحابه ، فقالوا : يا أبا القاسم ، ما تقول في رجل وامرأة منهم زنيا ؟ فلم يكلمهم كلمة حتى أتى بيت مِدْارسهم ، فقام على الباب فقال : "أنْشُدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحْصنَ ؟ قالوا : يُحَمَّم ، ويُجبَّه ويجلد. والتجبية : أن يحمل الزانيان على حمار ، وتقابل أقفيتهما ، ويطاف بهما. قال : وسكت شاب
__________
(1) في ر : "فرجمهما".
(2) الموطأ (2/819) وصحيح البخاري برقم (3635 ، 6841) وصحيح مسلم برقم (1699).
(3) صحيح البخاري برقم (7543).
(4) صحيح مسلم برقم (1699).
(5) سنن أبي داود برقم (4449).

(3/114)


منهم ، فلما رآه رسول الله (1) صلى الله عليه وسلم سكت ، ألَظَّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم النَّشْدة ، فقال : اللهم إذ نشدتنا ، فإنا نجد في التوراة الرجم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "فما أول ما ارتخصتم أمر الله ؟" قال : زنى ذُو قرابة من ملك من ملوكنا ، فأخَّر عنه الرجم ، ثم زنى رجل في إثره من الناس ، فأراد رجمه ، فحال قومه دونه وقالوا : لا يرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه! فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "فإني أحكم بما في التوراة" فأمر بهما فرجما. قال الزهري : فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم : { إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا } فكان النبي صلى الله عليه وسلم منهم.
رواه أحمد ، وأبو داود - وهذا لفظه - وابن جرير (2)
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن عبد الله بن مُرّة ، عن البراء بن عازب قال : مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي محمَّم مجلود ، فدعاهم فقال : "أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم ؟" فقالوا : نعم ، فدعا رجلا من علمائهم فقال : "أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى ، أهكذا تجدون حَدَّ الزاني في كتابكم ؟" فقال : لا والله ، ولولا أنك نَشَدتني بهذا لم أخبرك ، نجد حد الزاني في كتابنا الرجم ، ولكنه كثر في أشرافنا ، فكنا إذا أخذنا الشريفَ تركناه ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد ، فقلنا : تعالوا حتى نجعل شيئًا نقيمه على الشريف والوَضِيع ، فاجتمعنا على التحميم والجلد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه". قال : فأمر به فرجم ، قال : فأنزل الله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ } إلى قوله : { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ } يقولون : ائتوا محمدًا ، فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه ، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا ، إلى قوله : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } قال : في اليهود إلى قوله : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } قال : في اليهود (3) { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } قال : في الكفار كلها.
انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، من غير وجه ، عن الأعمش ، به. (4)
وقال الإمام أبو بكر عبد الله بن الزبير الحُمَيدي في مسنده : حدثنا سفيان بن عُيَيْنَة ، عن مُجالد بن (5) سعيد الهَمْدَاني ، عن الشعبي ، عن جابر بن عبد الله قال : زنى رجل من أهل فَدَك ، فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود بالمدينة أن سلوا محمدًا عن ذلك ، فإن أمركم بالجلد فخذوه عنه ، وإن أمركم
__________
(1) في أ : "النبي".
(2) المسند برقم (7747) ط (شاكر) وسنن أبي داود برقم (4450) وتفسير الطبري (10/305) وانظر : حاشية العلامة أحمد شاكر على المسند.
(3) في أ : "النصارى".
(4) صحيح مسلم برقم (1700) وسنن أبي داود برقم (4448) وسنن النسائي الكبرى برقم (7218) وسنن ابن ماجة برقم (2558).
(5) في ر : "عن".

(3/115)


بالرجم فلا تأخذوه عنه ، تسألوه عن ذلك ، قال : "أرسلوا إليّ أعلم رجلين فيكم". فجاءوا برجل أعور - يقال له : ابن صوريا - وآخر ، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : "أنتما أعلم من قبلكما ؟". فقالا قد دعانا قومنا لذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما : "أليس عندكما التوراة فيها حكم الله ؟" قالا بلى ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "فأنشدكم بالذي فَلَق البحر لبني إسرائيل ، وظَلّل عليكم الغَمام ، وأنجاكم من آل فرعون ، وأنزل المن والسَّلْوى على بني إسرائيل : ما تجدون في التوراة في شأن الرجم ؟" فقال أحدهما للآخر : ما نُشدْتُ بمثله قط. قالا نجد ترداد النظر زنية والاعتناق زنية ، والقبل زنية ، فإذا شهد أربعة أنهم رأوه يبدئ ويعيد ، كما يدخل الميل في المُكْحُلة ، فقد وجب الرجم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "هو ذاك". فأمر به فَرُجمَ ، فنزلت : { فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ } (1)
ورواه أبو داود وابن ماجه ، من حديث مُجالد ، به (2) نحوه. ولفظ أبي داود عن جابر قال : جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا ، فقال : "ائتوني بأعلم رجلين منكم". فأتوا بابني صوريا ، فنشدهما : "كيف تجدان أمر هذين في التوراة ؟" قالا نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المُكْحُلة رجما ، قال : "فما يمنعكم أن ترجموهما ؟" قالا ذهب سلطاننا ، فكرهنا القتل. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود ، فجاءوا أربعة ، فشهدوا أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما.
ثم رواه أبو داود ، عن الشعبي وإبراهيم النَّخَعِي ، مرسلا (3) ولم يذكر فيه : "فدعا بالشهود (4) فشهدوا".
فهذه أحاديث (5) دالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بموافقة حكم التوراة ، وليس هذا من باب الإلزام لهم بما يعتقدون صحته ؛ لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة ، ولكن هذا بوحي خاص من الله ، عز وجل (6) إليه بذلك ، وسؤاله إياهم عن ذلك ليقررهم على ما بأيديهم ، مما تراضوا (7) على كتمانه وجحده ، وعدم العمل (8) به تلك الدهور الطويلة فلما اعترفوا به مع عَملهم (9) على خلافه ، بأن زيغهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم ، وعدولهم إلى تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كان عن هوى منهم وشهوة لموافقة آرائهم ، لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به لهذا قالوا (10) { إِنْ } (11) أُوتِيتُمْ هَذَا والتحميم { فَخُذُوهُ } أي : اقبلوه { وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا } أي : من قبوله واتباعه.
قال الله تعالى : { وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ }
__________
(1) مسند الحميدي (2/541).
(2) سنن أبي داود برقم (4452) وسنن ابن ماجة برقم (2328).
(3) سنن أبي داود برقم (4453).
(4) في ر : "الشهود".
(5) في أ : "الأحاديث".
(6) في أ : "الله تعالى".
(7) في ر : "تواصوا".
(8) في ر : "العلم".
(9) في ر : "علمهم".
(10) في ر : "قال".
(11) في ر : "وإن".

(3/116)


أي : الباطل { أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } أي : الحرام ، وهو الرشوة كما قاله ابن مسعود وغير واحد (1) أي : ومن كانت هذه صفته كيف يطهر الله قلبه ؟ وأنى يستجيب له.
ثم قال لنبيه : { فَإِنْ جَاءُوكَ } أي : يتحاكمون إليك { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا } أي : فلا عليك ألا تحكم بينهم ؛ لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق ، بل ما وافق (2) هواهم.
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعِكْرِمَة ، والحسن ، وقتادة ، والسُّدِّي ، وزيد بن أسلم ، وعطاء الخراساني : هي منسوخة بقوله : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ } [المائدة : 49] ، { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ } أي : بالحق والعدل وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق (3) العدل { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }
ثم قال تعالى - منكرًا عليهم في آرائهم الفاسدة ومقاصدهم (4) الزائغة ، في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم ، الذي يزعمون أنهم مأمورون بالتمسك به أبدًا ، ثم خرجوا عن حكمه وعدلوا إلى غيره ، مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه وعدم لزومه لهم - فقال : { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ }
ثم مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران ، فقال : { إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا } أي : لا يخرجون عن حكمها ولا يبدلونها ولا يحرفونها { وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ } أي : وكذلك الربانيون منهم وهم العباد العلماء ، والأحبار وهم العلماء (5) { بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ } أي : بما استودعوا من كتاب الله الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به { وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } أي : لا تخافوا منهم وخافوني (6) { وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } فيه قولان سيأتي بيانهما. سبب آخر لنزول هذه الآيات الكريمة. (7)
قال (8) الإمام أحمد : حدثنا إبراهيم بن العباس ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد ، عن أبيه ، عن عُبيد الله (9) بن عبد الله ، عن ابن عباس قال : إن الله أنزل : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } و { فَأُولَئِكَ (10) هُمُ الظَّالِمُونَ } [المائدة : 45]{ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } [المائدة : 47] (11) قال : قال ابن عباس : أنزلها الله في الطائفتين من اليهود ، كانت إحداهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية ، حتى ارتضوا أو اصطلحوا (12) على أن كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون
__________
(1) في ر : "ذلك".
(2) في أ : "ما يوافق".
(3) في ر : "الطريق".
(4) في ر ، أ : "وقصودهم".
(5) في أ : "أي : وكذلك الربانيون والأحبار ، وهم العلماء والعباد".
(6) في ر ، أ : "وخافوا مني".
(7) في أ : "الكريمات".
(8) في ر : "وقال".
(9) في ر : "عبد الله".
(10) في ر ، أ ، هـ : "وأولئك" والصواب ما أثبتناه.
(11) في ر ، أ ، هـ : "وأولئك" والصواب ما أثبتناه.
(12) في ر : " ارتضوا واصطلحوا".

(3/117)


وَسَقا ، وكل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق ، فكانوا على ذلك حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، فذلت الطائفتان كلتاهما ، لمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويومئذ لم يظهر ، ولم يوطئهما عليه ، وهو (1) في الصلح ، فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا فأرسلت العزيزة إلى الذليلة : أن ابعثوا لنا بمائة وسق ، فقالت الذليلة : وهل كان هذا في حيين قط دينهما واحد ، ونسبهما واحد ، وبلدهما واحد : دية بعضهم نصف دية بعض. إنما أعطيناكم هذا ضيمًا منكم لنا ، وفَرقًا منكم ، فأما إذ قدم محمد فلا نعطيكم ذلك ، فكادت الحرب تهيج بينهما ، ثم ارتضوا على أن يجعلوا (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ، ثم ذكرت العزيزة فقالت : والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم (3) ولقد صدقوا ، ما أعطونا هذا إلا ضيمًا منا وقهرًا لهم ، فدسّوا إلى محمد : من يَخْبُر لكم رأيه ، إن أعطاكم ما تريدون حَكمتموه وإن لم يعطكم حُذّرتم فلم تحكموه. فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناسًا من المنافقين ليَخْبُروا لهم رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاءوا (4) رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأمرهم كله ، وما أرادوا ، فأنزل الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ } إلى قوله : { الْفَاسِقُونَ } ففيهم - والله - أنزل ، وإياهم عنى الله ، عز وجل. (5)
ورواه أبو داود من حديث ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، بنحوه.
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا هَنَّاد بن السري وأبو كُرَيْب (6) قالا حدثنا يونس بن بُكَيْر ، عن محمد بن إسحاق ، حدثني داود بن الحصين ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس ؛ أن الآيات في "المائدة" ، قوله : { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } إلى { الْمُقْسِطِينَ } إنما أنزلت (7) في الدية في بني النَّضير وبني قُرَيْظَة ، وذلك أن قتلى (8) بني النضير ، كان لهم شرف ، تُؤدَى الدية كاملة ، وأن قريظة كانوا يُودَوْن نصف الدية فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله ذلك فيهم ، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك ، فجعل الدية في ذلك سواء - والله أعلم أي ذلك كان.
ورواه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي من حديث ابن إسحاق. (9) (10)
ثم قال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا عبيد الله (11) بن موسى ، عن علي بن صالح ، عن سِمَاك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كانت قريظة والنضير (12) وكانت النضير أشرف من قريظة ، فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به ، وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ، ودي مائة وسق تمر. فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ، فقالوا : ادفعوه إلينا (13) فقالوا : بيننا وبينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنزلت : { وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ }
ورواه أبو داود والنسائي ، وابن حِبَّان ، والحاكم في المستدرك ، من حديث عبيد الله بن موسى ،
__________
(1) في أ : "وهم".
(2) في ر : "جعلوا".
(3) في أ : "والله يا محمد نعطيكم منهم ضعفا ما يعطيكم منكم".
(4) في ر ، أ : "جاء".
(5) المسند (1/246).
(6) في أ : "وابن كريب".
(7) في ر : "نزلت".
(8) في ر : "قتل".
(9) في أ : "إسحاق به".
(10) تفسير الطبري (10/326) والمسند (1/363) وسنن أبي داود برقم (3591) وسنن النسائي (8/19).
(11) في ر : "عبد الله".
(12) في ر : "وللنضير".
(13) في ر : "إليه".

(3/118)


بنحوه. (1)
وهكذا قال قتادة ، ومُقاتل بن حَيَّان ، وابن زيد وغير واحد.
وقد روى العَوْفِيّ ، وعلي بن أبي طلحة الوالبي ، عن ابن عباس : أن هذه الآيات نزلت في اليهوديين اللذين زنيا ، كما تقدمت الأحاديث بذلك. وقد يكون اجتمع هذان السببان في وقت واحد ، فنزلت هذه الآيات في ذلك كله ، والله أعلم.
ولهذا قال بعد ذلك : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } (2) إلى آخرها ، وهذا يقوي أن (3) سبب النزول قضية القصاص ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقوله : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } قال البراء بن عازب ، وحذيفة بن اليمان ، وابن عباس ، وأبو مِجْلزٍ ، وأبو رَجاء العُطارِدي ، وعِكْرِمة ، وعبيد الله بن عبد الله ، والحسن البصري ، وغيرهم : نزلت في أهل الكتاب - زاد الحسن البصري : وهي علينا واجبة.
وقال عبد الرزاق (4) عن سفيان الثوري ، عن منصور ، عن إبراهيم قال : نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل ، ورضي الله لهذه الأمة بها. رواه (5) ابن جرير.
وقال ابن جرير أيضًا : حدثنا يعقوب ، حدثنا هُشَيْم ، أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان ، عن سلمة بن كُهَيل ، عن عَلْقَمَة ومسروق (6) أنهما سألا ابن مسعود عن الرشوة فقال : من السُّحْت : قال : فقالا وفي الحكم ؟ قال : ذاك الكفر! ثم تلا { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }
وقال السُّدِّي : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } يقول : ومن لم يحكم بما أنزلتُ (7) فتركه عمدًا ، أو جار وهو يعلم ، فهو من الكافرين [به] (8)
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } قال : من جحد ما أنزل الله فقد كفر. ومن أقر به ولم يحكم فهو ظالم فاسق. رواه ابن جرير.
ثم اختار أن الآية المراد بها أهل الكتاب ، أو من جحد حكم الله المنزل في الكتاب.
وقال عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن زكريا ، عن الشعبي : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ } قال : للمسلمين.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا عبد الصمد ، حدثنا شعبة ، عن ابن أبي السفر ، عن الشعبي : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } قال : هذا في المسلمين ، { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }
__________
(1) تفسير الطبري (10/327) وسنن أبي داود برقم (4494) وسنن النسائي (8/18) والمستدرك (4/366)
(2) في أ : "بالعين والأنف".
(3) في ر ، أ : "في".
(4) في ر : "عبد الوارث".
(5) في ر : "ورواه".
(6) في ر : "عن مسروق".
(7) في أ : "أنزل الله".
(8) زيادة من أ.

(3/119)


وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)

قال : هذا في اليهود ، { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } قال : هذا في النصارى.
وكذا رواه هُشَيْم والثوري ، عن زكريا بن أبي زائدة ، عن الشعبي.
وقال عبد الرزاق أيضًا : أخبرنا مَعْمَر ، عن ابن طاوس (1) عن أبيه قال : سئل ابن عباس عن قوله : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ [بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ] } (2) قال : هي به كفر - قال ابن طاوس : وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله.
وقال الثوري ، عن ابن جُرَيْج (3) عن عطاء أنه قال : كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق. رواه ابن جرير.
وقال وَكِيع عن سفيان ، عن سعيد المكي ، عن طاوس : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } قال : ليس بكفر ينقل عن الملة. (4)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن هشام بن حُجَير ، عن طاوس ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } قال : ليس بالكفر الذي يذهبون إليه.
ورواه الحاكم في مستدركه ، عن حديث سفيان بن عيينة ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. (5)
{ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالأذُنَ بِالأذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) }
وهذا أيضًا مما وُبّخَتْ به اليهود وقرعوا عليه ، فإن عندهم في نص التوراة : أن النفس بالنفس. وهم يخالفون ذلك عمدًا وعنادًا ، ويُقيدون النضري من القرظي ، ولا يُقيدون القرظي من النضري ، بل يعدلون إلى الدية ، كما خالفوا حكم التوراة المنصوص عندهم في رجم الزاني المحصن ، وعدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإشهار ؛ ولهذا قال هناك : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } لأنهم جحدوا حكم الله قصدًا منهم وعنادًا وعمدًا ، وقال هاهنا : { فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه ، فخالفوا وظلموا ، وتعدى بعضهم على بعض. (6)
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن آدم ، حدثنا ابن المبارك ، عن يونس بن يزيد ، عن أبي علي
__________
(1) في أ : "عباس".
(2) زيادة من أ ، وفي هـ : "الآية".
(3) في ر : "جرير".
(4) تفسير الطبري (10/355).
(5) المستدرك (2/313).
(6) في أ : "وتعدوا على بعض بعضا".

(3/120)


بن يزيد - أخى يونس بن يزيد - عن الزهري ، عن أنس بن مالك ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأها : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } نصب النفس ورفع العين.
وكذا رواه أبو داود ، والترمذي والحاكم في مستدركه ، من حديث عبد الله بن المبارك (1) وقال الترمذي : حسن غريب.
وقال البخاري : تفرد ابن المبارك بهذا الحديث. (2)
وقد استدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا ، إذا حكي مقررًا ولم ينسخ ، كما هو المشهور عن الجمهور ، وكما حكاه الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني عن نص الشافعي وأكثر الأصحاب بهذه الآية ، حيث كان الحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة.
وقال الحسن البصري : هي عليهم وعلى الناس عامة. رواه ابن أبي حاتم.
وقد حكى الشيخ أبو زكريا النووي في هذه المسألة ثلاثة أوجه ثالثها : أن شرع إبراهيم حجة دون غيره ، وصحح منها عدم الحجية ، ونقلها الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني أقوالا عن الشافعي ورجح أنه حجة عند الجمهور من أصحابنا ، فالله أعلم.
وقد حكى الإمام أبو نصر بن الصباغ ، رحمه الله ، في كتابه "الشامل" إجماع العلماء على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلت عليه ، وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة بعموم هذه الآية الكريمة ، وكذا ورد في الحديث الذي رواه النسائي وغيره : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم : "أن الرجل يقتل بالمرأة" وفي الحديث الآخر : "المسلمون تتكافأ دماؤهم" (3) وهذا قول جمهور العلماء.
وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها ، إلا أن يدفع وليها إلى أوليائه نصف الدية ؛ لأن ديتها على النصف من دية الرجل ، وإليه ذهب أحمد في روايته [عنه] (4) وحكي (5) [هذا] (6) عن الحسن [البصري] (7) وعطاء ، وعثمان البتي ، ورواية عن أحمد (8) [به] (9) أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها ، بل تجب (10) ديتها.
وهكذا احتج أبو حنيفة ، رحمه الله تعالى ، بعموم هذه الآية على أنه يقتل المسلم بالكافر الذمي ، وعلى قتل الحر بالعبد ، وقد خالفه الجمهور فيهما ، ففي الصحيحين عن أمير المؤمنين علي ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يقتل مسلم بكافر" (11) وأما العبد فعن السلف في (12) آثار
__________
(1) المسند (3/215) وسنن أبي داود برقم (3977) وسنن الترمذي برقم (2929).
(2) في أ : "تفرد به ابن المبارك".
(3) روي من حديث عبد الله بن عباس : أخرجه ابن ماجة في السنن برقم (2683) من طريق سليمان عن أبيه ، عن حنش ، عن عكرمة ، عن ابن عباس. وقال البوصيري في الزوائد (2/353) : "هذا إسناد ضعيف لضعف حنش واسمه حسين بن قيس". وروي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص : أخرجه أبو داود في السنن برقم (4531) من طريق يحيى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
(4) زيادة من ر ، أ.
(5) في ر : "ويحكى".
(6) زيادة من ر ، أ.
(7) زيادة من ر ، أ.
(8) في ر ، أ : "وعن أحمد رواية".
(9) زيادة من أ.
(10) في ر : "وتجب" ، وفي أ : "يجب".
(11) صحيح البخاري برقم (6903).
(12) في د : "فيه".

(3/121)


متعددة : أنهم لم يكونوا يُقيدون العبد من الحر ، ولا يقتلون حرًا بعبد ، وجاء في ذلك أحاديث لا تصح ، وحكى الشافعي الإجماع على خلاف قول الحنفية في ذلك ، ولكن لا يلزم من ذلك بطلان قولهم إلا بدليل مخصص للآية الكريمة.
ويؤيد ما قاله (1) ابن الصباغ من الاحتجاج بهذه الآية الكريمة الحديث الثابت في ذلك ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا محمد بن أبي عَدِيّ ، حدثنا حُمَيْد ، عن أنس بن مالك : أن الرُّبَيع عَمّة أنس كسرت ثَنيَّة جارية ، فطلبوا إلى القوم العفو ، فأبوا ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "القصاص". فقال أخوها أنس بن النضر : يا رسول الله تكسر ثنية فلانة ؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا أنس ، كتاب الله القصاص". قال : فقال : لا والذي بعثك بالحق ، لا تكسر ثنية فلانة. قال : فرضي القوم ، فعفوا وتركوا القصاص ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبَّره".
أخرجاه في الصحيحين (2) وقد رواه محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري ، في الجزء المشهور من حديثه ، عن حميد ، عن أنس بن مالك ؛ أن الرُّبَيع بنت النضر عَمَّته لطمت جارية فكسرت ثنيتها فعرضوا عليهم الأرش ، فأبوا فطلبوا الأرش والعفو فأبوا ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم بالقصاص ، فجاء أخوها أنس بن النضر فقال : يا رسول الله أتكسر ثنية الربيع ؟ والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "يا أنس كتاب الله القصاص". فعفا القوم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره". رواه البخاري عن الأنصاري. فأما الحديث الذي رواه أبو داود :
حدثنا أحمد بن حنبل ، حدثنا معاذ بن هشام ، حدثنا أبي ، عن قتادة ، عن أبي نَضرة ، عن عمران بن حصين ، أن غلامًا لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء ، فأتى أهله النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ، إنا أناس فقراء ، فلم يجعل عليه شيئًا. وكذا رواه النسائي عن إسحاق بن راهويه ، عن معاذ بن هشام الدستوائي ، عن أبيه عن قتادة ، به (3) وهذا إسناد قوي رجاله كلهم ثقات فإنه حديث مشكل ، اللهم إلا أن يقال : إن الجاني كان قبل البلوغ ، فلا قصاص عليه ، ولعله تحمل أرش ما نقص من غلام الأغنياء عن الفقراء ، أو استعفاهم عنه.
وقوله تعالى : { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : تقتل النفس بالنفس ، وتفقأ العين بالعين ، ويقطع الأنف بالأنف ، وتنزع السن بالسن ، وتقتص الجراح بالجراح.
فهذا يستوي فيه أحرار المسلمين [به] (4) فيما بينهم ، رجالهم ونساؤهم ، إذا كان عمدًا في النفس وما دون النفس ، ويستوي فيه العبيد رجالهم ونساؤهم فيما بينهم إذا كان عمدًا ، في النفس وما دون النفس ، رواه ابن جرير (5) وابن أبي حاتم.
__________
(1) في ر : "ما قال".
(2) المسند (3/128) وصحيح البخاري برقم (6894) وصحيح مسلم برقم (1675).
(3) سنن أبي داود برقم (4590) وسنن النسائي الكبرى برقم (6953).
(4) زيادة من أ.
(5) في د : "جريج".

(3/122)


قاعدة مهمة :
الجراح تارة تكون في مَفْصِل ، فيجب فيه القصاص بالإجماع ، كقطع اليد والرجل والكف والقدم ونحو ذلك. وأما إذا لم تكن الجراح (1) في مفصل بل في عظم ، فقال مالك ، رحمه الله : فيه القصاص إلا في الفخذ وشبهها ؛ لأنه مخوف خطر. وقال أبو حنيفة وصاحباه : لا يجب القصاص في شيء من العظام (2) إلا في السن. وقال الشافعي : لا يجب القصاص في شيء من العظام مطلقًا ، وهو مروي عن عمر بن الخطاب ، وابن عباس. وبه يقول عطاء ، والشعبي ، والحسن البصري ، والزهري ، وإبراهيم النَّخَعِي ، وعمر بن عبد العزيز. وإليه ذهب سفيان الثوري ، والليث بن سعد. وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد.
وقد احتج أبو حنيفة ، رحمه الله ، بحديث الرُّبَيع بنت النضر على مذهبه أنه لا قصاص في عظم إلا في السن. وحديثُ الربيع لا حجة فيه ؛ لأنه ورد بلفظ : "كَسَرَتْ ثَنيَّة جارية" وجائز أن تكون (3) سقطت من غير كسر ، فيجب القصاص - والحالة هذه - بالإجماع. وتمموا الدلالة. بما رواه ابن ماجه ، من طريق أبي بكر بن عَيَّاش ، عن دهْثَم (4) بن قُرَّان ، عن نِمْرَان بن جارية ، عن أبيه جارية بن ظفر الحنفي ؛ أن رجلا ضرب رجلا على ساعده بالسيف من غير المفصل ، فقطعها ، فاستعدى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمر له بالدية ، فقال : يا رسول الله ، أُريد القصاص. فقال : "خذ الدية ، بارك الله لك فيها". ولم يقض له بالقصاص. (5)
وقال الشيخ أبو عمر بن عبد البر : ليس لهذا الحديث غير هذا الإسناد ، وَدَهْثَم (6) بن قُرَّان العُكلي ضعيف أعرابي ، ليس حديثه مما يحتج به ، ونمران بن جارية ضعيف أعرابي أيضًا ، وأبوه جارية بن ظفر مذكور في الصحابة. (7)
ثم قالوا : لا يجوز أن يقتص من الجراحة حتى تَنْدَمِل جراحة المجني عليه ، فإن اقتص منه قبل الاندمال ثم زاد جرحه ، فلا شيء له ، والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد : حدثنا يعقوب ، حدثنا أبي ، عن محمد بن إسحاق ، فذكر حديثًا ، قال ابن إسحاق : وذكر عَمْرو (8) بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ؛ أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته ، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أقدني. فقال صلى الله عليه وسلم : "لا تعجل حتى يبرأ جرحك". قال : فأبى الرجل إلا أن يستقيد ، فأقاده رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ، قال : فعرج المستقيد وبرأ المستقاد منه ، فأتى المستقيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : يا رسول الله ، عرجت وبرأ صاحبي. فقال : "قد نهيتك فعصيتني ، فأبعدك الله وبطل عرجك". ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه. تفرد به أحمد. (9)
مسألة :
فلو اقتص المجني عليه من الجاني ، فمات من القصاص ، فلا شيء عليه عند مالك ، والشافعي ،
__________
(1) في ر : "يكن الجراحة".
(2) في أ : "العظام مطلقا".
(3) في ر : "يكون".
(4) في أ : "دهيم".
(5) سنن ابن ماجة برقم (2636).
(6) في أ : "دهيم".
(7) الاستذكار (25/287).
(8) في ر : "وذكر عن عمرو".
(9) المسند (2/217)

(3/123)


وأحمد بن حنبل ، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين وغيرهم. وقال أبو حنيفة : تجب الدية في مال المقتص. وقال عامر الشعبي ، وعطاء ، وطاوس ، وعمرو بن دينار ، والحارث العُكْلِي ، وابن أبي ليلى ، وحماد بن أبي سليمان ، والزهري ، والثوري : تجب الدية على عاقلة المقتص له. وقال ابن مسعود ، وإبراهيم النَّخعي ، والحكم بن عتَيبة (1) وعثمان البَتِّيّ : يسقط عن المقتص له قدر تلك الجراحة ، ويجب الباقي في ماله.
وقوله : { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } يقول : فمن عفا عنه ، وتصدق عليه فهو كفارة للمطلوب ، وأجر للطالب.
وقال سفيان الثوري ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } قال : كفارة للجارح ، وأجر المجروح (2) على الله ، عز وجل. رواه ابن أبي حاتم ، ثم قال : وروي عن خيثمة بن عبد الرحمن ، ومجاهد ، وإبراهيم - في أحد قوليه - وعامر الشعبي ، وجابر بن زيد - نحو ذلك الوجه الثاني ، ثم قال ابن أبي حاتم :
حدثنا حماد بن زاذان ، حدثنا حرمي - يعني ابن عمارة - حدثنا شعبة ، عن عمارة - يعني ابن أبي حفصة - عن رجل ، عن جابر بن عبد الله ، في قول الله ، عز وجل (3) { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } قال : للمجروح. وروى عن الحسن البصري ، وإبراهيم النخعي - في أحد قوليه - وأبي إسحاق الهمداني ، نحو ذلك.
وروى ابن جرير ، عن عامر الشعبي وقتادة ، مثله.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود الطيالسي ، حدثنا شعبة ، عن قيس - يعني بن مسلم - قال : سمعت طارق بن شهاب يحدث ، عن الهيثم أبي (4) العريان النخعي قال : رأيت عبد الله بن عمرو عند معاوية أحمر شبيهًا بالموالي ، فسألته عن قول الله [عز وجل] (5) { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } قال : يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تَصدق به.
وهكذا رواه سفيان الثوري عن قيس بن مسلم. وكذا رواه ابن جرير من طريق سفيان وشعبة.
وقال ابن مَرْدُويَه : حدثني محمد بن علي ، حدثنا عبد الرحيم بن محمد المُجَاشِعي ، حدثنا محمد بن أحمد بن الحجاج المهري ، حدثنا يحيى بن سليمان الجُعْفي ، حدثنا مُعلَّى - يعني ابن هلال (6) - أنه سمع أبان بن تغلب ، عن أبي العريان الهيثم بن الأسود ، عن عبد الله بن عمرو - وعن أبان بن تغلب ، عن الشعبي ، عن رجل من الأنصار عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } قال : هو الذي تكسر سنه ، أو تقطع يده ، أو يقطع الشيء (7) منه ، أو يجرح في بدنه فيعفو عن ذلك ، وقال فَيُحَطّ عنه قدر خطاياه ، فإن كان ربع الدية فربع خطاياه ، وإن كان الثلث فثلث خطاياه ، وإن
__________
(1) في ر ، أ : "عيينة".
(2) في ر : "للمجروح".
(3) في أ : "تعالى".
(4) في هـ ، ر : "ابن". والمثبت من الطبري.
(5) زيادة من أ.
(6) في ر : "بلال".
(7) في أ : "اليمنى".

(3/124)


كانت الدية حطت عنه خطاياه كذلك. (1)
ثم قال (2) ابن جرير : حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، حدثنا ابن فضيل ، عن يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي السَّفَر قال : دفع رجل من قريش رجلا من الأنصار ، فاندقت ثنيته ، فرفعه الأنصاري إلى معاوية ، فلما ألح عليه الرجل قال : شأنك وصاحبك. قال : وأبو الدرداء عند معاوية ، فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ما من مسلم يصاب بشيء من جسده ، فيهبه ، إلا رفعه الله به درجة ، وحط عنه به خطيئة". فقال الأنصاري : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : سمعته أذناي ووعاه قلبي ، فخلى سبيل القرشي ، فقال معاوية : مروا له بمال.
هكذا رواه ابن جرير (3) ورواه الإمام أحمد فقال : حدثنا وَكِيع ، حدثنا يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي السَّفر قال : كسر رجل من قريش سنّ رجل من الأنصار ، فاستعدى عليه معاوية ، فقال القرشيُّ : إن هذا دق سنّي ؟ قال معاوية : إنا سنرضيه. فألح الأنصاري ، فقال معاوية : شأنك بصاحبك ، وأبو الدرداء جالس ، فقال أبو الدرداء سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ما من مسلم يصاب بشيء في (4) جسده ، فيتصدق به ، إلا رفعه الله به درجة أو حط عنه بها خطيئة". فقال الأنصاري : فإني ، يعني : قد عفوت.
وهكذا رواه الترمذي من حديث ابن المبارك ، وابن ماجه من حديث وَكِيع ، كلاهما عن يونس بن أبي إسحاق ، به (5) ثم قال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، ولا أعرف لأبي السَّفَر سماعًا من أبي الدرداء.
وقال [أبو بكر] (6) بن مردويه : حدثنا دَعْلَج بن أحمد ، حدثنا محمد بن علي بن زيد ، حدثنا سعيد بن منصور ، حدثنا سفيان ، عن عمران بن ظبيان ، عن عدي بن ثابت ؛ أن رجلا هَتَم فمه رجل ، على عهد معاوية ، رضي الله عنه ، فأعْطِي دية ، فأبى إلا أن يقتص ، فأعطي ديتين ، فأبى ، فأعطي ثلاثًا ، فأبى ، فحدث رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن (7) رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من تصدق بدم فما دونه ، فهو كفارة له من يوم ولد إلى يوم يموت". (8)
وقال الإمام أحمد : حدثنا سُرَيج بن النعمان ، حدثنا هُشَيْم ، عن المغيرة ، عن الشعبي ؛ أن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ما من رجل يجرح من (9) جسده جراحة ، فيتصدق
__________
(1) ورواه الديلمي في مسند الفردوس (3/153) من طريق يحيى بن سلام ، عن أبيه ، عن المعلى ، عن أبان بن تغلب ، عن الشعبي ، وعن العريان بن الهيثم عن أبيه ، عن ابن عمر مرفوعا.
(2) في أ : "وقال".
(3) تفسير الطبري (10/364).
(4) في ر : "من".
(5) المسند (6/448) وسنن الترمذي برقم (1393) وسنن ابن ماجة برقم (2693).
(6) زيادة من ر.
(7) في ر : "عن".
(8) رواه سعيد بن منصور في السنن برقم (762) ورواه أبو يعلى في مسنده (12/284) والطبري في تفسيره (10/368) من طريق عمران بن ظبيان به. قال الهيثمي في المجمع (6/302) : "رجاله رجال الصحيح غير عمران بن ظبيان وقد وثقه ابن حبان ، وفيه ضعف".
(9) في ر : "في".

(3/125)


بها ، إلا كفر الله عنه مثل ما تصدق به.
ورواه النسائي ، عن علي بن حُجْر ، عن جرير بن عبد الحميد ، ورواه ابن جرير ، عن محمود بن خِدَاش ، عن هُشَيْم ، كلاهما عن المغيرة ، به. (1)
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن سعيد القطان ، عن مجالد ، عن عامر ، عن المحرَّر بن أبي هريرة ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من أصيب بشيء من جسده ، فتركه لله ، كان كفارة له". (2)
وقوله : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } قد تقدم عن طاوس وعطاء أنهما قالا كُفْر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق.
__________
(1) المسند (5/316) وسنن النسائي الكبرى برقم (11146) وتفسير الطبري (10/364).
(2) المسند (5/412) ، وقال الهيثمي في المجمع (6/302) : "فيه مجالد وقد اختلط".

(3/126)


وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)

{ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنْجِيلِ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) }
يقول تعالى : "وَقَفَّيْنَا" أي : أتبعنا { عَلَى آثَارِهِمْ } يعني : أنبياء بني إسرائيل [عليه السلام] (1) { بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ } أي : مؤمنًا بها حاكمًا بما فيها { وَآتَيْنَاهُ الإنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ } أي : هدى إلى الحق ، ونور يستضاء به في إزالة الشبهات وحل المشكلات. { وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ } أي : متبعًا لها ، غير مخالف لما فيها ، إلا في القليل مما بين لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه ، كما قال تعالى إخبارًا عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل : { وَلأحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } [آل عمران : 50] ؛ ولهذا كان المشهور من قولي العلماء أن الإنجيل نسخ بَعْضَ أحكام التوراة.
وقوله : { وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ } أي : وجعلنا الإنجيل { هُدًى } يهتدى به ، { وَمَوْعِظَةً } أي : وزاجرًا (2) عن ارتكاب المحارم والمآثم { لِلْمُتَّقِينَ } أي : لمن اتقى الله وخاف وعيده وعقابه.
وقوله : { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنْجِيلِ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فِيهِ } قُرئ { وَلْيَحْكُمْ } بالنصب على أن اللام لام كي ، أي : وآتيناه (3) الإنجيل [فيه هدى ونور] (4) ليحكم أهل ملته به في زمانهم. وقرئ : { وَلْيَحْكُمْ } بالجزم اللام (5) لام الأمر ، أي : ليؤمنوا بجميع ما فيه ، وليقيموا ما أمروا به فيه ، ومما فيه البشارة ببعثة محمد [صلى الله عليه وسلم] (6) والأمر باتباعه وتصديقه إذا وجد ، كما قال تعالى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } الآية [المائدة : 68] وقال تعالى : { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ [وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ] (7) الْمُفْلِحُونَ } [الأعراف : 157] ؛
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في د : "أي : زاجرًا".
(3) في د : "أي : آتيناه".
(4) زيادة من ر ، أ.
(5) في أ : "وأن اللام".
(6) زيادة من د ، أ.
(7) زيادة من ر ، وفي هـ : "إلى قوله".

(3/126)


وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)

ولهذا قال هاهنا : { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ } أي : الخارجون عن طاعة ربهم ، المائلون إلى الباطل ، التاركون للحق. وقد تقدم أن هذه الآية نزلت في النصارى ، وهو ظاهر السياق.
{ وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) }
لما ذكر تعالى التوراة التي أنزلها الله على موسى كليمه [عليه السلام] (1) ومدحها وأثنى عليها ، وأمر (2) باتباعها حيث كانت سائغة الاتباع ، وذكر الإنجيل ومدحه ، وأمر أهله بإقامته واتباع ما فيه ، كما تقدم بيانه ، شرع تعالى في ذكر القرآن العظيم ، الذي أنزله على عبده ورسوله الكريم ، فقال : { وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } أي : بالصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله ، { مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ } أي : من الكتب المتقدمة المتضمنة ذكْرَه ومَدْحَه ، وأنه سينزل من عند الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، فكان نزوله كما أخبرت به ، مما زادها صدقًا عند حامليها من ذوي البصائر ، الذين انقادوا لأمر الله واتبعوا شرائع الله ، وصدقوا رسل الله ، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا } [الإسراء : 107 ، 108] أي : إن كان ما وعدنا الله على ألسنة الرسل المتقدمين ، من مجيء محمد ، عليه السلام ، { لَمَفْعُولا } أي : لكائنًا لا محالة ولا بد.
وقوله : { وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } قال سفيان الثوري وغيره ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس ، أي : مؤتمنًا عليه. وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : المهيمن : الأمين ، قال : القرآن أمين على كل كتاب قبله.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ : "وأمرنا".

(3/127)


وروي عن عِكْرِمَة ، وسعيد بن جُبَيْر ، ومجاهد ، ومحمد بن كعب ، وعطية ، والحسن ، وقتادة ، وعطاء الخراساني ، والسُّدِّي ، وابن زيد ، نحو ذلك.
وقال ابن جريج : القرآن أمين على الكتب المتقدمة ، فما وافقه منها فهو حق ، وما خالفه منها فهو باطل.
وعن الوالبي ، عن ابن عباس : { وَمُهَيْمِنًا } أي : شهيدًا. وكذا قال مجاهد ، وقتادة ، والسُّدِّي.
وقال العَوْفِي عن ابن عباس : { وَمُهَيْمِنًا } أي : حاكمًا على ما قبله من الكتب.
وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى ، فإن اسم "المهيمن" يتضمن هذا كله ، فهو أمين وشاهد وحاكم على كل كتاب قبله ، جعل الله هذا الكتاب العظيم ، الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها ، أشملها وأعظمها وأحكمها (1) حيث جمع فيه محاسن ما قبله ، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره ؛ فلهذا جعله شاهدًا وأمينًا وحاكمًا عليها كلها. وتكفل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة ، فقال [تعالى] (2) { إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [الحجر : 9].
فأما ما حكاه ابن أبي حاتم ، عن عكرمة ، وسعيد بن جبير ، وعطاء الخراساني ، وابن أبي نَجيح عن مجاهد ؛ أنهم قالوا في قوله : { وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } يعني : محمدًا صلى الله عليه وسلم أمين على القرآن ، فإنه صحيح في المعنى ، ولكن في تفسير هذا بهذا نظر ، وفي تنزيله عليه من حيث العربية أيضًا نظر. وبالجملة فالصحيح الأول ، قال أبو جعفر بن جرير ، بعد حكايته له عن مجاهد : وهذا التأويل بعيد من المفهوم في (3) كلام العرب ، بل هو خطأ ، وذلك أن "المهيمن" عطف على "المصدق" ، فلا يكون إلا من صفة ما كان "المصدق" صفة له. قال : ولو كان كما قال مجاهد لقال : "وأنزلنا إليك الكتاب مُصدقا لما بين يديه من الكتاب مهيمنا عليه". يعني من غير عطف.
وقوله : { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ } أي : فاحكم يا محمد بين الناس : عَرَبهم وعجمهم ، أُميهم وكتابيهم { بِمَا أَنزلَ اللَّهُ } إليك في (4) هذا الكتاب العظيم ، وبما قرره لك من حكم من كان قبلك من الأنبياء ولم ينسخه في شرعك. هكذا وجهه ابن جرير بمعناه.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عمار ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا عباد بن العوام ، عن سفيان بن حسين ، عن الحكم ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم مخيرًا ، إن شاء حكم بينهم ، وإن شاء أعرض عنهم. فردهم إلى أحكامهم ، فنزلت : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما في كتابنا.
وقوله : { وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } أي : آراءهم التي اصطلحوا عليها ، وتركوا بسببها ما أنزل الله على رسوله ؛ ولهذا قال : { وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ } أي : لا تنصرف عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهواء هؤلاء من الجهلة الأشقياء.
__________
(1) في ر ، د : "وأكملها".
(2) زيادة من أ.
(3) في ر : "من".
(4) في ر ، أ : "من".

(3/128)


وقوله : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن يوسف بن أبي إسحاق ، عن أبيه ، عن التميمي ، عن ابن عباس : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً } قال : سبيلا.
وحدثنا أبو سعيد ، حدثنا وَكِيع ، عن سفيان ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس : { وَمِنْهَاجًا } قال : وسنة. وكذا روى العَوْفِيّ ، عن ابن عباس : { شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } سبيلا وسنة.
وكذا رُوي عن مجاهد وعكرمة ، والحسن البصري ، وقتادة ، والضحاك ، والسُّدِّي ، وأبي إسحاق السبيعي ؛ أنهم قالوا في قوله : { شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } أي : سبيلا وسنة.
وعن ابن عباس ومجاهد أيضًا وعطاء الخراساني عكسه : { شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } أي : سنة وسبيلا والأول أنسب ، فإن الشرعة وهي الشريعة أيضا ، هي ما يبتدأ فيه إلى الشيء ومنه يقال : "شرع في كذا" أي : ابتدأ فيه. وكذا الشريعة وهي ما يشرع منها إلى الماء. أما "المنهاج" : فهو الطريق الواضح السهل ، والسنن : الطرائق ، فتفسير قوله : { شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } بالسبيل والسنة أظهر في المناسبة من العكس ، والله أعلم.
ثم هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان ، باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام ، المتفقة في التوحيد ، كما ثبت في صحيح البخاري ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات ، ديننا واحد" (1) يعني بذلك التوحيد ، الذي بعث الله به كل رسول أرسله ، وضمنه كل كتاب أنزله ، كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء : 25] وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } الآية [النحل : 36] ، وأما الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي ، فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حراما ثم يحل في الشريعة الأخرى ، وبالعكس ، وخفيفًا فيزاد في الشدة في هذه دون هذه. وذلك لما له تعالى في ذلك من الحكمة البالغة ، والحجة الدامغة.
قال سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة : قوله : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } يقول : سبيلا وسنة ، والسنن مختلفة : هي في التوراة شريعة ، وفي الإنجيل شريعة ، وفي الفرقان شريعة ، يحل الله فيها ما يشاء ، ويحرم ما يشاء ، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه ، والدين الذي لا يقبل الله غيره : التوحيد والإخلاص لله ، الذي جاءت به الرسل.
وقيل : المخاطب بهذا هذه الأمة ، ومعناه : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا } القرآن { مِنْكُمْ } أيتها الأمة { شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } أي : هو لكم كلكم ، تقتدون به. وحُذف الضمير المنصوب في قوله : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ } أي : جعلناه ، يعني القرآن ، { شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } أي : سبيلا إلى المقاصد الصحيحة ، وسنة أي : طريقًا ومسلكًا واضحًا بينًا.
__________
(1) صحيح البخاري" برقم (3443).

(3/129)


هذا مضمون ما حكاه ابن جرير عن مجاهد ، رحمه الله ، والصحيح القول الأول ، ويدل على ذلك قوله تعالى : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } فلو كان هذا خطابًا لهذه الأمة لما صح أن يقول : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } وهم أمة واحدة ، ولكن هذا خطاب لجميع الأمم ، وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة التي لو شاء لجمع (1) الناس كلهم على دين واحد وشريعة واحدة ، لا ينسخ شيء منها. ولكنه تعالى شرع لكل رسول شرْعة على حدَة ، ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده (2) حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة ، وجعله خاتم الأنبياء كلهم ؛ ولهذا قال تعالى : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِيمَا آتَاكُمْ } أي : أنه تعالى شرع الشرائع مختلفة ، ليختبر عباده فيما شرع لهم ، ويثيبهم أو يعاقبهم على طاعته ومعصيته بما فعلوه أو عزموا عليه من ذلك كله.
وقال عبد الله بن كثير : { فِيمَا آتَاكُمْ } يعني : من الكتاب.
ثم إنه تعالى ندبهم إلى المسارعة إلى الخيرات والمبادرة إليها ، فقال : { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } وهي طاعة الله واتباع شرعه ، الذي جعله ناسخًا لما قبله ، والتصديق بكتابه القرآن الذي هو آخر كتاب أنزله.
ثم قال تعالى : { إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا } أي : معادكم أيها الناس ومصيركم إليه يوم القيامة { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } أي : فيخبركم بما اختلفتم فيه من الحق ، فيجزي الصادقين بصدقهم ، ويعذب الكافرين الجاحدين المكذبين بالحق ، العادلين عنه إلى غيره بلا دليل ولا برهان ، بل هم معاندون للبراهين القاطعة ، والحجج البالغة ، والأدلة الدامغة.
وقال الضحاك : { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } يعني : أمة محمد صلى الله عليه وسلم. والأظهر الأول.
وقوله : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك ، والنهي عن خلافه.
ثم قال [تعالى] (3) { وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } أي : احذر أعداءك اليهود أن يدلسوا عليك الحق فيما يُنْهُونه إليك من الأمور ، فلا تغتر بهم ، فإنهم كَذبة كَفَرة خونة. { فَإِنْ تَوَلَّوْا } أي : عما تحكم به بينهم من الحق ، وخالفوا شرع الله { فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ } أي : فاعلم أن ذلك كائن عن قَدر الله وحكمته فيهم أن يصرفهم عن الهدى لما عليهم من الذنوب السالفة التي اقتضت إضلالهم ونكالهم. { وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ } أي : أكثر الناس خارجون عن طاعة ربهم ، مخالفون للحق ناؤون عنه ، كما قال تعالى : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [يوسف : 103]. وقال تعالى : { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } [الآية] (4) [الأنعام : 116].
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت ، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال كعب بن أسد ، وابن صلوبا ، وعبد الله بن صوريا ، وشاس
__________
(1) في أ : "لجعل".
(2) في أ : "بعدها".
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من أ.

(3/130)


بن قيس ، بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد ، لعلنا نفتنه عن دينه! فأتوه ، فقالوا : يا محمد ، إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم ، وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا ، وإن بيننا وبين قومنا خصومة (1) فنحاكمهم إليك ، فتقضي لنا عليهم ، ونؤمن لك ، (2) ونصدقك! فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله ، عز وجل ، فيهم : { وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } إلى قوله : { لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم.
وقوله : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المُحْكَم المشتمل على كل خير ، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات ، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله ، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات ، مما يضعونها (3) بآرائهم وأهوائهم ، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكزخان ، الذي وضع لهم اليَساق (4) وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى ، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية ، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه ، فصارت في بنيه شرعًا متبعًا ، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله ، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله [صلى الله عليه وسلم] (5) فلا يحكم سواه (6) في قليل ولا كثير ، قال الله تعالى : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ } أي : يبتغون ويريدون ، وعن حكم الله يعدلون. { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي : ومن أعدل من الله في حكمه لمن عَقل عن الله شرعه ، وآمن به وأيقن وعلم أنه تعالى أحكم الحاكمين ، وأرحم بخلقه (7) من الوالدة بولدها ، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء ، القادر على كل شيء ، العادل في كل شيء.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هلال بن فياض ، حدثنا أبو عبيدة الناجي (8) قال : سمعت الحسن يقول : من حكم بغير حكم الله ، فحكم الجاهلية [هو] (9)
وأخبرنا يونس بن عبد الأعلى قراءة ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن أبي نَجِيح قال : كان طاوس إذا سأله رجل : أفضِّل بين ولدي في النحْل ؟ قرأ : { أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ [وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ] } (10)
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نَجْدة الخوطي ، حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع ، أخبرنا شعيب بن أبي حمزة ، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين ، عن نافع بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أبغض الناس إلى الله ، عز وجل ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية ، وطالب دم امرئ بغير حق ليُرِيق دمه". وروى البخاري ، عن أبي اليمان بإسناده (11) نحوه. (12)
__________
(1) في ر : "حكومة".
(2) في أ : "بك".
(3) في أ : "بما صنعوا".
(4) في ر ، أ : "الياسق".
(5) زيادة من ر.
(6) في أ : "بسواه".
(7) في د : "بعباده".
(8) في د ، أ : "الباجي".
(9) زيادة من ر ، أ.
(10) زيادة من ر ، د ، أ.
(11) في ر ، أ : "بزيادة".
(12) المعجم الكبير (10/374) وصحيح البخاري برقم (6882).

(3/131)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) }
ينهى تعالى عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى ، الذين هم أعداء الإسلام وأهله ، قاتلهم الله ، ثم أخبر (1) أن بعضهم أولياء بعض ، ثم تهدد وتوعد من يتعاطى ذلك فقال : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ] } (2)
قال (3) ابن أبي حاتم : حدثنا كثير بن شهاب ، حدثنا محمد - يعني ابن سعيد بن سابق - حدثنا عمرو بن أبي قيس ، عن سِمَاك بن حَرْب ، عن عِياض : أن عمر أمر أبا موسى الأشعري أن يرفع إليه ما أخذ وما أعطى في أديم واحد ، وكان له كاتب نصراني ، فرفع إليه ذلك ، فعجب عمر [رضي الله عنه] (4) وقال : إن هذا لحفيظ ، هل أنت قارئ لنا كتابًا في المسجد جاء من الشام ؟ فقال : إنه لا يستطيع [أن يدخل المسجد] (5) فقال عمر : أجُنُبٌ هو ؟ قال : لا بل نصراني. قال : فانتهرني وضرب فخذي ، ثم قال : أخرجوه ، ثم قرأ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ [بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ] } (6)
ثم قال الحسن بن محمد بن الصباح : حدثنا عثمان بن عمر ، أنبأنا ابن عَوْن ، عن محمد بن سِيرِين قال : قال عبد الله بن عتبة : ليتق أحدكم أن يكون يهوديًا أو نصرانيًا ، وهو لا يشعر. قال : فظنناه يريد هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ [بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ] } (7) الآية. وحدثنا (8) أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن فضيل ، عن عاصم ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : أنه سئل عن ذبائح نصارى العرب ، فقال : كُلْ ، قال الله تعالى : { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ }
وروي عن أبي الزناد ، نحو ذلك.
وقوله : { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } أي : شك ، وريب ، ونفاق { يُسَارِعُونَ فِيهِمْ } أي : يبادرون إلى موالاتهم ومودتهم في الباطن والظاهر ، { يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ } أي : يتأولون في مودتهم وموالاتهم أنهم يخشون أن يقع أمر من ظفر الكفار بالمسلمين ، فتكون لهم أياد عند اليهود والنصارى ، فينفعهم ذلك ، عند ذلك قال الله تعالى : { فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ } قال السُّدِّي : يعني فتح مكة. وقال غيره : يعني القضاء والفصلِ { أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ } قال السُّدِّي : يعني ضرب الجزية على
__________
(1) في أ : "خبر".
(2) زيادة من أ.
(3) في ر : "ثم قال".
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من أ.
(6) زيادة من أ.
(7) زيادة من ر ، أ.
(8) في أ : "ثم قال : وحدثنا".

(3/132)


اليهود والنصارى { فَيُصْبِحُوا } يعني : الذين والوا اليهود والنصارى من المنافقين { عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } من الموالاة { نَادِمِينَ } أي : على ما كان منهم ، مما لم يُجْد عنهم (1) شيئًا ، ولا دفع عنهم محذورًا ، بل كان عين المفسدة ، فإنهم فضحوا ، وأظهر الله أمرهم في الدنيا لعباده المؤمنين ، بعد أن كانوا مستورين لا يدرى كيف حالهم. فلما انعقدت الأسباب الفاضحة لهم ، تبين أمرهم لعباد الله المؤمنين ، فتعجبوا منهم كيف كانوا يظهرون أنهم من المؤمنين ، ويحلفون على ذلك ويتأولون ، فبان كذبهم وافتراؤهم ؛ ولهذا قال تعالى : { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ }
وقد اختلف القراء في هذا الحرف ، فقرأه الجمهور بإثبات الواو في قوله : { وَيَقُولُ الَّذِينَ } ثم منهم من رفع { وَيَقُولُ } على الابتداء ، ومنهم من نصب عطفًا على قوله : { فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ } تقديره "أن يأتي" "وأن يقول" ، وقرأ أهل المدينة : { يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا } بغير واو ، وكذلك هو في مصاحفهم على ما ذكره ابن جرير ، قال ابن جُرَيْج ، عن مجاهد : { فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ } حينئذ { وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ }
واختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآيات الكريمات ، فذكر السُّدِّي أنها نزلت في رجلين ، قال أحدهما لصاحبه بعد وقعة أحد : أما أنا فإني ذاهب إلى ذلك اليهودي ، فآوي إليه وأتهود معه ، لعله ينفعني إذا وقع أمر أو حدث حادث! وقال الآخر : وأما أنا فأذهب إلى فلان النصراني بالشام ، فآوي إليه وأتنصر معه ، فأنزل الله [عز وجل] (2) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ } الآيات.
وقال عكرمة : نزلت في أبي لُبَابة بن عبد المنذر ، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قُرَيْظَة ، فسألوه : ماذا هو صانع بنا ؟ فأشار بيده إلى حلقه ، أي : إنه الذبح. رواه ابن جرير.
وقيل : نزلت في عبد الله بن أبيّ بن سَلُول ، كما قال ابن جرير :
حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا ابن إدريس قال : سمعت أبيّ ، عن عطية بن سعد قال : جاء عبادة بن الصامت ، من بني الخزرج ، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن لي موالي من يهود كثير عددهم ، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود ، وأتولى الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبي : إني رجل أخاف الدوائر ، لا أبرأ من ولاية موالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي : "يا أبا الحُباب ، ما بَخِلْتَ به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه". قال : قد قبلت! فأنزل الله عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ [بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ] } (3) إلى قوله : { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } (4).
__________
(1) في أ : "عندهم".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من ر ، أ.
(4) تفسير الطبري (10/395).

(3/133)


ثم قال ابن جرير : حدثنا هَنَّاد ، حدثنا يونس بن بُكَيْر ، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن ، عن الزهري قال : لما انهزم أهل بدر قال المسلمون لأوليائهم من يهود : آمنوا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر! فقال مالك بن الصيف : أغركم أن أصبتم رهطًا من قريش لا علم لهم بالقتال!! أما لو أمْرَرْنا (1) العزيمة أن نستجمع عليكم ، لم يكن لكم يَدٌ (2) بقتالنا (3) فقال عبادة : يا رسول الله ، إن أوليائي من اليهود كانت شديدة أنفسهم ، كثيرًا سلاحهم ، شديدة شوكتهم ، وإني أبرأ إلى الله [تعالى] (4) وإلى رسوله من ولاية يهود ، ولا مولى لي إلا الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبي : لكني لا أبرأ من ولاء يهود (5) أنا رجل لا بد لي منهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا أبا الحباب أرأيت الذي نفست به من ولاء (6) يهود على عبادة بن الصامت ، فهو لك دونه ؟" فقال : إذا أقبلُ! قال : فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ [بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ] } (7) إلى قوله : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [المائدة : 67]. (8)
وقال محمد بن إسحاق : فكانت أول قبيلة من اليهود نقضت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بنو قينقاع. فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة قال : فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه ، فقام إليه عبد الله بن أبي بن سلول ، حين أمكنه الله منهم ، فقال : يا محمد ، أحسن في مَوَالي. وكانوا حلفاء الخزرج ، قال : فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد ، أحسن في موالي. قال : فأعرض عنه. فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم. "أرسلني". وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رُئِي لوجهه ظللا ثم قال : "ويحك أرسلني". قال : لا والله لا أرسلك حتى تحسن في مَوَالي ، أربعمائة حاسر ، وثلاثمائة دارع ، قد منعوني من الأحمر والأسود ، تحصدهم (9) في غداة واحدة ؟! إني امرؤ أخشى الدوائر ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هُم لك." (10)
قال محمد بن إسحاق : فحدثني أبو إسحاق بن يَسار ، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال : لما حاربت بنو قَيْنُقَاع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تشبث بأمرهم عبد الله بن أبيّ ، وقام دونهم ، ومشى (11) عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أحد بني عَوْف بن الخزرج ، له من حلفهم مثل الذي لعبد الله بن أبي ، فجعلهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من حلفهم ، وقال : يا رسول الله ، أتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم ، وأتولى الله ورسوله والمؤمنين ، وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم. ففيه وفي عبد الله بن أبي نزلت الآيات في المائدة : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } إلى قوله : (12) { وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } [المائدة : 56] (13).
وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن محمد بن
__________
(1) في ر : "أصررنا" وفي أ : "أمرونا".
(2) في ر : "يدان".
(3) في أ : "أن تقاتلونا".
(4) زيادة من أ.
(5) في أ : "ولاية يهودي".
(6) في د ، أ : "ولاية يهودي".
(7) زيادة من ر ، أ.
(8) تفسير الطبري (10/396).
(9) في ر : "تحصدني" ، وفي أ : "ويحصرني".
(10) سيرة ابن إسحاق برقم (498) ط ، المغرب.
(11) في ر : "مشى".
(12) في أ : "الآيات".
(13) سيرة ابن إسحاق برقم (499) ط ، المغرب. وانظر : السيرة النبوية لابن هشام (2/49) وتفسير الطبري (10/396 ، 397).

(3/134)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)

إسحاق ، عن الزهري ، عن عُرْوَة ، عن أسامة بن زيد قال : دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبيّ نعوده ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "قد كنت أنهاك عن حُبّ يهود". فقال عبد الله : فقد أبغضهم أسعد بن زرارة ، فمات.
وكذا رواه أبو داود ، من حديث محمد بن إسحاق. (1)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) }
يقول تعالى مخبرا عن قدرته العظيمة أن من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته ، فإن الله يستبدل به من هو خير لها منه (2) وأشد منعة وأقوم سبيلا كما قال تعالى : { وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [محمد : 38] وقال تعالى : { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ } [النساء : 133] ، وقال تعالى : { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ. وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } [إبراهيم : 19 ، 20] أي : بممتنع ولا صعب. وقال تعالى هاهنا : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ } أي : يرجع عن الحق إلى الباطل.
قال محمد بن كعب : نزلت في الولاة من قريش. وقال الحسن البصري : نزلت في أهل الردة أيام أبي بكر.
{ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } قال الحسن : هو والله أبو بكر وأصحابه [رضي الله عنهم] (3) رواه ابن أبي حاتم.
وقال أبو بكر بن أبي شيبة : سمعت أبا بكر بن عياش يقول في قوله (4) { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } هم أهل القادسية. وقال لَيْث بن أبي سليم ، عن مجاهد : هم قوم من سبأ.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا عبد الله بن الأجلح ، عن محمد بن عمرو ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قوله : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } قال : ناس من أهل اليمن ، ثم من كِنْدَة ، ثم من السَّكُون.
وحدثنا أبي ، حدثنا محمد بن المصفى ، حدثنا معاوية - يعني ابن حفص - عن أبي زياد الحلفاني ، عن محمد بن المُنْكَدر ، عن جابر بن عبد الله قال : سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } قال : "هؤلاء قوم من أهل اليمن ، ثم من كندة ، ثم من السكون ، ثم من
__________
(1) المسند (5/201) وسنن أبي داود برقم (3094).
(2) في ر : "منهم".
(3) زيادة من أ.
(4) في أ : "وقال ابن عباس".

(3/135)


تجيب". (1) وهذا حديث غريب جدا.
وقال ابن أبى حاتم : حدثنا عمر بن شَبَّة ، حدثنا عبد الصمد - يعني ابن عبد الوارث - حدثنا شعبة ، عن سِمَاك ، سمعت عياضًا يحدث عن الأشعري قال : لما نزلت : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هم قوم هذا". ورواه ابن جرير من حديث شعبة بنحوه. (2)
وقوله تعالى : { أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ } هذه صفات المؤمنين الكُمَّل أن يكون أحدهم متواضعًا (3) لأخيه ووليه ، متعززًا على خصمه وعدوه ، كما قال تعالى : { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ } [الفتح : 29]. وفي صفة النبي صلى الله عليه وسلم أنه : "الضحوك القتال" فهو ضحوك لأوليائه قتال لأعدائه.
وقوله [تعالى] (4) { يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ } أي : لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله ، وقتال أعدائه ، وإقامة الحدود ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لا يردهم عن ذلك راد ، ولا يصدهم عنه صاد ، ولا يحيك فيهم لوم (5) لائم ولا عذل عاذل.
قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا سلام أبو المنذر ، عن محمد بن واسع ، عن عبد الله بن الصامت ، عن أبي ذر قال : أمرني (6) خليلي صلى الله عليه وسلم بسبع ، أمرني بحب المساكين والدنو منهم ، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ، ولا أنظر إلى من هو فوقي ، وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت ، وأمرني أن لا أسأل أحدًا شيئًا ، وأمرني أن أقول الحق وإن كان مرًا ، وأمرني ألا أخاف في الله لومة لائم ، وأمرني أن أكثر من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله ، فإنهن من كنز تحت العرش. (7)
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا صفوان عن أبي (8) المثنى ؛ أن أبا ذر قال : بايعني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم خمسا وواثقني سبعًا ، وأشهد الله على تسعًا ، أني لا أخاف في الله لومة لائم. قال أبو ذر : فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "هل لك إلى بيعة ولك الجنة ؟" قلت : نعم ، قال : وبسطت يدي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم وهو يشترط : على ألا تسأل الناس شيئا ؟ قلت : نعم قال : "ولا سوطك وإن
__________
(1) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (3312) "مجمع البحرين" من طريق معاوية بن حفص ، عن أبي زياد إسماعيل بن زكريا ، عن محمد بن قيس الأسدي ، عن محمد بن المنكدر به ، وقال : "لم يروه عن محمد بن قيس الأسدي إلا أبو زياد ، ولا عنه إلا معاوية. تفرد به أبو حميد ، فزاد هنا محمد بن قيس الأسدي".
وذكره ابن أبي حاتم في العلل (2/95) ولم يذكر محمد بن قيس في سنده كما هو هنا في تفسيره ، وقال : سمعت أبي يقول : "هذا حديث باطل".
تنبيه : وقع هنا أبي زياد الحلفاني وفي العلل : الخلقاني ، وهو الصواب "الخلقاني" كما في "الاستغناء في المشهورين من حملة العلم بالكنى" لابن عبد البر (2/1199).
(2) تفسير الطبري (10/414) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (12/123) وابن سعد في الطبقات (4/107) والطبراني في المعجم الكبير (17/371) وأبو نعيم في تاريخ أصبهان (1/59) من طريق شعبة به. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (7/16) : "رجاله رجال الصحيح".
(3) في ر : "لمتواضعا".
(4) زيادة من أ.
(5) في أ : "لومة".
(6) في د : "أخبرني".
(7) المسند (5/159).
(8) في د : "ابن".

(3/136)


سقط منك يعني (1) تنزل إليه فتأخذه." (2)
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن الحسن ، حدثنا جعفر ، عن المعلى القُرْدوسي ، عن الحسن ، عن أبي سعيد الخدري (3) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألا لا يمنعن أحدكم رَهْبةُ الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده ، فإنه لا يقرب من أجل ، ولا يُبَاعد من رزق (4) أن يقول بحق أو يذكر (5) بعظيم". تفرد به أحمد. (6)
وقال أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا سفيان ، عن زُبَيْد عن عمرو بن مُرَّة ، عن أبي البختري ، عن أبي سعيد الخدري (7) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يَحْقِرَنَّ أحدكم نفسه أن يرى أمرًا لله فيه مَقَال ، فلا يقول فيه ، فيقال له يوم القيامة : ما منعك أن تكون قلت فيّ كذا وكذا ؟ فيقول : مخافة الناس. فيقول : إياي أحق أن تخاف".
ورواه ابن ماجه من حديث الأعمش ، عن عَمْرو بن مرة به. (8) وروى أحمد وابن ماجه ، من حديث عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي طُوَالة (9) عن نهار بن عبد الله العبدي المدني ، عن أبي سعيد الخدري (10) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله ليسأل العبد يوم القيامة ، حتى إنه ليسأله يقول له : أيْ عبدي ، رأيت منكرًا فلم تنكره ؟ فإذا لَقَّن الله عبدًا حجته ، قال : أيْ رب ، وثقت بك وخفت الناس". (11)
وثبت في الصحيح : "ما ينبغي لمؤمن أن يذل نفسه" ، قالوا : وكيف يذلّ نفسه يا رسول الله ؟ قال : "يتحمل من البلاء ما لا يطيق". (12)
{ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } أي : من اتصف بهذه الصفات ، فإنما هو من فضل الله عليه ، وتوفيقه له ، { وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } أي : واسع الفضل ، عليم بمن يستحق ذلك ممن يَحْرمه إياه.
وقوله : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا } أي : ليس اليهود بأوليائكم ، بل ولايتكم راجعة إلى الله ورسوله والمؤمنين.
__________
(1) في أ : "حتى".
(2) المسند (5/172).
(3) في د : "عن أبي سعيد مرفوعا".
(4) في ر : "لا يباعد من أجل ولا يقرب من رزق".
(5) في أ : "وأن يذكره".
(6) المسند (3/50).
(7) في ر : "عن أبي سعيد مرفوعا".
(8) المسند (3/73) وسنن ابن ماجة برقم (4008) ، وقال البوصيري في الزوائد (3/242) : "هذا إسناد صحيح".
(9) في أ : "عبد الرحمن بن أبي طوالة".
(10) في ر : "عن أبي سعيد مرفوعا".
(11) المسند (3/77) وسنن ابن ماجة برقم (4017) وقال البوصيري في الزوائد (3/244) : "هذا إسناد صحيح".
(12) لم أجده أثناء البحث في الصحيحين ولعلي أتداركه فيما بعد. وقد رواه الترمذي في السنن برقم (2254) وابن ماجة في السنن برقم (4016) من طريق علي بن زيد بن جدعان ، عن الحسن عن جندب ، عن حذيفة بن اليمان ، رضي الله عنه به ، وقال الترمذي : "حديث حسن غريب". وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان ضعيف.

(3/137)


وقوله : { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [وَهُمْ رَاكِعُونَ] } (1) أي : المؤمنون المتصفون بهذه الصفات ، من إقام الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام ، وهي له وحده (2) لا شريك له ، وإيتاء الزكاة التي هي حق المخلوقين ومساعدة للمحتاجين من الضعفاء والمساكين.
وأما قوله { وَهُمْ رَاكِعُونَ } فقد توهم بعضهم أن هذه الجملة في موضع الحال من قوله : { وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } أي : في حال ركوعهم ، ولو كان هذا كذلك ، لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره ؛ لأنه ممدوح ، وليس الأمر كذلك عند أحد من العلماء ممن نعلمه من أئمة الفتوى ، وحتى إن بعضهم ذكر في هذا أثرًا عن علي بن أبي طالب : أن هذه الآية نزلت فيه : [ذلك] (3) أنه مر به سائل في حال ركوعه ، فأعطاه خاتمه.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الربيع بن سليمان المرادي ، حدثنا أيوب بن سُوَيْد ، عن عتبة بن أبي حكيم في قوله : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا } قال : هم المؤمنون وعلي بن أبي طالب. (4)
وحدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا الفضل بن دُكَيْن أبو نعيم الأحول ، حدثنا موسى بن قيس الحضرمي ، عن سلمة بن كُهَيْل قال : تصدق علي بخاتمه وهو راكع ، فنزلت : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ }.
وقال ابن جرير : حدثني الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا غالب بن عبيد الله ، سمعت مجاهدًا يقول في قوله : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } الآية : نزلت في علي بن أبي طالب ، تَصَّدَق وهو راكع (5)
وقال عبد الرزاق : حدثنا عبد الوهاب بن مجاهد ، عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } الآية : نزلت في علي بن أبي طالب.
عبد الوهاب بن مجاهد لا يحتج به.
ورواه ابن مَرْدُويه ، من طريق سفيان الثوري ، عن أبي سِنان ، عن الضحاك ، عن ابن عباس قال : كان علي بن أبي طالب قائمًا يصلي ، فمر سائل وهو راكع ، فأعطاه خاتمه ، فنزلت : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } الآية.
الضحاك لم يلق ابن عباس.
وروى ابن مَرْدُويه أيضًا عن طريق محمد بن السائب الكلبي - وهو متروك - عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد ، والناس يصلون ، بين راكع وساجد وقائم وقاعد ، وإذا مسكين يسأل ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "أعطاك أحد شيئًا ؟" قال : نعم. قال : "من ؟" قال : ذلك (6) الرجل القائم. قال : "على أي حال أعطاكه ؟" قال : وهو راكع ، قال : "وذلك علي بن أبي طالب". قال : فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك ، وهو يقول : { وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ }
__________
(1) زيادة من د.
(2) في ر ، أ : "وهي عبادة الله وحده".
(3) زيادة من أ.
(4) ورواه الطبري في تفسيره (10/426) من طريق إسماعيل الرملي ، عن أيوب بن سويد به.
(5) تفسير الطبري (10/426).
(6) في ر : "ذاك".

(3/138)


وهذا إسناد لا يفرح به.
ثم رواه ابن مردويه ، من حديث علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، نفسه ، وعمار بن ياسر ، وأبي رافع. وليس يصح شيء منها بالكلية ، لضعف أسانيدها وجهالة رجالها. ثم روى بسنده ، عن ميمون بن مِهْران ، عن ابن عباس في قوله : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ } نزلت في المؤمنين ، وعلي بن أبي طالب أولهم.
وقال ابن جرير : حدثنا هَنَّاد ، حدثنا عبدة ، عن عبد الملك ، عن أبي جعفر قال : سألته عن هذه [الآية] (1) { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } قلنا : من الذين آمنوا ؟ قال : الذين آمنوا! قلنا : بلغنا أنها نزلت في علي بن أبي طالب! قال : عَلِيٌّ من الذين آمنوا.
وقال أسباط ، عن السُّدِّي : نزلت هذه الآية في جميع المؤمنين ، ولكن علي بن أبي طالب مر به سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه.
وقال علي بن أبي طلحة الوالبي ، عن ابن عباس : من أسلم فقد تولى الله ورسوله والذين آمنوا. رواه ابن جرير.
وقد تقدم في الأحاديث التي أوردنا (2) أن هذه الآيات كلها نزلت في عبادة بن الصامت ، رضي الله عنه ، حين تبرأ من حلْف يَهُود ، ورضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين ؛ ولهذا قال تعالى بعد هذا كله : { وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ } كما قال تعالى : { كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ. لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [المجادلة : 21 ، 22].
فكل من رضي بولاية (3) الله ورسوله والمؤمنين فهو مفلح في الدنيا والآخرة [ومنصور في الدنيا والآخرة] (4) ؛ ولهذا قال [الله] (5) تعالى في هذه الآية الكريمة : { وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ }
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ر ، أ : "أوردناها".
(3) في أ : "بمولات".
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من أ.

(3/139)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 57وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58) }

(3/139)


وهذا تنفير من موالاة أعداء الإسلام وأهله ، من الكتابيين والمشركين ، الذين يتخذون أفضل ما يعمله العاملون ، وهي شرائع الإسلام المطهرة المحكمة المشتملة على كل خير دنيوي و أخروي ، يتخذونها { هُزُوًا وَلَعِبًا } يستهزئون (1) بها ، { وَلَعِبًا } يعتقدون أنها نوع من اللعب في نظرهم الفاسد ، وفكرهم البارد كما قال القائل : (2)
وَكَمْ مِنْ عَائبٍ قَولا صَحِيحًا... وآفَتُهُ مِن الْفَهم السَّقِيمِ...
وقوله : { مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ } "من" ههنا لبيان الجنس ، كقوله : { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ } [الحج : 30] ، وقرأ بعضهم { وَالْكُفَّارَ } بالخفض عطفا ، وقرأ آخرون بالنصب على أنه معمول { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } تقديره : ولا الكفار أولياء ، أي : لا تتخذوا هؤلاء ولا هؤلاء أولياء.
والمراد بالكفار ههنا المشركون ، وكذا وقع في قراءة ابن مسعود ، فيها رواه ابن جرير : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ}.
وقوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي : اتقوا الله أن تتخذوا هؤلاء الأعداء لكم ولدينكم أولياء { إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } بشرع الله الذي اتخذه هؤلاء هزوًا ولعبًا ، كما قال تعالى : { لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ } [آل عمران : 28].
وقوله [تعالى] (3) { وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا } أي : وكذلك إذا أذنتم داعين إلى الصلاة التي هي أفضل الأعمال لمن يعقل ويعلم من ذوي الألباب { اتَّخَذُوهَا } أيضًا { هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ } مَعَانِي عبادة الله وشرائعه ، وهذه صفات أتباع الشيطان الذي "إذا سمع الأذان أدبر وله حُصَاص ، أي : ضراط حتى لا يسمع التأذين ، فإذا قضي التأذين أقبل ، فإذا ثُوِّب بالصلاة أدبر ، فإذا قضي التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء وقلبه ، فيقول : اذكر كذا ، اذكر كذا ، لما لم يكن يذكر ، حتى يظل الرجل إن يدري (4) كم صلَّى ، فإذا وجد أحدكم ذلك ، فليسجد سجدتين قبل السلام". متفق عليه.
وقال الزهري : قد ذكر الله [تعالى] (5) التأذين في كتابه فقال : { وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ } رواه ابن أبي حاتم.
وقال أسباط ، عن السُّدِّي ، في قوله : { وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا } قال : كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي : "أشهد أن محمدًا رسول الله" قال : حُرّق الكاذب! فدخلت خادمة (6) ليلة من الليالي بنار وهو نائم وأهله نيام ، فسقطت شرارة فأحرقت البيت ، فاحترق هو وأهله. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وذكر محمد بن إسحاق بن يَسار في السيرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة عام الفتح ، ومعه
__________
(1) في أ : "مستهزئون".
(2) هو "أبو الطيب المتنبي" كما في حاشية طبعة الشعب.
(3) زيادة من أ.
(4) في أ : "لم يدر".
(5) زيادة من أ.
(6) في أ : "فدخل خادمه".

(3/140)


بلال ، فأمره أن يؤذن ، وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة ، فقال عتاب بن أسيد : لقد أكرم الله أسيدًا ألا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه. وقال الحارث بن هشام : أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته. فقال أبو سفيان : لا أقول شيئًا لو تكلمتُ لأخبرت عني هذه الحصى. فخرج عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "قد علمت الذي قلتم" ثم ذكر ذلك لهم ، فقال الحارث وعتاب : نشهد أنك رسول الله ، [والله] (1) ما اطلع على هذا أحد كان معنا ، فنقول أخبرك. (2)
وقال الإمام أحمد : حدثنا رَوْح بن عبادة ، حدثنا ابن جُرَيْج ، أخبرنا عبد العزير بن عبد الملك بن أبي محذورة ؛ أن عبد الله بن مُحَيريز أخبره - وكان يتيمًا في حجر أبي محذورة - قال : قلت لأبي محذورة : يا عم ، إني خارج إلى الشام ، وأخشى أن أُسأل عن تأذينك. فأخبرني أن أبا محذورة قال له : نعم خرجت في نفر ، وكنا (3) ببعض طريق حنين ، مقفل (4) رسول الله صلى الله عليه وسلم من حُنَيْن ، فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق ، فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسمعنا صوت المؤذن ونحن متنكبون (5) فصرخنا نحكيه ونستهزئ به ، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصوت ، فأرسل إلينا إلى أن وقفنا بين يديه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أيكم الذي سمعتُ صوته قد ارتفع ؟" فأشار القوم كلهم إليّ ، وصدقوا ، فأرسل كلَّهم وحبسني. وقال (6) "قم فأذّن بالصلاة". فقمت ولا شيء أكره إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا مما يأمرني به فقمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فألقى عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو بنفسه ، قال : "قل الله أكبر ، الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدًا رسول الله ، أشهد أن محمدًا رسول الله ، " ثم قال لي : "ارجع فامدد من صوتك". ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، حيّ على الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، حي على الفلاح ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله". ثم دعاني حين قضيت التأذين ، فأعطاني صُرَّة فيها شيء من فضة ، ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة ، ثم أمرّها على وجهه ، ثم بين ثدييه (7) ثم على كبده حتى بلغت يد رسول الله سرة أبي محذورة ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بارك الله فيك وبارك عليك". فقلت : يا رسول الله ، مُرْني بالتأذين بمكة. فقال قد "أمرتك به". وذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهة ، وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فقدمت على عتاب بن أسيد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخبرني ذلك من أدركت من أهلي ممن أدرك أبا محذورة ، على نحو ما أخبرني عبد الله بن مُحَيريز.
هكذا رواه الإمام أحمد ، وقد أخرجه مسلم في صحيحه ، وأهل السنن الأربعة من طريق (8) عن عبد الله بن محيريز ، عن أبي محذورة (9) - واسمه : سَمُرَة بن مِعْيرَ بن لوذان - أحد مؤذني رسول الله
__________
(1) زيادة من أ.
(2) السيرة النبوية لابن هشام (2/413).
(3) في ر : "فكنا".
(4) في أ : "فقفل".
(5) في أ : "متكئون".
(6) في أ : "فقال".
(7) في أ : "يديه".
(8) في أ : "طرق".
(9) المسند (3/408) وصحيح مسلم برقم (379) وسنن أبي داود (502) وسنن الترمذي برقم (191) وسنن النسائي (2/4) وسنن ابن ماجة برقم (708).

(3/141)


قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)

صلى الله عليه وسلم الأربعة ، وهو مؤذن أهل مكة ، وامتدت أيامه ، رضي الله عنه وأرضاه.
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) }
يقول تعالى : قل يا محمد ، لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم (1) هزوًا ولعبًا من أهل الكتاب : { هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلُ } أي : هل لكم علينا مطعن أو عيب إلا هذا ؟ وهذا ليس بعيب ولا مذمة ، فيكون الاستثناء منقطعًا (2) كما في قوله : { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [البروج : 8] وكقوله : { وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ } [التوبة : 74] وفي الحديث المتفق عليه : "ما ينقم ابن جَميل إلا أن كان فقيرًا فأغناه الله". (3)
وقوله : { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } معطوف على { أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلُ } أي : وآمنا بأن أكثركم فاسقون ، أي : خارجون عن الطريق المستقيم.
ثم قال : { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ } أي : هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا ؟ وهم أنتم الذين هم متصفون بهذه الصفات القصيرة ، فقوله : { مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ } أي : أبعده من رحمته { وَغَضِبَ عَلَيْهِ } أي : غضبًا لا يرضي بعده أبدًا ، { وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ } كما تقدم بيانه في سوره البقرة. وكما سيأتي إيضاحه في سورة الأعراف [إن شاء الله تعالى] (4)
وقد قال سفيان الثوري : عن عَلْقَمَة بن مَرْثَد ، عن المغيرة بن عبد الله ، عن المعرور بن سُوَيْد ، عن ابن مسعود قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير ، أهي مما مسخ الله [تعالى] (5) ؟ فقال (6) إن الله لم يهلك قومًا - أو قال : لم يمسخ قومًا - فيجعل لهم نَسْلا ولا عَقِبًا (7) وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك".
__________
(1) في ر : "دينهم".
(2) في د : "منقطع".
(3) رواه البخاري في صحيحه برقم (1468) ورواه مسلم في صحيحه برقم (983) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من أ.
(6) في ر : "قال".
(7) في أ : "عاقبة".

(3/142)


وقد رواه مسلم من حديث سفيان الثوري ومِسْعَر كلاهما ، عن مُغِيرة بن عبد الله اليشكري ، به. (1)
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا داود بن أبي الفرات ، عن محمد بن زيد ، عن أبي الأعين العبدي ، عن أبي الأحوص ، عن ابن مسعود قال : سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير ، أهي من نسل اليهود ؟ فقال : "لا إن الله لم يلعن قومًا (2) فيمسخهم (3) فكان لهم نسل ، ولكن هذا خلق كان ، فلما غضب الله على اليهود فمسخهم ، جعلهم (4) مثلهم".
ورواه أحمد من حديث داود بن أبي الفرات ، به. (5)
وقال ابن مردويه : حدثنا عبد الباقي ، حدثنا أحمد بن صالح (6) حدثنا الحسن بن محبوب ، حدثنا عبد العزيز بن المختار ، عن داود بن أبي هند ، عن عِكْرِمَة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الحيات مَسْخ الجن ، كما مُسِخَتِ القردة والخنازير". هذا حديث غريب جدا (7).
وقوله : { وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } وقرئ { وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } على أنه فعل ماض ، "والطاغوت" منصوب به ، أي : وجعل منهم من عبد الطاغوت. وقرئ : { وَعَبْدَ الطَّاغُوتَ } بالإضافة على أن المعنى : وجعل منهم خدم الطاغوت ، أي : خدامه وعبيده. وقرئ { وَعُبُدَ الطَّاغُوتَ } على أنه جمع الجمع : عبد وعَبيد وعُبُد ، مثل ثمار وثُمُر. حكاها ابن جرير عن الأعمش. وحكي عن بُرَيْدةَ الأسلمي أنه كان يقرؤها : "وعَابد الطاغوت" ، وعن أبي ، وابن مسعود : "وعبدوا" ، وحكى ابن جرير عن أبي جعفر القارئ أنه كان يقرؤها : { وَعُبِدَ الطَّاغُوتَ } على أنه مفعول ما لم يسم فاعله ، ثم استبعد معناها. والظاهر (8) أنه لا بعد في ذلك ؛ لأن هذا من باب التعريض بهم ، أي : وقد عبدت الطاغوت فيكم ، وكنتم أنتم الذين تعاطوا ذلك.
وكل هذه القراءات يرجع معناها إلى أنكم يا أهل الكتاب الطاعنين في ديننا ، والذي (9) هو توحيد الله وإفراده بالعبادات دون [ما] (10) سواه ، كيف يصدر منكم هذا وأنتم قد وجد منكم (11) جميع ما ذكر ؟ ولهذا قال : { أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا } أي : مما تظنون بنا { وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ }
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2663).
(2) في ر ، أ : "قوما قط".
(3) في ر ، أ : "فمسخهم".
(4) في أ : "فجعلهم".
(5) مسند الطيالسي برقم (307) ومسند أحمد (1/395) وفي إسناده محمد بن زيد الكندي وهو مجهول ، وأبو الأعين العبدي ضعيف.
(6) في أ : "حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح".
(7) ورواه ابن حبان في صحيحه برقم (1080) "موارد" والطبراني في المعجم الكبير (11/341) والبزار في مسنده برقم (1232) "كشف الأستار" وابن أبي حاتم في العلل (2/290) من طرق عن عبد العزيز بن المختار به.
وقال ابن أبي حاتم : سمعت أبا زرعة يقول : "هذا الحديث هو موقوف لا يرفعه إلا عبد العزيز بن المختار ولا بأس في حديثه".
ولم يتبين لي وجه غرابته عند الحافظ ابن كثير إلا أن يكون قصد أن عبد العزيز بن المختار قد خالفه فيه معمر ، فرواه عن أيوب عن عكرمة به موقوفاً.
رواه الطبراني فى المعجم الكبير (11/341). فهذا بعيد وهو محتمل ، وقد صحح هذا الحديث الحافظ المقدسى في المختارة ، كما في السلسلة الصحيحة للشيخ ناصر الألباني (4/439).
(8) في أ : "والظاهر على".
(9) في ر : "الذي".
(10) زيادة من ر ، أ.
(11) في أ : "فيكم".

(3/143)


وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر مشاركة ، كقوله : { أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلا } [الفرقان : 24]
وقوله : { وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ } وهذه صفة المنافقين منهم ، أنهم يصانعون المؤمنين في الظاهر وقلوبهم منطوية على الكفر ؛ ولهذا قال : { وَقَدْ دَخَلُوا [بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ] } (1) أي (2) عندك يا محمد { بِالْكُفْرِ } أي : مستصحبين الكفر في قلوبهم ، ثم خرجوا وهو كامن فيها ، لم ينتفعوا بما قد سمعوا منك من العلم ، ولا نجعت فيهم المواعظ ولا الزواجر ؛ ولهذا قال : { وَهُمْ [قَدْ] خَرَجُوا بِهِ } (3) فخصهم به دون غيرهم.
وقوله : { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ } أي : والله عالم بسرائرهم وما تنطوي عليهم ضمائرهم (4) وإن أظهروا لخلقه خلاف ذلك ، وتزينوا بما ليس فيهم ، فإن عالم الغيب والشهادة أعلم بهم منهم ، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء.
وقوله : { وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ } أي : يبادرون إلى ذلك من تعاطي المآثم والمحارم والاعتداء على الناس ، وأكلهم أموالهم بالباطل { لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : لبئس (5) العمل كان عملهم وبئس الاعتداء اعتداؤهم. (6)
قوله : { لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } يعني : هلا كان ينهاهم الربانيون والأحبار عن تعاطي ذلك. والربانيون وهم : العلماء العمال أرباب الولايات عليهم ، والأحبار : وهم العلماء فقط.
{ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني الربانيين ، أنهم : بئس ما كانوا يصنعون. يعني : في تركهم ذلك.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : قال لهؤلاء حين لم يَنْهُوا ، ولهؤلاء حين علموا. قال : وذلك الأركان. قال : "ويعملون"و "ويصنعون" واحد. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا ابن عطية ، حدثنا قَيْس ، عن العلاء بن المسيب ، عن خالد بن دينار عن ابن عباس قال : ما في القرآن آية أشد توبيخًا من هذه الآية : { لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ } قال : كذا قرأ.
وكذا قال الضحاك : ما في القرآن آية أخوف عندي منها : إنا لا ننهى. رواه ابن جرير.
وقال ابن أبي حاتم : ذكره (7) يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود ، حدثنا محمد بن مسلم عن أبي الوضاح ، حدثنا ثابت بن سعيد الهمذاني ، قال : رأيته (8) بالرِّيِّ فحدث عن يحيى بن يَعْمَر قال : خطب علي بن أبي طالب فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس ، إنما هلك من كان (9) قبلكم
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ر ، أ : "إلى".
(3) زيادة من ر ، أ ، وهو الصواب".
(4) في ر : "ضمائركم".
(5) في ر : "أي بئس".
(6) في ر ، أ : "وبئس الاعتماد اعتمادهم".
(7) في أ : "يذكر".
(8) في ر ، أ : "لقيته".
(9) في ر : إنما هلك من هلك".

(3/144)


بركوبهم المعاصي ، ولم ينههم الربانيون والأحبار ، فلما تمادوا في المعاصي ولم ينههم الربانيون والأحبار أخذتهم العقوبات. فَمُروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ، قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم ، واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقًا ولا يقرب أجلا.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا ، شَرِيك ، عن أبي إسحاق ، عن المنذر بن جرير ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من قوم يكون بين أظهرهم من يعمل بالمعاصي هم أعز منه وأمنع ، لم يغيروا ، إلا أصابهم الله منه بعذاب".
تفرد به أحمد من هذا الوجه. (1)
ورواه أبو داود ، عن مَسَدَّد ، عن أبي الأحوص ، عن أبي إسحاق ، عن المنذر بن جرير ، عن جرير قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي ، يقدرون أن يغيروا عليه ، فلا يغيرون إلا أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا". (2)
وقد رواه ابن ماجه عن على بن محمد ، عن وَكِيع ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبَيد الله (3) بن جرير ، عن أبيه ، به. (4)
قال الحافظ المِزِّي : وهكذا رواه شعبة ، عن إسحاق ، به. (5)
__________
(1) المسند (4/363) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (2/331) من طريق يزيد بن هارون به.
(2) سنن أبي داود برقم (4339) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (2/332) من طريق مسدد ، عن أبي الأحوص به.
(3) في أ : "عبد الله ".
(4) سنن ابن ماجة برقم (4009).
(5) تحفة الأشراف (2/426) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (2/331) فقال : حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثني أبي ، حدثنا محمد ابن جعفر ، حدثنا شعبة ، فذكره.

(3/145)


وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)

{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) }
يخبر تعالى عن اليهود - عليهم لعائن الله المتتابعة (1) إلى يوم القيامة - بأنهم وصفوا الله ، عز وجل وتعالى عن قولهم علوًا كبيرًا ، بأنه بخيل. كما وصفوه بأنه فقير وهم أغنياء ، وعبروا عن البخل
__________
(1) في أ : التابعة".

(3/145)


بقولهم : { يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبد الله الطهراني ، حدثنا حفص بن عمر العَدَنِيّ ، حدثنا الحكم بن أبان ، عن عِكْرِمَة قال : قال ابن عباس : { مَغْلُولَةٌ } أي : بخيلة.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ } قال : لا يعنون بذلك أن يد الله موثقة (1) ولكن يقولون : بخيل أمسك ما عنده ، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.
وكذا روي عن عِكْرِمَة ، وقتادة ، والسُّدِّي ، ومجاهد ، والضحاك وقرأ : { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا } [الإسراء : 29]. يعني : أنه ينهى (2) عن البخل وعن التبذير ، وهو الزيادة في الإنفاق في غير محله ، وعبَّر عن البخل بقوله : { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ }.
وهذا هو الذي أراد هؤلاء اليهود عليهم لعائن الله. وقد قال عكرمة : إنها نزلت في فنْحاص اليهودي ، عليه لعنة الله. وقد تقدم أنه الذي قال : { إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } [آل عمران : 181] فضربه أبو بكر الصديق ، رضي الله عنه.
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن أبي محمد ، عن سعيد أو عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رجل من اليهود ، يقال له : شاس (3) بن قيس : إن ربك بخيل لا ينفق ، فأنزل الله : { وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ }
وقد رد الله ، عز وجل ، عليهم ما قالوه ، وقابلهم فيما اختلقوه وافتروه وائتفكوه ، فقال : { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا } وهكذا (4) وقع لهم ، فإن عندهم من البخل والحسد والجبن والذلة (5) أمر عظيم ، كما قال تعالى : { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (6) ] } [النساء : 53 - 55] وقال تعالى : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاس (7) ] } الآية [آل عمران : 112].
ثم قال تعالى : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ } أي : بل هو الواسع الفضل ، الجزيل العطاء ، الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه ، وهو الذي ما بخلقه من نعمة فمنه وحده لا شريك له ، الذي خلق لنا كل شيء مما نحتاج إليه ، في ليلنا ونهارنا ، وحضرنا وسفرنا ، وفي جميع أحوالنا ، كما قال [تعالى] (8) { وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } الآية [إبراهيم : 34]. والآيات في هذا كثيرة ، وقد قال الإمام أحمد بن حنبل :
__________
(1) في ر : "منفقة".
(2) في أ : "نهى".
(3) في أ : "النباس".
(4) في أ : "هكذا".
(5) في أ : "المذلة".
(6) زيادة من ر ، أ.
(7) زيادة من ر ، أ.
(8) زيادة من ر.

(3/146)


حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن همام بن مُنَبه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن يمين الله مَلأى لا يَغِيضُها نفقة ، سَحَّاء الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض ، فإنه لم يَغِض ما في يمينه" قال : "وعرشه على الماء ، وفي يده الأخرى القبْض ، يرفع ويخفض" : قال : قال الله تعالى : "أنفق أنفق عليك" أخرجاه في الصحيحين ، البخاري في "التوحيد" عن علي بن المديني ، ومسلم فيه ، عن محمد بن رافع ، وكلاهما (1) عن عبد الرزاق ، به. (2)
وقوله : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا } أي : يكون ما أتاك الله يا محمد من النعمة نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم ، فكما يزداد به المؤمنون تصديقًا وعملا صالحًا وعلمًا نافعًا ، يزداد به الكفرة الحاسدون لك ولأمتك { طُغْيَانًا } وهو : المبالغة والمجاوزة للحد في الأشياء { وَكُفْرًا } أي : تكذيبا ، كما قال تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [فصلت : 44] وقال تعالى : { وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا } [الإسراء : 82].
وقوله : { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } يعني : أنه لا تجتمع قلوبهم ، بل العداوة واقعة بين فِرقهم بعضهم في بعض دائمًا لأنهم لا يجتمعون على حق ، وقد خالفوك وكذبوك.
وقال إبراهيم النَّخَعي : { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ } قال : الخصومات والجدال في الدين. رواه ابن أبي حاتم.
وقوله : { كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ } أي : كلما عقدوا أسبابًا يكيدونك بها ، وكلما أبرموا أمورًا يحاربونك بها يبطلها الله ويرد كيدهم عليهم ، ويحيق مكرهم السيئ بهم.
{ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } أي : من سجيتهم أنهم دائمًا يسعوْن في الإفساد في الأرض ، والله لا يحب من هذه صفته.
ثم قال جل وعلا { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا } أي : لو أنهم آمنوا بالله ورسوله ، واتقوا ما كانوا يتعاطونه من المحارم والمآثم { لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ } أي : لأزلنا عنهم المحذور ولحصّلْناهم (3) المقصود.
{ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ } قال ابن عباس ، وغيره : يعني القرآن. { لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } أي : لأنهم عملوا بما في الكتب التي بأيديهم عن الأنبياء ، على ما هي عليه ، من غير تحريف ولا تغيير ولا تبديل ، لقادهم ذلك إلى اتباع الحق والعمل بمقتضى
__________
(1) في ر ، أ : "كلاهما".
(2) المسند (2/313) وصحيح البخاري برقم (7419) وصحيح مسلم برقم (993).
(3) في ر ، أ : "ولحصلنا لهم".

(3/147)


ما بعث الله به محمدًا صلى الله عليه وسلم ؛ فإن كتبهم ناطقة بتصديقه والأمر باتباعه حتمًا لا محالة.
وقوله : { لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } يعني بذلك (1) كثرة الرزق النازل عليهم من السماء والنابت لهم من الأرض.
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : { لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ } يعني : لأرسل [السماء] (2) عليهم مدرارًا ، { وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } يعني : يخرج من الأرض بركاتها.
وكذا قال مجاهد ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، والسُّدِّي ، كما قال [تعالى] (3) { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ [وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ] } [الأعراف : 96] ، (4) وقال : { ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ] } [الروم : 41]. (5)
وقال بعضهم : معناه { لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } يعني : من غير كَد ولا تعب ولا شقاء ولا عناء.
وقال ابن جرير : قال بعضهم : معناه : لكانوا في (6) الخير ، كما يقول القائل : "هو في الخير من قرَنه (7) إلى قدمه". ثم رد هذا القول لمخالفة أقوال السلف (8)
وقد ذكر ابن أبي حاتم ، عند قوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ } حديث (9) علقمة ، عن صفوان بن عمرو ، عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يوشك أن يرفع العلم". فقال زياد بن لبيد : يا رسول الله ، وكيف يرفع العلم وقد قرأنا القرآن وعلمناه أبناءنا ؟! قال (10) ثكلتك أمك يا ابن لبيد! إن كنت لأراك (11) من أفقه أهل المدينة ، أوليست (12) التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى ، فما أغنى عنهم حين تركوا أمر الله" ثم قرأ { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ }
هكذا أورده (13) ابن أبي حاتم حديثًا (14) معلقًا (15) من أول إسناده ، مرسلا في آخره. وقد رواه الإمام أحمد بن حنبل متصلا موصولا فقال :
__________
(1) في ر ، أ : "يعني بذلك".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من ر ، أ.
(4) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(5) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(6) في أ : "إلى".
(7) في أ : "فوقه".
(8) "قائل هذه المقالة الفراء في كتاب معاني القرآن (1/315)" أ.هـ مستفادًا من حاشية تفسير الطبري وقد ذكرها الطبري في تفسيره (10/464).
(9) في ر ، أ : "حدثنا".
(10) في أ : "فقال".
(11) في أ : "لأري".
(12) في أ : "وليست".
(13) في ر : "رواه" ، وفي أ : "أورد".
(14) في أ : "هذا الحديث".
(15) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (18/43) والبزار في مسنده برقم (232) "كشف الأستار" من وجه آخر : من طريق إبراهيم بن أبي عبلة ، عن الوليد بن عبد الرحمن ، عن جبير بن نفير ، عن عوف بن مالك بنحوه.

(3/148)


حدثنا وَكِيع ، حدثنا الأعمش ، عن سالم بن أبي الجَعْد ، عن زياد بن لَبِيد قال : ذكر النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا فقال : "وذاك عند (1) ذهاب العلم". قال : قلنا : يا رسول الله ، وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونُقْرئه أبناءنا ، ويُقْرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة ؟ قال : "ثكلتك أمك يا ابن أم لبيد ، إن كنتُ لأراك من أفقه رجل بالمدينة ، أو ليس هذه اليهود والنصارى يقرءون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء"
وكذا رواه ابن ماجه ، عن أبى بكر بن أبي شيبة ، عن وكيع بإسناده نحوه (2) وهذا إسناد صحيح.
وقوله : { مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ } كقوله تعالى : { وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [الأعراف : 159] ، وكقوله عن أتباع عيسى : { فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ [وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ] (3) } [الحديد : 27]. فجعل أعلى مقاماتهم الاقتصاد ، وهو (4) أوسط مقامات هذه الأمة ، وفوق ذلك رتبة السابقين (5) كما في قوله تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } الآية [فاطر : 32 ، 33]. والصحيح أن الأقسام الثلاثة من هذه الأمة يدخلون الجنة.
وقد قال أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا أحمد بن يونس الضَّبِّي ، حدثنا عاصم بن علي ، حدثنا أبو مَعْشَر ، عن يعقوب بن يزيد بن طلحة ، عن زيد بن أسلم ، عن أنس بن مالك قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "تفرقت أمة موسى على إحدى (6) وسبعين ملة ، سبعون منها في النار وواحدة في الجنة ، وتفرقت أمة عيسى على ثنتين وسبعين ملة ، واحدة منها في الجنة وإحدى وسبعون منها في النار ، وتعلو أمتي على الفرقتين جميعًا. واحدة في الجنة ، وثنتان وسبعون في النار". قالوا : من هم يا رسول الله ؟ قال : "الجماعات الجماعات".
قال يعقوب بن يزيد (7) كان علي بن أبي طالب إذا حدث بهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تلا فيه قرآنا : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ } إلى قوله تعالى : { مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ } وتلا أيضًا : { وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [الأعراف : 181] يعني : أمة محمد صلى الله عليه وسلم. (8)
وهذا حديث غريب جدًا من هذا الوجه وبهذا السياق. وحديثُ افتراق الأمم إلى بضع وسبعين
__________
(1) في أ : "عن".
(2) المسند (4/160) وسنن ابن ماجة برقم (4048) وقال البوصيري في الزوائد (3/253) : "رجال إسناده ثقات إلا أنه منقطع ، قال البخاري في التاريخ الصغير : "لم يسمع سالم بن أبي الجعد من زياد بن لبيد".
(3) زيادة من ر ، أ.
(4) في ر : "وهي".
(5) في ر : "السابقية".
(6) في د : "على اثنتين" ، وفي أ : "على أحد".
(7) في أ : "زيد".
(8) ورواه أبو يعلى في مسنده (6/340) من طريق أبي معشر ، عن يعقوب بن زيد به من حديث طويل. وقال الهيثمي في المجمع (7/257) : "فيه أبو معشر نجيح وهو ضعيف".

(3/149)


يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)

مَرْوي من طرق عديدة ، وقد ذكرناه في موضع آخر. ولله الحمد والمنة.
{ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) }
يقول تعالى مخاطبًا عبده ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم باسم الرسالة ، وآمرًا له بإبلاغ جميع ما أرسله الله به ، وقد امتثل صلوات الله وسلامه عليه ذلك ، وقام به أتمّ القيام.
قال البخاري عند تفسير هذه الآية : حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان ، عن إسماعيل ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : من حَدّثَك أن محمدًا صلى الله عليه وسلم (1) كتم شيئًا مما أُنزل عليه (2) فقد كذب ، الله (3) يقول : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } الآية.
هكذا رواه ههنا مختصرًا ، وقد أخرجه في مواضع من صحيحه مطولا. وكذا رواه مسلم في "كتاب الإيمان" ، والترمذي والنسائي في "كتاب التفسير" من سننهما من طرق ، عن عامر الشعبي ، عن مسروق بن الأجدع ، عنها رضي الله عنها. (4)
وفي الصحيحين عنها أيضا (5) أنها قالت : لو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتما من القرآن شيئًا لكتم هذه الآية : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ } [الأحزاب : 37]. (6)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا سعيد بن سليمان ، حدثنا عباد ، عن (7) هارون بن عنترة ، عن أبيه قال : كنت عند ابن عباس فجاء (8) رجل فقال له : إن ناسًا يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئًا لم يبده رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للناس. فقال : ألم تعلم أن الله تعالى قال : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } والله ما ورثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداءَ في بيضاء.
وهذا إسناد جيد ، وهكذا في صحيح البخاري من رواية أبي جُحَيفَة وهب بن عبد الله السّوائي قال : قلت لعلي بن أبي طالب ، رضي الله عنه : هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن ؟ فقال : لا والذي (9) فلق الحبة وبرأ النسمة ، إلا فَهْمًا يعطيه الله رجلا في القرآن ، وما في هذه الصحيفة. قلت : وما في هذه الصحيفة ؟ قال : العقل ، وفَكَاك الأسير ، وألا يقتل مسلم بكافر (10).
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في د : "مما أنزله الله عليه".
(3) في هـ ، ر : "الله وهو" والمثبت من البخاري.
(4) صحيح البخاري برقم (4612) وبرقم (4855 ، 7380) وصحيح مسلم برقم (177) وسنن الترمذي برقم (3068) وسنن النسائي الكبرى برقم (11147).
(5) في ر ، أ : "أيضا عنها".
(6) صحيح البخاري برقم (7420) لكنه رواه من حديث أنس ، وقد تبع المؤلف هنا شيخه المزي حيث ذكره في تحفة الأشراف (11/385) من حديث أنس عن عائشة ، ولعله اعتمد على رواية الداودي كما ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح ، ورواه مسلم في صحيحه برقم (177).
(7) في أ : "بن".
(8) في ر ، أ : "فجاءه".
(9) في أ : "فقال : لا ، والذي نفسي بيده - أو قال - والذي".
(10) صحيح البخاري برقم (111).

(3/150)


وقال البخاري : قال الزهري : من الله الرسالة ، وعلى الرسول البلاغ ، وعلينا التسليم. (1)
وقد شهدت له أمته ببلاغ الرسالة وأداء الأمانة ، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل ، في خطبته يوم حجة الوداع ، وقد كان هناك من الصحابه (2) نحو من أربعين ألفًا (3) كما ثبت في صحيح مسلم ، عن جابر بن عبد الله ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يومئذ : "أيها الناس ، إنكم مسئولون عني ، فما أنتم قائلون ؟" قالوا : نشهد أنك قد بَلّغت وأدّيتَ ونصحت. فجعل يرفع إصبعه إلى السماء ويَقلبها (4) إليهم ويقول : "اللهم هل بَلَّغْتُ ، اللهم هل بلغت". (5)
وقال الإمام أحمد : حدثنا ابن نُمير ، حدثنا فضيل - يعني ابن غَزْوان - عن عِكْرمَة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : "يأيها الناس ، أيّ يوم هذا ؟" قالوا : يوم حرام. قال : "أيّ بلد هذا ؟" قالوا : بلد حرام. قال : "فأيّ شهر هذا ؟" قالوا : شهر حرام. قال : "فإن أموالكم ودماءكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا". ثم أعادها مرارًا. ثم رفع إصبعه (6) إلى السماء فقال : "اللهم هل بلغت!" مرارًا - قال : يقول ابن عباس : والله لَوصِيَّةٌ إلى ربه عز وجل - ثم قال : "ألا فليبلغ الشاهدُ الغائِبَ ، لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض".
وقد روى البخاري عن علي بن المديني ، عن يحيى بن سعيد عن فضيل بن غزوان ، به نحوه. (7)
وقوله : { وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } يعني : وإن لم تُؤد إلى الناس ما أرسلتك به { فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } أي : وقد عَلِم ما يترتب على ذلك لو وقع.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } يعني : إن كتمت آية مما أنزل إليك من ربك لم تبلغ رسالته.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي : حدثنا قُبَيْصة بن عُقْبَةَ (8) حدثنا سفيان ، عن رجل ، عن مجاهد قال : لما نزلت : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } قال : "يا رب ، كيف أصنع وأنا وحدي ؟ يجتمعون عليَّ". فنزلت { وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ }
ورواه ابن جرير ، من طريق سفيان - وهو الثوري - به.
وقوله : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } أي : بلغ أنت رسالتي ، وأنا حافظك وناصرك ومؤيدك على
__________
(1) صحيح البخاري (13/503) "فتح" وقال الحافظ ابن حجر : "هذا وقع في قصة أخرجها الحميدي ومن طريقه الخطيب ، قال الحميدي : حدثنا سفيان قال رجل للزهري : يا أبا بكر قول النبي صلى الله عليه وسلم : "ليس منا من شق الجيوب" ما معناه ؟ فقال الزهري : من الله العلم وعلى رسوله البلاغ وعلينا التسليم. وهذا الرجل هو الأوزاعي أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب الأدب ، وذكر ابن أبي الدنيا عن دحيم ، عن الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي قال : قلت للزهري فذكره".
(2) في أ : "أصحابه".
(3) في د : "أكثر من سبعين ألفا".
(4) في د ، أ : "وينكبها".
(5) صحيح مسلم برقم (1218).
(6) في أ : "رأسه".
(7) المسند (1/230) وصحيح البخاري برقم (1739).
(8) في ر : "عتبة".

(3/151)


أعدائك ومظفرك بهم ، فلا تخف ولا تحزن ، فلن يصل أحد منهم إليك بسوء يؤذيك.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول هذه الآية يُحْرَس (1) كما قال الإمام أحمد :
حدثنا يزيد ، حدثنا يحيى ، قال سمعت عبد الله بن عامر بن ربيعة يحدث : أن عائشة كانت تحدث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سَهِر ذات ليلة ، وهي إلى جنبه ، قالت : فقلتُ : ما شأنك يا رسول الله ؟ قال : "ليت رجلا صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة ؟" قالت : فبينا أنا على ذلك إذ سمعت صوت السلاح فقال : "من هذا ؟" فقال : أنا سعد بن مالك. فقال : "ما جاء بك ؟" قال : جئت لأحرسك يا رسول الله. قالت : فسمعت غطيط رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه. أخرجاه في الصحيحين من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري ، به. (2)
وفي لفظ : سَهِر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة مَقْدَمِه المدينة. يعني : على أثر هجرته [إليها] (3) بعد دخوله بعائشة ، رضي الله عنها ، وكان ذلك في سنة ثنتين منها.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا إبراهيم بن مرزوق البصري نزيل مصر ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا الحارث بن عُبَيد - يعني أبا قدامة - عن الجُرَيري ، عن عبد الله بن شَقِيق ، عن عائشة [رضي الله عنها] (4) قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يُحْرَس حتى نزلت هذه الآية : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } قالت : فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من القُبَّة ، وقال : "يأيها الناس ، انصرفوا فقد عصمني الله عز وجل".
وهكذا رواه الترمذي ، عن عبد بن حُمَيد وعن نصر بن علي الجَهْضمي ، كلاهما عن مسلم بن إبراهيم ، به. ثم قال : وهذا حديث غريب.
وهكذا رواه ابن جرير والحاكم في مستدركه ، من طرق مسلم بن إبراهيم ، به. ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وكذا رواه سعيد بن منصور ، عن الحارث بن عُبَيد أبي قدامة [الأيادي] (5) عن الجُرَيري ، عن عبد الله بن شَقِيق ، عن عائشة ، به. (6)
ثم قال الترمذي : وقد روى بعضهم هذا عن الجُرَيري ، عن ابن شقيق قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس. ولم يذكر عائشة.
قلت : هكذا رواه ابن جرير من طريق إسماعيل بن عُلَيَّةَ ، وابن مردويه من طريق وُهَيْب (7) كلاهما عن الجُرَيري ، عن عبد الله بن شقيق مرسلا (8) وقد روى هذا مرسلا عن سعيد بن جبَيْر
__________
(1) في د : "يحترس".
(2) المسند (6/140) وصحيح البخاري برقم (2885) وصحيح مسلم برقم (2410).
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من أ.
(6) سنن الترمذي برقم (5037) وتفسير الطبري (10/469) والمستدرك (2/313) وسنن سعيد بن منصور برقم (768).
(7) في أ : "وهب".
(8) تفسير الطبري (10/469) وقال الشيخ سعد الحميد - حفظه الله - في تعليقه على سنن سعيد بن منصور (4/1505) : "رواية ابن علية وحدها أرجح من رواية الحارث ؛ لأنه أوثق منه وسمع من سعيد قبل اختلاطه ، فكيف وقد وافقه وهيب ؟" أ. هـ.

(3/152)


ومحمد بن كعب القُرَظي ، رواهما ابن جرير (1) والربيع بن أنس رواه ابن مردويه ، ثم قال :
حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا أحمد بن رِشدِين المصري ، حدثنا خالد بن عبد السلام الصَّدفي ، حدثنا الفضل بن المختار ، عن عبد الله (2) بن مَوْهَب ، عن عصمة بن مالك الْخَظْمي (3) قال : كنا نحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل حتى نزلت : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } فترك الحرس. (4)
حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا حمد (5) بن محمد بن حمد أبو نصر الكاتب البغدادي ، حدثنا كُرْدُوس بن محمد الواسطي ، حدثنا معلي بن عبد الرحمن (6) عن فضيل بن مرزوق ، عن عطية ، عن أبي سعيد الخدري قال : كان العباس عم رسول الله (7) صلى الله عليه وسلم فيمن يحرسه ، فلما نزلت هذه الآية : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } ترك رسول الله (8) صلى الله عليه وسلم الحرس. (9)
حدثنا علي بن أبي حامد المديني ، حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد ، حدثنا محمد بن مُفَضَّل بن إبراهيم الأشعري ، حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن معاوية بن عمار ، حدثنا أبي قال : سمعت أبا الزبير المكي يحدث ، عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج بعث معه أبو طالب من يكلؤه ، حتى نزلت : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } فذهب ليبعث معه ، فقال : "يا عم ، إن الله قد عصمني ، لا حاجة لي إلى من تبعث".
وهذا حديث غريب وفيه نكارة (10) فإن هذه الآية مدنية ، وهذا الحديث يقتضي أنها مكية.
ثم قال : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا عبد الحميد الحمَّاني ، عن النضر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس ، فكان يرسل معه أبو طالب كل يوم رجالا (11) من بني هاشم يحرسونه ، حتى نزلت عليه هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } قال : فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسه ، فقال : "إن الله قد عصمني من الجن والإنس".
ورواه الطبراني عن يعقوب بن غَيْلان العماني ، عن أبي كريب به. (12)
__________
(1) تفسير الطبري (10/468 ، 469).
(2) في ر : "عبيد الله".
(3) في ر : "الخطمي".
(4) وفي إسناده أحمد بن رشدين ضعيف جدًا وكذبه بعض الأئمة ، والفضل بن المختار ضعيف روي أخبارًا منكرة.
وقال الحافظ ابن حجر في الإصابة في ترجمة عصمة بن مالك الخطنمي : "له أحاديث أخرجها الدارقطني والطبراني وغيرهما مدارها على الفضل بن المختار ، وهو ضعيف جدًا".
(5) في أ : "حميد".
(6) في ر ، أ : "يعلى" ، والتصويب من المعجم الأوسط وكتب الرجال.
(7) في ر ، أ : "النبي".
(8) فى ر ، أ : "النبي".
(9) هو عندط الطبراني في المعجم الأوسط برقم (3314) "مجمع البحرين" ، وقال الهيثمي في المجمع (7/17) : "فيه عطية العوفي وهو ضعيف".
(10) في إسناده من لم أعرفه ، ومعاوية بن عمار انتقد خاصة في روايته عن أبي الزبير عن جابر.
(11) في ر : "رجلا".
(12) المعجم الكبير (11/257) وقال الهيثمي في المجمع (7/17) : "فيه النضر بن عبد الرحمن وهو ضعيف".

(3/153)


وهذا أيضا غريب. والصحيح أن هذه الآية مدنية ، بل هي من أواخر ما نزل بها ، والله أعلم.
ومن عصمة الله [عز وجل] (1) لرسوله حفْظُه له من أهل مكة وصناديدها وحسادها ومُعَانديها ومترفيها ، مع شدة العداوة والبَغْضة ونصب المحاربة له ليلا ونهارًا ، بما يخلقه الله تعالى من الأسباب العظيمة بقَدَره وحكمته (2) العظيمة. فصانه في ابتداء الرسالة بعمه أبي طالب ، إذ كان رئيسًا مطاعًا كبيرًا في قريش ، وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا شرعية ، ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها ، ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر هابوه واحترموه ، فلما مات أبو طالب نال منه المشركون أذى يسيرًا ، ثم قيض الله [عز وجل] (3) له الأنصار فبايعوه على الإسلام ، وعلى أن يتحول إلى دارهم - وهي المدينة ، فلما صار إليها حَمَوه من الأحمر والأسود ، فكلما هم أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء كاده الله ورد كيده عليه ، لما كاده اليهود بالسحر حماه الله منهم ، وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواء لذلك الداء ، ولما سم اليهود في ذراع تلك الشاة بخيبر ، أعلمه (4) الله به وحماه [الله] (5) منه ؛ ولهذا أشباه كثيرة جدًا يطول ذكرها ، فمن ذلك ما ذكره المفسرون عند هذه الآية الكريمة :
فقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا أبو مَعْشَرٍ ، عن محمد بن كعب القُرَظِي وغيره قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلا اختار له أصحابه شجرة ظليلة فيقيل تحتها. فأتاه أعرابي فاخترط سيفه ثم قال : من يمنعك مني ؟ فقال : "الله عز وجل" ، فَرُعِدَت يد الأعرابي وسقط السيف منه ، قال : وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه ، فأنزل الله عز وجل : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } (6)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القَطَّان ، حدثنا زيد بن الحُبَاب ، حدثنا موسى بن عبيدة ، حدثني زيد بن أسلم ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أنمار ، نزل ذات الرِّقاع (7) بأعلى نخل ، فبينا هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه ، فقال غَوْرَث بن الحارث (8) من بني النجار : لأقتلن محمدًا. فقال له أصحابه : كيف تقتله ؟ قال : أقول له : أعطني سيفك. فإذا أعطانيه قتلته به ، قال : فأتاه فقال : يا محمد ، أعطني سيفك أشيمُه. فأعطاه إياه ، فَرُعدت يده حتى سقط السيف من يده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "حال الله بينك وبين ما تريد" فأنزل الله ، عز وجل : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ }
وهذا حديث غريب من هذا الوجه وقصة "غَوْرَث بن الحارث" مشهورة في الصحيح. (9)
__________
(1) زيادة من ر ، أ.
(2) في ر : "بقدرة حكمته".
(3) زيادة من أ.
(4) في أ : "أعلم".
(5) زيادة من أ.
(6) تفسير الطبري (10 / 470).
(7) في ر ، أ : "الرقيع".
(8) في ر ، أ : "الوارث".
(9) في إسناد ابن أبي حاتم موسى بن عبيدة الربذي ، وهو ضعيف ، والقصة أصلها في صحيح البخاري برقم (4136).

(3/154)


قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)

وقال أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا أبو عمرو أحمد بن محمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن عبد الوهاب ، حدثنا آدم ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : كنا إذا صحبنا (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر تركنا له أعظم شجرة وأظلها ، فينزل تحتها ، فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها ، فجاء رجل فأخذه فقال : يا محمد ، من يمنعك مني ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الله يمنعني منك ، ضع السيف". فوضعه ، فأنزل الله ، عز وجل : { وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ }
وكذا رواه أبو حاتم بن حِبَّان في صحيحه ، عن عبد الله بن محمد ، عن إسحاق بن إبراهيم ، عن المؤمل بن إسماعيل ، عن حماد بن سلمة ، به. (2)
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت أبا إسرائيل - يعني الجُشَمي - سمعت جَعْدَة - هو ابن خالد بن الصِّمَّة الجشمي - رضي الله عنه ، قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ورأى رجلا سمينًا ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يومئ إلى بطنه بيده ويقول : "لو كان هذا في غير هذا لكان خيرًا لك". قال : وأتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل فقال : هذا أراد أن يقتلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لم تُرَع ، ولم تُرَع ، ولو أردتَ ذلك لم يسلطك (3) الله عليَّ". (4)
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } أي : بلغ أنت ، والله هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، كما قال : { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [البقرة : 272] وقال { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [الرعد : 40].
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) }
يقول تعالى : قل يا محمد : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ } أي : من الدين ، { حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ } أي : حتى تؤمنوا بجميع ما بأيديكم من الكتب المنزلة من الله على الأنبياء ، وتعملوا بما فيها ومما فيها الأمر (5) باتباع بمحمد صلى الله عليه وسلم والإيمان بمبعثه ، والاقتداء بشريعته ؛ ولهذا قال ليث ابن أبي سليم ، عن مجاهد ، في قوله : { وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } يعني : القرآن العظيم.
وقوله : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا } تقدم تفسيره { فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }
__________
(1) في ر ، أ : "أصحبنا".
(2) صحيح ابن حبان برقم (1739) "موارد".
(3) في ر : "يسلط".
(4) المسند (3/471) وقال الهيثمي في المجمع (8/226) : "رجاله رجال الصحيح غير أبي إسرائيل الجشمي وهو ثقة".
(5) في أ : "بما فيها من الأمر".

(3/155)


أي : فلا تحزن عليهم ولا يَهيدنَّك ذلك منهم.
ثم قال : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا } وهم : المسلمون { وَالَّذِينَ هَادُوا } وهم : حملة التوراة { وَالصَّابِئُونَ } - لما طال الفصل حسن العطف بالرفع. والصابئون : طائفة بين (1) النصارى والمجوس ، ليس لهم دين. قاله مجاهد ، وعنه : بين (2) اليهود والمجوس. وقال سعيد بن جبير : بين (3) اليهود والنصارى ، وعن الحسن [والحكم] (4) إنهم كالمجوس. وقال قتادة : هم قوم يعبدون الملائكة ، ويصلون إلى غير القبلة ، ويقرؤون الزبور. وقال وَهْب بن مُنَبّه : هم قوم يعرفون الله وحده ، وليست لهم شريعة يعملون بها ، ولم يحدثوا كفرًا.
وقال ابن وَهْب : أخبرني ابن أبي الزَّنَاد ، عن أبيه قال : الصائبون : قوم مما يلي العراق ، وهم بكوثى ، وهم يؤمنون بالنبيين كلهم ، ويصومون كل سنة ثلاثين يوما ، ويصلون إلى اليمن كل يوم خمس صلوات. وقيل غير ذلك.
وأما النصارى فمعروفون ، وهم حملة الإنجيل.
والمقصود : أن كل فرقة آمنت بالله وباليوم (5) الآخر ، وهو المعاد والجزاء يوم الدين ، وعملت عملا صالحًا ، ولا يكون ذلك كذلك حتى يكون موافقًا للشريعة المحمدية بعد إرسال صاحبها المبعوث إلى جميع الثقلين فمن اتصف بذلك { فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } فيما يستقبلونه (6) ولا على ما تركوا وراء ظهورهم { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } وقد تقدم الكلام على نظيراتها في سورة البقرة ، بما أغنى عن إعادته. (7)
__________
(1) في ر ، أ : "من".
(2) في ر ، أ : "من".
(3) في ر ، أ : "من".
(4) زيادة من أ.
(5) في أ : "واليوم".
(6) في أ : "يستقبلون".
(7) في أ : "إعادتها هاهنا".

(3/156)


لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)

{ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) }
يذكر تعالى أنه أخذ العهود والمواثيق على بني إسرائيل ، على السمع والطاعة لله ولرسوله ، فنقضوا تلك العهود والمواثيق ، واتبعوا آراءهم وأهواءهم وقدموها على الشرائع ، فما وافقهم منها قبلوه ، وما خالفهم ردوه ؛ ولهذا قال : { كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ وَحَسِبُوا أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي : وحسبوا ألا يترتب لهم شر على ما صنعوا ، فترتب ، وهو أنهم عموا عن الحق وصَمُّوا ، فلا يسمعون حقًا (1) ولا يهتدون إليه ، { ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ } أي : مما كانوا فيه { ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا }
أي : بعد ذلك { [وَصَمُّوا] (2) كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي : مطلع عليهم وعليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية.
__________
(1) في د : "فلا يستمعون خيرا".
(2) زيادة من ر.

(3/156)


لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ ُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)

{ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) }
يقول تعالى حاكما بتكفير فرق النصارى ، من الملكية واليعقوبية والنسطورية ، ممن قال منهم بأن المسيح هو الله ، تعالى الله عن قولهم وتنزه وتقدس علوًا كبيرًا.
هذا وقد تقدم إليهم المسيح بأنه عبد الله ورسوله ، وكان أول كلمة نطق بها وهو صغير في المهد أن قال : { إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا } ولم يقل : أنا الله ، ولا ابن الله. بل قال : { إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا } إلى أن قال : { وإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } [مريم : 30 - 36].
وكذلك قال لهم في حال كهولته ونبوته ، آمرًا لهم بعبادة الله ربه وربهم وحده لا شريك له ؛ ولهذا قال تعالى : { وَقَالَ الْمَسِيح ُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ } أي : فيعبد معه غيره { فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ } أي : فقد أوجب له النار ، وحرم عليه الجنة ، كما قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء : 48 ، 116] ، وقال تعالى : { وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ } [الأعراف : 50].
وفي الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مناديا ينادي في الناس : "إن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة" ، وفي لفظ : "مؤمنة". (1)
وتقدم في أول سورة النساء عند قوله : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } [النساء : 48 ، 116] حديث يزيد (2) بن بَابَنُوس عن عائشة : الدواوين ثلاثة فذكر منهم ديوانًا لا يغفره (3) الله ، وهو الشرك بالله ، قال الله تعالى : { مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ [وَمَأْوَاهُ النَّارُ] } (4) الحديث في مسند أحمد. (5)
ولهذا قال [الله] (6) تعالى إخبارًا عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل : { إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ }
__________
(1) صحيح مسلم برقم (111).
(2) في أ : "زيد".
(3) في أ : "لا يغفر".
(4) زيادة من أ.
(5) المسند (6/240).
(6) زيادة من أ.

(3/157)


أي : وما له عند الله ناصر ولا معين ولا منقذ مما هو فيه.
وقوله { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ } قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسن الهِسَتْجَاني ، حدثنا سعيد بن الحكم بن أبي مريم ، حدثنا الفضل ، حدثني أبو صخر في قول الله : { لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ } قال : هو قول اليهود : { عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ } وقول النصارى : { الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ } [التوبة : 30] فجعلوا الله ثالث ثلاثة.
وهذا قول غريب في تفسير الآية : أن المراد بذلك طائفتا (1) اليهود والنصارى والصحيح : أنها أنزلت في النصارى (2) خاصة ، قاله مجاهد وغير واحد.
ثم اختلفوا (3) في ذلك فقيل : المراد بذلك كفارهم في قولهم بالأقانيم الثلاثة ، وهو أقنوم الأب ، وأقنوم الابن ، وأقنوم الكلمة المنبثقة (4) من الأب إلى الابن ، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا ، قال (5) ابن جرير وغيره : والطوائف الثلاث من الملكية واليعقوبية والنَّسطورية تقول بهذه الأقانيم. وهم مختلفون فيها اختلافًا متباينًا ليس هذا موضع بسطه ، وكل فرقة منهم تكفر الأخرى ، والحق أن الثلاث كافرة.
وقال السُّدِّي وغيره : نزلت في جعلهم المسيح وأمه إلهين مع الله ، فجعلوا الله (6) ثالث ثلاثة بهذا الاعتبار ، قال السدي : وهي كقوله تعالى في آخر السورة : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ } الآية [المائدة : 116].
وهذا القول هو الأظهر ، والله أعلم. قال الله تعالى : { وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ } أي : ليس متعددا ، بل هو وحده لا شريك له ، إله جميع الكائنات وسائر الموجودات.
ثم قال : تعالى متوعدًا لهم ومتهددًا : { وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ } أي : من هذا الافتراء والكذب { لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : في الآخرة من الأغلال والنكال.
ثم قال : { أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وهذا من كرمه تعالى وجوده ولطفه ورحمته بخلقه ، مع هذا الذنب العظيم وهذا الافتراء والكذب والإفك ، يدعوهم إلى التوبة والمغفرة ، فكل من تاب إليه تاب عليه ، ثم قال : { مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ } (7) أي : له سَويَّة أمثاله من سائر المرسلين المتقدمين عليه ، وأنه عبد من عباد الله ورسول من رسله الكرام ، كما قال : { إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ } [الزخرف : 59].
وقوله : { وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ } أي : مؤمنة به مصدقة له. وهذا أعلى مقاماتها (8) فدل على أنها ليست بنبية ، كما زعمه ابن حزم وغيره ممن ذهب إلى نبوة سارة أم إسحاق ، ونبوة أم موسى ، ونبوة أم عيسى استدلالا منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم ، وبقوله : { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ } [القصص : 7] ،
__________
(1) في ر : "طائفتي" والصحيح ما أثبتناه.
(2) في أ : "نزلت في قول النصارى".
(3) في أ : "واختلفوا".
(4) في أ : "المنبعثة".
(5) في ر : "قاله".
(6) في د : "فجعلوه".
(7) في ر ، أ : "الرسل وأمه صديقة".
(8) في أ : "مقاماتنا".

(3/158)


قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)

[قالوا] (1) وهذا معنى النبوة ، والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبيًا إلا من الرجال ، قال الله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي (2) إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } [يوسف : 109] ، وقد حكى الشيخ أبو الحسن الأشعري ، رحمه الله ، الإجماع على ذلك.
وقوله : { كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ } أي : يحتاجان إلى التغذية به ، وإلى خروجه منهما ، فهما عبدان كسائر الناس وليسا بإلهين كما زعمت (3) فرق النصارى الجهلة ، عليهم لعائن الله المتتابعة (4) إلى يوم القيامة.
ثم قال تعالى : { انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ } أي : نوضحها ونظهرها ، { ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ } أي : ثم انظر بعد هذا البيان والوضوح والجلاء أين يذهبون ؟ وبأيّ قول يتمسكون ؟ وإلى أيّ مذهب من الضلال يذهبون ؟ (5) ؟
{ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) }
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ر : "يوحي".
(3) في ر ، أ : "كما زعمه".
(4) في ر ، أ : "التابعة".
(5) في ر : "يزهون".

(3/159)


قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)

{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) }
يقول تعالى منكرًا على من عبد غيره من الأصنام والأنداد والأوثان ، ومبينًا له أنها لا تستحق شيئًا من الإلهية : { قُلْ } أي : يا محمد لهؤلاء العابدين غير الله من سائر فرق بني آدم ، ودخل في ذلك النصارى وغيرهم : { أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا } أي : لا يقدر على إيصال ضرر (1) إليكم ، ولا إيجاد نفع { وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } (2) أي : فلم (3) عدلتم عن إفراد السميع لأقوال عباده ، العليم بكل شيء إلى عبادة جَمَاد لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم شيئًا ، ولا يملك ضرًا ولا نفعًا لغيره ولا لنفسه.
ثم قال : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ } أي : لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق ، ولا تُطْروا من أمرتم بتعظيمه فتبالغوا فيه ، حتى تخرجوه عن حَيّز النبوة إلى مقام الإلهية ، كما صنعتم في المسيح ، وهو نبي من الأنبياء ، فجعلتموه إلهًا من دون الله ، وما ذاك إلا لاقتدائكم بشيوخ الضلال ، الذين هم سلفكم ممن ضل قديمًا ، { وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } أي : وخرجوا عن طريق الاستقامة والاعتدال ، إلى طريق الغواية والضلال.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس قال : وقد كان قائم قام عليهم ، فأخذ بالكتاب والسنة زمانًا ، فأتاه الشيطان فقال : إنما تركب أثرًا أو أمرًا قد عُمِل قبلك ، فلا تَجْمُد (4) عليه ، ولكن ابتدع أمرًا من قِبَل نفسك وادع إليه وأجبر الناس عليه ، ففعل ، ثم ادَّكر (5) بعد فعله زمانًا فأراد أن يتوب فخلع مُلْكه ،
__________
(1) في ر ، أ : "ضر".
(2) في أ : "والله واسع عليم" وهو خطأ.
(3) في ا : "فلو".
(4) في ر ، د : "تحمد".
(5) في د : "ادكر من".

(3/159)


لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)

وسلطانه وأراد أن يتعبد فلبث في عبادته أيامًا ، فأتي فقيل له : لو أنك تبت من خطيئة عملتها فيما بينك وبين ربك عسى أن يتاب عليك ، ولكن ضل فلان وفلان وفلان في سببك حتى فارقوا الدنيا وهم على الضلالة ، فكيف لك بهداهم ، فلا توبة لك أبدًا. ففيه سمعنا وفي أشباهه هذه الآية : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ }.
{ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) }
يخبر تعالى أنه لعن الكافرين من بني إسرائيل من دهر طويل ، فيما أنزل (1) على داود نبيه ، عليه السلام ، وعلى لسان عيسى ابن مريم ، بسبب عصيانهم لله واعتدائهم على خلقه.
قال العَوْفِيّ ، عن ابن عباس : لعنوا في التوراة و [في] (2) الإنجيل وفي الزبور ، وفي الفرقان. (3)
ثم بين حالهم فيما كانوا يعتمدونه في زمانهم ، فقال : { كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } أي : كان لا ينهي أحد منهم أحدًا عن ارتكاب المآثم والمحارم ، ثم ذمهم على ذلك ليحذر أن يُرْكَبَ مثل الذي (4) ارتكبوا ، فقال : { لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ }
وقال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا يزيد (5) حدثنا شَرِيك بن عبد الله ، عن علي بن بَذيمة (6) عن أبي عُبَيدة ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي ، نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا ، فجالسوهم في مجالسهم - قال يزيد : وأحسبه قال : وأسواقهم - وواكلوهم وشاربوهم. فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون" ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئًا فجلس فقال : "لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطرا". (7) (8)
وقال أبو داود : حدثنا عبد الله بن محمد النُّفَيْلي ، حدثنا يونس بن راشد ، عن علي بن بَذيمة ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أول ما دخل النقص على بني
__________
(1) في د ، أ : "أنزله".
(2) زيادة من ر ، أ.
(3) في أ : "القرآن".
(4) في أ : "أي من ارتكب مثل ما".
(5) في أ : "يزيد بن عباس".
(6) في د : "نديمة" ، وفي ر : "يديمة".
(7) في ر : "إطراء" ؟.
(8) المسند (1/391).

(3/160)


إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول : يا هذا ، اتق الله ودع ما تصنع ، فإنه لا يحل لك. ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده ، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ثم قال : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } إلى قوله : { فَاسِقُونَ } ثم قال : "كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتَنهون عن المنكر ، ولتأخذُنَّ على يد (1) الظالم ، ولَتَأطرنَّه على الحق أطْرا (2) - أو تقصرنه على الحق قصرًا".
وكذا رواه الترمذي وابن ماجه ، من طريق علي بن بَذيمة ، به (3) وقال الترمذي : "حسن غريب". ثم رواه هو وابن ماجه ، عن بُنْدَار ، عن ابن مَهْدِىّ ، عن سفيان ، عن علي بن بَذيمة ، عن أبي عبيدة مرسلا. (4)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج وهارون بن إسحاق الهمداني قالا حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن العلاء بن المسيب ، عن عبد الله بن عَمْرو بن مُرَّة ، عن سالم الأفطس ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيرًا ، فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكِيلَه وخَلِيطه وشَرِيكه - وفي حديث هارون : وشريبه ، ثم اتفقا في المتن - فلما رأى الله ذلك منهم ، ضرب قلوب بعضهم على بعض ، ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم ، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، ولتأخذن على يد المسيء ، ولتأطرُنَّه على الحق أطرًا (5) أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض ، أو ليلعَنْكم كما لعنهم" ، والسياق لأبي سعيد. كذا قال في رواية (6) هذا الحديث.
وقد رواه أبو داود أيضًا ، عن خَلَف بن هشام ، عن أبي شهاب الخياط ، عن العلاء بن المسيب ، عن عمرو بن مرة ، عن سالم - وهو ابن عِجْلان الأفطس - عن أبي عبيدة (7) بن عبد الله بن مسعود ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه. ثم قال أبو داود : وكذا رواه خالد ، عن العلاء ، عن عمرو بن مُرَّة ، به. ورواه المحاربي ، عن العلاء بن المسيب ، عن عبد الله بن عمرو بن مرة ، عن سالم الأفطس ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله (8)
قال شيخنا الحافظ أبو الحجاج (9) المزّي : وقد رواه خالد بن عبد الله الواسطي ، عن العلاء ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي موسى (10)
والأحاديث في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جدًا ، ولنذكر منها ما يناسب هذا المقام.
__________
(1) في ر : "يدي".
(2) في ر : "إطراء".
(3) سنن أبي داود برقم (4336) وسنن الترمذي برقم (3047) وسنن ابن ماجة برقم (4006).
(4) سنن الترمذي برقم (3048) وسنن ابن ماجة برقم (4006).
(5) في أ : "إطراء".
(6) في أ : "روايته".
(7) في أ : "عن أبي عبيدة بن عبدة".
(8) سنن أبي داود برقم (4337).
(9) في أ : "أبو الحجاج يوسف".
(10) تحفة الأشراف (7/161).

(3/161)


[و] (1) قد تقدم حديث جرير عند قوله [تعالى] (2) { لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ } [المائدة : 63] ، وسيأتي عند قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } [المائدة : 105] ، حديثُ أبي بكر الصديق وأبي ثعلبة الخُشَنِي [رضي الله عنهما] (3) - فقال الإمام أحمد :
حدثنا سليمان الهاشمي ، أنبأنا إسماعيل بن جعفر ، أخبرني عمرو بن أبي عمرو ، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأشهلي ، عن حذيفة بن اليمان ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "والذي نَفْسِي بيده لتَأمُرُنَّ بالمعروف ولَتَنْهَوُنَّ عن المُنْكَرِ ، أو ليُوشِكَنَّ الله أن يبعث عليكم عِقابًا من عنده ، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم".
ورواه الترمذي عن علي بن حجر ، عن إسماعيل بن جعفر ، به. وقال : هذا حديث حسن (4)
وقال أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه : حدثنا أبو بكر بن أبي شَيْبَة ، حدثنا معاوية بن هشام ، عن هشام بن سعد ، عن عمرو بن عثمان ، عن عاصم بن عمر بن عثمان ، عن عروَة ، عن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "مُروا بالمعروف ، وانْهَوْا عن المنكر ، قبل أن تَدْعوا فلا يستجاب لكم". تفرد به ، وعاصم هذا مجهول. (5)
وفي الصحيح من طريق الأعمش ، عن إسماعيل بن رَجاء ، عن أبيه ، عن سعيد - وعن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن أبي سعيد الخدري - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من رأى منكم مُنْكَرًا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان" (6) رواه مسلم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا ابن نُمَيْر ، حدثنا سَيْف - هو ابن أبي سليمان سمعت عَدِيّ بن عدي الكندي يحدث عن مجاهد قال : حدثني مولى لنا أنه سمع جدي - يعني : عدي بن عميرة ، رضي الله عنه - يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله (7) لا يُعذِّب العامَّة بعَمَلِ الخاصة ، حتى يَرَوا المنكر بين ظَهْرانيْهِم ، وهم قادرون على أن ينكروه. فلا ينكرونه فإذا فعلوا ذلك عَذَّبَ الله العامة والخاصة".
ثم رواه أحمد ، عن أحمد بن الحجاج ، عن عبد الله بن المبارك ، عن سيف بن أبي سليمان ، عن عدي (8) بن عدي الكندي ، حدثني مولى لنا أنه سمع جدي يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ، فذكره. هكذا رواه الإمام أحمد من هذين الوجهين. (9)
وقال أبو داود : حدثنا محمد بن (10) العلاء ، حدثنا أبو بكر ، حدثنا مُغِيرة بن زياد الموصلي ، عن
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من أ.
(4) المسند (5/388) وسنن الترمذي برقم (2169).
(5) سنن ابن ماجة برقم (4004) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (10/93) من طريق أبي همام الدلال ، عن هشام بن سعد به.
(6) صحيح مسلم برقم (49).
(7) في أ : "الله عز وجل".
(8) في ر ، أ : "عيسى".
(9) المسند (4/192) وقال الهيثمي في المجمع (7/267) : "رواه احمد من طريقين إحداها عن عدي بن عدي ، حدثني مولى لنا وهو الصواب" أ. هـ. بتصرف.
(10) في ر : "أبو".

(3/162)


عَدِيّ بن عدي ، عن العُرْس - يعني ابن عَميرة - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شَهِدَها فكَرِهَها - وقال مرة : فأنكرها - كان كمن غاب عنها ، ومن غاب عنها فَرَضِيَها كان كمن شهدها."
تفرد به أبو داود ، ثم رواه عن أحمد بن يونس ، عن أبي شهاب ، عن مغيرة بن زياد ، عن عدي بن عدي ، مرسلا. (1)
[و] (2) قال أبو داود : حدثنا سليمان بن حرب وحفص بن عمر قالا حدثنا شعبة - وهذا لفظه - عن عمرو بن مرة ، عن أبي البَخْتَري قال : أخبرني من سمع النبي صلى الله عليه وسلم - وقال سليمان : حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم - قال : "لن يهلك الناس حتى يعْذِروا - أو : يُعْذِروا - من أنفسهم". (3)
وقال ابن ماجه : حدثنا عمران بن موسى ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا علي بن زيد بن جُدْعان ، عن أبي نَضْرَة ، عن أبي سعيد الخدري ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطيبًا ، فكان فيما قال : "ألا لا يمنعن (4) رجلا هَيْبَةُ الناس أن يقول الحق إذا علمه". قال : فبكى أبو سعيد وقال : قد - والله - رأينا أشياء ، فَهِبْنَا. (5)
وفي حديث إسرائيل : عن محمد بن حجادة ، عن عطية ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أفضل الجهاد كلمة حق (6) عند سلطان جائر".
رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، وقال الترمذي : حسن غريب من هذا الوجه. (7)
وقال ابن ماجه : حدثنا راشد بن سعيد الرملي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن أبي غالب ، عن أبي أمامة (8) قال : عَرَض لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ عند الجَمْرة الأولى فقال : يا رسول الله ، أيّ الجهاد أفضل ؟ فسكت عنه. فلما رَمَى الجمرة الثانية سأله ، فسكت عنه. فلما رمى جمرة العَقَبة ، ووضع رجله في الغَرْز ليركب ، قال : "أين السائل ؟" قال : أنا يا رسول الله ، قال : "كلمة حق تقال عند ذي سلطان جائر". تفرد به. (9)
وقال ابن ماجه : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا عبد الله بن نُمَيْر وأبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمرو بن مُرَّة ، عن أبي البَخْترِي ، عن
أبي سعيد (10) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يَحْقِر أحدكم
__________
(1) سنن أبي داود برقم (4345) ومرسلا برقم (4346).
(2) زيادة من أ.
(3) سنن أبي داود برقم (4347).
(4) في ر : "تمنعن".
(5) سنن ابن ماجة برقم (4007) وفي إسناده على بن زيد بن جدعان ، وهو ضعيف.
(6) في أ : "عدل".
(7) سنن أبي داود برقم (4344) وسنن الترمذي برقم (2174) وسنن ابن ماجة برقم (4011).
(8) في أ : "أبي أسامة".
(9) سنن أبن ماجة برقم (4012) وقال البوصيري في الزوائد (3/243) : "هذا إسناد فيه مقال ، أبو غالب مختلف فيه ضعفه ابن سعد وأبو حاتم والنسائي ، ووثقه الدارقطني وقال ابن عدي : لا بأس به ، وراشد بن سعيد قال فيه أبو حاتم : صدوق وباقي رجال الإسناد ثقات".
(10) في أ : "أبي سعيد الخدري".

(3/163)


نفسه". قالوا : يا رسول الله ، كيف يحقر أحدنا نفسه ؟. قال : "يرى أمرًا لله فيه مَقَال ، ثم لا يقول فيه. فيقول الله له يوم القيامة : ما منعك أن تقول فيّ كذا وكذا وكذا ؟ فيقول : خَشْيَةَ الناس ، فيقول : فإياي كنت أحق أن تَخْشَى". تفرد به. (1)
وقال أيضا : حدثنا علي بن محمد ، حدثنا محمد بن فُضَيل ، حدثنا يحيى بن سعيد ، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن أبو طُوَالة ، حدثنا نَهَارُ العَبْدِيّ ؛ أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله ليسأل العبد يوم القيامة ، حتى يقول : ما منعك إذ (2) رأيت المنكر أن تنكره ؟ فإذا لَقَّنَ (3) الله عبدًا حجته ، قال : يا رب ، رَجَوْتُكَ وفَرقْتُ من الناس". تفرد به أيضًا ابن ماجه ، (4) وإسناده لا بأس به.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عمرو بن عاصم ، عن حماد (5) بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن الحسن ، عن جُنْدَب ، عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه". قيل : وكيف يذل نفسه ؟ قال : "يتعرض من البلاء لما لا يطيق".
وكذا رواه الترمذي وابن ماجه جميعًا ، عن محمد بن بَشَّار ، عن عمرو بن عاصم ، به. وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب. (6)
وقال ابن ماجه : حدثنا العباس بن (7) الوليد الدمشقي ، حدثنا زيد بن يحيى بن عُبَيد الخُزَاعي ، حدثنا الهيثم بن حميد ، حدثنا أبو مَعْبَد حفص بن غَيْلان (8) الرُّعَيني ، عن مكحول ، عن أنس بن مالك قال : قيل : يا رسول الله ، متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ قال : "إذا ظَهَر فيكم ما ظَهَر في الأمم قبلكم". قلنا : يا رسول الله ، وما ظهر في الأمم قبلنا ؟ قال : "المُلْك في صغاركم ، والفاحشة في كباركم ، والعلم في رُذالكم". قال زيد : تفسير معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " "والعلم في رُذالكم" : إذا كان العلم في الفُسَّاق.
تفرد به ابن ماجه (9) وسيأتي في حديث أبي ثَعْلَبة ، عند قوله : { لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } [المائدة : 105] شاهد لهذا ، إن شاء الله تعالى وبه الثقة.
وقوله : { تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا } قال مجاهد : يعني بذلك المنافقين. وقوله : { لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ } يعني بذلك موالاتهم للكافرين ، وتركهم موالاة المؤمنين ، التي أعقبتهم نفاقًا في قلوبهم ، وأسخطت الله عليهم سخطًا مستمرًا إلى يوم معادهم ؛ ولهذا قال : { أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ }
__________
(1) سنن ابن ماجة برقم (4008) وقال البوصيري في الزوائد (3/242) : "هذا إسناد صحيح".
(2) في ر : "إذا".
(3) في ر : "ألقى".
(4) سنن ابن ماجة برقم (4017) وقال البوصيري في الزوائد (3/244) : "هذا إسناد صحيح".
(5) في ر : "خالد".
(6) المسند (5/405) وسنن الترمذي برقم (2254) وسنن ابن ماجة برقم (4016).
(7) في أ : "حدثنا".
(8) في أ : "عبدان".
(9) سنن ابن ماجة برقم (4015) وقال البوصيري في الزوائد (3/244) : "هذا إسناد صحيح ورجاله ثقات".

(3/164)


فسر بذلك ما ذمهم به. ثم أخيرًا أنهم { وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ } يعني يوم القيامة.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا مسلمة (1) بن علي ، عن الأعمش بإسناد ذكره قال : "يا معشر المسلمين ، إياكم والزنا ، فإن فيه ست خصال ، ثلاثة في الدنيا وثلاثة في الآخرة ، فأما التي في الدنيا : فإنه يُذهب البهاء ، ويُورِث الفقر ، ويُنقِص العمر. وأما التي في الآخرة : فإنه يُوجب سَخَط الرب ، وسوء الحساب ، والخلود في النار". ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ }
هكذا ذكره ابن أبي حاتم ، وقد رواه ابن مَرْدُويه عن طريق هشام بن عمار ، عن مسلمة (2) عن الأعمش ، عن شَقِيق ، عن حذيفة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم - فذكره. وساقه أيضًا من طريق سعيد بن غُفَير ، عن مسلمة ، عن أبي عبد الرحمن الكوفي ، عن الأعمش ، عن شقيق ، عن حذيفة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثله.
وهذا حديث ضعيف على كل حال (3) والله أعلم. ثم قال تعالى : { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ } أي : لو آمنوا حق الإيمان بالله والرسل والفرقان (4) لما ارتكبوا ما ارتكبوه من موالاة الكافرين في الباطن ، ومعاداة المؤمنين بالله والنبي وما أنزل إليه { وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } أي : خارجون عن طاعة الله ورسوله مخالفون لآيات وحيه وتنزيله.
__________
(1) في ر ، أ : "مسلم".
(2) في ر ، أ : "مسلم".
(3) ورواه ابن عدي في الكامل (6/317) من هذين الطريقين فقال :
1 - حدثنا عبدان ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا مسلمة ، عن الأعمش ، عن شقيق ، عن حذيفة بن اليمان به.
2 - وحدثنا جعفر بن أحمد بن علي بن بيان ، حدثنا سعيد بن عفير ، حدثنا مسلمة بن علي ، عن أبي علي الكوفي ، عن الأعمش ، عن شقيق عن حذيفة نحوه.
ثم قال : "وهذا عن الأعمش غير محفوظ وهو منكر واختلف ابن عفير وهشام في إسناده ، فقال هشام : عن مسلمة ، عن الأعمش ، وقال ابن عفير : عن مسلمة عن أبي على الكوفي ، عن الأعمش ، وأبو علي لا يدري من هو ؟ ويروي هذا الحديث عن عبد الله بن عصمة النصيبي ، عن محمد بن سلمة البناني ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الأحاديث غير محفوظة".
(4) في أ : "والقرآن".

(3/165)


لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82)

{ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) }

(3/166)


وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)

{ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) }
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : نزلت هذه الآيات في النجاشي وأصحابه ، الذين حين تلا عليهم جعفر بن أبي طالب بالحبشة القرآن بكوا حتى أخضلوا لحاهم. وهذا القول فيه نظر ؛ لأن هذه الآية مدنية ، وقصة جعفر مع النجاشي قبل الهجرة.
وقال سعيد بن جُبَير والسُّدِّي وغيرهما : نزلت في وَفْد بعثهم النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسمعوا كلامه ، ويروا صفاته ، فلما قرأ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم القرآن أسلموا وبَكَوا وخَشَعوا ، ثم رجعوا إلى النجاشي فأخبروه.
قال السدي : فهاجر النجاشي فمات في الطريق.
وهذا من إفراد السدي ؛ فإن النجاشي مات وهو ملك الحبشة ، وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم يوم مات ، وأخبر به أصحابه ، وأخبر أنه مات بأرض الحبشة.
ثم اختلف في عِدة هذا الوفد ، فقيل : اثنا عشر ، سبعة قساوسة (1) وخمسة رَهَابين. وقيل بالعكس. وقيل : خمسون. وقيل : بضع وستون. وقيل : سبعون رجلا. فالله أعلم. (2)
وقال عَطاء بن أبي رَباح : هم قوم من أهل الحبشة ، أسلموا حين قدم عليهم مُهَاجرَة الحبشة من المسلمين ، وقال قتادة : هم قوم كانوا على دين عيسى ابن مريم ، فلما رأوا المسلمين وسمعوا القرآن أسلموا ولم يَتَلَعْثَمُوا. واختار ابن جرير أن هذه [الآية] (3) نزلت في صفة أقوام بهذه المثابة ، سواء أكانوا من الحبشة أو غيرها.
فقوله [تعالى] (4) { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا } ما ذاك إلا لأن كفر اليهود عناد وجحود ومباهتة للحق ، وغَمْط للناس وتَنَقص بحملة العلم. ولهذا قتلوا كثيرًا من الأنبياء حتى هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة وسحروه ، وألَّبوا عليه أشباههم من المشركين - عليهم لعائن الله المتتابعة (5) إلى يوم القيامة.
وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويَه عند تفسير هذه الآية : حدثنا أحمد بن محمد بن السُّرِّي : حدثنا محمد بن علي بن حبيب الرَّقي ، حدثنا سعيد العلاف بن العلاف ، حدثنا أبو النَّضْر ، عن الأشجعي ، عن سفيان ، عن يحيى بن عبد الله عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما خلا يهودي قط بمسلم (6) إلا هم (7) بقتله".
ثم رواه عن محمد بن أحمد بن إسحاق اليَشْكُرِي (8) حدثنا أحمد بن سهل بن أيوب الأهوازي ، حدثنا فرج بن عبيد ، حدثنا عباد بن العوام ، عن يحيى بن عُبَيد الله ، عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما خلا يهودي بمسلم إلا حدثت (9) نفسه بقتله". وهذا حديث غريب جدًا. (10)
__________
(1) في أ : "قساقسة".
(2) في أ : "والله أعلم".
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من أ.
(5) في ر ، أ : "التابعة".
(6) في أ : "بمسلم قط".
(7) في ر : "وهم".
(8) في أ : "العسكري".
(9) في ر ، أ : "إلا حدث".
(10) ورواه ابن حبان في المجروحين (3/122) من طريق يحيى بن عبيد الله عن أبيه ، عن أبي هريرة به وقال : "يحيى بن عبيد الله ابن موهب القرشي يروي عن أبيه ما لا أصل له ، فلما كثر ذلك عنه ، سقط عن الاحتجاج به".
ورواه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد (8/316) من وجه آخر : من طريق جرير بن حازم ، عن محمد بن سيرين ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه به ، وقال : "هذا حديث غريب جدًا من حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة ، ومن حديث جرير بن حازم عن ابن سيرين لم أكتبه إلا من حديث خالد بن يزيد ، عن وهب بن جرير".

(3/166)


وقوله : { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى } أي : الذين زعموا أنهم نصارى من أتباع المسيح وعلى منهاج إنجيله ، فيهم مودة للإسلام وأهله في الجملة ، وما ذاك إلا لما في قلوبهم ، إذ كانوا على دين المسيح من الرقة والرأفة ، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً } [الحديد : 27] وفي كتابهم : من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر. وليس (1) القتال مشروعًا في ملتهم ؛ ولهذا قال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ } أي : يوجد فيهم القسيسون - وهم خطباؤهم وعلماؤهم ، واحدهم : قسيس وقَس أيضًا ، وقد يجمع على قسوس - والرهبان : جمع راهب ، وهو : العابد. مشتق من الرهبة ، وهي (2) الخوف كراكب وركبان ، وفارس وفرسان.
وقال ابن جرير : وقد يكون الرهبان واحدًا وجَمْعُه رهابين ، مثل قربان وقرابين ، وجُرْدان وجَرَادين (3) وقد يجمع (4) على رهابنة. ومن الدليل على أنه يكون عند العرب واحدًا قول الشاعر :
لَوْ عَاينَتْ (5) رُهْبان دَيْر في القُلَل... لانْحدَر الرُّهْبَان يَمْشي ونزل (6)
وقال الحافظ أبو بكر البزار : حدثنا بِشْر بن آدم ، حدثنا نُصَير بن أبي الأشعث ، حدثني الصلت الدهان ، عن حامية بن رئاب قال : سألت سلمان عن قول الله [عز وجل] : (7) { ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا } فقال : دع "القسيسين" في البيع والخرب ، أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ذلك بأن منهم صديقين ورهبانا". (8)
وكذا رواه ابن مردويه من طريق يحيى بن عبد الحميد الحمَّاني ، عن نُصير بن زياد الطائي ، عن صَلْت الدهان ، عن حامية بن رِئَاب ، عن سلمان ، به.
وقال ابن أبي حاتم : ذكره أبي ، حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحمَّاني ، حدثنا نُصَير بن زياد الطائي ، حدثنا صلت الدهان ، عن حامية بن رئاب قال : سمعت سلمان وسئل عن قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا } قال : هم الرهبان الذين هم في الصوامع والخرَب ، فدعوهم فيها ، قال سلمان : وقرأت (9) على النبي صلى الله عليه وسلم { ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ [وَرُهْبَانًا] } (10) فأقرأني : "ذلك بأن منهم صديقين ورهبانا". (11)
__________
(1) في ر : "ليس".
(2) في ر ، أ : "وهو".
(3) في ر : "وجوذان وجواذين".
(4) في أ : "وقد جمع".
(5) في ر " عاتبت ".
(6) تفسير الطبري (10/503)".
(7) زيادة من أ.
(8) ورواه البخاري في التاريخ الكبير (8/116) من طريق معاوية بن هشام ، عن نصير بن زياد به.
(9) في أ : "قرأت".
(10) زيادة من أ.
(11) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (6/266) من طريق يحيى الحماني به. وقال الهيثمي في المجمع (7/17) : "فيه يحيى الحماني ونصير بن زياد وكلاهما ضعيف".

(3/167)


فقوله : { ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ } تضمن وصفهم بأن فيهم العلم والعبادة والتواضع ، ثم وصفهم بالانقياد للحق واتباعه والإنصاف ، فقال : { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ } أي : مما عندهم من البشارة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم { يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } أي : مع من يشهد بصحة هذا ويؤمن به.
وقد روى النسائي عن عمرو بن علي الفَلاس ، عن عمر (1) بن علي بن مُقَدَّم ، عن هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن عبد الله بن الزبير [رضي الله عنهما] (2) قال : نزلت هذه الآية في النجاشي وفي أصحابه : { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } (3)
وقال الطبراني : حدثنا أبو شُبَيْل عُبَيد الله بن عبد الرحمن بن واقد ، حدثنا أبي ، حدثنا العباس بن الفضل ، عن عبد الجبار بن نافع الضبي ، عن قتادة وجعفر بن إياس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قول الله : { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ } قال : إنهم كانوا كرابين - يعني : فلاحين - قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة ، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم القرآن آمنوا وفاضت أعينهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ولعلكم إذا رجعتم إلى أرضكم انتقلتم (4) إلى دينكم". فقالوا : لن ننتقل عن ديننا. فأنزل الله ذلك من قولهم. (5)
وروى ابن أبي حاتم : وابن مَرْدويه ، والحاكم في مستدركه ، من طريق سِماك عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس في قوله : { فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } أي : مع محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمته هم (6) الشاهدون ، يشهدون لنبيهم أنه قد بلغ ، وللرسل أنهم قد بلغوا. ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه. (7)
{ وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ } وهذا الصنف من النصارى هم المذكورون في قوله [عز وجل] (8) { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ [ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِِ] } (9) الآية [آل عمران : 199] ، وهم الذين قال الله فيهم : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ] } (10) إلى قوله { لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } [القصص : 52 - 55] ؛
__________
(1) في ر ، أ : "عمرو".
(2) زيادة من أ.
(3) سنن النسائي الكبرى برقم (11148).
(4) في أ : "انقلبتم".
(5) المعجم الكبير (12/55) وقال الهيثمي في المجمع (7/18) : "فيه العباس بن الفضل الأنصاري وهو ضعيف".
(6) في د ، ر ، أ : "وهم".
(7) المستدرك (2/313).
(8) زيادة من أ.
(9) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(10) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "إلى قوله".

(3/168)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)

ولهذا قال تعالى ههنا : { فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ } (1) أي : فجازاهم على إيمانهم وتصديقهم واعترافهم بالحق { جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا } أي : ساكنين (2) فيها أبدًا ، لا يحولون ولا يزولون ، { وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ } أي : في اتباعهم الحق وانقيادهم له حيث كان ، وأين كان ، ومع من كان.
ثم أخبر عن حال الأشقياء فقال : { وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا } أي : جحدوا بها وخالفوها { أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } أي : هم أهلها والداخلون إليها.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) }
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في رَهْط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا : نقطع مَذاكيرنا ، ونترك شهوات الدنيا ، ونسيح في الأرض كما يفعل الرهبان. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إليهم ، فذكر لهم ذلك : فقالوا : نعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأنام ، وأنكح النساء ، فمن أخذ بسُنَّتِي فهو مِنِّي ، ومن لم يأخذ بسنتي فليس مني". رواه ابن أبي حاتم.
وروى ابن مردويه من طريق العَوْفي ، عن ابن عباس نحو ذلك.
وفي الصحيحين ، عن عائشة ، رضي الله عنها ؛ أن ناسا من أصحاب رسول الله (3) صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر ، فقال بعضهم : لا آكل اللحم. وقال بعضهم : لا أتزوج النساء. وقال بعضهم : لا أنام على فراش. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا ، لكني أصوم وأفطر ، وأنام وأقوم ، وآكل اللحم ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سُنَّتِي فليس مني". (4)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن عصام الأنصاري ، حدثنا أبو عاصم الضحاك بن مُخَلَّد ، عن عثمان - يعني أبن سعد - أخبرني عكرمة ، عن ابن عباس ؛ أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني إذا أكلت اللحم (5) انتشرتُ للنساء ، وإني حَرَّمْتُ عليّ اللحم ، فنزلت { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ }
وكذا رواه الترمذي وابن جرير جميعًا ، عن عمرو بن علي الفَلاس ، عن أبي عاصم النبيل ، به.
__________
(1) في ر : "الأنهار خالدين فيها".
(2) في ر ، أ : "ماكثين".
(3) في أ : "النبي".
(4) هذا لفظ حديث أنس بن مالك : رواه البخاري في صحيحه برقم (5063) ومسلم في صحيحه برقم (1401). أما حديث عائشة فلفظه : صنع النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا ترخص فيه وتنزه عنه قوم ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثني عليه ثم قال : "ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه ؟ فوالله إني أعلمهم بالله واشدهم له خشية". رواه البخاري برقم (7301) ومسلم برقم (2356).
(5) في أ : "أكلت من هذا اللحم".

(3/169)


وقال : حسن غريب (1) وقد روي من وجه آخر مرسلا وروي موقوفًا على ابن عباس ، فالله أعلم.
وقال سفيان الثوري ووَكِيع ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قَيْس بن أبي حازم ، عن عبد الله بن مسعود قال : كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس معنا نساء ، فقلنا : ألا نستخصي ؟ فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، ورخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ، ثم قرأ عبد الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] } (2).
أخرجاه من حديث إسماعيل (3). وهذا كان قبل تحريم نكاح المتعة ، والله أعلم.
وقال الأعمش ، عن إبراهيم ، عن همام بن الحارث ، عن عمرو بن شُرحبيل قال : جاء مَعْقل بن مقرِّن إلى عبد الله بن مسعود فقال : إني حرمت فراشي. فتلا هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ] } (4).
وقال الثوري ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق قال : كنا عند عبد الله بن مسعود ، فجيء بضَرْع ، فتنحى رجل ، فقال [له] (5) عبد الله : اُدْن. فقال : إني حرمت أن آكله. فقال عبد الله : ادن فاطعَم ، وكفر عن يمينك وتلا هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } الآية.
رواهن ابن أبي حاتم. وروى الحاكم هذا الأثر الأخير في مستدركه ، من طريق إسحاق بن راهويه ، عن جرير ، عن منصور ، به. ثم قال : على شرط الشيخين ولم يخرجاه. (6)
ثم قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وَهْبٍ ، أخبرني هشام بن سعد ، أن زيد بن أسلم حدثه : أن عبد الله بن رواحة ضافه (7) ضيف من أهله ، وهو عند النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم رجع إلى أهله فوجدهم لم يُطْعموا ضَيْفَهم انتظارًا له ، فقال لامرأته : حبست ضيفي من أجلي ، هو عليَّ حرام. فقالت امرأته : هو عليَّ حرام. وقال الضيف : هو عليَّ حرام. فلما رأى ذلك وضع يده وقال : كلوا باسم الله. ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الذي كان منهم ، ثم أنزل (8) الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } وهذا أثر منقطع. (9)
وفي صحيح البخاري في قصة الصديق [رضي الله عنه] (10) مع أضيافه شبيه (11) بهذا (12) وفيه ،
__________
(1) سنن الترمذي برقم (3054).
(2) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(3) صحيح البخاري برقم(4615) وصحيح مسلم برقم (1404).
(4) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(5) زيادة من أ.
(6) المستدرك (2/313).
(7) في ر : "أضافه".
(8) في أ : "فأنزل".
(9) ذكره السيوطي في الدر المنثور (3/143).
(10) زيادة من أ.
(11) صحيح البخاري برقم (6140).
(12) في أ : "شبه هذا".

(3/170)


وفي هذه القصة دلالة لمن ذهب من العلماء كالشافعي وغيره إلى أن من حرم مأكلا أو ملبسًا أو شيئًا ما عدا النساء أنه لا يحرم عليه ، ولا كفارة عليه أيضا ؛ ولقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ } ؛ ولأن الذي حَرَّم اللحم على نفسه - كما في الحديث المتقدم - لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بكفارة. وذهب آخرون منهم الإمام أحمد بن حنبل (1) إلى أن من حرم مأكلا أو مشربًا أو أو شيئًا من الأشياء فإنه يجب عليه بذلك كفارة يمين ، كما إذا التزم تركه باليمين فكذلك يؤاخذ بمجرد تحريمه على نفسه إلزامًا له بما التزمه ، كما أفتى بذلك ابن عباس ، وكما في قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [التحريم : 1]. ثُمَّ قَالَ { قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } الآية [التحريم : 2]. وكذلك (2) هاهنا لما ذكر هذا الحكم عقبه بالآية المبينة لتكفير اليمين ، فدل على أن هذا منزل منزلة اليمين في اقتضاء التكفير ، والله أعلم.
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا حجاج ، عن ابن جُرَيْج ، عن مجاهد قال : أراد رجال ، منهم عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو ، أن يَتَبَتَّلوا ويخصُوا أنفسهم ويلبسوا المسُوح ، فنزلت هذه الآية إلى قوله : { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } قال ابن جريج ، عن عكرمة : أن عثمان بن مظعون ، وعلي بن أبي طالب ، وابن مسعود ، والمقداد بن الأسود ، وسالمًا مولى أبي حذيفة في أصحاب (3) تبتلوا ، فجلسوا في البيوت ، واعتزلوا النساء ، ولبسوا المسوح ، وحرموا طيبات الطعام واللباس إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل ، وهموا بالإخصاء وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار ، فنزلت : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } يقول : لا تسيروا بغير سنة المسلمين (4) يريد : ما حرموا من النساء والطعام واللباس ، وما أجمعوا عليه من قيام الليل وصيام النهار ، وما هموا به من الإخصاء ، فلما نزلت فيهم بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "إن لأنفسكم حقًا ، وإن لأعينكم حقًا ، صوموا وأفطروا ، وصلوا وناموا ، فليس منا من ترك سنتنا". فقالوا : اللهم سلمنا واتبعنا ما أنزلت. (5)
وقد ذكر هذه القصة غير واحد من التابعين مرسلة ، ولها شاهد في الصحيحين من رواية عائشة أم المؤمنين ، كما تقدم ذلك ، ولله الحمد والمنة.
وقال أسباط ، عن السدي في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يومًا فذكر الناس ، ثم قام ولم يزدهم (6) على التخويف ، فقال ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، كانوا عشرة منهم علي بن أبي طالب ، وعثمان بن مظعون : ما خفنا إن لم نحدث عملا فإن النصارى قد حرموا على أنفسهم ، فنحن نحرم. فحرم
__________
(1) في أ : "وذهب الإمام أحمد بن حنبل وآخرون".
(2) في أ : "فكذلك".
(3) في أ : "أصحابه".
(4) في أ : "المرسلين".
(5) تفسير الطبري (10/519).
(6) في ر : "يزهدهم".

(3/171)


بعضهم أن يأكل اللحم والودَك ، وأن يأكل بنَهَار ، وحرم بعضهم النوم ، وحرم بعضهم النساء ، فكان عثمان بن مظعون ممن حرم النساء وكان (1) لا يدنو من أهله ولا تدنو منه. فأتت امرأتُه عائشةَ ، رضي الله عنها ، وكان يقال لها : الحولاء ، فقالت لها عائشة ومن عندها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم : ما بالك يا حولاء متغيرة اللون ، لا تمتشطين ، لا تتطيبين ؟ قالت : وكيف أمتشط وأتطيب وما وقع عليَّ زوجي وما رفع عني ثوبًا ، منذ كذا وكذا. قال : فجعلن يضحكن من كلامها ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن يضحكن ، فقال : "ما يضحككن ؟" قالت : يا رسول الله ، إن الحولاء سألتها عن أمرها ، فقالت : ما رفع عني زوجي ثوبًا منذ كذا وكذا. فأرسل إليه فدعاه ، فقال : "ما لك يا عثمان ؟" قال : إني تركته لله ، لكي أتخلى للعبادة ، وقص عليه أمره ، وكان عثمان قد أراد أن يَجُبَّ نفسه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أقسمت عليك إلا رجعت فواقعت أهلك". فقال : يا رسول الله ، إني صائم. فقال : "أفطر". فأفطر ، وأتى أهله ، فرجعت الحولاء إلى عائشة [زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم] (2) وقد امتشطت واكتحلت وتطيبت ، فضحكت عائشة وقالت : ما لك يا حولاء ؟ فقالت : إنه آتاها أمس ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما بال أقوام حَرَّموا النساء والطعام والنوم ؟ ألا إني أنام وأقوم ، وأفطر وأصوم ، وأنكح النساء ، فمن رَغِب عني فليس مني". فنزلت : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا } يقول لعثمان "لا تجُبَّ نفسك ، فإن هذا هو الاعتداء". وأمرهم أن يكفروا عن أيمانهم ، فقال : { لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ } رواه (3) ابن جرير.
وقوله : { وَلا تَعْتَدُوا } يحتمل أن يكون المراد منه : ولا تبالغوا في التضييق على أنفسكم في تحريم (4) المباحات عليكم ، كما قاله من قاله (5) من السلف. ويحتمل أن يكون المراد : كما لا تحرموا (6) الحلال فلا تعتدوا في تناول الحلال ، بل خذوا منه بقَدْر كفايتكم وحاجتكم ، ولا تجاوزوا الحد فيه ، كما قال (7) تعالى : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ] [آل عمران : 31] } (8) وقال : { وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا } [الفرقان : 67] فشرعُ الله عدل بين الغالي فيه والجافي عنه ، لا إفراط ولا تفريط ؛ ولهذا قال : { لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ }
ثم قال : { وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالا } أي : في حال كونه حلالا طيبًا ، { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : في جميع أموركم ، واتبعوا طاعته ورضوانه ، واتركوا مخالفته (9) وعصيانه ، { الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ }
__________
(1) في ر : "فكان".
(2) زيادة من أ.
(3) في ر : "ورواه".
(4) في د : "بتحريم".
(5) في أ : "قال".
(6) في ر : "يحرموا".
(7) في د : "كقوله".
(8) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(9) في ر : "محارمه".

(3/172)


لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)

{ لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) }
قد تقدم في سورة البقرة الكلام على لغو اليمين ، وإنه قول الرجل في الكلام من غير قصد : لا والله ، بلى والله ، وهذا مذهب الشافعي (1) وقيل : هو في الهَزْل. وقيل : في المعصية. وقيل : على غلبة الظن وهو قول أبي حنيفة وأحمد. وقيل : اليمين في الغضب. وقيل : في النسيان. وقيل : هو الحلف على ترك المأكل والمشرب والملبس ونحو ذلك ، واستدلوا بقوله : { لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ }
والصحيح أنه اليمين من غير قصد ؛ بدليل قوله : { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ } أي : بما صممتم عليه من الأيمان وقصدتموها ، فكفارته إطعام عشرة مساكين يعني : محاويج من الفقراء ، ومن لا يجد ما يكفيه.
وقوله : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } قال ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة : أي من أعدل ما تطعمون أهليكم.
وقال عطاء الخراساني : من أمثل ما تطعمون أهليكم. قال (2) ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن حجاج ، عن أبي إسحاق السَّبِيعي ، عن الحارث ، عن علي قال : خبز ولبن ، خبز (3) وسمن.
وقال ابن أبي حاتم : أنبأنا يونس بن عبد الأعلى قراءة ، حدثنا سفيان بن عييْنَة ، عن سليمان - يعني ابن أبي المغيرة - عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كان الرجل يقوت بعض أهله قوت دون وبعضهم قوتًا فيه سعَة ، فقال الله تعالى : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } أي : من الخبز والزيت.
وحدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وَكِيع عن إسرائيل ، عن جابر ، عن عامر ، عن ابن عباس : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } قال : من عسرهم ويسرهم.
وحدثنا عبد الرحمن بن خَلَف الحِمْصِي ، حدثنا محمد بن شُعَيب - يعني ابن شابور - حدثنا شَيْبان بن عبد الرحمن التميمي ، عن لَيْث بن أبي سليم ، عن عاصم الأحول ، عن رجل يقال له : عبد الرحمن ، عن ابن عمر أنه قال : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } قال : الخبز واللحم ، والخبز والسمن ، والخبز واللبن ، والخبز والزيت ، والخبز والخل.
وحدثنا علي بن حرب الموصلي ، حدثنا أبو معاوية ، عن عاصم ، عن ابن سيرين ، عن ابن عمر
__________
(1) في ر : "وهذا مذهب يأتي".
(2) في أ : "وقال".
(3) في ر : "وخبز".

(3/173)


في قوله : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } قال : الخبز والسمن ، والخبزوالزيت ، والخبز والتمر ، ومن أفضل ما تطعمون أهليكم : الخبز واللحم.
ورواه ابن جرير عن هَنَّاد وابن وَكِيع كلاهما عن أبي معاوية. ثم روى (1) ابن جرير عن عُبَيدة والأسود ، وشُرَيح القاضي ، ومحمد بن سِيرِين ، والحسن ، والضحاك ، وأبي رَزِين : أنهم قالوا نحو ذلك ، وحكاه ابن أبي حاتم عن مكحول أيضًا.
واختار ابن جرير أن المراد بقوله : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } أي : في القلة والكثرة.
ثم اختلف العلماء في مقدار ما يطعمهم ، فقال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو سعيد حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن حجاج ، عن حُصَيْن الحارثي ، عن الشعبي ، عن الحارث ، عن علي [رضي الله عنه] (2) في قوله : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } قال : يغذيهم ويعشيهم.
وقال الحسن ومحمد بن سيرين : يكفيه أن يطعم عشرة مساكين أكلة واحدة خبزًا ولحمًا ، زاد الحسن : فإن لم يجد (3) فخبزًا وسمنًا ولبنًا ، فإن لم يجد فخبزًا وزيتًا وخلا حتى يشبعوا.
وقال آخرون : يطعم كل واحد من العشرة نصف صاع من بُرّ أو تمر ، ونحوهما. هذا قول عمر ، وعلي ، وعائشة ، ومجاهد ، والشعبي ، وسعيد بن جبير ، وإبراهيم النَّخَعي ، وميمون بن مِهْران ، وأبي مالك ، والضحاك ، والحاكم (4) ومكحول ، وأبي قلابة ، ومُقَاتِل بن حَيَّان.
وقال أبو حنيفة : نصف صاع [من] (5) بر ، وصاع مما عداه.
وقد قال أبو بكر بن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن الثقفي ، حدثنا عبيد بن الحسن بن يوسف ، حدثنا محمد بن معاوية ، حدثنا زياد بن عبد الله بن الطُّفَيل بن سَخْبَرَة بن أخي عائشة لأمه ، حدثنا عمر بن يعلى ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كفَّر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر ، وأمر الناس به ، ومن لم يجد فنصف صاع من بُرٍّ.
ورواه ابن ماجه ، عن العباس بن يزيد ، عن زياد بن عبد الله البكائي ، عن عُمر (6) بن عبد الله بن يعلى الثقفي ، عن المنهال بن عمرو ، به. (7)
لا يصح هذا الحديث لحال عُمر بن عبد الله هذا فإنه مجمع على ضعفه ، وذكروا أنه كان يشرب الخمر. وقال الدارقطني : متروك.
__________
(1) في أ : "وروى".
(2) زيادة من أ.
(3) في ر : "فإن لم تجد".
(4) في ر : "والحكم".
(5) زيادة من أ.
(6) في ر : "عمرو".
(7) سنن ابن ماجة برقم (2112).

(3/174)


وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن إدريس ، عن (1) داود - يعني ابن أبي هند - عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس : مُدٌّ (2) من بر - يعني لكل مسكين - ومعه إدامه.
ثم قال : ورُوِي عن ابن عمر ، وزيد بن ثابت ، وسعيد بن المسيب ، ومجاهد ، وعطاء ، وعكرمة ، وأبي الشعثاء ، والقاسم (3) وسالم ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن ، وسليمان بن يسار ، والحسن ، ومحمد بن سيرين ، والزهري ، نحو ذلك.
وقال الشافعي : الواجب في كفارة اليمين مُدٌّ بمُدِّ النبي صلى الله عليه وسلم لكل مسكين. ولم يتعرض للأدم - واحتج بأمر النبي صلى الله عليه وسلم للذي جامع في رمضان بأن يطعم ستين مسكينًا من مكيل يسع خمسة عشر صاعًا لكل واحد منهم مُدٌّ.
وقد ورد حديث آخر صريح في ذلك ، فقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا أحمد بن علي بن الحسن المقري ، حدثنا محمد بن إسحاق السراج ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا النضْر بن زُرَارة الكوفي ، عن عبد الله بن عُمَر (4) العُمَري ، عن نافع ، عن ابن عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقيم كفارة اليمين مدًا من حنطة بالمد الأول.
إسناده ضعيف ، لحال النضر بن زرارة بن عبد الأكرم الذهلي الكوفي نزيل بَلْخ ، قال فيه أبو حاتم الرازي : هو مجهول مع أنه قد روى عنه غير واحد. وذكره ابن حبان في الثقات وقال : روى عنه قتيبة بن سعيد أشياء مستقيمة ، فالله أعلم. ثم إن شيخه العُمَري ضعيف أيضًا.
وقال أحمد بن حنبل : الواجب مُدّ من بر ، أو مدان من غيره. والله أعلم.
وقوله : { أَوْ كِسْوَتُهُمْ } قال الشافعي ، رحمه الله : لو دفع إلى كل واحد من العشرة ما يصدق عليه اسم الكسوة من قميص أو سراويل أو إزار أو عمامة أو مقْنَعَة أجزأه ذلك. واختلف أصحابه في القلنسوة : هل تجزئ أم لا ؟ على وجهين ، فمنهم من ذهب إلى الجواز ، احتجاجًا بما رواه ابن أبي حاتم :
حدثنا أبو سعيد الأشج ، وعمار بن خالد الواسطي قالا حدثنا القاسم بن مالك ، عن محمد بن الزبير ، عن أبيه قال : سألت عمران بن حصين عن قوله : { أَوْ كِسْوَتُهُمْ } قال : لو أن وفدًا قدموا على أميركم وكساهم (5) قلنسوة قلنسوة ، قلتم : قد كُسُوا.
ولكن هذا إسناد ضعيف ؛ لحال محمد بن الزبير هذا ، والله أعلم. وهكذا حكى الشيخ أبو حامد الاسفرايني (6) في الخف وجهين أيضًا ، والصحيح عدم الإجزاء.
وقال مالك وأحمد بن حنبل : لا بد أن يدفع إلى كل واحد منهم من الكسوة ما يصح أن يصلي فيه ، إن كان رجلا أو امرأة ، كلٌّ بحسبه. والله أعلم.
وقال العَوْفي عن ابن عباس : عباءة لكل مسكين ، أو ثَمْلَة.
__________
(1) في ر : "هو".
(2) في ر : "مدًا".
(3) في ر : "وأبي القاسم".
(4) في ر : "عمرو".
(5) في أ : "فكساهم".
(6) في ر : "الاسفراييني".

(3/175)


وقال مجاهد : أدناه ثوب ، وأعلاه ما شئت.
وقال لَيْث ، عن مجاهد : يجزئ في كفارة اليمين كل شيء إلا التُّبَّان.
وقال الحسن ، وأبو جعفر الباقر ، وعطاء ، وطاوس ، وإبراهيم النَّخَعي ، وحماد بن أبى سليمان ، وأبو مالك : ثوب ثوب.
وعن إبراهيم النخعي أيضًا : ثوب جامع كالملحفة والرداء ، ولا يرى الدرع والقميص والخمار ونحوه جامعًا.
وقال الأنصاري ، عن أشعث ، عن ابن سيرين ، والحسن : ثوبان. (1)
وقال الثوري ، عن داود بن أبي هند ، عن سعيد بن المسيب : عمامة يلف بها رأسه ، وعباءة يلتحف بها.
وقال ابن جرير : حدثنا هَنَّاد ، حدثنا ابن المبارك ، عن عاصم الأحول ، عن ابن سيرين ، عن أبي موسى ؛ أنه حلف على يمين ، فكسا ثوبين من مُعقَّدة البحرين.
وقال ابن مردويه : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا أحمد بن المعلى ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن مقاتل بن سليمان ، عن أبي عثمان ، عن أبي عياض ، عن عائشة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : { أَوْ كِسْوَتُهُمْ } قال : "عباءة لكل مسكين". (2) حديث غريب.
وقوله : { أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } أخذ أبو حنيفة بإطلاقها ، فقال : تجزئ الكافرة كما تجزئ المؤمنة. وقال الشافعي وآخرون : لا بد أن تكون مؤمنة. وأخذ تقييدها بالإيمان من كفارة القتل ؛ لاتحاد الموجب وإن اختلف السبب ولحديث معاوية بن الحكم السلمي ، الذي هو في موطأ مالك ومسند الشافعي وصحيح مسلم : أنه ذكر أن عليه عتق رقبة ، وجاء معه بجارية سوداء ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أين الله ؟" قالت : في السماء. قال : "من أنا ؟" قالت : رسول الله. قال : "أعتقها فإنها مؤمنة". الحديث بطوله. (3)
فهذه خصال ثلاث في كفارة اليمين ، أيُّها فَعَلَ الحانثُ أجزأ عنه بالإجماع. وقد بدأ بالأسهل فالأسهل ، فالإطعام أيسر من الكسوة ، كما أن الكسوة أيسر من العتق ، فَرُقىَ فيها من الأدنى إلى الأعلى. فإن لم يقدر المكلف على واحدة من هذه الخصال الثلاث كفر بصيام ثلاثة أيام ، كما قال تعالى : { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ }
وروى ابن جرير ، عن سعيد بن جبير والحسن البصري أنهما قالا من وجد ثلاثة دراهم لزمه الإطعام وإلا صام.
وقال ابن جرير ، حاكيًا عن بعض متأخري متفقهة زمانه أنه قال : جائز لمن لم يكن له فضل عن
__________
(1) في ر ، أ : "ثوبان ثوبان".
(2) وفي إسناده مقاتل بن سليمان البلخي ، كذبه وكيع والنسائي. وقال البخاري : سكتوا عنه. وإسماعيل بن عياش روايته عن غير أهل الشام ضعيفة.
(3) الموطأ (2/777) ومسند الشافعي برقم (1196) "بدائع المنن" وصحيح مسلم برقم (537).

(3/176)


رأس مال يتصرف به لمعاشه ما يكفر به بالإطعام ، أن يصوم إلا أن يكون له كفاية ، ومن المال ما يتصرف به لمعاشه ، ومن الفضل عن ذلك ما يكفر به عن يمينه.
ثم اختار ابن جرير : أنه الذي لا يفضل عن قوته (1) وقوت عياله في يومه ذلك ما يخرج به كفارة اليمين. (2)
واختلف العلماء : هل يجب فيها التتابع ، أو يستحب ولا يجب ويجزئ التفريق ؟ على قولين : أحدهما أنه لا يجب التتابع ، هذا منصوص الشافعي في كتاب "الأيمان" ، وهو قول مالك ، لإطلاق قوله : { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ } وهو صادق على المجموعة والمفرقة ، كما في قضاء رمضان ؛ لقوله : { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [البقرة : 184].
ونص الشافعي في موضع آخر في "الأم" على وجوب التتابع ، كما هو قول الحنفية والحنابلة ؛ لأنه قد روي عن أبي بن كعب وغيرهم أنهم كانوا يقرءونها : "فصيام ثلاثة أيام متتابعات".
قال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب أنه كان يقرؤها : "فصيام ثلاثة أيام متتابعات".
وحكاها مجاهد ، والشعبي ، وأبو إسحاق عن عبد الله بن مسعود.
وقال إبراهيم : في قراءة عبد الله بن مسعود : "فصيام ثلاثة أيام متتابعات".
وقال الأعمش : كان أصحاب ابن مسعود يقرؤونها كذلك.
وهذه (3) إذا لم يثبت كونها قرآنا متواترًا ، فلا أقل أن يكون خبرا واحدا ، أو تفسيرًا من الصحابي ، وهو في حكم المرفوع.
وقال أبو بكر بن مردويه : حدثنا محمد بن علي ، حدثنا محمد بن جعفر (4) الأشعري ، حدثنا الهيثم بن خالد القرشي ، حدثنا يزيد بن قيس ، عن إسماعيل بن يحيى ، عن ابن عباس قال : لما نزلت آية الكفارات قال حذيفة : يا رسول الله ، نحن بالخيار ؟ قال : "أنت بالخيار ، إن شئت أعتقت ، وإن شئت كسوت ، وإن شئت أطعمت ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات".
وهذا حديث غريب جدًا. (5)
وقوله : { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } قال ابن جرير : معناه لا تتركوها بغير تكفير. { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ } أي : يوضحها وينشرها (6) { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }
__________
(1) في أ : "مؤنته".
(2) تفسير الطبري (10/559).
(3) في أ : "وهذا".
(4) في أ : "أحمد".
(5) وذكره السيوطي في الدر المنثور (3/155) ولم يعزه لغير ابن مردويه. ويزيد بن قيس أظن أنه "يزيد بن قيس" وأنه تصحف هنا ، وإسماعيل بن يحيى هو ابن عبيد الله كان يضع الحديث قال ابن عدي : عامة ما يرويه بواطيل ، ثم الإسناد معضل ، فإن بينه وبين ابن عباس قرن من الزمان تقريبًا.
(6) في ر ، أ : "ويفسرها".

(3/177)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) }
يقول تعالى ناهيًا عباده المؤمنين عن تعاطي الخمر والميسر ، وهو القمار.
وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال : الشَطْرَنج من الميسر. رواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن عُبَيس بن مرحوم ، عن حاتم ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي ، به.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي (1) حدثنا وَكِيع ، عن سفيان ، عن لَيْث ، عن عطاء ومجاهد وطاوس - قال سفيان : أو اثنين منهم - قالوا : كل شيء من القمار فهو من الميسر ، حتى لعب الصبيان بالجوز.
ورُوي عن راشد بن سعد وحمزة بن حبيب (2) وقالا حتى الكعاب ، والجوز ، والبيض التي (3) تلعب بها الصبيان ، وقال موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : الميسر هو القمار.
وقال الضحاك ، عن ابن عباس قال : الميسر هو القمار ، كانوا يتقامرون في الجاهلية إلى مجيء الإسلام ، فنهاهم الله عن هذه الأخلاق القبيحة.
وقال مالك ، عن داود بن الحُصَيْن : أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : كان ميسر أهل الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين.
وقال الزهري ، عن الأعرج قال : الميسر والضرب بالقداح على الأموال والثمار.
وقال القاسم بن محمد : كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة ، فهو من الميسر.
رواهن ابن أبي حاتم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا صدقة ، حدثنا عثمان بن أبي العاتكة ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، عن أبي موسى الأشعري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "اجتنبوا هذه الكِعَاب الموسومة التي يزجر بها زجرًا فإنها من الميسر". حديث غريب. (4)
__________
(1) في أ : "الأعمشي".
(2) في أ : "حبيب مثله".
(3) في أ : "الذي".
(4) وذكره ابن أبي حاتم في العلل (2/297) ، وقال : "وقال أبي : هذا حديث باطل وهو من علي بن يزيد ، وعثمان لا بأس به".

(3/178)


وكأن المراد بهذا هو النرد ، الذي ورد في الحديث به في صحيح مسلم ، عن بُرَيدة بن الحُصَيب الأسلمي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من لعب بالنَّرْدَشير فكأنما صَبَغ يده في لحم خنزير ودَمه". (1) وفي موطأ مالك ومسند أحمد ، وسنني أبي داود وابن ماجه ، عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله". (2) وروي موقوفًا عن أبي موسى من قوله ، فالله أعلم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا مكي بن إبراهيم (3) حدثنا الجُعَيْد ، عن موسى بن عبد الرحمن الخطمي ، أنه سمع محمد بن كعب وهو يسأل عبد الرحمن يقول : أخبرني ، ما سمعت أباك يقول عن رسول الله (4) صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عبد الرحمن : سمعت أبي يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "مثل الذي يلعب بالنرد ، ثم يقوم فيصلي ، مثل الذي يتوضأ بالقَيْح ودم الخنزير ثم يقوم فيصلي". (5)
وأما الشطرنج فقد قال عبد الله بن عمر : أنه شرّ من النرد. وتقدم عن علي أنه قال : هو من الميسر ، ونص على تحريمه مالك ، وأبو حنيفة ، وأحمد ، وكرهه الشافعي ، رحمهم الله تعالى.
وأما الأنصاب ، فقال ابن عباس ، ومجاهد ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وغير واحد : هي حجارة كانوا يذبحون قرابينهم عندها.
وأما الأزلام فقالوا أيضًا : هي قداح كانوا يستقسمون بها.
وقوله : { رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أي سَخَط من عمل الشيطان. وقال سعيد بن جبير : إثم. وقال زيد بن أسلم : أي شر من عمل الشيطان.
{ فَاجْتَنِبُوهُ } الضمير عائد على الرجس ، أي اتركوه { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } وهذا ترغيب.
ثم قال تعالى : { إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } وهذا تهديد وترهيب.
ذكر الأحاديث الواردة في [بيان] (6) تحريم الخمر :
قال الإمام أحمد : حدثنا سُرَيج (7) حدثنا أبو مَعْشَر ، عن أبي وَهْب مولى أبي هريرة ، عن أبي هريرة قال : حرمت الخمر ثلاث مرات ، قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما ، فأنزل الله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } إلى آخر الآية [البقرة : 219]. فقال الناس : ما حرم علينا ، إنما قال : { فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } وكانوا يشربون الخمر ، حتى كان يوما من الأيام صلى رجل من المهاجرين ، أمَّ أصحابه (8) في
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2260).
(2) الموطأ (2/958) والمسند (4/394) وسنن أبي داود برقم (4938) وسنن ابن ماجة برقم (3762).
(3) في أ : "علي بن إبراهيم" وهو خطأ.
(4) في أ : "عن النبي".
(5) المسند (5/370) وقال الهيثمي في المجمع (8/113) : "فيه موسى بن عبد الرحمن الخطمي ولم أعرفه ، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح".
(6) زيادة من أ.
(7) في د ، ر : "شريج".
(8) في ر : "الصحابة".

(3/179)


المغرب ، خلط في قراءته ، فأنزل الله [عز وجل] (1) آية أغلظ منها : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } [النساء : 43] وكان الناس يشربون ، حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مفيق. ثم أنزلت آية أغلظ من ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } قالوا : انتهينا ربنا. وقال الناس : يا رسول الله ، ناس قتلوا في سبيل الله ، [وناس] (2) ماتوا على سرفهم (3) كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر ، وقد جعله الله رجسًا من عمل الشيطان ؟ فأنزل الله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } إلى آخر الآية ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لو حرم عليهم لتركوه كما تركتم". انفرد به أحمد. (4)
وقال الإمام أحمد : حدثنا خَلَف بن الوليد ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي مَيْسَرة ، عن عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] (5) أنه قال : لما نزل تحريم الخمر قال : اللهم بَيّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزلت هذه الآية التي في البقرة : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ } فَدُعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزلت الآية التي في سورة النساء : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } فكان (6) منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى : ألا يقربن الصلاة سكران. فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا. فنزلت الآية التي في المائدة ، فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } قال عمر : انتهينا. (7)
وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي من طرق ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق عَمْرو بن عبد الله السَّبِيعي وعن أبي ميسرة - واسمه عمرو بن شُرَحبيل الهمداني - عن عُمَر ، به. وليس له عنه سواه ، قال أبو زُرْعَة : ولم يسمع منه. وصحح هذا الحديث علي بن المديني والترمذي. (8)
وقد ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب أنه قال في خطبته على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيها الناس ، إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة : من العنب ، والتمر ، والعسل ، والحِنْطَة ، والشعير ، والخمر ما خامر العقل. (9)
وقال البخاري : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن بِشْر ، حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ، حدثني نافع ، عن ابن عمر قال : نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة ما فيها شراب العنب. (10)
حديث آخر : قال أبو داود الطيالسي : حدثنا محمد بن أبي حميد ، عن المصري - يعني أبا طعمة
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من أ.
(3) في ر : "شربهم" ، وفي أ : "فرشهم".
(4) المسند (2/351).
(5) زيادة من أ.
(6) في أ : "حتى كان".
(7) في أ : "انتهينا انتهينا".
(8) المسند (1/53) وسنن أبي داود برقم (3670) وسنن الترمذي برقم (3049) وسنن النسائي (8/286).
(9) صحيح البخاري برقم (4619) وصحيح مسلم برقم (3032).
(10) صحيح البخاري برقم (4616).

(3/180)


قارئ مصر - قال : سمعت ابن عمر يقول : نزلت في الخمر ثلاث آيات ، فأول شيء نزل : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ } الآية [البقرة : 219] فقيل : حرمت الخمر. فقالوا : يا رسول الله ، ننتفع بها كما قال الله تعالى. قال : فسكت عنهم ثم نزلت هذه الآية : { لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى } [النساء : 43]. فقيل : حرمت الخمر ، فقالوا : يا رسول الله ، إنا لا نشربها قرب الصلاة ، فسكت عنهم ثم نزلت : (1) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "حرمت الخمر". (2)
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يعلى ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن القعقاع بن حكيم ؛ أن عبد الرحمن بن وَعْلَة قال : سألت ابن عباس عن بيع الخمر ، فقال : كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صديق من ثقيف - أو : من دوس - فلقيه يوم الفتح براوية خمر يهديها إليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا فلان ، أما علمت أن الله حرمها ؟" فأقبل الرجل على غلامه فقال : اذهب فبعها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا فلان ، بماذا أمرته ؟" فقال : أمرته أن يبيعها. قال : "إن الذي حرم شربها حرم بيعها". فأمر بها فأفرغت في البطحاء.
رواه مسلم من طريق ابن وَهْب ، عن مالك ، عن زيد بن أسلم. ومن طريق ابن وهب أيضًا ، عن سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد كلاهما - عن عبد الرحمن بن وَعْلَة ، عن ابن عباس ، به. ورواه النسائي ، عن قتيبة ، عن مالك ، به. (3)
حديث آخر : قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدثنا أبو بكر الحنفي ، حدثنا عبد الحميد بن جعفر ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن تميم الداري أنه كان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية (4) من خمر ، فلما أنزل الله تحريم الخمر جاء بها ، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك وقال : "إنها قد حرمت بعدك". قال : يا رسول الله ، فأبيعها وأنتفع بثمنها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لعن الله اليهود ، حرم عليهم شُحُوم البقر والغنم ، فأذابوه ، وباعوه ، والله حَرّم الخمر وثمنها". (5)
وقد رواه أيضًا الإمام أحمد فقال : حدثنا رَوْح ، حدثنا عبد الحميد بن بَهْرام قال : سمعت شهر بن حوشب قال : حدثني عبد الرحمن بن غَنْم : أن الداري كان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم كل عام راوية من خمر ، فلما كان عام حُرّمت جاء براوية ، فلما نظر إليه ضحك فقال (6) أشعرت أنها حرمت بعدك ؟" فقال : يا رسول الله ، ألا (7) أبيعها وأنتفع بثمنها ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لعن الله اليهود ، انطلقوا إلى ما حُرّم عليهم من شحم البقر والغنم فأذابوه ، فباعوه به ما يأكلون ، وإن الخمر حرام
__________
(1) في أ : "فنزلت".
(2) مسند الطيالسي برقم (1957).
(3) المسند (1/230) والموطأ (2/846) وصحيح مسلم برقم (1579) وسنن النسائي (7/307)
(4) في أ : "صلى الله عليه وسلم كل عام راوية".
(5) وفي إسناده انقطاع.
ورواه الطبراني في المعجم الكبير (2/57) من طريق زيد بن أخزم ، عن أبي بكر الحنفي ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن شهر بن حوشب ، عن عبد الرحمن بن غنم ، عن تميم الداري به.
(6) في أ : "وقال".
(7) في أ : "أفلا".

(3/181)


وثمنها حرام ، وإن الخمر حرام وثمنها حرام ، وإن الخمر حرام وثمنها حرام". (1)
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا قُتَيْبَةُ بن سعيد ، حدثنا ابن لَهِيعَة ، عن سليمان بن عبد الرحمن ، عن نافع بن كَيسان أن أباه أخبره (2) أنه كان يتجر في الخمر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه أقبل من الشام ومعه خمر في الزقاق ، يريد بها التجارة ، فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني جئتك بشراب طيب (3) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا كيسان ، إنها قد حرمت بعدك". قال : فأبيعها يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنها قد حرمت وحرم ثمنها". فانطلق كيسان إلى الزقاق ، فأخذ بأرجلها ثم هراقها. (4)
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيي بن سعيد ، عن حميد ، عن (5) أنس قال : كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح ، وأبي بن كَعْب ، وسُهَيْل بن بيضاء ، ونفرًا من أصحابه عند أبي طلحة وأنا أسقيهم ، حتى كاد الشراب يأخذ منهم ، فأتى آت من المسلمين فقال : أما شعرتم أن الخمر قد حرمت ؟ فما قالوا : حتى ننظر ونسأل ، فقالوا : يا أنس اكف ما بقي في إنائك ، فوالله (6) ما عادوا فيها ، وما هي إلا التمر والبسر ، وهي خمرهم يومئذ. (7)
أخرجاه في الصحيحين - من غير وجه - عن أنس (8) وفي رواية حماد بن زيد ، عن ثابت ، عن أنس قال : كنتُ ساقي القوم يوم حُرّمت الخمر في بيت أبي طلحة ، وما شرابهم إلا الفَضيخ البسرُ والتمرُ ، فإذا مناد ينادي ، قال : اخرج فانظر. فإذا مناد ينادي : ألا إن الخمر قد حُرّمت ، فَجرت في سِكَكِ المدينة ، قال : فقال لي أبو طلحة : اخرج فَأهْرقها. فهرقتها ، فقالوا - أو : قال بعضهم : قُتل فلان وفلان وهي في بطونهم. قال : فأنزل الله : { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا } الآية. (9)
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن بَشَّار ، حدثني عبد الكبير بن عبد المجيد (10) حدثنا عباد بن راشد ، عن قتادة ، عن أنس بن مالك قال : بينما أنا أدير الكأس على أبي طلحة ، وأبي عبيدة بن الجراح ، ومعاذ بن جبل ، وسهيل بن بيضاء ، وأبي دُجَانة ، حتى مالت رؤوسهم من خَليط بُسْر وتمر. فسمعت مناديًا ينادي : ألا إن الخمر قد حُرّمت! قال : فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج ، حتى أهرقنا الشراب ، وكسرنا القلال ، وتوضأ بعضنا واغتسل بعضنا ، وأصبنا من طيب أمّ سليم ، ثم خرجنا إلى المسجد ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
__________
(1) المسند (4/226) وقال الهيثمي في المجمع (4/88) ، "فيه شهر وحديثه حسن وفيه كلام".
(2) في أ : "أن أباه قد أخبره".
(3) في أ : "جيد".
(4) المسند (4/337) وقال الهيثمي في المجمع (4/88) : "فيه نافع بن كيسان وهو مستور".
(5) في ر : "بن".
(6) في أ : "فرأيته".
(7) المسند (3/181)
(8) صحيح البخاري برقم (4620) وصحيح مسلم برقم (1980).
(9) هذا لفظ مسلم في صحيحه برقم (1980).
(10) في د ، ر : "عبد الحميد".

(3/182)


إلى قوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } فقال رجل : يا رسول الله ، فما منزلة من مات وهو يشربها ؟ فأنزل الله : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا [إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ] } (1) الآية ، فقال رجل لقتادة : أنت سَمعتَه من أنس بن مالك ؟ قال : نعم. وقال رجل لأنس بن مالك : أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم - أو : حدثني من لم يكذب ، ما كنا نكذب ، ولا ندري ما الكذب. (2)
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، أخبرني يحيى بن أيوب ، عن عبيد الله بن زَحر ، عن بكر بن سوادة ، عن قيس بن سعد بن عبادة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن ربي تبارك وتعالى حرم عَلَيّ الخمر ، والكُوبَة ، والقنّين. وإياكم والغُبيراء فإنها ثلث خمر العالم". (3)
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا فرج بن فضالة ، عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن رافع (4) عن أبيه ، عن عبد الله بن عَمْرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله حرم على أمتي الخمر والميسر والمزْر ، والكُوبة والقِنّين. وزادني صلاة الوتر". قال يزيد : القنين : البرابط. تفرد به أحمد. (5)
وقال أحمد أيضا : حدثنا أبو عاصم - وهو النبيل - أخبرنا عبد الحميد بن جعفر ، حدثنا يزيد بن أبي حبيب ، عن عمرو بن الوليد ، عن عبد الله بن عمرو ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من جهنم". قال : وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة والغبيراء ، وكل مسكر حرام". تفرد به أحمد أيضا (6)
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز ، عن أبي طعمة - مولاهم - وعن عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي أنهما سمعا ابن عمر يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لعنت الخمر على عشرة وجوه : لعنت الخمر بعينها وشاربها ، وساقيها ، وبائعها ، ومُبتاعها ، وعاصرها ، ومُعتصرها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ، وآكل ثمنها".
ورواه أبو داود وابن ماجه ، من حديث وكيع ، به. (7)
وقال أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعة ، حدثنا أبو طِعْمة ، سمعت ابن عمر يقول : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المربد ، فخرجت معه فكنت عن يمينه ، وأقبل أبو بكر فتأخرت عنه ، فكان عن يمينه وكنت عن يساره. ثم أقبل عمر فتنحيت له ، فكان عن يساره. فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم المربد ، فإذا بزقاق على المربد فيها خمر - قال ابن عمر - : فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدية - قال ابن عمر : وما عرفت المدية إلا يومئذ - فأمر بالزقاق فشقت ، ثم قال : "لعنت الخمر وشاربها ، وساقيها ، وبائعها ، ومبتاعها ،
__________
(1) زيادة من ر.
(2) تفسير الطبري (10/578) ورواه البزار في مسنده برقم (2922) "كشف الأستار" من طريق عباد بن راشد ، عن قتادة ، عن أنس بنحوه.
(3) المسند (4/422) وقال الهيثمي في المجمع (5/54) : "فيه عبيد الله بن زحر وثقة أبو زرعه والنسائي وضعفه الجمهور".
(4) في ر : "نافع".
(5) المسند (2/163) وقال الهيثمي في المجمع (2/240) : "فيه إبراهيم بن عبد الرحمن بن رافع وهو مجهول".
(6) المسند (2/171).
(7) المسند (2/25) وسنن أبي داود برقم (3674) وسنن ابن ماجة برقم (3380).

(3/183)


وحاملها ، والمحمولة إليه ، وعاصرها ، ومعتصرها ، وآكل ثمنها". (1)
وقال أحمد : حدثنا الحكم بن نافع ، حدثنا أبو بكر بن أبي مريم ، عن ضَمْرة بن حبيب قال : قال عبد الله بن عمر : أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن آتيه بمدية وهي الشفرة ، فأتيته بها فأرسل بها فأرهفت ثم أعطانيها وقال : "اغد عليَّ بها". ففعلت فخرج بأصحابه إلى أسواق المدينة ، وفيها زقاق الخمر قد جلبت من الشام ، فأخذ المدية مني فشق ما كان من تلك الزقاق بحضرته ، ثم أعطانيها وأمر أصحابه الذين كانوا معه أن يمضوا معي وأن يعاونوني ، وأمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد فيها زق خمر إلا شققته ، ففعلت ، فلم أترك في أسواقها زقًّا إلا شققته. (2)
حديث آخر : قال عبد الله بن وَهب : أخبرني عبد الرحمن بن شُرَيْح ، وابن لَهِيعة ، والليث بن سعد ، عن خالد بن يزيد ، عن ثابت بن يزيد الخولاني أخبره : أنه كان له عم يبيع الخمر ، وكان يتصدق ، فنهيته عنها فلم ينته ، فقدمت المدينة فتلقيت (3) ابن عباس ، فسألته عن الخمر وثمنها ، فقال : هي حرام وثمنها حرام. ثم قال ابن عباس ، رضي الله عنه : يا معشر أمة محمد ، إنه لو كان كتاب بعد كتابكم ، ونبي بعد نبيكم ، لأنزل فيكم كما أنزل فيمن قبلكم ، ولكن أخر ذلك من أمركم إلى يوم القيامة ، ولَعمري لهو أشد عليكم ، قال ثابت : فلقيت عبد الله بن عمر فسألته عن ثمن الخمر ، فقال : سأخبرك عن الخمر ، إني كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ، فبينما هو محتب حَلّ حُبْوَته ثم قال : "من كان عنده من هذه الخمر فليأتنا بها". فجعلوا يأتونه ، فيقول أحدهم : عندي راوية. ويقول الآخر : عندي زقٌّ أو : ما شاء الله أن يكون عنده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اجمعوه ببقيع كذا وكذا ثم آذنوني". ففعلوا ، ثم آذنوه فقام وقمت معه ، فمشيت عن يمينه وهو متكئ عليّ ، فألحقنا أبو بكر ، رضي الله عنه ، فأخرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعلني عن شماله ، وجعل أبا (4) بكر في مكاني. ثم لحقنا عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه فأخرني ، وجعله عن يساره ، فمشى بينهما. حتى إذا وقف على الخمر قال للناس : "أتعرفون هذه (5) قالوا : نعم ، يا رسول الله ، هذه الخمر. قال : "صدقتم". قال : "فإن الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها ، وشاربها وساقيها ، وحاملها والمحمولة إليه ، وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها". ثم دعا بسكين فقال : "اشحذوها". ففعلوا ، ثم أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرق بها الزقاق ، قال : فقال الناس : في هذه الزقاق منفعة ، قال : "أجل ، ولكني إنما أفعل ذلك غضبًا لله ، عز وجل ، لما فيها من سخطه". فقال عمر : أنا أكفيك يا رسول الله ؟ قال : "لا".
قال ابن وَهْب : وبعضهم يزيد على بعض في قصة الحديث. رواه البيهقي. (6)
حديث آخر : قال الحافظ أبو بكر البيهقي : أنبأنا أبو الحسين بن بِشْران ، أنبأنا إسماعيل بن محمد
__________
(1) المسند (2/71).
(2) المسند (2/132) وقال الهيثمي في المجمع (5/54) : "رواه أحمد بإسنادين في أحدهما أبو بكر بن أبي مريم وقد اختلط ، وفي الآخر أبو طعمة ، وقد وثقه محمد بن عمار الموصلي ، وضعفه مكحول وبقية رجاله ثقات".
(3) في أ : "فلقيت".
(4) في ر : "أبو" وهو خطأ.
(5) في ر : "هذا".
(6) السنن الكبرى (8/286).

(3/184)


الصفار ، حدثنا محمد بن عبيد الله المنادي ، حدثنا وهب بن جرير ، حدثنا شُعْبَة ، عن سِماك ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد ، قال : أنزلت في الخمر أربع آيات ، فذكر الحديث. قال : وضع رجل من الأنصار طعامًا ، فدعانا فشربنا الخمر قبل أن تحرم حتى انتشينا ، فتفاخرنا ، فقالت الأنصار : نحن أفضل. وقالت قريش : نحن أفضل. فأخذ رجل من الأنصار لَحْي جَزُور ، فضرب به أنف سعد ففزره ، وكان أنف سعد مفزورًا. (1) فنزلت آية الخمر : { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ [وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ] } (2) إلى قوله تعالى : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } أخرجه مسلم من حديث شعبة. (3)
حديث آخر : قال البيهقي : وأخبرنا أبو نصر بن قتادة ، أنبأنا أبو علي الرفاء ، حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا حجاج بن مِنْهال ، حدثنا ربيعة بن كلثوم ، حدثني أبي ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار ، شربوا فلما أن ثمل عبث بعضهم ببعض ، فلما أن صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه ورأسه ولحيته ، فيقول : صنع هذا بي ، أخي فلان - وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن (4) والله لو كان بي رؤوفًا رحيمًا ما صنع هذا بي ، حتى وقعت (5) الضغائن في قلوبهم فأنزل الله هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ] (6) فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } فقال ناس من المتكلفين : هي رجس ، وهي في بطن فلان ، وقد قتل يوم أحد ، فأنزل الله : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا [إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] } (7)
ورواه النسائي في التفسير عن محمد بن عبد الرحيم صاعقة ، عن حجاج بن منهال. (8)
حديث آخر : قال ابن جرير : حدثني محمد بن خَلَف ، حدثنا سعيد بن محمد الجرْمي ، عن أبي تُمَيْلَة ، عن سلام مولى حفص أبي القاسم ، عن أبي بريدة ، عن أبيه قال : بينا نحن قُعُود على شراب لنا ، ونحن رَمْلة ، ونحن ثلاثة أو أربعة ، وعندنا باطية لنا ، ونحن نشرب الخمر حلا إذ قمت حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه ، إذ نزل تحريم الخمر : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ } إلى آخر الآيتين (9) { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } ؟ فجئت إلى أصحابي فقرأتها إلى قوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُون } ؟ قال : وبعض القوم شَربته في يده ، قد شرب بعضها وبقي بعض في الإناء ، فقال بالإناء تحت شفته العليا ، كما يفعل الحجام ، ثم صبوا ما في باطيتهم (10) فقالوا : انتهينا ربنا. (11)
حديث آخر : قال البخاري : حدثنا صَدَقة بن الفضل ، أخبرنا ابن عُيَينة ، عن عمرو ، عن جابر
__________
(1) في د ، ر : "مفزورة".
(2) زيادة من ر ، أ.
(3) السنن الكبرى (8/285) ولفظه عنده. "أنزلت في أربع آيات". وصحيح مسلم برقم (1748).
(4) في د ، أ : "ضغائن فيقول".
(5) في أ : "حتى إذا وقعت".
(6) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ إلى آخر الآية".
(7) زيادة من ر ، أ ، وفي هـ : "إلى آخر الآية".
(8) السنن الكبرى (8/285) وسنن النسائي الكبرى برقم (11151).
(9) في أ : "الآية".
(10) في أ : "باطنهم".
(11) تفسير الطبري (10/572).

(3/185)


قال : صَبَّح ناس غداة أحد الخمر ، فَقُتلوا من يومهم جميعًا شهداء ، وذلك قبل تحريمها.
هكذا رواه البخاري في تفسيره من صحيحه (1) وقد رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده : حدثنا أحمد بن عَبْدة ، حدثنا سفيان ، عن (2) عمرو بن دينار سمع جابر بن عبد الله يقول : اصطبح ناس الخمر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم قتلوا شهداء يوم أحد ، فقالت اليهود : فقد مات بعض الذين قتلوا وهي في بطونهم. فأنزل الله : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } ثم قال : وهذا إسناد صحيح. وهو كما قال ، ولكن في سياقته غرابة.
حديث آخر : قال أبو داود الطيالسي : حدثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء بن عازب قال : لما نزل تحريم الخمر قالوا : كيف بمن كان يشربها قبل أن تحرم ؟ فنزلت : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } الآية.
ورواه الترمذي ، عن بُنْدار ، غُنْدَر (3) عن شعبة ، به نحو. وقال : حسن صحيح. (4)
حديث آخر : قال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا جعفر بن حميد الكوفي ، حدثنا يعقوب القمي ، عن عيسى بن جارية ، عن جابر بن عبد الله قال : كان رجل يحمل الخمر من خيبر إلى المدينة فيبيعها من المسلمين ، فحمل منها بمال فقدم بها المدينة ، فلقيه رجل من المسلمين فقال : يا فلان ، إن الخمر قد حرمت فوضعها حيث انتهى على تَلّ ، وسجى عليها بأكسية ، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، بلغني أن الخمر قد حرمت ؟ قال : "أجل" قال : لي أن أردها على من ابتعتها منه ؟ قال : "لا يصلح (5) ردها". قال : لي أن أهديها إلى من يكافئني منها ؟ قال : "لا". قال : فإن فيها مالا ليتامى في حجري ؟ قال : "إذ أتانا مال البحرين فأتنا نعوّضُ أيتامك من مالهم". ثم نادى بالمدينة ، فقال رجل : يا رسول الله ، الأوعية ننتفع بها ؟. قال : "فَحُلُّوا أوكيتها". فانصبت حتى استقرت في بطن الوادي هذا حديث غريب. (6)
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا سفيان ، عن السُّدِّي ، عن أبي هُبيرة - وهو يحيى بن عَبَّاد الأنصاري - عن أنس بن مالك ؛ أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام في حجره ورثوا خمرا فقال : "أهرقها". قال : أفلا نجعلها خلا ؟ قال : "لا".
ورواه مسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، من حديث الثوري ، به نحوه. (7)
حديث آخر : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن رَجاء ، حدثنا عبد العزيز بن
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4618).
(2) في ر : "بن".
(3) في ر ، أ : "بندار عن غندر".
(4) مسند الطيالسي برقم (715) وسنن الترمذي برقم (3051).
(5) في أ : "لا يصح".
(6) مسند أبي يعلى (3/404) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (1980) "مجمع البحرين" من طريق جعفر بن حميد به.
قال الهيثمي في المجمع (4/88) : "في إسنادهما يعقوب القمي ، وعيسى بن جارية وفيهما كلام وقد وثقا".
(7) المسند (3/119) وصحيح مسلم برقم (1983) وسنن أبي داود برقم (3675) وسنن الترمذي برقم (1294).

(3/186)


أبي سلمة ، حدثنا هلال بن أبي هلال ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله بن عمرو قال : إن هذه الآية التي في القرآن : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } قال : هي في التوراة : "إن الله أنزل الحق ليذهب به الباطل ، ويبطل به اللعب ، والمزامير ، والزَّفْن ، والكِبَارات - يعني البرابط - - والزمارات - يعني به الدف - والطنابير - والشعر ، والخمر مرة لمن طعمها. أقسم الله بيمينه وعزة حَيْله من شربها بعد ما حرمتها لأعطشنه (1) يوم القيامة ، ومن تركها بعد ما حرمتها لأسقينه إياها في حظيرة القدس".
وهذا إسناد صحيح.
حديث آخر : قال عبد الله بن وَهْب : أخبرني عمرو بن الحارث ؛ أن عمرو بن شُعَيب حدثهم ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من ترك الصلاة سكرًا مرة واحدة ، فكأنما كانت له الدنيا وما عليها فسلبها ، ومن ترك الصلاة سكرًا أربع مرات ، كان حقًا على الله أن يسقيه من طينة الخبال". قيل : وما طينة الخبال ؟ قال : "عصارة أهل جهنم".
ورواه أحمد ، من طريق عمرو بن شعيب. (2)
حديث آخر : قال أبو داود : حدثنا محمد بن رافع ، حدثنا إبراهيم بن عمر الصنعاني ، قال : سمعت النعمان - هو ابن أبي شيبة الجَنَدي - يقول عن طاوس ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "كل مَخمَّر خَمْر ، وكل مُسْكِر حَرَام ، ومن شرب مسكرًا بخست صلاته أربعين صباحًا ، فإن تاب تاب الله عليه ، فإن عاد الرابعة كان حقًا على الله أن يُسقيه من طِينة الخَبَال". قيل : وما طينة الخبال يا رسول الله قال : "صديد أهل النار ، ومن سقاه صغيرًا لا يعرف حلاله من حرامه ، كان حقًا على الله أن يسقيه من طينة الخبال"
تفرد أبو داود. (3)
حديث آخر : قال الشافعي ، رحمه الله : أنبأنا مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من شرب الخمر في الدنيا ، ثم لم يتب منها حُرمها في الآخرة".
أخرجه البخاري ومسلم ، من حديث مالك ، به. (4)
وروى مسلم عن أبي الربيع ، عن حماد بن زيد ، عن أيوب ، عن نافع عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كل مُسكر خمر ، وكل مسكر حرام ، ومن شرب الخمر فمات وهو يُدْمنها ولم يتب منها لم يشربها في الآخرة". (5)
حديث آخر : قال ابن وَهْب : أخبرني عمر بن محمد ، عن عبد الله بن يَسار ؛ أنه سمع سالم بن
__________
(1) في أ : "إلا عطشته".
(2) المسند (2/178) ورواه الحاكم في المستدرك (4/146) والبيهقي في السنن الكبرى (8/287) من طريق محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، عن عبد الله بن وهب به.
(3) سنن أبي داود (3680).
(4) مسند الشافعي برقم (1763) "بدائع المنن" وصحيح البخاري برقم (5575) وصحيح مسلم برقم (2003).
(5) صحيح مسلم برقم (2003).

(3/187)


عبد الله يقول : قال عبد الله بن عمر : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق لوالديه ، والمُدْمِن الخمر ، والمنَّان بما أعطى".
ورواه النسائي ، عن عمر بن علي ، عن يزيد بن زُرَيْع ، عن عمر بن محمد العُمَري ، به. (1)
وروى أحمد ، عن غُنْدَر ، عن شعبة ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا يدخل الجنة منَّان ولا عاق ، ولا مُدْمِن خمر". (2)
ورواه أحمد أيضًا ، عن عبد الصمد ، عن عبد العزيز بن مسلم (3) عن يزيد بن أبي زياد ، عن مجاهد ، به. وعن مروان بن شجاع ، عن خَصِيف ، عن مجاهد ، به (4) ورواه النسائي عن القاسم بن زكريا ، عن الحسين الجَعْفِي ، عن زائدة ، عن بن ابن أبي زياد ، عن سالم بن أبي الجعد ومجاهد ، كلاهما عن أبي سعيد ، به. (5)
حديث آخر : قال أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن جابان ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا يدخل الجنة عاق ، ولا مُدْمِن خمر ، ولا منَّان ، ولا ولد زنْيَة". (6)
وكذا رواه عن يزيد ، عن همام ، عن منصور ، عن سالم ، عن جابان ، عن عبد الله بن عمرو ، به (7) وقد رواه أيضًا عن غُنْدر وغيره ، عن شعبة ، عن منصور ، عن سالم ، عن نُبَيْط بن شُرَيط ، عن جابان ، عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لا يدخل الجنة منان ، ولا عاق والديه ، ولا مدمن خمر".
ورواه النسائي ، من حديث شعبة كذلك ، ثم قال : ولا نعلم (8) أحدًا تابع شعبة عن نبيط بن شريط. (9)
وقال البخاري : لا يعرف لجابان سماع من عبد الله ، ولا لسالم من جابان ولا نبيط.
وقد روي هذا الحديث من طريق مجاهد ، عن ابن عباس - ومن طريقه أيضًا ، عن أبي هريرة ، فالله أعلم.
وقال الزهري : حدثني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، أن أباه قال : سمعت عثمان بن عفان يقول : اجتنبوا الخمر ، فإنها أم الخبائث ، إنه كان رجل فيمن خلا قبلكم يتعبد ويعتزل الناس ، فَعَلقته امرأة غَوية ، فأرسلت إليه جاريتها فقالت : إنا ندعوك لشهادة. فدخل معها ، فطفقت
__________
(1) سنن النسائي الكبرى برقم (2343) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (8/288) من طريق محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، عن عبد الله بن وهب به.
(2) المسند (3/44).
(3) في ر : "أسلم".
(4) المسند (3/28).
(5) سنن النسائي الكبرى برقم (4920).
(6) المسند (2/203).
(7) المسند (2/164).
(8) في ر : "يعلم".
(9) المسند (2/201) وسنن النسائي الكبرى برقم (4914)

(3/188)


كلما دخل بابًا أغلقته دونه ، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر ، فقالت : إني والله ما دعوتك لشهادة ولكن دعوتك لتقع عَليّ أو تقتل هذا الغلام ، أو تشرب هذا الخمر. فسقته كأسًا ، فقال : زيدوني ، فلم يَرِم حتى وقع عليها ، وقتل النفس ، فاجتنبوا الخمر فإنها لا تجتمع هي والإيمان أبدا إلا أوشك أحدهما أن يخرج صاحبه.
رواه البيهقي (1) وهذا إسناد صحيح. وقد رواه أبو بكر بن أبي الدنيا في كتابه "ذم المسكر" عن محمد بن عبد الله بن بَزِيع ، عن الفضيل بن سليمان النميري ، عن عمر بن سعيد ، عن الزهري ، به مرفوعًا (2) والموقوف أصح ، والله أعلم.
وله شاهد في الصحيحين ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق سرقة حين يسرقها وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن". (3)
وقال أحمد بن حنبل : حدثنا أسود بن عامر ، أخبرنا إسرائيل ، عن سِماك ، عن عِكْرِمَة ، عن ابن عباس قال : لما حرمت الخمر قال أناس : يا رسول الله ، أصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها ؟ فأنزل الله : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } الآية. قال : ولما حُوّلت القبلة قال أناس : يا رسول الله ، أصحابنا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس ؟ فأنزل الله : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ (4) } [البقرة : 143].
وقال الإمام أحمد : حدثنا داود بن مِهْران الدباغ ، حدثنا داود - يعني العطار - عن ابن خُثَيْم ، عن شَهْرِ بن حَوْشَب ، عن أسماء بنت يزيد ، أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : "من شرب الخمر لم يَرْضَ الله عنه أربعين ليلة ، إن مات مات كافرًا ، وإن تاب تاب الله عليه. وإن عاد كان حقًا على الله أن يسقيه من طِينة الخَبَال". قالت : قلت : يا رسول الله ، وما طينة الخبال ؟ قال : "صديد أهل النار". (5)
وقال الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا } فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "قيل لي : أنت منهم".
وهكذا رواه مسلم ، والترمذي ، والنسائي ، من طريقه. (6)
وقال عبد الله بن الإمام أحمد : قرأت على أبي ، حدثنا علي بن عاصم ، حدثنا إبراهيم الهجري ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إياكم وهاتان الكعبتان الموسمتان اللتان تزجران (7) زجرًا ، فإنهما مَيْسِر العَجَم". (8)
__________
(1) السنن الكبرى (8/287) من طريق عبد الله بن وهب ، عن يونس بن يزيد ، عن الزهري به. وقد خولف يونس بن يزيد خالفه عمر بن سعيد بن السرحة ، فرواه عن الزهري مرفوعا ، كما سيأتي في رواية ابن أبي الدنيا.
(2) ذم المسكر برقم (1) ورواية يونس بن يزيد أرجح من رواية عمر بن سعيد بن السرحة ، فقد لينه بعض الأئمة. قالوا : "وأحاديثه عن الزهري ليست بمستقيمة".
(3) صحيح البخاري برقم (6810) وصحيح مسلم برقم (57).
(4) المسند (1/295).
(5) المسند (6/460) وقال الهيثمي في المجمع (5/69) : "فيه شهر بن حوشب وهو ضعيف وقد حسن حديثه ، وبقية رجاله ثقات".
(6) صحيح مسلم برقم (2459) وسنن الترمذي برقم (3053) وسنن النسائي الكبرى برقم (11153).
(7) في ر : "الموسمتان الذين يزجران" وهذا على لغة من يلزم المثنى الألف.
(8) المسند (1/446) وفي إسناده إبراهيم بن مسلم الهجري ضعيف.

(3/189)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) }
قال الوالبي ، عن ابن عباس قوله : { لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } قال : هو الضعيف من الصيد وصغيره ، يبتلي الله به عباده في إحرامهم ، حتى لو شاؤوا يتناولونه بأيديهم. فنهاهم الله أن يقربوه.
وقال مجاهد : { تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ } يعني : صغار الصيد وفراخه { وَرِمَاحِكُمْ } يعني : كباره.
وقال مُقَاتِل بن حَيَّان : أنزلت هذه الآية في عُمْرة الحُدَيْبِيَّة ، فكانت الوحش والطير والصيد تغشاهم (1) في رحالهم ، لم يروا مثله قط فيما خلا فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون.
{ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ } يعني : أنه تعالى يبتليهم بالصيد يغشاهم في رحالهم ، يتمكنون من أخذه بالأيدي والرماح سرًا وجهرًا (2) ليظهر طاعة من يطيع منهم في سره وجهره ، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [الملك : 12].
وقوله هاهنا : { فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ } قال السدي وغيره : يعني بعد هذا الإعلام والإنذار والتقدم { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي : لمخالفته أمر الله وشرعه.
ثم قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } وهذا تحريم منه تعالى لقتل الصيد في حال الإحرام ، ونهي عن تعاطيه فيه. وهذا إنما يتناول من حيث المعنى المأكول وما يتولد منه ومن غيره ، فأما غير المأكول من حيوانات البر ، فعند الشافعي يجوز للمحرم قتلها. والجمهور على تحريم قتلها أيضًا ، ولا يستثنى من ذلك إلا ما ثبت في الصحيحين من طريق الزهري ، عن عُرْوَة ، عن عائشة أم المؤمنين ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "خمس فَواسِق يُقْتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَم (3) الغُراب والحدأة ، والعَقْرب ، والفأرة ، والكلب العَقُور". (4)
وقال مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جُنَاح : الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور". أخرجاه. (5)
ورواه أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، مثله. قال أيوب ، قلت لنافع : فالحية ؟ قال : الحية لا شك
__________
(1) في ر : "يغشاهم".
(2) في ر : "جهرًا وسرًا".
(3) في ر : "الحرام".
(4) صحيح البخاري برقم (3314) وصحيح مسلم برقم (1198).
(5) صحيح البخاري برقم (1826) وصحيح مسلم برقم (1199).

(3/190)


فيها ، ولا يختلف في قتلها. (1)
ومن العلماء - كمالك وأحمد - من ألحق بالكلب العقور الذئب ، والسَّبْعُ ، والنِّمْر ، والفَهْد ؛ لأنها أشد ضررًا منه فالله أعلم. وقال سفيان بن عيينة وزيد بن أسلم : الكلب العقور يشمل هذه السباع العادية كلّها. واستأنس من قال بهذا بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا على عتبة (2) بن أبي لهب قال : "اللهم سَلِّط عليه (3) كلبك بالشام" (4) فأكله السبع بالزرقاء ، قالوا : فإن قتل ما عداهن فَدَاها كالضبع والثعلب وهر البر ونحو ذلك.
قال مالك : وكذا يستثنى من ذلك صغار هذه الخمس المنصوص عليها ، وصغار الملحق بها من السباع العوادي.
وقال الشافعي [رحمه الله] (5) يجوز للمحرم قتل كل ما لا يؤكل لحمه ، ولا فرق بين صغاره وكباره. وجعل العلة الجامعة كونها لا تؤكل.
وقال أبو حنيفة : يقتل المحرم الكلب العقور والذئب ؛ لأنه كلب بري ، فإن قتل غيرهما فَدَاه ، إلا أن يصول عليه سبع غيرهما فيقتله فلا فداء عليه. وهذا قول الأوزاعي ، والحسن بن صالح بن حيي.
وقال زُفَر بن الهذيل : يفدي ما سوى ذلك وإن صال عليه.
وقال بعض الناس : المراد بالغراب هاهنا الأبقع (6) وهو الذي في بطنه وظهره بياض ، دون الأدرع وهو الأسود ، والأعصم وهو الأبيض ؛ لما رواه النسائي عن عمرو بن علي الفَلاس ، عن يحيى القَطَّان ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "خمس يقتلهن المحرم : الحية ، والفأرة ، والحدأة ، والغراب الأبقع ، والكلب العقور".
والجمهور على أن المراد به أعم من ذلك ؛ لما ثبت في الصحيحين من إطلاق لفظه.
وقال مالك ، رحمه الله : لا يقتل المحرم الغراب إلا إذا صال عليه وآذاه.
وقال مجاهد بن جَبْر وطائفة : لا يقتله بل يرميه. ويروى مثله عن علي.
وقد روى هُشَيْم : حدثنا يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الرحمن بن أبي نُعْم ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أنه سئل عما يقتل المحرم ، فقال : "الحية ، والعقرب ، والفُوَيْسِقَة ، ويرمي الغراب ولا يقتله ، والكلب العقور ، والحدأة ، والسبع العادي".
__________
(1) صحيح مسلم برقم (1199).
(2) في ر : "عتبية".
(3) في ر : "عليهم".
(4) رواه البيهقي في دلائل النبوة (2/339) من طريق زهير بن العلاء ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة به مرسلا وذكر قصة. ورواه أبو نعيم في دلائل النبوة (ص 163) من طريق محمد بن إسحاق ، عن عثمان بن عروة بن الزبير ، عن أبيه وذكر قصة. ورواه البيهقي في دلائل النبوة (2/338) من طريق عباس بن الفضل ، عن الأسود بن شيبان ، عن أبي نوفل بن أبي عقرب عن أبيه به وذكر قصة.
(5) زيادة من ر.
(6) في ر : "المراد بالأبقع هاهنا الغراب".

(3/191)


رواه أبو داود عن أحمد بن حنبل ، والترمذي عن أحمد بن منيع ، كلاهما عن هشيم. وابن ماجه ، عن أبي كريم (1) عن محمد بن فضيل ، كلاهما عن يزيد بن أبي زياد ، وهو ضعيف ، به. وقال الترمذي : هذا حديث حسن. (2)
وقوله تعالى : { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن عُلَيَّةَ ، عن أيوب قال : نبئت عن طاوس قال : لا يحكم (3) على من أصاب صيدًا خطأ ، إنما يحكم (4) على من أصابه متعمدًا.
وهذا مذهب غريب عن طاوس ، وهو متمسك بظاهر الآية.
وقال مجاهد بن جبير : المراد بالمتعمد هنا (5) القاصد إلى قتل الصيد ، الناسي لإحرامه. فأما المتعمد لقتل الصيد مع ذكره لإحرامه ، فذاك أمره أعظم من أن يكفر ، وقد بطل إحرامه.
رواه ابن جرير عنه من طريق ابن أبي نَجِيح وليث بن أبي سليم وغيرهما ، عنه. وهو قول غريب أيضًا. والذي عليه الجمهور أن العامد والناسي سواء في وجوب الجزاء عليه. قال الزهري : دل (6) الكتاب على العامد ، وجرت السنة على الناسي ، ومعنى هذا أن القرآن دل على وجوب الجزاء على المتعمد وعلى تأثيمه بقوله : { لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } وجاءت السنة من أحكام النبي صلى الله عليه وسلم وأحكام أصحابه بوجوب الجزاء في الخطأ ، كما دل الكتاب عليه في العَمْد ، وأيضًا فإن قتل الصيد إتلاف ، والإتلاف مضمون في العمد وفي النسيان ، لكن المتعمّد مأثوم والمخطئ غير مَلُوم.
وقوله : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } وحكى ابن جرير أن ابن مسعود قرأها : "فجزاؤه مثل ما قتل من النعم".
وفي قوله : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } على كل من القراءتين دليل لما ذهب إليه مالك ، والشافعي ، وأحمد ، والجمهور من وجوب الجزاء من مثل ما قتله المحرم ، إذا كان له مثل من الحيوان الإنسي ، خلافًا لأبي حنيفة ، رحمه الله ، حيث أوجب القيمة سواء كان الصيد المقتول مثليًا أو غير مثلي ، قال : وهو مخير إن شاء تصدق بثمنه ، وإن شاء اشترى به هديًا. والذي حكم به الصحابة في المثل أولى بالاتباع ، فإنهم حكموا في النعامة ببدنة ، وفي بقرة الوحش ببقرة ، وفي الغزال بعنز وذكْرُ قضايا الصحابة وأسانيدها مقرر في كتاب "الأحكام" ، وأما إذا لم يكن الصيد مثليًا فقد حكم ابن عباس فيه بثمنه ، يحمل إلى مكة. رواه البيهقي. وقوله : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } يعني أنه يحكم بالجزاء في المثل ، أو بالقيمة في غير المثل ، عدلان من المسلمين ، واختلف العلماء في القاتل : هل يجوز أن يكون أحد الحكمين ؟ على قولين :
__________
(1) في ر : "كريب".
(2) سنن أبي داود برقم (1848) وسنن الترمذي برقم (838) وسنن ابن ماجة برقم (3089).
(3) في ر : "نحكم".
(4) في ر : "نحكم".
(5) في ر : "هاهنا".
(6) في ر : "تدل".

(3/192)


أحدهما : " لا ؛ لأنه قد يُتَّهم في حكمه على نفسه ، وهذا مذهب مالك.
والثاني : نعم ؛ لعموم الآية. وهو مذهب الشافعي ، وأحمد.
واحتج الأولون بأن الحاكم لا يكون محكومًا عليه في صورة واحدة.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو نُعَيْم الفضل بن دُكَيْن ، حدثنا جعفر - هو ابن بُرْقَان - عن ميمون بن مِهْران ؛ أن أعرابيًا أتى أبا بكر قال : قتلت صيدًا وأنا محرم ، فما ترى عليَّ من الجزاء ؟ فقال أبو بكر ، رضي الله عنه ، لأبي بن كعب وهو جالس عنده : ما ترى فيما (1) قال ؟ فقال الأعرابي : أتيتك وأنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسألك ، فإذا أنت تسأل غيرك ؟ فقال أبو بكر : وما تنكر ؟ يقول الله تعالى : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } فشاورت صاحبي حتى إذا اتفقنا على أمر أمرناك به.
وهذا إسناد جيد ، لكنه منقطع بين ميمون وبين الصديق ، ومثله يحتمل هاهنا. فبين له الصديق الحكم برفق وتُؤدَة ، لما رآه أعرابيا جاهلا وإنما دواء الجهل التعليم ، فأما إذا كان المعترض منسوبًا إلى العلم ، فقد قال ابن جرير :
حدثنا هَنَّاد وأبو هشام الرفاعي قالا حدثنا وَكِيع بن الجراح ، عن المسعودي ، عن عبد الملك بن عمير ، عن قَبِيصة بن جابر قال : خرجنا حجاجًا ، فكنا إذا صلينا الغداة اقتدنا رواحلنا نتماشى نتحدث ، قال : فبينما نحن ذات غداة إذ سنح لنا ظبي - أو : برح - فرماه رجل كان معنا بحجر فما أخطأ خُشَّاءه فركب رَدْعه ميتًا ، قال : فَعَظَّمْنا عليه ، فلما قدمنا مكة خرجت معه حتى أتينا عمر رضي الله عنه ، قال : فقص عليه القصة قال : وإلى جنبه رجل كأن وجهه قُلْب فضة - يعني عبد الرحمن بن عوف - فالتفت عمر إلى صاحبه فكلمه قال : ثم أقبل على الرجل فقال : أعمدًا قتلته أم خطأ ؟ قال الرجل : لقد تعمدت رميه ، وما أردت قتله. فقال عمر : ما أراك إلا قد أشركت بين العمد والخطأ ، اعمد إلى شاة فاذبحها وتصدق بلحمها واستبق إهابها. قال : فقمنا من عنده ، فقلت لصاحبي : أيها الرجل ، عَظّم شعائر الله ، فما درى أمير المؤمنين ما يفتيك حتى سأل صاحبه : اعمد إلى ناقتك فانحرها ، ففعل (2) ذاك. قال قبيصة : ولا أذكر الآية من سورة المائدة : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } قال : فبلغ عمر مقالتي ، فلم يفجأنا منه إلا ومعه الدّرّة. قال : فعلا صاحبي ضربًا بالدرة ، وجعل يقول : أقتلت في الحرم وسفَّهت الحكم ؟ قال : ثم أقبل عليَّ فقلت : يا أمير المؤمنين ، لا أحل لك اليوم شيئا يحْرُم عليك مني ، قال : يا قبيصة بن جابر ، إني أراك شابّ السن ، فسيح الصدر ، بيّن اللسان ، وإن الشاب يكون فيه تسعة أخلاق حسنة وخلق سيئ ، فيفسد الخلقُ السيئ الأخلاقَ الحسنة ، فإياك وعثرات الشباب.
وقد روى هُشَيْم هذه القصة ، عن عبد الملك بن عمير ، عن قبيصة ، بنحوه. ورواها أيضًا عن حُصَيْن ، عن الشعبي ، عن قبيصة ، بنحوه. وذكرها مرسلة عن عُمَر : بن بكر بن عبد الله المزني ، ومحمد بن سِيرين.
__________
(1) في ر : "فيها".
(2) في ر : "فلعل".

(3/193)


وقال ابن جرير : حدثنا ابن بَشَّار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن أبي وائل ، أخبرني أبو جرير البَجَلِيّ قال : أصبت ظَبْيًا وأنا محرم ، فذكرت ذلك لعمر ، فقال : ائت رجلين من إخوانك فليحكما عليك. فأتيت عبد الرحمن وسعدًا ، فحكما عليّ بتَيْس أعفر.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا ابن عُيَيْنة ، عن مُخارق ، عن طارق قال : أوطأ أربد ظبيًا فقتلته (1) وهو محرم فأتى عمر ؛ ليحكم عليه ، فقال له عمر : احكم معي ، فحكما فيه جَدْيًا ، قد جمع الماء والشجر. ثم قال عمر : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ }
وفي هذا دلالة على جواز كون القاتل أحد الحكمين ، كما قاله الشافعي وأحمد ، رحمهما الله.
واختلفوا : هل تستأنف (2) الحكومة في كل ما يصيبه المحرم ، فيجب أن يحكم فيه ذوا عدل ، وإن كان قد حكم من قبله الصحابة ، أو يكتفي بأحكام الصحابة المتقدمة ؟ على قولين ، فقال الشافعي وأحمد : يتبع في ذلك ما حكمت به الصحابة (3) وجعلاه شرعًا مقررًا لا يعدل عنه ، وما لم يحكم فيه (4) الصحابة يرجع فيه إلى عدلين. وقال مالك وأبو حنيفة : بل يجب الحكم في كل فرد فرد ، سواء وجد للصحابة في مثله حكم أم لا ؛ لقوله تعالى : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ }
وقوله تعالى : { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } أي : واصلا إلى الكعبة ، والمراد وصوله إلى الحرم ، بأن يذبح هناك ، ويفرق لحمه على مساكين الحرم. وهذا أمر متفق عليه في هذه الصورة.
وقوله : { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } أي : إذا لم يجد المحرم مثل ما قتل من النعَم أو لم يكن الصيد المقتول من ذوات الأمثال ، أو قلنا بالتخيير في هذا المقام من الجزاء والإطعام والصيام ، كما هو قول مالك ، وأبي حنيفة ، وأبي يوسف ، ومحمد بن الحسن ، وأحد قولي الشافعي ، والمشهور عن أحمد رحمهم الله ، لظاهر الآية "أو" فإنها للتخيير. والقول الآخر : أنها على الترتيب.
فصورة ذلك أن يعدل إلى القيمة ، فيُقوّم الصيد المقتول عند مالك ، وأبي حنيفة وأصحابه ، وحماد ، وإبراهيم. وقال الشافعي : يقوم مثله من النعم لو كان موجودًا ، ثم يشتري به طعام ويتصدق به ، فيصرف لكل مسكين مُدٌ منه عند الشافعي ، ومالك ، وفقهاء الحجاز ، واختاره ابن جرير.
وقال أبو حنيفة وأصحابه : يُطعِم كل مِسْكين مُدَّيْن ، وهو قول مجاهد.
وقال أحمد : مُدّ من حنطة ، أو مدان من غيره. فإن لم يجد ، أو قلنا بالتخيير (5) صام عن (6) إطعام كل مسكين يومًا.
وقال ابن جرير : وقال آخرون : يصوم مكان كل صاع يومًا. كما في جزاء المترفه بالحلق ونحوه ، فإن الشارع أمر كعب بن عُجْرَة أن يقسم فَرَقًا بين ستة ، أو يصوم ثلاثة أيام ، والفَرَقُ ثلاثة آصع.
واختلفوا في مكان هذا الإطعام ، فقال الشافعي : محله الحرم ، وهو قول عطاء. وقال مالك : يطعم في المكان الذي أصاب فيه الصيد ، أو أقرب الأماكن إليه. وقال أبو حنيفة : إن شاء أطعم في الحرم ، وإن شاء أطعم في غيره.
__________
(1) في د ، ر : "فقتله".
(2) في ر : "يستأنف".
(3) في ر : "صاحبه".
(4) في ر : "به".
(5) في ر : "أو قلنا التخيير".
(6) في ر : "من".

(3/194)


ذكر أقوال السلف في هذا المقام :
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن المغيرة ، حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الحكم ، عن مقْسَم ، عن ابن عباس في قوله : { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } قال : إذا أصاب المحرمُ الصيدَ حكم عليه جزاؤه من النعم ، فإن وجد جزاءه ، ذبحه فتصدق به. وإن لم يجد نظر كم ثمنه ، ثم قُوّم ثمنه طعامًا ، فصام مكان كل نصف صاع يومًا ، قال : { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } قال : إنما أريد بالطعام الصيام ، أنه إذ وجد الطعام وجد جزاؤه.
ورواه ابن جرير ، من طريق جرير.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } إذا (1) قتل المحرم شيئًا من الصيد ، حكم عليه فيه. فإن قتل ظبيًا أو نحوه ، فعليه شاة تذبح بمكة. فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. فإن قتل إبِلا أو نحوه ، فعليه بقرة. فإن لم يجد أطعم عشرين مسكينًا. فإن لم يجد صام عشرين يومًا. وإن قتل نعامة أو حمارَ وحش أو نحوه ، فعليه بدنة من الإبل. فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكينًا. فإن لم يجد صام ثلاثين يومًا.
رواه ابن أبي حاتم وابن جرير ، وزاد : والطعام مُدٌّ مُدّ تشبَعهم. (2)
وقال جابر الجُعْفي ، عن عامر الشعبي وعطاء ومجاهد : { أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا } قالوا : إنما الطعام لمن لا يبلغ الهدي. رواه ابن جرير.
وكذا روى ابن جُرَيْج عن مجاهد ، وأسباط عن السُّدِّي أنها على الترتيب.
وقال عطاء ، وعكرمة ، ومجاهد - في رواية الضحاك - وإبراهيم النَّخَعِي : هي على الخيار. وهو رواية الليث ، عن مجاهد ، عن ابن عباس. واختار ذلك ابن جرير ، رحمه الله تعالى.
وقوله : { لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } أي : أوجبنا عليه الكفارة ليذوق عقوبة فعله الذي ارتكب فيه المخالفة { عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ } أي : في زمان الجاهلية ، لمن أحسن في الإسلام واتبع شرع الله ، ولم يرتكب المعصية.
ثم قال : { َ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } أي : ومن فعل ذلك بعد تحريمه في الإسلام وبلوغ الحكم الشرعي إليه فينتقم الله منه وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ
قال ابن جُرَيْج ، قلت لعطاء : ما { عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ } قال : عما كان في الجاهلية. قال : قلت : وما { َ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } ؟ قال : ومن عاد في الإسلام ، فينتقم الله منه ، وعليه مع ذلك الكفارة قال : قلت : فهل في العود حَدُّ تعلمه ؟ قال : لا. قال : قلت : فترى حقًا على الإمام أن يعاقبه ؟ قال :
__________
(1) في ر : "فإذا".
(2) في ر : "شبعهم".

(3/195)


لا هو ذنب أذنبه فيما بينه وبين الله ، عز وجل ، ولكن يفتدي. رواه ابن جرير. (1)
وقيل معناه : فينتقم الله منه بالكفارة. قاله سعيد بن جبير ، وعطاء.
ثم الجمهور من السلف والخلف ، على أنه متى قتل المحرم الصيد وجب الجزاء ، ولا فرق بين الأولى والثانية (2) وإن تكرر ما تكرر ، سواء الخطأ في ذلك والعمد.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : من قتل شيئًا من الصيد خطأ ، وهو محرم ، يحكم عليه فيه كلما قتله ، وإن قتله عمدا يحكم عليه فيه مرة واحدة ، فإن عاد يقال له : ينتقم الله منك كما قال الله ، عز وجل.
وقال ابن جرير : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا يحيى بن سعيد وابن أبي عدي جميعًا ، عن هشام - هو ابن حسان - عن عِكْرِمَة ، عن ابن عباس فيمن أصاب صيدًا فحُكم (3) عليه ثم عاد ، قال : لا يحكم عليه ، ينتقم الله منه.
وهكذا قال شُرَيْح ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والحسن البصري ، وإبراهيم النَّخَعِي. رواهن ابن جرير ، ثم اختار القول الأول.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا العباس بن يزيد العبدي ، حدثنا المُعْتَمِر بن سليمان ، عن زيد أبي المعلى ، عن الحسن البصري ؛ أن رجلا أصاب صيدًا ، فتجوز عنه ، ثم عاد فأصاب صيدًا آخر ، فنزلت نار من السماء فأحرقته فهو قوله : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ }
وقال ابن جرير في قوله : { وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } يقول عَزَّ ذكره : والله منيع في سلطانه لا يقهره قاهر ، ولا يمنعه من الانتقام ممن انتقم منه ، ولا من عقوبة من أراد عقوبته مانع ؛ لأن الخلق خلقه ، والأمر أمره ، له العزة والمنعة.
وقوله : { ذُو انْتِقَامٍ } يعني : أنه ذو معاقبة لمن عصاه على معصيته إياه.
__________
(1) تفسير الطبري (11/48).
(2) في ر : "والثانية والثالثة".
(3) في د ، ر : "يحكم".

(3/196)


أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)

{ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) }
قال ابن أبي طلحة ، عن (1) ابن عباس - في رواية عنه - وسعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، وغيرهم في قوله : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ } يعني : ما يصطاد منه طريًا { وَطَعَامُهُ } ما يتزود منه مليحًا يابسًا.
وقال ابن عباس في الرواية المشهورة عنه : صيده ما أخذ منه حيًا { وَطَعَامُهُ } ما لفظه ميتًا.
وهكذا روي عن أبي بكر الصديق وزيد بن ثابت ، وعبد الله بن عمرو ، وأبي أيوب الأنصاري ، رضي الله عنهم. وعكرمة ، وأبي سلمة بن عبد الرحمن ، وإبراهيم النخَعي ، والحسن البصري.
قال سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن أبي بكر الصديق أنه قال : { وَطَعَامُهُ } كل ما فيه. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن سِمَاك قال : حُدِّثتُ عن ابن عباس قال : خطب أبو بكر الناس فقال : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ } وطعامه ما قذف.
قال : وحدثنا يعقوب ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن سليمان التيمي ، عن أبي مِجْلَز ، عن ابن عباس في قوله : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ } قال { وَطَعَامُهُ } ما قذف.
وقال عكرمة ، عن ابن عباس قال : { وَطَعَامُهُ } ما لفظ من ميتة. ورواه ابن جرير أيضًا.
وقال سعيد بن المسيب : طعامه ما لفظه حيًا ، أو حسر عنه فمات. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بَشَّار ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا أيوب ، عن نافع ؛ أن عبد الرحمن بن أبي هريرة سأل ابن عمر فقال : إن البحر قد قذف حيتانًا كثيرًا مَيْتًا أفنأكله ؟ فقال : لا تأكلوه. فلما رجع عبد الله إلى أهله أخذ المصحف فقرأ سورة المائدة ، فأتى هذه الآية { وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } فقال : اذهب فقل له فليأكله ، فإنه طعامه.
وهكذا اختار ابن جرير أن المراد بطعامه ما مات فيه ، قال : وقد روي في ذلك خبر ، وإن بعضهم يرويه موقوفًا. (2)
حدثنا هَنَّاد بن السُّرِّي قال : حدثنا عبدة بن سليمان ، عن محمد بن عمرو ، حدثنا أبو سلمة ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ } قال : طعامه ما لفظه ميتا".
ثم قال : وقد وقف بعضهم هذا الحديث على أبي هريرة : (3)
__________
(1) في د : "قال".
(2) تفسير الطبري (11/69).
(3) تفسير الطبري (11/70).

(3/197)


حدثنا هناد ، حدثنا ابن أبي زائدة ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة في قوله : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ } قال : طعامه : ما لفظه ميتًا.
وقوله : { ُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } أي : منفعة وقُوتًا لكم أيها المخاطبون { وَلِلسَّيَّارَةِ } وهو جمع سيَّار. قال عكرمة : لمن كان بحضرة البحر وللسيارة : السَفْر. (1)
وقال غيره : الطريّ منه لمن يصطاده من حاضرة البحر ، و { طَعَامُهُ } ما مات فيه أو اصطيد منه ومُلِّح وَقُدِّدَ زادًا للمسافرين والنائين عن البحر.
وقد روي نحوه عن ابن عباس ، ومجاهد ، والسُّدِّي وغيرهم. وقد استدل جمهور العلماء على حل ميتة البحر بهذه الآية الكريمة ، وبما رواه الإمام مالك بن أنس ، عن وَهْبِ بن كَيْسَان ، عن جابر بن عبد الله قال : بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بعثًا قِبَل الساحل ، فأمَّر عليهم أبا عبيدة بن الجراح ، وهم ثلاثمائة ، قال : وأنا فيهم. قال : فخرجنا ، حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد ، فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش ، فجُمع ذلك كله ، فكان مَزْوَدَيْ تمر ، قال : فكان يُقَوِّتُنَا كل يوم قليلا قليلا حتى فني ، فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة. فقلت : وما تغني تمرة ؟ فقال : فقد وجدنا فقدها حين فنيت ، قال : ثم انتهينا إلى البحر ، فإذا حوت مثل الظَّرِب ، فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة. ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا ، ثم أمر براحلة فرحلت ، ومرت تحتهما فلم تصبهما. (2)
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين (3) وله طرق عن جابر.
وفي صحيح مسلم من رواية أبي الزبير ، عن جابر : فإذا على ساحل البحر مثل الكثيب الضخم ، فأتيناه فإذا بدابة يقال لها : العنبر قال : قال أبو عبيدة : مَيْتة ، ثم قال : لا نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله ، وقد اضطررتم فكلوا قال : فأقمنا عليه شهرًا ونحن ثلاثمائة حتى سمنا. ولقد رأيتُنا نغترف من وَقْب عينه بالقلال الدهن ، ونقتطع منه الفِدْر كالثور ، أو : كقَدْر الثور ، قال : ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في وَقْب عينه ، وأخذ ضِلْعًا من أضلاعه فأقامها ، ثم رحل أعظم بعير معنا فمر من تحتها ، وتزودنا من لحمه وشائق. فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فذكرنا ذلك له ، فقال : "هو رزق أخرجه الله لكم ، هل معكم من لحمه شيء فتطعمونا ؟" قال : فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله. وفي بعض روايات مسلم : أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم حين وجدوا هذه السمكة. فقال بعضهم : هي واقعة أخرى ، وقال بعضهم : بل هي قضية واحدة ، ولكن كانوا أولا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم بعثهم سرية مع أبي عبيدة ، فوجدوا هذه في سريتهم تلك مع أبي عبيدة ، والله أعلم. (4)
__________
(1) في د : "للسفر".
(2) الموطأ (2/930).
(3) صحيح البخاري برقم (2483) وصحيح مسلم برقم (1935).
(4) صحيح مسلم برقم (1935).

(3/198)


وقال مالك ، عن صفوان بن سُلَيم ، عن سعيد بن سَلَمة - من آل ابن الأزرق : أن المغيرة بن أبي بردة - وهو من بني عبد الدار - أخبره ، أنه سمع أبا هريرة يقول : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إنا نركب البحر ، ونحمل معنا القليل من الماء ، فإن توضأنا به عطشنا ، أفنتوضأ بماء البحر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هو الطَّهُور ماؤه الحِلّ ميتته".
وقد روى هذا الحديث الإمامان الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وأهل السنن الأربعة ، وصححه البخاري ، والترمذي ، وابن خزيمة ، وابن حِبَّان ، وغيرهم. وقد روي عن جماعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم (1) بنحوه.
وقد روى الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، من طرق ، عن حماد بن سلمة : حدثنا أبو المُهَزّم - هو يزيد بن سفيان - سمعت أبا هريرة يقول : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حج - أو عمرة - فاستقبلنا رِجْل جَراد ، فجعلنا نضربهن بعصينا وسياطنا فنقتلهن ، فأسقط في أيدينا ، فقلنا : ما نصنع ونحن محرمون ؟ فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "لا بأس بصيد البحر" (2)
أبو المُهَزّم ضعيف ، والله أعلم.
وقال ابن ماجه : حدثنا هارون بن عبد الله الحَمَّال ، حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا زياد بن عبد الله عن عُلاثة ، عن موسى بن محمد بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن جابر وأنس بن مالك ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دعا على الجراد قال : "اللهم أهْلك كباره ، واقتل صغاره ، وأفسدْ بيضه ، واقطع دابره ، وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا ، إنك سميع الدعاء". فقال خالد : يا رسول الله ، كيف تدعو على جند من أجناد الله بقطع دابره ؟ فقال : "إن الجراد نَثْرَة الحوت في البحر". قال هاشم : قال زياد : فحدثني من رأى الحوت ينثره. تفرد به ابن ماجه. (3)
وقد روى الشافعي ، عن سعيد ، عن ابن جُرَيْج ، عن عطاء ، عن ابن عباس : أنه أنكر على من يصيد الجراد في الحرم.
وقد احتج بهذه الآية الكريمة من ذهب من الفقهاء إلى أنه تؤكل دواب البحر ، ولم يستثن من ذلك شيئًا. وقد تقدم عن الصديق أنه قال : { طَعَامُهُ } كل ما فيه.
وقد استثنى بعضهم الضفادع وأباح ما سواها ؛ لما رواه الإمام أحمد ، وأبو داود والنسائي من رواية ابن أبي ذئب ، عن سعيد بن خالد ، عن سعيد بن المسيب ، عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن قتل الضفدع". (4)
__________
(1) مسند الشافعي برقم (25) "بدائع المنن" والمسند للإمام أحمد (2/237) وسنن أبي داود برقم (83) وسنن الترمذي برقم (69) وسنن النسائي (1/50) وسنن ابن ماجة برقم (386) وصحيح ابن خزيمة برقم (111) وصحيح ابن حبان برقم (119).
(2) المسند (2/306) وسنن أبي داود برقم (1854) وسنن الترمذي برقم (850) وسنن ابن ماجة برقم (3222).
(3) سنن ابن ماجة برقم (3221) وقال البوصيري في الزوائد (3/ 64 ، 65) : "هذا إسناد ضعيف لضعف موسى بن محمد بن إبراهيم ، أورده ابن الجوزي في الموضوعات من طريق هارون بن عبد الله ، وقال : لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعفه موسى بن محمد".
(4) المسند (3/453) وسنن أبي داود برقم (5269) وسنن النسائي (7/210).

(3/199)


وللنسائي عن عبد الله بن عمرو قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع ، وقال : نَقِيقُها تسبيح. (1)
وقال آخرون : يؤكل من صيد البحر السمك ، ولا يؤكل الضفدع. واختلفوا فيما سواهما ، فقيل : يؤكل سائر ذلك ، وقيل : لا يؤكل. وقيل : ما أكل شبهه من البر أكل مثله في البحر ، وما لا يؤكل شبهه لا يؤكل. وهذه كلها وجوه في مذهب الشافعي ، رحمه الله.
قال أبو حنيفة ، رحمه الله : لا يؤكل ما مات في البحر ، كما لا يؤكل ما مات في البر ؛ لعموم قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ } [المائدة : 3].
وقد ورد حديث بنحو ذلك ، فقال ابن مردويه :
حدثنا عبد الباقي - هو ابن قانع - حدثنا الحسين بن إسحاق التُّسْتَرِيّ وعبد الله بن موسى بن أبي عثمان قالا حدثنا الحسين بن زيد الطحان ، حدثنا حفص بن غِياث ، عن ابن أبي ذئب ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما صِدْتُموه وهو حي فمات فكلوه ، وما ألقى البحر ميتًا طافيًا فلا تأكلوه".
ثم رواه من طريق إسماعيل بن أمية ، ويحيى بن أبي أُنَيْسَة ، عن أبي الزبير عن جابر به. وهو منكر. (2)
وقد احتج الجمهور من أصحاب مالك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، بحديث "العَنْبَر" المتقدم ذكره ، وبحديث : "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" ، وقد تقدم أيضًا.
وروى الإمام أبو عبد الله الشافعي ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أحِلَّت لنا ميتتان ودَمَان ، فأما الميتتان فالحوت والجراد ، وأما الدمان فالكبد والطحال".
ورواه أحمد وابن ماجه ، والدارقطني والبيهقي. وله شواهد ، وروي (3) موقوفًا ، والله أعلم.
وقوله : { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } أي : في حال إحرامكم يحرم (4) عليكم الاصطياد. ففيه دلالة على تحريم ذلك (5) فإذا اصطاد المحرم الصيد متعمدًا أثمَ وغَرم ، أو مخطئًا غرم وحرم عليه أكله ؛ لأنه في حقه كالميتة ، وكذا في حق غيره من المحرمين والمحلين عند مالك والشافعي - في أحد قوليه - وبه يقول عطاء ، والقاسم ، وسالم ، وأبو يوسف ، ومحمد بن الحسن ، وغيرهم. فإن
__________
(1) لم أجده عند البحث في سنن النسائي ولعلى أتداركه فيما بعد. ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (1852) من طريق الحجاج بن محمد عن شعبة عن قتادة عن زرارة بن أوفي عن عبد الله بن عمرو به.
(2) ونكارته ؛ لمخالفته الاية والأحاديث الصحيحة مثل حديث : "هو الطهور ماؤه" ، وحديث العنبر.
(3) مسند الشافعي برقم (1734) ومسند أحمد (2/97) ومضى تخريجه عند الآية : 3 من هذه السورة.
(4) في د : "فحرام".
(5) في د : "التحريم".

(3/200)


أكله أو شيئًا منه ، فهل يلزمه جزاء ؟ فيه قولان للعلماء :
أحدهما : نعم ، قال عبد الرزاق ، عن ابن جُرَيْج ، عن عطاء ، قال : إن ذبحه ثم أكله فكفارتان ، وإليه ذهب طائفة.
والثاني : لا جزاء عليه بأكله. نص عليه مالك بن أنس.
قال أبو عمر بن عبد البر : وعلى هذا مذاهب فقهاء الأمصار ، وجمهور العلماء. ثم وجهه أبو عمر بما لو وطئ ثم وطئ ثم وطئ قبل أن يحد ، فإنما عليه حد واحد. (1)
وقال أبو حنيفة : عليه قيمة ما أكل.
وقال أبو ثور : إذا قتل المحرم الصيد فعليه جزاؤه ، وحلال أكل ذلك الصيد ، إلا أنني أكرهه للذي قتله ، للخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : "صَيْد البَرِّ لكم حلال ، ما لم تُصِيدوه
أو يُصَدْ لكم".
وهذا الحديث سيأتي بيانه. وقوله بإباحته للقاتل غريب ، وأما لغيره ففيه خلاف. قد ذكرنا المنع عمن تقدم. وقال آخرون. بإباحته لغير القاتل ، سواء المحرمون والمحلون ؛ لهذا الحديث. والله أعلم.
وأما إذا صاد (2) حَلال صيدًا فأهداه إلى محرم ، فقد ذهب (3) ذاهبون إلى إباحته مطلقًا ، ولم يستفصلوا بين أن يكون قد صاده لأجله أم لا. حكى هذا القول أبو عمر بن عبد البر ، عن عمر بن الخطاب ، وأبي هريرة ، والزبير بن العوام ، وكعب الأحبار ، ومجاهد وعطاء - في رواية - وسعيد بن جبير. قال : وبه قال الكوفيون.
قال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الله بن بَزِيع ، حدثنا بِشْر بن المفضل ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، أن سعيد بن المسيب حدثه ، عن أبى هريرة ؛ أنه سئل عن لحم صيد صاده حَلال ، أيأكله المحرم ؟ قال : فأفتاهم بأكله. ثم لقي عمر بن الخطاب فأخبره بما كان من أمره ، فقال : لو أفتيتهم بغير هذا لأوجعتُ لك رأسك.
وقال آخرون : لا يجوز أكل الصيد للمحرم بالكلية ، ومنعوا من ذلك مطلقًا ؛ لعموم هذه الآية الكريمة.
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن ابن طاوس وعبد الكريم بن أبي أميَّة ، عن طاوس ، عن ابن عباس ؛ أنه كره أكل لحم الصيد للمحرم. وقال : هي مبهمة. يعني قوله : { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا }.
قال : وأخبرني معمر ، عن الزهري ، عن ابن عمر ؛ أنه كان يكره للمحرم أن يأكل من لحم الصيد على كل حال.
__________
(1) الاستذكار لابن عبد البر (11/312).
(2) في د : "صاده".
(3) في د : "فذهبا".

(3/201)


قال معمر : وأخبرني أيوب ، عن نافع ، عن ابن عمر ، مثله.
قال ابن عبد البر : وبه قال طاوس ، وجابر بن زيد ، وإليه ذهب الثوري ، وإسحاق بن راهويه - في رواية - وقد روي نحوه عن علي بن أبي طالب ، رواه ابن جرير من طريق سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب : أن عليًا كره لحم الصيد للمحرم على كل حال.
وقال مالك ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه - في رواية - والجمهور : إن كان الحلال قد قصد المحرم بذلك الصيد ، لم يجز للمحرم أكله ؛ لحديث الصعب بن جثامة : أنه أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حمارًا وحشيًا ، وهو بالأبواء - أو : بوَدّان - فرده عليه ، فلما رأى ما في وجهه قال : "إنا لم نرُدَّه عليك إلا أنّا حُرُم".
وهذا الحديث مخرج في الصحيحين ، وله ألفاظ كثيرة (1) قالوا : فوجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم ظن أن هذا إنما صاده من أجله ، فرده لذلك. فأما إذا لم يقصده بالاصطياد فإنه يجوز له الأكل منه ؛ لحديث أبي قتادة حين صاد حمار وَحْش ، كان حلالا لم يحرم ، وكان أصحابه محرمين ، فتوقفوا في أكله. ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "هل كان منكم أحد أشار إليها ، أو أعان في قتلها ؟" قالوا : لا. قال : "فكلوا". وأكل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه القصة ثابتة أيضًا في الصحيحين بألفاظ كثيرة. (2)
وقال الإمام أحمد : حدثنا سعيد بن منصور وقتيبة بن سعيد قالا حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن ، عن عمرو بن أبي عمرو ، عن المطلب بن عبد الله بن حَنْطَب ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقال قتيبة في حديثه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول : "صيد البر لكم حلال - قال سعيد : وأنتم حرم - ما لم تُصِيدوه أو يُصَدْ لكم".
وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي جميعًا ، عن قتيبة. وقال الترمذي : لا نعرف للمطلب سماعًا من جابر. (3)
ورواه الإمام محمد بن إدريس الشافعي ، من طريق عمرو بن أبي عمرو ، عن مولاه المطلب ، عن جابر ثم قال : وهذا أحسن حديث روي في هذا الباب وأقيس.
وقال مالك ، عن عبد الله بن أبي بكر ، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال : رأيت عثمان بن عفان بالعَرْج ، وهو محرم في يوم صائف ، قد غطى وجهه بقطيفة أرجوان ، ثم أتي بلحم صيد فقال
__________
(1) صحيح البخاري برقم (1825 ، 2573) وصحيح مسلم برقم (1193).
(2) صحيح البخاري برقم (2914 ، 5490) وصحيح مسلم برقم (1196).
(3) سنن أبي داود برقم (1851) وسنن الترمذي برقم (846) وسنن النسائي (5/187).

(3/202)


قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)

لأصحابه : كلوا ، فقالوا : أوَلا تأكل أنت ؟ فقال : إني لست كهيئتكم ، إنما صيد من أجلي. (1) (2)
{ قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) }
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : { قُلْ } يا محمد : { لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ } أي : يا أيها الإنسان { كَثْرَةُ الْخَبِيثِ } يعني : أن القليل الحلال النافع خير من الكثير الحرام الضار ، كما جاء في الحديث : "ما قَلَّ وكَفَى ، خَيْرٌ مما كَثُر وألْهَى".
وقال أبو القاسم البَغَوِيُّ في معجمه : حدثنا أحمد بن زُهَيْر ، حدثنا الحَوْطِي ، حدثنا محمد بن شعيب ، حدثنا مُعان (3) بن رِفاعة ، عن أبي عبد الملك علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة أنه أخبره عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري أنه قال : يا رسول الله ، ادع الله أن يرزقني مالا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه". (4)
{ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الألْبَابِ } أي : يا ذوي العقول الصحيحة المستقيمة ، وتجنبوا الحرام ودعوه ، واقنعوا بالحلال واكتفوا به { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي : في الدنيا والآخرة.
ثم قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } هذا تأديب من الله [تعالى] (5) لعباده المؤمنين ، ونهي لهم عن أن يسألوا { عَنْ أَشْيَاءَ } مما لا فائدة لهم في السؤال والتنقيب عنها ؛ لأنها إن أظهرت لهم تلك الأمور ربما ساءتهم وشق عليهم سماعها ، كما جاء في الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا يُبْلغني أحد عن أحد شيئًا ، إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر". (6)
وقال البخاري : حدثنا مُنْذِر بن الوليد بن عبد الرحمن الجارودي ، حدثنا أبي ، حدثنا شعبة ، عن
__________
(1) الموطأ (1/354)
(2) لم يتعرض الحافظ ابن كثير - رحمه الله - لتفسير بقية الآيات ، كما في جميع النسخ المخطوطة ، ولعل ذلك - والله أعلم - لأنه قد تطرق إلى تفسير معانيها في متشابهتها في سورة البقرة.
(3) في د : "يعلى".
(4) ورواه ابن عبد البر في الاستيعاب (1/201) وابن الأثير في أسد الغابة (1/284) من طريق معان بن رفاعة ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم بن عبد الرحمن به ، وفي إسناده علي بن يزيد الألهاني وهو متروك. وللفاضل عداب الحمش رسالة في الذب عن ثعلبة بن حاطب بين فيها نكارة هذه القصة وتوسع في ذلك.
(5) زيادة من د.
(6) رواه أبو داود في السنن برقم (4860) والترمذي في السنن برقم (3896) من حديث عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، وسيأتي سياقه.

(3/203)


موسى بن أنس ، عن أنس بن مالك قال : خطب النبي صلى الله عليه وسلم خُطبة ما سمعت مثلها قط ، قال "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا" قال : فغطّى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم لهم حنين. فقال رجل : من أبي ؟ قال : "فلان" ، فنزلت هذه الآية : { لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ }
رواه النَّضْر وروح بن عبادة ، عن شعبة (1) وقد رواه البخاري في غير هذا الموضع ، ومسلم ، وأحمد ، والترمذي ، والنسائي من طرق عن شعبة بن الحجاج ، به. (2)
وقال ابن جرير : حدثنا بِشْر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } الآية ، قال : فحدثنا أن أنس بن مالك حدثه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه حتى أحفوه بالمسألة ، فخرج عليهم ذات يوم فصعد المنبر ، فقال : "لا تسألوا اليوم عن شيء إلا بينته لكم". فأشفق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون بين يدي أمر قد حَضَر ، فجعلت لا ألتفت يمينًا ولا شمالا إلا وجدت كلا لافا رأسه في ثوبه يبكي ، فأنشأ رجل كان يُلاحي فيدعى إلى غير أبيه ، فقال : يا نبي الله ، من أبي ؟ قال : "أبوك حذافة". قال : ثم قام عمر - أو قال : فأنشأ عمر - فقال : رضينا بالله ربًا ، وبالإسلام دينًا ، وبمحمد رسولا عائذًا بالله - أو قال : أعوذ بالله - من شر الفتن قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لم أر في الخير والشر كاليوم قط ، صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط". أخرجاه من طريق سعيد. (3)
ورواه مَعْمَر ، عن الزهري ، عن أنس بنحو ذلك - أو قريبًا منه - قال الزهري : فقالت أم عبد الله بن حذافة : ما رأيت ولدًا أعق منك قط ، أكنت تأمن أن تكون أمك قد قارفَتْ ما قارفَ أهلُ الجاهلية فتفضحها على رؤوس الناس ، فقال : والله لو ألحقني بعبد أسود للحقتُه. (4)
وقال ابن جرير أيضًا : حدثنا الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا قَيْس ، عن أبي حَصِين ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمارّ وجهه حتى جلس على المنبر ، فقام إليه رجل فقال : أين أبي (5) ؟ فقال : "في النار" فقام آخر فقال : من أبي ؟ فقال : "أبوك حذافة" ، فقام عمر بن الخطاب فقال : رضينا بالله ربًّا ، وبالإسلام دينًا ، وبمحمد نبيا ، وبالقرآن إمامًا ، إنا يا رسول الله حَدِيثو عهد بجاهلية وشرْك ، والله أعلم من آباؤنا. قال : فسكن غضبه ، ونزلت هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } (6) إسناده جيد. (7)
وقد ذكر هذه القصة (8) مرسلة غير واحد من السلف ، منهم أسباط عن السُّدِّي أنه قال في قوله :
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4621).
(2) صحيح البخاري برقم (6486 ، 7295) وصحيح مسلم برقم (2359) والمسند (3/210) وسنن الترمذي برقم (3056).
(3) تفسير الطبري (11/100) وصحيح البخاري برقم (7091) وصحيح مسلم برقم (2359).
(4) رواه الطبري في تفسيره (11/102) من طريق معمر به.
(5) في د : "أين أنا".
(6) تفسير الطبري (11/103).
(7) في د : "إسناد جيد".
(8) في د : "ذكرها".

(3/204)


{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } قال : غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا من الأيام ، فقام خطيبًا فقال : "سلوني ، فإنكم لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم به". فقام إليه رجل من قريش ، من بني سهم ، يقال له : عبد الله بن حُذَافة ، وكان يُطْعَن فيه ، فقال : يا رسول الله ، من أبي ؟ فقال : "أبوك فلان" ، فدعاه لأبيه ، فقام إليه عمر بن الخطاب فقبل رجله ، وقال : يا رسول الله ، رضينا بالله ربًّا ، وبك نبيًا ، وبالإسلام دينًا ، وبالقرآن إمامًا ، فاعف عنا عفا الله عنك ، فلم يزل به حتى رضي ، فيومئذ قال : "الولد للفِرَاش وللعاهرِ الحَجَر".
ثم قال البخاري : حدثنا الفَضْل بن سَهْل ، حدثنا أبو النَّضْر ، حدثنا أبو خَيْثَمَة ، حدثنا أبو الجُويرية ، عن ابن عباس قال : كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء ، فيقول الرجل : من أبي ؟ ويقول الرجل تَضل ناقتُه : أين ناقتي ؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } حتى فرغ من الآية كلها. تفرد (1) به البخاري. (2)
وقال الإمام أحمد : حدثنا منصور بن وَرْدَان الأسدي ، حدثنا عليّ بن عبد الأعلى ، عن أبيه ، عن أبي البَخْتَريّ - وهو سعيد بن فيروز - عن (3) علي قال : لما نزلت هذه الآية : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا } [آل عمران : 97] قالوا : يا رسول الله ، (4) كل عام ؟ فسكت. فقالوا : أفي كل عام ؟ فسكت ، قال : ثم قالوا : أفي كل عام ؟ فقال : "لا ولو قلت : نعم لوجبت" ، فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } إلى آخر الآية.
وكذا رواه الترمذي وابن ماجه ، من طريق منصور بن وردان ، به (5) وقال الترمذي : غريب من هذا الوجه ، وسمعت البخاري يقول : أبو البختري لم يدرك عليًّا.
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان ، عن إبراهيم بن مسلم الهَجَرِيّ ، عن أبي عياض ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله كتب عليكم الحج" فقال رجل : أفي كل عام يا رسول الله ؟ فأعرض عنه ، حتى عاد مرتين أو ثلاثًا ، فقال : "من السائل ؟" فقال : فلان. فقال : "والذي نفسي بيده ، لو قلت : نعم لوَجَبَتْ ، ولو وجبت عليكم ما أطقتموه ، ولو تركتموه لكفرتم" ، فأنزل الله ، عز وجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } حتى ختم الآية.
ثم رواه ابن جرير من طريق الحسين بن واقد ، عن محمد بن زياد ، عن أبي هريرة - وقال : فقام مِحْصَن الأسدي - وفي رواية من هذه الطريق : عُكَاشة بن محْصن - وهو أشبه. (6)
__________
(1) في د : "رواه".
(2) صحيح البخاري برقم (4622).
(3) في د : "وعن".
(4) في د : "أفي".
(5) المسند (1/113) وسنن الترمذي برقم (3055) وسنن ابن ماجة برقم (2884)
(6) تفسير الطبري (11/105).

(3/205)


وإبراهيم بن مسلم الهجري ضعيف.
وقال ابن جرير أيضًا : حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري قال : حدثنا أبو زيد عبد الرحمن ابن أبي الغمر ، حدثنا ابو مطيع معاوية بن يحيى ، عن صفوان بن عمرو ، حدثني سليم بن عامر قال : سمعت أبا أمامة الباهلي يقول : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فقال : "كتب عليكم الحج". فقام رجل من الأعراب فقال : أفي كل عام ؟ قال : فَغَلقَ كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأسكت واستغضب ، ومكث طويلا ثم تكلم فقال : "من السائل ؟" فقال الأعرابي : أنا ذا ، فقال : "ويحك ، ماذا يؤمنك أن أقول : نعم ، والله لو قلت : نعم لوجبت ، ولو وجبت لكفرتم ، ألا إنه إنما أهلك الذين من قبلكم أئمة الحَرَج ، والله لو أني أحللت لكم جميع ما في الأرض ، وحرمت عليكم منها موضع خُفٍّ ، لوقعتم فيه" قال : فأنزل الله عند ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } إلى آخر الآية. (1) في إسناده ضعف.
وظاهر (2) الآية النهي عن السؤال عن الأشياء التي إذا علم بها الشخص ساءته ، فالأولى الإعراض عنها وتركها. وما أحسن الحديث الذي رواه الإمام أحمد حيث قال :
حدثنا حَجَّاج قال : سمعت إسرائيل بن يونس ، عن الوليد بن أبي هشام مولى الهمداني ، عن زيد بن زائد ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : "لا يبلغني أحد عن أحد شيئًا ؛ فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر" الحديث.
وقد رواه أبو داود والترمذي ، من حديث إسرائيل (3) - قال أبو داود : عن الوليد - وقال الترمذي : عن إسرائيل - عن السدي ، عن الوليد بن أبي هاشم ، به. ثم قال الترمذي : غريب من هذا الوجه.
وقوله : { وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } أي : وإن تسألوا عن هذه الأشياء التي نهيتم عن السؤال عنها حين ينزل الوحي على الرسول تُبَيَّن لكم ، وذلك [على الله] (4) يسير.
ثم قال (5) { عَفَا اللَّهُ عَنْهَا } أي : عما كان منكم قبل ذلك ، { وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ }
وقيل : المراد بقوله : { وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } أي : لا تسألوا عن أشياء تستأنفون السؤال عنها ، فلعلَّه قد ينزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق (6) وقد ورد في الحديث : "أعظم المسلمين جُرْمًا من سأل عن شيء لم يُحَرّم فحرم من أجل مسألته" (7) ولكن إذا نزل القرآن بها مجملة فسألتم عن بيانها حينئذ ، تبينت لكم لاحتياجكم إليها. (8)
__________
(1) تفسير الطبري (11/107).
(2) في د : "فظاهر".
(3) المسند (1/395) وسنن أبي داود برقم (4860) وسنن الترمذي برقم (3896).
(4) زيادة من د.
(5) في د : "وقوله".
(6) في د : "أو تعسير".
(7) رواه البخاري في صحيحه برقم (7289) ومسلم في صحيحه برقم (2358) من حديث سعد بن أبي وقاص.
(8) في د : "إليه".

(3/206)


{ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا } أي : ما لم يذكره (1) في كتابه فهو مما عفا عنه ، فاسكتوا أنتم عنها كما سكت عنها. وفي الصحيح ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "ذروني ما تُرِكْتُم ؛ فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم". (2)
وفي الحديث الصحيح أيضًا : " إن الله فرض فرائض فلا تُضيِّعُوها ، وحَدَّ حدودًا فلا تعتدوها ، وحَرَّم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة بكم غَيْرَ نِسْيان فلا تسألوا عنها". (3)
ثم قال : { قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ } أي : قد سأل هذه المسائل المنهي عنها قومٌ من قبلكم ، فأجيبوا عنها ثم لم يؤمنوا بها ، فأصبحوا بها كافرين ، أي : بسببها ، أي : بينت لهم ولم (4) ينتفعوا بها لأنهم لم يسألوا على وجه الاسترشاد ، وإنما سألوا على وجه التعنت والعناد.
قال ، العَوْفِي ، عن ابن عباس قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذّن في الناس فقال : "يا قوم كتب عليكم الحج". فقام (5) رجل من بني أسد فقال : يا رسول الله ، أفي كل عام ؟ فأغْضبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبًا شديدًا فقال : "والذي نفسي بيده لو قلت : نعم لوجبت ، ولو وجبت ما (6) استطعتم ، وإذًا لكفرتم ، فاتركوني ما تركتكم ، وإذا أمرتكم بشيء فافعلوا ، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه". فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } نهاهم أن يسألوا عن مثل الذي سألت النصارى من المائدة ، فأصبحوا بها كافرين. فنهى الله عن ذلك وقال : لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظ (7) ساءكم ذلك ، ولكن انتظروا ، فإذا نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلا وجدتم تبيانه (8) رواه ابن جرير.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنزلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ } قال : لما نزلت آية الحج ، نادى النبي صلى الله عليه وسلم في الناس فقال : "يا أيها الناس ، إن الله قد كتب عليكم الحج فحجوا". فقالوا : يا رسول الله ، أعامًا واحدًا أم كل عام ؟ فقال : "لا بل عامًا واحدًا ، ولو قلت : كل عام لوجبت ، ولو وجبت لكفرتم". ثم قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ } إلى قوله : { ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ } (9) رواه ابن جرير.
وقال خَصِيف ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : { لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ } قال : هي البحيرة والوصيلة والسائبة والحام ، ألا ترى أنه يقول بعد ذلك (10) "ما جعل الله من بحيرة ولا كذا ولا كذا" ، قال : وأما عكرمة فقال : إنهم كانوا يسألونه عن الآيات ، فنهوا عن ذلك. ثم قال : { قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ } رواه ابن جرير.
__________
(1) في د : "لم يذكرها".
(2) صحيح مسلم برقم (1337).
(3) رواه البيهقي في السنن الكبرى (10/13) من طريق داود بن أبي هند ، عن مكحول ، عن أبي ثعلبة الخشني به مرفوعًا.
(4) في د : "فلم".
(5) في د : "فقال".
(6) في د : "لما".
(7) في د : "لتغليظ".
(8) في د : "بيانه".
(9) في د : " إلى قوم بها كافرين " وهو خطأ".
(10) في د : "قال بعدها".

(3/207)


مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)

يعني عكرمة رحمه الله : أن المراد بهذا النهي عن سؤال وقوع الآيات ، كما سألت قريش أن يجري لهم أنهارًا ، وأن يجعل لهم الصَّفَا ذهبا وغير ذلك ، وكما سألت اليهود أن ينزل عليهم كتابا من السماء ، وقد قال الله تعالى : { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا } [الأسراء : 59] وقال تعالى : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ. وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ. وَلَوْ أَنَّنَا نزلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } [الأنعام : 109 - 111].
{ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103) }

(3/208)


وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)

{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ (104) }
قال البخاري : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن صالح بن كَيْسان ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيَّب قال : "البحيرة" : التي يُمْنَعُ درّها للطواغيت ، فلا يَحْلبها (1) أحد من الناس. و"السائبة" : كانوا يسيبونَها لآلهتهم ، لا يحمل عليها شيء - قال : وقال (2) أبو هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "رأيت عمْرَو بن عامر الخزاعي يجُرّ قُصْبَه في النار ، كان أول من سيب السوائب" - و"الوصيلة" : الناقة البكر ، تُبَكّر في أول نتاج الإبل ، ثم تُثَنّي بعد بأنثى ، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم ، إن وصلت إحْدَاهما بالأخرى ليس بينهما ذكَر. و"الحام" : فحل الإبل يَضربُ الضرّابَ المعدود ، فإذا قضى ضرابه وَدَعُوه للطواغيت ، وأعفوه عن الحَمْل ، فلم يُحْمَل عليه شيء ، وسَمّوه (3) الحامي.
وكذا رواه مسلم والنسائي ، من حديث إبراهيم بن سعد ، به. (4)
ثم قال البخاري : وقال لي أبو اليمان : أخبرنا شعيب ، عن الزهري قال : سمعت سعيدًا يخبر بهذا. وقال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. ورواه ابن الهاد ، عن ابن شهاب ، عن سعيد ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. (5)
قال الحاكم : أراد البخاري أن يزيد بن عبد الله بن الهاد رواه عن عبد الوهاب بن بُخْت ، عن الزهري. كذا حكاه شيخنا أبو الحجاج المزني في "الأطراف" وسكت ولم ينبه عليه. وفيما قاله الحاكم نظر ، فإن الإمام أحمد وأبا جعفر بن جرير روياه من حديث الليث بن سعد ، عن ابن الهاد ، عن
__________
(1) في د : "عليها".
(2) في د : "فقال".
(3) في د : "ويسموه".
(4) صحيح البخاري برقم (4623) وصحيح مسلم برقم (2856).
(5) صحيح البخاري برقم (4623).

(3/208)


الزهري نفسه. (1) والله أعلم.
ثم قال البخاري : حدثنا محمد بن أبي يعقوب أبو عبد الله الكِرْماني ، حدثنا حسان بن إبراهيم ، حدثنا يونس ، عن الزهري ، عن عُرْوَة ؛ أن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "رأيت جَهَنَّم يَحْطِمُ بعضها بعضًا ، ورأيت عَمْرًا يجر قُصْبه ، وهو أول من سيب السوائب". تفرد به البخاري. (2)
وقال ابن جرير : حدثنا هَنَّاد ، حدثنا يونس بن بُكَير ، حدثنا محمد بن إسحاق ، حدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجَوْن : "يا أكثم ، رأيت عَمْرو بن لُحَيّ بن قَمعَةَ بن خِنْدف يجر قُصْبه في النار ، فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ، ولا به منك". فقال أكثم : تخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله ؟ فقال (3) رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا إنك مؤمن وهو كافر ، إنه أول من غَيّر دين إبراهيم ، وبحر البحيرة ، وسيّب السائبة ، وحمى الحامي". ثم رواه عن هناد ، عن عبدة ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه أو مثله. (4)
ليس هذان الطريقان في الكتب.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عمرو بن مُجَمِّع ، حدثنا إبراهيم الهَجَري ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن أول من سَيَّب السوائب ، وعبد الأصنام ، أبو خزاعة عمرو بن عامر ، وإني رأيته يجر أمعاءه في النار". تفرد به أحمد من هذا الوجه. (5)
وقال عبد الرزاق : أنبأنا مَعْمَر ، عن زيد بن أسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إني لأعرف أول من سيب السوائب ، وأول من غير دين إبراهيم عليه السلام". قالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال : "عمرو بن لُحَيّ أخو بني كعب ، لقد رأيته يجر قُصْبه في النار ، يُؤذي ريحه أهل النار. وإني لأعرف أول من بحر البحائر". قالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال : "رجل من بني مُدْلج ، كانت له ناقتان ، فجدع آذانهما ، وحرم ألبانهما ، ثم شرب ألبانهما بعد ذلك ، فلقد رأيته في النار وهما يعضّانه بأفواههما ويخبطانه (6) بأخفافهما". (7)
فعمرو هذا هو ابن لحي بن قَمَعَة ، أحد رؤساء خزاعة ، الذين ولَوا البيت بعد جَرْهم. وكان أول من غير دين إبراهيم الخليل ، فأدخل الأصنام إلى الحجاز ، ودعا الرعاع من الناس إلى عبادتها والتقرب
__________
(1) المسند (2/366) وتفسير الطبري (11/116).
(2) صحيح البخاري برقم (4624).
(3) في د : "قال".
(4) تفسير الطبري (11/117) ورواه ابن هشام في السيرة النبوية (1/78) من طريق محمد بن إسحاق به.
(5) المسند (1/446) وفي إسناده إبراهيم بن مسلم الهجري وهو ضعيف ، لكن للحديث شواهد من حديث عائشة وأبي هريرة المتقدمين ، وانظر كلام الشيخ ناصر الألباني في السلسة الصحيحة برقم (1677).
(6) في د : "ويطآنه".
(7) تفسير عبد الرزاق (1/191) ورواه الطبري في تفسيره (11/120) من طريق عبد الرزاق به.

(3/209)


بها ، وشرع لهم هذه الشرائع الجاهلية في الأنعام وغيرها ، كما ذكره الله تعالى في سورة الأنعام ، عند قوله تعالى : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا } [الأنعام : 136] إلى آخر الآيات في ذلك.
فأما البحيرة ، فقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هي الناقة إذا نتجت خمسة أبْطُن نظروا إلى الخامس ، فإن كان ذكرًا ذبحوه ، فأكله الرجال دون النساء. وإن كان (1) أنثى جدعوا آذانها ، فقالوا : هذه بحيرة.
وذكر السُّدِّي وغيره قريبًا من هذا.
وأما السائبة ، فقال مجاهد : هي من الغنم نحو ما فسر من البحيرة ، إلا أنها ما ولدت من ولد كان بينها وبين ستة أولاد كان على هيئتها ، فإذا ولدت السابع ذكرًا أو ذكرين ، ذبحوه ، فأكله رجالهم دون نسائهم.
وقال محمد بن إسحاق : السائبة : هي الناقة إذا ولدت عشر إناث من الولد ليس بينهن ذكر ، سُيّبت فلم تركب ، ولم يُجَزّ وبرها ، ولم يحلب لبنها إلا الضيف.
وقال أبو روق : السائبة : كان الرجل إذا خرج فَقُضيت حاجته ، سَيَّب من ماله ناقة أو غيرها ، فجعلها للطواغيت. فما ولدت من شيء كان لها.
وقال السُّدِّي : كان الرجل منهم إذا قُضيت حاجته أو عُوفي من مرض أو كثر ماله سَيَّب شيئًا من ماله للأوثان ، فمن عرض له من الناس عُوقب بعقوبة (2) في الدنيا.
وأما الوصيلة ، فقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هي الشاة إذا نتجت سبعة أبطن نظروا إلى السابع ، فإن كان ذكرًا أو أنثى وهو ميت اشترك فيه الرجال دون النساء ، وإن كان أنثى استحيوها ، وإن كان ذكرًا وأنثى في بطن استحيوهما وقالوا : وصلته أخته فحرمته علينا. رواه ابن أبي حاتم.
وقال عبد الرزاق : أنبأنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب : { وَلا وَصِيلَةٍ } قال : فالوصيلة من الإبل ، كانت الناقة تبتكر بأنثى ، ثم تثنى بأنثى ، فسموها الوصيلة ، ويقولون : وصلت أنثيين ليس بينهما ذكر ، فكانوا يجدعونها لطواغيتهم.
وكذا روي عن الإمام مالك بن أنس ، رحمه الله.
وقال محمد بن إسحاق : الوصيلة من الغنم : إذا ولدت عشر إناث في خمسة أبطن ، توأمين توأمين في كل بطن ، سميت الوصيلة وتركت ، فما ولدت بعد ذلك من ذكر أو أنثى ، جعلت للذكور دون الإناث. وإن كانت ميتة اشتركوا فيها.
وأما الحام ، فقال العَوْفي ، عن ابن عباس قال : كان الرجل إذا لقح فحله عشرًا ، قيل حام ، فاتركوه.
__________
(1) في د : "كانت".
(2) في د : "يغربه".

(3/210)


وكذا قال أبو روق ، وقتادة. وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وأما الحام فالفحل من الإبل ، إذا وُلد لولده قالوا : حَمى هذا ظهره ، فلا يحملون عليه شيئًا ، ولا يجزون له وبرًا ، ولا يمنعونه من حمى رعي ، ومن حوض يشرب منه ، وإن كان الحوض لغير صاحبه.
وقال ابن وَهْب : سمعت مالكًا يقول : أما الحام فمن الإبل كان يضرب في الإبل ، فإذا انقضى ضرابه جعلوا عليه ريش الطواويس وسيّبوه.
وقد قيل غير ذلك في تفسير هذه الآية. وقد ورد في ذلك حديث رواه ابن أبي حاتم ، من طريق أبي إسحاق السَّبِيعي ، عن أبي الأحوص الجُشَمي ، عن أبيه مالك بن نَضْلَة قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في خَلْقان من الثياب ، فقال لي : "هل لك من مال ؟" قلت (1) نعم. قال : "من أيّ المال ؟" قال : فقلت : من كل المال ، من الإبل والغنم والخيل والرقيق. قال : "فإذا آتاك الله مالا فلْيُرَ عليك". ثم قال : "تنتج إبلك وافية آذانها ؟" قال : قلت : نعم. قال : "وهل تنتج الإبل إلا كذلك ؟" قال : "فلعلك تأخذ الموسى فتقطع آذان طائفة منها وتقول : هذه بحير ، وتشق آذان طائفة منها ، وتقول : هذه حرم ؟" قلت : نعم. قال : "فلا تفعل ، إن كل ما آتاك الله لك حل" ، ثم قال : { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ } أما البحيرة : فهي التي يجدعون آذانها ، فلا تنتفع امرأته ولا بناته ولا أحد من أهل بيته بصوفها ولا أوبارها ولا أشعارها ولا ألبانها ، فإذا ماتت اشتركوا فيها. وأما السائبة : فهي التي يسيبون لآلهتهم ، ويذهبون إلى آلهتهم فيسيبونها ، وأما الوصيلة : فالشاة تلد ستة أبطن ، فإذا ولدت السابع (2) جدعت وقطع قرنها ، فيقولون : قد وصلت ، فلا يذبحونها ولا تضرب ولا تمنع مهما وردت على حوض. هكذا يذكر تفسير ذلك مدرجًا في الحديث. وقد روي من وجه آخر عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص عوف بن مالك ، من قوله ، وهو أشبه. (3)
وقد روى هذا الحديث (4) الإمام أحمد ، عن سفيان بن عيينة ، عن أبي الزعراء عمرو بن عمرو ، عن عمه أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة ، عن أبيه ، به. وليس فيه تفسير هذه (5) والله أعلم.
وقوله : { وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ } أي : ما شرع الله هذه الأشياء ولا هي عنده قربة ، ولكن المشركين افتروا ذلك (6) وجعلوه شرعًا لهم وقربة يتقربون بها إليه. وليس ذلك بحاصل لهم ، بل هو وبال عليهم.
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } أي : إذا دعوا إلى دين الله وشرعه وما أوجبه وتَرْك ما حرمه ، قالوا : يكفينا ما وجدنا عليه الآباءَ والأجداد من الطرائق والمسالك ، قال الله تعالى { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا } أي : لا يفهمون حقًا ، ولا
__________
(1) في د : "فقلت".
(2) في د : "وتلد السابع".
(3) ورواه الطبري في تفسيره (11/122) من طريق شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص عن أبيه به.
(4) في د : "وروى الحديث".
(5) المسند (4/136).
(6) في د : "ولكن افتروه المشركون".

(3/211)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)

يعرفونه ، ولا يهتدون إليه ، فكيف يتبعونهم والحالة هذه ؟ لا يتبعهم إلا من هو أجهل منهم ، وأضل سبيلا.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) }
يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين أن يصلحوا أنفسهم ويفعلوا الخير بجهدهم وطاقتهم ، ومخبرًا لهم أنه من أصلح أمره لا يضره فساد من فسد من الناس ، سواء كان قريبًا منه أو بعيدًا.
قال العَوْفي عن ابن عباس عند تفسر هذه الآية : يقول تعالى : إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته به من الحلال والحرام (1) فلا يضره من ضل بعده ، إذا عمل بما أمرته به.
وكذا (2) روى الوالبي عنه. وهكذا قال مُقَاتِل بن حَيان. فقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } نصب على الإغراء { لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : فيجازي (3) كل عامل بعمله ، إن خيرًا فخير ، وإن شرًا فشر.
وليس في الآية مسْتَدلٌّ (4) على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، إذا كان فعل ذلك ممكنًا ، وقد قال الإمام أحمد (5) رحمه الله :
حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا زُهَيْر - يعني ابن معاوية - حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، حدثنا قَيْس قال : قام أبو بكر ، رضي الله عنه ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : أيها (6) الناس ، إنكم تقرؤون هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } إلى آخر الآية ، وإنكم تضعونها على غير موضعها ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيرونه أوشك الله ، عز وجل ، أن يَعُمَّهُمْ بعِقَابه". قال : وسمعت أبا بكر يقول : يا أيها الناس ، إياكم والكَذِب ، فإن الكذب مجانب (7) الإيمان.
وقد روى هذا الحديث أصحاب السنن الأربعة ، وابن حِبَّان في صحيحه ، وغيرهم (8) من طرق كثيرة عن جماعة كثيرة ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، به متصلا مرفوعًا ، ومنهم من رواه عنه به موقوفًا على الصديق (9) وقد رجح رفعه الدارقطني وغيره (10) وذكرنا طرقه والكلام عليه مطولا في
__________
(1) في د : "ونهيته عنه".
(2) في د : "وهكذا".
(3) في د : "ليجازي".
(4) في د : "وليس فيها دليل".
(5) في د : "قال أحمد".
(6) في د : "يا أيها".
(7) في د : "يجانب".
(8) المسند (1/5) وسنن أبي داود برقم (4338) وسنن الترمذي برقم (2168) وسنن النسائي الكبرى برقم (11157) وسنن ابن ماجة برقم (4005).
(9) رواه أبو يعلى في المسند (1/118) من طريق شعبة ، عن الحكم ، عن قيس بن أبي حازم به موقوفًا.
(10) العلل للدارقطني (1/253).

(3/212)


مسند الصديق ، رضي الله عنه.
وقال أبو عيسى الترمذي : حدثنا سعيد بن يعقوب الطَالَقَاني ، وحدثنا عبد الله بن المبارك ، حدثنا عتبة بن أبي حكيم ، حدثنا عمرو بن جارية (1) اللخمي ، عن أبي أمية الشَّعْباني (2) قال : أتيت أبا ثعلبة الخُشَنِي فقلت له : كيف تصنع في هذه الآية ؟ فقال : أيَّة آية ؟ قلت : قوله [تعالى] (3) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } فقال : أما والله لقد سألت عنها خبيرًا ، سألتُ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "بل ائتمروا بالمعروف ، وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شُحّا مُطاعًا ، وهَوًى مُتَّبعًا ، ودنيا مُؤْثَرة ، وإعجابَ كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخاصّة نفسك ، ودع العوام ، فإن من ورائكم أيامًا الصبر فيهن مثل القَبْضِ على الجَمْرِ ، للعامل فيهن مثلُ أجر خمسين رجلا يعملون كعملكم" - قال عبد الله بن المبارك : وزاد غير عتبة : قيل يا رسول الله ، أجر خمسين رجلا منهم أو منا ؟ قال : "بل أجر خمسين منكم".
ثم قال (4) الترمذي : هذا حديث حسن غريب صحيح. وكذا رواه أبو داود من طريق ابن المبارك ورواه ابن ماجه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن عتبة بن أبي حكيم. (5)
وقال عبد الرزاق : أنبأنا مَعْمَر ، عن الحسن أن ابن مسعود سأله رجل عن قوله (6) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } فقال : إن هذا ليس بزمانها ، إنها اليوم (7) مقبولة. ولكنه قد أوشك أن يأتي زمانها ، تأمرون فيصنع بكم كذا وكذا - أو قال : فلا يقبل منكم - فحينئذ { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ }
ورواه أبو جعفر الرازي ، عن الربيع عن أبي العالية ، عن ابن مسعود في قوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } الآية ، قال : كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوسًا ، فكان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس ، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه ، فقال رجل من جلساء عبد الله : ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر ؟ فقال آخر إلى جنبه : عليك بنفسك ، فإن الله يقول : { [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا] (8) عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } الآية. قال : فسمعها (9) ابن مسعود فقال : مَهْ ، لم يجئ تأويل هذه بعد (10) إن القرآن أنزل حيث أنزل (11) ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن ، ومنه آي قد وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنه آي قد وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بيسير ، ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم ، ومنه آي تأويلهن عند الساعة على ما ذكر من الساعة ، ومنه آي
__________
(1) في د : "ابن الحارث".
(2) في د : "الشعثاني".
(3) زيادة من د.
(4) في د : "فقال".
(5) سنن الترمذي برقم (3058) وسنن أبي داود برقم (4341) وسنن ابن ماجة برقم (4014) وتفسير الطبري (11/145).
(6) في د : "سئل عن قوله".
(7) في د : "ليس زمانها اليوم".
(8) زيادة من د.
(9) في د : "فردها".
(10) في د : "تأويلها".
(11) في د : "نزل".

(3/213)


يقع تأويلهن يوم الحساب على ما ذكر من الحساب والجنة والنار. فما دامت قلوبكم واحدة ، وأهواؤكم واحدة ولم تلْبَسوا شِيعًا ، ولم يَذُق بعضكم بأس بعض فأمروا وانهوا. فإذا اختلفت القلوب والأهواء ، وألبسْتُم شيعًا ، وذاق بعضكم بأس بعض فامرؤ ونفسه ، عند ذلك جاءنا تأويل هذه الآية. رواه ابن جرير. (1)
وقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن عَرفة ، حدثنا شبابة بن سَوّار ، حدثنا الربيع بن صُبَيْح ، عن سفيان بن عقال قال : قيل لابن عمر : لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه ، فإن الله قال : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } ؟ فقال ابن عمر : إنها ليست لي ولا لأصحابي أن (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ألا فليبلّغ الشاهد الغائب". فكنا نحن الشهود وأنتم الغُيّب ، ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا ، إن قالوا لم يقبل منهم. (3)
وقال أيضًا : حدثنا محمد بن بَشَّار ، حدثنا محمد بن جعفر وأبو عاصم قالا حدثنا عَوْف ، عن سوَّار بن شَبِيب قال : كنت عند ابن عمر ، إذ أتاه (4) رجل جَليد في العين ، شديد اللسان ، فقال : يا أبا عبد الرحمن ، نفر ستة كلهم قد قرأ القرآن فأسرع فيه ، وكلهم مجتهد لا يألو (5) وكلهم بغيض إليه أن يأتي دَناءة ، وهم في ذلك يشهد بعضهم على بعض بالشرك. فقال رجل من القوم : وأيّ دناءة تريد أكثرَ من أن يشهد بعضهم على بعض بالشرك ؟
فقال الرجل : إني لست إياك أسأل ، إنما أسأل الشيخ. فأعاد على عبد الله الحديث ، فقال عبد الله : لعلك ترى ، لا أبالك ، أني سآمرك أن تذهب فتقتلهم! عظْهم وانههم ، فإن عصوك فعليك نَفْسك (6) فإن الله ، عز وجل يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } الآية.
وقال أيضًا : حدثني أحمد بن المقدام ، حدثنا المعتَمِر بن سليمان ، سمعت أبي ، حدثنا قتادة ، عن أبي مازن قال : انطلقت على عهد عثمان إلى المدينة ، فإذا قوم من المسلمين جلوس ، فقرأ أحدهم هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ } فقال أكْبَرهم (7) لم يجئ تأويل هذه الآية اليوم.
وقال : حدثنا القاسم ، حدثنا الحُسَين ، حدثنا ابن فضالة ، عن معاوية بن صالح ، عن جُبَير بن نُفير قال : كنت في حلقة فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإني لأصغرُ القوم ، فتذاكروا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فقلت أنا : أليس الله يقول في كتابه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } ؟ فأقبلوا عليّ بلسان واحد وقالوا : تنزع آية من القرآن ولا تعرفها ، ولا تدري ما تأويلها!! حتى تمنّيت (8) أني لم أكن تكلمتُ ، وأقبلوا يتحدثون ، فلما حضر قيامهم قالوا : إنك غلام
__________
(1) تفسير الطبري (11/143).
(2) في د : "لأن".
(3) تفسير الطبري (11/139).
(4) في د : "فأتاه".
(5) في د : "ولا يألو".
(6) في د : "بنفسك".
(7) في د : "أكثرهم".
(8) في د : "فتمنيت".

(3/214)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)

حَدَثُ (1) السن ، وإنك نزعت بآية ولا تدري ما هي ؟ وعسى أن تدرك ذلك الزمان ، إذا رأيت شُحًّا مطاعًا ، وهَوًى متبعًا ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بنفسك ، لا يضرك من ضل إذا اهتديت. (2)
وقال ابن جرير : حدثنا علي بن سَهْل ، حدثنا ضَمْرَة بن ربيعة قال : تلا الحسن هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } فقال الحسن : الحمد لله بها ، والحمد لله عليها ، ما كان مؤمن فيما مضى ، ولا مؤمن فيما بقي ، إلا وإلى جانبه منافق يكره عمله.
وقال سعيد بن المسيب : إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر ، فلا يضرك من ضل إذا اهتديت.
رواه ابن جرير ، وكذا روي من طريق سفيان الثوري ، عن أبي العُمَيْس ، عن أبي البَخْتَري ، عن حذيفة مثله ، وكذا قال غير واحد من السلف.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن خالد الدمشقي ، حدثنا الوليد ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن كعب في قوله : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } قال : إذا هدمت كنيسة دمشق ، فجعلت مسجدًا ، وظهر لبس العَصْب ، فحينئذ تأويل هذه الآية.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) }
اشتملت هذه الآية الكريمة على حكم عزيز ، قيل : إنه منسوخ رواه العَوْفي من ابن عباس. وقال (3) حماد بن أبي سليمان ، عن إبراهيم : إنها منسوخة. وقال آخرون - وهم الأكثرون ، فيما قاله ابن جرير - : بل هو محكم ؛ ومن ادعى النسخ فعليه البيان.
فقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ } هذا هو الخبر ؛ لقوله : { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } فقيل تقديره : "شهادة اثنين" ، حذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مَقَامه. وقيل : دل الكلام على تقدير أن يشهد اثنان.
__________
(1) في د : "حديث".
(2) تفسير الطبري (11/142).
(3) في د : "وقاله".

(3/215)


وقوله : { ذَوَا عَدْلٍ } وصف الاثنين ، بأن يكونا عدلين.
وقوله : { مِنْكُمْ } أي : من المسلمين. قاله الجمهور. قال (1) علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } قال : من المسلمين. رواه ابن أبي حاتم ، ثم قال : رُوي عن عُبيدة ، وسعيد بن المسيب ، والحسن ، ومجاهد ، ويحيى بن يَعْمُر ، والسُّدِّي ، وقتادة ، ومُقاتل بن حَيَّان ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، نحو ذلك.
قال ابن جرير : وقال آخرون : عني : ذلك { ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } أي : من حَي (2) الموصي. وذلك قول روي عن عكرمة وعبيدة وعدّة غيرهما.
وقوله : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا سعيد بن عَوْن ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا حبيب بن أبي عَمْرَة ، عن سعيد بن جبير قال : قال ابن عباس في قوله : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } قال : من غير المسلمين ، يعني : أهل الكتاب.
ثم قال : وروي عن عبيدة ، وشُرَيْح ، وسعيد بن المسيب ، ومحمد بن سيرين ، ويحيى بن يعمر ، وعكرمة ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والشعبي ، وإبراهيم النَّخَعِي ، وقتادة ، وأبي مِجْلزَ ، والسُّديِّ ، ومقاتل بن حيان ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، نحو ذلك.
وعلى ما حكاه ابن جرير عن عكرمة وعبيدة في قوله : { مِنْكُمْ } أي : المراد من قبيلة الموصي ، يكون المراد هاهنا : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } أي : من غير قبيلة الموصي. وقد روى عن ابن أبي حاتم مثله عن الحسن البصري ، والزهري ، رحمهما الله.
وقوله : { إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ } أي : سافرتم ، { فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ } وهذان شرطان لجواز استشهاد الذميين عند فقد المؤمنين ، أن يكون ذلك في سفر ، وأن يكون في وصية ، كما صرح بذلك شريح القاضي.
قال ابن جرير : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا أبو معاوية ووَكِيع قالا حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن شريح قال : لا تجوز شهادة اليهودي والنصراني (3) إلا في سفر ، ولا تجوز في سفر إلا في وصية.
ثم رواه عن أبي كُرَيْب ، عن أبي بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق السَّبِيعي قال : قال شريح ، فذكر مثله.
وقد روي مثله عن الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله تعالى. وهذه المسألة من إفراده ، وخالفه الثلاثة فقالوا : لا تجوز شهادة أهل الذمة على المسلمين. وأجازها أبو حنيفة فيما بين بعضهم بعضًا.
وقال ابن جرير : حدثنا عمرو بن علي ، حدثنا أبو داود ، حدثنا صالح بن أبي الأخضر ، عن الزهري قال : مضت السنّة أنه لا تجوز شهادة كافر في حضر ولا سفر ، إنما هي في المسلمين. (4)
__________
(1) في د : "قاله".
(2) في د : "من أهل".
(3) في د : "اليهود والنصارى".
(4) تفسير الطبري (11/166).

(3/216)


وقال ابن زيد : نزلت هذه الآية في رجل توفي وليس عنده أحد من أهل الإسلام ، وذلك في أول الإسلام ، والأرض حرب ، والناس كفار ، وكان الناس يتوارثون بالوصية ، ثم نُسخت الوصية وفرضت الفرائض ، وعمل الناس بها.
رواه ابن جرير ، وفي هذا نظر ، والله أعلم.
وقال ابن جرير : اختلف في قوله : { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } هل المراد به أن يوصي إليهما ، أو يشهدهما ؟ على قولين :
أحدهما : أن يوصي إليهما ، كما قال محمد بن إسحاق ، عن يزيد بن عبد الله بن قُسَيط قال : سئل ابن مسعود ، رضي الله عنه ، عن هذه الآية قال (1) هذا رجل سافر ومعه مال ، فأدركه قدره ، فإن وجد رجلين من المسلمين دفع إليهما تركته ، وأشهد عليهما عدلين من المسلمين.
رواه ابن أبي حاتم وفيه انقطاع.
والقول الثاني : أنهما يكونان شاهدين. وهو ظاهر سياق الآية الكريمة ، فإن لم يكن وصي ثالث معهما اجتمع فيهما الوصفان : الوصاية والشهادة ، كما في قصة تَمِيم الداري ، وعَدِيّ بن بَدَّاء ، كما سيأتي ذكرها آنفًا ، إن شاء الله وبه التوفيق.
وقد استشكل ابنُ جرير كونهما شاهدين ، قال : لأنا لا نعلم حُكْمًا يَحْلِفُ فيه الشاهد. وهذا لا يمنع الحكم الذي تضمنته هذه الآية الكريمة ، وهو حكم مستقل بنفسه ، لا يلزم أن يكون جاريًا على قياس جميع الأحكام ، على أن هذا حكم خاص بشهادة خاصة في محل خاص ، وقد اغتفر فيه من الأمور ما لم يغتفر في غيره ، فإذا قامت قرائن الريبة حلف هذا الشاهد بمقتضى ما دلت عليه هذه الآية الكريمة.
وقوله تعالى : { تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ } قال [العوفي ، عن] (2) ابن عباس : يعني صلاة العصر. وكذا قال سعيد بن جبير ، وإبراهيم النَّخَعِي ، وقتادة ، وعِكْرِمة ، ومحمد بن سيرين. وقال الزهري : يعني صلاة المسلمين ، وقال السدي ، عن ابن عباس : يعني صلاة أهل دينهما.
والمقصود : أن يقام هذان الشاهدان (3) بعد صلاة اجتمع الناس فيها بحضرتهم ، { فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ } أي : فيحلفان (4) بالله { إِنِ ارْتَبْتُمْ } أي : إن ظهرت لكم منهما ريبة ، أنهما قد خانا أو غلا فيحلفان حينئذ بالله { لا نَشْتَرِي بِهِ } أي : بأيماننا. قاله مُقاتِل بن حيان { ثَمَنًا } أي : لا نعتاض عنه بعوض قليل من الدنيا الفانية الزائلة ، { وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } أي : ولو كان المشهود عليه قريبًا إلينا لا نحابيه ، { وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ } أضافها إلى الله تشريفًا لها ، وتعظيمًا لأمرها.
وقرأ بعضهم : "ولا نكتم شهادة آلله" مجرورًا على القسم. رواها ابن جرير ، عن عامر الشعبي.
__________
(1) في د : "قال ابن مسعود في هذه الآية".
(2) زيادة من د.
(3) في د : "أن قيامها".
(4) في د : "يحلفان".

(3/217)


وحَكَي عن بعضهم أنه قرأ : "ولا نَكْتُمُ شهادةً الله" ، والقراءة الأولى هي المشهورة.
{ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآثِمِينَ } أي : إن فعلنا شيئًا من ذلك ، من تحريف الشهادة ، أو تبديلها ، أو تغييرها (1) أو كتمها بالكلية.
ثم قال تعالى : { فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا } أي : فإن اشتهر وظهر وتحقق من الشاهدين الوصيين ، أنهما خانا أو غَلا شيئًا من المال الموصى به إليهما ، وظهر عليهما بذلك { فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ } هذه قراءة الجمهور : "اسْتُحِقَّ عليهم الأوليان". ورُوي عن علي ، وأُبيّ ، والحسن البصري أنهم قرؤوها : { اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ }.
وقد روى الحاكم في المستدرك من طريق إسحاق بن محمد الفَرْوِي ، عن سليمان بن بلال ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن عبيد الله بن أبي رافع ، عن علي بن أبي طالب ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ : { مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأوْلَيَانِ } ثم قال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. (2)
وقرأ بعضهم ، ومنهم ابن عباس : "من الذين استحق عليهم الأوَّلِين". وقرأ الحسن : "من الذين استحق عليهم الأوَّلان" ، حكاه ابنُ جرير.
فعلى قراءة الجمهور يكون المعنى بذلك : أي متى تحقق ذلك بالخبر الصحيح على خيانتهما ، فليقم اثنان من الورثة المستحقين للتركة وليكونا من أوْلى من يرث ذلك المال { فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا } أي : لقولنا : إنهما خانا أحقُّ وأصح وأثبت من شهادتهما المتقدمة { وَمَا اعْتَدَيْنَا } أي : فيما قلنا من الخيانة { إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ } أي : إن كنا قد كذبنا عليهما.
وهذا التحليف للورثة ، والرجوع إلى قولهما والحالة هذه ، كما يحلف أولياء المقتول إذا ظهر لَوْث (3) في جانب القاتل ، فيقسم المستحقون على القاتل فيدفع برمته إليهم ، كما هو مقرر في باب "القسامة" من الأحكام.
وقد وردت السنة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، فقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا الحسين بن زياد ، حدثنا محمد بن سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن أبي النضر ، عن باذان - يعني : أبا صالح مولى أم هانئ بنت أبي طالب - عن ابن عباس ، عن تميم الداري في هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } قال : بَرئ الناس منها غيري وغير عَديّ بن بَدَّاء. وكانا (4) نصرانيين ، يختلفان إلى الشام قبل الإسلام ، فأتيا الشام لتجارتهما وقدم عليهما مولى لبني سهم ، يقال له : بُدَيْل بن أبي مريم ، بتجارة ومعه جام من فضة يريد به الملك ، وهو عُظْم (5) تجارته. فمرض فأوصى إليهما ، وأمرهما أن يبلغا ما ترك أهله - قال تميم : فلما مات أخذنا ذلك الجام ، فبعناه
__________
(1) في د : "وتغييرها".
(2) المستدرك (2/237) ووافقه الذهبي.
(3) في د : "اللوث".
(4) في د : "فكانا".
(5) في د : "أعظم".

(3/218)


بألف درهم ، ثم اقتسمناه أنا وعدي بن بدّاء. فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم ما كان معنا. وفقدوا الجام فسألونا عنه ، فقلنا : ما ترك غير هذا ، وما د فع إلينا غيره - قال تميم : فلما أسلمت بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك ، فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر ، ودفعت (1) إليهم خمسمائة درهم ، وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها ، فوثبوا إليه (2) أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه ، فحلف فأنزل الله { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } إلى قوله : { فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا } فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فحلفا ، فنزعتْ الخمسمائة من عَدي بن بَدَّاء.
وهكذا رواه أبو عيسى الترمذي وابن جرير كلاهما عن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحَرَّاني ، عن محمد بن سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، به فذكره (3) - وعنده : فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة فلم يجدوا ، فأمرهم أن يستحلفوه بما يُعَظَّم به على أهل دينه ، فحلف فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } إلى قوله : { أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ } فقام عمرو بن العاص ورجل آخر ، فحلفا. فَنزعَتْ الخمسمائة من عدي بن بَدَّاء.
ثم قال : هذا حديث غريب ، وليس إسناده بصحيح ، وأبو النضر الذي روى عنه محمد بن إسحاق هذا الحديث هو عندي محمد بن السائب الكلبي ، يكنى أبا النضر ، وقد تركه أهل العلم بالحديث ، وهو صاحب التفسير ، سمعت محمد بن إسماعيل يقول : محمد بن السائب الكلبي ، يكنى أبا النضر ، ثم قال : ولا نعرف لسالم أبي النضر رواية عن أبي صالح مولى أم هانئ ، وقد رُوي عن ابن عباس شيء من هذا على الاختصار من غير هذا الوجه.
حدثنا سفيان بن وَكِيع ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن ابن أبي زائدة ، عن محمد بن أبي القاسم ، عن عبد الملك بن سعيد بن جُبَير ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : خرج رجل من بني سهم مع تميم الداريّ وعديّ بن بَدّاء ، فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم ، فلما قدما بتركته فقدوا جامًا من فضة مُخَوّصًا بالذهب ، فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووجدوا الجام بمكة ، فقيل : اشتريناه من تميم وعديّ. فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما ، وأن الجام لِصَاحبهم. وفيهم نزلت : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ }
وكذا رواه أبو داود ، عن الحسن بن علي ، عن يحيى بن آدم ، به. ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، وهو حديث ابن أبي زائدة. (4)
ومحمد بن أبي القاسم ، كوفي ، قيل : إنه صالح الحديث ، وقد ذكر هذه القصة مرسلة غيرُ واحد من التابعين منهم : عكرمة ، ومحمد بن سيرين ، وقتادة. وذكروا أن التحليف كان بعد صلاة العصر ،
__________
(1) في د : "وأديت".
(2) في د : "عليه".
(3) سنن الترمذي برقم (3059) وتفسير الطبري (11/186).
(4) سنن الترمذي برقم (3606) وسنن أبي داود برقم (3060) وأصله في صحيح البخاري برقم (2780) لكن البخاري لم يذكره تحديثًا وإنما حكاية قول.

(3/219)


رواه ابن جرير. وكذا ذكرها مرسلة : مجاهد ، والحسن ، والضحاك. وهذا يدل على اشتهارها في السلف وصحتها.
ومن الشواهد لصحة هذه القصة أيضا (1) ما رواه أبو جعفر بن جرير :
حدثني يعقوب ، حدثنا هُشَيْم ، أخبرنا زكريا ، عن الشعبي ؛ أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدَقُوقا ، قال : فحضرته الوفاة ولم يجد أحدًا من المسلمين يشهده على وصيته ، فأشهد رجلين من أهل الكتاب. قال : فقدما الكوفة ، فأتيا الأشعري - يعني : أبا موسى الأشعري ، رضي الله عنه - فأخبراه (2) وقدما بتركته ووصيته ، فقال الأشعري : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم قال : فأحلفهما بعد العصر : بالله ما خانا ولا كذبا ولا بَدّلا ولا كتما ولا غيرا ، وإنها لوصية الرجل وتركته. قال : فأمضى شهادتهما.
ثم رواه عن عمرو بن علي الفَلاس ، عن أبي داود الطيالسي ، عن شعبة ، عن مغيرة الأزرق ، عن الشعبي ؛ أن أبا موسى قضى بدقوقا. (3) (4)
وهذان إسنادان صحيحان إلى الشعبي ، عن أبي موسى الأشعري.
فقوله : "هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد (5) رسول الله صلى الله عليه وسلم" الظاهر - والله أعلم - أنه إنما أراد بذلك قصة تميم وعديّ بن بَدّاء ، قد ذكروا أن إسلام تَمِيم بن أوْسٍ الداري ، رضي الله عنه ، كان في سنة تسع من الهجرة فعلى هذا يكون هذا الحكم متأخرًا ، يحتاج مدعي نسخه إلى دليل فاصل في هذا المقام ، والله أعلم.
وقال أسباط عن السُّدِّي : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } قال : هذا في الوصية عند الموت ، يوصي ويشهد رجلين من المسلمين على ما له وما عليه ، قال : هذا في الحضر ، { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } في السفر ، { إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ } هذا الرجل يدركه الموت في سفره ، وليس بحضرته أحد من المسلمين ، فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس ، فيوصي إليهما ، ويدفع إليهما ميراثه فيقبلان به ، فإن رضي أهل الميت الوصية وعرفوا [مال صاحبهم] (6) تركوا الرجلين (7) وإن ارتابوا رفعوهما إلى السلطان. فذلك قوله تعالى : { تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ } قال عبد الله بن عباس : كأني أنظر إلى العلْجين حين انتُهى بهما إلى أبي موسى الأشعري في داره ، ففتح الصحيفة ، فأنكر أهل الميت وخَوّنوهما (8) فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد العصر ، فقلت له : إنهما لا يباليان صلاة العصر ، ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما ، فَيُوقَفُ الرجلان بعد صلاتهما في
__________
(1) في د : "من الشواهد لها أيضا".
(2) في د : "فأخبره".
(3) في د : "به".
(4) تفسير الطبري (11/165).
(5) في د : "الذي كان على عهده".
(6) زيادة من د.
(7) في د : "تركوهما".
(8) في د : "وضربوهما".

(3/220)


دينهما ، فيحلفان : بالله لا نشتري به ثمنًا قليلا ولو كان ذا قربى ، ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين : أن صاحبهم لبهذا أوصى ، وإن هذه لتركته. فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا : إنكما إن كتمتما أو خُنْتُما فَضَحْتُكُما في قومكما ، ولم تجز لكما شهادة ، وعاقبتكما. فإذا قال لهما ذلك ، فإن ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها. رواه ابن جرير. (1)
وقال ابن جرير : حدثنا الحسين ، حدثنا هُشيْم ، أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم وسعيد بن جبير ، أنهما قالا في هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } الآية ، قالا إذا حضر الرجل الوفاة في سفر ، فليشهد رجلين من المسلمين ، فإن لم يجد رجلين من المسلمين فرجلين من أهل الكتاب فإذا قدما بتركته ، فإن صدقهما الورثة قُبل قولهما ، وإن اتهموهما أحلفا بعد صلاة العصر : بالله ما كتمنا ولا كذبنا ولا خُنَّا ولا غَيَّرنا.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، في تفسير هذه الآية : فإن ارتيب في شهادتهما استحلفا بعد الصلاة بالله : ما اشترينا بشهادتنا ثمنًا قليلا. فإن اطلع الأولياء على أن الكافرين كذبا في شهادتهما ، قام رجلان من الأولياء فحلفا بالله : أن شهادة الكافرين باطلة ، وإنا لم نعتد ، فذلك قوله : { فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا } يقول : إن اطلع على أن الكافرين كذبا { فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا } يقول : من الأولياء ، فحلفا بالله : أن شهادة الكافرين باطلة ، وإنا لم نعتد ، فترد شهادة الكافرَيْن ، وتجوز شهادة الأولياء.
وهكذا روى العَوْفي ، عن ابن عباس. رواهما ابن جرير.
وهكذا قَرَّر (2) هذا الحكم على مقتضى هذه الآية غيرُ واحد من أئمة التابعين والسلف ، رضي الله عنهم ، وهو مذهب الإمام أحمد ، رحمه الله.
وقوله : { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا } أي : شرعية هذا الحكم على هذا الوجه المرضي من تحليف الشاهدين الذميين وقد استريب بهما ، أقرب إلى إقامتهما الشهادة على الوجه المرضي.
وقوله : { أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ } أي : يكون الحامل لهم على الإتيان بالشهادة (3) على وجهها ، هو تعظيم الحلف بالله ومراعاة جانبه وإجلاله ، والخوف من الفضيحة بين الناس إذا ردت اليمين على الورثة ، فيحلفون ويستحقون (4) ما يدعون ، ولهذا قال : { أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ }
__________
(1) تفسير الطبري (11/175).
(2) في د : "أورد".
(3) في د : "بها".
(4) في د : "فيستحقون".

(3/221)


ثم قال : { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي : في جميع أموركم { وَاسْمَعُوا } أي : وأطيعوا { وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } يعني : الخارجين عن طاعته ومتابعة شريعته.

(3/222)


يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)

{ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ (109) }
وهذا إخبار عما يخاطب الله به المرسلين يوم القيامة ، عما أجيبوا به من أممهم الذين أرسلهم إليهم ، كما قال تعالى : { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } [الأعراف : 6] وقال تعالى : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الحجر : 92 ، 93].
وقول الرسل : { لا عِلْمَ لَنَا } قال مجاهد ، والحسن البصري ، والسُّدِّي : إنما قالوا ذلك من هول ذلك اليوم.
قال عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن الأعمش ، عن مجاهد : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ } فيفزعون فيقولون : { لا عِلْمَ لَنَا } رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن حُمَيْد ، حدثنا حَكَّام ، حدثنا عَنْبَسَة قال : سمعت شيخًا يقول : سمعت الحسن يقول في قوله : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ } الآية ، قال : من هول ذلك اليوم.
وقال أسباط ، عن السُّدِّي : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا } ذلك : أنهم نزلوا منزلا ذهلت فيه العقول ، فلما سئلوا قالوا : { لا عِلْمَ لَنَا } ثم نزلوا منزلا آخر ، فشهدوا على قومهم. رواه ابن جرير.
ثم قال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا الحجاج ، عن ابن جُرَيْج قوله : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ } ماذا عملوا بعدكم ؟ وماذا أحدثوا بعدكم ؟ قالوا : { لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ }
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ } يقولون للرب ، عز وجل : لا علم لنا ، إلا علم أنت أعلم به منا.
رواه ابن جرير. ثم اختاره على هذه الأقوال الثلاثة (1) ولا شك أنه قول حسن ، وهو من باب التأدب مع الرب ، عز وجل ، أي : لا علم لنا بالنسبة إلى علمك المحيط بكل شيء ، فنحن وإن كنا قد أجبنا وعرفنا من أجابنا ، ولكن منهم من كنا إنما نطلع على ظاهره ، لا علم لنا بباطنه ، وأنت العليم بكل شيء ، المطلع على كل شيء. فعلمنا بالنسبة إلى علمك كلا عِلْم ، فإنك { أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ }
__________
(1) تفسير الطبري (11/211).

(3/222)


إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)

{ إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) }
يذكر تعالى ما امتن به على عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه السلام مما أجراه على يديه من المعجزات وخوارق العادات ، فقال تعالى : { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ } أي : في خلقي إياك من أم بلا ذكر ، وجعلي إياك آية ودلالة قاطعة على كمال قدرتي على الأشياء { وَعَلى وَالِدَتِكَ } حيث جَعلتُكَ لها برهانًا على براءتها مما نسبه الظالمون الجاهلون إليها من الفاحشة ، { إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ } وهو جبريل ، عليه السلام ، وجعلتك نبيًا داعيًا إلى الله في صغرك وكبرك ، فأنطقتك في المهد صغيرًا ، فشهدت ببراءة أمك من كل عيب ، واعترفت لي بالعبودية ، وأخبرت عن رسالتي إياك ودعوتك (1) إلى عبادتي ؛ ولهذا قال تعالى : { تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا } أي : تدعو إلى الله الناس في صغرك وكبرك. وضمن "تكلم" تدعو ؛ لأن كلامه الناس في كهولته ليس بأمر عجيب.
وقوله : { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } أي : الخط والفهم { وَالتَّوْرَاةَ } وهي المنزلة على موسى بن عمران الكليم ، وقد يَرِدُ لفظ التوراة في الحديث ويُرَاد به ما هو أعم من ذلك.
وقوله : { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي } أي : تصوره وتشكله على هيئة الطائر بإذني لك في ذلك فيكون طائرًا بإذني ، أي : فتنفخ في تلك الصورة التي شكلتها بإذني لك في ذلك ، فتكون طيراً ذا روح بإذن الله وخلقه.
وقوله : { وَتُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ بِإِذْنِي } قد تقدم الكلام على ذلك (2) في سورة آل عمران بما أغنى عن إعادته.
وقوله : { وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي } أي : تدعوهم فيقومون من قبورهم بإذن الله وقدرته ، وإرادته ومشيئته.
وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مالك بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن طلحة - يعني ابن مُصَرِّف - عن أبي بِشْر ، عن أبي الهذيل قال : كان عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، إذا أراد أن يحيي الموتى صلى ركعتين ، يقرأ في الأولى : { تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ } [سورة الملك] ، وفي الثانية : { الم. تَنزيلُ الْكِتَابِ }
__________
(1) في د : "ودعوت".
(2) في د : "عليه".

(3/223)


[سورة السجدة]. فإذا فرغ منهما مدح الله وأثنى عليه ، ثم دعا بسبعة أسماء : يا قديم ، يا خفي ، يا دائم ، يا فرد ، يا وتر ، يا أحد ، يا صمد - وكان إذا أصابته شدة دعا بسبعة أخر : يا حي ، يا قيوم ، يا الله ، يا رحمن ، يا ذا الجلال والإكرام ، يا نور السموات والأرض ، وما بينهما ورب العرش العظيم ، يا رب.
وهذا أثر عجيب جدًا. (1)
وقوله : { وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ } أي : واذكر نعمتي عليك في كفي إياهم عنك حين جئتهم بالبراهين والحجج القاطعة على نبوتك ورسالتك من الله إليهم ، فكذبوك واتهموك بأنك ساحر ، وسعوا في قتلك وصلبك ، فنجيتك منهم ، ورفعتك (2) إليَّ ، وطهرتك من دنسهم ، وكفيتك شرهم. وهذا يدل على أن هذا الامتنان كان من الله إليه بعد رفعه إلى السماء الدنيا ، أو يكون هذا الامتنان واقعًا يوم القيامة ، وعبر عنه بصيغة الماضي دلالة على وقوعه لا محالة. وهذا من أسرار الغيوب التي أطلع الله عليها رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم.
وقوله : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي } وهذا أيضًا من الامتنان عليه ، عليه السلام ، بأن جعل له أصحابًا وأنصارًا. ثم قيل : المراد بهذا الوحي وحي إلهام ، كما قال : { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ } الآية [القصص : 7] ، وهذا (3) وحي إلهام بلا خوف ، وكما قال تعالى : { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ. ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا } الآية [النحل : 68 ، 69]. وهكذا قال بعض السلف في هذه الآية : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا } [أي : بالله وبرسول الله] (4) { وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } أي : ألهموا ذلك فامتثلوا ما ألهموا.
قال الحسن البصري : ألهمهم الله. عز وجل ذلك ، وقال السُّدِّي : قذف في قلوبهم ذلك.
ويحتمل أن يكون المراد : وإذ أوحيت إليهم بواسطتك ، فدعوتهم إلى الإيمان بالله وبرسوله ، واستجابوا لك وانقادوا (5) وتابعوك ، فقالوا : { آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ }
__________
(1) وهو من أخبار بني إسرائيل التي لم يرد ما يؤيدها والأقرب بطلانها.
(2) في د : "فرفعتك".
(3) في د : "وهو".
(4) زيادة من د.
(5) في د : "فانقادوا".

(3/224)


إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)

{ إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنزلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) }

(3/225)


قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآَخِرِنَا وَآَيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)

{ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنزلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) }
هذه قصة المائدة ، وإليها تنسب السورة فيقال : "سورة المائدة". وهي مما امتن الله به على عبده ورسوله عيسى ، عليه السلام ، لما أجاب دعاءه بنزولها ، فأنزلها الله آية ودلالة معجزة باهرة وحجة قاطعة.
وقد ذكر بعض الأئمة أن قصة المائدة (1) ليست مذكورة في الإنجيل ، ولا يعرفها النصارى إلا من المسلمين ، فالله أعلم.
فقوله تعالى : { إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ } وهم أتباع عيسى (2) عليه السلام : { يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } هذه قراءة كثيرين ، وقرأ آخرون : "هل تَسْتَطيع رَبَّك" أي : هل تستطيع أن تسأل ربك { أَنْ يُنزلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ }.
والمائدة هي : الخوان عليه طعام. وذكر بعضهم أنهم إنما سألوا ذلك لحاجتهم وفقرهم (3) فسألوا أن ينزل عليهم مائدة كل يوم يقتاتون منها ، ويتقوون بها على العبادة.
قال : { اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي : فأجابهم المسيح ، عليه السلام ، قائلا لهم : اتقوا الله ، ولا تسألوا هذا ، فعساه أن يكون فتنة لكم ، وتوكلوا على الله في طلب الرزق إن كنتم مؤمنين.
{ قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا } أي : نحن محتاجون إلى الأكل منها { وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا } إذا شاهدنا نزولها رزقًا لنا من السماء { وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا } أي : ونزداد إيمانًا بك وعلمًا برسالتك ، { وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ } أي : ونشهد أنها آية من عند الله ، ودلالة وحجة على نبوتك وصدق ما جئت به.
{ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأوَّلِنَا وَآخِرِنَا } قال السُّدِّي : أي نتخذ ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيدًا نعظمه نحن وَمَنْ بعدنا ، وقال سفيان الثوري : يعني يومًا نصلي فيه ، وقال قتادة : أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم ، وعن سلمان الفارسي : عظة لنا ولمن بعدنا. وقيل : كافية لأولنا وآخرنا.
{ وَآيَةً مِنْكَ } أي : دليلا تنصبه على قدرتك على الأشياء ، وعلى إجابتك دعوتي ، فيصدقوني فيما أبلغه عنك { وَارْزُقْنَا } أي : من عندك رزقًا هنيئًا بلا كلفة ولا تعب { وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ. قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنزلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ } أي : فمن كذب بها من أمتك يا عيسى وعاندها { فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } أي : من عالمي زمانكم ، كقوله : { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } [غافر : 46] ، (4) وكقوله : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ } [النساء : 145].
__________
(1) في د : "قصتها".
(2) في د : "المسيح".
(3) في د : "لفقرهم".
(4) في د ، هـ : "يوم القيامة" وهو خطأ.

(3/225)


وقد روى ابن جرير ، من طريق عَوْف الأعرابي ، عن أبي المغيرة القوَّاس ، عن عبد الله بن عمرو قال : إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة ثلاثة : المنافقون ، ومن كفر من أصحاب المائدة ، وآل فرعون. (1)
ذكر أخبار رُوِيَت عن السلف في نزول المائدة على الحواريين :
قال أبو جعفر بن جرير (2) حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثني حجاج ، عن لَيْث ، عن عقيل ، عن ابن عباس : أنه كان يحدث عن عيسى ابن مريم أنه قال لبني إسرائيل : هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يومًا ، ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم ؟ فإن أجر العامل على من عمل له. ففعلوا ، ثم قالوا : يا معلم الخير ، قلت لنا : إن أجر العامل على من عمل له وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يومًا ، ففعلنا ، ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يومًا إلا أطعمنا حين نَفْرُغ طعامًا ، فهل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ؟ قال عيسى : { اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ. قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لأوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ. قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنزلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } قال : فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء ، عليها سبعة أحوات وسبعة أرغفة ، حتى وضعتها بين أيديهم ، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم.
كذا رواه ابن جرير (3) ورواه ابن أبي حاتم ، عن يونس بن عبد الأعلى ، عن ابن وَهْبٍ ، عن الليث ، عن عُقَيْل ، عن ابن شِهاب ، قال : كان ابن عباس يحدث ، فذكر نحوه.
وقال ابن أبي حاتم أيضًا : حدثنا سعد بن عبد الله بن عبد الحكم ، حدثنا أبو زُرْعَة وهب الله بن راشد ، حدثنا عُقَيْل بن خالد ، أن ابن شهاب أخبره عن ابن عباس ؛ أن عيسى ابن مريم قالوا له : ادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء ، قال : فنزلت الملائكة بمائدة يحملونها ، عليها سبعة أحوات ، وسبعة أرغفة ، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا الحسن بن قَزْعَة الباهلي ، حدثنا سفيان بن حبيب ، حدثنا سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة ، عن خِلاس ، عن عمار بن ياسر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "نزلت المائدة من السماء ، عليها خبز ولحم ، وأمروا أن لا يخونوا ولا يرفعوا لغد ، فخانوا وادخروا ورفعوا ، فمسخوا قردة وخنازير"
وكذا رواه ابن جرير ، عن الحسن بن قَزْعَة (4) ثم رواه ابن جرير ، عن ابن بشار ، عن ابن أبي
__________
(1) تفسير الطبري (11/233).
(2) في د : "حدثنا ابن جرير".
(3) تفسير الطبري (11/222).
(4) تفسير الطبري (11/228) ورواه الترمذي في السنن برقم (3061) وقال الترمذي : "هذا حديث قد رواه أبو عاصم وغير واحد عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن خلاس ، عن عمار بن ياسر موقوفًا. ولا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث الحسن بن قزعة ، حدثنا حميد بن مسعدة ، حدثنا سفيان بن حبيب ، عن سعيد بن أبي عروبة نحوه ولم يرفعه ، وهذا أصح من حديث الحسن بن قزعة ، ولا نعلم للحديث المرفوع أصلا"

(3/226)


عَدِيّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن خلاس ، عن عمار ، قال : نزلت المائدة وعليها ثمر من ثمار الجنة ، فأمروا ألا يخونوا ولا يخبئوا ولا يدخروا. قال : فخان القوم وخَبئوا وادخروا ، فمسخهم الله قردة وخنازير. (1)
وقال ابن جرير : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا داود ، عن سِمَاك بن حرب ، عن رجل من بني عجل ، قال : صليت إلى جنب عمار بن ياسر ، فلما فرغ قال : هل تدري كيف كان شأن مائدة بني إسرائيل ؟ قال : قلت : لا قال : إنهم سألوا (2) عيسى ابن مريم مائدة يكون عليها طعام يأكلون منه لا ينفد ، قال : فقيل لهم : فإنها مقيمة لكم ما لم تَخْبَؤوا ، أو تخونوا ، أو ترفعوا ، فإن فعلتم فإني معذبكم عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين ، قال : فما مضى يومهم حتى خبَّؤوا ورفعوا وخانوا ، فعذبوا عذابًا لم يعذبه أحد من العالمين. وإنكم - معشر العرب - كنتم تتبعون أذناب الإبل والشاء ، فبعث الله فيكم رسولا من أنفسكم ، تعرفون حسبه ونسبه ، وأخبركم أنكم ستظهرون على العجم ، ونهاكم أن تكتنزوا الذهب والفضة. وأيم الله ، لا يذهب الليل والنهار حتى تكنزوهما (3) ويعذبكم الله عذابًا أليمًا. (4)
وقال : حدثنا القاسم ، حدثنا حسين ، حدثني حجاج ، عن أبي مَعْشَر ، عن إسحاق بن عبد الله ، أن المائدة نزلت على عيسى ابن مريم ، عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات ، يأكلون منها ما شاؤوا. قال : فسرق بعضهم منها وقال : "لعلها لا تنزل غدًا". فرفعت.
وقال العَوْفِي ، عن ابن عباس : نزلت على عيسى ابن مريم والحواريين ، خوان عليه خبز وسمك ، يأكلون منه أينما نزلوا إذا شاؤوا. وقال خَصِيف ، عن عكرمة ومِقْسَم ، عن ابن عباس : كانت المائدة سمكة وأرغفة. وقال مجاهد : هو طعام كان ينزل عليهم حيث نزلوا. وقال أبو عبد الرحمن السلمي : نزلت المائدة خبزًا وسمكًا. وقال عطية العَوْفِي : المائدة سمك فيه طَعْمُ كل شيء.
وقال وَهْب بن مُنَبِّه : أنزلها من السماء على بني إسرائيل ، فكان ينزل عليهم في كل يوم في تلك المائدة من ثمار الجنة ، فأكلوا ما شاؤوا من ضروب شتى ، فكان يَقْعُدُ عليها أربعة آلاف ، فإذا أكلوا أبدل الله مكان ذلك لمثلهم. فلبثوا على ذلك ما شاء الله عز وجل.
وقال وهب بن مُنَبِّه : نزل عليهم قرصة من شعير وأحوات ، وحشا الله بين أضعافهن البركة ، فكان قوم يأكلون ثم يخرجون ، ثم يجيء آخرون فيأكلون ثم يخرجون ، حتى أكل جميعهم وأفضلوا.
وقال الأعمش ، عن مسلم ، عن سعيد بن جبير : أنزل عليها كل شيء إلا اللحم.
وقال سفيان الثوري ، عن عطاء بن السائب ، عن زاذان ومَيْسَرَة ، وجرير ، عن عطاء ، عن ميسرة
__________
(1) تفسير الطبري (11/229).
(2) في د : "إنهم قالوا".
(3) في د : "تكفروهما".
(4) تفسير الطبري (11/228).

(3/227)


قال : كانت المائدة إذا وضعت لبني إسرائيل اختلفت عليهم الأيدي بكل طعام إلا اللحم.
وعن عكرمة : كان خبز المائدة من الأرز. رواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن أبي حاتم : أخبرنا جعفر بن علي فيما كتب إليّ ، حدثنا إسماعيل بن أبي أُوَيْس ، حدثني أبو عبد الله عبد القدوس بن إبراهيم بن عبيد الله بن مِرْدَاس العبدري - مولى بني عبد الدار - عن إبراهيم بن عمر ، عن وهب بن منبه ، عن أبي عثمان النَّهْدِي ، عن سلمان الخير ؛ أنه قال : لما سأل الحواريون عيسى ابن مريم المائدة ، كره ذلك جدا وقال : اقنعوا بما رزقكم الله في الأرض ، ولا تسألوا المائدة من السماء ، فإنها إن نزلت عليكم كانت آية من ربكم ، وإنما هلكت ثمود حين سألوا نبيهم آية ، فابتلوا بها حتى كان بَوَارهم فيها. فأبوا إلا أن يأتيهم بها ، فلذلك قالوا : { نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا } الآية.
فلما رأى عيسى أن قد أبوا إلا أن يدعو لهم بها ، قام فألقى عنه الصوف ، ولبس الشعر الأسود ، وجبة من شعر ، وعباءة من شعر ، ثم توضأ واغتسل ، ودخل مصلاه فصلى ما شاء الله ، فلما قضى صلاته قام قائمًا مستقبل القبلة وصف قدميه حتى استويا ، فألصق الكعب بالكعب وحاذى الأصابع ، ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره ، وغض بصره ، وطأطأ رأسه خشوعًا ، ثم أرسل عينيه بالبكاء ، فما زالت دموعه تسيل على خديه وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض حيال (1) وجهه من خشوعه ، فلما رأى ذلك دعا الله فقال : { اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ } فأنزل الله عليهم سُفْرَة حمراء بين غمامتين : غمامة فوقها وغمامة تحتها ، وهم ينظرون إليها في الهواء منقضة من فلك السماء تهوي إليهم ، وعيسى يبكي خوفًا للشروط التي أتخذها الله عليهم - فيها : أنه يعذب (2) من يكفر بها منهم بعد نزولها عذابًا لم يعذبه أحدًا من العالمين - وهو يدعو الله من مكانه ويقول : اللهم اجعلها رحمة ، إلهي لا تجعلها عذابًا ، إلهي كم من عجيبة سألتك فأعطيتني ، إلهي اجعلنا لك شَكَّارين ، إلهي أعوذ بك أن تكون (3) أنزلتها غضبًا وجزاء ، إلهي اجعلها سلامة وعافية ، ولا تجعلها فتنة ومثلة.
فما زال يدعو حتى استقرت السُّفْرة بين يدي عيسى ، والحواريين وأصحابه حوله ، يَجدون رائحة طيبة لم يجدوا فيما مضى رائحة مثلها قط ، وخَرَّ عيسى والحواريون لله سجدًا شكرًا بما رزقهم من حيث لم يحتسبوا (4) وأراهم فيه آية عظيمة ذات عجب وعبرة ، وأقبلت اليهود ينظرون فرأوا أمرًا عجيبًا أورثهم كمدًا وغمًا ، ثم انصرفوا بغيظ شديد وأقبل عيسى. والحواريون وأصحابه حتى جلسوا حول السفرة ، فإذا عليها منديل مغطى. قال عيسى : من أجرؤنا على كشف المنديل عن هذه السفرة ، وأوثقنا بنفسه ، وأحسننا بلاء عند ربه ؟ فليكشف عن هذه الآية حتى نراها ، ونحمد ربنا ، ونذكر باسمه ، ونأكل من رزقه الذي رزقنا. فقال الحواريون : يا روح الله وكلمته ، أنت أولانا بذلك ، وأحقنا
__________
(1) في د : "ومال".
(2) في د : "أن يعذب".
(3) في د : "اللهم إني أعوذ بك".
(4) في د : "لا يحتسبون".

(3/228)


بالكشف عنها. فقام عيسى ، عليه السلام ، واستأنف وضوءًا جديدًا ، ثم دخل مصلاه فصلى كذلك ركعات ، ثم بكى بكاء طويلا ودعا الله أن يأذن له في الكشف عنها ، ويجعل له ولقومه فيها بركة ورزقًا. ثم انصرف فجلس (1) إلى السفرة وتناول المنديل ، وقال : "باسم الله خير الرازقين" ، وكشف عن السفرة ، فإذا هو عليها سمكة (2) ضخمة مشوية ، ليس عليها بواسير ، وليس في جوفها شوك ، يسيل السمن منها سيلا قد نضد حولها بقول من كل صنف غير الكراث ، وعند رأسها خل ، وعند ذنبها ملح ، وحول البقول خمسة أرغفة ، على واحد منها زيتون ، وعلى الآخر ثمرات ، وعلى الآخر خمس رمانات.
فقال شمعون رأس الحواريين لعيسى : يا روح الله وكلمته ، أمن طعام الدنيا هذا أم من طعام الجنة ؟ فقال : أما آن لكم أن تعتبروا بما ترون من الآيات ، وتنتهوا عن تنقير المسائل ؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا في سبب نزول هذه الآية! فقال شمعون : وإله إسرائيل ما أردت بها سؤالا يا ابن الصِّدِّيقة. فقال عيسى ، عليه السلام : ليس شيء مما ترون من طعام الجنة ولا من طعام الدنيا ، إنما هو شيء ابتدعه الله في الهواء بالقدرة العالية (3) القاهرة ، فقال له : كن. فكان أسرع من طرفة عين ، فكلوا مما سألتم باسم الله (4) واحمدوا عليه ربكم يُمدكم منه ويَزدكم ، فإنه بديع قادر شاكر.
فقالوا : يا روح الله وكلمته ، إنا نحب أن تُرينا آية في هذه الآية. فقال عيسى : سبحان (5) الله! أما اكتفيتم بما رأيتم في (6) هذه الآية حتى تسألوا فيها آية أخرى ؟ ثم أقبل عيسى ، عليه السلام ، على السمكة ، فقال : يا سمكة ، عودي بإذن الله حية كما كنت. فأحياها الله بقدرته ، فاضطربت وعادت بإذن الله حية طرية ، تَلَمَّظ كما يتلمظ الأسد ، تدور عيناها لها بصيص ، وعادت عليها بواسيرها. ففزع القوم منها وانحازوا. فلما رأى عيسى ذلك منهم قال : ما لكم تسألون الآية ، فإذا أراكموها ربكم كرهتموها ؟ ما أخوفني عليكم أن تعاقبوا بما تصنعون! يا سمكة ، عودي بإذن الله كما كنت. فعادت بإذن الله مشوية كما كانت في خلقها الأول.
فقالوا لعيسى : كن أنت يا روح الله الذي تبدأ بالأكل منها ، ثم نحن بعد فقال عيسى : معاذ الله من ذلك! يبدأ بالأكل من طلبها. فلما رأى الحواريون وأصحابهم امتناع نبيهم (7) منها ، خافوا أن يكون نزولها سَخْطة وفي أكلها مَثُلةً ، فتحاموها. فلما رأى ذلك عيسى دعا لها الفقراء والزَّمْنى ، وقال : كلوا من رزق ربكم ، ودعوة نبيكم ، واحمدوا الله الذي أنزلها لكم ، فيكون (8) مَهْنَؤُها لكم ، وعقوبتها على غيركم ، وافتتحوا أكلكم باسم الله ، واختموه بحمد الله ، ففعلوا ، فأكل منها ألف وثلاثمائة إنسان بين رجل وامرأة ، يصدرون عنها كل واحد منهم شبعان يتجشأ ، ونظر عيسى والحواريون فإذا ما عليها كهيئته إذ أنزلت من السماء ، لم ينتقص منها شيء ، ثم إنها رفعت إلى السماء وهم ينظرون ،
__________
(1) في د : "وجلس".
(2) في د : "فإذا هو بسمكة".
(3) في د : "الغالبة".
(4) في د : "باسم الله الرحمن الرحيم".
(5) في د : "قال سبحان".
(6) في د : "من".
(7) في د : "عيس".
(8) في د : "ويكون".

(3/229)


فاستغنى كل فقير أكل منها ، وبرئ كل زَمِنٍ أكل منها ، فلم يزالوا أغنياء صِحَاحًا حتى خرجوا من الدنيا.
وندم الحواريون وأصحابهم الذين أبوا أن يأكلوا منها ندامة ، سالت منها أشفارهم ، وبقيت حسرتها في قلوبهم إلى يوم الممات ، قال : فكانت المائدة إذا نزلت بعد ذلك أقبلت بنو إسرائيل إليها من كل مكان يسعون يزاحم بعضهم بعضًا : الأغنياء والفقراء ، والصغار (1) والكبار ، والأصحاء والمرضى ، يركب بعضهم بعضًا. فلما رأى ذلك جعلها نوائب ، تنزل يومًا ولا تنزل يومًا. فلبثوا في ذلك (2) أربعين يومًا ، تنزل عليهم غِبًّا عند ارتفاع الضُحَى (3) فلا تزال موضوعة يؤكل منها ، حتى إذا قاموا ارتفعت عنهم. (4) بإذن الله إلى جو السماء ، وهم ينظرون إلى ظلها في الأرض حتى توارى عنهم.
قال : فأوحى الله إلى نبيه عيسى ، عليه السلام ، أن اجعل رزقي المائدة (5) لليتامى والفقراء والزَّمنَى دون الأغنياء من الناس ، فلما فعل ذلك ارتاب بها الأغنياء من الناس ، وغَمطُوا ذلك ، حتى شَكُّوا فيها في أنفسهم وشككوا فيها الناس ، وأذاعوا في أمرها القبيح والمنكر ، وأدرك الشيطان منهم حاجته ، وقذف وسواسه في قلوب المرتابين (6) حتى قالوا لعيسى : أخبرنا عن المائدة ، ونزولها من السماء أحق ، فإنه قد ارتاب بها بشر منا كثير ؟ فقال عيسى ، عليه السلام : هلكتم وإله المسيح! طلبتم المائدة إلى نبيكم أن يطلبها لكم إلى ربكم ، فلما أن فعل وأنزلها عليكم رحمة ورزقًا ، وأراكم فيها (7) الآيات والعبَر كذَّبْتم بها ، وشككتم فيها ، فأبشروا بالعذاب ، فإنه نازل بكم إلا أن يرحمكم الله.
وأوحى الله إلى عيسى : إني آخذ المكذبين بشرطي ، فإني معذب منهم من كفر بالمائدة بعد نزولها عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين. قال فلما أمسى المرتابون بها وأخذوا مضاجعهم في أحسن صورة مع نسائهم آمنين ، فلما كان في آخر الليل مسخهم الله خنازير ، فأصبحوا يتبعون الأقذار في الكناسات.
هذا أثر غريب جدًا. (8) قَطَّعَه ابن أبي حاتم في مواضع من هذه القصة ، وقد جمعته أنا له ليكون سياقه أتم وأكمل ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وكل هذه الآثار دالة على أن المائدة نزلت على بني إسرائيل ، أيام عيسى ابن مريم ، إجابة من الله لدعوته ، وكما دل على ذلك ظاهر هذا السياق من القرآن العظيم : { قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنزلُهَا عَلَيْكُمْ } الآية.
__________
(1) في د : "والضعفاء".
(2) في د : "على ذلك".
(3) في د : "النهار".
(4) في د : "بينهم".
(5) في د : "في المائدة".
(6) في د : "الربانيين".
(7) في د : "منها".
(8) ورواه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول كما في تفسير القرطبي(6/369) من طريق زكريا بن حكيم ، عن على بن زيد بن جدعان ، عن أبي عثمان النهدي ، عن سلمان بنحوه ، وقال القرطبي : "وفي هذا الحديث مقال ولا يصح من جهة إسناده".

(3/230)


وقد قال قائلون : إنها لم تنزل. فروى لَيْث بن أبي سليم ، عن مجاهد في قوله : { أَنزلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ } قال : هو مثل ضُرب ، ولم ينزل شيء.
رواه ابن أبي حاتم ، وابن جرير. ثم قال ابن جرير : حدثني الحارث ، حدثنا القاسم - هو ابن سلام - حدثنا حجاج ، عن ابن جُرَيْج ، عن مجاهد قال : مائدة عليها طعام ، أبوها حين عرض عليهم العذاب إن كفروا ، فأبوا أن تَنزل عليهم.
وقال أيضًا : حدثنا ابن المثنى ، حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن منصور بن زاذان ، عن الحسن ؛ أنه قال في المائدة : لم تنزل.
وحدثنا بِشْر ، حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : كان الحسن يقول : لما قيل لهم : { فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } قالوا : لا حاجة لنا فيها ، فلم تنزل.
وهذه أسانيد صحيحة إلى مجاهد والحسن ، وقد يتقوى ذلك بأن خبر المائدة لا تعرفه النصارى وليس هو في كتابهم ، ولو كانت قد نزلت لكان ذلك مما يتوفر الدواعي على نقله ، وكان يكون موجودًا في كتابهم متواترًا ، ولا أقل من الآحاد ، والله أعلم. ولكن الذي عليه الجمهور أنها نزلت ، وهو الذي اختاره ابن جرير ، قال : لأنه تعالى أخبر بنزولها بقوله (1) تعالى : { إِنِّي مُنزلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ } قال : ووعد الله ووعيده حق وصدق.
وهذا القول هو - والله أعلم - الصواب ، كما دلت عليه الأخبار والآثار عن السلف وغيرهم. وقد ذكر أهل التاريخ أن موسى بن نصير نائب بني أمية في فتوح بلاد المغرب ، وجد المائدة هنالك مرصعة باللآلئ وأنواع الجواهر ، فبعث بها إلى أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك ، باني جامع دمشق ، فمات وهي في الطريق ، فحملت إلى أخيه سليمان بن عبد الملك الخليفة بعده ، فرآها الناس وتعجبوا منها كثيرًا لما فيها من اليواقيت النفيسة والجواهر اليتيمة. ويقال إن هذه المائدة كانت لسليمان بن داود ، عليهما السلام ، فالله أعلم.
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن سلمة بن كُهَيْل ، عن عمران بن الحكم ، عن ابن عباس قال : قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم : ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبًا ونؤمن بك قال : "وتفعلون ؟" قالوا : نعم. قال : فدعا ، فأتاه جبريل فقال : إن ربك يقرأ عليك السلام ، ويقول لك : إن شئت أصبح لهم الصفا ذهبًا ، فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين ، وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة. قال : " بل باب التوبة والرحمة".
__________
(1) في د : "في قوله".

(3/231)


وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)

ثم رواه أحمد ، وابن مردويه ، والحاكم في مستدركه ، من حديث سفيان الثوري ، به. (1)
{ وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) }
هذا أيضًا مما يخاطب الله تعالى به عبده ورسوله عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، قائلا له يوم القيامة بحضرة من اتخذه وأمه إلهين من دون الله : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ } ؟ وهذا تهديد للنصارى وتوبيخ وتقريع على رؤوس الأشهاد. هكذا قاله قتادة وغيره ، واستدل قتادة على ذلك بقوله تعالى : { هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ }
وقال السُّدِّي : هذا الخطاب والجواب في الدنيا.
قال ابن جرير : هذا هو الصواب ، وكان ذلك حين رفعه الله إلى سماء الدنيا. واحتج ابن جرير على ذلك بمعنيين :
أحدهما : أن الكلام لفظ المضي.
والثاني : قوله : { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ } و { إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ }
وهذان الدليلان فيهما نظر ؛ لأن كثيرًا من أمور يوم القيامة ذكر بلفظ المضي ، ليدل على الوقوع والثبوت. ومعنى قوله : { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } الآية : التبري منهم ورد المشيئة فيهم إلى الله ، وتعليق ذلك على الشرط لا يقتضي وقوعه ، كما في نظائر ذلك من الآيات.
والذي (2) قاله قتادة وغيره هو الأظهر ، والله أعلم : أن ذلك كائن يوم القيامة ، ليدل على تهديد النصارى وتقريعهم وتوبيخهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة. وقد روي بذلك حديث مرفوع ، رواه الحافظ ابن عساكر في ترجمة أبي عبد الله ، مولى عمر بن عبد العزيز ، وكان ثقة ، قال : سمعت أبا بردة يحدث عمر بن عبد العزيز عن أبيه أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا كان يوم القيامة دعي بالأنبياء وأممهم ، ثم يُدْعَى بعيسى فيذكره الله نعمته عليه ، فيقِر بها ، فيقولُ : { يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ } الآية [المائدة : 110] ثم يقول : { أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ } ؟ فينكر أن يكون قال ذلك ، فيؤتى بالنصارى فيسألون ، فيقولون : نعم ، هو
__________
(1) المسند (1/242) والمستدرك (1/53) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (12/152) من طريق سفيان به ، وقال الهيثمي في المجمع (10/196) : "رجاله رجال الصحيح".
(2) في د : "فالذي".

(3/232)


أمرنا بذلك ، قال : فيطول شعر عيسى ، عليه السلام ، فيأخذ كل ملك من الملائكة بشعرة من شعر رأسه وجسده. فيجاثيهم بين يدي الله ، عز وجل ، مقدار ألف عام ، حتى ترفع عليهم الحجة ، ويرفع لهم الصليب ، وينطلق بهم إلى النار" ، وهذا حديث غريب عزيز. (1)
وقوله : { سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } هذا توفيق للتأدب في الجواب الكامل ، كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن عمرو ، عن طاوس ، عن أبي هريرة قال : يلقى عيسى حجته ، ولقَّاه الله في قوله : { وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ } ؟ قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فلقاه الله : { سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } أي آخر الآية.
وقد رواه الثوري ، عن مَعْمَر ، عن ابن طاوس ، عن طاوس ، بنحوه.
وقوله : { إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ } أي : إن كان صَدَرَ مني هذا فقد علمته يا رب ، فإنه لا يخفى عليك شيء مما قلته ولا أردته في نفسي ولا أضمرته ؛ ولهذا قال : { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ } بإبلاغه { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ } أي : ما دعوتهم إلا إلى الذي أرسلتني به وأمرتني بإبلاغه : { أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ } أي : هذا هو الذي قلت لهم ، { وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ } أي : كنت أشهد على أعمالهم حين كنت بين أظهرهم ، { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ }
قال أبو داود الطيالسي : حدثنا شُعْبَة قال : انطلقت أنا وسفيان الثوري إلى المغيرة بن النعمان فأملاه علي سفيان وأنا معه ، فلما قام انتسخت من سفيان ، فحدثنا قال : سمعت سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة ، فقال : "يا أيها الناس ، إنكم محشورون إلى الله ، عز وجل ، حفاة عراة غُرْلا كما بدأنا أول خلق نعيده ، وإن أول الخلائق يُكْسى إبراهيم ، ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول : أصحابي. فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول كما قال العبد الصالح : { وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } فيقال : إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم".
ورواه البخاري عند هذه الآية عن الوليد ، عن أبي شعبة - وعن محمد بن كثير ، عن سفيان الثوري ، كلاهما عن المغيرة بن النعمان ، به. (2)
وقوله : { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله ، عز وجل ، فإنه الفعال لما يشاء ، الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون. ويتضمن
__________
(1) تاريخ دمشق (19/128 القسم المخطوط) والمختصر لابن منظور (29/54).
(2) مسند الطيالسي برقم (2638) وصحيح البخاري برقم (4625) ورواه مسلم في صحيحه برقم (3023).

(3/233)


التبري من النصارى الذين كذبوا على الله ، وعلى رسوله ، وجعلوا لله ندًا وصاحبة وولدًا ، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا ، وهذه الآية لها شأن (1) عظيم ونبأ عجيب ، وقد ورد في الحديث : أن رسول الله (2) صلى الله عليه وسلم قام بها ليلة حتى الصباح يرددها.
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن فُضَيْل ، حدثني فُليَت العامري ، عن جَسْرة العامرية ، عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال : صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة فقرأ بآية حتى أصبح ، يركع بها ويسجد بها : { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } فلما أصبح قلت : يا رسول الله ، ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت تركع بها وتسجد بها ؟ قال : "إني سألت ربي ، عز وجل ، الشفاعة لأمتي ، فأعطانيها ، وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئًا". (3)
طريق أخرى وسياق آخر : قال أحمد : حدثنا يحيى ، حدثنا قُدَامة بن عبد الله ، حدثتني جَسْرة بنت دجاجة : أنها انطلقت معتمرة ، فانتهت إلى الربذة ، فسمعت أبا ذر يقول : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي في صلاة العشاء ، فصلى بالقوم ، ثم تخلف أصحاب له يصلون ، فلما رأى قيامهم وتخلفهم انصرف إلى رحله ، فلما رأى القوم قد أخلوا المكان رجع إلى مكانه فصلي ، فجئت فقمت خلفه ، فأومأ إليَّ بيمينه ، فقمت عن يمينه. ثم جاء ابن مسعود فقام خلفي وخلفه ، فأومأ إليه بشماله ، فقام عن شماله ، فقمنا ثلاثتنا يصلي كل واحد منا بنفسه ، ويتلو من القرآن ما شاء الله أن يتلو. وقام بآية من القرآن يرددها حتى صلى الغداة. فلما أصبحنا أومأت إلى عبد الله بن مسعود : أن سله ما أراد إلى ما صنع البارحة ؟ فقال ابن مسعود بيده : لا أسأله عن شيء حتى يحدث إليّ ، فقلت : بأبي أنت وأمي ، قمت بآية من القرآن ومعك القرآن ، لو فعل هذا بعضنا لوجدنا عليه ، قال : "دعوت لأمتي". قلت : فماذا أَجِبْتَ ؟ - أو ماذا رُدَّ عليك ؟ - قال : "أجبت بالذي لو اطلع عليه كثير منهم طلْعة تركوا الصلاة". قلت : أفلا أبشر الناس ؟ قال : "بلى". فانطلقتُ مُعْنقًا قريبًا من قَذْفة بحجر. فقال عمر : يا رسول الله ، إنك إن تبعث إلى الناس بهذا نَكَلوا عن العبادة. فناداه أن ارجع فرجع ، وتلك الآية : { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (4)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وَهْب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، أن بكر بن سوادة حدثه ، عن عبد الرحمن بن جبير ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول عيسى : { إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } فرفع يديه فقال : "اللهم أمتي". وبكى ، فقال الله : يا جبريل ، اذهب إلى محمد - وربك أعلم - فاسأله : ما يبكيه ؟ فأتاه جبريل ، فسأله ، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال ، فقال الله : يا جبريل ، اذهب إلى محمد فقل :
__________
(1) في د : "نبأ".
(2) في د : "أن النبي".
(3) المسند (5/149).
(4) المسند (5/149).

(3/234)


قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)

إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك. (1)
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لَهِيعَة ، حدثنا ابن هُبَيْرة (2) أنه سمع أبا تميم الجَيْشاني يقول : حدثني سعيد بن المسيب ، سمعت حذيفة بن اليمان يقول : غاب عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فلم يخرج ، حتى ظننا أن لن يخرج ، فلما خرج سجد سجدة ظننا أن نَفْسه قد قبضت فيها ، فلما رفع رأسه قال : "إن ربي ، عز وجل ، استشارني في أمتي : ماذا أفعل بهم ؟ فقلت : ما شئت أي رب هم خلقك وعبادك. فاستشارني الثانية ، فقلت له كذلك ، فقال : لا أخزيك في أمتك يا محمد ، وبشرني أن أول من يدخل الجنة من أمتي معي سبعون ألفًا ، مع كل ألف سبعون ألفا ، ليس عليهم حساب ، ثم أرسل إليّ فقال : ادع تُجب ، وسل تُعْطَ". فقلت لرسوله : أومعطي ربي سؤلي ؟ قال : ما أرسلني إليك إلا ليعطيك ، ولقد أعطاني ربي ولا فخر ، وغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر ، وأنا أمشي حيًا صحيحًا ، وأعطاني ألا تجوع أمتي ولا تغلب ، وأعطاني الكوثر ، وهو نهر في الجنة يسيل في حوضي ، وأعطاني العز والنصر والرعب يسعى بين يدي أمتي شهرًا ، وأعطاني أني أول الأنبياء يدخل الجنة ، وطيّب لي ولأمتي الغنيمة ، وأحل لنا كثيرًا مما شُدد على من قبلنا ، ولم يجعل علينا في الدين من حرج". (3)
{ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) }
يقول تعالى مجيبًا لعبده ورسوله عيسى ابن مريم (4) فيما أنهاه إليه من التبري من النصارى الملحدين ، الكاذبين على الله وعلى رسوله ، ومن رد المشيئة فيهم إلى ربه ، عز وجل ، فعند ذلك يقول تعالى : { هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ }
قال الضحاك ، عن ابن عباس يقول : يوم ينفع الموحدين توحيدهم.
{ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا } أي : ماكثين فيها لا يَحُولون ولا يزولون ، رضي الله عنهم ورضوا عنه ، كما قال تعالى : { وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ } [التوبة : 72].
وسيأتي ما يتعلق بتلك الآية من الحديث.
وقد روى ابن أبي حاتم هاهنا حديثًا فقال : حدثنا أبو سعيد الأشَجُّ ، حدثنا المحاربي ، عن لَيْث ، عن عثمان - يعني ابن عُمَيْر أبو اليقظان - عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ثم يتجلى لهم الرب
__________
(1) ورواه مسلم في صحيحه برقم (202) من طريق يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب بنحوه.
(2) في د : "ابن ميسرة".
(3) المسند (5/393) وقال الهيثمي في المجمع (2/287) : "فيه ابن لهيعة وفيه كلام".
(4) في د : "لعيسى".

(3/235)


تعالى فيقول : سلوني سلوني أعطكم". قال : "فيسألونه (1) الرضا ، فيقول : رضاي أحلكم داري ، وأنالكم كرامتي ، فسلوني أعطكم. فيسألونه الرضا" ، قال : "فيشهدهم أنه قد رضي عنهم". (2)
وقوله : { ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } أي : هذا هو الفوز الكبير الذي لا أعظم منه ، كما قال تعالى : { لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ } [الصافات : 61] ، وكما قال : { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } [المطففين : 26].
وقوله : { لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي : هو الخالق للأشياء ، المالك لها ، المتصرف فيها القادر عليها ، فالجميع ملْكه وتحت قهره وقدرته وفي مشيئته ، فلا نظير له ولا وزير ، ولا عديل ، ولا والد ولا ولد ولا صاحبة ، فلا إله غيره ولا رب سواه.
قال ابن وَهْب : سمعت حُيَيّ بن عبد الله يحدث ، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي ، عن عبد الله بن عَمْرو قال : آخر سورة أنزلت سورة المائدة. (3)
__________
(1) في د : "فيسألون".
(2) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (2/150) : حدثنا عبد الرحمن المحاربي ، فذكره من حديث طويل ، وعثمان بن عمير أبو اليقظان الكوفي قال الذهبي : ضعفوه - أي الأئمة - فقال ابن معين : ليس بشيء ، وقال أبو أحمد الزبيدي : كان يؤمن بالرجعة ، وقال النسائي : ليس بالقوي ، وقال أحمد والدارقطني : ضعيف ، وقال ابن عدي : "رديء المذهب ، يؤمن بالرجعة ، على أن الثقات قد رووا عنه مع ضعفه". ميزان الاعتدال (3/50).
(3) رواه الترمذي في السنن برقم (3063) عن قتيبة ، عن عبد الله بن وهب به ، وقال : "هذا حديث حسن غريب".

(3/236)


[بسم الله الرحمن الرحيم وبه الثقة وما توفيقي إلا بالله] (1)
تفسير سورة الأنعام
[وهي مكية] (2)
قال العَوْفيّ وعِكْرمة وعَطاء ، عن ابن عباس : أنزلت سورة الأنعام بمكة.
وقال الطبراني : حدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا حجّاج بن مِنْهال ، حدثنا (3) حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مِهْران ، عن ابن عباس ، قال : نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة ، حولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح (4)
وقال سفيان الثوري ، عن لَيْث ، عن شَهْر بن حَوْشَب ، عن أسماء بنت يزيد قالت : نزلت سورة الأنعام على النبي صلى الله عليه وسلم جملة [واحدة] (5) وأنا آخذة بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم ، إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة (6)
وقال شريك ، عن ليث ، عن شهر ، عن أسماء قالت : نزلت سورة الأنعام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مسير في زجل من الملائكة وقد نظموا (7) ما بين السماء والأرض (8)
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من د ، أ.
(3) في م : "عن".
(4) المعجم الكبير (12/215) ورواه أبو عبيد في فضائل القرآن (ص 129) وابن الضريس في فضائل القرآن (ص 157) من طريق حماد بن سلمة عن علي بن زيد به ، وفي إسناده علي بن زيد وهو ضعيف.
(5) زيادة من أ.
(6) رواه الطبراني في المعجم الكبير (24/178) من طريق قبيصة عن سفيان به. وقال الهيثمي في المجمع (7/20) : " فيه شهر بن حوشب وهو ضعيف وقد وثق".
(7) في أ : "طبقوا".
(8) قال الفاضل محمد بن رزق طرهوني في كتابه "موسوعة فضائل القرآن" (1/258) : "الحديث في إسناده ثلاثة ضعفاء في الحفظ وهم المذكورون قبل أسماء ، وبالإضافة إلى هذا ، ففيه علل أخرى :
الأولى : لفظة : "في مسير" دخلت على أحدهم من حديث نزول المائدة المروي عند أحمد وغيره من حديث ليث عن شهر عن أسماء حيث قالت : "إنى لآخذة بزمام العضباء ، ناقة رسول الله صلى الله علية وسلم ، إذ أنزلت عليه المائدة كلها وكادت من ثقلها تدق بعضد الناقة". أخرجه أحمد (6/455) : حدثنا أبو النضر ، حدثنا أبو معاوية يعنى شيبان عن ليث به.
الثانية : أن ذكر نزول الأنعام هنا وهم في الأصل من ليث أو شهر ، ولا دخل لشريك فيه ، فقد رواه أحمد بن منيع. (انظر : "إتحاف المهرة" 74/ب/4) والطبراني (24/178) ، وابن مردويه (انظر : "الدر" 3/2) وعلقه ابن كثير - والله أعلم - نقلا من تفسيره 3/233 من طريق الليث عن شهر عن أسماء قالت : "نزلت سورة الأنعام على النبي صلى الله عليه وسلم ، جملة وأنا آخذة بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة". ورواه عن ليث سفيان الثوري وإسحاق بن يوسف. والذي من هذا الطريق هو ذكر نزول المائدة كما تقدم ، وإنما دخل الوهم في ذلك على ليث أو شهر ، وحديث أسماء فيما بعد الهجرة بالتأكيد والأنعام مكية بلا خلاف ، ولولا أن ثقل المائدة ليس فضلا خاصا بها بل هو للقرآن جملة ؛ لكنت ذكرت شواهد حديث أسماء في ذلك عند سورة المائدة.
الثالثة : وهم شريك في جعل الحديث عن أسماء ، وإنما هو من مراسيل شهر أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده (265/أ/4) أخبرنا جرير ، عن ليث بن أبي سليم ، عن شهر بن حوشب : "نزلت سورة الأنعام ومعها زجل من الملائكة قد نظموا السماء الدنيا إلى الأرض" ، وفيه ليث وشهر وكلاهما ضعيف من قبل حفظه ، وأخرجه الفريابي وعبد بن حميد (انظر : "الدر" 3/3).

(3/237)


الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)

وقال السُّدِّي (1) عن مُرَة ، عن عبد الله قال : نزلت سورة الأنعام يشيعها سبعون ألفًا من الملائكة.
وروي نحوه من وجه آخر ، عن ابن مسعود.
وقال الحاكم في مستدركه : حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ ، وأبو الفضل الحسن بن يعقوب العدل قالا حدثنا محمد بن عبد الوهاب العبدي ، أخبرنا جعفر بن عَوْن ، حدثنا إسماعيل بن عبد الرحمن السُّدِّي ، حدثنا محمد بن المُنْكَدِر ، عن جابر قال : لما نزلت سورة الأنعام سَبّح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : " لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق ". ثم قال : صحيح على شرط مسلم (2)
وقال أبو بكر بن مَرْدُوَيه : حدثنا محمد بن معمر ، حدثنا إبراهيم بن دُرُسْتُويه الفارسي ، حدثنا أبو بكر بن أحمد بن محمد بن سالم ، حدثنا ابن أبي فديك ، حدثني عمر بن طلحة الرقاشي ، عن نافع بن مالك أبي سهيل ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نزلت سورة الأنعام معها موكب من الملائكة ، سَد ما بين الخَافِقَين لهم زَجَل بالتسبيح والأرض بهم تَرْتَجّ " ، ورسول الله [صلى الله عليه وسلم] (3) يقول : " سبحان الله العظيم ، سبحان الله العظيم " (4)
ثم روى ابن مَرْدُوَيه عن الطبراني ، عن إبراهيم بن نائلة ، عن إسماعيل بن عمرو ، عن يوسف بن عطية ، عن ابن عَوْن ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله : " نزلت عَلَيّ سورة الأنعام جملة واحدة ، وشَيَّعَها سبعون ألفا من الملائكة ، لهم زَجَلٌ بالتسبيح والتحميد " (5)
{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) }
يقول الله تعالى مادحًا نفسه الكريمة ، وحامدا لها على خلقه السموات والأرض قرارًا لعباده ،
__________
(1) في أ : "سفيان الثوري".
(2) المستدرك (2/314) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (2431) من طريق الحاكم به ، وقد تعقب الذهبي الحاكم بقوله : "لا والله لم يدرك جعفر السدي ، وأظن هذا موضوعا". قلت : "وهو على شرط مسلم في المعاصرة ، فإن وفاة السدي كانت سنة 127هـ ، وولادة جعفر بن عون سنة 109 هـ ، فاللقاء بينهما محتمل". وقول الذهبي : "أظنه موضوعا". لا وجه له ؛ فرجال إسناد الحديث رجال مسلم ، فالحمل فيه على من ؟!
(3) زيادة من م ، أ.
(4) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (2434) والطبراني في المعجم الأوسط برقم (3317) "مجمع البحرين" من طرق عن أبى بكر أحمد بن محمد بن سالم ، وفي إسناده أبو بكر أحمد بن محمد بن سالم لم أعرفه.
(5) رواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (3316) "مجمع البحرين" ورواه أبو نعيم في الحلية (3/44) من طريق إبراهيم بن نائلة به. قال الهيثمي في المجمع (7/20) : "فيه يوسف بن عطية الصفار وهو ضعيف".

(3/238)


وجعل (1) الظلمات والنور منفعة لعباده في ليلهم ونهارهم ، فجمع لفظ "الظلمات" ووحَّد لفظ (2) النور" ؛ لكونه أشرف ، كما قال { عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ } [النحل : 48] ، وكما قال (3) في آخر هذه السورة { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } [الأنعام : 153].
وقوله : { ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } أي : ومع هذا كله كفر به بعض عباده ، وجعلوا معه شريكًا وعدلا واتخذوا له صاحبةً وولدًا ، تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا.
وقوله : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ } يعني : أباهم آدم الذي هو أصلهم ومنه خرجوا ، فانتشروا في المشارق والمغارب.
وقوله : { ثُمَّ قَضَى أَجَلا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ } قال سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس : { ثُمَّ قَضَى أَجَلا } يعني : الموت { وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ } يعني : الآخرة.
وهكذا رُوي عن مجاهد ، وعِكْرِمة ، وسعيد بن جُبَيْر ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وزيد بن أسلم ، وعطية ، والسُّدِّي ، ومُقاتِل بن حَيَّان ، وغيرهم.
وقول (4) الحسن - في رواية عنه : { ثُمَّ قَضَى أَجَلا } قال : ما بين أن يخلق إلى أن يموت { وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ } ما بين أن يموت إلى أن يبعث - هو يرجع إلى ما تقدم ، وهو تقدير الأجل الخاص ، وهو عمر كل إنسان ، وتقدير الأجل العام ، وهو عمر الدنيا بكمالها ثم انتهائها وانقضائها وزوالها ، [وانتقالها] (5) والمصير إلى الدار الآخرة.
وعن ابن عباس ومجاهد : { ثُمَّ قَضَى أَجَلا } يعني : مدة الدنيا { وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ } يعني : عمر الإنسان إلى حين موته ، وكأنه مأخوذ من قوله تعالى بعد هذا : { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ [ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ] (6) } الآية [الأنعام : 60].
وقال عطية ، عن ابن عباس { ثُمَّ قَضَى أَجَلا } يعني : النوم ، يقبض فيه الروح ، ثم يرجع (7) إلى صاحبه عند اليقظة { وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ } يعني : أجل موت الإنسان ، وهذا قول غريب.
ومعنى قوله : { عِنْدَهُ } أي : لا يعلمه إلا هو ، كقوله تعالى : { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ } [الأعراف : 187] ، وكقوله { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا } [النازعات : 42 - 44].
وقوله : { ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ } قال السُّدِّي وغيره : يعني تشكون في أمر الساعة.
وقوله : { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } اختلف
__________
(1) في د : "وفي جعله"
(2) في م : "له".
(3) في د : "ثم قال".
(4) في أ : "وقال".
(5) زيادة من م ، أ.
(6) زيادة من أ.
(7) في د : "ترجع".

(3/239)


وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ (6)

مفسرو هذه الآية على أقوال ، بعد الاتفاق على تخطئة قول الجَهْمِيَّة (1) الأول القائلين بأنه - تعالى عن قولهم علوًا كبيرًا - في كل مكان ؛ حيث حملوا الآية على ذلك ، فأصح الأقوال أنه (2) المدعو الله في السموات وفي الأرض ، أي : يعبده ويوحده ويقر له بالإلهية من في السموات ومن في الأرض ، ويسمونه الله ، ويدعونه رَغَبًا ورَهَبًا ، إلا من كفر من الجن والإنس ، وهذه الآية على هذا القول كقوله تعالى : { وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأرْضِ إِلَهٌ } [الزخرف : 84] ، أي : هو إله مَنْ في السماء وإله مَنْ في الأرض ، وعلى هذا فيكون قوله : { يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ } خبرًا أو حالا.
والقول الثاني : أن المراد أن الله الذي يعلم ما في السموات وما في الأرض ، من سر وجهر. فيكون قوله : { يَعْلَمُ } متعلقًا بقوله : { فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ } تقديره : وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض ويعلم ما تكسبون.
والقول الثالث أن قوله { وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ } وقف تام ، ثم استأنف الخبر فقال : { وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } وهذا (3) اختيار ابن جرير.
وقوله : { وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } أي : جميع أعمالهم خيرها وشرها.
{ وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6) }
يقول تعالى مخبرًا عن المشركين المكذبين المعاندين : إنهم مهما أتتهم { مِنْ آيَةٍ } أي : دلالة ومعجزة وحجة ، من الدلالات على وحدانية الرب ، عَزَّ وجل ، وصدق رسله الكرام ، فإنهم يعرضون عنها ، فلا ينظرون فيها ولا يبالون بها.
قال الله تعالى : { فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } وهذا تهديد لهم ووعيد شديد على تكذيبهم بالحق ، بأنه لا بد أن يأتيهم خبر ما هم فيه من التكذيب ، وليجدُنَّ غبه ، وليذوقُنَّ وَباله.
ثم قال تعالى واعظًا ومحذرًا لهم أن يصيبهم من العذاب والنكال الدنيوي ما حل بأشباههم ونظرائهم من القرون السالفة الذين كانوا أشد منهم قوة ، وأكثر جمعًا ، وأكثر أموالا وأولادًا واستغلالا للأرض وعمارة لها ، فقال { أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ } أي : من الأموال والأولاد والأعمار ، والجاه العريض ، والسعة والجنود ، { وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا }
__________
(1) في د : "اتفاقهم على إنكار قول الجهمية".
(2) في أ : "أن".
(3) في م : "وهو".

(3/240)


وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8)

أي : شيئًا بعد شيء ، { وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ } أي : أكثرنا (1) عليهم أمطار السماء وينابيع الأرض ، أي : استدراجًا وإملاء لهم { فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ } أي : بخطاياهم وسيئاتهم التي اجترموها ، { وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ } أي : فذهب الأولون كأمس الذاهب وجعلناهم أحاديث ، { وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ } أي : جيلا آخر لنختبرهم ، فعملوا مثل أعمالهم (2) فهلكوا كهلاكهم. فاحذروا أيها المخاطبون أن يصيبكم [مثل] (3) ما أصابهم ، فما أنتم بأعز على الله منهم ، والرسول الذي كذبتموه أكرم على الله من رسولهم ، فأنتم أولى بالعذاب ومعاجلة العقوبة منهم ، لولا لطفه وإحسانه.
{ وَلَوْ نزلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) }
__________
(1) في د ، م ، أ : "كثرنا".
(2) في د ، م : "عملهم".
(3) زيادة من أ.

(3/241)


وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)

{ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) }
يقول تعالى مخبرًاً عن كفر المشركين وعنادهم ومكابرتهم للحق ومباهتتهم ومنازعتهم فيه : { وَلَوْ نزلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } أي : عاينوه ، ورأوا نزوله ، وباشروا ذلك { لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ } وهذا كما قال تعالى مخبرًا عن مكابرتهم للمحسوسات : { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ } [الحجر : 14 ، 15] وقال تعالى : { وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ } [الطور : 44].
{ وَقَالُوا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ } [أي : فيكون معه نذيرا] (1) قال الله : { وَلَوْ أَنزلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ } أي : لو نزلت الملائكة على ما هم عليه لجاءهم من الله العذاب ، كما قال تعالى : { مَا نُنزلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ } [الحجر : 8] ، [و] (2) قال تعالى : { يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ [ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا] (3) } [الفرقان : 22].
وقوله : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ } أي : ولو أنزلنا مع الرسول البَشَرِيّ ملكًا ، أي : لو بعثنا إلى البشر رسولا ملكيًا (4) لكان على هيئة رجل لتُفْهَم (5) مخاطبته والانتفاع بالأخذ عنه ، ولو كان كذلك لالتبس عليهم الأمر كما يلبسون (6) على أنفسهم في قبول رسالة البشري ، كما قال تعالى : { قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنزلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولا } [الإسراء : 95] ، فمن رحمة الله (7) تعالى بخلقه أنه يرسل إلى كل صنف من الخلائق
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من م ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(4) في م : "ملكا"
(5) في د ، م : "ليمكنهم".
(6) في د ، م : "كما هم يلبسون".
(7) في أ ، م : "فمن رحمته".

(3/241)


قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)

رسلا منهم ، ليدعو بعضهم بعضا ، وليمكن بعضهم أن ينتفع ببعض في المخاطبة والسؤال ، كما قال تعالى : { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ } الآية [آل عمران : 164].
قال الضحاك ، عن ابن عباس في [ قوله : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلا } ] (1) الآية. يقول : لو أتاهم ملك ما أتاهم إلا في صورة رجل ؛ لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة من النور { وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ } أي : ولخلطنا عليهم ما يخلطون. وقال الوالبي عنه : ولشبهنا عليهم.
وقوله : { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } هذا تسلية لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه ، ووعد له وللمؤمنين به بالنصرة والعاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة.
ثم قال : { قُلْ سِيرُوا فِي الأرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } أي : فكروا في أنفسكم ، وانظروا ما أحل الله بالقرون الماضية الذين كذبوا رسله (2) وعاندوهم ، من العذاب والنكال ، والعقوبة في الدنيا ، مع ما ادَّخَر لهم من العذاب الأليم في الآخرة ، وكيف نَجَّى رسله وعباده المؤمنون.
{ قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) }
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض ومن فيهن ، وأنه قد كتب على نفسه المقدسة الرحمة ، كما ثبت في الصحيحين ، من طريق الأعْمَش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال النبي (3) صلى الله عليه وسلم "إن الله لما خَلَقَ الخَلْق كتب كتابًا عنده فوق العرش ، إن رحمتي تَغْلِبُ غَضَبِي" (4)
وقوله : { لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ } هذه اللام هي الموطئة للقسم ، فأقسم بنفسه الكريمة ليجمعن عباده لميقات يوم معلوم [وهو يوم القيامة] (5) الذي لا ريب فيه ولا شك فيه عند عباده
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في م : "رسلهم".
(3) في أ : "قال رسول الله".
(4) صحيح البخاري برقم (7404) ورواه مسلم في صحيحه برقم (2751) من طريق أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبى هريرة. بنحوه
(5) زيادة من أ.

(3/242)


المؤمنين ، فأما الجاحدون المكذبون فهم (1) في ريبهم (2) يترددون.
وقال ابن مَرْدُوَيه عند تفسير هذه الآية : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا عبيد الله بن أحمد بن عُقْبَة ، حدثنا عباس بن محمد ، حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا مِحْصَن بن عقْبَة اليماني ، عن الزبير بن شَبِيب ، عن عثمان بن حاضر ، عن ابن عباس قال : سُئِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوقوف بين يدي رب العالمين ، هل فيه ماء ؟ قال : "والذي نَفْسِي بيَدِه ، إن فيه لماءً ، إن أولياء الله ليردون حِياضَ الأنبياء ، ويَبْعَثُ الله تعالى سبعين ألف مَلَكٍ في أيديهم عِصِيّ من نار ، يَذُودون الكفار عن حياض الأنبياء".
هذا حديث غريب (3) وفي الترمذي : "إن لكل نبي حَوْضًا ، وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردة ، وأرجو أن أكون أكثرهم واردة (4) (5)
ولهذا قال : { الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ } [أي يوم القيامة] (6) { فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } أي : لا يصدقون بالمعاد ، ولا يخافون شر ذلك اليوم.
ثم قال تعالى { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } أي : كل دابة في السموات والأرض ، الجميع عباده وخلقه ، وتحت قهره وتصرفه وتدبيره ، ولا (7) إله إلا هو ، { وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } أي : السميع لأقوال عباده ، العليم بحركاتهم وضمائرهم وسرائرهم.
ثم قال لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي بعثه بالتوحيد العظيم والشرع القويم ، وأمره أن يدعو الناس إلى صراطه (8) المستقيم : { قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } كَمَا قَالَ { قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ } [الزمر : 64] ، والمعنى : لا أتخذ وليًا إلا الله وحده لا شريك له ، فإنه فاطر السموات والأرض ، أي : خالقهما ومبدعهما على غير مثال سَبَق.
{ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ } أي : وهو الرزاق لخلقه من غير احتياج إليهم ، كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ *[ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ* إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ] (9) } [الذاريات : 56 - 58].
وقرأ بعضهم هاهنا : { وَهُوَ يُطْعِمُ ولا يَطْعَمُ } الآية (10) أي : لا يأكل.
وفي حديث سُهَيْل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة [رضي الله عنه] (11) قال : دعا رجل من الأنصار من أهل قباء النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فانطلقنا معه ، فلما طعم النبي صلى الله عليه وسلم وغسل يديه قال :
__________
(1) في أ : "فيهم".
(2) في م : "دينهم".
(3) في إسناده من لم أجد ترجمته.
(4) في م ، أ : "واردا".
(5) سنن الترمذي برقم (2443) من طريق سعيد بن بشير ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة بن جندب ، رضي الله عنه ، مرفوعا. وقال الترمذي : "هذا حديث غريب". قلت : في إسناده سعيد بن بشير وهو ضعيف.
(6) زيادة من م ، أ.
(7) في أ : "لا".
(8) في م ، أ : "صراط الله".
(9) زيادة من م ، أ.
(10) في د : "الآيتين".
(11) زيادة من أ.

(3/243)


وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)

الحمد لله الذي يُطعِم ولا يَطْعَم ، ومَنَّ علينا فهدانا ، وأطعمنا وسَقانا وكلّ بَلاء حَسَن أبلانا ، الحمد لله غير مُودّع (1) ولا مكافَأ ولا مكفور ولا مُسْتَغْنًى عنه ، الحمد لله الذي أطعمنا من الطعام ، وسقانا من الشراب ، وكسانا من العري ، وهدانا من الضلال ، وبَصَّرنا من العَمَى ، وفَضَّلنا على كثير ممن خلق تفضيلا الحمد لله رب العالمين" (2)
{ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } أي : من هذه الأمة { قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } يعني : يوم القيامة.
{ مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ } يعني : العذاب { يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ } يعني : فقد رحمه الله { وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ } (3) كما قال : { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } [آل عمران : 185] ، والفوز : هو حصول الربح ونفي الخسارة.
{ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) }
__________
(1) في م ، أ : "غير مودع ربى".
(2) رواه النسائي في السنن الكبرى برقم (10132) وابن حبان في صحيحه برقم (1352) من طريق سهيل بن أبي صالح به.
(3) في م ، أ ، هـ : "وذلك هو الفوز المبين" ، وهو خطأ.

(3/244)


قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آَلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)

{ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) }
يقول تعالى مخبرًا أنه مالك الضر والنفع ، وأنه المتصرف في خلقه بما يشاء ، لا مُعَقِّب لحكمه ، ولا رَادَّ لقضائه : { وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } كما قال تعالى : { مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ } الآية [فاطر : 2] وفي الصحيح (1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : "اللهم لا مانع لِما أَعْطَيْت ، ولا معطِيَ لما مَنَعْتَ ، ولا ينفع ذا الجَدّ منك الجَدّ" (2) ؛ ولهذا قال تعالى : { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } أي : هو الذي خضعت له الرقاب ، وذلت له الجبابرة ، وعنت له الوجوه ، وقهر كل شيء ودانت له الخلائق ، وتواضعت لعظمة جلاله وكبريائه وعظمته وعلوه وقدرته الأشياء ، واستكانت وتضاءلت بين يديه وتحت حكمه وقهره (3)
{ وَهُوَ الْحَكِيمُ } أي : في جميع ما يفعله { الْخَبِيرُ } بمواضع الأشياء ومحالها ، فلا يعطي إلا لمن يستحق ولا يمنع إلا من يستحق.
__________
(1) في أ : "الصحيحين".
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (844) ومسلم في صحيحه برقم (593) من حديث المغيرة بن شعبة ، رضي الله عنه.
(3) في أ : " حكم قهره".

(3/244)


ثم قال : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً } أي : من أعظم الأشياء [شهادة] (1) { قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } أي : هو العالم بما جئتكم به ، وما أنتم قائلون لي : { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } أي : وهو نذير لكل من بلغه ، كما قال تعالى : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [هود : 17].
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا وكيع وأبو أسامة وأبو خالد ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن كعب في قوله : { وَمَنْ بَلَغَ } [قال] (2) من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم - زاد أبو خالد : وكَلّمه.
ورواه ابن جرير من طريق أبي معشر ، عن محمد بن كعب قال : من بلغه القرآن فقد أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة في قوله : { لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : "بلغوا عن الله ، فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بَلَغه أمر الله".
وقال الربيع بن أنس : حق على من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو كالذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن ينذر كالذي أنذر.
وقوله : { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ } [أي] (3) أيها المشركون { أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَدُ } كما قال تعالى : { فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ } [الأنعام : 150] ، { قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ }
ثم قال مخبرًا عن أهل الكتاب : إنهم يعرفون هذا الذي جئتهم (4) به كما يعرفون أبناءهم ، بما عندهم من الأخبار والأنباء عن المرسلين المتقدمين والأنبياء ، فإن الرسل كلهم بَشَّروا بوجود محمد (5) صلى الله عليه وسلم وببعثه (6) وصفتة ، وبلده ومُهَاجَرِه ، وصفة أمته ؛ ولهذا قال بعد هذا : { الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ } أي : خسروا كل الخسارة ، { فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } بهذا الأمر الجلي الظاهر الذي بشرت به الأنبياء ، ونوهت به في قديم الزمان وحديثه.
ثم قال : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ } أي : لا أظلم ممن تَقَوَّل (7) على الله ، فادعى أن الله أرسله ولم يكن أرسله ، ثم لا أظلم ممن كذب بآيات الله وحججه وبراهينه ودلالاته ، { إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } أي : لا يفلح هذا ولا هذا ، لا المفتري ولا المكذب.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من م ، أ.
(3) زيادة من م.
(4) في أ : "جئتكم".
(5) في م : "النبي".
(6) في أ : "وبنعته".
(7) في م : "يقول".

(3/245)


وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)

{ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) }
يقول تعالى مخبرًا عن المشركين : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا } يوم القيامة فيسألهم عن الأصنام والأنداد التي كانوا يعبدونها من دونه قائلا [لهم] (1) { أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } كما قال تعالى في سورة القصص : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } [الآية : 62].
وقوله : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ } أي : حجتهم. وقال عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : أي : معذرتهم. وكذا قال قتادة. وقال ابن جريج ، عن ابن عباس : أي قيلهم. وكذا قال الضحاك.
وقال عطاء الخراساني : ثم لم تكن بليتهم حين ابتلوا { إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ }
وقال ابن جرير : والصواب ثم لم يكن (2) قيلهم عند فتنتنا (3) إياهم (4) اعتذارا مما سلف منهم من الشرك بالله { إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } (5)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو يحيى الرازي ، عن عمرو بن أبي قيس ، عن مُطَرِّف ، عن المنهال ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : أتاه رجل فقال يا أبا (6) عباس. سمعت الله يقول : { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } قال : أما قوله : { وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } فإنهم رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الصلاة ، فقالوا : تعالوا فلنجحد ، فيجحدون ، فيختم الله على أفواههم ، وتشهد أيديهم وأرجلهم ولا يكتمون الله حديثا ، فهل في قلبك الآن شيء ؟ إنه ليس من القرآن شيء إلا قد نزل (7) فيه شيء ، ولكن لا تعلمون (8) وجهه.
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : هذه في المنافقين.
وفي هذا نظر ، فإن هذه الآية مكية ، والمنافقون إنما كانوا بالمدينة ، والتي نزلت في المنافقين آية المجادلة : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ [ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ] (9) } [المجادلة : 18] ، وهكذا قال في حق هؤلاء : { انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } كَمَا قَالَ { ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا [بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ] (10) } [غافر : 73 ، 74].
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ : "تكن".
(3) في م : "فتنتهما"
(4) في أ : "لهم".
(5) تفسير الطبري (11/300).
(6) في م ، أ : "يا ابن".
(7) في أ : "ترك".
(8) في أ : "لا يعلمون".
(9) زيادة من م ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(10) زيادة من م ، أ ، وفي هـ : "الآية".

(3/246)


وقوله : { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا } أي : يجيؤوك (1) ليسمعوا قراءتك ، ولا تجزي عنهم شيئًا ؛ لأن الله جعل { عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } أي : أغطية لئلا يفقهوا القرآن { وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا } أي : صمما عن السماع النافع ، فَهُم كما قال تعالى : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً [ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ] (2) } [البقرة : 171].
وقوله : { وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا } أي : مهما رأوا من الآيات والدلالات والحجج البينات ، لا يؤمنوا بها. فلا فَهْم عندهم ولا إنصاف ، كما قال تعالى : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ [ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ] (3) } [الأنفال : 23].
وقوله : { حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ } أي يحاجونك ويناظرونك في الحق بالباطل { يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ } أي : ما هذا الذي جئت به إلا مأخوذ من كتب الأوائل ومنقول عنهم.
وقوله : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } وفي معنى { يَنْهَوْنَ عَنْهُ } قولان : أحدهما : أن المراد أنهم ينهون الناس عن اتباع الحق ، وتصديق الرسول ، والانقياد للقرآن ، وينسأون عنه أي : [ويبتعدون هم عنه ، فيجمعون بين الفعلين القبيحين لا ينتفعون] (4) ولا يتركون أحدًا ينتفع [ويتباعدون] (5) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ } قال : ينهون الناس عن محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به.
وقال محمد بن الحنفية : كان كفار قريش لا يأتون النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وينهون عنه.
وكذا قال مجاهد وقتادة ، والضحاك ، وغير واحد. وهذا القول أظهر ، والله أعلم ، وهو اختيار ابن جرير.
والقول الثاني : رواه سفيان الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عمن سمع ابن عباس يقول في قوله : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ } قال : نزلت في أبي طالب كان ينهى [الناس] (6) عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤذى (7)
__________
(1) في أ : "يجيؤون".
(2) زيادة من م ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(3) زيادة من م ، وفي هـ "الآية".
(4) زيادة من م ، أ.
(5) زيادة من م.
(6) زيادة من أ.
(7) رواه الطبري في تفسيره (11/313) والحاكم في المستدرك (2/315) من طريق سفيان به.

(3/247)


وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)

وكذا قال القاسم بن مُخَيْمِرةَ ، وحبيب بن أبي ثابت ، وعطاء بن دينار : إنها نزلت في أبي طالب. وقال سعيد بن أبي هلال : نزلت في عمومة النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وكانوا عشرة ، فكانوا أشد الناس معه في العلانية وأشد الناس عليه في السر. رواه ابن أبي حاتم.
وقال محمد بن كعب القرظي : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ } أي : ينهون الناس عن قتله.
[و] (1) قوله : { وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } أي : يتباعدون منه (2) { وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } أي : وما يهلكون بهذا الصنيع ، ولا يعود وباله إلا عليهم ، وما يشعرون.
{ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) }
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في م : "عنه".

(3/248)


بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)

{ بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) }
يذكر تعالى حال الكفار إذا وقفوا يوم القيامة على النار ، وشاهدوا ما فيها من السلاسل والأغلال ، ورأوا بأعينهم تلك الأمور العظام والأهوال ، فعند ذلك قالوا { يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } يتمنون أن يردوا إلى الدار الدنيا ، ليعملوا عملا صالحا ، ولا يكذبوا بآيات ربهم ويكونوا من المؤمنين.
قال تعالى : { بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ } أي : بل ظهر لهم حينئذ ما كانوا يخفون في أنفسهم من الكفر والتكذيب والمعاندة ، وإن أنكروها ، في الدنيا أو في الآخرة ، كما قال قبل هذا بيسير { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ }
ويحتمل أنهم ظهر لهم ما كانوا يعلمونه من أنفسهم من صدق ما جاءت (1) به الرسل في الدنيا ، وإن كانوا يظهرون لأتباعهم خلافه ، كما قال تعالى مخبرًا عن موسى أنه قال لفرعون : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزلَ هَؤُلاءِ إِلا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ بَصَائِرَ } الآية [الإسراء : 102]. قال تعالى مخبرًا عن فرعون وقومه : { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } [النمل : 14].
ويحتمل أن يكون المراد بهؤلاء المنافقين الذين كانوا يظهرون للناس الإيمان ويبطنون الكفر ، ويكون هذا إخبارا عما يكون يوم القيامة من كلام طائفة من الكفار ، ولا ينافي هذا كون هذه [السورة] (2) مكية ، والنفاق إنما كان من بعض أهل المدينة ومن حولها من الأعراب ، فقد ذكر الله وقوع النفاق في سورة مكية وهي العنكبوت ، فقال : { وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ } [العنكبوت : 11] ؛ وعلى هذا فيكون إخبارًا عن حال المنافقين في الدار الآخرة ، حين يعاينون العذاب يظهر (3) لهم حينئذ
__________
(1) في أ : "ما جاءهم"
(2) زيادة من م ، أ.
(3) في أ : "فظهر"

(3/248)


قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)

غب ما كانوا يبطنون من الكفر والشقاق والنفاق ، والله أعلم.
وأما معنى الإضراب في قوله : { بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ } فَهُم ما طلبوا العود إلى الدنيا رغبة ومحبة (1) في الإيمان ، بل خوفا من العذاب الذي عاينوه جزاء ما كانوا عليه من الكفر ، فسألوا الرجعة إلى الدنيا ليتخلصوا مما شاهدوا (2) من النار ؛ ولهذا قال : { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي : في تمنيهم الرجعة رغبة ومحبة في الإيمان.
ثم قال مخبرًا عنهم : إنهم لو ردّوا إلى الدار الدنيا ، لعادوا لما نهوا عنه [من الكفر والمخالفة] (3) { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي : في قولهم : { يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } { وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } أي : لعادوا لما نهوا عنه ، إنهم لكاذبون ولقالوا : { إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا } أي : ما هي إلا هذه الحياة الدنيا ، ثم لا معاد بعدها ؛ ولهذا قال : { وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ }
ثم قال { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ } أي : أوقفوا بين يديه قال : { أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ } أي : أليس هذا المعاد بحق وليس بباطل كما كنتم تظنون ؟ { قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } أي : بما (4) كنتم تكذبون به ، فذوقوا اليوم مَسّه (5) { أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ } [الطور : 15]
{ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32) }
يقول تعالى مخبرًا عن خَسَارة من كذب بلقاء الله وعن خيبته إذا جاءته الساعة بغتة ، وعن ندامته على ما فرط من العمل ، وما أسلف من قبيح الفعال (6) ولهذا قال : { حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا }
وهذا الضمير يحتمل عَوْدُه على الحياة [الدنيا] (7) وعلى الأعمال ، وعلى الدار الآخرة ، أي : في أمرها.
وقوله { وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ } أي : يحملون. وقال قتادة : يعملون.
[و] (8) قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد ، عن عمرو بن قيس ، عن أبي مرزوق قال : ويُستقبل الكافر - أو : الفاجر - (9) - عند خروجه من قبره كأقبح صورة رآها وأنتن (10) ريحًا ، فيقول : من أنت ؟ فيقول : أو ما تعرفني ؟ فيقول : لا والله إلا أن الله [قد] (11) قَبَّحَ
__________
(1) زياد من أ.
(2) في أ : "شاهدوه".
(3) زيادة من م ، أ.
(4) في د ، م : "كما".
(5) في أ : "منه".
(6) في أ : "الفعل".
(7) زيادة من م.
(8) زيادة من أ.
(9) في أ : "والفاجر".
(10) في أ : رأينها وأنتنه".
(11) زيادة من م ، أ.

(3/249)


قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35)

وجهك ونَتَّن ريحك. فيقول : أنا عملك الخبيث ، هكذا كنت في الدنيا خبيث العمل منتنه ، طالما (1) ركبتني في الدنيا ، هلم أركبك ، فهو قوله : { وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ [أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ] } (2) (3)
وقال أسباط : عن السُّدِّي أنه قال : ليس من رجل ظالم يموت فيدخل قبره إلا جاءه رجل قبيح الوجه ، أسود اللون ، منتن الرائحة (4) عليه ثياب دنسة ، حتى يدخل معه قبره ، فإذا رآه قال : ما أقبح وجهك! قال : كذلك كان عملك قبيحًا (5) قال : ما أنتن (6) ريحك! قال : كذلك كان عملك منتنًا (7) ! قال : ما أدنس ثيابك ، قال : فيقول : إن عملك كان دنسًا. قال له : من أنت ؟ قال : أنا عملك! قال : فيكون معه في قبره ، فإذا بعث يوم القيامة قال له : إني كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات ، وأنت اليوم تحملني. قال : فيركب على ظهره فيسوقه حتى يدخله النار ، فذلك قوله : { وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ }
وقوله : { وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } أي : إنما غالبها كذلك { وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ }
{ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) }
__________
(1) في أ : "فطال ما".
(2) زيادة من م ، أ.
(3) وهذا مرسل ، وأبو مرزوق التجيبي ، قال ابن حبان : لا يجوز الاحتجاج بما انفرد به. وقد روى هذا الأثر موقوفا على عمرو بن قيس الملائي دون ذكر أبي مرزوق. ورواه الطبري في تفسيره (11/327) عن ابن حميد ، عن الحكم بن بشير ، عن عمرو به.
(4) في أ : "الريح".
(5) في أ : "قبيح" وهو خطأ.
(6) في أ : "ما أنت".
(7) في أ : "منتن".

(3/250)


إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)

{ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) }
يقول تعالى مسليا لنبيه صلى الله عليه وسلم ، في تكذيب قومه له ومخالفتهم إياه : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ } أي : قد أحطنا علما بتكذيب قومك لك ، وحزنك وتأسفك عليهم ، { فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [فاطر : 8] كما قال تعالى في الآية الأخرى : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [الشعراء : 3]{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا } [الكهف : 7]
وقوله : { فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } أي : لا يتهمونك بالكذب في

(3/250)


نفس الأمر { وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } أي : ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدورهم ، كما قال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن ناجية بن كعب ، عن علي [رضي الله عنه] (1) قال قال : أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا لا نكذبك ، ولكن نكذب ما جئت به ، فأنزل الله : { فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } (2)
ورواه الحاكم ، من طريق إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، ثم قال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه (3)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن الوزير الواسطي بمكة ، حدثنا بِشْر بن المُبَشِّر الواسطي ، عن سلام بن مسكين ، عن أبي يزيد المدني ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي أبا جهل فصافحه ، قال له رجل : ألا أراك تصافح هذا الصابئ ؟ ! فقال : والله إني أعلم (4) إنه لنبي ، ولكن متى كنا لبني عبد مناف تبعا ؟ ! وتلا أبو يزيد : { فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ }
قال أبو صالح وقتادة : يعلمون أنك رسول الله ويجحدون.
وذكر محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، في قصة أبي جهل حين جاء يستمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم من الليل ، هو وأبو سفيان صَخْر بنِ حَرْب ، والأخْنَس بن شِريْق ، ولا يشعر واحدٌ منهم بالآخر. فاستمعوها إلى الصباح ، فلما هَجَم الصبح تَفرَّقوا ، فجمعتهم الطريق ، فقال كل منهم للآخر : ما جاء بك ؟ فذكر له ما جاء له (5) ثم تعاهدوا ألا يعودوا ، لما يخافون من علم شباب قريش بهم ، لئلا يفتتنوا (6) بمجيئهم فلما كانت الليلة الثانية جاء كل منهم ظَنًا أن صاحبيه لا يجيئان ، لما تقدم من العهود ، فلما أجمعوا (7) جمعتهم الطريق ، فتلاوموا ، ثم تعاهدوا ألا يعودوا. فلما كانت الليلة الثالثة جاؤوا أيضا ، فلما أصبحوا تعاهدوا ألا يعودوا لمثلها [ثم تفرقوا] (8)
فلما أصبح الأخنس بن شَرِيق أخذ عصاه ، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته ، فقال : أخبرني (9) يا أبا حَنْظَلة عن رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال : يا أبا ثعلبة ، والله لقد سمعتُ أشياء أعرفها وأعرف ما يُراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها. قال الأخنس : وأنا والذي حلفت به.
ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل ، فدخل عليه في بيته فقال : يا أبا الحكم ، ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال : ماذا سمعت ؟ تنازعنا (10) نحن وبنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ،
__________
(1) زيادة من أ.
(2) رواه الترمذي في السنن برقم (4064) من طريق معاوية بن هشام ، عن سفيان به ، وقال الترمذي : "وهذا أصح" والطبري في تفسيره (11/334) من طريق عبد الرحمن بن مهدى - وتابعه يحيى بن آدم - عن سفيان به مرسلا.
(3) المستدرك (2/315) وتعقبه الذهبي بقول : ناجية بن كعب لم يخرجا له شيئا.
(4) في م ، أ "لأعلم".
(5) في د ، أ : "به".
(6) في د ، م : "يفتنوا".
(7) في د ، م : "أصبحوا".
(8) زيادة من أ.
(9) في م : "أخبروني".
(10) في م ، أ : "قال تنازعنا".

(3/251)


وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تَجاثينا على الرُّكَب ، وكنا كَفَرَسي رِهَان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء! فمتى ندرك هذه ؟ والله لا نؤمن به أبدًا ولا نصدقه ، قال : فقام عنه الأخنس وتركه (1)
وروى ابن جرير ، من طريق أسباط ، عن السُّدِّي ، في قوله : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } لما كان يوم بدر قال الأخنس بن شَرِيق لبني زهرة : يا بني زهرة ، إن محمدًا ابن أختكم ، فأنتم أحق من كف (2) عنه. فإنه إن كان نبيًا لم تقاتلوه اليوم ، وإن كان كاذبًا كنتم أحق من كف عن ابن أخته قفوا هاهنا حتى ألقى أبا الحكم ، فإن غُلِبَ محمد رجعتم سالمين ، وإن غَلَب محمد فإن قومكم لم يصنعوا بكم شيئا. فيومئذ سُمِّي الأخنس : وكان اسمه "أبيّ" فالتقى الأخنس وأبو جهل ، فخلا الأخنس بأبي جهل فقال : يا أبا الحكم ، أخبرني عن محمد : أصادق هو أم كاذب ؟ فإنه ليس هاهنا من قريش غيري وغيرك يسمع كلامنا. فقال أبو جهل : ويحك! والله إن محمدًا لصادق ، وما كذب محمد قط ، ولكن إذا ذهبت بنو قُصيّ باللواء والسقاية والحجاب والنبوة ، فماذا يكون لسائر قريش ؟ فذلك قوله : { فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } فآيات الله : محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا [ وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ] } (3) هذه تسلية للنبي (4) صلى الله عليه وسلم وتعزية له فيمن كذبه من قومه ، وأمر له بالصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ، ووعد له بالنصر كما نصروا ، وبالظفر حتى كانت لهم العاقبة ، بعد ما نالهم من التكذيب من قومهم والأذى البليغ ، ثم جاءهم النصر في الدنيا ، كما لهم النصر في الآخرة ؛ ولهذا قال : { وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ } أي : التي كتبها بالنصر في الدنيا والآخرة لعباده المؤمنين ، كما قال : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ } [الصافات : 171 - 173] ، وقال تعالى : { كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [المجادلة : 21].
وقوله : { وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ } أي : من خبرهم كيف نُصِروا وأُيدوا على من كذبهم من قومهم ، فلك فيهم أسوة وبهم قدوة.
ثم قال تعالى : { وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ } أي : إن كان شق عليك إعراضهم عنك { فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : النَّفقُ : السّرْب ، فتذهب فيه { فَتَأْتِيَهُمْ (5) بِآيَةٍ } أو تجعل لك سلمًا في السماء فتصعد فيه فتأتيهم (6) بآية أفضل مما آتيتهم به ، فافعل.
وكذا قال قتادة ، والسُّدِّي ، وغيرهما.
__________
(1) سيرة ابن إسحاق برقم (232) طـ - المغرب.
(2) في د : "ذب"
(3) زيادة من م.
(4) في أ : "لمحمد".
(5) في أ : "فيذهب فيه "فيأتيهم".
(6) في أ "فيصعد فيه فيأتيهم".

(3/252)


وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آَيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)

وقوله : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ } كما قال تعالى : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ] (1) } [يونس : 99] ، قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى } قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه (2) على الهدى ، فأخبر الله أنه لا يؤمن إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأول.
وقوله : { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ } أي : إنما يستجيب لدعائك يا محمد من يسمع الكلام ويعيه ويفهمه ، كقوله : { لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ } [يس : 70] ، وقوله { وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ } يعني : بذلك الكفار ؛ لأنهم موتى القلوب ، فشبههم الله بأموات (3) الأجساد فقال : { وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } وهذا من باب التهكم بهم ، والازدراء عليهم.
{ وَقَالُوا لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنزلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) }
يقول تعالى مخبرًا عن المشركين أنهم كانوا يقولون : { لَوْلا نزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ } أي : خارق على مقتضى ما كانوا يريدون ، ومما يتعنتون كما قالوا : { لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا } الآيات [الإسراء : 90].
{ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنزلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } أي : هو تعالى قادر على ذلك ، ولكن حكمته تعالى تقتضي تأخير ذلك ؛ لأنه لو أنزلها (4) وفق ما طلبوا ثم لم يؤمنوا ، لعاجلهم بالعقوبة ، كما فعل بالأمم السالفة ، كما قال تعالى : { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا } [الإسراء : 59] ، وقال تعالى : { إِنْ نَشَأْ نُنزلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [الشعراء : 4].
وقوله : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } قال مجاهد : أي أصناف مُصَنَّفة تُعرَف بأسمائها. وقال قتادة : الطير أمة ، والإنس أمة ، والجن أمة. وقال السُّدِّي : { إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } أي : خلق أمثالكم.
وقوله : { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } أي : الجميع علمهم عند الله ، ولا ينسى واحدًا من جميعها من رزقه وتدبيره ، سواء كان بريًا أو بحريًا ، كما قال : { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [هود : 6] ،
__________
(1) زيادة من م ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(2) في م : "ويبايعوه".
(3) في أ : "فشبههم بالأموات".
(4) في أ : "أنزل".

(3/253)


أي : مُفصح بأسمائها وأعدادها ومظانها ، وحاصر لحركاتها وسكناتها ، وقال [الله] (1) تعالى : { وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [العنكبوت : 60]
وقد قال الحافظ أبو يعلى : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا عبيد بن واقد القيسي أبو عباد ، حدثني محمد بن عيسى بن كيسان ، حدثنا محمد بن المُنْكَدِر ، عن جابر بن عبد الله قال : قَلّ الجراد في سنة من سِني عمر ، رضي الله عنه ، التي ولي فيها ، فسأل عنه فلم يخبر بشيء ، فاغتم لذلك. فأرسل راكبًا إلى كذا ، وآخر إلى الشام ، وآخر إلى العراق يسأل : هل رؤى من الجراد شيء أم لا ؟ فأتاه (2) الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة جراد (3) فألقاها بين يديه ، فلما رآها كبر ثلاثًا ، ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "خَلَق الله ، عَزَّ وجل ، ألف أُمَّة ، منها ستمائة في البحر ، وأربعمائة في البرِّ. وأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد ، فإذا هلكت تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه (4).
وقوله { ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا سفيان ، عن أبيه ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس في قوله : { ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } قال : حَشْرها الموتُ.
وكذا رواه ابن جرير من طريق إسرائيل عن (5) سعيد ، عن مسروق ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : موتُ البهائم حَشْرُها. وكذا رواه العُوفِيّ ، عنه.
قال ابن أبي حاتم : وروي عن مجاهد والضحاك ، مثله.
والقول الثاني : إن حشرها هو بعثها يوم القيامة كما قال تعالى : { وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ } [التكوير : 5]
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن سليمان ، عن مُنْذِر الثوري ، عن أشياخ لهم ، عن أبي ذرٍّ ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى شاتين تنتطحان ، فقال : "يا أبا ذر ، هل تدر فِيمَ تنتطحان ؟ " قال : لا. قال "لكن الله يدري ، وسيقضي بينهما" (6)
ورواه عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن الأعمش ، عمن ذكره عن أبي ذر قال : بينا أنا (7) عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ انتطحت عَنزان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أتدرون فِيمَ انتطحتا ؟" قالوا : لا ندري. قال : "لكن الله يدري ، وسيقضي بينهما". رواه ابن جرير ، ثم رواه من طريق منذر الثوري ، عن أبي ذر ، فذكره
__________
(1) زيادة من م.
(2) في م ، أ : "قال : فأتاه".
(3) في أ : "بقبضة من جراد"
(4) مسند أبي يعلى الكبير كما في مجمع الزوائد (7/322) ورواه ابن عدى في الكامل (5/352) والخطيب في تاريخ بغداد (11/218) من طريق عبيد بن واقد ، عن محمد بن عيسى به ، وفي إسناده عبيد بن واقد ومحمد بن عيسى وهما ضعيفان..
(5) في أ : بن".
(6) المسند (5/162) وقال الهيثمي في المجمع (10/352) : "رجاله رجال الصحيح ، وفيه راو لم يسم".
(7) في أ : "نحن".

(3/254)


وزاد : قال أبو ذر : ولقد تَرَكَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يُقَلِّب طائر بجناحيه في السماء إلا ذكرنا منه عِلمًا (1)
وقال عبد الله ابن الإمام أحمد في مسند أبيه : حدثني عباس بن محمد وأبو يحيى البزار قالا حدثنا حجاج بن نُصير ، حدثنا شُعْبَة ، عن العَوَّام بن مَراجم (2) - من بني قيس بن ثعلبة - عن أبي عثمان النَّهْدي ، عن عثمان ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الجَمَّاء لتقتص من القرناء يوم القيامة" (3)
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن جعفر بن بُرْقَان ، عن يزيد بن الأصم ، عن أبي هريرة في قوله : { إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } قال : يحشر الخلق كلهم يوم القيامة ، البهائم والدواب والطير وكل شيء ، فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ للجمَّاء من القرناء. قال : ثم يقول : كوني ترابًا. فلذلك يقول الكافر : { يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا } [النبأ : 40] ، وقد روي هذا مرفوعًا في حديث الصور (4)
وقوله { وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ } أي : مثلهم في جهلهم وقلة علمهم وعدم فهمهم كمثل أصم - وهو الذي لا يسمع - أبكم - وهو الذي لا يتكلم - وهو مع هذا في ظلام لا يبصر ، فكيف يهتدي مثل هذا إلى الطريق ، أو يُخْرج مما هو فيه ؟ كما قال تعالى (5) { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة : 17 ، 18] ، } وكما قال [تعالى] (6) { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } [النور : 40] ؛ ولهذا قال تعالى : { مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } أي : هو المتصرف في خلقه بما يشاء.
__________
(1) تفسير عبد الرزاق (1/200) وتفسير الطبري (11/348)
(2) في م ، أ : "مزاحم".
(3) المسند (1/72) وفي إسناده حجاج بن نصير وهو ضعيف ، وله شاهد من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه ، هو الحديث الآتي بعده.
(4) تفسير عبد الرزاق (1/200) ومن طريقه الطبري في تفسيره (11/347).
(5) في د ، م : "كقوله".
(6) زيادة من م ، أ.

(3/255)


قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)

{ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) }

(3/256)


فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)

{ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) }
يخبر تعالى أنه الفعال لما يريد ، المتصرف في خلقه بما يشاء ، وأنه لا مُعقِّب لحكمه ، ولا يقدر أحد على صرف حكمه عن خلقه ، بل هو وحده لا شريك له ، الذي إذا سئل يجيب لمن يشاء ؛ ولهذا قال : { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ } أي : أتاكم هذا أو هذا (1) { أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي : لا تدعون غيره لعلمكم أنه لا يقدر أحد على دفع ذلك سواه ؛ ولهذا قال : إن { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي : في اتخاذكم آلهة معه.
{ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } أي : في وقت الضرورة لا تدعون أحدا سواه وتذهب عنكم أصنامكم وأندادكم كما قال : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ } الآية [الإسراء : 67].
وقوله : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ } يعني : الفقر والضيق في العيش { وَالضَّرَّاءِ } وهي الأمراض والأسقام والآلام { لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } أي : يدعون الله ويتضرعون إليه ويخشعون.
قال الله تعالى : { فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا } أي : فهلا إذ ابتليناهم بذلك تضرعوا إلينا وتمسكنوا إلينا (2) { وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ } أي : ما رقت ولا خشعت { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : من الشرك والمعاصي.
{ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ } أي : أعرضوا عنه وتناسوه وجعلوه وراء ظهورهم { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ } أي : فتحنا عليهم أبواب الرزق من كل ما يختارون ، وهذا (3) استدراج منه تعالى وإملاء لهم ، عياذا بالله من مكره ؛ ولهذا قال : { حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا } أي : من الأموال والأولاد والأرزاق { أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً } أي : على غفلة { فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ } أي : آيسون من كل خير.
قال الوالبي ، عن ابن عباس : المبلس : الآيس.
وقال الحسن البصري : من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به ، فلا رأي له. ومن قَتَر عليه فلم ير أنه ينظر له ، فلا رأي له ، ثم قرأ : { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ } قال الحسن : مكر بالقوم ورب الكعبة ؛ أعطوا حاجتهم ثم أخذوا. رواه ابن أبي حاتم.
وقال قتادة : بَغَت القومَ أمرُ الله ، وما أخذ الله قومًا قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعيمهم (4) فلا تغتروا بالله ، إنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون. رواه ابن أبي حاتم أيضًا.
وقال مالك ، عن الزهري : { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ } قال : إرخاء (5) الدنيا وسترها.
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن غَيْلان ، حدثنا رِشْدِين - يعني ابن سعد أبا الحجاج المهري - عن حَرْمَلَة بن عمران التُّجِيبي ، عن عُقْبة بن مسلم ، عن عقبة بن عامر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا رأيت الله يُعْطِي العبدَ من الدنيا على مَعاصيه ما يُحِبُّ ، فإنما هو اسْتِدْرَاج". ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ }
__________
(1) في أ : "وهذا".
(2) في أ : "لدينا".
(3) في أ : "وهو".
(4) في أ : "ونعمتهم".
(5) في أ : "أرجاء"

(3/256)


قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آَمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)

ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم ، من حديث حَرْمَلة وابن لَهِيعة ، عن عقبة بن مسلم ، عن عقبة بن عامر ، به (1)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عمار ، حدثنا عِرَاك بن خالد بن يزيد ، حدثني أبي ، عن إبراهيم بن أبي عَبْلة ، عن عبادة بن الصامت [رضي الله عنه] (2) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : "إن الله [تبارك وتعالى] (3) إذا أراد الله بقوم بقاء - أو : نماء - رزقهم القصد والعفاف ، وإذا أراد الله بقوم اقتطاعًا فتح لهم - أو فتح عليهم - باب خيانة" (4)
{ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ } كما قال : { فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
{ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) }
يقول الله تعالى لرسوله [محمد] (5) صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء المكذبين المعاندين : { أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ } أي : سلبكم إياها كما أعطاكموها فإنه { قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ [ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ ] (6) } [الملك : 33].
ويحتمل أن يكون هذا عبارة عن منع الانتفاع بهما الانتفاع الشرعي ؛ ولهذا قال : { وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ } كما قال : { أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ } [يونس : 31] ، وقال : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } [الأنفال : 24].
وقوله : { مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ } أي : هل أحد غير الله يقدر على رد ذلك إليكم إذا سلبه الله منكم ؟ لا يقدر على ذلك أحد سواه ؛ ولهذا قال [عز شأنه] (7) { انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ } أي : نبينها ونوضحها ونفسرها دالة على أنه لا إله إلا الله ، وأن ما يعبدون من دونه باطل وضلال { ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ } أي : ثم هم مع هذا البيان يعرضون عن الحق ، ويصدون الناس عن اتباعه.
قال العوفي ، عن ابن عباس { يَصْدِفُونَ } أي يعدلون. وقال مجاهد ، وقتادة : يعرضون : وقال
__________
(1) المسند (4/154) وتفسير الطبري (11/361) ورواه الدولابي (1/111) من طريق حجاج بن سليمان ، عن حرملة بن عمران به ، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر برقم (32) من طريق بشر بن عمر ، عن عبد الله بن لهيعة ، عن عقبة بن مسلم به.
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من أ.
(4) ورواه ابن مردويه وأبو الشيخ كما في الدر (3/270).
(5) زيادة من أ.
(6) زيادة من م ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(7) زيادة من أ.

(3/257)


قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)

السُّدِّي : يصدون.
وقوله : { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً } أي : وأنتم لا تشعرون به حتى بغتكم وفجأكم.
{ أَوْ جَهْرَةً } أي : ظاهرًا عيانًا { هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ } أي : إنما : كان يحيط بالظالمين أنفسهم بالشرك بالله [عَزَّ وجل] (1) وينجو الذين كانوا يعبدون الله وحده لا شريك له ، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. كما قال تعالى { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ] (2) } [الأنعام : 82]..
وقوله : { وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ } أي : مبشرين عباد الله المؤمنين بالخيرات ومنذرين من كفر بالله النقمات والعقوبات. ولهذا قال [سبحانه وتعالى] (3) { فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ } أي : فمن آمن قلبه بما جاءوا به وأصلح (4) عمله باتباعه إياهم ، { فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } أي : بالنسبة إلى ما يستقبلونه { وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } أي : بالنسبة إلى ما فاتهم وتركوه وراء ظهورهم من أمر الدنيا وصنيعها ، الله وليهم فيما خلفوه ، وحافظهم فيما تركوه.
ثم قال : { وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } أي : ينالهم العذاب بما كفروا بما جاءت به الرسل ، وخرجوا عن أوامر الله وطاعته ، وارتكبوا محارمه (5) ومناهيه (6) وانتهاك حرماته.
{ قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) }
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من م ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(3) زيادة من أ.
(4) في م ، أ : "وصلح".
(5) في م ، أ : "من محارمه".
(6) في م : "ونواهيه".

(3/258)


وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)

{ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) }
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : { قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ } أي : لست أملكها ولا أتصرف (1) فيها ، { وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ } أي : ولا أقول : إني أعلم الغيب إنما ذاك من علم الله ، عَزَّ وجل ، لا أطلع منه إلا على ما أطلعني عليه ، { وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ } أي : ولا أدعي أني ملك ، إنما أنا بشر من
__________
(1) في م : "ولا أنا المتصرف".

(3/258)


البشر ، يُوحيَ إليَّ من الله ، عَزَّ وجل ، شرفني بذلك ، وأنعم عليّ به ؛ ولهذا قال : { إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ } أي : لست أخرج عنه قيد شبر ولا أدنى منه.
{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ } أي : هل يستوي من اتبع الحق وهُديَ إليه ، ومن ضل عنه ولم ينقد له ؟ { أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ } وهذه (1) كقوله (2) تعالى : { أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ } [الرعد : 19].
وقوله : { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ } أي : وأنذر بهذا القرآن يا محمد { الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ } [المؤمنون : 57] والذين { وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ } [الرعد : 21].
{ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ } أي : يوم القيامة. { لَيْسَ لَهُمْ } أي : يومئذ { مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ } أي : لا قريب لهم ولا شفيع فيهم من عذابه إن أراده بهم ، { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي : أنذر هذا اليوم الذي لا حاكم فيه إلا الله ، عَزَّ وجل { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } فيعملون في هذه الدار عملا ينجيهم الله به يوم القيامة من عذابه ، ويضاعف لهم به الجزيل من ثوابه.
وقوله : { وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } أي : لا تبعد هؤلاء المتصفين بهذه الصفة عنك ، بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك ، كما قال : { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا } [الكهف : 28].
وقوله { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } أي : يعبدونه ويسألونه { بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } قال سعيد بن المسيب ، ومجاهد ، والحسن ، وقتادة : المراد بذلك الصلوات المكتوبات.
وهذا كقوله [تعالى] (3) { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [غافر : 60] أي : أتقبل منكم.
وقوله : { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } أي : يبتغون بذلك العمل وجه الله الكريم ، فهم مخلصون فيما هم فيه من العبادات والطاعات.
وقوله : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ } كما قال نوح ، عليه السلام ، في جواب الذين قالوا : { أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأرْذَلُونَ } [قال] (4) { وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ } [الشعراء : 112 ، 113] ، أي : إنما حسابهم على الله ، عَزَّ وجل ، وليس على من حسابهم من شيء ، كما أنه ليس عليهم من حسابي من شيء.
وقوله : { فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ } أي : إن فعلت هذا والحالة هذه.
قال الإمام أحمد : حدثنا أسباط - هو ابن محمد - حدثنا أشعث ، عن كُرْدُوس ، عن ابن مسعود
__________
(1) في م : "وهو".
(2) في أ : "لقوله"
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من م ، أ.

(3/259)


قال : مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعنده : خَبَّاب ، وصُهَيْب ، وبلال ، وعمار. فقالوا : يا محمد ، أرضيت بهؤلاء ؟ فنزل فيهم (1) القرآن : { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ } إلى قوله : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } (2) (3)
ورواه ابن جرير ، من طريق أشعث ، عن كردوس ، عن ابن مسعود قال : مر الملأ من قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعنده : صهيب ، وبلال ، وعمار ، وخباب ، وغيرهم من ضعفاء المسلمين ، فقالوا : يا محمد ، أرضيت بهؤلاء من قومك ؟ أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا ؟ ونحن نكون تبعا لهؤلاء ؟ اطردهم عنك ، فلعلك إن طردتهم أن نتبعك ، فنزلت هذه الآية : { وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } { وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } إلى آخر الآية (4)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد بن يحيى بن سعيد القطان ، حدثنا عمرو بن محمد العنقزي ، حدثنا أسباط بن نصر ، عن السُّدِّي ، عن أبي سعيد الأزدي - وكان قارئ الأزد - عن أبي الكنود ، عن خباب في قول الله ، عَزَّ وجل : { وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ } قال : جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري ، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صهيب وبلال وعمار وخباب قاعدا في ناس من الضعفاء من المؤمنين (5) فلما رأوهم حول النبي صلى الله عليه وسلم حقروهم ، فأتوه فخلوا به ، وقالوا : إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلسا تعرف لنا به العرب فضلنا ، فإن وفود العرب تأتيك فنستحيي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد ، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا ، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت. قال : "نعم". قالوا : فاكتب لنا عليك كتابا ، قال : فدعا بالصحيفة ودعا عليًا ليكتب ، ونحن قعود في ناحية ، فنزل جبريل فقال : { وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ] } (6) فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصحيفة ، ثم دعانا فأتيناه.
ورواه ابن جرير ، من حديث أسباط ، به. (7)
وهذا حديث غريب ، فإن هذه الآية مكية ، والأقرع بن حابس وعيينة إنما أسلما بعد الهجرة بدهر.
وقال سفيان الثوري عن المقدام بن شريح ، عن أبيه قال : قال سعد : نزلت هذه الآية في ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، منهم ابن مسعود ، قال : كنا نسبق إلى النبي (8) صلى الله عليه وسلم ، وندنو منه ونسمع منه ، فقالت قريش : يدني هؤلاء دوننا ، فنزلت : { وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ }
__________
(1) في د : "عليهم".
(2) في أ : "والله أعلم بالظالمين" وهو خطأ.
(3) المسند (1/420) وقال الهيثمي في المجمع (7/21) : "رجال أحمد رجال الصحيح غير كردوس وهو ثقة".
(4) تفسير الطبري (11/374).
(5) في أ : "المسلمين".
(6) زيادة من م ، أ ، وفي هـ : " الآية".
(7) ورواه ابن ماجة في السنن برقم (4127) من طريق أحمد بن محمد بن يحيى القطان به ، وقال البوصيري في الزوائد (3/276) : "هذا إسناد صحيح".
(8) في م ، أ : "إلى رسول الله".

(3/260)


رواه الحاكم في مستدركه من طريق سفيان ، وقال : على شرط الشيخين. وأخرجه ابن حبان في صحيحه من طريق المقدام بن شريح ، به (1)
وقوله : { وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } أي : ابتلينا واختبرنا وامتحنا بعضهم ببعض { لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غالب من اتبعه في أول البعثه ، ضعفاء الناس من الرجال والنساء والعبيد والإماء ، ولم يتبعه من الأشراف إلا قليل ، كما قال قومُ نوح لنوح : { وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ } الآية [هود : 27] ، وكما قال (2) هرقل ملك الروم لأبي سفيان حين سأله [عن تلك] (3) المسائل ، فقال له : فهل (4) اتبعه ضعفاء الناس أو أشرافهم ؟ قال : بل ضعفاؤهم. فقال : هم أتباع الرسل (5)
والغرض : أن مشركي قريش كانوا يسخرون بمن آمن من ضعفائهم ، ويعذبون من يقدرون عليه منهم ، وكانوا يقولون : { أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا } ؟ أي : ما كان الله ليهدي هؤلاء إلى الخير - لو كان ما صاروا إليه خيرا - ويدعنا ، كما قالوا : { لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ } [الأحقاف : 11] ، وكما قال تعالى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا } [مريم : 73].
قال الله تعالى في جواب ذلك : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا } [مريم : 74] ، وقال في جوابهم حين قالوا : { أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } أي : أليس هو أعلم بالشاكرين له بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم ، فيوفقهم ويهديهم سبل السلام ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور ، ويهديهم إليه صراطًا مستقيما ، كما قال تعالى { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ } [العنكبوت : 69]. وفي الحديث الصحيح : "إن الله لا ينظر إلى صوركم ، ولا إلى ألوانكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" (6)
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم : حدثنا الحسين ، حدثنا حجاج ، عن ابن جُرَيْج ، عن عِكْرِمة في قوله : { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ } الآية ، قال : جاء عُتْبَة بن رَبيعة ، وشَيْبَة بن ربيعة ، ومُطعِم بن عَدِيّ ، والحارث بن نَوْفَل ، وقَرَظَة بن عبد عمرو بن نوفل ، في أشراف من بني عبد مناف من أهل الكفر إلى أبي طالب فقالوا : يا أبا طالب ، لو أن ابن أخيك محمدا يطرد عنه موالينا وحلفاءنا ، فإنما هم عبيدنا وعسفاؤنا ، كان أعظم (7) في صدورنا ، وأطوع له عندنا ، وأدنى لاتباعنا إياه ، وتصديقنا له. قال : فأتى أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم فحدثه بالذي كلموه (8) فقال عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه : لو فعلت ذلك ، حتى تنظر ما الذي يريدون ، وإلى ما يصيرون من قولهم ؟ فأنزل الله ،
__________
(1) المستدرك (3/319).
(2) في م ، أ : "سأل".
(3) زيادة من أ.
(4) في أ : "هل"
(5) القصة في صحيح البخاري برقم (7) من حديث عبد الله بن عباس ، رضى الله عنه.
(6) رواه مسلم في صحيحه برقم (2564).
(7) في أ : "أعظم له".
(8) في أ : "كلموه به".

(3/261)


عَزَّ وجل ، هذه الآية : { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ [ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ] } (1) إلى قوله : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ } قال : وكانوا بلالا وعمار بن ياسر ، وسالمًا مولى أبي حذيفة ، وصبيحا مولى أسيد ، ومن الحلفاء : ابن مسعود ، والمقداد بن عمرو ، ومسعود بن القاري ، وواقد بن عبد الله الحنظلي ، وعمرو بن عبد عمرو ، وذو الشمالين ، ومرثد بن أبي مرثد - وأبو مرثد من غنى حليف حمزة بن عبد المطلب - وأشباههم من الحلفاء. ونزلت في أئمة الكفر من قريش والموالي والحلفاء : { وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا } الآية. فلما نزلت ، أقبل عمر ، رضي الله عنه ، فاعتذر من مقالته ، فأنزل الله ، عَزَّ وجل : { وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا [ فَقُلْ سَلامٌ ] } (2) الآية (3)
وقوله : { وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ } أي : فأكرمهم برد السلام عليهم ، وبَشَّرهم برحمة الله الواسعة الشاملة لهم ؛ ولهذا قال : { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } أي : أوجبها على نفسه الكريمة ، تفضلا منه وإحسانًا وامتنانًا { أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ } قال بعض السلف : كل من عصى الله ، فهو جاهل.
وقال معتمر بن سليمان ، عن الحكم بن (4) أبان ، عن عِكْرِمة في قوله : { مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ } قال : الدنيا كلها جهالة. رواه ابن أبي حاتم.
{ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ } أي : رجع عما كان عليه من المعاصي ، وأقلع وعزم على ألا يعود وأصلح العمل في المستقبل ، { فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق حدثنا مَعْمَر ، عن همَّام بن منبه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لما قَضَى الله الخَلْقَ ، كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي غلبت (5) غضبي". أخرجاه في الصحيحين (6) وهكذا رواه الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة (7) ورواه موسى بن عقبة عن الأعرج ، عن أبي هريرة. وكذا رواه الليث وغيره ، عن محمد بن عجلان ، عن أبيه ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (8) بذلك (9)
وقد روى ابن مَرْدُوَيه ، من طريق الحكم بن أبان ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا فرغ الله من القضاء بين الخلق ، أخرج كتابًا من تحت العرش : إن رحمتي سبقت غضبي ، وأنا أرحم الراحمين ، فيقبض قبضة أو قبضتين فيخرج من النار خلقًا لم يعملوا خيرًا ،
__________
(1) زيادة من م ، أ.
(2) زيادة من ، م ، أ.
(3) تفسير الطبري (11/379).
(4) في أ : "عن".
(5) في أ : "سبقت"
(6) المسند (2/313) ورواه البخاري في صحيحه برقم (3194) ومسلم في صحيحه برقم (2751) من وجوه أخرى عن أبي هريرة.
(7) رواه البخاري في صحيحه برقم (7404)
(8) زيادة من م ، أ.
(9) رواه أحمد في مسنده (2/433).

(3/262)


وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)

مكتوب بين أعينهم. عُتَقَاء الله".
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن عاصم بن سليمان ، عن أبي عثمان النَّهْدِي ، عن سلمان في قوله : { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } قال : إنا نجد في التوراة عطفتين : أن الله خلق السماوات والأرض ، وخلق مائة رحمة - أو : جعل مائة رحمة - قبل أن يخلق الخلق ، ثم خلق الخلق ، فوضع بينهم رحمة واحدة ، وأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمة. قال فبها يتراحمون ، وبها يتعاطفون ، وبها يتباذلون وبها يتزاورون ، وبها تحِنّ الناقة ، وبها تَثِجُّ البقرة ، وبها تثغو الشاة ، وبها تَتَابعُ الطير ، وبها تَتَابع الحيتان في البحر. فإذا كان يوم القيامة ، جمع الله تلك الرحمة إلى ما عنده ، ورحمته أفضل وأوسع.
وقد روي هذا مرفوعا من وجه آخر (1) وسيأتي كثير من الأحاديث الموافقة لهذه عند قوله : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [الأعراف : 156]
ومما يناسب هذه الآية [الكريمة] (2) من الأحاديث أيضا قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل : "أتدري ما حق الله على العباد ؟ أن يعبدوه لا (3) يشركوا به شيئا" ، ثم قال : "أتدري ما حق العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك ؟ ألا يعذبهم" (4) وقد رواه الإمام أحمد ، من طريق كميل بن زياد ، عن أبي هريرة [رضي الله عنه] (5) (6)
{ وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) }
يقول تعالى : وكما بَيَّنَا ما تقدم بيانه من الحجج والدلائل على طريق الهداية والرشاد ، وذم المجادلة والعناد ، { وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ } أي : التي يحتاج المخاطبون إلى بيانها { وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } أي : ولتظهر (7) طريق المجرمين المخالفين للرسل ، وقرئ : "وليستبين (8) سبيل المجرمين"
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه برقم (2753) من طريق سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن لله مائة رحمة ، فمنها رحمة بها يتراحم الخلق ، وتسعة وتسعون ليوم القيامة".
(2) زيادة من أ.
(3) في أ : "ولا".
(4) رواه البخاري في صحيحه برقم (7373) ومسلم في صحيحه برقم (30).
(5) زيادة من أ.
(6) المسند (2/309)
(7) في م ، أ : "وليظهر".
(8) في أ : "ولتستبين".

(3/263)


أي : وليستبين يا محمد - أو يا مخاطب - سبيل المجرمين.
وقوله : { قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي } أي : على بصيرة من شريعة الله التي أوحاها إلي { وَكَذَّبْتُمْ بِهِ } أي : بالحق الذي جاءني من [عند] (1) الله { مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } أي : من العذاب ، { إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ } أي : إنما يرجع أمر ذلك إلى الله إن شاء عَجَّل لكم ما سألتموه من ذلك ، وإن شاء أنظركم وأجلكم ؛ لما له في ذلك من الحكمة العظيمة. ولهذا قال { إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ } أي : وهو خير من فصل القضايا ، وخير الفاتحين الحاكمين بين عباده.
وقوله : { قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } أي : لو كان مرجع ما تستعجلون به إلي ، لأوقعت بكم ما تستحقونه من ذلك { وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ }
فإن قيل : فما الجمع بين هذه الآية ، وبين ما ثبت في الصحيحين من طريق ابن وَهْب ، عن يونس ، عن الزهري ، عن عُرْوَة ، عن عائشة ؛ أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله ، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟ فقال : "لقد لقيتُ من قومك ، وكان أشد ما لقيت منه يوم العقبة ؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل ابن عبد كُلال ، فلم يجبني إلى ما أردتُ ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب ، فرفعت رأسي ، فإذا أنا بسحابة قد أظَلَّتْني ، فنظرت فإذا فيها جبريل ، عليه السلام ، فناداني ، فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك ، وما ردوا عليك ، وقد بعث إليك مَلَك الجبال لتأمره بما شئت فيهم". قال : "فناداني مَلَك الجبال وسلم علي ، ثم قال : يا محمد ، إن الله قد سمع قول قومك لك ، وقد بعثني ربك (2) إليك ، لتأمرني بأمرك ، فما شئت ؟ إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين" ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله ، لا (3) يشرك به شيئا" ، وهذا لفظ مسلم (4)
فقد عرض عليه عذابهم واستئصالهم ، فاستأنى بهم ، وسأل لهم التأخير ، لعل الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك به شيئا. فما الجمع بين هذا ، وبين قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : { قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ } ؟
فالجواب - والله أعلم - : أن هذه الآية دَلَّت على أنه لو كان إليه وقوعُ العذاب الذي يطلبونه حالَ طَلبهم له ، لأوقعه بهم. وأما الحديث ، فليس فيه أنهم سألوه وقوع العذاب بهم ، بل عرض عليه مَلَك الجبال أنه إن شاء أطبق عليهم الأخشبين - وهما جبلا مكة اللذان يكتنفانها جنوبا (5) وشمالا - فلهذا استأنى بهم وسأل الرفق لهم (6)
وقوله : { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ } قال البخاري : حدثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن ابن شهاب ، عن سالم بن عبد الله ، عن أبيه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنزلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [لقمان : 34] (7).
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ : "ربي".
(3) في أ : "ولا".
(4) صحيح البخاري برقم (3231) وصحيح مسلم برقم (1795).
(5) في د : "يمينا".
(6) في أ : "الرفق بهم".
(7) صحيح البخاري برقم (4627).

(3/264)


وفي حديث عمر [رضي الله عنه] (1) أن جبريل حين تَبدَّى له في صورة أعرابي فسأل عن الإسلام والإيمان والإحسان ، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قال له : "خمس لا يعلمهن إلا الله " ، ثم قرأ : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } الآية [لقمان : 34].
وقوله : { وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } أي : يحيط علمه الكريم (2) بجميع الموجودات ، بَريها وبحريها (3) لا يخفى عليه من ذلك شيء ، ولا مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. وما أحسن ما قال الصّرْصَريّ :
فَلا يَخْفَى عليه الذَّر إمَّا... تَرَاءىَ للنواظر أو تَوَارى...
وقوله : { وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا } أي : ويعلم الحركات حتى من الجمادات ، فما ظنك بالحيوانات ، ولا سيما المكلفون منهم من جنهم وإنسهم ، كما قال تعالى : { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ } [غافر : 19].
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا الحسن بن الرَّبيع ، حدثنا أبو الأحْوَص ، عن سعيد بن مسروق ، عن حسان النمري ، عن ابن عباس في قوله : { وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا } قال : ما من شجرة في بر ولا بحر إلا وملك موكل بها ، يكتب ما يسقط (4) منها.
وقوله : { وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } قال محمد بن إسحاق ، عن يحيي بن النضر ، عن أبيه ، سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : إن تحت الأرض الثالثة وفوق الرابعة من الجن ما لو أنهم ظهروا - يعني لكم - لم تروا معهم نورًا ، على كل زاوية من زوايا الأرض (5) خاتم من خواتيم الله ، عَزَّ وجل ، على كل خاتم مَلَك من الملائكة يبعث الله ، عَزَّ وجل ، إليه في كل يوم ملكا من عنده : أن احتفظ بما عندك.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن المِسوَر الزهري : حدثنا مالك بن سُعَيْر ، حدثنا الأعمش ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحَارث قال : ما في الأرض من شجرة ولا مغْرَز إبرة إلا عليها (6) ملك موكل يأتي الله بعلمها : رطوبتها إذا رطبت ، ويَبَسها إذا يبست.
وكذا رواه ابن جرير عن أبي الخطاب زياد بن عبد الله الحساني ، عن مالك بن سعير ، به (7)
ثم قال ابن أبي حاتم : ذُكر عن أبي حذيفة ، حدثنا سفيان ، عن عمرو بن قيس ، عن رجل عن
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في م ، أ : "العظيم".
(3) في د : "بحرها وبرها".
(4) في أ : "ما سقط".
(5) في م ، أ : "من زواياها".
(6) في أ : "إلا وعليها".
(7) تفسير الطبري (11/404).

(3/265)


سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : خلق الله النون - وهي الدواة - وخلق الألواح ، فكتب فيها أمر الدنيا حتى ينقضي ما كان من خلق مخلوق ، أو رزق حلال أو حرام ، أو عمل بر أو فجور (1) وقرأ هذه الآية : { وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا } إلى آخر الآية.
__________
(1) في م : "بحر".

(3/266)


وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)

{ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) }
يخبر تعالى إنه يتوفى عباده في منامهم بالليل ، وهذا هو التوفي الأصغر (1) كما قال تعالى : { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا] (2) } [آل عمران : 55] ، وقال تعالى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى } [الزمر : 42] ، فذكر في هذه الآية الوفاتين : الكبرى والصغرى ، وهكذا ذكر في هذا المقام حكم الوفاتين الصغرى ثم الكبرى ، فقال : { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ } أي : ويعلم ما كسبتم من الأعمال بالنهار. وهذه جملة معترضة دلت على إحاطة علمه تعالى بخلقه في ليلهم ونهارهم ، في حال سكونهم وفي حال حركتهم ، كما قال : { سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ } [الرعد : 10] ، وكما قال تعالى : { وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ } أي : في الليل { وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ } [القصص : 73] أي : في النهار ، كما قال : { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا } [النبأ : 10 ، 11] ؛ ؛ ولهذا قال هاهنا : { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ } أي : ما كسبتم بالنهار { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ } أي : في النهار. قاله مجاهد ، وقتادة ، والسُّدِّي.
وقال ابن جريج (3) عن عبد الله بن كثير : أي في المنام.
والأول أظهر. وقد روى ابن مَرْدُوَيه بسنده (4) عن الضحاك ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "مع كل إنسان ملك إذا نام أخذ نفسه ، ويُرَد إليه. فإن أذن الله في قبض روحه قبضه ، وإلا رد إليه" ، فذلك قوله : { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ }
وقوله { لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى } يعني به : أجل كل واحد من الناس ، { ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ } أي : يوم القيامة ، { ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ } (5) أي : فيخبركم { بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : ويجزيكم على ذلك إن خيرًا فخير ، وإن شرًا فشر.
__________
(1) في أ : "الصغير".
(2) زيادة من أ.
(3) في أ : "جرير".
(4) ورواه أبو الشيخ كما في الدر المنثور (3/280) وفي إسناده انقطاع بين الضحاك وابن عباس.
(5) في أ : "فينبئكم" وهو خطأ.

(3/266)


وقوله : { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } أي : هو الذي قهر كل شيء ، وخضع لجلاله وعظمته وكبريائه كل شيء.
{ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً } أي : من الملائكة يحفظون بدن الإنسان ، كما قال [تعالى] (1) { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } [الرعد : 11] ، وحفظة يحفظون عمله ويحصونه [عليه] (2) كما قال : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * [ كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ] (3) } [الانفطار : 10 - 12] ، وقال : { عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق : 17 ، 18].
وقوله : { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ } أي : [إذا] (4) احتضر وحان أجله { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } أي : ملائكة موكلون بذلك.
قال ابن عباس وغير واحد : لملك الموت أعوان من الملائكة ، يخرجون الروح من الجسد ، فيقبضها ملك الموت إذا انتهت إلى الحلقوم وسيأتي عند قوله تعالى : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ [فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ] (5) } [إبراهيم : 27] ، الأحاديث المتعلقة بذلك ، الشاهدة لهذا المروي عن ابن عباس وغيره بالصحة.
وقوله : { وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ } أي : في حفظ روح المتوفى ، بل يحفظونها وينزلونها حيث شاء الله ، عَزَّ وجل ، إن كان من الأبرار ففي عليين ، وإن كان من الفجار ففي سجين ، عياذا بالله من ذلك.
وقوله : { ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ } قال ابن جرير : { ثُمَّ رُدُّوا } يعني : الملائكة { إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ }
ونذكر هاهنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد [ عن أبي هريرة في ذكر صعود الملائكة بالروح من سماء إلى سماء حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله عَزَّ وجل] (6) حيث قال : حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا ابن أبي ذئب ، عن محمد بن عمرو بن عطاء ، عن سعيد بن يَسَار ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن الميت تحضره الملائكة ، فإذا كان الرجل الصالح قالوا : اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب ، اخرجي حميدة ، وأبشري بروح وريحان ، ورب غير غضبان ، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ، ثم يُعْرَج بها إلى السَّماء فيستفتح لها ، فيقال : من هذا ؟ فيقال : فلان ، فيقال : مرحبا بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب ، ادخلي حميدة وأبْشري بروح وريحان ورب غير غضبان. فلا يزال يقال لها ذلك حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله عَزَّ وجل. وإذا كان الرجل السوء ، قالوا : اخرجي أيتها النفس الخبيثة ، كانت في الجسد الخبيث ، اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق ، وآخر من شكله أزواج ، فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ، ثم يعرج بها إلى السماء ، فيستفتح لها ، فيقال : من هذا ؟ فيقال : فلان ، فيقال : لا مرحبًا بالنفس
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من م ، أ.
(3) زيادة من م ، أ ، وفي هـ "الآية".
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من أ.
(6) زيادة من م.

(3/267)


قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)

الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ، ارجعي ذميمة ، فإنه لا يفتح لك أبواب السماء. فترسل من السماء ثم تصير إلى القبر ، فيجلس الرجل الصالح فيقال له مثل ما قيل في الحديث الأول ، ويجلس الرجل السوء فيقال له مثل ما قيل في الحديث الأول (1)
هذا حديث غريب (2)
ويحتمل أن يكون المراد بقوله : { ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ } يعني : الخلائق كلهم إلى الله يوم القيامة ، فيحكم فيهم بعدله ، كما قال [تعالى] (3) { قُلْ إِنَّ الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } [الواقعة : 49 ، 50] ، وقال { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا } إلى قوله : { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [الكهف : 47 - 49] ؛ ولهذا قال : { مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ }
{ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) }
يقول تعالى ممتنا على عباده في إنجائه المضطرين منهم { مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } أي : الحائرين الواقعين في المهامه البرية ، وفي اللجج البحرية إذا هاجت الريح (4) العاصفة ، فحينئذ يفردون الدعاء له وحده لا شريك له ، كما قال : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ [فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا] } (5) [الإسراء : 67] وقال تعالى : { هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } (6) [يونس : 22] وقال تعالى : { أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [النمل : 63].
وقال في هذه الآية الكريمة : { قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } أي : جهرا وسرا { لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ } أي : من هذه الضائقة { لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } أي : بعدها ، قال الله [تعالى] (7) { قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ } أي : بعد ذلك { تُشْرِكُونَ } أي : تدعون معه في حال الرفاهية آلهة أخرى.
__________
(1) في أ : "الثاني".
(2) المسند (2/364 ، 365).
(3) زيادة من أ.
(4) في د : "الرياح".
(5) زيادة من م ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(6) في م ، أ : "مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق".
(7) زيادة من م ، أ.

(3/268)


وقوله : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } لما قال : { ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ } عقبه بقوله : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا [مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ] } (1) أي : بعد إنجائه إياكم ، كما قال في سورة سبحان : { رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنْسَانُ كَفُورًا * أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلا * أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا } [الإسراء : 66 - 69].
قال ابن أبي حاتم : ذكر عن مسلم بن إبراهيم ، حدثنا هارون الأعور ، عن جعفر بن سليمان ، عن الحسن في قوله : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قال : هذه للمشركين.
وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد [في قوله] (2) { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فعفا عنهم.
ونذكر هنا الأحاديث الواردة في ذلك والآثار ، وبالله المستعان ، وعليه التكلان ، وبه الثقة.
قال البخاري ، رحمه الله ، في قوله تعالى : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } يلبسكم : يخلطكم ، من الالتباس ، يَلْبِسوا : يَخْلطُوا. شيعًا : فرقًا.
حدثنا أبو النعمان ، حدثنا حماد بن زيد ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر بن عبد الله قال : لما نزلت هذه الآية : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أعوذ بوجهك". { أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قال : "أعوذ بوجهك". { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هذه أهون - أو قال : هذا أيسر".
وهكذا رواه أيضا في "كتاب التوحيد" عن قتيبة ، عن حماد ، به (3)
ورواه النسائي [أيضا] (4) في "التفسير" ، عن قتيبة ، ومحمد بن النضر بن مساور ، ويحيى بن حبيب بن عربي (5) أربعتهم ، عن حماد بن زيد ، به.
وقد رواه الحميدي في مسنده ، عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، سمع جابرًا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، به.
ورواه ابن حبان في صحيحه ، عن أبي يعلى الموصلي ، عن أبي خيثمة ، عن سفيان بن عيينة ، به.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من أ.
(3) صحيح البخاري برقمي (4628) ، (7406)
(4) زيادة من أ.
(5) في أ : "عدي".

(3/269)


ورواه ابن جرير في تفسيره عن أحمد بن الوليد القرشي وسعيد بن الربيع ، وسفيان بن وَكِيع ، كلهم عن سفيان بن عيينة ، به.
ورواه أبو بكر بن مَرْدُوَيه ، من حديث آدم بن أبي إياس ، ويحيى بن عبد الحميد ، وعاصم بن علي ، عن سفيان بن عيينة ، به.
ورواه سعيد بن منصور ، عن حماد بن زيد ، وسفيان بن عيينة ، كلاهما عن عمرو بن دينار ، به (1)
طريق أخرى : قال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه في تفسيره : حدثنا سليمان بن أحمد ، حدثنا مقدام ابن داود ، حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا بن لهيعة ، عن خالد بن يزيد ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : لما نزلت : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أعوذ بالله من ذلك" { أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أعوذ بالله من ذلك" { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا } قال : "هذا أيسر" ، ولو استعاذه لأعاذه (2)
ويتعلق بهذه الآية [الكريمة] (3) أحاديث كثيرة :
أحدها : قال الإمام أحمد بن حنبل في مسنده : حدثنا أبو اليمان ، حدثنا أبو بكر - هو ابن أبي مريم - عن راشد - هو ابن سعد المقرئي - عن سعد بن أبي وقاص [رضي الله عنه] (4) قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } فقال : "أما إنها كائنة ، ولم يأت تأويلها بعد".
وأخرجه الترمذي ، عن الحسن بن عرفة ، عن إسماعيل بن عياش ، عن أبي بكر بن أبي مريم ، به (5) ثم قال : هذا حديث غريب. [جدا] (6)
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يعلى - هو ابن عبيد - حدثنا عثمان بن حكيم ، عن عامر ابن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه قال : أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى مررنا على مسجد بني معاوية ، فدخل فصلى ركعتين ، فصلينا معه ، فناجى ربه ، عَزَّ وجل ، طويلا قال (7) سألت ربي ثلاثا "سألته ألا يهلك أمتي بالغرق ، فأعطانيها وسألته ألا يهلك أمتي بالسنة ، فأعطانيها. وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم ، فمنعنيها".
انفرد بإخراجه مسلم ، فرواه (8) في "كتاب الفتن" عن أبي بكر بن أبي شيبة ، ومحمد بن عبد الله ابن نمير ، كلاهما عن عبد الله بن نمير - وعن محمد بن يحيى بن أبي عمر ، عن مروان بن معاوية ،
__________
(1) النسائي في السنن الكبرى برقم (11164) ومسند الحميدي (2/530) ومسند أبي يعلى (3/362) وتفسير الطبري (11/422)
(2) وفي إسناده عبد الله بن لهيعة وقد اختلط.
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من أ.
(5) المسند (1/170) وسنن الترمذي برقم (3066).
(6) زيادة من أ.
(7) في أ : "ثم قال"
(8) في أ : "ورواه".

(3/270)


كلاهما عن عثمان بن حكيم ، به (1)
حديث آخر : قال الإمام أحمد : قرأت على عبد الرحمن بن مَهْدِيّ ، عن مالك ، عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك ، عن جابر بن عتيك ؛ أنه قال : جاءنا عبد الله بن عمر في بني معاوية - قرية من قرى الأنصار - فقال لي : هل تدري (2) أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجدكم هذا ؟ فقلت : نعم. فأشرت إلى ناحية منه ، فقال : هل تدري ما الثلاث التي دعا بِهِنّ فيه ؟ فقلت : نعم. فقال : وأخبرني (3) بهن ، فقلت (4) دعا ألا يُظْهِر عليهم عدوا من غيرهم ، ولا يهلكهم بالسنين ، فَأُعْطِيْهِمَا ، ودعا بأن لا يجعل بأسهم بينهم ، فَمُنِعَهَا. قال : صدقت ، فلا يزال الهرج إلى يوم القيامة" (5)
ليس هو في شيء من الكتب الستة ، وإسناده جيد قوي ، ولله الحمد والمنة.
حديث آخر : قال محمد بن إسحاق ، عن حكيم بن حكيم بن عباد عن حُنَيف (6) عن علي بن عبد الرحمن ، أخبرني حذيفة بن اليمان قال : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حرة بني معاوية ، قال : فصلى ثماني ركعات ، فأطال فيهن ، ثم التفت إليّ فقال : حبستك ؟ قلت (7) الله ورسوله أعلم. قال : إني سألت الله ثلاثًا ، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة. سألته ألا يسلط على أمتي عدوا من غيرهم ، فأعطاني (8) وسألته ألا يهلكهم بغرق ، فأعطاني. وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم ، فمنعني".
رواه ابن مَرْدُوَيه من حديث ابن إسحاق (9)
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبيدة بن حميد ، حدثني سليمان الأعمش ، عن رجاء الأنصاري ، عن عبد الله بن شداد ، عن معاذ بن جبل ، رضي الله عنه ، قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أطلبه فقيل لي : خرج قَبْلُ. قال : فجعلت لا أمر بأحد إلا قال : مر قبل. حتى مررت فوجدته قائما يصلي. قال : فجئت حتى قمت خلفه ، قال : فأطال الصلاة ، فلما قضى صلاته (10) قلت : يا رسول الله ، لقد صليت صلاة طويلة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إني صليت صلاة رغبة ورهبة ، سألت الله ، عَزَّ وجل ، ثلاثا فأعطاني اثنتين ، ومنعني واحدة. سألته ألا يهلك أمتي غرقا ، فأعطاني (11) وسألته ألا يُظْهِر عليهم عدوا ليس منهم ، فأعطانيها. وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم ، فردها علي".
ورواه ابن ماجه في "الفتن" عن محمد بن عبد الله بن نمير ، وعلي بن محمد ، كلاهما عن أبي معاوية ، عن الأعمش ، به (12)
__________
(1) المسند (1/175) وصحيح مسلم برقم (2890).
(2) في أ : "ترى".
(3) في م ، أ : "قال : فأخبرني".
(4) في م : "فقال".
(5) المسند (5/445) وقال الهيثمي في المجمع (7/221) : "رجاله ثقات".
(6) في أ : "عن خصيف".
(7) في أ : "حسبك يا حذيفة فقلت".
(8) في أ : "فأعطانيها".
(9) ورواه ابن أبي شيبة في المصنف (10/318) من طريق عبد الله بن نمير عن محمد بن إسحاق به.
(10) في جـ : "الصلاة".
(11) في أ : "فأعطانيها".
(12) المسند (5/240) وسنن ابن ماجه برقم (3951).

(3/271)


ورواه ابن مَرْدُوَيه من حديث أبي عَوَانة ، عن عبد الله (1) بن عُمَيْر ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بمثله أو نحوه.
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا هارون بن معروف ، حدثنا عبد الله بن وَهْب ، أخبرني عمرو بن الحارث ، عن بُكَيْر (2) بن الأشج ، أن الضحاك بن عبد الله القرشي حدثه ، عن أنس بن مالك أنه قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر صلى سُبْحَة الضحى ثماني ركعات. فلما انصرف قال : "إني صليت صلاة رغبة ورهبة ، سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة : سألته ألا يبتلي أمتي بالسنين ، ففعل. وسألته ألا يظهر عليهم عدوهم ، ففعل. وسألته ألا يَلْبِسَهُم شيعًا ، فأبى عليّ".
رواه النسائي في الصلاة ، عن محمد بن سلمة ، عن ابن وهب ، به. (3)
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب بن أبي حمزة ، قال : قال الزهري : حدثني عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل ، عن عبد الله بن خباب ، عن أبيه خباب بن الأرت - مولى بني زهرة ، وكان قد شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنه قال : راقبت (4) رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة صلاها كلها ، حتى كان مع الفجر فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته ، قلت (5) يا رسول الله ، لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت مثلها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أجل ، إنها صلاة رَغَب ورَهَب. سألت ربي ، عَزَّ وجل ، فيها ثلاث خصال ، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة : سألت ربي ، عَزَّ وجل ، ألا يهلكنا بما أهلك به الأمم قبلنا ، فأعطانيها. وسألت ربي ، عَزَّ وجل ، ألا يظهر علينا عدوا من غيرنا ، فأعطانيها. وسألت ربي ، عَزَّ وجل ، ألا يلبسنا شيعًا ، فمنعنيها".
ورواه النسائي من حديث شعيب بن أبي حمزة ، به (6) ومن وجه آخر. وابن حبان في صحيحه ، بإسناديهما عن صالح بن كيسان - والترمذي في "الفتن" من حديث النعمان بن راشد - كلاهما عن الزهري ، به (7) وقال : حسن صحيح.
حديث آخر : قال أبو جعفر بن جرير في تفسيره : حدثني زياد بن عبيد الله (8) المزني ، حدثنا مروان بن معاوية الفزاري ، حدثنا أبو مالك ، حدثني نافع بن خالد الخزاعي ، عن أبيه ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة خفيفة تامة الركوع والسجود ، فقال : "قد كانت صلاة رَغْبَة ورَهْبَة ، سألت الله ، عَزَّ وجل ، فيها ثلاثا ، أعطاني اثنتين ومنعني واحدة. سألت الله ألا يصيبكم بعذاب أصاب به من قبلكم ، فأعطانيها. وسألت الله ألا يسلط عليكم عدوا يستبيح بيضتكم ، فأعطانيها. وسألته ألا يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض فمنعنيها". قال أبو مالك : فقلت له : أبوك سمع هذا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
__________
(1) في م : "عبد الملك".
(2) في أ : "بكر".
(3) المسند (2/146).
(4) في م : "وافيت".
(5) في أ : "فقلت"
(6) المسند (5/108) وسنن النسائي (3/216).
(7) النسائي في السنن الكبرى كما في تحفة الأشراف (3/115) وصحيح ابن حبان (9/180) "الإحسان" ، وسنن الترمذي برقم (2175)
(8) في أ : "عبد الله".

(3/272)


فقال : نعم ، سمعته يحدث بها القوم أنه سمعها من في رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق قال : قال مَعْمَر ، أخبرني أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي الأشعث الصنعاني ، عن أبي أسماء الرَّحْبي ، عن شداد بن أوْس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله زَوَى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها ، وإن مُلْك أمتي سيبلغ ما زُوي لي منها ، وإني أعطيت الكنزين الأبيض والأحمر ، وإني سألت ربي ، عَزَّ وجل ، ألا يهلك أمتي بسنَة بعامة وألا يسلط عليهم عدوّا فيهلكهم بعامة ، وألا يلبسهم شيعا ، وألا يذيق بعضهم بأس بعض. فقال : يا محمد ، إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد. وإني قد أعطيتك لأمتك ألا أهلكتهم (2) بسنة بعامة ، وألا أسلط عليهم عدوا ممن سواهم فيهلكهم بعامة ، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ، وبعضهم يقتل بعضا ، وبعضهم يسبي بعضا". قال : وقال النبي صلى الله عليه وسلم "وإني لا أخاف على أمتي إلا الأئمة المضلين ، فإذا وضع السيف في أمتي ، لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة" (3)
ليس في شيء من الكتب الستة ، وإسناده (4) جيد قوي ، وقد رواه ابن مَرْدُوَيه من حديث حماد ابن زيد ، وعباد بن منصور ، وقتادة ، ثلاثتهم عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي أسماء ، عن ثَوْبان ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه (5) فالله أعلم (6)
حديث آخر : قال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه : حدثنا عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم الهاشمي وميمون بن إسحاق بن الحسن الحنفي قالا حدثنا أحمد بن عبد الجبار ، حدثنا محمد بن فضيل ، عن أبي مالك الأشجعي ، عن نافع بن خالد الخزاعي ، عن أبيه قال - وكان أبوه من أصحاب رسول الله (7) صلى الله عليه وسلم ، وكان من أصحاب الشجرة - : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى والناس حوله ، صلى صلاة خفيفة تامة الركوع والسجود. قال : فجلس يوما فأطال الجلوس حتى أومأ بعضنا إلى بعض : أن اسكتوا ، إنه ينزل عليه. فلما فرغ قال له بعض القوم : يا رسول الله ، لقد أطلت الجلوس حتى أومأ بعضنا إلى بعض : إنه ينزل عليك. قال : "لا ولكنها كانت صلاة رَغْبة ورهبة ، سألت الله فيها ثلاثا فأعطاني اثنتين ، ومنعني واحدة. سألت الله ألا يعذبكم بعذاب عذب به من كان قبلكم ، فأعطانيها. ألا يسلط (8) على أمتي (9) عدوا يستبيحها ، فأعطانيها. وسألته ألا يَلْبسَكم شِيعًا وألا يذيق بعضكم بأس بعض ، فمنعنيها" ، قال : قلت له : أبوك سمعها من رسول الله صلى الله عليه ؟ قال : نعم ، سمعته يقول : إنه سمعها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عدد أصابعي هذه ، عشر أصابع (10)
__________
(1) تفسير الطبري (11/433) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (4/192) والبزار في مسنده برقم (3289) "كشف الأستار" من طريق مروان بن معاوية به.
(2) في م ، أ : "يهلكهم".
(3) المسند (4/123) وقال الهيثمي في المجمع (7/221) : "رجال أحمد رجال الصحيح"
(4) في أ : "وإسناد".
(5) ورواه مسلم في صحيحه برقم (2889) من طريق حماد بن زيد به ورواه من طريق معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن أبي قلابة به ولم يذكر أيوب.
(6) في أ : "والله أعلم".
(7) في م ، أ : "النبي".
(8) في م ، أ : "فأعطانيها ، وسألته ألا يسلط".
(9) في م : "عامتكم".
(10) ورواه البزار في مسنده برقم (3289) "كشف الأستار" والطبراني في المعجم الكبير (4/192) من طريق أبي مالك الأشجعي عن نافع عن أبيه به.

(3/273)


حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يونس - هو ابن محمد المؤدب - حدثنا ليث - هو ابن سعد عن أبي وهب الخولاني ، عن رجل قد سماه ، عن أبي بَصْرَة الغفاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "سألت ربي ، عَزَّ وجل ، أربعًا فأعطاني ثلاثًا ، ومنعني واحدة. سألت الله ألا يجمع أمتي على ضلالة ، فأعطانيها. وسألت الله ألا يظهر عليهم عدوا من غيرهم ، فأعطانيها. وسألت الله ألا يهلكهم بالسنين كما أهلك الأمم قبلهم ، فأعطانيها. وسألت الله ، عَزَّ وجل ، ألا يلبسهم شيعا وألا يذيق بعضهم بأس بعض ، فمنعنيها" (1)
لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة.
حديث آخر : قال الطبراني : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا منجاب بن الحارث ، حدثنا أبو حذيفة الثعلبي ، عن زياد بن عِلاقة ، عن جابر بن سَمُرَة السَّوَائي ، عن علي [رضي الله عنه] (2) ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "سألت ربي ثلاث خصال فأعطاني اثنتين ، ومنعني واحدة ، فقلت : يا رب ، لا تهلك أمتي جوعا فقال : هذه لك. قلت : يا رب ، لا تسلط عليهم عدوا من غيرهم - يعني أهل الشرك - فيجتاحهم. قال ذلك لك (3) قلت : يا رب ، لا تجعل بأسهم بينهم". قال : "فمنعني هذه" (4)
حديث آخر : قال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، عن أحمد بن محمد بن عاصم ، حدثنا أبو الدرداء المروزي ، حدثنا إسحاق بن عبد الله بن كيسان ، حدثني أبي ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "دعوت ربي ، عَزَّ وجل ، أن يرفع عن أمتي أربعًا ، فرفع الله عنهم اثنتين ، وأبى عليّ أن يرفع عنهم اثنتين. دعوت ربي أن يرفع الرجم (5) من السماء ، والغرق من الأرض ، وألا يلبسهم شيعًا ، وألا يذيق بعضهم بأس بعض ، فرفع الله عنهم الرجم من السماء ، والغرق من الأرض ، وأبى الله أن يرفع اثنتين : القتل ، والهَرج".
طريق أخرى عن ابن عباس أيضا : قال ابن مَرْدُوَيه : حدثني عبد الله بن محمد بن زيد (6) حدثني الوليد بن أبان ، حدثنا جعفر بن منير ، حدثنا أبو بدر شجاع بن الوليد ، حدثنا عمرو بن قيس ، عن رجل ، عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } قال : فقام النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ ، ثم قال : "اللهم لا ترسل على أمتي عذابًا من فوقهم ، ولا من تحت أرجلهم ، ولا تلبسهم شيعا ، ولا تذق (7) بعضهم بأس بعض" قال : فأتاه جبريل فقال : يا محمد ، إن الله قد أجار أمتك أن يرسل
__________
(1) المسند (6/396) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (2/280) من طريق الليث به.
تنبيه : وقع في المسند كما هو هنا : "أبو وهب الخولاني" وفي المعجم الكبير للطبراني : "أبو هانئ الخولاني" وهو الصحيح ، كما ذكره المزى في تهذيب الكمال (7/401) وابن عبد البر في الاستغناء (2/976).
(2) زيادة من أ.
(3) في م : "لك ذلك".
(4) المعجم الكبير للطبراني (1/107) وقال الهيثمي في المجمع (7/222) : " فيه أبو حذيفة الثعلبي ولم أعرفه ، وبقية رجاله ثقات".
(5) في م ، أ : "يرفع عنهم الرجم".
(6) في أ : "يزيد".
(7) في أ : "لا تذيق" وهو خطأ.

(3/274)


عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم (1)
حديث آخر : قال ابن مَرْدُوَيه : حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله البزار ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن موسى ، حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد ، حدثنا عمرو بن محمد العَنْقَزِي ، حدثنا أسباط ، عن السُّدِّي ، عن أبي المِنْهَال ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "سألت ربي لأمتي أربع خصال ، فأعطاني ثلاثًا ومنعني واحدة. سألته ألا تكفر أمتي واحدة ، فأعطانيها. وسألته ألا يعذبهم بما عذب به الأمم قبلهم ، فأعطانيها. وسألته ألا يظهر عليهم عدوًا من غيرهم ، فأعطانيها. وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم ، فمنعنيها".
ورواه ابن أبي حاتم ، عن أبي سعيد بن يحيى بن سعيد القطَّان ، عن عمرو بن محمد العنقزي ، به نحوه (2)
طريق أخرى : وقال ابن مَرْدُوَيه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا أبو كُرَيب ، حدثنا زيد بن الحُباب ، حدثنا كثير بن زيد الليثي المدني ، حدثني الوليد بن رباح مولى آل أبي ذُبَاب ، سمع أبا هريرة يقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "سألت ربي ثلاثا ، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة. سألته ألا يسلط على أمتي عدوًا من غيرهم (3) فأعطاني. وسألته ألا يهلكهم بالسنين ، فأعطاني. وسألته ألا يلبسهم (4) شيعا وألا يذيق بعضهم بأس بعض ، فمنعني".
ثم رواه ابن مَرْدُوَيه بإسناده عن سعد بن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بنحوه. ورواه البزار من طريق عمر (5) بن سلمة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه (6)
أثر آخر : قال سفيان ، الثوري عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب قال : أربعة من (7) هذه الأمة : قد مضت ثنتان ، وبقيت ثنتان : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } قال : الرجم. { أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قال : الخسف. { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } قال سفيان : يعني : الرجم والخسف.
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبي بن كعب : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } قال : فهي أربع خلال ، منها ثنتان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة ، أُلبِسوا شيعًا ، وذاق بعضهم بأس بعض ، وبقيت اثنتان لا بد منهما واقعتان (8) الرجم والخسف.
__________
(1) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (11/374) من طريق أبي الدرداء المروزي به ، وفي إسناده من لم أعرفهم.
(2) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (4336) "مجمع البحرين" من طريق القطيعي عن عمرو بن محمد العنقزي به. قال الهيثمي في المجمع (7/222) : "رجاله ثقات".
(3) في أ : " من غيرهم فأعطاني".
(4) في م : "يلبسها".
(5) في أ : "عمرو".
(6) مسند البزار برقم (3290) "كشف الأستار".
(7) في أ : "في".
(8) في أ : "وقفتان".

(3/275)


ورواه أحمد ، عن وَكِيع ، عن أبي جعفر. ورواه ابن أبي حاتم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا المنذر بن شاذان ، حدثنا أحمد بن إسحاق ، حدثنا أبو الأشهب ، عن الحسن ، في قوله : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ [عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا] } (1) الآية ، قال : حبست عقوبتها حتى عمل ذنبها ، فلما عمل ذنبها أرسلت عقوبتها.
وهكذا (2) قال سعيد بن جُبَيْر ، وأبو مالك ومجاهد ، والسُّدِّي وابن زيد في قوله : { عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } يعني : الرجم. { أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } يعني : الخسف. وهذا هو اختيار ابن جرير.
ورواه ابن جرير ، عن يونس ، عن ابن وَهْب ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قال : كان عبد الله بن مسعود [رضي الله عنه] (3) يصيح وهو في المجلس - أو على المنبر - يقول : ألا أيها الناس ، إنه قد نزل بكم.
إن الله يقول : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ [ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ] } (4) لو جاءكم عذاب من السماء ، لم يبق منكم أحدا { أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } لو خسف (5) بكم الأرض أهلككم ، لم يبق منكم أحدا { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } ألا إنه نزل بكم أسوأ الثلاث.
قول ثان : قال ابن جرير وابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وَهْب ، سمعت خلاد بن سليمان يقول : سمعت عامر بن عبد الرحمن يقول : إن ابن عباس كان يقول في هذه الآية : { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } فأما العذاب من فوقكم ، فأئمة السوء { أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } فخدم السوء.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ } يعني : أمراءكم. { أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } يعني : عبيدكم وسفلتكم.
وحكى ابن أبي حاتم ، عن أبي سنان وعمير بن هانئ ، نحو ذلك.
وقال ابن جرير : وهذا القول وإن كان له وجه صحيح ، لكن الأول أظهر وأقوى.
وهو كما قال (6) ابن جرير ، رحمه الله ، ويشهد له بالصحة قوله تعالى : { أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ * [وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ] (7) } [الملك : 16 - 18] ، وفي الحديث : "ليكونن في هذه الأمة قَذْفٌ وخَسْفٌ ومَسْخٌ" (8) وذلك مذكور مع نظائره في أمارات الساعة وأشراطها وظهور الآيات
__________
(1) زيادة من م ، أ.
(2) في أ : "وكذا".
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من أ.
(5) في م ، أ : "يخسف".
(6) في أ : "قاله".
(7) زيادة من م ، أ.
(8) رواه أحمد في مسنده (2/163) من حديث عبد الله بن عمرو ، رضي الله عنه.

(3/276)


وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)

قبل يوم القيامة ، وستأتي في موضعها إن شاء الله تعالى.
وقوله : { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا } أي : يجعلكم ملتبسين شيعا فرقا متخالفين. قال الوالبي ، عن ابن عباس : يعني : الأهواء وكذا قال مجاهد وغير واحد.
وقد ورد في الحديث المروي من طرق عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : "وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة".
وقوله : { وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } قال ابن عباس وغير واحد : يعني يسلط بعضكم على بعض بالعذاب والقتل.
وقوله : { انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ } أي : نبينها ونوضحها ونُقِرُّهَا (1) { لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } أي : يفهمون ويتدبرون عن الله آياته وحججه وبراهينه.
قال زيد بن أسلم : لما نزلت { قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ [أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ] } (2) الآية ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رِقاب بعض بالسيوف (3). قالوا : ونحن نشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله ؟ قال : " نعم". فقال بعض الناس : لا يكون هذا أبدا ، أن يقتل بعضنا بعضا ونحن مسلمون ، فنزلت : { انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }
رواه ابن أبي حاتم وابن جرير (4)
{ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) }
__________
(1) في أ : "ونفسرها".
(2) زيادة من أ.
(3) في أ : بالسيف".
(4) تفسير الطبري (11/430).

(3/277)


وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)

{ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) }
يقول تعالى : { وَكَذَّبَ بِهِ } أي : بالقرآن الذي جئتهم به ، والهدى والبيان. { قَوْمُكَ } يعني : قريشا { وَهُوَ الْحَقُّ } أي : الذي ليس وراءه حق { قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } أي : لست عليكم بحفيظ ، ولست بموكل بكم ، كقوله { وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ } [الكهف : 29] أي : إنما علي البلاغ ، وعليكم السمع والطاعة ، فمن اتبعني ، سعد في الدنيا والآخرة ، ومن خالفني ، فقد شقي في الدنيا والآخرة ؛ ولهذا قال : { لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ }
قال ابن عباس وغير واحد : أي لكل نبأ حقيقة ، أي : لكل خبر وقوع ، ولو بعد حين ، كما قال :

(3/277)


{ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ } [ص : 88] ، وقال { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } [الرعد : 37].
وهذا تهديد ووعيد أكيد ؛ ولهذا قال بعده : { وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }
ثم قال : { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا } أي : بالتكذيب والاستهزاء { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } أي : حتى يأخذوا في كلام آخر غير ما كانوا فيه (1) من التكذيب ، { وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ } والمراد بهذا كلّ فرد ، فرد من آحاد الأمة ، ألا يجلس مع المكذبين الذين يحرفون آيات الله ويضعونها على غير مواضعها ، فإن جلس أحد معهم ناسيًا { فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى } بعد التذكر { مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
ولهذا ورد في الحديث : "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (2)
وقال السُّدِّي ، عن أبي مالك وسعيد بن جُبَيْر في قوله : { وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ } قال : إن نسيت فذكرت ، فلا تجلس معهم. وكذا قال مقاتل بن حيان.
وهذه الآية هي المشار إليها في قوله : { وَقَدْ نزلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ } الآية [النساء : 140] أي : إنكم إذا جلستم معهم وأقررتموهم على ذلك ، فقد ساويتموهم في الذي هم فيه.
وقوله : { وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } أي : إذا تجنبوهم فلم يجلسوا معهم في ذلك ، فقد برئوا من عهدتهم ، وتخلصوا من إثمهم.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشَجّ ، حدثنا عبيد الله بن موسى ، عن إسرائيل ، عن السُّدِّي ، عن أبي مالك وسعيد بن جُبَيْر ، قوله : { وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } قال : ما عليك أن يخوضوا في آيات الله إذا فعلت ذلك ، أي : إذا تجنبتهم وأعرضت عنهم.
وقال آخرون : بل معناه : وإن جلسوا معهم ، فليس عليهم من حسابهم من شيء. وزعموا أن هذا منسوخ بآية النساء المدنية ، وهي قوله : { إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ } [النساء : 140]. قاله مجاهد ، والسُّدِّي ، وابن جُرَيْج ، وغيرهم. وعلى قولهم ، يكون قوله : { وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي : ولكن أمرناكم (3) بالإعراض عنهم حينئذ تذكيرا لهم عما هم فيه ؛ لعلهم يتقون ذلك ، ولا يعودون إليه.
__________
(1) في أ : "قبله".
(2) رواه ابن ماجه في السنن برقم (2043) من حديث أيوب بن سويد عن أبي بكر الهذلي عن شهر عن أبي ذر الغفاري ، رضي الله عنه. وقال البوصيري في الزوائد (2/130) : "إسناده ضعيف".
(3) في أ : "أمرناهم".

(3/278)


وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)

{ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) }
يقول تعالى : { وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } أي : دعهم وأعرض عنهم وأمهلهم قليلا فإنهم صائرون إلى عذاب عظيم ؛ ولهذا قال : { وَذَكِّرْ بِهِ } أي : وذكر الناس بهذا القرآن ، وحذرهم نقمة الله وعذابه الأليم يوم القيامة.
وقوله : { أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ } أي : لئلا تبسل. قال الضحاك عن ابن عباس ، ومجاهد ، وعِكْرِمة ، والحسن ، والسُّدِّي : تبسل : تُسْلَم.
وقال الوالبي ، عن ابن عباس : تفتضح. وقال قتادة : تُحْبَس. وقال مُرَّة وابن زيد تُؤاخذ. وقال الكلبيي : تُجَازَي (1)
وكل هذه العبارات متقاربة في المعنى ، وحاصلها الإسلام للهلكة ، والحبس عن الخير ، والارتهان عن درك المطلوب ، كما قال : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ } [المدثر : 38 ، 39].
وقوله : { لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ } أي : لا قريب ولا أحد يشفع فيها ، كما قال : { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [البقرة : 254].
وقوله : { وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا } أي : ولو بذلت كلّ مبذول ما قبل منها كما قال : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا [وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ] (2) } [آل عمران : 91] ، وهكذا قال هاهنا : { أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ }
{ قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) }
قال السُّدِّي : قال المشركون للمؤمنين : اتبعوا سبيلنا ، واتركوا دين محمد ، فأنزل الله ، عَزَّ وجل : { قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا } أي : في الكفر { بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ } فيكون مثلُنا مثل الذي { اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ [حَيْرَانَ] } (3) يقول : مثلكم ، إن كفرتم بعد الإيمان ، كمثل رجل كان مع قوم على الطريق ، فضل الطريق ، فحيرته الشياطين ، واستهوته في الأرض ، وأصحابه على الطريق ، فجعلوا يدعونه إليهم يقولون : "ائتنا فَإنَّا على الطريق" ، فأبى أن
__________
(1) في م ، أ : "تجزي".
(2) زيادة من م ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(3) زيادة من أ.

(3/279)


يأتيهم. فذلك مثل من يتبعهم بعد المعرفة بمحمد صلى الله عليه وسلم ومحمد هو الذي يدعو إلى الطريق ، والطريق هو الإسلام. رواه ابن جرير.
وقال قتادة : { اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ } أضلته في الأرض ، يعني : استهوته (1) مثل قوله : { تَهْوِي إِلَيْهِمْ } [إبراهيم : 37].
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا } الآية. هذا مثل ضربه الله للآلهة ومن يدعو إليها ، والدعاة الذين يدعون إلى الله ، عَزَّ وجل ، كمثل رجل ضل عن طريق تائها ضالا إذ ناداه مناد : "يا فلان بن فلان ، هلم إلى الطريق" ، وله أصحاب يدعونه : "يا فلان ، هلم إلى الطريق" ، فإن اتبع الداعي الأول ، انطلق به حتى يلقيه إلى الهلكة (2) وإن أجاب من يدعوه إلى الهدى ، اهتدى إلى الطريق. وهذه الداعية التي تدعو في البرية من الغيلان ، يقول : مثل من يعبد هذه الآلهة من دون الله ، فإنه يرى أنه في شيء حتى يأتيه الموت ، فيستقبل الهلكة والندامة. وقوله : { كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ } هم "الغيلان" ، يدعونه باسمه واسم أبيه وجده ، فيتبعها وهو يرى أنه في شيء ، فيصبح وقد ألقته في هلكة ، وربما أكلته - أو تلقيه في مضلة من الأرض ، يهلك فيها عطشا ، فهذا مثل من أجاب الآلهة التي تعبد من دون الله ، عَزَّ وجل. رواه ابن جرير.
وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ } قال : رجل حيران يدعوه أصحابه إلى الطريق ، وذلك مثل من يضل بعد أن هدي.
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس ، قوله : { كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ } هو الذي لا يستجيب لهدى الله ، وهو رجل أطاع الشيطان ، وعمل في الأرض بالمعصية ، وجار (3) عن الحق وضل عنه ، وله أصحاب يدعونه إلى الهدى ، ويزعمون أن الذي يأمرونه به هدى ، يقول الله ذلك لأوليائهم من الإنس ، يقول [الله] (4) { إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى } والضلال ما يدعو إليه الجن. رواه ابن جرير ، ثم قال : وهذا يقتضي أن أصحابه يدعونه إلى الضلال ، ويزعمون أنه هدى. قالت : وهذا خلاف ظاهر الآية ؛ فإن الله أخبر أن أصحابه يدعونه إلى الهدى ، فغير جائز أن يكون ضلالا وقد أخبر الله أنه هدى.
وهو كما قال ابن جرير ، وكان (5) سياق الآية يقتضي أن هذا الذي استهوته الشياطين في الأرض حيران ، وهو منصوب على الحال ، أي : في حال حيرته وضلاله وجهله وجه المحجة ، وله أصحاب على المحجة سائرون ، فجعلوا يدعونه إليهم وإلى الذهاب معهم على الطريقة المثلى. وتقدير الكلام : فيأبى عليهم ولا يلتفت إليهم ، ولو شاء الله لهداه ، ولرد به إلى الطريق ؛ ولهذا قال : { قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى }
__________
(1) في م : "استهوته سيرته".
(2) في م ، أ : "في هلكه".
(3) في أ : "وحاد".
(4) زيادة من أ.
(5) في م ، أ : "فإن".

(3/280)


كما قال : { وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ } (1) [الزمر : 37] ، وقال : { إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } [النحل : 37] ، وقوله { وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : نخلص له العباد (2) وحده لا شريك له.
{ وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ } أي : وأمرنا بإقامة الصلاة وبتقواه في جميع الأحوال ، { وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أي : يوم القيامة.
{ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ } أي : بالعدل ، فهو خالقهما ومالكهما ، والمدبر لهما ولمن فيهما.
وقوله : { وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ } يعني : يوم القيامة ، الذي يقول الله : { كُنْ } فيكون عن أمره كلمح البصر ، أو هو أقرب.
{ وَيَوْمَ } منصوب إما على العطف على قوله : { وَاتَّقُوهُ } وتقديره : واتقوا يوم يقول كن فيكون ، وإما على قوله : { خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ } أي : وخلق يوم يقول كن فيكون. فذكر بدء الخلق وإعادته ، وهذا مناسب. وإما على إضمار فعل تقديره : واذكر يوم يقول كن فيكون.
وقوله : { قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ } جملتان محلهما الجر ، على أنهما صفتان لرب العالمين.
وقوله : { يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ } يحتمل أن يكون بدلا من قوله : { وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ } { يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ } ويحتمل أن يكون ظرفًا لقوله : { وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ } كقوله { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [غافر : 16] ، وكقوله { الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا } [الفرقان : 26] ، وما أشبه ذلك.
واختلف المفسرون في قوله : { يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ } فقال بعضهم : المراد بالصور هاهنا جمع "صورة" أي : يوم ينفخ فيها فتحيا.
قال ابن جرير : كما يقال (3) سور - لسور البلد (4) هو جمع سورة. والصحيح أن المراد بالصور : "القَرْن" الذي ينفخ فيه إسرافيل ، عليه السلام ، قال ابن جرير : والصواب عندنا ما (5) تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن إسرافيل قد التقم الصور وحنى جبهته ، ينتظر متى يُؤمَر فينفخ". (6)
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل ، حدثنا سليمان التيمي ، عن أسلم العِجْلي ، عن بِشْر بن شَغَاف ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال أعرابي : يا رسول الله ، ما الصور ؟ قال : "قرن ينفخ
__________
(1) في أ : "من يهده الله فلا مضل له".
(2) في م ، أ : "العبادة".
(3) في أ : "كما تقول".
(4) في أ : "المدينة".
(5) في م ، أ : "والصواب من القول في ذلك ما".
(6) تفسير الطبري (11/463).

(3/281)


فيه. (1)
وقد روينا حديث الصور بطوله ، من طريق الحافظ أبي القاسم الطبراني ، في كتابه "الطّوالات" قال : حدثنا أحمد بن الحسن المصري الأيْلي ، حدثنا أبو عاصم النبيل ، حدثنا إسماعيل بن رافع ، عن محمد بن زياد ، عن محمد بن كعب القُرَظي ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو في طائفة من أصحابه ، فقال : "إن الله لما فرغ من خلق السموات والأرض ، خلق الصور فأعطاه إسرافيل ، فهو واضعه على فيه ، شاخصًا بصرَه إلى العرش ، ينتظر متى يؤمر". قلت : يا رسول الله ، وما الصور ؟ قال "القَرْن". قلت : كيف هو ؟ قال : "عظيم ، والذي بعثني بالحق ، إن عظم دارة فيه كعرض السموات والأرض. ينفخ فيه ثلاث نفخات : النفخة الأولى نفخة الفزع ، والثانية نفخة الصعق ، والثالثة نفخة القيام لرب العالمين. يأمر الله تعالى إسرافيل بالنفخة الأولى ، فيقول. انفخ ، فينفخ نفخة الفزع ، فيفزع أهل السموات [وأهل] (2) الأرض إلا من شاء الله. ويأمره فيديمها ويطيلها ولا يفتر ، وهي كقول الله : { وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ } [ص : 15] ، فيسير الله الجبال (3) فتمر مر السحاب ، فتكون سرابًا".
ثم ترتج الأرض بأهلها رجة فتكون كالسفينة المرمية (4) في البحر ، تضربها الأمواج ، تكفأ بأهلها كالقنديل المعلق بالعرش ، ترجرجه (5) الرياح ، وهي التي يقول (6) { يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ } [النازعات : 6 - 8] ، فَيَميدُ الناس على ظهرها ، وتذهل المراضع ، وتضع الحوامل ، وتشيب الولدان ، وتطير الشياطين هاربة من الفزع ، حتى تأتي الأقطار ، فتأتيها الملائكة فتضرب وجوهها ، فترجع ، ويولي (7) الناس مدبرين ما لهم من أمْر الله من عاصم ، ينادي بعضهم بعضا ، وهو الذي يقول الله تعالى : { يَوْمَ التَّنَادِ } [غافر : 32].
فبينما هم على ذلك ، إذ تصدعت (8) الأرض من قطر إلى قطر ، فرأوا أمرا عظيما لم يروا مثله ، وأخذهم لذلك من الكرب والهول ما الله به عليم ، ثم نظروا (9) إلى السماء ، فإذا هي كالمُهْل ، ثم انشقت (10) فانتشرت نجومها ، وانخسف (11) شمسها وقمرها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الأموات لا يعلمون بشيء من ذلك" قال أبو هريرة : يا رسول الله ، من استثنى الله ، عَزَّ وجل ، حين يقول : { فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ } [النمل : 87] ، قال : "أولئك الشهداء ، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء ، وهم أحياء عند الله (12) يرزقون ، وقاهم الله فزع ذلك اليوم ، وآمنهم منه ، وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه" ، قال : وهو الذي يقول الله ، عَزَّ وجل : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ } [الحج : 1 ، 2] ،
__________
(1) المسند (2/192).
(2) زيادة من أ.
(3) في م : "فتسير الجبال".
(4) في أ : "فتكون الموثقة".
(5) في م : "تزحزحه".
(6) في أ : "وهي الذي يقول الله".
(7) في أ : "ثم تولى".
(8) في أ : "هم كذلك إذ تصدعت".
(9) في أ : "تطوى".
(10) في أ : "انشقت السماء".
(11) في أ : "وخسف".
(12) في أ : "عند ربهم.

(3/282)


فيكونون في ذلك العذاب ما شاء الله ، إلا أنه يطول.
ثم يأمر الله إسرافيل بنفخة الصعق ، فينفخ نفخة الصعق ، فيصعق أهل السموات [وأهل] (1) الأرض إلا من شاء الله ، فإذا هم قد خمدوا ، وجاء ملك الموت إلى الجبار ، عَزَّ وجل ، فيقول : يا رب ، قد مات أهل السموات والأرض إلا من شئت. فيقول الله - وهو أعلم بمن بقي - : فمن بقي ؟ فيقول : يا رب ، بقيتَ أنت الحي الذي لا تموت ، وبقيت حملة العرش ، وبقي جبريل وميكائيل ، وبقيت أنا. فيقول الله ، عَزَّ وجل : ليمت جبريل وميكائيل. فيُنْطِقُ الله العرش فيقول : يا رب ، يموت جبريل وميكائيل!! فيقول : اسكت ، فإني كتبت الموت على كل من كان تحت عرشي ، فيموتان. ثم يأتي ملك الموت إلى الجبار [عَزَّ وجل] (2) فيقول يا رب ، قد مات جبريل وميكائيل. فيقول الله [عَزَّ وجل] (3) - وهو أعلم بمن بقي - : فمن تبقي ؟ فيقول : بقيت أنت الحي الذي لا تموت ، وبقيت حملة عرشك ، وبقيت أنا. فيقول الله ، [عَزَّ وجل] (4) ليمت حملة عَرْشي. فيموتوا ، ويأمر الله العرش. فيقبض الصور من إسرافيل ، ثم يأتي ملك الموت ، فيقول : يا رب ، قد مات حملة عرشك. فيقول الله - وهو أعلم بمن بقي - : : فمن بقي ؟ فيقول : يا رب ، بقيت أنت الحي الذي لا تموت ، وبقيت أنا. فيقول الله [عَزَّ وجل] (5) أنت خَلْق من خلقي ، خلقتك لما رأيت ، فمِت. فيموت. فإذا لم يبق إلا الله الواحد القهار الأحد [الصمد] (6) الذي لم يلد ولم يولد ، كان آخرًا كما كان أولا طوى السموات والأرض طي السجل للكتب (7) ثم دحاهما ثم يلقفهما (8) ثلاث مرات ، ثم يقول : أنا الجبار ، أنا الجبار ، أنا الجبار ثلاثًا. ثم هتف بصوته : { لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ } ثلاث مرات ، فلا يجيبه أحد ، ثم يقول لنفسه : { لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [غافر : 16] ، يقول الله : { يَوْمَ تُبَدَّلُ (9) الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ } [إبراهيم : 48] ، فيبسطهما ويسطحهما ، ثم يمدهما مد الأديم العكاظي { لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا } [طه : 107].
ثم يزجر الله الخلق زجرة ، فإذا هم في هذه الأرض المبدلة مثل ما كانوا فيها من الأولى ، من كان في بطنها كان في بطنها ، ومن كان على ظهرها كان على ظهرها ، ثم ينزل الله [عَزَّ وجل] (10) عليهم ماء من تحت العرش ، ثم يأمر الله السماء أن تمطر ، فتمطر أربعين يومًا ، حتى يكون الماء فوقهم اثني عشر ذراعا ، ثم يأمر الله الأجساد أن تنبت فتنبت كنبات الطراثيث - أو : كنبات البقل - حتى إذا تكاملت أجسادهم فكانت كما كانت ، قال الله ، عَزَّ وجل : ليَحْيَا حملةُ عرشي ، فيحيون. ويأمر الله إسرافيل فيأخذ الصور ، فيضعه على فيه ، ثم يقول : ليحيا جبريل وميكائيل ، فيحيان ، ثم يدعو الله الأرواح (11)
__________
(1) زيادة من م ، أ.
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من أ.
(6) زيادة من م ، أ.
(7) في أ : "الكتاب".
(8) في م : "تكففها".
(9) في أ : "يبدل".
(10) زيادة من أ.
(11) في أ : "بالأرواح ".

(3/283)


فيؤتى بها تتوهج أرواح المسلمين نورا ، وأرواح الكافرين ظلمة ، فيقبضها جميعا ثم يلقيها في الصور.
ثم يأمر الله إسرافيل أن ينفخ نفخة البعث ، فينفخ نفخة البعث ، فتخرج الأرواح كأنها النحل (1) قد ملأت ما بين السماء والأرض ، فيقول [الله] (2) وعزتي وجلالي ، ليرجعن كل روح إلى جسده ، فتدخل الأرواح في الأرض إلى الأجساد ، فتدخل في الخياشيم ، ثم تمشي في الأجساد كما يمشي السم في اللديغ ، ثم تَنْشَقّ الأرض عنكم (3) وأنا أول من تَنْشَقّ الأرض عنه ، فتخرجون سراعًا إلى ربكم تنسلون (4) { مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ } [القمر : 8] حَفَاة عُرَاة [غُلْفًا] (5) غُرْلا فتقفون (6) موقفًا واحدًا مقداره سبعون (7) عامًا ، لا يُنْظَر إليكم ولا يقضى بينكم ، فتبكون حتى تنقطع الدموع ، ثم تدمعون (8) دمًا وتَعْرَقون حتى يلجمكم العرق ، أو يبلغ الأذقان ، وتقولون (9) من يشفع لنا إلى ربنا فيقضي بيننا ؟ فتقولون (10) من أحق بذلك من أبيكم آدم ، خلقه الله بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وكلمه قبلا ؟ فيأتون آدم ، فيطلبون ذلك إليه فيأبى ، ويقول : ما أنا بصاحب ذلك. فيستقرءون الأنبياء نبيا نبيا ، كلما جاءوا نبيا ، أبى عليهم". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "حتى يأتوني ، فأنطلق إلى (11) الفحص فأَخر ساجدًا" قال أبو هريرة : يا رسول الله ، وما الفَحْص ؟ قال : "قدام العرش حتى يبعث الله إلي ملكا فيأخذ بعضدي ، ويرفعني ، فيقول لي : يا محمد (12) فأقول : نعم يا رب. فيقول الله ، عَزَّ وجل : ما شأنك ؟ وهو أعلم ، فأقول : يا رب ، وعدتني الشفاعة فشَفعني في خلقك ، فاقض بينهم. قال [الله] (13) قد شفعتك ، أنا آتيكم أقضي بينكم".
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فأرجع فأقف مع الناس ، فبينما نحن وقوف ، إذ سمعنا حسا من السماء شديدا ، فهالنا فنزل (14) أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجن والإنس ، حتى إذا دنوا من الأرض ، أشرقت الأرض بنورهم ، وأخذوا مصافهم ، وقلنا لهم : أفيكم ربنا ؟ قالوا : لا وهو آت.
ثم ينزل [من] (15) أهل السماء الثانية بمثلي من نزل من الملائكة ، وبمثلي من فيها من الجن والإنس ، حتى إذا دنوا من الأرض ، أشرقت الأرض بنورهم ، وأخذوا مصافهم ، وقلنا لهم : أفيكم ربنا ؟ فيقولون : لا وهو آت.
ثم ينزلون على قدر ذلك من التضعيف ، حتى ينزل الجبار ، عَزَّ وجل ، في ظُلل من الغمام والملائكة ، فيحمل عرشه (16) يومئذ ثمانية - وهم اليوم أربعة - أقدامهم في (17) تخوم الأرض السفلى ،
__________
(1) في أ : "كالنحل".
(2) زيادة من أ.
(3) في أ : "عنهم".
(4) في أ : "فيخرجون منها سراعا إلى ربهم ينسون".
(5) زيادة من أ.
(6) في م : "يقفون".
(7) في أ : " سبعين ".
(8) في أ : "تدمون".
(9) في أ : "ويقولون".
(10) في أ : "فيقولون".
(11) في أ : "حتى آتى".
(12) في م : "محمد".
(13) زيادة من أ.
(14) في أ : "فينزل".
(15) زيادة من م.
(16) في أ : "عرش ربك".
(17) في م : "على".

(3/284)


والأرض والسموات إلى حُجْزَتَهم (1) والعرش على مناكبهم ، لهم زجل في تسبيحهم ، يقولون : سبحان ذي العرش والجبروت ، سبحان ذي الملك والملكوت ، سبحان الحي الذي لا يموت ، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت ، سُبُّوح قدوس قدوس قدوس ، سبحان ربنا الأعلى ، رب الملائكة والروح ، سبحان ربنا الأعلى ، الذي يميت الخلائق ولا يموت ، فيضع الله كرسيه حيث يشاء من أرضه ، ثم يهتف بصوته (2) يا معشر الجن والإنس ، إني قد أنصت لكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا ، أسمع قولكم وأبصر أعمالكم ، فأنصتوا إلي ، فإنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه.
ثم يأمر الله جهنم ، فيخرج منها عنق [مظلم] (3) ساطع ، ثم يقول : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ * هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ } - أو : بها (4) تكذبون - شك أبو عاصم - { وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ } [يس : 60 - 64] فيميز الله الناس وتجثو الأمم. يقول الله تعالى : { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [الجاثية : 28] فيقضي الله ، عَزَّ وجل ، بين خلقه ، إلا الثقلين الجن والإنس ، فيقضي بين الوحش (5) والبهائم ، حتى إنه ليقضي للجماء من ذات القرن ، فإذا فرغ من ذلك ، فلم تبق تبعة عند واحدة للأخرى قال الله [لها] (6) كوني ترابًا. فعند ذلك يقول الكافر : { يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا } [النبأ : 40]
ثم يقضي الله [عَزَّ وجل] (7) بين العباد ، فكان أول ما يقضي فيه الدماء ، ويأتي كلّ قتيل في سبيل الله ، عَزَّ وجل ، ويأمر الله [عَزَّ وجل] (8) كلّ قتيل فيحمل رأسه تَشْخُب أو داجه يقول : يا رب ، فيم قتلني هذا ؟ فيقول - وهو أعلم - : فيم قتلتهم ؟ فيقول : قتلتهم لتكون العزة لك. فيقول الله له : صدقت. فيجعل الله وجهه مثل نور الشمس ، ثم تمر به الملائكة إلى الجنة.
ويأتي كل من قُتل على غير ذلك يحمل رأسه وتشخب أوداجه ، فيقول : يا رب ، [فيم] (9) قتلني هذا ؟ فيقول - وهو أعلم - : لم قتلتهم ؟ فيقول : يا رب ، قتلتهم لتكون العزة لك ولي. فيقول : تعست. ثم لا تبقى نفس قتلها إلا قتل بها ، ولا مظلمة ظلمها إلا أخذ بها ، وكان في مشيئة الله إن شاء عذبه ، وإن شاء رحمه.
ثم يقضي الله تعالى بين من بقي (10) من خلقه حتى لا تبقى مظلمة لأحد عند أحد إلا أخذها [الله] (11) للمظلوم من الظالم ، حتى إنه ليكلف شائب اللبن بالماء ثم يبيعه أن يخلص اللبن من الماء.
__________
(1) في أ : "حجزهم".
(2) في أ : "بصوته فيقول".
(3) زيادة من أ.
(4) في م : "وبها".
(5) في أ : "الوحوش".
(6) زيادة من أ.
(7) زيادة من أ.
(8) زيادة من أ.
(9) زيادة من أ.
(10) في م : "من شاء".
(11) زيادة من أ.

(3/285)


فإذا فرغ الله من ذلك ، ناد مناد يسمع الخلائق كلهم : ألا ليلحق كل قوم بآلهتهم وما كانوا يعبدون من دون الله. فلا يبقى أحد عبد من دون الله إلا مثلت له آلهته بين يديه ، ويجعل يومئذ ملك من الملائكة على صورة عُزَير ، ويجعل ملك من الملائكة على صورة عيسى ابن مريم. ثم يتبع هذا اليهود وهذا النصارى ، ثم قادتهم آلهتهم إلى النار ، وهو الذي يقول [تعالى] (1) { لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ } [الأنبياء : 99].
فإذا لم يبق إلا المؤمنون فيهم المنافقون ، جاءهم الله فيما شاء من هيئته ، فقال : يا أيها الناس ، ذهب الناس فالحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون. فيقولون : والله ما لنا إله إلا الله ، وما كنا نعبد غيره ، فينصرف عنهم ، وهو الله الذي يأتيهم فيمكث ما شاء الله أن يمكث ، ثم يأتيهم فيقول : يا أيها الناس ، ذهب الناس فالحقوا بآلهتكم وما كنتم تعبدون. فيقولون : والله ما لنا إله إلا الله وما كنا نعبد غيره ، فيكشف لهم عن ساقه ، ويتجلى لهم من عظمته ما يعرفون أنه ربهم ، فيخرون سجدا على وجوههم ، ويخر كل منافق على قفاه ، ويجعل الله أصلابهم كصياصي البقر. ثم يأذن الله لهم فيرفعون ، ويضرب الله الصراط بين ظهراني جهنم كحد الشفرة - أو : كحد السيف - عليه كلاليب وخطاطيف وحسك كحسك السعدان ، دون جسر دحض مزلة ، فيمرون كطرف العين ، أو كلمح البرق ، أو كمر الريح ، أو كجياد الخيل ، أو كجياد الركاب ، أو كجياد الرجال. فناج سالم ، وناج مخدوش ، ومكردس على وجهه في جهنم.
فإذا أفضى أهل الجنة إلى الجنة ، قالوا : من يشفع لنا إلى ربنا فندخل الجنة ؟ فيقولون : من أحق بذلك من أبيكم آدم ، عليه السلام ، خلقه الله بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وكلمه قبلا ؟ فيأتون آدم فيطلبون ذلك إليه ، فيذكر ذنبا ويقول : ما أنا بصاحب ذلك ، ولكن عليكم بنوح ، فإنه أول رسل الله. فيؤتى نوح فيُطْلَب ذلك إليه ، فيذكر ذنبا ويقول : ما أنا بصاحب ذلك ، ويقول عليكم بإبراهيم ، فإن الله اتخذه خليلا. فيؤتى إبراهيم ، فيُطْلَب ذلك إليه ، فيذكر ذنبا ويقول : ما أنا بصاحب ذلك ، ويقول : عليكم بموسى فإن الله قربه نَجيّا ، وكلمه وأنزل عليه التوراة. فيؤتى موسى ، فيطلب ذلك إليه ، فيذكر ذنبا ويقول : لست بصاحب ذلك ، ولكن عليكم بروح الله وكلمته عيسى ابن مريم.
فيؤتى عيسى ابن مريم ، فيطلب ذلك إليه ، فيقول : ما أنا بصاحبكم ، ولكن عليكم بمحمد". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فيأتوني - ولي عند ربي ثلاث شفاعات [وعدنهن] (2) - فأنطلق فآتي الجنة ، فآخذ بحلَقَة الباب ، فأستفتح فيفتح لي ، فأحيىّ ويرحب بي. فإذا دخلت الجنة فنظرت إلى ربي خررت ساجدا ، فيأذن الله لي من حمده وتمجيده بشيء ما أذن به لأحد من خلقه ، ثم يقول : ارفع رأسك يا محمد ، واشفع تشفع ، وسل تعطه. فإذا رفعت رأسي يقول الله - وهو أعلم - : ما شأنك ؟ فأقول : يا رب ، وعدتني الشفاعة ، فشفعني في أهل الجنة فيدخلون الجنة ، فيقول الله : قد شفعتك وقد أذنت
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من م.

(3/286)


لهم في دخول الجنة".
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "والذي نفسي بيده ، ما أنتم في الدنيا بأعرف بأزواجكم ومساكنكم من أهل الجنة بأزواجهم ومساكنهم ، فيدخل كل رجل منهم على اثنتين وسبعين زوجة ، سبعين مما ينشئ الله ، عَزَّ وجل ، وثنتين آدميتين من ولد آدم ، لهما فضل على من أنشأ الله ، لعبادتهما الله في الدنيا. فيدخل على الأولى في غرفة من ياقوتة ، على سرير من ذهب مكلل باللؤلؤ ، عليها سبعون زوجا من سندس وإستبرق ، ثم إنه يضع يده بين كتفيها ، ثم ينظر إلى يده من صدرها ، ومن وراء ثيابها وجلدها ولحمها ، وإنه لينظر إلى مُخّ ساقها كما ينظر أحدكم إلى السلك في قصبة الياقوت ، كبدها له مرآة ، وكبده لها مرآة. فبينا هو عندها لا يملها ولا تمله ، ما يأتيها من مرة إلا وجدها عذراء ، ما يَفْترُ ذَكَرَهُ ، وما تشتكي (1) قبلها. فبينا هو كذلك إذ نودي : إنا قد عرفنا أنك لا تمل ولا تمل ، إلا أنه لا مَني ولا مَنِية إلا أن لك أزواجا غيرها. فيخرج فيأتيهن واحدة واحدة ، كلما أتى (2) واحدة [له] (3) قالت : له والله ما أرى في الجنة شيئا أحسن منك ، ولا في الجنة شيء أحب إلي منك.
وإذا وقع أهل النار في النار ، وقع فيها خلق من خلق ربك أوبقتهم أعمالهم ، فمنهم من تأخذ النار قدميه لا تجاوز ذلك ، ومنهم من تأخذه إلى أنصاف ساقيه ، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه ، ومنهم من تأخذه إلى حقويه ، ومنهم من تأخذ جسده كله ، إلا وجهه حرم الله صورته عليها". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فأقول يا رب ، من وقع في النار من أمتي. فيقول : أخرجوا من عرفتم ، فيخرج أولئك حتى لا يبقى منهم أحد. ثم يأذن الله في الشفاعة فلا يبقى نبي ولا شهيد إلا شفع ، فيقول الله : أخرجوا من وجدتم في قلبه زنة الدينار إيمانا. فيخرج أولئك حتى لا يبقى منهم أحد ، ثم يشفع الله فيقول : أخرجوا من [وجدتم] (4) في قلبه إيمانا ثلثي دينار. ثم يقول : ثلث دينار. ثم يقول : ربع دينار. ثم يقول : قيراطا. ثم يقول : حبة من خردل. فيخرج أولئك حتى لا يبقى منهم أحد ، وحتى لا يبقى في النار من عمل لله خيرا قط ، ولا يبقى أحد له شفاعة إلا شفع ، حتى إن إبليس ليتطاول مما يرى من رحمة الله رجاء أن يشفع له ، ثم يقول : بقيت وأنا أرحم الراحمين. فيدخل يده في جهنم فيخرج منها ما لا يحصيه غيره ، كأنهم حُمَم ، فيلقون على نهر يقال له : نهر الحيوان ، فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ما يلقى الشمس منها أخيضر ، وما يلي الظل منها أصيفر ، فينبتون كنبات الطراثيث ، حتى يكونوا أمثال الذر ، مكتوب في رقابهم : "الجُهَنَّمِيُّون عتقاء الرحمن" ، يعرفهم أهل الجنة بذلك الكتاب ، ما عملوا خيرًا لله قط ، فيمكثون في الجنة ما شاء الله ، وذلك الكتاب في رقابهم ، ثم يقولون : ربنا امح عنا هذا الكتاب ، فيمحوه الله ، عَزَّ وجل ، عنهم".
هذا حديث [مشهور] (5) وهو غريب جدا ، ولبعضه شواهد في الأحاديث المتفرقة (6) وفي
__________
(1) في م : "ولا يشتكي".
(2) في م : "جاءت".
(3) زيادة من م.
(4) زيادة من م.
(5) زيادة من م ، أ.
(6) الأحاديث الطوال للطبراني برقم (36) وقد خولف فيه أحمد بن الحسن الأيلي ، فرواه أبو الشيخ الأصبهاني في العظمة برقم (387) من طريق إسحاق بن راهوية ، والبيهقي في البعث والنشور برقم (669) من طريق أبي قلابة الرقاشي كلاهما إسحاق - وأبو قلابة - من طريق أبي عاصم الضحاك ، عن إسماعيل بن رافع ، عن محمد بن أبي زياد ، عن محمد بن كعب القرظي ، عن رجل من الأنصار ، عن أبي هريرة. به ، وروى من طريق أخرى مدارها على إسماعيل بن رافع المدني ، وقد ضعفه الأئمة وتركه الدار قطني.
وقال ابن عدي : "أحاديثه كلها مما فيه نظر".

(3/287)


بعض ألفاظه نكارة. تفرد به إسماعيل بن رافع قاص أهل المدينة ، وقد اختلف فيه ، فمنهم من وثقه ، ومنهم من ضعفه ، ونص على نكارة حديثه غير واحد من الأئمة ، كأحمد بن حنبل ، وأبي حاتم الرازي ، وعمرو بن علي الفَلاس ، ومنهم من قال فيه : هو متروك. وقال ابن عدي : أحاديثه كلها فيها نظر إلا أنه يكتب حديثه في جملة الضعفاء.
قلت : وقد اختلف عليه في إسناد هذا الحديث على وجوه كثيرة ، قد أفردتها في جزء على حدة. وأما سياقه ، فغريب جدًا ، ويقال : إنه جمعه من أحاديث كثيرة ، وجعله سياقا واحدا ، فأنكر عليه بسبب ذلك. وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول : إنه رأى للوليد بن مسلم مصنفا قد جمع فيه كل الشواهد لبعض مفردات هذا الحديث ، فالله أعلم.

(3/288)


وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)

{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) }
قال الضحاك ، عن ابن عباس : إن أبا إبراهيم لم يكن اسمه آزرُ ، إنما كان اسمه تارح. رواه ابن أبي حاتم.
وقال أيضا : حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل ، حدثنا أبي ، حدثنا أبو عاصم شبيب ، حدثنا عِكْرِمة ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ } يعني بآزر : الصنم ، وأبو إبراهيم اسمه تارح ، وأمه اسمها مثاني ، وامرأته اسمها سارة ، وأم إسماعيل اسمها هاجر ، وهي سرية إبراهيم.
وهكذا قال غير واحد من علماء النسب : إن اسمه تارح. وقال مجاهد والسُّدِّي : آزر : اسم صنم.
قلت : كأنه غلب عليه آزر لخدمته ذلك الصنم ، فالله أعلم (1)
__________
(1) في أ : "والله أعلم".

(3/288)


وقال ابن جرير : وقال آخرون : "هو سب (1) وعيب بكلامهم ، ومعناه : مُعْوَج" ولم يسنده ولا حكاه عن أحد.
وقد قال ابن أبي حاتم : ذُكر عن مُعْتَمِر بن سليمان ، سمعت أبي يقرأ : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ } قال : بلغني أنها أعوج ، وأنها أشد كلمة قالها إبراهيم ، عليه السلام.
ثم قال ابن جرير : والصواب أن اسم أبيه آزر. ثم أورد على نفسه قول النسابين أن اسمه تارح ، ثم أجاب بأنه قد يكون له اسمان ، كما لكثير من الناس ، أو يكون أحدهما لقبا (2) وهذا الذي قاله جيد قوي ، والله أعلم.
واختلف القراء في أداء قوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ } فحكى ابن جرير عن الحسن البصري وأبي يزيد المدني أنهما كانا يقرآن : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً } معناه : يا آزر ، أتتخذ أصناما آلهة.
وقرأ الجمهور بالفتح ، إما على أنه علم أعجمي لا ينصرف ، وهو بدل من قوله : { لأبِيهِ } أو عطف بيان ، وهو أشبه.
وعلى قول من جعله نعتًا لا ينصرف أيضا كأحمر وأسود.
فأما من زعم أنه منصوب لكونه معمولا لقوله : { أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا } تقديره : يا أبت ، أتتخذ آزر أصناما آلهة ، فإنه قول بعيد في اللغة ؛ لأن ما بعد حرف الاستفهام لا يعمل فيما قبله ؛ لأن له صدر الكلام ، كذا قرره ابن جرير وغيره. وهو مشهور في قواعد العربية.
والمقصود أن إبراهيم ، عليه السلام ، وعظ أباه في عبادة الأصنام ، وزجره عنها ، ونهاه فلم ينته ، كما قال : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً } أي : أتتأله لصنم تعبده من دون الله ، { إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ } أي : السالكين مسلكك { فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } أي : تائهين لا يهتدون أين يسلكون ، بل في حيرة وجهل وأمركم في الجهالة والضلال بين واضح لكل ذي عقل صحيح.
وقال تعالى : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لأبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا } [مريم : 41 - 48] ،
__________
(1) في م : "سبب".
(2) وقد اعترض على قول ابن جرير الطبري ومحاولته الجمع ، المحدث أحمد شاكر - رحمه الله - في بحث له في آخر كتاب "المعرب" للجواليقي قال في خاتمته : "والحجة القاطعة في نفي التأويلات التي زعموها في كلمة : "آزر" ، وفي إبطال ما سموه قراءات ، تخرج باللفظ عن أنه علم لوالد إبراهيم : الحديث الصحيح الصريح في البخاري : عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة ، وعلى وجه آزر قترة وغبرة ، فيقول له إبراهيم : ألم أقل لك : لا تعصني ؟ فيقول أبوه : فاليوم لا أعصيك.... إلى آخر الحديث". وفي البخاري (4/139 من الطبعة السلطانية) وفتح الباري (6/276 من طبعة بولاق) وشرح العيني (15/243 ، 244) من الطبعة المنيرية) ، فهذا النص يدل على أنه اسمه العلم ، وهو لا يحتمل التأويل ولا التحريف.

(3/289)


فكان إبراهيم ، عليه السلام ، يستغفر لأبيه مدة حياته ، فلما مات على الشرك وتبين إبراهيم ذلك ، رجع عن الاستغفار له ، وتبرأ منه ، كما قال تعالى : { وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ } [التوبة : 114].
وثبت في الصحيح : أن إبراهيم يلقى أباه آزر يوم القيامة فيقول له أبوه : يا بني ، اليوم لا أعصيك ، فيقول إبراهيم : أي رب ، ألم تعدني أنك لا (1) تخزني يوم يبعثون (2) وأي خزي أخزي من أبي الأبعد ؟ فيقال : يا إبراهيم ، انظر ما وراءك. فإذا هو بذيخ متلطخ فيؤخذ بقوائمه ، فيلقى في النار (3)
وقوله : { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي : تبين له وجه الدلالة في نظره إلى خلقهما على وحدانية الله ، عَزَّ وجل ، في ملكه وخلقه ، وإنه لا إله غيره ولا رب سواه ، كقوله (4) { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } [يونس : 101] ، وقال { أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } [الأعراف : 185] ، وقال { أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ } [سبأ : 9].
فأما ما حكاه ابن جرير وغيره ، عن مجاهد ، وعَطاء ، وسعيد بن جُبَيْر ، والسُّدِّي ، وغيرهم قالوا - واللفظ لمجاهد - : فرجت له السموات ، فنظر إلى ما فيهن ، حتى انتهى بصره إلى العرش ، وفرجت له الأرضون السبع ، فنظر إلى ما فيهن - وزاد غيره - : فجعل ينظر إلى العباد على المعاصي فيدعوا عليهم ، فقال الله له : إني أرحم بعبادي منك ، لعلهم أن يتوبوا وَيُرَاجِعُوا. وقد روى ابن مَرْدُوَيه في ذلك حديثين مرفوعين ، عن معاذ ، وعلي [بن أبي طالب] (5) (6) ولكن لا يصح إسنادهما ، والله أعلم. وروى ابن أبي حاتم من طريق العَوْفي عن ابن عباس في قوله : { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } فإنه تعالى جلا لَهُ الأمر ؛ سره وعلانيته ، فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق ، فلما جعل يلعن أصحاب الذنوب قال الله : إنك لا تستطيع هذا. فرده [الله] (7) - كما كان قبل ذلك - فيحتمل أن يكون كشف له عن بصره ، حتى رأى ذلك عيانا ، ويحتمل أن يكون عن بصيرته حتى شاهده بفؤاده وتحققه وعرفه ، وعلم ما في ذلك من الحكم الباهرة والدلالات القاطعة ، كما رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه ، عن معاذ بن جبل [رضي الله عنه] (8)
__________
(1) في أ : "أن لا".
(2) في م ، أ : "الدين".
(3) صحيح البخاري برقم (3350).
(4) في أ : "كما قال تعالى".
(5) زيادة من م ، أ.
(6) أما حديث علي بن أبي طالب ، فذكره السيوطي في الدر المنثور (3/302). وأما حديث معاذ بن جبل ، فرواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (6700) من طريق ليث بن أبي سليم عن شهر بن حوشب ، عن معاذ بن جبل ، رضي الله عنه.
(7) زيادة من م.
(8) زيادة من أ.

(3/290)


في حديث المنام : "أتاني ربي في أحسن صورة فقال : يا محمد ، فيم يختصم الملأ الأعلى ؟ فقلت : لا أدري يا رب ، فوضع كفه (1) بين كتفي ، حتى وجدت برد أنامله بين ثديي ، فتجلى لي كل شيء وعرفت..." وذكر الحديث (2)
وقوله : { وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ } قيل : "الواو" زائدة ، تقديره : وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض ليكون من الموقنين ، كقوله : { [وَكَذَلِكَ] (3) نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ } [الأنعام : 55].
وقيل : بل هي على بابها ، أي نريه ذلك ليكون عالما وموقنا.
وقوله : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ } أي : تغشاه وستره { رَأَى كَوْكَبًا } أي : نجما ، { قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ } أي : غاب. قال محمد بن إسحاق بن يسار : "الأفول" الذهاب. وقال ابن جرير : يقال : أفل النجم يأفلُ ويأفِل أفولا وأفْلا إذا غاب ، ومنه قول ذي الرمة.
مصابيح ليست باللواتي تَقُودُها (4) نُجُومٌ ، ولا بالآفلات الدوالك (5)
ويقال : أين أفلت عنا ؟ بمعنى : أين غبت عنا ؟
قال : { قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ } قال قتادة : علم أن ربه دائم لا يزول ، { فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا } أي : طالعا { قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي } أي : هذا المنير (6) الطالع ربي { هَذَا أَكْبَرُ } أي : جرمًا من النجم ومن القمر ، وأكثر إضاءة. : { فَلَمَّا أَفَلَتْ } أي : غابت ، { قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ } أي أخلصت ديني وأفردت عبادتي { لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ } أي : خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق. { حَنِيفًا } أي في حال كوني حَنِيفًا ، أي : مائلا عن الشرك إلى التوحيد ؛ ولهذا قال : { وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ }
وقد اختلف المفسرون في هذا المقام ، هل هو مقام نظر أو مناظرة ؟ فروى ابن جرير من طريق علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ما يقتضي أنه مقام نظر ، واختاره ابن جرير مستدلا بقوله : { لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي [لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ] (7) }
وقال محمد بن إسحاق : قال ذلك حين خرج من السّرب الذي ولدته فيه أمه ، حين تخوفت عليه النمرود بن كنعان ، لما أنْ قد أخبر بوجود مولود يكون ذهاب ملكك على يديه ، فأمر بقتل الغلمان عامئذٍ. فلما حملت أم إبراهيم به وحان وضعها ، ذهبت به إلى سَرَبٍ ظاهر البلد ، فولدت فيه
__________
(1) في أ : "يده".
(2) المسند (5/243) وسنن الترمذي برقم (3235) وقال الترمذي : "هذا حديث حسن صحيح ، سالت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث فقال : هذا حديث حسن صحيح".
(3) زيادة من أ.
(4) في م : "يقودها".
(5) البيت في تفسير الطبري (11/485) واللسان مادة (دلك).
(6) في م : "الشيء" ، وفي أ : "البين".
(7) زيادة من أ ، وفي هـ : "الآية".

(3/291)


إبراهيم وتركته هناك. وذكر أشياء من خوارق العادات ، كما ذكرها غيره من المفسرين من السلف والخلف.
والحق أن إبراهيم ، عليه الصلاة والسلام ، كان في هذا المقام مناظرا لقومه ، مبينا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام ، فبين في المقام الأول مع أبيه خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية ، التي هي على صورة الملائكة السماوية ، ليشفعوا لهم إلى الخالق العظيم الذين هم عند أنفسهم أحقر من أن يعبدوه ، وإنما يتوسلون إليه بعبادة ملائكته ، ليشفعوا لهم عنده في الرزق والنصر ، وغير ذلك مما يحتاجون إليه. وبين في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل ، وهي الكواكب السيارة السبعة المتحيرة ، وهي : القمر ، وعطارد ، والزهرة ، والشمس ، والمريخ ، والمشترى ، وزحل ، وأشدهن إضاءة وأشرقهن عندهم الشمس ، ثم القمر ، ثم الزهرة. فبين أولا أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية ؛ لأنها مسخرة مقدرة بسير معين ، لا تزيغ عنه يمينًا ولا شمالا ولا تملك لنفسها تصرفا ، بل هي جرم من الأجرام خلقها الله منيرة ، لما له في ذلك من الحكم (1) العظيمة ، وهي تطلع من المشرق ، ثم تسير فيما بينه وبين المغرب حتى تغيب عن الأبصار فيه ، ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال. ومثل هذه لا تصلح للإلهية. ثم انتقل إلى القمر. فبين فيه مثل ما بين في النجم.
ثم انتقل إلى الشمس كذلك. فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار ، وتحقق ذلك بالدليل القاطع ، { قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ } أي : أنا بريء من عبادتهن وموالاتهن ، فإن كانت آلهة ، فكيدوني بها جميعا ثم لا تنظرون ، { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } أي : إنما أعبد خالق هذه الأشياء ومخترعها ومسخرها ومقدرها ومدبرها ، الذي بيده ملكوت كل شيء ، وخالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه ، كما قال تعالى : { إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [الأعراف : 54] وكيف يجوز أن يكون إبراهيم [الخليل] (2) ناظرا في هذا المقام ، وهو الذي قال الله في حقه : { وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لأبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } الآيات [الأنبياء : 51 ، 52] ، وقال تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [النحل : 120 - 123] ، وقال تعالى : { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [الأنعام : 161].
وقد ثبت في الصحيحين ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "كل مولود يولد على
__________
(1) في أ : "الحكمة".
(2) زيادة من أ.

(3/292)


وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81)

الفطرة" (1) وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "قال الله : إني خلقت عبادي حنفاء" (2) وقال الله في كتابه العزيز : { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } [الروم : 30] ، وقال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } [الأعراف : 172] ومعناه على أحد القولين ، كقوله : { فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } كما سيأتي بيانه.
فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة ، فكيف يكون إبراهيم الخليل - الذي جعله الله { أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [النحل : 120] ناظرا في هذا المقام ؟! بل هو أولى الناس بالفطرة السليمة ، والسجية المستقيمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك ولا ريب. ومما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظرًا لقومه فيما كانوا فيه من الشرك لا ناظرا قوله تعالى (3)
{ وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) }
__________
(1) صحيح البخاري برقم (1385) وصحيح مسلم برقم (2658).
(2) صحيح مسلم برقم (2865).
(3) في أ : "عز وجل".

(3/293)


الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)

{ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) }
يقول تعالى : وجادله قومه فيما ذهب إليه من التوحيد ، وناظروه بشبه من القول ، قال { قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ } أي : تجادلونني في أمر الله وأنه لا إله إلا هو ، وقد بصرني وهداني إلى الحق وأنا على بينة منه ؟ فكيف ألتفت إلى أقوالكم الفاسدة وشبهكم الباطلة ؟!
وقوله : { وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا } أي : ومن الدليل على بطلان قولكم فيما ذهبتم إليه أن هذه الآلهة التي تعبدونها لا تؤثر شيئا ، وأنا لا أخافها ، ولا أباليها ، فإن كان لها صنع ، فكيدوني بها [جميعا] (1) ولا تنظرون ، بل عاجلوني بذلك.
وقوله : { إِلا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا } استثناء منقطع. أي لا يضر ولا ينفع إلا الله ، عَزَّ وجل.
{ وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا } أي : أحاط علمه بجميع الأشياء ، فلا تخفى (2) عليه خافية.
{ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ } أي : فيما بينته (3) لكم فتعتبرون أن هذه الآلهة باطلة ، فتزجروا (4) عن عبادتها ؟ وهذه الحجة نظير ما احتج به نبي الله هود ، عليه السلام ، على قومه عاد ، فيما قص عنهم في كتابه ،
__________
(1) زيادة من م.
(2) في أ : "فلا يخفى".
(3) في أ : "فيما بينه".
(4) في أ : "فتنزجروا".

(3/293)


حيث يقول : { قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا [إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ] (1) } [هود : 53 - 56].
وقوله : { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ } أي : كيف أخاف من هذه الأصنام التي تعبدون (2) من دون الله { وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا } ؟ قال ابن عباس وغير واحد من السلف : أي حجة وهذا كما قال تعالى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } [الشورى : 21] وقال { إِنْ هِيَ إِلا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ } [النجم : 23].
وقوله : { فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : فأي الطائفتين أصوب ؟ الذي عَبَد من بيده الضر والنفع ، أو الذي عبد من لا يضر ولا ينفع بلا دليل ، أيهما أحق بالأمن من عذاب الله يوم القيامة ؟ قال الله تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } أي : هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده لا شريك ، له ، ولم يشركوا به شيئا هم الآمنون يوم القيامة ، المهتدون في الدنيا والآخرة.
قال البخاري : حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا ابن أبي عَدِيّ ، عن شعبة ، عن سليمان ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : لما نزلت { وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } قال أصحابه : وأينا لم يظلم نفسه ؟ فنزلت : { إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان : 13] (3)
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن عَلْقَمَة ، عن عبد الله قال : لما نزلت هذه الآية : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } شق ذلك على الناس (4) وقالوا : يا رسول الله ، فأينا لا يظلم نفسه ؟ (5) قال : "إنه ليس الذي تعنون! ألم تسمعوا (6) ما قال العبد الصالح : { يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } إنما هو الشرك" (7)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا وكيع وابن إدريس ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : لما نزلت : { وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا : وأينا لم يظلم نفسه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ليس كما تظنون ، إنما قال [لقمان] (8) لابنه : { يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } (9)
__________
(1) زيادة من م ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(2) في ، أ : "تعبدونها".
(3) صحيح البخاري برقم (4629).
(4) في م : "المسلمين".
(5) في أ : "أينا لم يظلم نفسه".
(6) في أ : "تسمعوا إلى".
(7) المسند (1/378).
(8) زيادة من م.
(9) ورواه البخاري في صحيحه برقم (6937) من طريق وكيع بنحوه.

(3/294)


وحدثنا عمر بن شَبَّةَ النمري ، حدثنا أبو أحمد ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } قال : "بشرك".
قال : ورُوي عن أبي بكر الصديق ، وعمر ، وأُبيّ بن كعب ، وسلمان ، وحذيفة ، وابن عباس ، وابن عمر ، وعمرو بن شرحبيل ، وأبي عبد الرحمن السُّلَمِي ، ومجاهد ، وعِكْرِمة ، والنَّخَعِي ، والضحاك ، وقتادة ، والسُّدِّي نحو ذلك.
وقال ابن مَرْدُوَيه : حدثنا الشافعي ، حدثنا محمد بن شَدَّاد المِسْمَعِيّ ، حدثنا أبو عاصم ، حدثنا سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله قال : لما نزلت : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قيل لي : أنت منهم" (1)
وقال الإمام أحمد : حدثنا إسحاق بن يوسف ، حدثنا أبو جَناب ، عن زاذان ، عن جرير بن عبد الله قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلما برزنا من المدينة ، إذا راكب يوضع نحونا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كأن هذا الراكب إياكم يريد". فانتهى إلينا الرجل ، فسلم فرددنا عليه (2) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "من أين أقبلت ؟" قال : من أهلي وولدي وعشيرتي. قال : "فأين تريد ؟" ، قال : أريدُ رسول الله. قال : "فقد أصبته". قال : يا رسول الله ، علمني ما الإيمان ؟ قال : "تشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدًا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت". قال : قد أقررت. قال : ثم إن بعيره دخلت يده في جحر جُرْذَان ، فهوى بعيره وهوى الرجل ، فوقع على هامته فمات ، فقال النبي (3) صلى الله عليه وسلم : "علي بالرجل". فوثب إليه عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان فأقعداه ، فقالا يا رسول الله ، قبض الرجل! قال : فأعرض عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما رأيتما إعراضي عن الرجل ، فإني رأيت ملكين يدسان في فيه من ثمار الجنة ، فعلمت أنه مات جائعا" ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هذا من الذين قال الله ، عَزَّ وجل : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } (4) ثم قال : "دونكم أخاكم". قال : فاحتملناه إلى الماء فغسلناه وحنطناه وكفناه ، وحملناه إلى القبر ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس على شَفِير القبر فقال : "الحدوا ولا تشقوا ، فإن اللحد لنا والشق لغيرنا" (5)
ثم رواه أحمد عن أسود بن عامر ، عن عبد الحميد بن جعفر الفراء ، عن ثابت ، عن زاذان ، عن جرير بن عبد الله ، فذكر نحوه ، وقال فيه : "هذا ممن عَمل قليلا وأجر كثيرًا" (6)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يوسف بن موسى القطان ، حدثنا مِهْران بن أبي عمر ،
__________
(1) وفي إسناده محمد بن شداد المسمعي ، قال الدارقطني : لا يكتب حديثه ، وقال مرة : ضعيف ، وضعفه البرقاني.
(2) في م : "عليه السلام".
(3) في أ : "رسول الله".
(4) في م ، أ : (بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون).
(5) المسند (4/359) وقال الهيثمي في المجمع (1/42) : "في إسناده أبو جناب وهو مدلس وقد عنعنه".
(6) المسند (4/359) وقد تابع ثابت أبا جناب ، لكنه اختلف عليه فيه ، فرواه الطبراني في المعجم الكبير (2/319) من طريق عبيد الله ابن موسى عن ثابت عن أبي البقظان عن زاذان عن جرير به.

(3/295)


حدثنا علي بن عبد الأعلى (1) عن أبيه ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير (2) ساره ، إذ عرض له أعرابي فقال : يا رسول الله ، والذي بعثك بالحق ، لقد خرجت من بلادي وتلادي ومالي لأهتدي بهداك ، وآخذ من قولك ، وما بلغتك حتى ما لي طعام إلا من خَضِر الأرض ، فاعْرِضْ عَلَيّ. فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقبل فازدحمنا حوله ، فدخل خف بَكْره في بيت جُرْذَان ، فتردى الأعرابي ، فانكسرت عنقه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صدق والذي بعثني بالحق ، لقد خرج من بلاده وتلاده وماله ليهتدي بهداي ويأخذ من قولي ، وما بلغني حتى ما له طعام إلا من خضر الأرض ، أسمعتم بالذي عمل قليلا وأجر كثيرا هذا منهم! أسمعتم بالذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ؟ فإن هذا منهم" (3) [وروى ابن مَرْدُوَيه من حديث محمد ابن معلى - وكان نزل الري - حدثنا زياد بن خيثمة عن أبي داود عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أعطي فشكر ومنع فصبر وظلم فاستغفر وظلم فغفر" وسكت ، قالوا : يا رسول الله ما له ؟ قال " : { أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } ] (4)
وقوله : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ } أي : وجهنا حجته على قومه.
قال مجاهد وغيره : يعني بذلك قوله : { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأمْنِ [إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ] } (5) وقد صدقه الله ، وحكم له بالأمن والهداية فقال : { الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } ثم قال بعد ذلك كله : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ }
قرئ بالإضافة وبلا إضافة ، كما في سورة يوسف ، وكلاهما قريب في المعنى.
وقوله : { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } أي : حكيم في أفعاله وأقواله { عَلِيمٌ } أي : بمن يهديه ومن يضله ، وإن قامت عليه الحجج والبراهين ، كما قال : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [يونس : 96 ، 97] ؛ ؛ ولهذا قال هاهنا :
{ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ }
__________
(1) في أ : "عبد الله".
(2) في م : "في سير ".
(3) ورواه الحكيم الترمذي كما في الدر المنثور (3/309).
(4) زيادة من م ، أ.
(5) زيادة من م ، أ ، وفي هـ : "الآية".

(3/296)


وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)

{ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) }
يخبر تعالى أنه وهب لإبراهيم إسحاق ، بعد أن طَعَن في السن ، وأيس هو وامرأته "سارة" من الولد ، فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط ، فبشروهما بإسحاق ، فتعجبت المرأة من ذلك ، وقالت : { قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ } [هود : 72 ، 73] ، وبشروه (1) مع وجوده بنبوته ، وبأن له نسلا وعَقِبا ، كما قال : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ } [الصافات : 112] ، وهذا أكمل في البشارة ، وأعظم في النعمة ، وقال : { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [هود : 71] أي : ويولد لهذا المولود ولد في حياتكما ، فتقر أعينكما به كما قرت بوالده ، فإن الفرح بولد الولد شديد لبقاء النسل والعقب ، ولما كان ولد الشيخ والشيخة قد يتوهم أنه لا يَعْقب لضعفه ، وقعت البشارة به وبولده باسم "يعقوب" ، الذي فيه اشتقاق العقب والذرية ، وكان هذا مجازاة لإبراهيم ، عليه السلام ، حين اعتزل قومه وتركهم ، ونزح عنهم وهاجر من بلادهم ذاهبا إلى عبادة الله في الأرض ، فعوضه الله ، عَزَّ وجل ، عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين من صلبه على دينه ، لتقر بهم عينه ، كما قال [تعالى] (2) { فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا } [مريم : 49] ، وقال هاهنا : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلا هَدَيْنَا }
وقوله : { وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ } أي : من قبله ، هديناه كما هديناه ، ووهبنا له ذرية صالحة ، وكل منهما له خصوصية عظيمة ، أما نوح ، عليه السلام ، فإن الله تعالى لما أغرق أهل الأرض إلا من آمن به - وهم الذين صحبوه في السفينة - جعل الله ذريته هم الباقين ، فالناس كلهم من ذرية نوح ، وكذلك الخليل إبراهيم ، عليه السلام ، لم يبعث الله ، عَزَّ وجل ، بعده نبيا إلا من ذريته ، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } الآية [العنكبوت : 27] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } [الحديد : 26] ، وقال تعالى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا } [مريم : 58].
وقوله في هذه الآية الكريمة : { وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ } أي : وهدينا من ذريته { دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ } الآية ، وعود الضمير إلى "نوح" ؛ لأنه أقرب المذكورين ، ظاهر. وهو اختيار ابن جرير ، ولا إشكال عليه. وعوده
__________
(1) في م : "وبشروها".
(2) زيادة من أ.

(3/297)


إلى "إبراهيم" ؛ لأنه الذي سبق الكلام من أجله حسن ، لكن يشكل على ذلك "لوط" ، فإنه ليس من ذرية "إبراهيم" ، بل هو ابن أخيه مادان بن آزر ؛ اللهم إلا أن يقال : إنه دخل في الذرية تغليبًا ، كما في قوله تعالى : { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [البقرة : 133] ، فإسماعيل عمه ، ودخل في آبائه تغليبا.
[وكما قال في قوله : { فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلا إِبْلِيسَ } [الحجر : 30 ، 31] فدخل إبليس في أمر الملائكة بالسجود ، وذم على المخالفة ؛ لأنه كان قد تشبه بهم ، فعومل معاملتهم ، ودخل معهم تغليبا ، وكان من الجن وطبيعتهم النار والملائكة من النور] (1)
وفي ذكر "عيسى" ، عليه السلام ، في ذرية "إبراهيم" أو "نوح" ، على القول الآخر دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجال ؛ لأن "عيسى" ، عليه السلام ، إنما ينسب إلى "إبراهيم" ، عليه السلام ، بأمه "مريم" عليها السلام ، فإنه لا أب له.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا سهل بن يحيى العسكري ، حدثنا عبد الرحمن بن صالح ، حدثنا علي ابن عابس (2) عن عبد الله بن عطاء المكي ، عن أبي حرب بن أبي الأسود قال : أرسل الحجاج إلى يحيى بن يَعْمُر فقال : بَلَغَني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم ، تجده في كتاب الله ، وقد قرأته من أوله إلى آخره فلم أجده ؟ قال : أليس تقرأ سورة الأنعام : { وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ } حتى بلغ { وَيَحْيَى وَعِيسَى } ؟ قال : بلى ، قال : أليس عيسى من ذرية إبراهيم ، وليس له أب ؟ قال : صدقت.
فلهذا إذا أوصى الرجل لذريته ، أو وقف على ذريته أو وهبهم ، دخل أولاد البنات فيهم ، فأما إذا أعطى الرجل بنيه أو وقف عليهم ، فإنه يختص بذلك بنوه لصلبه وبنو بنيه ، واحتجوا بقول الشاعر العربي :
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا... بنوهن أبناء الرجال الأجانب (3)
وقال آخرون : ويدخل بنو البنات فيه أيضا ، لما ثبت في صحيح البخاري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للحسن بن علي : "إن ابني هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" (4) فسماه ابنا ، فدل على دخوله في الأبناء.
وقال آخرون : هذا تجوز.
وقوله : { وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ } ذكر أصولهم وفروعهم. وذوي طبقتهم ، وأن الهداية والاجتباء شملهم كلهم ؛ ولهذا قال : { وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ }
__________
(1) زيادة من م ، أ.
(2) في أ : "عباس".
(3) ذكره ابن عقيل في شواهده على ألفية ابن مالك برقم (51). وعنده "الأباعد" بدل "الأجانب".
(4) صحيح البخاري برقم (2704) من حديث أبي بكرة ، رضي الله عنه.

(3/298)


ثم قال : { ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } أي : إنما حصل لهم ذلك بتوفيق الله وهدايته إياهم ، { وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } تشديد لأمر الشرك ، وتغليظ لشأنه ، وتعظيم لملابسته ، كما قال [تعالى] (1) { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } الآية [الزمر : 65] ، وهذا شرط ، والشرط لا يقتضي جواز الوقوع ، كقوله [تعالى] (2) { قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ } [الزخرف : 81] ، وكقوله { لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ } [الأنبياء : 17] وكقوله { لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [الزمر : 4].
وقوله : { أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ } أي : أنعمنا عليهم بذلك رحمة للعباد بهم ، ولطفا منا بالخليقة ، { فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا } أي : بالنبوة. ويحتمل أن يكون الضمير عائدا على هذه الأشياء الثلاثة : الكتاب ، والحكم ، والنبوة.
وقوله : { هَؤلاءِ } يعني : أهل مكة. قاله ابن عباس ، وسعيد بن المُسَيَّب ، والضحاك ، وقتادة ، والسُّدِّي. { فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ } أي : إن يكفر بهذه النعم من كفر بها من قريش وغيرهم من سائر أهل الأرض ، من عرب وعجم ، ومليين وكتابيين ، فقد وكلنا بها قوما { آخَرِينَ } يعني : المهاجرين والأنصار وأتباعهم إلى يوم القيامة ، { لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ } أي : لا يجحدون شيئا منها ، ولا يردون منها حرفًا واحدًا ، بل يؤمنون بجميعها محكمها ومتشابهها ، جعلنا الله منهم بمنه وكرمه وإحسانه.
ثم قال تعالى مخاطبا عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم : { أُولَئِكَ } يعني : الأنبياء المذكورين مع من أضيف إليهم من الآباء والذرية والإخوان وهم الأشباه { الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ } أي : هم أهل الهداية لا غيرهم ، { فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ } أي : اقتد واتبع. وإذا كان هذا أمرا للرسول صلى الله عليه وسلم ، فأمته تبع له فيما يشرعه [لهم] (3) ويأمرهم به.
قال البخاري عند هذه الآية : حدثنا إبراهيم بن موسى ، أخبرنا هشام ، أن ابن جريج أخبرهم قال : أخبرني سليمان الأحول ، أن مجاهدا أخبره ، أنه سأل ابن عباس : أفي(ص) سجدة ؟ فقال : نعم ، ثم تلا { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ } إلى قوله : { فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ } ثم قال : هو منهم - زاد يزيد بن هارون ، ومحمد بن عبيد ، وسهل بن يوسف ، عن العوام ، عن مجاهد قال : قلت لابن عباس ، فقال : نبيكم صلى الله عليه وسلم ممن أُمِرَ أن يَقْتَدي بهم (4)
وقوله : { قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا } أي : لا أطلب منكم على إبلاغي إياكم هذا القرآن { أَجْرًا } أي : أجرة ، ولا أريد منكم شيئا ، { إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ } أي : يتذكرون به فَيُرْشَدُوا من العمى إلى الهدى ، ومن الغي (5) إلى الرشاد ، ومن الكفر إلى الإيمان.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من أ.
(4) صحيح البخاري برقم (4632).
(5) في أ : "العمى".

(3/299)


وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آَبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)

{ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) }
يقول تعالى : وما عظموا الله حق تعظيمه ، إذ كذبوا رسله إليهم ، قال ابن عباس ، ومجاهد ، وعبد الله بن كثير : نزلت في قريش. واختاره ابن جرير ، وقيل : نزلت في طائفة من اليهود ؛ وقيل : في فنحاص رجل منهم ، وقيل : في مالك بن الصيف.
{ قَالُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ } والأول هو الأظهر ؛ لأن الآية مكية ، واليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء ، وقريش - والعرب قاطبة - كانوا يبعدون إرسال رسول من البشر ، كما قال [تعالى] (1) { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ [وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ] (2) } [يونس : 2] ، وقال تعالى : { وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولا * قُلْ لَوْ كَانَ فِي الأرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنزلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولا } [الإسراء : 94 ، 95] ، وقال هاهنا : { وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ } قال الله تعالى : { قُلْ مَنْ أَنزلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ } ؟ أي : قل يا محمد لهؤلاء المنكرين لإنزال شيء من الكتب من عند الله ، في جواب سلبهم العام بإثبات قضية جزئية موجبة : { مَنْ أَنزلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى } يعني : التوراة التي قد علمتم - وكل أحد - أن الله قد أنزلها على موسى بن عمران نورًا وهدى للناس ، أي : ليستضاء بها في كشف المشكلات ، ويهتدى بها من ظلم الشبهات.
وقوله : { تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا } (3) أي : يجعلها حَمَلَتُهَا (4) قراطيس ، أي : قِطَعًا يكتبونها من الكتاب الأصلي الذي بأيديهم ويحرفون فيها ما يحرفون ويبدلون ويتأولون ، ويقولون : { هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } [البقرة : 79] ، أي : في كتابه المنزل ، وما هو من عند الله ؛ ولهذا قال : { تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا }
وقوله : { وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ } أي : ومن أنزل القرآن الذي علمكم الله فيه من
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من أ.
(3) قال ابن الجوزي في زاد المسير (3/84) : "قرأ ابن كثير وأبو عمرو : "يجعلونه في قراطيس يبدونها" و"يخفون" بالياء فيهن ، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بالتاء فيهن". والظاهر أن الحافظ ابن كثير اعتمد على القراءة الأولى.
(4) في أ : "تجعلها جملتها".

(3/300)


وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آَيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)

خبر ما سبق ، ونبأ ما يأتي ما لم تكونوا تعلمون ذلك أنتم ولا آباؤكم.
قال قتادة : هؤلاء مشركو العرب. وقال مجاهد : هذه للمسلمين.
وقوله : { قُلِ اللَّهُ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : أي : قل : الله أنزله. وهذا الذي قاله ابن عباس هو المتعين في تفسير هذه الكلمة ، لا ما قاله بعض المتأخرين ، من أن معنى { قُلِ اللَّهُ } أي : لا يكون خطاب لهم إلا هذه الكلمة ، كلمة : "الله".
وهذا الذي قاله هذا القائل يكون أمرًا بكلمة مفردة من غير تركيب ، والإتيان بكلمة مفردة لا يفيد (1) في لغة العرب فائدة يحسن السكوت عليها.
وقوله : { ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } أي : ثم دعهم في جهلهم وضلالهم يلعبون ، حتى يأتيهم من الله اليقين فسوف يعلمون (2) ألهم العاقبة ، أم لعباد الله المتقين ؟.
وقوله : { وَهَذَا كِتَابٌ } يعني : القرآن { أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى } يعني : مكة { وَمَنْ حَوْلَهَا } من أحياء العرب ، ومن سائر طوائف بني آدم من عرب وعجم ، كما قال في الآية الأخرى : { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } [الأعراف : 158] ، وقال { لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [الأنعام : 19] ، وقال { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [هود : 17] ، وقال { تَبَارَكَ الَّذِي نزلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } [الفرقان : 1] ، وقال { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } [آل عمران : 20] ، وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أعْطِيتُ خمسًا لم يُعْطَهُنّ أحد من الأنبياء قبلي" وذكر منهن : "وكان النبي يبعث إلى قومه ، وبعثت إلى الناس عامة" (3) ؛ ولهذا قال : { وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ } أي : كل من آمن بالله واليوم الآخر آمن بهذا الكتاب المبارك الذي أنزلناه إليك يا محمد ، وهو القرآن ، { وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } أي : يقومون بما افترض عليهم ، من أداء الصلوات في أوقاتها.
{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنزلُ مِثْلَ مَا أَنزلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) }
يقول تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا } أي : لا أحد أظلم ممن كذب على الله ، فجعل
__________
(1) في م : "لا تفيد".
(2) في أ : "يلعبون".
(3) صحيح البخاري برقم (335) وصحيح مسلم برقم (521).

(3/301)


له شريكا أو ولدا ، أو ادعى أن الله أرسله إلى الناس ولم يكن أرسله ؛ ولهذا قال تعالى : { أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ }
قال عِكْرِمة وقتادة : نزلت في مسيلمة الكذاب [لعنه الله] (1)
{ وَمَنْ قَالَ سَأُنزلُ مِثْلَ مَا أَنزلَ اللَّهُ } يعني : ومن ادعى أنه يعارض ما جاء من عند الله من الوحي مما يفتريه من القول ، كما قال تعالى : { وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا [إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ] (2) } [الأنفال : 31] ، قال الله : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ } أي : في سكراته وغمراته وكُرُباته ، { وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ } أي : بالضرب كما قال : { لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي [مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ] } (3) الآية [المائدة : 28] ، وقال : { وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ } الآية [الممتحنة : 2].
وقال الضحاك ، وأبو صالح : { بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ } أي : بالعذاب. وكما قال [تعالى] (4) { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } [الأنفال : 50] ؛ ولهذا قال : { وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ } أي : بالضرب لهم حتى تخرج أنفسهم من أجسادهم ؛ ولهذا يقولون لهم : { أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ } وذلك أن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب والنَّكال ، والأغلال والسلاسل ، والجحيم والحميم ، وغضب الرحمن الرحيم ، فتتفرق روحه في جسده ، وتعصى وتأبى الخروج ، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم ، قائلين لهم : { أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ [وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ] } (5) أي : اليوم تهانون غاية الإهانة ، كما كنتم تكذبون على الله ، وتستكبرون عن اتباع آياته ، والانقياد لرسله.
وقد وردت أحاديث [متواترة] (6) في كيفية احتضار المؤمن والكافر ، وهي مقررة عند قوله تعالى : { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ } [إبراهيم : 27].
وقد ذكر ابن مَرْدُوَيه هاهنا حديثا مطولا جدا من طريق غريبة ، عن الضحاك ، عن ابن عباس مرفوعا ، فالله أعلم (7)
وقوله : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي : يقال لهم يوم معادهم هذا ، كما قال { وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [الكهف : 48] ، أي : كما بدأناكم أعدناكم ، وقد كنتم تنكرون ذلك وتستبعدونه ، فهذا يوم البعث.
وقوله : { وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ } أي : من النعم والأموال التي اقتنيتموها في الدار الدنيا { وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك من مالك
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من م ، أ ، وفي هـ "الآية".
(3) زيادة من م ، أ.
(4) زيادة من م.
(5) زيادة من م ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(6) زيادة من م ، وفي أ : "الأحاديث المتواترة".
(7) ذكره السيوطي في الدر المنثور (3/318) وقال : إسناده ضعيف.

(3/302)


إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت ، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس".
وقال الحسن البصري : يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بَذَج فيقول الله ، عَزَّ وجل ، [له] (1) أين ما جمعت ؟ فيقول يا رب ، جمعته وتركته أوفر ما كان ، فيقول : فأين ما قدمت لنفسك ؟ فلا يراه قدم شيئا ، وتلا هذه الآية : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } رواه ابن أبي حاتم.
وقوله : { وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ } تقريع لهم وتوبيخ على ما كانوا اتخذوا في [الدار] (2) الدنيا من الأنداد والأصنام والأوثان ، ظانين أن تلك تنفعهم (3) في معاشهم ومعادهم إن كان ثَمَّ (4) معاد ، فإذا كان يوم القيامة تقطعت الأسباب ، وانزاح الضلال ، وضل عنهم ما كانوا يفترون ، ويناديهم الرب ، عَزَّ وجل ، على رءوس الخلائق : { أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } [الأنعام : 22] وقيل (5) لهم { أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ } [الشعراء : 92 ، 93] ؛ ولهذا قال هاهنا : { وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ } أي : في العبادة ، لهم فيكم قسط في استحقاق العبادة لهم.
ثم قال تعالى : { لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } قُرئ بالرفع ، أي شملكم ، وقُرئ بالنصب ، أي : لقد انقطع ما بينكم (6) من الوُصُلات والأسباب والوسائل { وَضَلَّ عَنْكُمْ } أي : وذهب عنكم { مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ } من رجاء الأصنام ، كما قال : { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } [البقرة : 166 ، 167] ، وقال تعالى : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ } [المؤمنون : 101] ، وقال { إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } [العنكبوت : 25] ، وقال { وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ } الآية [القصص : 64] ، وقال تعالى : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا } إلى قوله : { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [الأنعام : 22 - 24] ، والآيات في هذا كثيرة جدا.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من أ.
(3) في م : "ذلك ينفعهم".
(4) في أ : "ثمة".
(5) في أ : "أو قيل".
(6) في أ : "تقطع بينكم".

(3/303)


إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)

{ إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) }
يخبر تعالى أنه فالق الحب والنوى ، أي : يشقه في الثرى فتنبت الزروع على اختلاف أصنافها من الحبوب ، والثمار على اختلاف أشكالها وألوانها وطعومها من النوى ؛ ولهذا فسر [قوله] (1) { فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى } بقوله { يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ } أي : يخرج النبات الحي من الحب والنوى ، الذي هو كالجماد الميت ، كما قال : { وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * [وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ * سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ] (2) وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ } [يس : 33 - 36].
وقوله : { وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ } معطوف على { فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى } ثم فسره ثم عطف عليه قوله : { وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ }
وقد عبروا عن هذا [وهذا] (3) بعبارات كلها متقاربة مؤدية للمعنى ، فمن قائل : يخرج الدجاجة من البيضة ، والبيضة من الدجاجة ، من قائل : يخرج الولد الصالح من الكافر ، والكافر من الصالح ، وغير ذلك من العبارات التي تنتظمها الآية وتشملها.
ثم قال : { ذَلِكُمُ اللَّهُ } أي : فاعل هذه الأشياء هو الله وحده لا شريك له { فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } أي : فكيف تصرفون من الحق وتعدلون عنه إلى الباطل فتعبدون مع الله غيره.
وقوله : { فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَنًا } أي : خالق الضياء والظلام ، كما قال في أول السورة : { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } فهو سبحانه يفلق ظلام الليل عن غرة الصباح ، فيضيء الوجود ، ويستنير الأفق ، ويضمحل الظلام ، ويذهب الليل بدآدئه (4) وظلام رواقه ، ويجيء النهار بضيائه وإشراقه ، كما قال [تعالى] (5) { يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا } [الأعراف : 54] ، فبين تعالى قدرته على خلق الأشياء المتضادة المختلفة الدالة على كمال عظمته وعظيم سلطانه ، فذكر أنه فالق الإصباح وقابل ذلك بقوله : { وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَنًا } أي : ساجيا مظلما تسكن فيه الأشياء ، كما قال : { وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى } [الضحى : 1 ، 2] ، وقال { وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى } [الليل : 1 ، 2] ، وقال { وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا } [الشمس : 3 ، 4].
وقال صهيب الرومي [رضي الله عنه] (6) لامرأته وقد عاتبته في كثرة سهره : إن الله جعل الليل سكنا إلا لصهيب ، إن صهيبا إذا ذكر الجنة طال شوقه ، وإذا ذكر النار طار نومه ، رواه ابن أبي حاتم.
وقوله : { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا } أي : يجريان بحساب مقنن مقدر ، لا يتغير ولا يضطرب ، بل كل منهما له منازل يسلكها في الصيف والشتاء ، فيترتب على ذلك اختلاف الليل والنهار طولا وقصرا ، كما قال [تعالى] (7) { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ [لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ] (8) }
__________
(1) زيادة من م.
(2) زيادة من أ ، وفي هـ : "إلى قوله".
(3) زيادة من م ، أ.
(4) في أ : "بذاته".
(5) زيادة من أ.
(6) زيادة من أ.
(7) زيادة من أ.
(8) زيادة من أ.

(3/304)


وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)

الآية [يونس : 5] ، وكما قال : { لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [يس : 40] ، وقال { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } [الأعراف : 54].
وقوله : { ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } أي : الجميع جار بتقدير العزيز الذي لا يمانع ولا يخالف العليم بكل شيء ، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، وكثيرًا ما إذا ذكر الله تعالى خلق الليل والنهار والشمس والقمر ، يختم الكلام بالعزة والعلم ، كما ذكر في هذه الآية ، وكما في قوله : { وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [يس : 37 ، 38].
ولما ذكر خلق السموات والأرض وما فيهن في أول سورة { حم } السجدة ، قال : { وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [فصلت : 12].
وقوله : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } قال بعض السلف : من اعتقد في هذه النجوم غير ثلاث فقد أخطأ وكذب على الله : أن الله جعلها زينة للسماء (1) ورجوما للشياطين ، ويهتدى بها في ظلمات البر والبحر.
وقوله : { قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ } أي : قد بيناها ووضحناها { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي : يعقلون ويعرفون الحق ويجتنبون (2) الباطل.
{ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) }
يقول تعالى : { وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } يعني : آدم عليه السلام ، كما قال : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً } [النساء : 1].
وقوله : { فَمُسْتَقَرٌ } اختلفوا في معنى ذلك ، فعن ابن مسعود ، وابن عباس ، وأبي عبد الرحمن السلمي ، وقيس بن أبي حازم ومجاهد ، وعطاء ، وإبراهيم النخعي ، والضحاك وقتادة والسُّدِّي ، وعطاء الخراساني : { فَمُسْتَقَرٌ } أي : في الأرحام قالوا - أو : أكثرهم - : { وَمُسْتَوْدَعٌ } أي : في الأصلاب.
وعن ابن مسعود وطائفة عكس ذلك. وعن ابن مسعود أيضا وطائفة : فمستقر في الدنيا ،
__________
(1) في أ : "السماء".
(2) في أ : "ويتجنبون".

(3/305)


ومستودع حيث يموت. وقال سعيد بن جُبَيْر : { فَمُسْتَقَرٌ } في الأرحام وعلى ظهر الأرض ، وحيث يموت. وقال الحسن البصري : المستقر الذي [قد] (1) مات فاستقر به عمله. وعن ابن مسعود : ومستودع في الدار الآخرة.
والقول الأول هو الأظهر ، والله أعلم.
وقوله : { قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } أي : يفهمون ويَعُون كلام الله ومعناه.
وقوله : { وَهُوَ الَّذِي أَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } أي بقدر مباركًا ، رزقًا للعباد وغياثًا (2) للخلائق ، رحمة من الله لخلقه { فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ } كَمَا قَالَ { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [الأنبياء : 30]{ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا } أي : زرعًا وشجرًا أخضر ، ثم بعد ذلك يخلق فيه الحب والثمر ؛ ولهذا قال : { نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا } أي : يركب بعضه بعضا ، كالسنابل ونحوها { وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ } أي : جمع قِنو وهي عُذُوق الرّطب { دَانِيَةٌ } أي : قريبة من المتناول ، كما قال علي بن أبي طلحة الوالبي ، عن ابن عباس : { قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ } يعني بالقنوان الدانية : قصار النخل اللاصقة عذوقها (3) بالأرض. رواه ابن جرير.
قال ابن جرير : وأهل الحجاز يقولون : قِنْوان ، وقيس يقولون : قُنْوان ، وقال امرؤ القيس :
فَأَثَّت أعاليه وآدت أصولهُ... ومَالَ بقنْوانٍ من البُسر أحْمَرَا...
قال : وتميم يقولون (4) قُنْيَان بالياء - قال : وهي جمع قنو ، كما أن صنوان جمع صنو (5)
وقوله : { وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ } أي : ونخرج منه جنات من أعناب ، وهذان النوعان هما أشرف عند أهل الحجاز ، وربما كانا (6) خيار الثمار في الدنيا ، كما امتن تعالى بهما على عباده ، في قوله : { وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا } [النحل : 67] ، وكان ذلك قبل تحريم الخمر.
وقال : { وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } [يس : 34].
وقوله : { وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } قال قتادة وغيره : يتشابه في الورق ، قريب الشكل بعضه من بعض ، ويتخالف في الثمار شكلا وطعما وطبعا.
وقوله : { انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ } أي : نضجه ، قاله البراء بن عازب ، وابن عباس ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، والسُّدِّي ، وقتادة ، وغيرهم. أي : فكروا في قُدْرة خالقه من العدم إلى الوجود ، بعد أن كان حَطَبًا صار عِنبًا ورطبًا وغير ذلك ، مما خلق تعالى من الألوان والأشكال والطعوم والروائح ، كما قال تعالى : { وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأكُلِ [إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ] (7) }
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في أ : "غياثا".
(3) في م : "عروقها".
(4) في أ : "تقول".
(5) البيت في تفسير الطبري (11/575) ولسان العرب ، مادة (قنا).
(6) في م : "أنهما".
(7) زيادة من م ، وفي هـ : "الآية".

(3/306)


وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)

[الرعد : 4] ولهذا قال هاهنا { إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ } أي : دلالات على كمال قدرة خالق هذه الأشياء وحكمته ورحمته { لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي : يصدقون به ، ويتبعون رسله.
{ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) }
هذا رد على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره ، وأشركوا (1) في عبادة الله أن عبدوا الجن ، فجعلوهم شركاء الله في العبادة ، تعالى الله عن شركهم وكفرهم.
فإن قيل : فكيف عُبدت الجن وإنما كانوا يعبدون الأصنام ؟ فالجواب : أنهم إنما عبدوا الأصنام عن طاعة الجن وأمرهم إياهم بذلك ، كما قال تعالى : { إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا * لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا * يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا } [النساء : 117 - 120] ، وقال تعالى : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي [وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا] (2) } [الكهف : 50] ، وقال إبراهيم لأبيه : { يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا } [مريم : 44] ، وقال تعالى : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } [يس : 60 ، 61] ، وتقول (3) الملائكة يوم القيامة : { سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ } [سبأ : 41] ، ولهذا قال تعالى : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ } أي : وقد خلقهم ، فهو الخالق وحده لا شريك له ، فكيف يعبد معه غيره ، كما قال إبراهيم [عليه السلام] (4) { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [الصافات : 95 ، 96].
ومعنى الآية : أنه سبحانه وتعالى هو المستقل بالخلق وحده ؛ فلهذا يجب أن يُفْرَد بالعبادة وحده لا شريك له.
وقوله تعالى : { وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ } ينبه به تعالى على ضلال من ضل في وصفه تعالى بأن له ولدا ، كما يزعم من قاله من اليهود في العزير ، ومن قال من النصارى في المسيح وكما قال (5) المشركون من العرب في الملائكة : إنها بنات الله ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
ومعنى قوله [تعالى] (6) { وَخَرَقُوا } أي : واختلقوا وائتفكوا ، وتخرّصوا وكذبوا ، كما قاله علماء السلف. قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : { وَخَرَقُوا } يعني : أنهم تخرصوا.
__________
(1) في م : "وأشركوا به".
(2) زيادة من أ ، وفي هـ : "الآية".
(3) في أ : "ويقول".
(4) زيادة من م ، أ.
(5) في م ، أ : "قالت".
(6) زيادة من م.

(3/307)


بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)

وقال العوفي عنه : { وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ } قال : جعلوا له بنين وبنات. وقال مجاهد : { وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ } قال : كذبوا. وكذا قال الحسن. وقال الضحاك : وضعوا ، وقال السُّدِّي : قطعوا.
قال ابن جرير : فتأويل الكلام إذًا : وجعلوا لله الجن شركاء (1) في عبادتهم إياه ، وهو المنفرد بخلقهم بغير شريك ولا ظهير { وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ } يقول : وتخرصوا لله كذبا ، فافتعلوا له بنين وبنات بغير علم بحقيقة ما يقولون ، ولكن جهلا بالله وبعظمته ، وأنه لا ينبغي إن كان إلها أن يكون له بنون وبنات ولا صاحبة ، ولا أن يشركه في خلقه شريك.
ولهذا قال تعالى : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ } أي : تقدس وتنزه وتعاظم عما يصفه هؤلاء الجهلة الضالون من الأولاد والأنداد ، والنظراء والشركاء.
{ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) }
{ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } أي : مبدع السموات والآرض وخالقهما ومنشئهما و[محدثها] (2) على غير مثال سبق ، كما قال (3) مجاهد والسُّدِّي. ومنه سميت البدعة بدعة ؛ لأنه لا نظير لها فيما سلف.
{ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ } أي : كيف يكون له ولد ، ولم تكن له صاحبة ؟ أي : والولد إنما يكون متولدا عن شيئين متناسبين ، والله لا يناسبه ولا يشابهه شيء من خلقه ؛ لأنه خالق (4) كل شيء ، فلا صاحبة له ولا ولد ، كما قال تعالى : { وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا [تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ * هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * ] (5) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا } [مريم : 88 - 95].
{ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } فبين تعالى أنه الذي خلق كل شيء ، وأنه بكل شيء عليم ، فكيف يكون له صاحبة من خلقه تناسبه ؟ وهو الذي لا نظير له فأنى يكون له ولد ؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
__________
(1) في م : "وجعلوا لله شركاء الجن".
(2) زيادة من أ.
(3) في أ : "قاله".
(4) في أ : "خلق".
(5) زيادة من م ، أ ، وفي هـ : "إلى قوله".

(3/308)


ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)

{ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) }
يقول تعالى : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ } أي : الذي خلق كل شيء ولا ولد له ولا صاحبة ، { لا إِلَهَ إِلا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ } فاعبدوه وحده لا شريك له ، وأقروا له بالوحدانية ، وأنه لا إله إلا

(3/308)


هو ، وأنه لا ولد له ولا والد ، ولا صاحبة له ولا نظير ولا عديل { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } أي : حفيظ ورقيب يدبر كل ما سواه ، ويرزقهم ويكلؤهم بالليل والنهار.
وقوله تعالى : { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ } فيه أقوال للأئمة من السلف :
أحدها : لا تدركه في الدنيا ، وإن كانت تراه في الآخرة (1) كما تواترت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير ما طريق ثابت في الصحاح والمسانيد والسنن ، كما قال مسروق عن عائشة أنها قالت : من زعم أن محمدا أبصر ربه فقد كذب. [وفي رواية : على الله] (2) فإن الله يقول : { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ }
رواه ابن أبي حاتم من حديث أبي بكر بن عَيَّاش ، عن عاصم بن أبي النَّجُود ، عن أبي الضحى ، عن مسروق. ورواه غير واحد عن مسروق ، وثبت في الصحيح وغيره عن عائشة غير وجه (3)
وقد خالفها ابن عباس ، فعنه إطلاق الرؤية ، وعنه أنه رآه بفؤاده مرتين. والمسألة تذكر في أول "سورة النجم" إن شاء الله [تعالى] (4)
وقال ابن أبي حاتم : ذكر محمد بن مسلم ، حدثنا أحمد بن إبراهيم الدَّوْرَقِي ، حدثنا يحيى بن مَعِين قال : سمعت إسماعيل بن عُليَّة يقول في قول الله تعالى : { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ } قال : هذا في الدنيا. قال : وذكر أبي ، عن هشام بن عبيد الله أنه قال نحو ذلك.
وقال آخرون : { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ } أي : جميعها ، وهذا مخصص بما ثبت من رؤية المؤمنين له في الدار الآخرة (5)
وقال آخرون ، من المعتزلة بمقتضى ما فهموه من الآية : إنه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة. فخالفوا أهل السنة والجماعة في ذلك ، مع ما ارتكبوه من الجهل بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله. أما الكتاب ، فقوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة : 22 ، 23] ، وقال تعالى عن الكافرين : { كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } [المطففين : 15].
قال الإمام الشافعي : فدل هذا على أن المؤمنين لا يُحْجَبُون عنه تبارك وتعالى.
وأما السنة ، فقد تواترت الأخبار عن أبي سعيد ، وأبي هريرة ، وأنس ، وجرير ، وصُهَيْب ، وبلال ، وغير واحد من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة في العرصات ، وفي روضات الجنات ، جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه آمين.
__________
(1) في م : "تراه في الدار الآخرة"
(2) زيادة من أ.
(3) رواه البخاري في صحيحه برقم (4612) ومسلم في صحيحيه برقم (177) والترمذي في السنن برقم (3068) من طريق الشعبي ، عن مسروق به.
(4) زيادة من م ، أ.
(5) في أ : "في الدار الآخرة".

(3/309)


وقيل : المراد بقوله : { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ } أي : العقول. رواه ابن أبي حاتم عن علي بن الحسين ، عن الفلاس ، عن ابن مهدي ، عن أبي الحصين يحيى بن الحصين قارئ أهل مكة أنه قال ذلك. وهذا غريب جدًا ، وخلاف ظاهر الآية ، وكأنه اعتقد أن الإدراك في معنى الرؤية ، والله [سبحانه وتعالى] (1) أعلم.
وقال آخرون : لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك ، فإن الإدراك أخص من الرؤية ، ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء الأعم. ثم اختلف هؤلاء في الإدراك المنفي ، ما هو ؟ فقيل : معرفة الحقيقة ، فإن هذا لا يعلمه إلا هو وإن رآه المؤمنون ، كما أن من رأى القمر فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته ، فالعظيم أولى بذلك وله المثل الأعلى.
وقال آخرون : المراد بالإدراك الإحاطة. قالوا : ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدم العلم ، قال الله تعالى : { وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا } [طه : 110] ، وفي صحيح مسلم : "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" (2) ولا يلزم منه عدم الثناء ، فكذلك هذا.
قال العَوْفي ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ } قال : لا يحيط بصر أحد (3) بالملك.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعة ، حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة القناد ، حدثنا أسباط عن سماك ، عن عِكْرِمة ، أنه قيل له : { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ } ؟ قال : ألست ترى السماء ؟ قال : بلى. قال : فكلها ترى ؟.
وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة : { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ } هو أعظم من أن تدركه الأبصار.
وقال ابن جرير : حدثنا سعد بن عبد الله بن عبد الحكم ، حدثنا خالد بن عبد الرحمن ، حدثنا أبو عرفجة ، عن عطية العوفي في قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة : 22 ، 23] ، قال : هم ينظرون إلى الله ، لا تحيط أبصارهم به من عظمته ، وبصره محيط بهم. فذلك قوله : { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ }
وقد ورد في تفسير هذه الآية حديث. رواه ابن أبي حاتم هاهنا ، فقال :
حدثنا أبو زرعة ، حدثنا مِنْجَاب بن الحارث السهمي (4) حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن عطية العوفي ، عن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ } قال : "لو أن الجن والإنس والشياطين والملائكة منذ خلقوا إلى أن فَنُوا صُفّوا صفًا واحدًا ،
__________
(1) زياد من أ.
(2) صحيح مسلم برقم (486) من حديث عائشة ، رضي الله عنها.
(3) في م : "أحدنا".
(4) في م : "التميمي".

(3/310)


ما أحاطوا بالله أبدا".
غريب لا يعرف إلا من هذا الوجه ، ولم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة (1) والله أعلم.
وقال آخرون في [قوله تعالى] (2) { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ } بما رواه الترمذي في جامعه ، وابن أبي عاصم في كتاب "السنة" له ، وابن أبي حاتم في تفسيره ، وابن مَرْدُوَيه أيضا ، والحاكم في مستدركه ، من حديث الحكم بن أبان قال : سمعت عِكْرِمة يقول : سمعت ابن عباس يقول : رأى محمد ربه تبارك وتعالى. فقلت : أليس الله يقول : { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ } الآية ؟ فقال : لي "لا أم لك. ذلك نوره ، الذي هو نوره ، إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء". وفي رواية : "لا يقوم له شيء".
قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه (3)
وفي معنى هذا الأثر ما ثبت في الصحيحين ، عن أبي موسى الأشعري ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله لا ينام ، ولا ينبغي له أن ينام يخفض (4) القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل ، حجابه النور - أو : النار - لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" (5)
وفي الكتب المتقدمة : إن الله تعالى قال لموسى لما سأل الرؤية : يا موسى ، إنه لا يراني حي إلا مات ، ولا يابس إلا تدهده. أي : تدعثر. وقال تعالى : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } [الأعراف : 143] ونفي هذا الأثر الإدراك الخاص لا ينفي الرؤية يوم القيامة (6) يتجلى لعباده المؤمنين كما يشاء. فأما جلاله وعظمته على ما هو عليه - تعالى وتقدس وتنزه - فلا تدركه الأبصار ؛ ولهذا كانت أم المؤمنين عائشة ، رضي الله عنها ، تثبت الرؤية في الدار الآخرة وتنفيها في الدنيا ، وتحتج بهذه الآية : { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ } فالذي نفته الإدراك الذي هو بمعنى رؤية العظمة والجلال على ما هو عليه ، فإن ذلك غير ممكن للبشر ، ولا للملائكة ولا لشيء.
وقوله : { وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ } أي : يحيط بها ويعلمها على ما هي عليه ؛ لأنه خلقها كما قال تعالى : { أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [الملك : 14].
وقد يكون عبر بالأبصار عن المبصرين ، كما قال السُّدِّي في قوله : { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ }
__________
(1) ورواه ابن عدي في الكامل (2/10) من طريق سفيان بن بشر ، عن بشر بن عمارة به ، وإسناده واه.
(2) زيادة من م ، وفي أ : "في قوله".
(3) سنن الترمذي برقم (3279) والسنة لابن أبي عاصم برقم (437) والمستدرك (2/306) وقال الترمذي : "حسن غريب". وقال ابن أبي عاصم : "فيه كلام".
(4) في أ : "يحفظ".
(5) رواه مسلم في صحيحه برقم (179) ولم أجده بعد البحث في صحيح البخاري حتى الحافظ المزى لم يذكره في تحفة الأشراف من رواية البخاري.
(6) انظر : شرح العقيدة الطحاوية (1/214) لابن أبي العز الحنفي للتوسع في بحث الرؤية.

(3/311)


قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)

لا يراه شيء وهو يرى الخلائق.
وقال أبو العالية في قوله [تعالى] (1) { وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } اللطيف باستخراجها ، الخبير بمكانها. والله أعلم.
وهذا كما قال تعالى إخبارا عن لقمان فيما وعظ به ابنه : { يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } [لقمان : 16].
{ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) }
البصائر : هي البينات والحجج التي اشتمل عليها القرآن ، وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم { فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ } مثل قوله : { مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } [الإسراء : 15] ؛ ولهذا قال : { وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا } لما ذكر البصائر قال :
{ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا } أي : فإنما يعود وبال ذلك عليه ، كقوله : { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [الحج : 46].
{ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } أي : بحافظ ولا رقيب ، بل أنا مبلغ والله يهدي من يشاء ويضل من يشاء.
وقوله : { وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ } أي : وكما فصلنا الآيات في هذه السورة ، من بيان التوحيد وأنه لا إله إلا هو ، هكذا نوضح الآيات ونفسرها ونبينها في كل موطن لجهالة الجاهلين ، وليقول المشركون والكافرون المكذبون : دارست يا محمد من قبلك من أهل الكتاب وقارأتهم وتعلمت منهم.
هكذا قال ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جُبَيْر ، والضحاك ، وغيرهم.
وقد قال الطبراني : حدثنا عبد الله بن أحمد ، حدثنا أبي ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عمرو بن كيسان ، سمعت ابن عباس يقرأ : { دَارَسْتَ } تلوتَ ، خاصمتَ ، جادلتَ (2)
وهذا كما قال تعالى إخبارا عن كذبهم وعنادهم : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا. وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا [فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلا] (3) } [الفرقان : 4 ، 5] ، وقال تعالى إخبارًا عن زعيمهم وكاذبهم : { إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ. ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ. فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ } [المدثر : 18 - 25].
وقوله : { وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي : ولنوضحه لقوم يعلمون الحق فيتبعونه ، والباطل فيجتنبونه. فلله تعالى الحكمة البالغة في إضلال أولئك ، وبيان الحق لهؤلاء. كما قال تعالى : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا [وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ ] (4) } [البقرة : 26] ، وقال تعالى : { لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (5) } [الحج : 53]
__________
(1) زيادة من م ، أ.
(2) المعجم الكبير للطبراني (11/137). وقال الهيثمي في المجمع (7/22) : "رجاله ثقات".
(3) زيادة من م ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(4) زيادة من م ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(5) في هـ : "وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم".

(3/312)


وقال تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ } [المدثر : 31].
وقال [تعالى] (1) { وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا } [الإسراء : 82] وقال تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [فصلت : 44] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى أنزل القرآن هدى للمتقين ، وأنه يضل به من يشاء ويهدي به من يشاء : ولهذا قال هاهنا : { وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } وقرأ بعضهم : { وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ }
قال التميمي ، عن ابن عباس : "درست" أي : قرأت وتعلمت. وكذا قال مجاهد ، والسُّدِّي والضحاك ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، قال الحسن : "وَلِيَقُولُوا دَرَسْت" ، يقول : تقادمت وانمحت. وقال عبد الرزاق أيضا : أنبأنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، سمعت ابن الزبير يقول : إن صبيانا يقرؤون هاهنا : "دَرَسَتْ" ، وإنما هي : "دَرَسْتَ".
وقال شعبة : حدثنا أبو إسحاق الهمداني قال في قراءة ابن مسعود : "دَرَسَتْ" بغير ألف ، بنصب السين ووقف على التاء.
وقال ابن جرير : ومعناه انمحت وتقادمت ، أي : إن هذا الذي تتلوه علينا قد مر بنا قديمًا ، وتطاولت مدته.
وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة أنه قرأها : "دُرِسَتْ" أي : قُرئت وتُعُلِّمت.
وقال معمر ، عن قتادة : "دُرِسَتْ" : قرئت. وفي حرف ابن مسعود "دَرَسَ".
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام : حدثنا حجاج ، عن هارون قال : هي في حرف أبي بن كعب وابن مسعود : "وليقولوا دَرَس". قال : يعنون النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ (2)
وهذا غريب ، فقد روي عن أبي بن كعب خلاف هذا ، قال أبو بكر بن مَرْدُوَيه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا الحسن بن الليث ، حدثنا أبو سلمة ، حدثنا أحمد بن أبي بَزَّة (3) المكي ، حدثنا وهب بن زَمَعَة ، عن أبيه ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، عن أبي بن كعب
__________
(1) زيادة من م ، أ.
(2) ورواه الطبري في تفسيره (12/31) من طريق أبي عبيد عن حجاج به.
(3) في م : "ابن مرة".

(3/313)


اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)

قال : أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَلِيَقُولُوا دَرَسْت }.
ورواه الحاكم في مستدركه ، من حديث وهب بن زمعة ، وقال : يعني بجزم السين ، ونصب التاء ، ثم قال : (1) صحيح الإسناد ولم يخرجاه (2)
{ اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) }
يقول تعالى آمرا لرسوله (3) صلى الله عليه وسلم ولمن اتَّبع طريقته : { اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } أي : اقتد به ، واقتف أثره ، واعمل به ؛ فإن ما أوحي إليك من ربك هو الحق الذي لا مِرْية فيه ؛ لأنه لا إله إلا هو.
{ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ } أي : اعف عنهم واصفح ، واحتمل أذاهم ، حتى يفتح الله لك وينصرك ويظفرك عليهم.
واعلم أن لله حكمة في إضلالهم ، فإنه لو شاء لهدى الناس كلهم جميعا [ولو شاء الله لجمعهم على الهدى] (4)
{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا } أي : بل له المشيئة والحكمة فيما يشاؤه ويختاره ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
وقوله : { وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا } أي : حافظا تحفظ أعمالهم وأقوالهم { وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ } أي : موكل على أرزاقهم وأمورهم { إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ } كما قال تعالى : { فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ } [الغاشية : 21 ، 22] ، وقال { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ } [الرعد : 40]
{ وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) }
يقول تعالى ناهيا لرسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين (5) عن سب آلهة المشركين ، وإن كان فيه مصلحة ، إلا أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها ، وهي مقابلة المشركين بسب (6) إله المؤمنين ، وهو الله لا إله إلا هو.
كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في هذه الآية : قالوا : يا محمد ، لتنتهين عن سبك آلهتنا ، أو لنهجون ربك ، فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم ، { فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ }
وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة : كان المسلمون يسبون أصنام الكفار ، فيسب الكفار الله
__________
(1) في م : "وقال".
(2) المستدرك (2/238).
(3) في أ : "رسوله".
(4) زيادة من م ، أ.
(5) في أ : "وللمؤمنين".
(6) في أ : "سب".

(3/314)


عدوا بغير علم ، فأنزل الله : { وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ }
وروى ابن جرير وابن أبي حاتم ، عن السُّدِّي أنه قال في تفسير هذه الآية : لما حضر أبا طالب الموت قالت قريش : انطلقوا فلندخل على هذا الرجل ، فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه ، فإنا نستحيي أن نقتله بعد موته ، فتقول العرب : كان يمنعهم فلما مات قتلوه. فانطلق أبو سفيان ، وأبو جهل ، والنضر بن الحارث ، وأمية ، وأبي ابنا خلف ، وعقبة بن أبي مُعِيط ، وعمرو بن العاص ، والأسود بن البَخْتَري (1) وبعثوا رجلا منهم يقال له : "المطلب" ، قالوا : استأذن لنا على أبي طالب ، فأتى أبا طالب فقال : هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخول عليك ، فأذن لهم عليه ، فدخلوا عليه فقالوا : يا أبا طالب ، أنت كبيرنا وسيدنا ، وإن محمدًا قد آذانا وآذى آلهتنا ، فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ، ولندَعْه وإلهه. فدعاه ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له أبو طالب : هؤلاء قومك وبنو عمك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما تريدون ؟". قالوا : نريد أن تدعنا وآلهتنا ، ولندَعْك وإلهك. قال له أبو طالب : قد أنصفك قومك ، فاقبل منهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أرأيتم إن أعطيتكم هذا ، هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم بها العرب ، ودانت لكم بها العجم ، وأدت لكم الخراج ؟" قال أبو جهل : وأبيك لأعطينكها وعشرة أمثالها [قال] (2) فما هي ؟ قال : "قولوا لا إله إلا الله". فأبوا واشمأزوا. قال أبو طالب : يا ابن أخي ، قل غيرها ، فإن قومك قد فزعوا منها. قال : " يا عم ، ما أنا بالذي أقول غيرها ، حتى يأتوا بالشمس فيضعوها في يدي ، ولو أتوا بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها". إرَادَةَ أن يُؤيسَهم ، فغضبوا وقالوا : لتكفن عن شتم آلهتنا ، أو لنشتمنك ونشتم من يأمرك فذلك قوله : { فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } (3)
ومن هذا القبيل - وهو ترك المصلحة لمفسدة أرجح منها - ما جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ملعون من سب والديه". قالوا يا رسول الله ، وكيف يسب الرجل والديه ؟ قال : "يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه". أو كما قال ، عليه السلام (4) (5)
وقوله تعالى : { كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ } أي : وكما زينا لهؤلاء القوم حبّ أصنامهم والمحاماة لها والانتصار ، كذلك زينا لكل أمة من الأمم الخالية على الضلال عملهم الذي كانوا فيه ، ولله الحجة البالغة ، والحكمة التامة فيما يشاؤه ويختاره. { ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ } أي : معادهم ومصيرهم ، { فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : يجازيهم بأعمالهم ، إن خيرًا فخير ، وإن شرًا فشر.
__________
(1) في م : "عبد يغوث".
(2) زيادة من أ.
(3) تفسير الطبري (12/34).
(4) في أ : "صلى الله عليه وسلم".
(5) رواه مسلم في صحيحه برقم (90) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، رضي الله عنه.

(3/315)


وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)

{ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) }
يقول تعالى إخبارًا عن المشركين : إنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم ، أي : حلفوا أيمانًا مؤكدة { لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ } أي : معجزة وخارق ، { لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا } أي : ليصدقنها ، { قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ } أي : قل يا محمد لهؤلاء الذين يسألونك الآيات تعنتًا وكفرًا وعنادًا ، لا على سبيل الهدى والاسترشاد : إنما مرجع (1) هذه الآيات إلى الله ، إن شاء أجابكم ، وإن شاء ترككم ، كما قال ، قال ابن جرير :
حدثنا هَنَّاد (2) حدثنا يونس بن بُكَيْر ، حدثنا أبو مَعْشَر ، عن محمد بن كعب القُرَظِي قال : كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشًا ، فقالوا : يا محمد ، تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا ، وتخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى ، وتخبرنا أن ثمود كانت لهم ناقة ، فأتنا من الآيات حتى نصدقك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أي شيء تحبون أن آتيكم به ؟". قالوا : تجعل لنا الصفا ذهبا. فقال لهم : "فإن فعلت تصدقوني ؟". قالوا : نعم ، والله لئن فعلت لنتبعك أجمعين. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ، فجاءه جبريل ، عليه السلام ، فقال له : لك ما شئت ، إن شئت أصبح الصفا ذهبا ، ولئن أرسل آية فلم يصدقوا عند ذلك ليعذبنهم ، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم. فقال رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (3) بل يتوب تائبهم". فأنزل الله : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ } (4) إلى قوله [تعالى] (5) { يَجْهَلُونَ }
وهذا مرسل (6) وله شواهد من وجوه أخر. وقال الله تعالى : { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ [وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلا تَخْوِيفًا ] (7) } [الإسراء : 59].
وقوله تعالى : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ } قيل : المخاطب ب { وَمَا يُشْعِرُكُمْ } المشركون ، وإليه ذهب مجاهد كأنه يقول لهم : وما يدريكم بصدقكم في هذه الأيمان التي تقسمون بها. وعلى هذا فالقراءة : "إنها إذا جاءت لا يؤمنون" بكسر "إنها" على استئناف الخبر عنهم بنفي الإيمان عند مجيء الآيات التي طلبوها ، وقراءة (8) بعضهم : "أنها إذا جاءت لا تؤمنون" بالتاء المثناة من فوق.
وقيل : المخاطب بقوله : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ } المؤمنون ، أي : وما يدريكم أيها المؤمنون ، وعلى هذا فيجوز في (9) { أَنَّهَا } الكسر كالأول والفتح على أنه معمول يشعركم. وعلى هذا فتكون "لا" في قوله : { أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ } صلة كما في قوله : { مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ } [الأعراف : 12] ، وقوله { وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ } [الأنبياء : 95]. أي : ما منعك أن تسجد إذ
__________
(1) في م ، أ : "ترجع".
(2) في م : "هناد بن السرى".
(3) زيادة من م ، أ.
(4) في أ : "وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها".
(5) زيادة من م.
(6) تفسير الطبري (12/38).
(7) زيادة من أ ، وفي هـ : "الآية".
(8) في م : "وقرأ".
(9) في م ، أ : "في قوله".

(3/316)


أمرتك وحرام أنهم يرجعون. وتقديره في هذه الآية : وما يدريكم - أيها المؤمنون الذين تودون لهم ذلك حرصا على إيمانهم - أنها إذا جاءتهم الآيات يؤمنون (1)
وقال بعضهم : "أنها" بمعنى لعلها.
قال ابن جرير : وذكروا أن ذلك كذلك في قراءة أبي بن كعب. قال : وقد ذكر عن العرب سماعا : "اذهب إلى السوق أنك تشتري لي (2) شيئًا" بمعنى : لعلك تشتري.
قال : وقد قيل : إن قول عدي بن زيد العبادي من هذا :
أعاذل ما يُدْريك أنّ مَنيَّتي... إلى سَاعَةٍ في اليوم أو في ضُحَى الغَد (3)
وقد اختار هذا القول ابن جرير وذكر عليه شواهد من أشعار العرب والله [تعالى] (4) أعلم.
وقوله تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } قال العَوفي عن ابن عباس في هذه الآية : لما جحد المشركون ما أنزل الله لم تثبت قلوبهم على شيء ورُدَّت عن كل أمر.
وقال مجاهد : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ [كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ] } (5) ونحول بينهم وبين الإيمان ولو جاءتهم كل آية ، فلا يؤمنون ، كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة.
وكذا قال عِكْرِمة وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال ابن أبي طلحة ، عن ابن عباس أنه قال : أخبر الله ما العباد قائلون قبل أن يقولوه وعملهم قبل أن يعملوه. قال : { وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [فاطر : 14] ، [وقال] (6)
{ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ. أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ] (7) لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } [الزمر : 56 - 58] فأخبر سبحانه أنهم لو ردوا لم يقدروا على الهدى ، وقال : { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [الأنعام : 28] ، وقال { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } قال : لو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى ، كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا. وقوله : { وَنَذَرُهُمْ } أي : نتركهم { فِي طُغْيَانِهِمْ } (8) قال ابن عباس والسُّدِّي : في كفرهم. وقال أبو العالية والربيع بن أنس وقتادة : في ضلالهم.
{ يَعْمَهُونَ } قال الأعمش : يلعبون. وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وأبو العالية ، والربيع ، وأبو مالك ، وغيره : في كفرهم يترددون.
__________
(1) في م : "لا يؤمنون".
(2) في أ : "لنا".
(3) تفسير الطبري (12/41)
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من أ.
(6) زيادة من أ.
(7) زيادة من م ، أ ، وفي هـ : "إلى قوله".
(8) في م ، أ : "في طغيانهم يعمهون".

(3/317)


وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)

{ وَلَوْ أَنَّنَا نزلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) }
يقول تعالى : ولو أننا أجبنا سؤال هؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم { لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا } فنزلنا عليهم الملائكة ، أي : تخبرهم بالرسالة من الله بتصديق الرسل ، كما سألوا فقالوا : { أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلا } [الإسراء : 92]{ قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله } [الأنعام : 124] ، { وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزلَ (1) عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا } [الفرقان : 21].
{ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى } أي : فأخبروهم بصدق ما جاءتهم به الرسل ، { وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا } - قرأ بعضهم : "قِبَلا" بكسر القاف وفتح الباء ، من المقابلة ، والمعاينة. وقرأ آخرون (2) [وقبلا] (3) بضمهما (4) قيل : معناه من المقابلة والمعاينة أيضا ، كما رواه (5) علي بن أبي طلحة ، والعوفي ، عن ابن عباس. وبه قال قتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال مجاهد : { قُبُلا } أفواجًا ، قبيلا قبيلا أي : تعرض عليهم كل أمة بعد أمة (6) فتخبرهم بصدق الرسل فيما جاؤوهم به { مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } أي : إن الهداية إليه ، لا إليهم. بل يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، وهو الفعال لما يريد ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، لعلمه وحكمته ، وسلطانه وقهره وغلبته. وهذه الآية كقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [يونس : 96 ، 97].
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) }
يقول تعالى : وكما جعلنا لك - يا محمد - أعداءً يخالفونك ، ويعادونك (7) جعلنا لكل نبي من قبلك أيضا أعداء فلا يَهِيدنَّك ذلك ، كما قال تعالى : { فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ } [آل عمران : 184] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا [حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ] (8) } [الأنعام : 34] ، وقال تعالى : { مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } [فصلت : 43] ، وقال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ [وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ] (9) } [الفرقان : 43].
__________
(1) في م : "نزل".
(2) في أ : "بعضهم".
(3) زيادة من م ، وفي أ : "قبلا".
(4) في م ، أ : "بضم القاف والباء".
(5) في م ، أ : "قاله".
(6) في م ، أ : "من الأمم".
(7) في م ، أ : "ويعاندونك".
(8) زيادة من م ، أ.
(9) زيادة من م ، أ ، وفي هـ : "الآية".

(3/318)


وقال ورقة بن نوفل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : [إنه] (1) لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي (2)
وقوله : { شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ } بدل من { عَدُوًّا } أي : لهم أعداء من شياطين الإنس والجن ، ومن هؤلاء وهؤلاء ، قبحهم الله ولعنهم.
قال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة في قوله [تعالى] (3) { شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ } قال : من الجن شياطين ، ومن الإنس شياطين ، يوحي بعضهم إلى بعض ، قال قتادة : وبلغني أن أبا ذر كان يوما يصلي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "تَعَوَّذ (4) يا أبا ذر من شياطين الإنس والجن". فقال : أو إن من الإنس شياطين (5) ؟ فقال رسول الله (6) صلى الله عليه وسلم : "نعم".
وهذا منقطع بين قتادة وأبي ذر (7) وقد روي من وجه آخر عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال (8) ابن جرير :
حدثنا المثنى ، حدثنا أبو صالح ، حدثني معاوية بن صالح ، عن أبي عبد الله محمد بن أيوب وغيره من المشيخة ، عن ابن (9) عائذ ، عن أبي ذر قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس قد أطال فيه الجلوس ، قال ، فقال : "يا أبا ذر ، هل صليت ؟". قال : لا يا رسول الله. قال : "قم فاركع ركعتين". قال : ثم جئت فجلستُ إليه ، فقال : "يا أبا ذر ، هل تعوذت بالله من شياطين الجن والإنس ؟". قال : قلت : لا يا رسول الله ، وهل للإنس من شياطين ؟ قال : "نعم ، هم شر من شياطين الجن".
وهذا أيضا فيه انقطاع (10) وروي متصلا كما قال الإمام أحمد :
حدثنا وَكِيع ، حدثنا المسعودي ، أنبأنى أبو (11) عمر الدمشقي ، عن عبيد بن الخشخاش ، عن أبي ذر قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد ، فجلست فقال : "يا أبا ذر هل صليت ؟". قلت : لا. قال : "قم فصل". قال : فقمت فصليت ، ثم جلست فقال : "يا أبا ذر ، تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن". قال : قلت يا رسول الله ، وللإنس شياطين ؟ قال : "نعم". وذكر تمام الحديث بطوله.
وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه في تفسيره ، من حديث جعفر بن عون ، ويعلى بن عبيد ، وعبيد الله بن موسى ، ثلاثتهم عن المسعودي ، به (12)
__________
(1) زيادة من م ، أ.
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (3) ومسلم في صحيحه برقم (160) من حديث عائشة ، رضي الله عنها.
(3) زيادة من أ.
(4) في م : "تعوذت".
(5) في م ، أ : "لشياطين".
(6) في م ، أ : "قال النبي".
(7) تفسير عبد الرزاق (1/209).
(8) في أ : "وقال".
(9) في م : "أبي".
(10) تفسير الطبري (12/53).
(11) في أ : "ابن أبي".
(12) المسند (5/178) وقال الهيثمي في المجمع (1/160) : "فيه المسعودي وهو ثقة وقد اختلط".

(3/319)


طريق أخرى عن أبي ذر : قال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا الحجاج ، حدثنا (1) حماد ، عن حميد بن هلال ، حدثني رجل من أهل دمشق ، عن عوف بن مالك ، عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "يا أبا ذر ، هل تعوذت بالله من شر شياطين الإنس والجن ؟". قال : قلت يا رسول الله ، هل للإنس من شياطين ؟ قال : "نعم" (2)
طريق أخرى للحديث : قال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عَوْف الحِمْصي ، حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا معان (3) بن رفاعة ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة [رضي الله عنه] (4) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا أبا ذر تعوذتَ (5) من شياطين الجن والإنس ؟". قال : يا رسول (6) الله ، وهل للإنس [من] (7) شياطين ؟ قال : "نعم ، شياطينَ الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا" (8)
فهذه طرق لهذا الحديث ، ومجموعها يفيد قوته وصحته ، والله أعلم.
وقد روي ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا أبو نُعَيم ، عن شَرِيك ، عن سعيد بن مسروق ، عن عِكْرِمة : { شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ } قال : ليس من الإنس شياطين ، ولكن شياطين الجن يوحون إلى شياطين الإنس ، وشياطين الإنس يوحون إلى شياطين الجن.
قال : وحدثنا الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا إسرائيل ، عن السُّدِّي ، عن عِكْرِمة في قوله : { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } قال : للإنسى (9) شيطان ، وللجني (10) شيطان (11) فيلقى شيطان الإنس شيطان الجن ، فيوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا.
وقال أسباط ، عن السُّدِّي ، عن عِكْرِمة في قوله : { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ } في تفسير هذه الآية : أما شياطين الإنس ، فالشياطين التي تضل الإنس (12) وشياطين الجن الذين يضلون الجن ، يلتقيان ، فيقول كل واحد منهما لصاحبه : إني أضللت صاحبي بكذا وكذا ، فأضْلِل أنت صاحبك بكذا وكذا ، فيعلم بعضهم بعضا.
ففهم (13) ابن جرير من هذا ؛ أن المراد بشياطين الإنس عند عِكْرِمة والسُّدِّي : الشياطين من الجن الذين يضلون الناس ، لا أن المراد منه (14) شياطين الإنس منهم. ولا شك أن هذا ظاهر من كلام عِكْرِمة ، وأما كلام السُّدِّي فليس مثله في هذا المعنى ، وهو محتمل ، وقد روى ابن أبي حاتم نحو هذا ، عن ابن عباس من رواية الضحاك ، عنه ، قال : إن للجن شياطين يضلونهم مثل شياطين الإنس
__________
(1) في أ : "بن"
(2) تفسير الطبري (12/53).
(3) في أ : "معاذ".
(4) زيادة من أ.
(5) في م : "تعوذت بالله".
(6) في أ : "يانبي".
(7) زيادة من أ.
(8) ورواه أحمد في مسنده (5/265) من طريق أبي المغيرة به مطولا. وقال الهيثمي في المجمع (1/159) : "مداره على علي بن زيد وهو ضعيف".
(9) في م ، أ : "للإنس".
(10) في م ، أ : "وللجن".
(11) في أ : "شياطين".
(12) في أ : "الناس".
(13) في م : "فهم".
(14) في م : "من".

(3/320)


يضلونهم ، قال : فيلتقي شياطين الإنس وشياطين الجن ، فيقول هذا لهذا : أضلله بكذا ، أضلله (1) بكذا. فهو قوله : { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا }
وعلى كل حال فالصحيح ما تقدم من (2) حديث أبي ذر : إن للإنس شياطين منهم ، وشيطان كل شيء ما رده ، ولهذا جاء في صحيح مسلم ، عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "الكلب الأسود شيطان" (3) ومعناه - والله أعلم - : شيطان في الكلاب.
وقال ابن جُرَيْج : قال مجاهد في تفسير هذه الآية : كفار الجن شياطين ، يوحون إلى شياطين الإنس ، كفار الإنس ، زخرف القول غرورا.
وروى ابن أبي حاتم ، عن عِكْرِمة قال : قدمت على المختار فأكرمني وأنزلني حتى كاد (4) يتعاهد مبيتي بالليل ، قال : فقال لي : اخرج إلى الناس فحدث الناس. قال : فخرجت ، فجاء رجل فقال : ما تقول في الوحي ؟ فقلت : الوحي وحيان ، قال الله تعالى : { بِمَا (5) أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ } [يوسف : 3] ، وقال [الله] (6) تعالى : { شَيَاطِينَ الإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } قال : فهموا بي أن يأخذوني ، فقلت : ما لكم ذاك ، إني مفتيكم وضيفكم. فتركوني.
وإنما عَرَضَ عِكْرِمة بالمختار - وهو ابن أبي عبيد - قبحه الله ، وكان يزعم أنه يأتيه الوحي ، وقد كانت أخته صفية تحت عبد الله بن عمر وكانت من الصالحات ، ولما أخبر عبد الله بن عمر أن المختار يزعم أنه يوحى إليه قال : صدق ، [قال] (7) الله تعالى : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ } [الأنعام : 121] ، وقوله تعالى : { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } أي : يلقي بعضهم إلى بعض القول المزين المزخرف ، وهو المزوق الذي يغتر سامعه من الجهلة بأمره.
{ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ } أي : وذلك كله بقدر الله وقضائه وإرادته ومشيئته أن يكون لكل نَبيّ عدوّ من هؤلاء.
{ فَذَرْهُمْ } أي : فدعهم ، { وَمَا يَفْتَرُونَ } أي : يكذبون ، أي : دع أذاهم وتوكل على الله في عداوتهم ، فإن الله كافيك وناصرك عليهم.
وقوله تعالى : { وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ } أي : ولتميل إليه - قاله ابن عباس - { أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ } أي : قلوبهم وعقولهم وأسماعهم.
وقال السُّدِّي : قلوب الكافرين ، { وَلِيَرْضَوْهُ } أي : يحبوه ويريدوه. وإنما يستجيب لذلك من لا يؤمن بالآخرة ، كما قال تعالى : { فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ. مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ. إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ } [الصافات : 161 - 163] ، وقال تعالى : { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ. يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } [الذاريات : 8 ، 9].
__________
(1) في م : "وأضلله".
(2) في أ : "في".
(3) صحيح مسلم برقم (510).
(4) في أ : "كان".
(5) في أ : "إنا" وهو خطأ.
(6) زيادة من م ، أ.
(7) زيادة من م.

(3/321)


أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)

وقال السُّدِّي ، وابن زيد : وليعملوا ما هم عاملون.
{ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنزلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) }
يقول [الله] (1) تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء المشركين بالله الذين يعبدون غيره : { أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا } أي : بيني وبينكم ، { وَهُوَ الَّذِي أَنزلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلا } أي : مبينا ، { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ } أي : من اليهود والنصارى ، { يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنزلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } ، أي : بما عندهم من البشارات بك من الأنبياء المتقدمين ، { فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } كقوله { فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [يونس : 94] ، وهذا شرط ، والشرط لا يقتضي وقوعه ؛ ولهذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لا أشك ولا أسأل".
وقوله : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا } قال قتادة : صدقا فيما قال (2) وعدلا فيما حكم.
يقول : صدقا في الأخبار وعدلا في الطلب ، فكل ما أخبر به فحق (3) لا مرية فيه ولا شك ، وكل ما أمر به فهو العدل الذي لا عدل سواه ، وكل ما نهى عنه فباطل ، فإنه لا ينهى إلا عن مَفْسَدة ، كما قال : { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ [وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ] } (4) إلى آخر الآية [الأعراف : 157].
{ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } أي : ليس أحد يُعقِّبُ حكمه تعالى لا في الدنيا ولا في الآخرة ، { وَهُوَ السَّمِيعُ } لأقوال عباده ، { الْعَلِيمُ } بحركاتهم وسكناتهم ، الذي يجازي كل عامل بعمله.
{ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) }
يخبر تعالى عن حال أكثر أهل الأرض من بني آدم أنه الضلال ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأوَّلِينَ } [الصافات : 71] ، وقال تعالى : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [يوسف : 103] ، وهم في ضلالهم ليسوا على يقين من أمرهم ، وإنما هم في ظنون كاذبة وحسبان باطل ، { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ } فإن الخرص هو الحزر ، ومنه خرص النخل ، وهو حَزْرُ ما عليها من التمر وكذلك كله قدر الله ومشيئته ، و { هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ } فييسره لذلك { وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } فييسرهم لذلك ، وكل ميسر لما خلق له.
__________
(1) زيادة من م.
(2) في م ، أ : "وعد".
(3) في أ : "ما أخبر به فهو حق".
(4) زيادة من ، م ، أ.

(3/322)


فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآَيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)

{ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) }

(3/323)


وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)

{ وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) }
هذا (1) إباحة من الله [تعالى] (2) لعباده المؤمنين أن يأكلوا من الذبائح ما ذكر عليه اسمه ، ومفهومه : أنه لا يباح ما لم يذكر اسم الله عليه ، كما كان يستبيحه كفار (3) المشركين من أكل (4) الميتات ، وأكل ما ذبح على النصب وغيرها. ثم ندب إلى الأكل مما ذكر اسم الله عليه ، فقال : { وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } أي : قد بَيَّن لكم ما حَرم عليكم ووضحه.
وقرأ بعضهم : { فَصَّلَ } بالتشديد ، وقرأ آخرون بالتخفيف ، والكل بمعنى البيان والوضوح.
{ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } أي : إلا في حال الاضطرار ، فإنه يباح لكم ما وجدتم.
ثم بين تعالى جهالة المشركين في آرائهم الفاسدة ، من استحلالهم الميتات ، وما ذكر عليه غير اسم الله تعالى : فقال { وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ } أي : هو أعلم باعتدائهم وكذبهم وافترائهم.
{ وَذَرُوا ظَاهِرَ الإثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) }
قال مجاهد : { وَذَرُوا ظَاهِرَ الإثْمِ وَبَاطِنَهُ } معصيته في السر والعلانية - وفي رواية عنه [قال] (5) هو ما ينوى مما هو عامل.
وقال : قتادة : { وَذَرُوا ظَاهِرَ الإثْمِ وَبَاطِنَهُ } أي : قليله وكثيره ، سره وعلانيته (6)
وقال السُّدِّي : ظاهره الزنا مع البغايا ذوات الرايات ، وباطنه : [الزنا] (7) مع الخليلة والصدائق والأخدان.
وقال عِكْرِمة : ظاهره : نكاح ذوات المحارم.
والصحيح أن الآية عامة في ذلك كله ، وهي كقوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا ] (8) } الآية [الأعراف : 33] ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ } أي : سواء كان ظاهرًا أو خفيًا ، فإن الله سيجزيهم عليه.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي ، عن معاوية بن صالح ،
__________
(1) في م : "هذه".
(2) زيادة من م ، وفي أ : "عز وجل".
(3) في أ : "كفار قريش".
(4) في م : "أجل".
(5) زيادة من م ، أ.
(6) في م : "جهره".
(7) زيادة من م ، أ.
(8) زيادة من م ، أ.

(3/323)


وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)

عن عبد الرحمن بن جُبَيْر بن نُفَير ، عن أبيه ، عن النواس بن سمعان قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإثم فقال : "الإثم ما حاك في صدرك ، وكرهت أن يطلع الناس عليه" (1)
{ وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) }
استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب إلى أنه لا تحل الذبيحة التي لم يذكر اسم الله عليها ، ولو كان الذابح مسلما ، وقد اختلف الأئمة ، رحمهم الله ، في هذه المسألة على ثلاثة أقوال :
فمنهم من قال : لا تحل هذه الذبيحة بهذه الصفة ، وسواء متروك التسمية عمدًا أو سهوًا. وهو مروي عن ابن عمر ، ونافع مولاه ، وعامر الشعبي ، ومحمد بن سيرين. وهو رواية عن الإمام مالك ، ورواية عن أحمد بن حنبل نصرها طائفة من أصحابه المتقدمين والمتأخرين ، وهو اختيار أبي ثور ، وداود الظاهري ، واختار ذلك أبو الفتوح محمد بن محمد بن علي الطائي (2) من متأخري الشافعية في كتابه "الأربعين" ، واحتجوا لمذهبهم هذا بهذه الآية ، وبقوله في آية الصيد : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } [المائدة : 4]. ثم قد أكد في هذه الآية بقوله : { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } والضمير قيل : عائد على الأكل ، وقيل : عائد على الذبح لغير الله - وبالأحاديث الواردة في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد ، كحديثي عدي بن حاتم وأبي ثعلبة : "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل ما أمسك عليك". وهما في الصحيحين ، وحديث رافع بن خُدَيْج. "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه". وهو في الصحيحين أيضًا ، وحديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للجن : "لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه" (3) رواه مسلم. وحديث جُنْدَب بن سفيان البَجَلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من ذبح قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى ، ومن لم يكن ذبح حتى صلينا فليذبح باسم الله". أخرجاه (4) وعن عائشة ، رضي الله عنها ، أن ناسا قالوا : يا رسول الله ، إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري : أذكر اسم الله عليه أم لا ؟ قال : "سموا عليه أنتم وكلوا". قالت : وكانوا حديثي عهد بالكفر. رواه البخاري. ووجه الدلالة أنهم فهموا أن التسمية لا بد منها ، [وأنهم] (5) خشوا ألا تكون وجدت من أولئك ، لحداثة إسلامهم ، فأمرهم بالاحتياط بالتسمية عند الأكل ، لتكون كالعوض عن المتروكة عند الذبح إن لم تكن وجدت ، وأمرهم بإجراء أحكام المسلمين على السداد ، والله [تعالى] (6) أعلم.
والمذهب الثاني في المسألة : أنه لا يشترط التسمية ، بل هي مستحبة ، فإن تركت عمدًا أو نسيانًا لم تضر (7) وهذا مذهب الإمام الشافعي ، رحمه الله ، وجميع أصحابه ، ورواية عن الإمام أحمد. نقلها
__________
(1) ورواه مسلم في صحيحه برقم (2553) من طريق عبد الرحمن بن مهدي به.
(2) في أ : "الظاهري".
(3) صحيح مسلم برقم (450).
(4) صحيح البخاري برقم (985) وصحيح مسلم برقم (1960).
(5) زيادة من م.
(6) زيادة من م.
(7) في م : "لم تضره".

(3/324)


عنه حنبل. وهو رواية عن الإمام مالك ، ونص على ذلك أشهب بن عبد العزيز من أصحابه ، وحكي عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، وعطاء بن أبي رباح ، والله أعلم.
وحمل الشافعي الآية الكريمة : { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } على ما ذبح لغير الله ، كقوله تعالى { أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } [الأنعام : 145].
وقال ابن جُرَيْج ، عن عطاء : { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } قال : ينهى عن ذبائح كانت تذبحها قريش عن الأوثان ، وينهى عن ذبائح المجوس ، وهذا المسلك الذي طرقه الإمام الشافعي [رحمه الله] (1) قوي ، وقد حاول بعض المتأخرين أن يقويه بأن جعل "الواو" في قوله : { وإِنَّهُ لَفِسْقٌ } حالية ، أي : لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه في حال كونه فسقًا ، ولا يكون فسقا حتى يكون قد أهل به لغير الله. ثم ادعى أن هذا متعين ، ولا يجوز أن تكون "الواو" عاطفة. لأنه يلزم منه عطف جملة إسمية خبرية على جمله فعلية طلبية. وهذا ينتقض عليه بقوله : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ } فإنها عاطفة لا محاولة ، فإن كانت "الواو" التي (2) ادعى أنها حالية صحيحة على ما قال ؛ امتنع عطف هذه عليها ، فإن عطفت (3) على الطلبية ورد عليه ما أورد على غيره ، وإن لم تكن "الواو" حالية ، بطل ما قال من أصله ، والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا يحيى بن المغيرة ، أنبأنا جرير ، عن عطاء ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قوله : { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } قال : هي الميتة.
ثم رواه ، عن أبي زُرْعَة ، عن يحيى بن أبي كثير (4) عن ابن لَهِيعَة ، عن عطاء - وهو ابن السائب - به.
وقد استدل لهذا المذهب بما رواه أبو داود في المراسيل ، من حديث ثور بن يزيد ، عن الصلت السدوسي - مولى سُوَيْد بن مَنْجوف (5) أحد التابعين الذين ذكرهم أبو حاتم بن حبان في كتاب الثقات - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ذَبِيحَة المسلم حلال ذُكِر اسمُ اللهِ أو لم يُذْكَرْ ، إنه إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله" (6)
وهذا مرسل يعضد بما رواه الدارقطني عن ابن عباس أنه قال : إذا ذبح المسلم - ولم يذكر اسم الله فليأكل ، فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله" (7)
واحتج البيهقي أيضًا بحديث عائشة ، رضي الله عنها ، المتقدم أن ناسا قالوا : يا رسول الله ، إن قوما حديثي عهد بجاهلية يأتونا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا ؟ فقال : "سَمّوا أنتم وكُلُوا". قال : فلو كان وجود التسمية شرطا لم يرخص لهم إلا مع تحققها ، والله أعلم.
المذهب الثالث في المسألة : [أنه] (8) إن ترك البسملة على الذبيحة نسيانا لم يضر وإن تركها عمدًا لم تحل.
__________
(1) زيادة من م ، أ.
(2) في م : "الذي".
(3) في م : "عطف".
(4) في م : "يحيى بن بكر".
(5) في م ، أ : "ميمون".
(6) المراسيل برقم (378) ورواه البيهقي في السنن الكبرى (9/240) من طريق أبي داود به. وقال ابن القطان كما في نصب الراية (4/183) : "فيه مع الإرسال أن الصلت السدوسي لا يعرف له حال ولا يعرف بغير هذا ، ولا روى عنه غير ثور بن يزيد".
(7) سنن الدارقطني (4/295) وقد روى مرفوعا ، ورجح البيهقي وقفه وصححه ابن السكن.
(8) زيادة من أ.

(3/325)


هذا هو المشهور من مذهب الإمام مالك ، وأحمد بن حنبل ، وبه يقول أبو حنيفة وأصحابه ، وإسحاق بن راهويه : وهو محكي عن علي ، وابن عباس ، وسعيد بن المُسَيَّب ، وعَطَاء ، وطاوس ، والحسن البصري ، وأبي مالك ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى ، وجعفر بن محمد ، وربيعة بن أبي عبد الرحمن.
ونقل الإمام أبو الحسن المرغيناني في كتابه "الهداية" الإجماع - قبل الشافعي على تحريم متروك التسمية عمدا ، فلهذا قال أبو يوسف والمشايخ : لو حكم حاكم بجواز بيعه لم ينفذ لمخالفة الإجماع.
وهذا الذي قاله غريب جدًا ، وقد تقدم نقل الخلاف عمن قبل الشافعي ، والله أعلم.
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : من حرم ذبيحة الناسي ، فقد خرج من قول جميع الحجة ، وخالف الخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك (1)
يعني ما رواه الحافظ أبو بكر البيهقي : أنبأنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا أبو العباس الأصم ، حدثنا أبو أمية الطرسوسي ، حدثنا محمد بن يزيد ، حدثنا معقل بن عبيد الله ، عن عمرو بن دينار ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "المسلم يكفيه اسمه ، إن نسي أن يسمي حين يذبح ، فليذكر اسم الله وليأكله" (2)
وهذا الحديث رفعه خطأ ، أخطأ فيه معقل بن عبيد الله الجزيري (3) فإنه (4) وإن كان من رجال مسلم إلا أن سعيد بن منصور ، وعبد الله بن الزبير الحميدي روياه عن سفيان بن عيينة ، عن عمرو ، عن أبي الشعثاء ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس ، من قوله. فزادا في إسناده "أبا الشعثاء" ، ووقفا (5) والله [تعالى] (6) أعلم. وهذا أصح ، نص عليه البيهقي [وغيره من الحفاظ] (7)
وقد نقل ابن جرير وغيره. عن الشعبي ، ومحمد بن سيرين ، أنهما كرها متروك التسمية نسيانا ، والسلف يطلقون الكراهية على التحريم كثيرا ، والله أعلم. إلا أن من قاعدة ابن جرير أنه لا يعتبر قول الواحد ولا الاثنين مخالفا لقول الجمهور ، فيعده إجماعا ، فليعلم هذا ، والله الموفق.
قال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا أبو أسامة ، عن جَهِير بن يزيد قال : سئل الحسن ، سأله رجل أتيت بطير كَرًى (8) فمنه ما قد ذبح فذكر اسم الله عليه ، ومنه ما نسي أن يذكر اسم الله عليه ، واختلط الطير ، فقال الحسن : كله ، كله. قال : وسألت محمد بن سيرين فقال : قال الله [تعالى] (9) { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ }
واحتج لهذا المذهب بالحديث المروي من طرق عند ابن ماجه ، عن ابن عباس ، وأبي هريرة ، وأبي ذر (10) وعقبة بن عامر ، وعبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما استكرهوا عليه" (11) وفيه نظر ، والله أعلم.
وقد روى الحافظ أبو أحمد بن عدي ، من حديث مروان بن سالم القرقساني ، عن الأوزاعي ، عن
__________
(1) تفسير الطبري (12/53).
(2) السنن الكبرى (9/240).
(3) في م : "الخوزني" ، وفي أ : "الجزري".
(4) في م : "وإنه".
(5) في م ، أ : "ووقفاه".
(6) زيادة من م.
(7) زيادة من م ، أ.
(8) في م ، أ : "بطير كذا".
(9) زيادة من م ، أ.
(10) في م : "وعن أبي ذر".
(11) رواه ابن ماجة في السنن برقم (2045) من طريق الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس ، رضي الله عنه ، ورواه ابن ماجة في السنن برقم (2044) من طريق قتادة ، عن زرارة بن أبي أوفى ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، ورواه ابن ماجة في السنن برقم (2043) من طريق أبي بكر الهذلي ، عن شهر بن حوشب ، عن أبي ذر الغفاري ، رضي الله عنه. قال البوصيري في الزوائد (2/130) : "إسناده ضعيف". ورواه البيهقي في السنن الكبرى (7/356) من طريق ابن لهيعة ، عن موسى بن وردان ، عن عقبة بن عامر ، رضي الله عنه ، أما من حديث عبد الله بن عمرو فلم أجده ، وقد جاء من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رواه أبو نعيم في الحلية (6/352).

(3/326)


يحيى بن أبي كثير ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "اسم الله على كل مسلم" (1)
ولكن هذا إسناده (2) ضعيف ، فإن مروان بن سالم القرقساني أبا عبد الله الشامي ، ضعيف ، تكلم فيه غير واحد من الأئمة ، والله أعلم.
وقد أفردت هذه المسألة على حدة ، وذكرت مذاهب (3) الأئمة ومآخذهم وأدلتهم ، ووجه الدلالات والمناقضات والمعارضات (4) ، والله أعلم.
قال ابن جرير : وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية : هل نسخ من حكمها شيء أم لا ؟ فقال بعضهم : لم ينسخ منها شيء وهي محكمة فيما عُنيت به. وعلى هذا قول عامة أهل العلم.
وروي عن الحسن البصري وعكرمة. ما حدثنا به ابن حُميد ، حدثنا يحيى بن واضح ، عن الحسين بن واقد ، عن عكرمة والحسن البصري قالا قال الله : { فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ } وقال { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } فنسخ واستثنى من ذلك فقال : { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ } [المائدة : 5].
وقال ابن أبي حاتم : قرئ علي العباس بن الوليد بن مزيد (5) ، حدثنا محمد بن شعيب ، أخبرني النعمان - يعني ابن المنذر - عن مكحول قال : أنزل الله في القرآن : { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } ثم نسخها الرب ورحم المسلمين فقال : { الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } فنسخها بذلك وأحل طعام أهل الكتاب.
ثم قال ابن جرير : والصواب أنه لا تعارض بين حل طعام أهل الكتاب ، وبين تحريم ما لم يذكر اسم الله عليه.
وهذا الذي قاله صحيح ، ومن أطلق من السلف النسخ هاهنا فإنما أراد التخصيص ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
(1) الكامل لابن عدي (6/385).
(2) في أ : "إسناد".
(3) في أ : "مذهب".
(4) والراجح في هذه المسألة والله أعلم ، ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية ، رحمه الله ، في وجوب التسمية مطلقا ، فى تؤكل الذبيحة بدونها سواء تركها عمدا أو سهوا ، قال : "وهذا أظهر الأقوال ، فإن الكتاب والسنة قد علق الحل بذكر اسم الله في غير موضع" انظر كلامه في : مجموع الفتاوى (35/239).
(5) في أ : "يزيد".

(3/327)


وقوله تعالى : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ } قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن أبي إسحاق قال : قال رجل لابن عمر : إن المختار يزعم أنه يوحى إليه ؟ قال : صدق ، وتلا هذه الآية : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ }
وحدثنا أبي ، حدثنا أبو حذيفة ، حدثنا عكرمة بن عمار ، عن أبي زُمَيْل قال : كنت قاعدًا عند ابن عباس ، وحج المختار ابن أبي عبيد ، فجاءه (1) رجل فقال : يا ابن عباس ، وزعم أبو إسحاق أنه أوحي (2) إليه الليلة ؟ فقال ابن عباس : صدق ، فنفرت وقلت : يقول ابن عباس صدق. فقال ابن عباس : هما وحيان ، وحي الله ، ووحي الشيطان ، فوحي الله [عَزَّ وجل] (3) إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، ووحي الشيطان إلى أوليائه ، ثم قرأ : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ (4) لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ }
وقد تقدم عن عكرمة في قوله : { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا } نحو هذا.
وقوله [تعالى] (5) : { لِيُجَادِلُوكُمْ } قال ابن أبي حاتم : : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا عمران بن عيينة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَيْر قال : خاصمت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : نأكل مما قتلنا ، ولا نأكل مما قتل الله ؟ فأنزل الله : { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ }
هكذا رواه مرسلا ورواه أبو داود متصلا فقال : حدثنا عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا عمران بن عيينة ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : جاءت اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله ؟ فأنزل الله : { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ] } (6).
وكذا رواه ابن جَرير ، عن محمد بن عبد الأعلى وسفيان (7) بن وَكِيع ، كلاهما عن عمران بن عيينة ، به.
ورواه البزار ، عن محمد بن موسى الحَرَشي ، عن عمران بن عيينة ، به. (8) وهذا فيه نظر من وجوه ثلاثة : أحدها :
أن اليهود لا يرون إباحة الميتة حتى يجادلوا.
الثاني : أن الآية من الأنعام ، وهي مكية.
الثالث : أن هذا الحديث رواه الترمذي ، عن محمد بن موسى الحَرَشِي ، عن زياد بن عبد الله البكائي ، عن عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس. ورواه الترمذي بلفظ (9) : أتى
__________
(1) في أ : "فدعاه".
(2) في أ : "يوحى".
(3) زيادة من أ.
(4) في هـ : "الشيطان".
(5) زيادة من م.
(6) زيادة من أ.
(7) في م : "سعيد" هو خطأ.
(8) سنن أبي داود برقم (2819) وتفسير الطبري (12/82).
(9) في م ، أ : "بلفظ قال".

(3/328)


ناس النبي صلى الله عليه وسلم فذكره وقال : حسن غريب ، رُوي عن سعيد بن جبير مرسلا (1).
وقال الطبراني : حدثنا علي بن المبارك ، حدثنا زيد بن المبارك ، حدثنا موسى بن عبد العزيز ، حدثنا الحكم بن أبان ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : لما نزلت { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } أرسلت فارس إلى قريش : أن خاصموا محمدًا وقولوا له : كَمَا تذبح أنت بيدك بسكين فهو حلال ، وما ذبح الله ، عَزَّ وجل ، بشمشير من ذهب - يعني الميتة - فهو حرام. فنزلت هذه الآية : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } قال : الشياطين من فارس ، وأوليائهم [من] (2) قريش (3).
وقال أبو داود : حدثنا محمد بن كثير ، أخبرنا إسرائيل ، حدثنا سِماك ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ } يقولون : ما ذبح الله فلا تأكلوه. وما ذبحتم أنتم فكلوه ، فأنزل الله : { وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ }
ورواه ابن ماجه وابن أبي حاتم ، عن عمرو بن عبد الله ، عن وكيع ، عن إسرائيل ، به (4). وهذا إسناد صحيح.
ورواه ابن جرير من طرق متعددة ، عن ابن عباس ، وليس فيه ذكر اليهود ، فهذا هو المحفوظ (5) ، والله أعلم.
وقال ابن جُرَيْج : قال عمرو بن دينار ، عن عكرمة : إن مشركي قريش كاتبوا فارس على الروم ، وكاتبتهم فارس ، وكتب فارس إلى مشركي قريش : أن محمدًا وأصحابه يزعمون أنهم يتبعون أمر الله ، فما ذبح الله بسكين من ذهب فلا يأكله محمد وأصحابه - للميتة وما (6) ذبحوه هم يأكلون. فكتب بذلك المشركون إلى أصحاب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء ، فأنزل الله (7) : { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ [إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ] } (8) ونزلت : { يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا }
وقال السُّدِّي في تفسير هذه الآية : إن المشركين قالوا للمؤمنين : كيف تزعمون أنكم تتبعون مرضاة الله ، وما ذبح الله فلا تأكلونه ، وما ذبحتم أنتم أكلتموه ؟ فقال الله : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ } فأكلتم الميتة { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }
وهكذا قاله مجاهد ، والضحاك ، وغير واحد من علماء السلف ، رحمهم الله.
وقوله تعالى : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } أي : حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره ، فقدمتم عليه غيره فهذا هو الشرك ، كما قال تعالى : { اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ] } (9) [التوبة : 31].
__________
(1) سنن الترمذي برقم (3069).
(2) زيادة من أ.
(3) المعجم الكبير للطبراني (11/241).
(4) سنن أبي داود برقم (2818) وسنن ابن ماجة برقم (3173).
(5) رواه الطبري في تفسيره (12/78).
(6) في م : "وأما".
(7) في م ، أ : "فنزلت".
(8) زيادة من م ، أ. وفي هـ : "الآية".
(9) زيادة من م ، أ ، وفي هـ : "الآية".

(3/329)


أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)

وقد روى الترمذي في تفسيرها ، عن عدي بن حاتم أنه قال : يا رسول الله ، ما عبدوهم ، فقال : "بل إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال ، فاتبعوهم ، فذلك عبادتهم إياهم" (1).
{ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) }
هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن الذي كان ميتا ، أي : في الضلالة ، هالكًا حائرًا ، فأحياه الله ، أي : أحيا قلبه بالإيمان ، وهداه له ووفقه لاتباع رسله. { وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ } أي : يهتدي [به] (2) كيف يسلك ، وكيف يتصرف به. والنور هو : القرآن ، كما رواه العَوْفي وابن أبي طلحة ، عن ابن عباس. وقال السُّدِّي : الإسلام. والكل صحيح.
{ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ } (3) أي : الجهالات والأهواء والضلالات المتفرقة ، { لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } أي : لا يهتدي إلى منفذ ، ولا مخلص (4) مما هو فيه ، [وفي مسند الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم رش عليهم من نوره فمن أصابه ذلك النور اهتدى ومن أخطأه ضل"] (5) كما قال تعالى : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [البقرة : 257]. و [كما] (6) قال تعالى : { أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الملك : 22] ، وقال تعالى : { مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأعْمَى وَالأصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أَفَلا تَذَكَّرُونَ } [هود : 24] ، وقال تعالى : { وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأحْيَاءُ وَلا الأمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ * إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ } [فاطر : 19 - 23]. والآيات في هذا كثيرة ، ووجه المناسبة في ضرب المثلين هاهنا بالنور والظلمات ، ما (7) تقدم في أول السورة : { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } [الأنعام : 1].
وزعم (8) بعضهم أن المراد بهذا المثل رجلان معينان ، فقيل : عمر بن الخطاب هو الذي كان ميتًا فأحياه الله ، وجعل له نورًا يمشي به في الناس. وقيل : عمار بن ياسر. وأما الذي في الظلمات ليس بخارج منها : أبو جهل عمرو بن هشام ، لعنه الله. والصحيح أن الآية عامة ، يدخل فيها كل مؤمن وكافر.
__________
(1) سنن الترمذي برقم (3095) من طريق عبد السلام بن حرب ، عن غطيف بن أعين ، عن مصعب بن سعد ، عن عدي بن حاتم ، رضي الله عنه ، قال الترمذي : "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب ، وغطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث".
(2) زيادة من أ.
(3) في م : "في الظلمات ليس بخارج منها".
(4) في م : "ولا يخلص".
(5) زيادة من م ، أ.
(6) زيادة من م ، أ.
(7) في أ : "لما".
(8) في م : "وقد زعم".

(3/330)


وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)

وقوله تعالى : { كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : حسنا لهم ما هم فيه من الجهالة والضلالة ، قدرا من الله وحكمة بالغة ، لا إله إلا هو [ولا رب سواه] (1).
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) }
يقول تعالى : وكما جعلنا في قريتك - يا محمد - أكابر من المجرمين ، ورؤساء ودعاة إلى الكفر والصد عن سبيل الله ، وإلى مخالفتك وعداوتك ، كذلك كانت الرسل من قبلك يُبْتَلون بذلك ، ثم تكون لهم العاقبة ، كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ [وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا ] (2) } [الفرقان : 31] ، وقال تعالى : { وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا [فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا] (3) } [الإسراء : 16] ، قيل : معناه : أمرناهم بالطاعات ، فخالفوا ، فدمرناهم. وقيل : أمرناهم أمرا قدريا ، كما قال هاهنا : { لِيَمْكُرُوا فِيهَا }
وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : { أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا } قال : سَلَّطنا شرارها فعصوا فيها ، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم بالعذاب.
وقال مجاهد وقتادة : { أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا } قال عظماؤها.
قلت : وهذا كقوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ * وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [سبأ : 34 ، 35] ، وقال تعالى : { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } [الزخرف : 23].
والمراد بالمكر هاهنا دعاؤهم إلى الضلالة بزخرف من المقال والفعال ، كما قال تعالى إخبارًا عن قوم نوح : { وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا } [نوح : 22] ، وقال تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا [وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ] } (4) [سبأ : 31 - 33].
__________
(1) زيادة من م ، وفي أ : "وحده لا شريك له".
(2) زيادة من م ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(3) زيادة من م ، أ ، وفي هـ : الآية".
(4) زيادة من م ، أ ، وفي هـ : "الآية".

(3/331)


وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابنُ أبي عمر ، حدثنا سفيان قال : كل مكر في القرآن فهو عمل.
وقوله : { وَمَا يَمْكُرُونَ إِلا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } أي : وما يعود وبال مكرهم ذلك وإضلالهم من أضلوه إلا على أنفسهم ، كم قال تعالى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ } [العنكبوت : 13] ، وقال { وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ } [النحل : 25].
وقوله : { وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ } أي : إذا جاءتهم آية وبرهان وحجة قاطعة ، قالوا : { لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ } أي : حتى تأتينا الملائكة من الله بالرسالة ، كما تأتي إلى الرسل ، كقوله ، جل وعلا { وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا [لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا ] (1) } [الفرقان : 21].
وقوله : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } أي : هو أعلم حيث يضع رسالته ومن يصلح لها من خلقه ، كما قال تعالى : { وَقَالُوا لَوْلا نزلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّك } الآية [الزخرف : 31 ، 32] يعنون : لولا نزل هذا القرآن على رجل عظيم كبير مبجل في أعينهم { مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ } أي : مكة والطائف. وذلك لأنهم - قبحهم الله - كانوا يزدرون بالرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، بغيًا وحسدًا ، وعنادًا واستكبارًا ، كما قال تعالى مخبرًا عنهم : { وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ } [الأنبياء : 36] ، وقال تعالى : { وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولا } [الفرقان : 41] ، وقال تعالى : { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [الأنعام : 10]. هذا وهم يعترفون بفضله وشرفه ونسبه. وطهارة بيته ومرباه ومنشئه ، حتى أنهم كانوا يسمونه بينهم قبل أن يوحى إليه : "الأمين" ، وقد اعترف بذلك رئيس الكفار "أبو سفيان" حين سأله "هرقل" ملك الروم : كيف نسبه فيكم ؟ قال : هو فينا ذو نسب. قال : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال : لا الحديث بطوله الذي استدل به ملك الروم بطهارة (2) صفاته ، عليه السلام ، على صدقه ونبوته وصحة ما جاء به.
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن مُصعب ، حدثنا الأوزاعي ، عن شَدَّاد أبي عمار ، عن واثلة بن الأسقع ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل ، واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة ، واصطفى من بني كنانة قريشا ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم".
انفرد بإخراجه مسلم من حديث الأوزاعي - وهو عبد الرحمن بن عمرو إمام أهل الشام ، به نحوه (3).
__________
(1) زيادة من م ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(2) في أ : "بظاهر".
(3) المسند (4/107) وصحيح مسلم برقم (2276).

(3/332)


وفي صحيح البخاري ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بُعِثت من خير قُرون بني آدم قَرْنًا فقرنًا ، حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه" (1).
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو نُعَيم ، عن سفيان ، عن يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الله بن الحارث ابن نوفل ، عن المطلب بن أبي وداعة قال : قال العباس : بلغه صلى الله عليه وسلم بعضُ ما يقول الناس ، فصعد المنبر فقال : "من أنا ؟". قالوا : أنت رسول الله. قال : "أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه ، وجعلهم فرقتين (2) فجعلني في خير فرقة ، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة. وجعلهم بيوتا فجعلني في خيرهم بيتًا ، فأنا خيركم بيتًا وخيركم نفسا" (3). صدق صلوات الله وسلامه عليه.
وفي الحديث أيضا المروي عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قال لي جبريل : قلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلا أفضل من محمد ، وقلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم". رواه الحاكم والبيهقي (4). وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو بكر ، حدثنا عاصم ، عن زِرِّ بن حُبَيْش ، عن عبد الله بن مسعود [رضي الله عنه] (5) قال : إن الله نظر في قلوب العباد ، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد ، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته. ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم ، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد ، فجعلهم وزراء نبيه ، يقاتلون على دينه ، فما رآى المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن ، وما رأوا سيئًا فهو عند الله سيئ (6).
وقال أحمد : حدثنا شُجاع بن الوليد قال : ذكر قابوس بن أبي ظبيان ، عن أبيه ، عن سلمان قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا سلمان ، لا تبغضني فتفارق دينك". قلت : يا رسول الله ، كيف أبْغِضُك وبك هدانا الله ؟ قال : "تبغض العرب فتبغضني" (7).
وذكر (8) ابن أبي حاتم في تفسير هذه الآية : ذُكِرَ عن محمد بن منصور الجواز ، حدثنا سفيان ، عن ابن أبي حسين قال : أبصر رجل ابن عباس وهو يدخل من باب المسجد فلما نظر إليه راعه ،
__________
(1) صحيح البخاري برقم (3557).
(2) في م ، أ : "فريقين".
(3) المسند (1/210).
(4) دلائل النبوة للبيهقي (1/176) من طريق موسى بن عبيدة ، عن عمرو بن عبد الله ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن عائشة به ، ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (3511) "مجمع البحرين" من طريق موسى بن عبيدة الربذي به. قال الهيثمي في المجمع (8/217) : "فيه موسى بن عبيدة االربذي وهو ضعيف".
(5) زيادة من أ.
(6) المسند (1/379).
(7) المسند (5/440) ورواه الترمذي في السنن برقم (3927) والحاكم في المستدرك (4/86) والطبراني في المعجم الكبير (6/238) من طريق شجاع بن الوليد عن قابوس به. قال الترمذي : "حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي بدر شجاع بن الوليد ، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول : أبو ظبيان لم يدرك سلمان ، مات سلمان قبل علي".
(8) في م ، أ : "وقال".

(3/333)


فقال : من هذا ؟ قالوا : ابن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ }
وقوله تعالى : { سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ [بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ] } (1) هذا وعيد شديد من الله وتهديد أكيد ، لمن تكبر عن اتباع رسله والانقياد لهم (2) فيما جاؤوا به ، فإنه سيصيبه يوم القيامة بين يدي الله { صَغَارٌ } وهو الذلة الدائمة ، لما (3) أنهم استكبروا أعقبهم ذلك ذُلا كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [غافر : 60] أي : صاغرين ذليلين حقيرين.
وقوله : { وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ } لما كان المكر غالبا إنما يكون خفيا ، وهو التلطف في التحيل والخديعة ، قوبلوا بالعذاب الشديد جزاء وفاقا ، { وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [الكهف : 49] ، كما قال تعالى : { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ } [الطارق : 9] أي : تظهر المستترات والمكنونات والضمائر. وجاء في الصحيحين ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "يُنْصَب لكل غادر لواء عند اسُتِه يوم القيامة ، فيقال : هذه غَدْرة فلان ابن فلان" (4).
والحكمة في هذا أنه لما كان الغدر خَفِيَّا لا يطلع عليه الناس ، فيوم القيامة يصير عَلَمًا منشورًا على صاحبه بما فعل.
__________
(1) زيادة من م ، أ. وفي هـ : "الآية".
(2) في أ : "إليهم".
(3) في أ : "كما".
(4) رواه البخاري في صحيحه برقم (7111) ومسلم في صحيحه برقم (1735) من حديث عبد الله بن عمر ، رضي الله عنه.

(3/334)


فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)

{ فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) }
يقول تعالى : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ } أي : ييسره له وينشطه ويسهله لذلك ، فهذه علامة على الخير ، كقوله تعالى : { أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ] (1) } [الزمر : 22] ، وقال تعالى : { وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ } [الحجرات : 7].
قال ابن عباس : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ } يقول : يوسع قلبه للتوحيد والإيمان به وكذا قال أبو مالك ، وغير واحد. وهو ظاهر.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا الثوري ، عن عمرو بن قيس ، عن عمرو بن مُرَّة ، عن أبي جعفر قال : سُئل النبي صلى الله عليه وسلم : أيّ المؤمنين أكيس ؟ قال : "أكثرهم ذكرًا للموت ، وأكثرهم (2) لما بعده استعدادًا". قال :
__________
(1) زيادة من م ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(2) في أ : "وأحسنهم".

(3/334)


وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ } وقالوا : كيف يشرح صدره يا رسول الله ؟ قال : "نور يُقْذَف فيه ، فينشرح له وينفسح". قالوا : فهل لذلك من أمارة يُعرف بها ؟ قال : "الإنابة إلى دار الخُلُود ، والتَّجَافِي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت" (1).
وقال ابن جرير : حدثنا هَنَّاد ، حدثنا قَبِيصَة ، عن سفيان - يعني الثوري - عن عمرو بن مُرَّة ، عن رجل يكنى أبا جعفر كان يسكن المدائن ، قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ [يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ ] } (2) فذكر نحو ما تقدم (3).
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا ابن إدريس ، عن الحسن بن الفرات القزاز ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي جعفر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا دخل الإيمان القلب انفسح له القلب وانشرح (4) قالوا : يا رسول الله ، هل لذلك من أمارة ؟ قال : "نعم ، الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل الموت".
وقد رواه ابن جرير عن سوار بن عبد الله العنبري ، حدثنا المعتمر بن سليمان ، سمعت أبي يحدث عن عبد الله بن مرة ، عن أبي جعفر فذكره (5).
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن عمرو بن قَيْس ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن المِسْوَر قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ } قالوا : : يا رسول الله ، ما هذا الشرح ؟ قال : "نور يقذف به في القلب". قالوا : يا رسول الله ، فهل لذلك من أمارة (6) ؟ قال "نعم" قالوا : وما هي ؟ قال : "الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل الموت" (7).
وقال ابن جرير أيضا : حدثني هلال بن العلاء ، حدثنا سعيد بن عبد الملك بن واقد ، حدثنا محمد بن سَلمَة ، عن أبي عبد الرحيم (8) عن زيد بن أبي أنَيْسة ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي عبيدة ابن عبد الله بن مسعود [رضي الله عنه] (9) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا دخل النور القلب انفسح وانشرح". قالوا : فهل لذلك من علامة يعرف بها ؟ قال : "الإنابة إلى دار الخلود ، والتنحي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل لُقي الموت" (10).
__________
(1) تفسير عبد الرزاق (1/210) ورواه الطبري في تفسيره (12/99) من طريق عبد الرزاق به.
(2) زيادة من أ.
(3) تفسير الطبري (12/100).
(4) في م : "وانشرح صدره".
(5) تفسير الطبري (12/98).
(6) في أ : "من أمارة تعرف".
(7) ورواه سعيد بن منصور وابن جرير والبيهقي في الأسماء والصفات كما في الدر المنثور (3/355).
(8) في م ، أ : "عبد الرحمن".
(9) زيادة من أ.
(10) رواه البيهقي في الزهد الكبير برقم (974) من طريق زيد بن أبي أنيسة به.

(3/335)


وقد رواه [ابن جرير] (1) من وجه آخر ، عن ابن مسعود متصلا مرفوعًا فقال : حدثني بن سِنان القزاز ، حدثنا محبوب بن الحسن الهاشمي ، عن يونس ، عن عبد الرحمن بن عبيد الله بن عتبة ، عن عبد الله بن مسعود ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإسْلامِ } قالوا : يا رسول الله ، وكيف يُشْرَح صدره ؟ قال : "يدخل الجنة فينفسح". قالوا : وهل لذلك (2) علامة يا رسول الله ؟ قال : "التجافي عن دار الغرور ، والإنابة إلى دار الخلود ، والاستعداد للموت قبل أن ينزل الموت" (3).
فهذه طرق لهذا الحديث مرسلة ومتصلة ، يشد بعضها بعضا ، والله أعلم.
وقوله تعالى : { وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا [كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ] } (4) قرئ بفتح الضاد وتسكين الياء ، والأكثرون : { ضَيِّقًا } بتشديد الياء وكسرها ، وهما لغتان : كَهَيْن وهَيّن. وقرأ بعضهم : { حَرَجًا } بفتح الحاء وكسر الراء ، قيل : بمعنى آثم. وقال (5) السُّدِّي. وقيل : بمعنى القراءة الأخرى { حَرَجًا } بفتح الحاء والراء ، وهو الذي لا يتسع لشيء من الهدى ، ولا يخلص إليه شيء ما ينفعه من الإيمان ولا ينفذ فيه.
وقد سأل عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، رجلا من الأعراب من أهل البادية من مُدْلج : ما الحرجة ؟ قال (6) هي الشجرة تكون بين الأشجار لا تصل إليها راعية ، ولا وحشية ، ولا شيء. فقال عمر ، رضي الله عنه : كذلك قلب المنافق لا يصل (7) إليه (8) شيء من الخير (9).
وقال العَوْفي عن ابن عباس : يجعل الله عليه الإسلام ضيقًا ، والإسلام واسع. وذلك حين يقول : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج : 78] ، يقول : ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق.
وقال مجاهد والسُّدِّي : { ضَيِّقًا حَرَجًا } شاكا. وقال عطاء الخراساني : { ضَيِّقًا حَرَجًا } ليس للخير فيه منفذ. وقال ابن المبارك ، عن ابن جُرَيْج { ضَيِّقًا حَرَجًا } بلا إله إلا الله ، حتى لا تستطيع أن تدخله ، كأنما يصعد في السماء من شدة ذلك عليه. وقال سعيد بن جُبَيْر : يجعل صدره { ضَيِّقًا حَرَجًا } قال : لا يجد فيه مسلكا إلا صُعدا.
وقال السُّدِّي : { كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } من ضيق صدره.
وقال عطاء الخراساني : { كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } يقول : مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد
__________
(1) زيادة من م.
(2) في م : "لذلك من".
(3) ورواه الحاكم في المستدرك (4/311) وابن أبي الدنيا في الموت ومن طريقه البيهقي في شعب الإيمان برقم (10552) من طريق عدي ابن الفضل ، عن المسعودي ، عن القاسم ، عن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن ابن مسعود بنحوه.
قاال الذهبي في تلخيص المستدرك : "عدى ساقط".
(4) زيادة من أ.
(5) في أ : "قاله"
(6) في أ : "فقال"
(7) في د : لا تصل".
(8) في أ : "إلى".
(9) رواه الطبري في تفسيره (12/104).

(3/336)


وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)

في السماء. وقال الحكم بن أبان عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس : { كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } يقول : فكما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء ، فكذلك لا يستطيع أن يدخل التوحيد والإيمان قلبه ، حتى يدخله الله في قلبه.
وقال الأوزاعي : { كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } كيف يستطيع من جعل الله صدره ضيقا أن يكون مسلما.
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : وهذا مثل ضربه الله لقلب هذا الكافر في شدة تضيقه إياه عن وصول الإيمان إليه. يقول : فمثله في امتناعه من قبول الإيمان وضيقه عن وصوله إليه ، مثل امتناعه من الصعود إلى السماء وعجزه عنه ؛ لأنه ليس في وسعه وطاقته.
وقال في قوله : { كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ } يقول : كما يجعل الله صدر من أراد إضلاله ضيقا حرجا ، كذلك يسلط الله الشيطان عليه وعلى أمثاله ممن أبى الإيمان بالله ورسوله ، فيغويه ويصده عن سبيل الله (1).
قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : الرجس : الشيطان. وقال مجاهد : الرجس : كل ما لا خير فيه. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الرجس : العذاب.
{ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127) }
لما ذكر تعالى طريقة (2) الضالين عن سبيله ، الصادين عنها ، نبه على أشرف ما أرْسل به رسوله من الهدى ودين الحق (3) فقال : { وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا } منصوب على الحال ، أي : هذا الدين الذي شرعناه لك يا محمد بما أوحينا إليك هذا القرآن ، وهو صراط الله المستقيم ، كما تقدم في حديث الحارث ، عن علي [رضي الله عنه] (4) في نعت القرآن : "هو صراط الله المستقيم ، وحبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم". رواه أحمد والترمذي بطوله (5).
{ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ } أي : [قد] (6) وضحناها وبيناها وفسرناها ، { لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } أي : لمن له فهم ووعي يعقل عن الله ورسوله.
{ لَهُمْ دَارُ السَّلامِ } وهي : الجنة ، { عِنْدَ رَبِّهِمْ } أي : يوم القيامة. وإنما وصف الله الجنة هاهنا بدار
__________
(1) تفسير الطبري (12/110).
(2) في أ : "طريق".
(3) في أ : "الهدى".
(4) زيادة من أ.
(5) سنن الترمذي برقم (2908) وقد تقدم إسناده في فضائل القرآن. وقال الترمذي : "هذا حديث صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث حمزة الزيات ، وإسناده مجهول ، وفي حديث الحارث مقال".
(6) زيادة من م ، أ.

(3/337)


وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)

السلام لسلامتهم فيما سلكوه من الصراط المستقيم ، المقتفي أثر الأنبياء وطرائقهم ، فكما سلموا من آفات الاعوجاج أفْضَوا إلى دار السلام.
{ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ } أي : والسلام - وهو الله - وليهم ، أي : حافظهم وناصرهم ومؤيدهم ، { بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : جزاء [على] (1) أعمالهم الصالحة تولاهم وأثابهم الجنة ، بمنّه وكرمه.
{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) }
يقول تعالى : واذكر يا محمد فيما تقصه عليهم وتذكرهم به { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا } يعني : الجن وأولياءهم { مِنَ الإنْسِ } الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ، ويعوذون بهم ويطيعونهم ، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا. { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ } أي : ثم يقول : يا معشر الجن. وسياق الكلام يدل على المحذوف.
ومعنى قوله : { قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ } أي : من إضلالهم وإغوائهم ، كما قال [تعالى] (2) { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ } [يس : 60 - 62].
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإنْسِ } يعني : أضللتم منهم كثيرا. وكذلك قال مجاهد ، والحسن ، وقتادة.
{ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } يعني : أن أولياء الجن من الإنس قالوا مجيبين لله تعالى عن ذلك بهذا.
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا أبو الأشهب هَوْذَة بن خليفة ، حدثنا عَوْف ، عن الحسن في هذه الآية قال : استكثر ربكم أهل النار يوم القيامة ، فقال أولياؤهم من الإنس : ربنا استمتع بعضنا ببعض. قال الحسن : وما كان استمتاع بعضهم ببعض إلا أن الجن أمرت ، وعملت الإنس.
وقال محمد بن كعب في قوله : { رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } قال : الصحابة في الدنيا.
وقال ابن جُرَيْج : كان الرجل في الجاهلية ينزل الأرض ، فيقول : "أعوذ بكبير هذا الوادي" : فذلك استمتاعهم ، فاعتذروا يوم القيامة.
وأما استمتاع الجن بالإنس فإنه كان - فيما ذكر - ما ينال الجنّ من الإنس من تعظيمهم إياهم في استعانتهم بهم ، فيقولون : قد سدنا الإنس والجن.
__________
(1) زيادة من م ، أ.
(2) زيادة من م ، أ.

(3/338)


وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)

{ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا } قال السدي ، أي الموت.
قال : { النَّارُ مَثْوَاكُمْ } أي : مأواكم ومنزلكم أنتم وأولياؤكم. { خَالِدِينَ فِيهَا } أي : ماكثين مكثًا مخلدًا إلا ما شاء الله.
قال بعضهم : يرجع معنى [هذا] (1) الاستثناء إلى البرزخ. وقال بعضهم : هذا رد إلى مدة الدنيا. وقيل غير ذلك من الأقوال التي سيأتي تقريرها [إن شاء الله] (2) عند قوله تعالى في سورة هود : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ } [الآية : 107].
وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم في تفسير هذه الآية من طريق عبد الله بن صالح - كاتب الليث - : حدثني معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : { النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } قال : إن هذه الآية آية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه ، ولا ينزلهم جنة ولا نارًا.
{ وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) }
قال سعيد ، عن قتادة في تفسيرها : وإنما يولي الله (3) الناس بأعمالهم ، فالمؤمن ولي المؤمن أين كان وحيث كان ، والكافر ولي الكافر أينما كان وحيثما كان ، ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي. واختاره (4) ابن جرير.
وقال معمر ، عن قتادة في تفسيرها : { نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا } في النار ، يتبع بعضهم بعضا.
وقال مالك بن دينار : قرأت في الزبور : إني أنتقم من المنافقين بالمنافقين ، ثم أنتقم من المنافقين جميعا ، وذلك في كتاب الله قوله تعالى (5) { وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا }
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا } قال : ظالمي الجن وظالمي الإنس ، وقرأ : { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [الزخرف : 36] ، قال : ونسلط (6) ظلمة الجن على ظلمة الإنس.
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الباقي بن أحمد ، من طريق سعيد بن عبد الجبار الكرابيسي ، عن حماد بن سلمة ، عن عاصم ، عن زِرِّ ، عن ابن مسعود مرفوعا : "من أعان ظالما سلطه الله عليه" (7).
وهذا حديث غريب ، وقال بعض الشعراء :
وما مِن يَد إلا يدُ الله فوقها... ولا ظالم إلا سَيُبلى بظالم...
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من أ.
(3) في م : "يولي الله بين".
(4) في م ، أ : "واختار هذا القول".
(5) في م ، أ : "قول الله تعالى".
(6) في أ : "وسلط".
(7) ذكره ابن منظور في مختصر تاريخ دمشق (14/153) ورجاله ثقات ، وعاصم فيه كلام يسير.

(3/339)


يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)

ومعنى الآية الكريمة : كما ولينا هؤلاء الخاسرين من الإنس تلك الطائفة التي أغْوَتهم من الجن ، كذلك نفعل بالظالمين ، نسلط بعضهم على بعض ، ونهلك بعضهم ببعض ، وننتقم من بعضهم ببعض ، جزاء على ظلمهم وبغيهم.
{ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) }
وهذا أيضا مما يُقرع الله به سبحانه وتعالى كافري الجن والإنس يوم القيامة ، حيث يسألهم - وهو أعلم - : هل بلغتهم الرسل رسالاته ؟ وهذا استفهامُ تقرير : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ } أي : من جملتكم. والرسل من الإنس فقط ، وليس من الجن رسل ، كما [قد] (1) نص على ذلك مجاهد ، وابن جُرَيْج ، وغير واحد من الأئمة ، من السلف والخلف.
وقال ابن عباس : الرسل من بني آدم ، ومن الجن نُذُر.
وحكى ابن جرير ، عن الضحاك بن مُزاحم : أنه زعم أن في الجن رسلا واحتج بهذه الآية الكريمة وفي الاستدلال بها على ذلك نظر ؛ لأنها محتملة وليست بصريحة ، وهي - والله أعلم - كقوله [تعالى] (2) { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ. بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ } إلى أن قال : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } [الرحمن : 19 - 22] ، ومعلوم أن اللؤلؤ والمرجان إنما يستخرج (3) من الملح (4) لا من الحلو. وهذا واضح ، ولله الحمد. وقد نص هذا الجواب بعينه ابن جرير (5).
والدليل على أن الرسل إنما هم من الإنس قوله تعالى : { إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [وَأَوْحَيْنَا ] } (6) إلى أن قال : { رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ [بَعْدَ الرُّسُلِ (7) ] } [النساء : 163 - 165] ، وقال تعالى عن إبراهيم : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ } [العنكبوت : 27] ، فحصر النبوة والكتاب بعد إبراهيم في ذريته ، ولم يقل أحد من الناس : إن النبوة كانت في الجن قبل إبراهيم الخليل [عليه السلام] (8) ثم انقطعت عنهم ببعثته. وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ } [الفرقان : 20] ، وقال [تعالى] (9) : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } [يوسف : 109] ، ومعلوم أن الجن تبع للإنس في هذا الباب ؛ ولهذا قال تعالى إخبارًا عنهم : { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ. قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } [الأحقاف : 29 - 32].
__________
(1) زيادة من د ، م ، أ.
(2) زيادة من م ، أ.
(3) في م : "يستخرجان"
(4) في د : "المالح".
(5) في أ : "ابن جريج".
(6) زيادة من أ.
(7) زيادة من د ، م ، أ.
(8) زيادة من أ.
(9) زيادة من أ.

(3/340)


ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131)

وقد جاء في الحديث - الذي رواه الترمذي وغيره - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا عليهم سورة الرحمن (1) وفيها قوله تعالى : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الآيتان : 31 ، 32].
وقال تعالى في هذه الآية الكريمة : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا } أي : أقررنا أن الرسل قد بلغونا رسالاتك ، وأنذرونا لقاءك ، وأن هذا اليوم كائن لا محالة.
قال تعالى : { وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا } أي : وقد فرطوا في حياتهم الدنيا ، وهلكوا بتكذيبهم الرسل ، ومخالفتهم للمعجزات ، لما اغتروا به من زخرف الحياة الدنيا وزينتها وشهواتها ، { وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ } أي : يوم القيامة { أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ } أي : في الدنيا ، بما جاءتهم به الرسل ، صلوات الله وسلامه عليهم [أجمعين] (2).
{ ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) }
__________
(1) سنن الترمذي برقم (3291).
(2) زيادة من م.

(3/341)


وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)

{ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) }
يقول تعالى : { ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } أي : إنما أعذرنا إلى الثقلين بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، لئلا يعاقب أحد بظلمه ، وهو لم تبلغه دعوة ، ولكن أعذرنا إلى الأمم ، وما عذبنا أحدًا إلا بعد إرسال الرسل إليهم ، كما قال تعالى : { وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ } [فاطر : 24] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [النحل : 36] ، وقال تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } [الإسراء : 15] ، وقال تعالى : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا } [الملك : 8 ، 9] والآيات في هذا كثيرة.
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : ويحتمل قوله تعالى : { بِظُلْمٍ } وجهين :
أحدهما : ذلك من أجل أن ربك مهلك القرى بظلم أهلها بالشرك ونحوه ، وهم غافلون ، يقول : لم يكن يعاجلهم بالعقوبة حتى يبعث إليهم مَنْ (1) ينبههم على حجج الله عليهم ، وينذرهم عذاب الله يوم معادهم ، ولم يكن بالذي يؤاخذهم غفلة فيقولوا : { مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ } [المائدة : 19].
والوجه الثاني : أن { ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ } يقول : لم يكن [ربك] (2) ليهلكهم
__________
(1) في م ، أ : "رسولا".
(2) زيادة من أ.

(3/341)


وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)

دون التنبيه والتذكير بالرسل والآيات والعبر ، فيظلمهم بذلك ، والله غير ظلام (1) لعبيده.
ثم شرع يرجح الوجه الأول ، ولا شك أنه أقوى ، والله أعلم (2).
وقال : وقوله : { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا } أي : ولكل عامل من طاعة الله أو معصيته منازل ومراتب من عمله يبلغه الله إياها ، ويثيبه بها ، إن خيرًا فخير ، وإن شرًا فشر.
قلت : ويحتمل أن يعود قوله : { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا } [أي] (3) من كافري الجن والإنس ، أي : ولكل درجة في النار بحسبه ، كقوله [تعالى] (4) { قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ [وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ ] } (5) [الأعراف : 38] ، وقوله : { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ } [النحل : 88].
{ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } قال ابن جرير : أي وكل ذلك من عملهم ، يا محمد ، بعلم من ربك ، يحصيها ويثبتها لهم عنده ، ليجازيهم عليها عند لقائهم إياه ومعادهم إليه.
{ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) }
يقول [تعالى] (6) { وَرَبُّكَ } يا محمد { الْغَنِيُّ } أي : عن جميع خلقه من جميع الوجوه ، وهم الفقراء إليه في جميع أحوالهم ، { ذُو الرَّحْمَةِ } أي : وهو مع ذلك رحيم بهم رؤوف ، كما قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } [البقرة : 143].
{ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } أي : إذا خالفتم أمره { وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ } أي : قوما آخرين ، أي : يعملون بطاعته (7) ، { كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } أي : هو قادر على ذلك ، سهل عليه ، يسير لديه ، كما أذهب القرون الأوَل وأتى بالذي بعدها (8) كذلك هو قادر على إذهاب هؤلاء والإتيان بآخرين ، كما قال تعالى : { إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا } [النساء : 133] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ } [فاطر : 15 - 17] ، وقال تعالى : { وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ } [محمد : 38].
وقال محمد بن إسحاق ، عن يعقوب بن عتبة قال : سمعت أبان بن عثمان يقول في هذه الآية :
__________
(1) في أ : "ظالم".
(2) تفسير الطبري (12/124).
(3) زيادة من ، م ، أ.
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من أ.
(6) زيادة من م ، أ.
(7) في م : "بطاعة الله".
(8) في أ : "بعده".

(3/342)


{ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } الذرية : الأصل ، والذرية : النسل.
وقوله تعالى : { إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ } أي : أخبرهم يا محمد أن الذي يوعدون (1) به من أمر المعاد كائن لا محالة ، { وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ } أي : ولا تعجزون الله ، بل هو قادر على إعادتكم ، وإن صرتم ترابًا رفاتًا وعظامًا هو قادر لا يعجزه شيء.
وقال ابن أبي حاتم في تفسيرها : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن المصفى ، حدثنا محمد بن حمير ، عن أبي بكر بن أبي مريم ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن أبي سعيد الخدُرْي ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "يا بني آدم ، إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى. والذي نفسي بيده إنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين" (2).
وقوله تعالى : { قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } هذا تهديد شديد ، ووعيد أكيد ، أي : استمروا على طريقكم (3) وناحيتكم إن كنتم تظنون أنكم على هدى ، فأنا مستمر على طريقتي ومنهجي ، كما قال تعالى : { وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ } [هود : 121 ، 122].
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { عَلَى مَكَانَتِكُمْ } أي : ناحيتكم.
{ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ } أي : أتكون لي أو لكم. وقد أنجز موعده له ، صلوات الله عليه ، فإنه تعالى مكن له في البلاد ، وحكمه في نواصي مخالفيه من العباد ، وفتح له مكة ، وأظهره على من كذبه من قومه وعاداه وناوأه ، واستقر أمره على سائر جزيرة العرب ، وكذلك اليمن والبحرين ، وكل ذلك في حياته. ثم فتحت الأمصار والأقاليم والرساتيق بعد وفاته في أيام خلفائه ، رضي الله عنهم أجمعين ، كما قال الله تعالى : { كَتَبَ اللَّهُ لأغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي } [المجادلة : 20] ، وقال { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ. يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [غافر : 51 ، 52] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ } [الأنبياء : 105] ، وقال تعالى إخبارًا عن رسله : { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ. وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } [إبراهيم : 13 ، 14] ، وقال تعالى : { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا } الآية [النور : 55] ، وقد فعل الله [تعالى] (4) ذلك بهذه الأمة ، وله الحمد والمنة أولا وآخرًا ، باطنًا وظاهرًا (5).
__________
(1) في أ : "توعدون".
(2) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (10564) وأبو نعيم في الحلية (6/91) من طريق محمد بن المصفى ، عن محمد بن حمير به ، قال أبو نعيم : "غريب من حديث عطاء ، وأبي بكر تفرد به محمد بن حمير".
(3) في د ، أ : "طريقتكم".
(4) زيادة من م ، أ.
(5) في م ، أ : "وظاهرا وباطنا ".

(3/343)


وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)

{ وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) }
هذا ذم وتوبيخ من الله للمشركين الذين ابتدعوا بدعًا وكفرًا وشركًا ، وجعلوا لله جزءًا من خلقه ، وهو خالق كل شيء سبحانه وتعالى عما يشركون ؛ ولهذا قال تعالى : { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ } أي : مما خلق وبرأ { مِنَ الْحَرْثِ } أي : من الزروع والثمار { وَالأنْعَامِ نَصِيبًا } أي : جزءا وقسما ، { فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا }
وقوله : { فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ } قال علي بن أبي طلحة ، والعَوْفي ، عن ابن عباس ؛ أنه قال في (1) تفسير هذه الآية : إن أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثًا ، أو كانت لهم ثمرة ، جعلوا لله منه جزءًا وللوثن جزءًا ، فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه. وإن سقط منه شيء فيما سُمّي للصمد ردوه إلى ما جعلوه للوثن. وإن سبقهم الماء الذي جعلوه للوثن. فسقى شيئا جعلوه لله جعلوا ذلك للوثن. وإن سقط شيء من الحرث والثمرة الذي جعلوه لله ، فاختلط بالذي جعلوه للوثن ، قالوا : هذا فقير. ولم يردوه إلى ما جعلوه لله. وإن سبقهم الماء الذي جعلوه لله. فسقى ما سُمّي للوثن تركوه للوثن ، وكانوا يحرمون من أموالهم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، فيجعلونه للأوثان ، ويزعمون أنهم يحرمونه لله ، فقال الله عز وجل (2) { وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيبًا } الآية.
وهكذا قال مجاهد ، وقتادة ، والسدي ، وغير واحد.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسيره : كل شيء جعلوه لله من ذبْح يذبحونه ، لا يأكلونه أبدا حتى يذكروا معه أسماء الآلهة. وما كان للآلهة لم يذكروا اسم الله معه ، وقرأ الآية حتى بلغ : { سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي : ساء ما يقسمون ، فإنهم أخطؤوا أولا في القسمة ، فإن الله تعالى هو رب كل شيء ومليكه وخالقه ، وله الملك ، وكل شيء له وفي تصرفه وتحت قدرته ومشيئته ، لا إله غيره ، ولا رب سواه. ثم لما قسموا فيما زعموا لم يحفظوا القسمة التي هي فاسدة ، بل جاروا فيها ، كما قال تعالى : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ } [النحل : 57] ، وقال تعالى : { وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ } [الزخرف : 15] ، وقال تعالى : { أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنْثَى * تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى } [النجم : 21 ، 22].
{ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) }
يقول تعالى : وكما زينت الشياطين لهؤلاء المشركين أن يجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام
__________
(1) في م : "لي".
(2) في أ : "تعالى".

(3/344)


نصيبا ، كذلك زينوا لهم قتل أولادهم خشية الإملاق ، ووأد البنات خشية العار.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم : زينوا لهم قتل أولادهم.
وقال مجاهد : { شُرَكَاؤُهُمْ } شياطينهم ، يأمرونهم أن يئدوُا أولادهم خشية العَيْلة. وقال السدي : أمرتهم الشياطين أن يقتلوا البنات. وإما { لِيُرْدُوهُمْ } فيهلكوهم ، وإما { لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ } أي : فيخلطون عليهم دينهم.
ونحو ذلك قال قتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وهذا كقوله تعالى : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِه [أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ] } [النحل : 58 ، 59] ، (1) وقال تعالى : { وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ } [التكوير : 8 ، 9]. وقد كانوا أيضا يقتلون الأولاد من الإملاق ، وهو : الفقر ، أو خشية الإملاق أن يحصل لهم في تاني المال (2) وقد نهاهم [الله] (3) عن قتل أولادهم لذلك وإنما كان هذا (4) كله من شرع الشيطان تزيينه لهم ذلك.
قال تعالى : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ } أي : كل هذا واقع بمشيئته تعالى وإرادته واختياره لذلك كونًا ، وله الحكمة التامة في ذلك ، فلا (5) يسأل عما يفعل وهم يُسألون. { فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } أي : فدعهم واجتنبهم وما هم فيه ، فسيحكم الله بينك وبينهم.
__________
(1) زيادة من م ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(2) في أ : "الحال".
(3) زيادة من أ.
(4) في أ : "كذلك وإن كان هذا".
(5) في أ : "ولا".

(3/345)


وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)

{ وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) }
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : "الحجْرُ" : الحرام ، مما حرموا الوصيلة ، وتحريم ما حرموا.
وكذلك قال مجاهد ، والضحاك ، والسُّدِّي ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال قتادة : { وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ } الآية : تحريم كان عليهم من الشياطين في أموالهم ، وتغليظ وتشديد ، وكان ذلك من الشياطين ، ولم يكن من الله تعالى.
وقال ابن زيد بن أسلم : { حِجْرٌ } إنما احتجزوها لآلهتهم.
وقال السدي : { لا يَطْعَمُهَا إِلا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ } يقولون : حرام أن نطعم إلا من شئنا.
وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ } [يونس : 59] ، وكقوله تعالى : { مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ } [المائدة : 103].

(3/345)


وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)

وقال السدي : أما { وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا } فهي البحيرة والسائبة والحام ، وأما الأنعام التي لا يذكرون اسم الله عليها قال : إذا أولدوها ، ولا إن نحروها.
وقال أبو بكر بن عَيَّاش ، عن عاصم بن أبي النَّجُود قال لي أبو وائل : تدري (1) ما في قوله : { وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا } ؟ قلت : لا. قال : هي البحيرة ، كانوا لا يحجون عليها.
وقال مجاهد : كان من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها [ولا] (2) في شيء من شأنها ، لا إن ركبوا ، ولا إن حلبوا ، ولا إن حملوا ، ولا إن سحبوا (3) ولا إن عملوا شيئا (4).
{ افْتِرَاءً عَلَيْهِ } أي : على الله ، وكذبا منهم في إسنادهم ذلك إلى دين الله وشرعه ؛ فإنه لم يأذن لهم في ذلك ولا رَضيه منهم { سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } أي : عليه ، ويُسْندون إليه.
{ وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) }
قال أبو إسحاق السبيعي ، عن عبد الله بن أبي الهُذَيل ، عن ابن عباس : { وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا } الآية ، قال : اللبن.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا } [الآية] (5) : فهو اللبن ، كانوا يحرمونه على إناثهم ، ويشربه ذكرانهم. وكانت الشاة إذا ولدت ذكرًا ذبحوه ، وكان للرجال دون النساء. وإن كانت أنثى تركت فلم تذبح ، وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء. فنهى الله عن ذلك. وكذا قال السُّدِّي.
وقال الشعبي : "البحيرة" لا يأكل من لبنها إلا الرجال ، وإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء ، وكذا قال عِكْرِمة ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
وقال مجاهد في قوله : { وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا } قال : هي السائبة والبحيرة.
وقال أبو العالية ، ومجاهد ، وقتادة [في قول] (6) { سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ } أي : قولهم الكذب في ذلك ، يعني قوله (7) تعالى : { وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ } الآية [النحل : 116 ، 117].
إنه { حَكِيمٌ } أي : في أفعاله وأقواله وشرعه وقدره ، { عَلِيمٌ } بأعمال عباده من خير وشر ، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء.
__________
(1) في أ : "أتدري".
(2) زيادة من م ، أ.
(3) في م ، أ : "حجوا".
(4) في د : "شيئا نتجوا".
(5) زيادة من أ.
(6) زيادة من م ، أ.
(7) في م ، أ : "كقوله".

(3/346)


قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)

{ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140) }
يقول تعالى : قد خسر الذين فعلوا هذه الأفعال (1) في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فخسروا أولادهم بقتلهم ، وضيقوا عليهم في أموالهم ، فحرموا أشياء ابتدعوها من تلقاء أنفسهم ، وأما في الآخرة فيصيرون إلى شر المنازل بكذبهم على الله وافترائهم ، كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ. مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } [يونس : 69 ، 70].
وقال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه في تفسير هذه الآية : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن أيوب ، حدثنا عبد الرحمن بن المبارك ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما (2) قال : إذا سَرَّك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام ، { قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ }
وهكذا رواه البخاري منفردًا في كتاب "مناقب قريش" من صحيحه ، عن أبي النعمان محمد بن الفضل عارم ، عن أبي عوَانة - واسمه الوَضَّاح بن عبد الله اليَشْكُرِي - عن أبي بشر - واسمه جعفر بن أبي وَحْشِيَّة بن إياس ، به (3).
{ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الأنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) }
يقول تعالى بيانا لأنه الخالق لكل شيء ، من الزروع والثمار والأنعام التي تصرف فيها المشركون بآرائهم الفاسدة وقسَّموها وجَزَّءوها ، فجعلوا منها حرامًا وحلالا فقال : { وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ }
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { مَعْرُوشَاتٍ } مسموكات. وفي رواية : "المعروشات" : معروشات ما عرش الناس ، { وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } ما خرج في البر والجبال من الثمرات.
وقال عطاء الخراساني ، عن ابن عباس : { مَعْرُوشَاتٍ } ما عرش من الكرم { وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } ما لم يعرش من الكرم. وكذا قال السدي.
__________
(1) في م : "صنعوا هذه الأفاعيل
(2) في م : "عنه".
(3) صحيح البخاري برقم (3524).

(3/347)


وقال ابن جُرَيْج : { مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } قال : متشابه في المنظر ، وغير متشابه في الطعم.
وقال محمد بن كَعْب : { كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ } قال : من رطبه وعنَبه.
وقوله (1) تعالى : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } قال ابن جرير : قال بعضهم : هي الزكاة المفروضة.
حدثنا عمرو ، حدثنا عبد الصمد ، حدثنا يزيد بن درهم قال : سمعت أنس بن مالك يقول : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } قال : الزكاة المفروضة.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } يعني : الزكاة المفروضة ، يوم يُكَال ويعلم كيله. وكذا قال سعيد بن المسيب.
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } وذلك أن الرجل كان إذا زرع فكان يوم حصاده ، لم يخرج مما حصد شيئًا فقال الله : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } وذلك أن يعلم ما كيله وحقه ، من كل عشرة واحدًا ، ما يَلْقُط (2) الناس من سنبله.
وقد روى الإمام أحمد وأبو داود في سننه من حديث محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن يحيى ابن حبَّان ، عن عمه واسع بن حبان ، عن جابر بن عبد الله ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أمَرَ من كُل جاد عَشْرَة أوسُق من التمر ، بقنْو يعلق في المسجد للمساكين (3) وهذا إسناده جيد قوي.
وقال طاوس ، وأبو الشعثاء ، وقتادة ، والحسن ، والضحاك ، وابن جُرَيْج : هي الزكاة.
وقال الحسن البصري : هي الصدقة من الحب والثمار ، وكذا قال زيد بن أسلم.
وقال آخرون : هو حق آخر سوى الزكاة.
وقال (4) أشعث ، عن محمد بن سِيرين ، ونافع ، عن ابن عمر في قوله : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } قال : كانوا يعطون شيئا سوى الزكاة. رواه ابن مردويه. وروى عبد الله بن المبارك وغيره. عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء بن أبي رباح في قوله : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } قال : يعطي من حضره يومئذ ما تيسر ، وليس بالزكاة.
وقال مجاهد : إذا حضرك المساكين ، طرحت لهم منه.
وقال عبد الرزاق ، عن ابن عيينة (5) عن ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } قال : عند الزرع يعطي القبض ، وعند الصرام يعطي القبض ، ويتركهم فيتبعون آثار الصرام.
وقال الثوري ، عن حماد ، عن إبراهيم [النخعي] (6) قال : يعطي مثل الضغث.
وقال ابن المبارك ، عن شريك ، عن سالم ، عن سعيد بن جبير { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } قال : كان هذا قبل الزكاة : للمساكين ، القبضة الضغث لعلف دابته.
وفي حديث ابن لَهِيعة ، عن دَرَّاج ، عن أبي الهيثم ، عن سعيد مرفوعًا : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ }
__________
(1) في أ : "قال".
(2) في د : "وما يلفظه".
(3) المسند (3/359) وسنن أبي داود برقم (1662).
(4) في أ : "قال".
(5) في أ : "قتينة".
(6) زيادة من أ.

(3/348)


قال : ما سقط من السنبل. رواه ابن مَرْدُويه (1).
وقال آخرون : هذا كله شيء كان واجبًا ، ثم نسخه الله بالعشر ونصف العشر. حكاه ابن جرير عن ابن عباس ، ومحمد بن الحنفية ، وإبراهيم النخعي ، والحسن ، والسدي ، وعطية العَوْفي. واختاره ابن جرير ، رحمه (2) الله.
قلت : وفي تسمية هذا نسخًا نظر ؛ لأنه قد كان شيئًا واجبًا في الأصل ، ثم إنه فصل بيانه وبَيَّن مقدار المخرج وكميته. قالوا : وكان هذا في السنة الثانية من الهجرة ، فالله أعلم.
وقد ذم الله سبحانه الذين يصومون ولا يتصدقون ، كما ذكر عن أصحاب الجنة في سورة "ن" : { إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلا يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ } أي : كالليل المدلهم سوداء محترقة { فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ * أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ * فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ * وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ } أي : قوة وجلد وهمة { قَادِرِينَ * فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ * قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ * قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ * عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ * كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [القلم : 17 - 33].
وقوله : { وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } قيل : معناه : ولا تسرفوا في الإعطاء ، فتعطوا فوق المعروف.
وقال أبو العالية : كانوا يعطون يوم الحصاد شيئًا ، ثم تباروا فيه وأسرفوا ، فأنزل الله : { وَلا تُسْرِفُوا }
وقال ابن جُرَيْج (3) نزلت في ثابت بن قَيْس بن شَمَّاس ، جذَّ نخلا. فقال : لا يأتيني اليوم أحد إلا أطعمته. فأطعم حتى أمسى وليست له ثمرة ، فأنزل الله : { وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } رواه ابن جرير ، عنه.
وقال ابن جريج ، عن عطاء : ينهى عن السرف في كل شيء.
وقال إياس بن معاوية : ما جاوزت به أمر الله فهو سرف.
وقال السدي في قوله : { وَلا تُسْرِفُوا } قال : لا تعطوا أموالكم ، فتقعدوا فقراء.
وقال سعيد بن المسيب ومحمد بن كعب ، في قوله : { وَلا تُسْرِفُوا } قال : لا تمنعوا الصدقة فتعصوا.
__________
(1) ورواه النحاس في الناسخ المنسوخ (ص427) : حدثنا الحسن بن غليب ، حدثنا عمران بن أبي عمران ، حدثنا ابن لهيعة عن دراج عن أبي الهيثم يروى عن أبي الهيثم مناكير.
(2) في أ : "رحمهم".
(3) في م : "ابن جرير".

(3/349)


ثم اختار ابن جرير قول عطاء : إنه نَهْيٌ عن الإسراف في كل شيء. ولا شك أنه صحيح ، لكن الظاهر - والله أعلم - من سياق الآية حيث قال تعالى : { كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا [إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ] } (1) أن يكون عائدًا على الأكل ، أي : ولا تسرفوا في الأكل لما فيه من مضرة العقل والبدن ، كما قال تعالى : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ] (2) } [الأعراف : 31] ، وفي صحيح البخاري تعليقًا : "كلوا واشربوا ، والبسوا وتصدقوا ، في غير إسراف ولا مخيلة" (3) وهذا من هذا ، والله أعلم.
وقوله : { وَمِنَ الأنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا } أي : وأنشأ لكم من الأنعام ما هو حمولة وما هو فرش ، قيل : المراد بالحمولة ما يحمل عليه من الإبل ، والفرش الصغار منها. كما قال الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله في قوله : { حَمُولَةً } ما حمل عليه من الإبل ، { وَفَرْشًا } وقال : الصغار من الإبل.
رواه الحاكم ، وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وقال ابن عباس : الحمولة : الكبار ، والفرش [هي] (4) الصغار من الإبل. وكذا قال مجاهد.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَمِنَ الأنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا } فأما الحمولة فالإبل والخيل والبغال والحمير وكل شيء يحمل عليه ، وأما الفرش فالغنم.
واختاره ابن جرير ، قال : وأحسبه إنما سمي فرشًا لدنوه من الأرض.
وقال الربيع بن أنس ، والحسن ، والضحاك ، وقتادة : الحمولة : الإبل والبقر ، والفرش : الغنم.
وقال السدي : أما الحمولة فالإبل ، وأما الفرش فالفُصْلان والعَجَاجيل والغنم ، وما حمل عليه فهو حمولة.
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الحمولة ما تركبون ، والفرش ما تأكلون وتحلبون ، شاة لا تحمل ، تأكلون لحمها وتتخذون من صوفها لحافًا وفرشا (5).
وهذا الذي قاله عبد الرحمن في تفسير هذه الآية الكريمة حسن يشهد له قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } [يس : 71 ، 72] ، وقال تعالى : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ [ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ ] } (6) إلى أن قال : { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ } [النحل : 69 - 80] ، وقال تعالى : { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ * وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ } [غافر : 79 - 81].
__________
(1) زيادة من م ، أ.
(2) زيادة من أ ، وفي هـ : "الآية".
(3) صحيح البخاري ( 10/252) "فتح" ، وقد وصله ابن أبي الدنيا في كتاب االشكر برقم (51) فرواه من طريق همام ، عن قتادة ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده عبد الله بن عمرو ، رضي الله عنه.
(4) زيادة من أ.
(5) في م ، أ : "وفراشا".
(6) زيادة من أ.

(3/350)


وقوله تعالى : { كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ } أي : من الثمار والزروع والأنعام ، فكلها خلقها الله [تعالى] (1) وجعلها رزقًا لكم ، { وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ } أي : طرائقه وأوامره ، كما اتبعها المشركون الذين حرموا ما رزقهم الله ، أي : من الثمار والزروع افتراء على الله ، { إِنَّهُ لَكُمْ } أي : إن الشيطان - أيها الناس - لكم { عَدُوٌّ مُبِينٌ } أي : بَيِّن ظاهر العداوة ، كما قال تعالى : { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [فاطر : 6] ، وقال تعالى : { يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا } الآية ، [الأعراف : 27] ، وقال تعالى : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا } [الكهف : 50]. والآيات في هذا كثيرة في القرآن.
__________
(1) زيادة من م ، أ.

(3/351)


ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)

{ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الإبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) }
وهذا بيان لجهل العرب قبل الإسلام فيما كانوا حَرّموا من الأنعام ، وجعلوها أجزاءً وأنواعًا : بحيرة ، وسائبة ، ووصيلة وحامًا ، وغير ذلك من الأنواع التي ابتدعوها في الأنعام والزروع والثمار ، فبين (1) أنه تعالى أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ، وأنه أنشأ من الأنعام حمولة وفرشا. ثم بين أصناف الأنعام إلى غنم وهو بياض وهو الضأن ، وسواد وهو المعز ، ذكره وأنثاه ، وإلى إبل ذكورها وإناثها ، وبقر كذلك. وأنه تعالى لم يحرم شيئًا من ذلك ولا شيئًا من أولاده. بل كلها مخلوقة لبني آدم ، أكلا وركوبًا ، وحمولة ، وحلبا ، وغير ذلك من وجوه المنافع ، كما قال [تعالى] (2) { وَأَنزلَ لَكُمْ مِنَ الأنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } الآية [الزمر : 6].
وقوله : { أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنْثَيَيْنِ } رَدٌ عليهم في قولهم : { مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا }
وقوله : { نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي : أخبروني عن يقين : كيف حرم الله عليكم (3) ما زعمتم تحريمه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك ؟
وقال العَوْفي عن ابن عباس قوله : { ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ } فهذه أربعة أزواج ، { وَمِنَ الإبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنْثَيَيْنِ } يقول : لم أحرم شيئًا من ذلك { [أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنْثَيَيْنِ ] }
__________
(1) في أ : "وبين".
(2) زيادة من أ.
(3) في م ، أ : "عليهم".

(3/351)


قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)

يعني : هل يشمل الرحم إلا على ذكر أو أنثى فلم تحرمون بعضا وتحلون بعضا ؟] (1) { نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } يقول : كله حلال.
وقوله : { أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا } تهكم بهم فيما ابتدعوه وافتروه على الله ، من تحريم ما حرموه من ذلك ، { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي : لا أحد أظلم منه ، { إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ }
وأول من دخل في هذه الآية : عمرو بن لُحَيّ بن قَمَعَة ، فإنه أول من غير دين الأنبياء ، وأول من سيب السوائب ، ووصل الوصيلة ، وحمى الحامي ، كما ثبت ذلك في الصحيح (2).
{ قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) }
يقول تعالى آمرًا عبده ورسوله محمدًا ، صلوات الله وسلامه عليه : قل لهؤلاء الذين حرموا ما رزقهم الله افتراء على الله : { لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } أي : آكل يأكله. قيل : معناه : لا أجد شيئًا مما حرمتم حرامًا سوى هذه. وقيل : معناه : لا أجد من الحيوانات شيئًا (3) حرامًا سوى هذه. فعلى هذا يكون ما ورد من التحريمات بعد هذا في سورة "المائدة" ، وفي الأحاديث الواردة ، رافعًا لمفهوم هذه الآية.
ومن الناس من يسمي ذلك نسخًا ، والأكثرون من المتأخرين لا يسمونه نسخًا ؛ لأنه من باب رفع مباح الأصل ، والله أعلم.
قال العَوْفي ، عن ابن عباس : { أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا } يعني : المهراق.
قال عِكْرِمة في قوله : { أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا } لولا هذه الآية لتتبع الناس ما في العُرُوق ، كما تتبعه اليهود.
وقال حماد ، عن عمران بن حُدَير قال : سألت أبا مِجْلَز عن الدم ، وما يتلطخ من الذبح من الرأس ، وعن القِدْر يُرَى فيها الحمرة ، فقال : إنما نهى الله عن الدم المسفوح.
وقال قتادة : حرم من الدماء ما كان مسفوحًا ، فأما لحم خالطه دم فلا بأس به.
وقال ابن جرير : حدثنا المثنى ، حدثنا حجاج بن مِنْهال ، حدثنا حماد ، عن يحيى بن سعيد ، عن القاسم ، عن عائشة : أنها كانت لا ترى بلحوم السباع بأسًا ، والحمرة والدم يكونان على (4) القدر بأسًا ، وقرأت هذه الآية. صحيح غريب (5).
وقال الحميدي : حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو بن دينار قال : قلت لجابر بن عبد الله : إنهم يزعمون
__________
(1) زيادة من أ.
(2) سبق ذكر الحديث عند الآية : 103 من سورة المائدة وتخريجه هناك.
(3) في م : "شيئا من الحيوانات".
(4) في م ، أ : "يكون في أعلى".
(5) تفسير الطبري (12/194)

(3/352)


أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر ، فقال : قد كان يقول ذلك "الحَكَمُ بنُ عَمْرو" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن أبى ذلك الحبر - يعني ابن عباس - وقرأ : { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا } الآية.
وهكذا رواه البخاري عن علي بن المديني ، عن سفيان ، به. وأخرجه أبو داود من حديث ابن جُرَيْج ، عن عمرو بن دينار. ورواه الحاكم في مستدركه مع أنه في صحيح البخاري ، كما رأيت (1).
وقال أبو بكر بن مَرْدُوَيه والحاكم في مستدركه : حدثنا محمد بن على بن دُحَيم ، حدثنا أحمد بن حازم ، حدثنا أبو نُعَيم الفضل بن دُكَيْن ، حدثنا محمد بن شريك ، عن عمرو بن دينار ، عن أبي الشعثاء ، عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذرا ، فبعث الله نبيه وأنزل كتابه ، وأحل حلاله وحرم حرامه ، فما أحل فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو ، وتلا هذه الآية : { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ [إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا ] } (2) إلى آخر الآية.
وهذا لفظ ابن مَرْدُوَيه. ورواه أبو داود منفردًا به ، عن محمد بن داود بن صبيح ، عن أبي نعيم به. وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه (3).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن سِمَاك بن حرب ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : ماتت شاة لسَوْدَة بنت زَمْعَة ، فقالت : يا رسول الله ، ماتت فلانة - تعني الشاة - قال : "فلم لا (4) أخذتم مَسْكها ؟". قالت : نأخذ مَسْك شاة قد ماتت ؟! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنما قال الله : { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزيرٍ } وإنكم لا تطعمونه ، أن تدبغوه فتنتفعوا به". فأرسلت فسلخت مسكها فدبغته ، فاتخذت منه قربة ، حتى تخرقت عندها (5).
ورواه البخاري والنسائي ، من حديث الشعبي ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس ، عن سودة بنت زمعة ، بذلك أو نحوه (6).
وقال سعيد بن منصور : حدثنا عبد العزيز بن محمد ، عن عيسى بن نُميلَة الفزاري ، عن أبيه قال : كنت عند ابن عمر ، فسأله رجل عن أكل القنفذ ، فقرأ عليه : { قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ [إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزيرٍ ] } (7) الآية ، فقال شيخ عنده : سمعت
__________
(1) مسند الحميدي (2/379) ورواه البخاري في صحيحه برقم (5529) لكنه من مسند جابر بن زيد رضي الله عنه ، ورواه أبو داود في السنن برقم (3808) من طريق عمرو بن دينار ، عن رجل ، عن جابر بن عبد الله ، رضي الله عنه ، ولا عتب على الحاكم ، فإنه رواه في مستدركه (2/317) من طريق عمرو بن دينار ، عن جابر بن عبد الله من مسنده ، ثم إنه حدد مقصوده بقوله : "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة"
(2) زيادة من م.
(3) المستدرك (4/115) وسنن أبي داود برقم (3800).
(4) في م : "فلولا".
(5) المسند (1/327).
(6) صحيح البخاري برقم (6686) وسنن النسائي (7/173).
(7) زيادة من أ.

(3/353)


وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)

أبا هريرة يقول : ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "خبيث من الخبائث". فقال ابن عمر : إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو كما قال.
ورواه أبو داود ، عن أبي ثور ، عن سعيد بن منصور ، به (1).
وقوله تعالى : { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ } أي : فمن اضطر إلى أكل شيء مما حُرّم في هذه الآية الكريمة ، وهو غير متلبس ببغي ولا عدوان ، { فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : غفور له ، رحيم به.
وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة بما فيه كفاية.
والمقصود من سياق هذه الآية الكريمة الرد على المشركين الذين ابتدعوا ما ابتدعوه ، من تحريم المحرمات على أنفسهم بآرائهم الفاسدة من البَحِيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك ، فأمر [الله] (2) رسوله أن يخبرهم أنه لا يجد فيما أوحاه الله إليه أن ذلك محرم ، وإنما حُرِّم ما ذكر في [هذه] (3) الآية ، من الميتة ، والدم المسفوح ، ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به. وما عدا ذلك فلم يحرم ، وإنما هو عفو مسكوت عنه ، فكيف تزعمون [أنتم] (4) أنه حرام ، ومن أين حرمتموه ولم يحرمه [الله] (5) ؟ وعلى هذا فلا يبقى تحريم أشياء أخر فيما بعد هذا ، كما جاء النهي عن لحوم الحمر ولحوم السباع ، وكل ذي مخلب من الطير ، على المشهور من مذاهب (6) العلماء.
{ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) }
قال ابن جرير : يقول تعالى : وحرمنا على اليهود { كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } وهو البهائم والطير ما لم يكن مشقوق الأصابع ، كالإبل والنعام (7) والأوز والبط. قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } وهو البعير والنعامة. وكذا قال مجاهد ، والسُّدِّي في رواية (8).
وقال سعيد بن جُبَيْر : هو الذي ليس بمنفرج الأصابع ، وفي رواية عنه : كل شيء متفرق الأصابع ، ومنه الديك.
وقال قتادة في قوله : { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } وكان يقال : البعير والنعامة وأشياء من الطير والحيتان. وفي رواية : البعير والنعامة ، وحرم عليهم من الطير : البط وشبهه ، وكل شيء ليس بمشقوق الأصابع.
وقال ابن جُرَيْج : عن مجاهد : { كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } قال : النعامة والبعير ، شقا شقا. قلت للقاسم بن أبي بَزَّة وحدثنيه : ما "شقا شقًا" ؟ قال : كل ما لا يفرج (9) من قول البهائم. قال : وما انفرج أكلته
__________
(1) سنن أبي داود برقم (3799).
(2) زيادة من م.
(3) زيادة من م ، أ.
(4) زيادة من م ، أ.
(5) زيادة من م ، أ.
(6) في أ : "مذهب".
(7) في م : "والأنعام".
(8) في م ، أ : "في رواية والسدى".
(9) في م : "ما لم ينفرج".

(3/354)


اليهود قال : انفرجت قوائم البهائم والعصافير ، قال : فيهود تأكلها. قال : ولم تنفرج قائمة البعير ، خفه ، ولا خف النعامة ولا قائمة الوز ، فلا تأكل اليهود الإبل ولا النعام ولا الوز ، ولا كل شيء لم تنفرج قائمته ، ولا تأكل حمار وَحْش.
وقوله : { وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا } قال السُّدِّي : [يعني] (1) الثَرْب وشحم الكليتين. وكانت اليهود تقول (2) : إنه حرمه إسرائيل فنحن نحرمه. وكذا قال ابن زيد.
وقال قتادة : الثرب وكل شحم (3) كان كذلك ليس في عظم.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا } يعني : ما عَلِق بالظهر من الشحوم.
وقال السُّدِّي وأبو صالح : الألية ، مما (4) حملت ظهورهما.
وقوله : { أَوِ الْحَوَايَا } قال الإمام أبو جعفر بن جرير : { الْحَوَايَا } جمع ، واحدها حاوياء ، وحاوية وحَوِيَّة وهو ما تَحَوي (5) من البطن فاجتمع واستدار ، وهي بنات اللبن ، وهي "المباعر" ، وتسمى "المرابض" ، وفيها الأمعاء.
قال : ومعنى الكلام : ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما ، إلا ما حملت ظهورهما ، أو ما حملت الحوايا (6).
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { أَوِ الْحَوَايَا } وهي المبعر.
وقال مجاهد : { الْحَوَايَا } المبعر ، والمربض. وكذا قال سعيد بن جبير ، والضحاك ، وقتادة ، وأبو مالك ، والسُّدِّي.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { الْحَوَايَا } المرابض التي تكون فيها الأمعاء ، تكون وسطها ، وهي بنات اللبن ، وهي في كلام العرب تدعى المرابض.
وقوله تعالى : { أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ } أي : وإلا ما اختلط من الشحوم بالعظام فقد أحللناه لهم.
وقال ابن جُرَيْج : شحم الألية اختلط بالعُصْعُص ، فهو حلال. وكل شيء في القوائم والجنب والرأس والعين وما اختلط بعظم ، فهو حلال ، ونحوه قال (7) السُّدِّي.
وقوله تعالى : { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ } أي : هذا التضييق إنما فعلناه بهم وألزمناهم (8) به ، مجازاة لهم على بغيهم ومخالفتهم أوامرنا ، كما قال تعالى : { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا } [النساء : 160].
__________
(1) زيادة من م ، أ.
(2) في م ، أ : "يقولون".
(3) في أ : "شيء".
(4) في د ، م : "ما".
(5) في م : "ما يحوى".
(6) تفسير الطبري (12/203).
(7) في أ : "قاله".
(8) في أ : "وألزمناه".

(3/355)


وقوله : { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } أي : وإنا لعادلون فيما جزيناهم به.
وقال ابن جرير : وإنا لصادقون فيما أخبرناك به يا محمد من تحريمنا ذلك عليهم ، لا كما زعموا من أن إسرائيل هو الذي حرمه على نفسه ، والله أعلم.
وقال عبد الله بن عباس : بلغ عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، أن سَمُرَة باع خمرًا ، فقال : قاتل الله سمرة! ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لعن الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها".
أخرجاه من حديث سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، عن عمر ، به.
وقال الليث : حدثني يزيد بن أبي حبيب قال : قال عطاء بن أبي رباح : سمعت جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح : "إن الله ورسوله حَرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام". فقيل : يا رسول الله ، أرأيت شحوم الميتة ، فإنه يدهن بها الجلود ويُطلى بها السفن ، ويَسْتَصبِح بها الناس. فقال : "لا هو حرام". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك : "قاتل الله اليهود ، إن الله لما حرم عليهم شحومها جَمَلوه ، ثم باعوه وأكلوا ثمنه".
رواه الجماعة من طرق ، عن يزيد بن أبي حبيب ، به (1).
وقال الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قاتل الله اليهود (2) ! حرمت عليهم الشحوم ، فباعوها (3) وأكلوا ثمنه".
ورواه البخاري ومسلم جميعًا ، عن عبدان ، عن ابن المبارك ، عن يونس ، عن الزهري ، به (4).
وقال ابن مَرْدُوَيه : حدثنا محمد بن عبد الله بن إبراهيم ، حدثنا إسماعيل بن إسحاق ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا وُهَيْب ، حدثنا خالد الحَذَّاء ، عن بركة أبي الوليد ، عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قاعدا خلف المقام ، فرفع بصره إلى السماء فقال : "لعن الله اليهود - ثلاثًا - إن الله حرم عليهم الشحوم ، فباعوها وأكلوا ثمنها ، إن الله لم يحرم على قوم أكل شيء إلا حرم عليهم ثمنه" (5).
وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن عاصم ، أنبأنا خالد الحذاء ، عن بركة أبي الوليد ، أنبأنا ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدًا في المسجد مستقبلا الحِجْر ، فنظر إلى السماء فضحك ، ثم
__________
(1) صحيح البخاري برقم (2236) وصحيح مسلم برقم (1581). وسنن أبي داود برقم (3486) وسنن الترمذي برقم (1297) وسنن النسائي (7/309) وسنن ابن ماجة برقم (2167).
(2) في م : "يهود".
(3) في م ، أ : "فباعوه".
(4) في أ : "رواه".
(5) صحيح البخاري برقم (2224) وصحيح مسلم برقم (1583).

(3/356)


قال : "لعن الله اليهود ، حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها ، وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه".
ورواه أبو داود ، من حديث خالد الحذاء (1).
وقال الأعمش ، عن جامع بن شَدَّاد ، عن كلثوم ، عن أسامة بن زيد قال : دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض نعوده ، فوجدناه نائما قد غطى وجهه ببرد عَدني ، فكشف عن وجهه وقال (2) : لعن الله اليهود يحرمون شحوم الغنم ويأكلون أثمانها" ، وفي رواية : "حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها" (3).
__________
(1) ورواه ابن عبد البر في التمهيد (9/44) من طريق هشيم ، عن خالد الحذاء به.
(2) في أ : "فقال".
(3) المسند (1/247) وسنن أبي داود برقم (3488).

(3/357)


فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)

{ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) }
يقول تعالى : فإن كذّبك (1) - يا محمد - مخالفوك من المشركين واليهود ومن شابههم ، فقل : { رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ } وهذا ترغيب لهم في ابتغاء رحمة الله الواسعة ، واتباع رسوله ، { وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } ترهيب لهم من (2) مخالفتهم الرسول خاتم النبيين. وكثيرًا ما يقرن الله تعالى بين الترغيب والترهيب في القرآن ، كما قال تعالى في آخر هذه السورة : { إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } [الآية : 165] ، وقال { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ } [الرعد : 6] ، وقال تعالى : { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ } [الحجر : 49 ، 50] ، وقال تعالى : { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ } [غافر : 3] ، وقال [تعالى] (3) : { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ } [البروج : 12 - 14] ، والآيات في هذا كثيرة جدًا.
{ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) }
هذه مناظرة ذكرها الله تعالى وشبهة تشبثت بها المشركون في شركهم وتحريم ما حرموا ؛ فإن الله
__________
(1) في م ، أ : "كذبوك".
(2) في م : "في".
(3) زيادة من أ.

(3/357)


مطلع على ما هم فيه من الشرك والتحريم لما حرموه ، وهو قادر على تغييره بأن يلهمنا الإيمان ، أو يحول بيننا وبين الكفر ، فلم يغيره ، فدل على أنه بمشيئته وإرادته ورضاه منا ذلك ؛ ولهذا قال : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ } كما في قوله [تعالى] (1) : { وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ ] } (2) [الزخرف : 20] ، وكذلك (3) التي في "النحل" مثل هذه سواء (4) قال (5) الله تعالى : { كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } أي : بهذه الشبهة ضل من ضل قبل هؤلاء. وهي حجة داحضة باطلة ؛ لأنها لو كانت صحيحة لما أذاقهم الله بأسه ، ودمر عليهم ، وأدال عليهم رسله الكرام ، وأذاق المشركين من أليم الانتقام.
{ قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ } أي : بأن الله[تعالى] (6) راض عنكم فيما أنتم فيه { فَتُخْرِجُوهُ لَنَا } أي : فتظهروه لنا وتبينوه وتبرزوه ، { إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ } أي : الوهم والخيال. والمراد بالظن هاهنا : الاعتقاد الفاسد. { وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ } أي : تكذبون على الله فيما ادعيتموه.
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] (7) : { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا } وقال { كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } ثُمَّ قَالَ { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا } [الأنعام : 107] ، فإنهم قالوا : عبادتنا الآلهة تقربنا إلى الله زُلْفَى فأخبرهم الله أنها لا تقربهم ، وقوله : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا } (8) ، يقول تعالى : لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين.
وقوله تعالى : { قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } يقول [تعالى] (9) لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ } لهم - يا محمد : { فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ } أي : له الحكمة التامة ، والحجة البالغة في هداية من هَدى ، وإضلال من أضل ، { فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } وكل ذلك بقدرته ومشيئته واختياره ، وهو مع ذلك يرضى عن المؤمنين ويُبْغض الكافرين ، كما قال تعالى : { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى } [الأنعام : 35] ، وقال تعالى : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ [كُلُّهُمْ جَمِيعًا ] } (10) [يونس : 99] ، وقوله (11) { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [هود : 118 ، 119].
قال الضحاك : لا حجة لأحد عصى الله ، ولكن لله الحجة البالغة على عباده.
وقوله تعالى : { قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ } أي : أحضروا شهداءكم { الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا } أي : هذا الذي حرمتموه وكذبتم وافتريتم على الله فيه ، { فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ } أي : لأنهم إنما يشهدون والحالة هذه كذبًا وزورًا ، { وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ }
__________
(1) زيادة من م ، أ.
(2) زيادة من م ، أ.
(3) في أ : "وكذا".
(4) الآية : 35 وهي قوله تعالى : (وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء).
(5) في م : "وقال".
(6) زيادة من م.
(7) زيادة من أ.
(8) في أ : "أشركنا" وهو خطأ ، والصواب : "أشركوا" الآية : 107 من سورة الأنعام.
(9) زيادة من م.
(10) زيادة من م ، أ.
(11) في م : "وقال تعالى".

(3/358)


قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)

أي : يشركون به ، ويجعلون له عديلا.
{ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) }
قال داود الأوْدِي ، عن الشعبي ، عن علَقْمَة ، عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : من أراد أن يقرأ صحيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه ، فليقرأ هؤلاء (1) الآيات : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } إلى قوله : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
وقال الحاكم في مستدركه : حدثنا بكر بن محمد الصيرفي بمرو ، حدثنا عبد الصمد بن الفضل ، حدثنا مالك بن إسماعيل النَّهدي ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن خليفة قال : سمعت ابن عباس يقول : في (2) الأنعام آيات محكمات هن أم الكتاب ، ثم قرأ : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ] } (3).
ثم قال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه (4).
قلت : ورواه زُهَيْر وقيس بن الربيع كلاهما عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن قيس ، عن ابن عباس ، به. والله (5) أعلم.
وروى الحاكم أيضًا في مستدركه (6) من حديث يزيد بن هارون ، عن سفيان بن حسين ، عن الزهري ، عن أبي إدريس ، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أيكم يبايعني على ثلاث ؟" - ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } حتى فرغ من الآيات - فمن وفى فأجره على الله ، ومن انتقص منهن شيئًا فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته (7) ومن أخر إلى الآخرة فأمره إلى الله ، إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه".
ثم قال : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه. وإنما اتفقا على حديث الزهري ، عن أبي إدريس ، عن عبادة : "بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئًا" الحديث. وقد روى سفيان بن حُسَين كلا الحديثين ، فلا ينبغي أن ينسب إلى الوهم في أحد الحديثين إذا جمع بينهما ، والله أعلم (8).
وأما تفسيرها فيقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد - لهؤلاء المشركين الذين [أشركوا و] (9) عبدوا غير الله ، وحرموا ما رزقهم الله ، وقتلوا أولادهم وكل ذلك فعلوه بآرائهم وتسويل الشياطين لهم ، { قُلْ } لهم { تَعَالَوْا } أي : هلموا وأقبلوا : { أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } أي : أقص عليكم وأخبركم بما حرم ربكم عليكم حقًا لا تخرصًا ، ولا ظنًا ، بل وحيًا منه وأمرًا من عنده :
__________
(1) في م : "هذه".
(2) في م ، أ : "إن في".
(3) زيادة من أ.
(4) المستدرك (2/317).
(5) في م ، أ : "فالله".
(6) في أ : "في مسنده" وهو خطأ.
(7) في م : "عقوبة".
(8) المستدرك (2/318). أما الحديث الذي اتفق عليه الشيخان من حديث الزهري ، فرواه البخاري في صحيحه برقم (18) ومسلم في صحيحه برقم (1709).
(9) زيادة من أ.

(3/359)


{ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } وكأن في الكلام محذوفًا دل عليه السياق ، وتقديره : وأوصاكم (1) { أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } ؛ ولهذا قال في آخر الآية : { ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } وكما قال الشاعر :
حَجَّ وأوصَى بسُلَيمى الأعْبُدَا... أنْ لا تَرَى ولا تُكَلِّم أحَدا...
ولا يَزَلْ شَرَابُها مُبَرَّدا (2).
وتقول العرب : أمرتك ألا تقوم.
وفي الصحيحين من حديث أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أتاني جبريل فبشرني أنه من مات لا يشرك بالله شيئًا من أمتك ، دخل الجنة. قلت : وإن زنا وإن سرق ؟ قال : وإن زنا وإن سرق. قلت : وإن زنا وإن سرق ؟ قال : وإن زنا وإن سرق. قلت : وإن زنا وإن سرق ؟ قال : وإن زنا وإن سرق ، وإن شرب الخمر" : وفي بعض (3) الروايات أن القائل ذلك إنما هو أبو ذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه ، عليه (4) السلام ، قال في الثالثة : "وإن رغم أنفُ أبي ذر" (5) فكان أبو ذر يقول بعد تمام الحديث : وإن رغم أنف أبي ذر.
وفي بعض المسانيد والسنن عن أبي ذر [رضي الله عنه] (6) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يقول الله تعالى : يا ابن آدم ، إنك ما دعوتني ورجوتني فإني أغفر لك على ما كان منك ولا أبالي ، ولو أتيتني بقراب الأرض خطيئة أتيتك بقرابها مغفرة ما لم تشرك بي شيئا ، وإن أخطأت حتى تبلغ خطاياك عَنَان السماء ثم استغفرتني ، غفرت لك" (7).
ولهذا شاهد في القرآن ، قال الله تعالى (8) : { إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ } [النساء : 48 ، 116].
وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود : "من مات لا يشرك بالله شيئًا ، دخل الجنة" (9) والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جدًا.
وروى ابن مَرْدُوَيه من حديث عبادة وأبي الدرداء : "لا تشركوا بالله شيئًا ، وإن قُطِّعتم أو صُلِّبتم أو حُرِّقتم" (10).
__________
(1) في د ، أ : "ووصاكم" ، وفي م : "أوصاكم".
(2) الرجز في تفسير الطبري (12/216).
(3) في م : "قلت : وفي بعض".
(4) في أ : "وأنه عليه الصلاة والسلام".
(5) صحيح البخاري برقم (1237) وصحيح مسلم برقم (94).
(6) زيادة من أ.
(7) رواه أحمد في مسنده (5/154) والترمذي في السنن برقم (2495) وابن ماجة في السنن برقم (4257) وقال الترمذي : "هذا حديث حسن".
(8) في أ : "عز وجل".
(9) صحيح مسلم برقم (92).
(10) أما حديث أبي الدرداء ، فرواه الطبراني في المعجم الكبير كما في معجم الزوائد (4/216) من طريق شهر بن حوشب ، عن أم الدرداء عن أبي الدرداء به.
قال الهيثمي : "فيه شهر بن حوشب وحديثه حسن ، وبقية رجاله ثقات". وأما حديث عبادة فهو الآتي.

(3/360)


وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عَوْف الحِمْصي ، حدثنا ابن أبي مريم ، حدثنا نافع بن يزيد حدثني سيار بن عبد الرحمن ، عن يزيد بن قَوْذر ، عن سلمة بن شُرَيح ، عن عبادة بن الصامت قال : أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع خصال : "ألا تشركوا بالله شيئًا ، وإن حرقتم وقطعتم وصلبتم" (1).
وقوله تعالى : { وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } أي : وأوصاكم وأمركم بالوالدين إحسانا ، أي : أن تحسنوا إليهم ، كما قال تعالى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } [الإسراء : 23].
وقرأ بعضهم : "ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا".
والله تعالى كثيرًا ما يقرن بين طاعته وبر الوالدين ، كما قال : { أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [لقمان : 14 ، 15]. فأمر بالإحسان إليهما ، وإن كانا مشركين بحسبهما ، وقال تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا } الآية. [البقرة : 83]. والآيات في هذا كثيرة. وفي الصحيحين عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي العمل أحب إلى الله ؟ قال : "الصلاة على وقتها". قلت : ثم أيّ ؟ قال : "بر الوالدين". قلت : ثم أيّ ؟ قال : "الجهاد في سبيل الله". قال ابن مسعود : حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته (2) لزادني (3).
وروى الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه بسنده عن أبي الدرداء ، وعن عبادة بن الصامت ، كل منهما يقول : أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم : "أطع والديك ، وإن أمراك أن تخرج لهما من الدنيا ، فافعل" (4).
ولكن في إسناديهما ضعف ، والله أعلم.
وقوله تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } لما أوصى (5) تعالى ببر الآباء والأجداد ، عطف على ذلك الإحسان إلى الأبناء والأحفاد ، فقال تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ } وذلك أنهم كانوا يقتلون أولادهم كما سَوَّلت لهم الشياطين ذلك ، فكانوا يئدون البنات خَشْيَة العار ، وربما قتلوا بعض الذكور خيفةَ الافتقار ؛ ولهذا جاء في الصحيحين ، من حديث عبد الله ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قلت : يا رسول الله ، أي الذنب أعظم ؟ قال : "أن تجعل لله ندّا وهو خلَقَكَ". قلت : ثم أيّ ؟ قال : "أن تقتل ولدك خشية أن يَطْعَم معك". قلت : ثم أيّ ؟ قال : "أن تُزَاني حليلة جارك". ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ [وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا ] } (6) [الفرقان : 68]. (7)
__________
(1) ورواه الطبراني في المعجم الكبير كما في الزوائد (4/216) وقال الهيثمي : "فيه سلمة بن شريح قال الذهبي : لا يعرف ، وبقية رجاله رجال الصحيح".
(2) في أ : "استزدت".
(3) صحيح البخاري برقم (5970) وصحيح مسلم برقم (85).
(4) سبق تخريجهما من رواية الطبراني في المعجم الكبير.
(5) في د ، م : "وصى".
(6) زيادة من م ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(7) صحيح البخاري برقم (4477) وصحيح مسلم برقم (68).

(3/361)


وقوله : { مِنْ إِمْلاقٍ } قال ابن عباس ، وقتادة ، والسُّدِّي : هو الفقر ، أي : ولا تقتلوهم من فقركم الحاصل ، وقال في سورة "سبحان" : { وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } [الإسراء : 31] ، أي : خشية (1) حصول فقر ، في الآجل ؛ ولهذا قال هناك : { نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ } فبدأ برزقهم للاهتمام بهم ، أي : لا تخافوا من فقركم بسببهم ، فرزقهم على الله. وأما في هذه الآية فلما كان الفقر حاصلا قال : { نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } ؛ لأنه الأهم هاهنا ، والله أعلم.
وقوله تعالى : { وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } كقوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } [الأعراف : 33]. وقد تقدم تفسيرها في قوله : { وَذَرُوا ظَاهِرَ الإثْمِ وَبَاطِنَهُ } [الأنعام : 12].
وفي الصحيحين ، عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا أحد أغْيَر من الله ، من أجل ذلك حَرَّم الفواحش ما ظَهَر منها وما بَطنَ" (2).
وقال عبد الملك بن عُمَيْر ، عن وَرّاد ، عن مولاه المغيرة قال : قال سعد بن عبادة : لو رأيت مع امرأتي رجلا لضربته بالسيف غير مُصْفَح. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "أتعجبون من غيرة سعد! فوالله لأنا أغير من سعد ، والله أغير مني ، من أجل ذلك حَرّم الفواحش ما ظهر منها وما بَطَن". أخرجاه (3).
وقال كامل أبو العلاء ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قيل : يا رسول الله ، إنا (4). نغار. قال : "والله إني لأغار ، والله أغير مني ، ومن غيرته نهى عن الفواحش" (5).
رواه ابن مَرْدُوَيه ، ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة ، وهو على شرط الترمذي ، فقد روي بهذا السند : "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين" (6).
وقوله تعالى : { وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ } وهذا مما نص تبارك وتعالى على النهي عنه تأكيدًا ، وإلا فهو داخل في النهي عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، فقد جاء في الصحيحين ، عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة" (7).
__________
(1) في م : "خيفة" وفي أ : "ضيقة".
(2) صحيح البخاري برقم (4634) وصحيح مسلم برقم (2760).
(3) صحيح البخاري برقم (6846) وصحيح مسلم برقم (1499).
(4) في م : "أما".
(5) ورواه أحمد في مسنده (2/326) من طريق كامل به ، قال الهيثمي في المجمع (4/328) : "فيه كامل أبو العلاء ، وفيه كلام لا يضر وهو ثقة ، وبقية رجاله رجال الصحيح".
(6) سنن الترمذي برقم (2331) وقال الترمذي : "هذا حديث حسن غريب من حديث أبي صالح عن أبي هريرة ، وقد روى من غير وجه عن أبي هريرة".
(7) صحيح البخاري برقم (6878) وصحيح مسلم برقم (1676).

(3/362)


وفي لفظ لمسلم (1) والذي لا إله غيره لا يحل دم رجل مسلم..." وذكره ، قال الأعمش : فحدثت به إبراهيم ، فحدثني عن الأسود ، عن عائشة [رضي الله عنها] (2) ، بمثله (3).
وروى أبو داود ، والنسائي ، عن عائشة ، رضي الله عنها ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال : زانٍ مُحْصَن يُرْجَم ، ورجل قتل رَجُلا مُتَعمِّدا فيقتل ، ورجل يخرج من الإسلام حارب الله ورسوله ، فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض". وهذا لفظ النسائي (4).
وعن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، أنه قال وهو محصور : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "لا يَحِلُّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل كَفَر بعد إسلامه ، أو زنا بعد إحصانه ، أو قتل نفسا بغير نفس". فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام ، ولا تمنيت أن لي بديني بدلا منه بعد إذ هداني الله ، ولا قتلت نفسا ، فبم تقتلونني. رواه الإمام أحمد ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه. وقال الترمذي : هذا حديث حسن (5).
وقد جاء النهي والزجر والوعيد في قتل المعاهدَ - وهو المستأمن من أهل الحرب - كما رواه البخاري ، عن عبد الله بن عمرو ، رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من قتل مُعاهِدًا لم يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها توجد (6) من مسيرة أربعين عاما" (7).
وعن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من قتل معاهَدًا له ذِمَّة الله وذمَّة رسوله ، فقد أخفر بذمة الله ، فلا يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خَريفًا".
رواه ابن ماجه ، والترمذي وقال : حسن صحيح (8).
وقوله : { ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي : هذا ما (9) وصاكم به لعلكم تعقلون عنه أمره ونهيه.
__________
(1) في م : "مسلم".
(2) زيادة من أ.
(3) صحيح مسلم برقم (1676).
(4) سنن أبي داود برقم (4353) وسنن النسائي (7/101).
(5) المسند (1/63) وسنن الترمذي برقم (2158) وسنن النسائي (7/92) وسنن ابن ماجة برقم (2533).
(6) في د ، م ، أ : "يوجد".
(7) صحيح البخاري برقم (3166).
(8) سنن ابن ماجة برقم (2687) وسنن الترمذي برقم (1403).
(9) في أ : "مما".

(3/363)


وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)

{ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) }
قال عطاء بن السائب ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : لما أنزل الله : { وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } و { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا } الآية [النساء : 10] ، فانطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل الشيء فيحبس له حتى يأكله

(3/363)


ويفسد. فاشتد ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله [عَزَّ وجل] (1) : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } [البقرة : 220] ، قال : فخلطوا طعامهم بطعامهم ، وشرابهم بشرابهم. رواه أبو داود.
وقوله : { حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } قال الشعبي ، ومالك ، وغير واحد من السلف : يعني : حتى يحتلم.
وقال السُّدِّي : حتى يبلغ ثلاثين سنة ، وقيل : أربعون سنة ، وقيل : ستون سنة. قال : وهذا كله بعيد هاهنا ، والله أعلم.
وقوله : { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ } يأمر تعالى بإقامة العدل في الأخذ والإعطاء ، كما توعد على تركه في قوله تعالى : { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [المطففين : 1 - 6]. وقد أهلك الله أمة من الأمم كانوا يبخسون المكيال والميزان.
وفي كتاب الجامع لأبي عيسى الترمذي ، من حديث الحسين بن قيس أبي علي الرّحَبي ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحاب الكيل والميزان : "إنكم وُلّيتم أمرًا هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم". ثم قال : لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث الحُسين ، وهو ضعيف في الحديث ، وقد روي بإسناد صحيح عن ابن عباس موقوفا (2).
قلت : وقد رواه ابن مَرْدُوَيه في تفسيره ، من حديث شَرِيك ، عن الأعمش ، عن سالم بن أبي الجَعْد ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنكم مَعْشَر الموالي قد بَشَّرَكم الله بخصلتين بها هلكت القرون المتقدمة : المكيال والميزان" (3).
وقوله تعالى : { لا نُكَلِّفُ (4) نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } أي : من اجتهد في أداء الحق وأخذه ، فإن أخطأ بعد استفراغ وسعه وبذل جهده فلا حرج عليه.
وقد روى ابن مَرْدُوَيه من حديث بَقِيَّة ، عن مُبَشر (5) بن عبيد ، عن عمرو بن ميمون بن مهْران ، عن أبيه ، عن سعيد بن المسَيَّب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا } فقال : "من أوفى على يده في الكيل والميزان ، والله يعلم صحة نيته بالوفاء فيهما ، لم يؤاخذ". وذلك تأويل { وُسْعَهَا } هذا مرسل غريب (6).
__________
(1) زيادة من أ.
(2) سنن الترمذي برقم (1217) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (5288) وابن عدي في الكامل (2/352) من طريق الحسين بن قيس أبي علي الرحبي به.
(3) ذكره السيوطي في الدر المنثور (3/385).
(4) في أ : "لا يكلف الله".
(5) في أ : "ميسر".
(6) ذكره السيوطي في الدر المنثور (3/384) ولم يعزه لأحد غيره ، وفي إسناده مبشر بن عبيد الحمصي. قال أحمد : كان يضع الحديث ، وقال البخاري : روى عنه بقية ، منكر الحديث.

(3/364)


وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)

وقوله : { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ [وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ] } (1) [المائدة : 8] ، وكذا التي تشبهها في سورة النساء [الآية : 135] ، يأمر تعالى بالعدل في الفعال والمقال ، على القريب والبعيد ، والله تعالى يأمر بالعدل لكل أحد ، في كل وقت ، وفي كل حال.
وقوله : { وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا } قال ابن جرير : يقول وَبِوَصِيَّة الله التي أوصاكم بها فأوفوا. وإيفاء ذلك : أن تطيعوه فيما أمركم ونهاكم ، وتعملوا بكتابه وسنة رسوله ، وذلك هو الوفاء بعهد الله.
{ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } يقول تعالى : هذا وصاكم به ، وأمركم به ، وأكد عليكم فيه { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي : تتعظون وتنتهون عما (2) كنتم فيه قبل هذا ، وقرأ بعضهم بتشديد "الذال" ، وآخرون بتخفيفها.
{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) }
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } وقوله { أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [الشورى : 13] ، ونحو هذا في القرآن ، قال : أمر الله المؤمنين بالجماعة ، ونهاهم عن الاختلاف والفرقة (3) ، وأخبرهم أنه إنما (4) هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله ونحو هذا. قاله (5) مجاهد ، وغير واحد.
وقال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا الأسود بن عامر : شاذان ، حدثنا أبو بكر - هو ابن عياش - عن عاصم - هو ابن أبي النجود - عن أبي وائل ، عن عبد الله - هو ابن مسعود ، رضي الله عنه - قال : خَطَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًا بيده ، ثم قال : "هذا سَبِيل الله مستقيما". وخط على يمينه وشماله ، ثم قال : "هذه السُّبُل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه". ثم قرأ : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ }
وكذا رواه الحاكم ، عن الأصم ، عن أحمد بن عبد الجبار ، عن أبي بكر بن عياش ، به. وقال : صحيح [الإسناد] (6) ولم يخرجاه (7).
وهكذا رواه أبو جعفر الرازي ، وورقاء وعمرو بن أبي قيس ، عن عاصم ، عن أبي وائل شقيق ابن سلمة ، عن ابن مسعود به مرفوعا نحوه.
وكذا رواه يزيد بن هارون ومُسدَّد والنسائي ، عن يحيى بن حبيب بن عربي - وابن حِبَّان ، من
__________
(1) زيادة من م ، أ.
(2) في م : "وتنتبهون مما".
(3) في أ : "والتفرقة".
(4) في م : "لما".
(5) في أ : "قال".
(6) زيادة من م.
(7) المسند (1/465) والمستدرك (2/318).

(3/365)


حديث ابن وَهْب - أربعتهم عن حماد بن زيد ، عن عاصم ، عن أبي وائل ، عن ابن مسعود ، به.
وكذا رواه ابن جرير ، عن المثنى ، عن الحِمَّاني ، عن حماد بن زيد ، به.
ورواه الحاكم عن أبي بكر بن إسحاق ، عن إسماعيل بن إسحاق القاضي ، عن سليمان بن حرب ، عن حماد بن زيد ، به كذلك. وقال : صحيح ولم يخرجاه (1).
وقد روى هذا الحديث النسائي والحاكم ، من حديث أحمد بن عبد الله بن يونس ، عن أبي بكر ابن عياش ، عن عاصم ، عن زِرٍّ ، عن عبد الله بن مسعود. به مرفوعا (2).
وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه من حديث يحيى الحماني ، عن أبي بكر بن عياش ، عن عاصم ، عن زِرٍّ ، به.
فقد صححه الحاكم كما رأيت من الطريقين ، ولعل هذا الحديث عند عاصم بن أبي النجود ، عن زر ، وعن أبي وائل شقيق بن سلمة كلاهما عن ابن مسعود ، به ، والله أعلم.
قال الحاكم : وشاهد هذا الحديث حديث الشعبي عن جابر ، من وجه غير معتمد (3).
يشير إلى الحديث الذي قال الإمام أحمد ، وعبد بن حميد جميعا - واللفظ لأحمد : حدثنا عبد الله بن محمد - وهو أبو بكر بن أبي شيبة - أنبأنا أبو خالد الأحمر ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن جابر قال : كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فخط خطًا هكذا أمامه ، فقال : "هذا سبيل الله". وخطين عن يمينه ، وخطين عن شماله ، وقال : "هذه سبيل (4) الشيطان". ثم وضع يده في الخط الأوسط ، ثم تلا هذه الآية : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
ورواه ابن ماجه في كتاب السنة من سننه ، والبزار عن أبي سعيد بن عبد الله بن سعيد ، عن أبي خالد الأحمر ، به (5).
قلت : ورواه الحافظ ابن مَرْدُوَيه من طريقين ، عن أبي سعيد الكندي ، حدثنا أبو خالد ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن جابر قال : خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًا ، وخط عن يمينه خطًّا ، وخط عن يساره خطا ، ووضع يده على الخط الأوسط (6) وتلا هذه الآية : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ } (7).
__________
(1) النسائي في السنن الكبرى برقم (11174) وتفسير الطبري (12/230) والمستدرك (2/318).
(2) النسائي في السنن الكبرى برقم (11175) والمستدرك (2/239).
(3) المستدرك (2/318).
(4) في م ، أ : "سبل".
(5) المسند (3/397) وسنن ابن ماجة برقم (11) وقال البوصيري في الزوائد (1/45) : "هذا إسناد فيه مقال من أجل مجالد بن سعيد".
(6) في د ، م : "الأسود".
(7) وفي إسناده مجالد بن سعيد فيه كلام.

(3/366)


ولكن العمدة على حديث ابن مسعود ، مع ما فيه من الاختلاف إن كان مؤثرًا ، وقد روي موقوفا عليه.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا محمد بن ثور ، عن مَعْمَر ، عن أبَان ؛ أن رجلا قال لابن مسعود : ما الصراط المستقيم ؟ قال : تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه ، وطرفه في الجنة ، وعن يمينه جَوَادّ ، وعن يساره جَوَادّ ، وثمّ رجال يدعون من مر بهم. فمن أخذ في تلك الجوادّ انتهت به إلى النار ، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة. ثم قرأ ابن مسعود : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } الآية (1).
وقال ابن مَرْدُوَيه : حدثنا أبو عمرو ، حدثنا محمد بن عبد الوهاب ، حدثنا آدم ، حدثنا إسماعيل ابن عَيَّاش ، حدثنا أبان بن عياش ، عن مسلم بن أبي عمران ، عن عبد الله بن عمر : سأل عبد الله عن الصراط المستقيم ، فقال [له] (2) ابن مسعود : تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه ، وطرفه في الجنة ، وذكر تمام الحديث كما تقدم ، والله أعلم.
وقد روي من حديث النوّاس بن سمْعان نحوه ، قال الإمام أحمد : حدثنا الحسن بن سَوَّار أبو العلاء ، حدثنا لَيْث - يعني ابن سعد - عن معاوية بن صالح ؛ أن عبد الرحمن بن جُبَيْر بن نفير حدثه ، عن أبيه ، عن النواس بن سمعان ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ضرب الله مثلا صِراطًا مستقيمًا ، وعن جَنْبتَي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وعلى باب الصراط داع يقول : أيها (3) الناس ، ادخلوا الصراط المستقيم جميعا ، ولا تتفرجوا (4) وداع يدعو من جوف (5) الصراط ، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال : ويحك. لا تفتحه ، فإنك إن تفتحه تلجه ، فالصراط الإسلام ، والسوران حدود الله ، والأبواب المفتحة محارم الله ، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله ، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم".
ورواه الترمذي والنسائي ، عن (6) علي بن حُجْر - زاد النسائي - وعمرو بن عثمان ، كلاهما عن بَقِيَّة بن الوليد ، عن بَحير بن سعد ، عن خالد بن مَعْدان ، عن جُبَير بن نفير ، عن النوّاس بن سِمْعان ، به (7). وقال الترمذي : حسن غريب.
وقوله : { فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ [فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ] } (8) إنما وحد [سبحانه] (9) سَبيله لأن (10) الحق واحد ؛ ولهذا جمع لتفرقها وتشعبها ، كما قال تعالى : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [البقرة : 257].
__________
(1) تفسير الطبري (12/230).
(2) زيادة من م.
(3) في د ، م : "يأيها".
(4) في د : "ولا تفرقوا" ، وفي م ، أ : "ولا تفرجوا".
(5) في أ : "من فوق".
(6) في أ : "من حديث".
(7) المسند (2/182) وسنن الترمذي برقم (2859) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11233).
(8) زيادة من أ.
(9) زيادة من م.
(10) في أ : "لأنه".

(3/367)


ثُمَّ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنَان الواسطي ، حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا سفيان بن حسين ، عن الزهري ، عن أبي إدريس الخولاني ، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أيكم يبايعني على هذه (1) الآيات الثلاث ؟". ثم تلا { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } حتى فرغ من ثلاث الآيات ، ثم قال : "ومن وَفَّى بهن أجره على الله ، ومن انتقص منهن شيئا أدركه (2) الله في الدنيا كانت عقوبته ، ومن أخَّرَه إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء أخذه ، وإن شاء عفا عنه" (3).
{ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) }
قال ابن جرير : { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } تقديره : ثم قل - يا محمد - مخبرًا عنا بأنا آتينا موسى الكتاب ، بدلالة قوله : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ }
قلت : وفي هذا نظر ، وثُم هاهنا إنما هي لعطف الخبر بعد الخبر ، لا للترتيب هاهنا ، كما قال الشاعر :
قُلْ لِمَنْ سَادَ ثُم سَادَ أبوهُ... ثُمّ قد سَادَ قَبْلَ ذَلكَ جَده (4)
وهاهنا لما أخبر الله تعالى عن القرآن بقوله : { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ } عطف بمدح التوراة ورسولها ، فقال : { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ } وكثيرًا ما يقرن سبحانه (5) بين ذكر القرآن والتوراة ، كقوله تعالى : { وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا } [الأحقاف : 12] ، وقوله [في] (6) أول هذه السورة : { قُلْ مَنْ أَنزلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا } [الآية : 91] ، وبعدها { وَهَذَا كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ } الآية [الأنعام : 92] ، وقال تعالى مخبرًا عن المشركين : { فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى } قال تعالى : { أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ } [القصص : 48] ، وقال تعالى مخبرًا عن الجن أنهم قالوا : { قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ [وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ] } (7) [الأحقاف : 30].
وقوله تعالى : { تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلا } أي : آتيناه الكتاب الذي أنزلناه إليه تمامًا كاملا جامعا لجميع ما يحتاج إليه في شريعته ، كما قال : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } الآية [الأعراف : 145].
__________
(1) في م : "هؤلاء".
(2) في أ : "فأدركه".
(3) ورواه الحاكم في المستدرك (2/318) من طريق يزيد بن هارون به.
(4) لم أعرف قائله.
(5) في أ : "الله تعالى".
(6) زيادة من أ.
(7) زيادة من م ، أ ، وفي هـ "الآية".

(3/368)


وقوله : { عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ } أي : جزاء على إحسانه في العمل ، وقيامه بأوامرنا وطاعتنا ، كقوله : { هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ } [الرحمن : 60] ، وكقوله { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ] } (1) [البقرة : 124] ، وقوله : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [السجدة : 24].
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس : { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ } يقول : أحسن فيما أعطاه الله.
وقال قتادة : من أحسن في الدنيا تمم له ذلك في الآخرة.
واختار ابن جرير أن تقديره الكلام : { [ ثُمَّ ] آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا } (2) على إحسانه. فكأنه جعل "الذي" مصدرية ، كما قيل في قوله تعالى : { وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا } [التوبة : 69] أي : كخوضهم وقال ابن رَوَاحة :
فَثَبَّتَ اللهُ ما آتاكَ مِنْ حَسَنٍ... في المرسلين ونصرًا كالذي نُصِرُوا (3)
وقال آخرون : الذي هاهنا بمعنى "الذين".
قال ابن جرير : وقد ذكر عن عبد الله بن مسعود : أنه كان يقرؤها : "تماما على الذين أحسنوا".
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ } قال : على المؤمنين والمحسنين ، وكذا قال أبو عبيدة. قال البغوي : والمحسنون : الأنبياء والمؤمنون ، يعني : أظهرنا فضله عليهم.
قلت : كما قال تعالى : { قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي } [الأعراف : 144] ، ولا يلزم اصطفاؤه على محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والخليل ، عليهما السلام لأدلة أخر.
قال ابن جرير : وروى أبو عمرو بن العلاء عن يحيى بن يَعْمَر أنه كان يقرؤها. { تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ } رفعا ، بتأويل : "على الذي هو أحسن" ، ثم قال : وهذه قراءة لا أستجيز القراءة بها ، وإن كان لها في العربية وجه صحيح.
وقيل : معناه : تمامًا على إحسان الله إليه زيادة على ما أحسن الله إليه ، حكاه ابن جرير ، والبَغوي.
ولا منافاة بينه وبين القول الأول ، وبه جمع ابن جرير كما بيناه ، ولله الحمد.
وقوله : { وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً } فيه مَدْحٌ لكتابه الذي أنزله الله عليه ، { لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَهَذَا كِتَابٌ أَنزلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } فيه الدعوة إلى اتباع القرآن ووصفه بالبركة لمن اتبعه وعمل به في الدنيا والآخرة.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من أ.
(3) البيت في السيرة النبوية لابن هشام (2/374).

(3/369)


أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آَيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)

{ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157) }
قال ابن جرير : معناه : وهذا كتاب أنزلناه لئلا يقولوا : { إِنَّمَا أُنزلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا }
يعني : لينقطع عذرهم ، كما قال تعالى : { وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا (1) رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ [وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ] } (2) [القصص : 47].
وقوله : { عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هم اليهود والنصارى وكذا قال مجاهد ، والسدي ، وقتادة ، وغير واحد.
وقوله : { وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ } أي : وما كنا نفهم ما يقولون ؛ لأنهم ليسوا بلساننا ، ونحن مع ذلك في شغل وغفلة عما هم فيه.
وقوله : { أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنزلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ } أي : وقطعنا تَعَلُّلكم أن تقولوا : لو أنا أنزل علينا ما أنزل عليهم لكنا أهدى منهم فيما أوتوه ، كقوله : { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمَمِ [فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا] (3) } [فاطر : 42] ، وهكذا قال هاهنا : { فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ } يقول : فقد جاءكم من الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم النبي العربي قرآن عظيم ، فيه بيان للحلال والحرام ، وهدى لما في القلوب ، ورحمة من الله بعباده الذين يتبعونه ويقتفون ما فيه.
وقوله : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا } أي : لم ينتفع بما جاء به الرسول ، ولا اتبع ما أرسل به ، ولا ترك غيره ، بل صدف عن اتباع آيات الله ، أي : صرف الناس وصدهم عن ذلك قاله السدي.
وعن ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : { وَصَدَفَ عَنْهَا } أعرض عنها.
وقول السدي هاهنا فيه قوة ؛ لأنه قال : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا } كما تقدم في أول السورة : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ } [الآية : 26] ، وقال تعالى : { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ } [النحل : 88] ، وقال في هذه الآية الكريمة : { سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ }
وقد يكون المراد فيما (4) قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا } أي : لا آمن بها ولا عمل بها ، كقوله تعالى : { فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [القيامة : 32 ، 31] ، ونحو ذلك من الآيات الدالة على اشتمال الكافر على التكذيب بقلبه ، وترك
__________
(1) في أ : "لقالوا"
(2) زيادة من أ ، وفي هـ : "الآية".
(3) زيادة من م ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(4) في م : "كما".

(3/370)


العمل بجوارحه ، ولكن المعنى الأول أقوى وأظهر ، والله [تعالى] (1) أعلم.
__________
(1) زيادة من م ، .

(3/371)


هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آَيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آَمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)

{ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) }
يقول تعالى متوعدًا للكافرين به ، والمخالفين رسله والمكذبين بآياته ، والصادين عن سبيله : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } وذلك كائن يوم القيامة. { أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ] } (1) الآية ، وذلك قبل يوم القيامة كائن من أمارات الساعة وأشراطها كما قال البخاري في تفسير هذه الآية :
حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا عبد الواحد ، حدثنا عمارة ، حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا أبو هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مَغْرِبها ، فإذا رآها الناس آمن من عليها. فذلك حين { لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ }
حدثنا إسحاق ، حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن هَمَّام بن مُنَبِّه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون ، وذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها" ثم قرأ هذه الآية.
هكذا روي هذا الحديث من هذين الوجهين (2) ومن الوجه الأول أخرجه بقية الجماعة في كتبهم إلا الترمذي ، من طرق ، عن عمارة بن القَعْقَاع بن شُبْرُمَة ، عن أبي زرعة بن (3) عمرو بن جرير ، عن أبي هريرة ، به (4).
وأما الطريق الثاني : فرواه عن إسحاق ، غير منسوب ، فقيل : هو ابن منصور الكوسج ، وقيل : إسحاق بن نصر (5) والله أعلم.
وقد رواه مسلم عن محمد بن رافع النيسابوري ، كلاهما عن عبد الرزاق ، به (6).
وقد ورد هذا الحديث من طرق أخر عن أبي هريرة ، كما انفرد مسلم بروايته من حديث العلاء ابن عبد الرحمن بن يعقوب مولى الحرقة ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، به (7).
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا ابن فضيل ، عن أبيه ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ثلاث إذا خرجن { لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا } طلوع الشمس من مغربها ، والدجال ، ودابة الأرض".
__________
(1) زيادة من م ، .
(2) صحيح البخاري برقم (4635) ، (4636).
(3) في أ : "عن".
(4) صحيح مسلم برقم (157) وسنن أبي داود برقم (4312) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11177) وسنن ابن ماجة برقم (4068).
(5) قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (8/297) : "جزم خلف بأنه ابن نصر ، وأبو مسعود بأنه ابن منصور ، وقول خلف أقوى".
(6) صحيح مسلم برقم (157).
(7) صحيح مسلم برقم (157).

(3/371)


ورواه أحمد ، عن وَكِيع ، عن فُضَيْل بن غَزْوان ، عن أبي حازم سلمان ، عن أبي هريرة به ، وعنده : "والدخان".
ورواه مسلم ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، وزهير بن حرب ، عن وكيع (1).
ورواه هو أيضا والترمذي ، من غير وجه ، عن فضيل بن غزوان ، به (2).
ورواه إسحاق بن عبد الله الفَرَوي ، عن مالك ، عن أبي الزِّناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة. ولكن لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب من هذا الوجه ، لضعف الفَرْوي ، والله أعلم.
وقال ابن جرير : حدثنا الربيع بن سليمان ، حدثنا شعيب بن الليث ، عن أبيه ، عن جعفر بن ربيعة ، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت آمن الناس كلهم ، وذلك حين { لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ } الآية (3).
ورواه ابن لهيعة ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، به. ورواه وكيع ، عن فضيل بن غزوان ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة ، به.
أخرج هذه الطرق كلَّها الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه في تفسيره.
وقال ابن جرير : حدثنا الحسن بن يحيى ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن أيوب ، عن ابن سِيرين ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها ، قُبِل منه".
لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة (4).
حديث آخر عن أبي ذر الغفاري : في الصحيحين وغيرهما ، من طرق ، عن إبراهيم بن يزيد بن شريك التيمي ، عن أبيه ، عن أبي ذر جُنْدُب بن جُنَادة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تَدْري أين تذهب الشمس إذا غربت ؟". قلت : لا أدري ، قال : "إنها تنتهي دون العرش ، ثم تخر ساجدة ، ثم تقوم حتى يقال لها : ارجعي (5) فيوشك يا أبا ذر أن يقال لها : ارجعي من حيث جئت ، وذلك حين : { لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ } (6).
حديث آخر عن حُذيفة بن أسيد أبي سريحة الغفاري ، رضي الله عنه :
قال الإمام أحمد بن حنبل : حدثنا سفيان ، عن فُرَات ، عن أبي الطُّفَيْل ، عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال : أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ، ونحن نتذاكر الساعة ، فقال : "لا تقوم الساعة
__________
(1) تفسير الطبري (12/265) والمسند (2/445) وصحيح مسلم برقم (158).
(2) صحيح مسلم برقم (158) وسنن الترمذي برقم (3072).
(3) تفسير الطبري (12/255).
(4) تفسير الطبري (12/256) ورواه أحمد في مسنده (2/275) من طريق عبد الرزاق به.
(5) في د : "ارفعي".
(6) صحيح البخاري برقم (4803) وصحيح مسلم برقم (159).

(3/372)


حتى تَرَوْا عشر آيات : طُلوع الشمس من مَغْرِبها ، والدُّخَان ، والدابة ، وخروج يأجوج ومأجوج ، وخروج عيسى ابن مريم ، والدجال ، وثلاثة خُسوف : خَسْف بالمغرب ، وخسف بالمشرق ، وخسف بجزيرة العرب ، ونار تخرج من قَعْر عَدَن تسوق - أو : تحشر - الناس ، تبيت معهم حيث باتوا ، وتَقيل معهم حيث قالوا".
وهكذا رواه مسلم وأهل السنن الأربعة (1) من حديث فرات القَزَّاز ، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة ، عن حذيفة بن أسيد ، به. وقال الترمذي : حسن صحيح.
حديث آخر عن حذيفة بن اليمان ، رضي الله عنه :
قال الثوري ، عن منصور ، عن رِبْعي ، عن حذيفة قال : سألت النبي (2) صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله ، ما آية طلوع الشمس من مغربها ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "تطول تلك الليلة حتى تكون قَدْر ليلتين ، فبينما الذين كانوا يصلون فيها ، يعملون (3) كما كانوا يعملون قبلها والنجوم لا تسري ، قد قامت مكانها ، ثم يرقدون ، ثم يقومون فيصلون ، ثم يرقدون ، ثم يقومون فيطل عليهم جنوبهم ، حتى يتطاول عليهم الليل ، فيفزع الناس ولا يصبحون ، فبينما هم (4) ينتظرون طلوع الشمس من مشرقها إذ طلعت من مغربها ، فإذا رآها الناس آمنوا ، ولا ينفعهم إيمانهم".
رواه ابن مَرْدُوَيه ، وليس في الكتب الستة من هذا الوجه (5) والله أعلم.
حديث آخر عن أبي سعيد الخدري - واسمه : سعد بن مالك بن سنان - رضي الله عنه وأرضاه :
قال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا ابن أبي ليلى ، عن عطية العَوْفي ، عن أبي سعيد الخُدْري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا } قال : "طلوع الشمس من مغربها".
ورواه الترمذي ، عن سفيان بن وكيع ، عن أبيه ، به. وقال : غريب ، ورواه بعضهم ولم يرفعه (6).
وفي حديث طالوت بن عباد ، عن فَضَال بن جبير ، عن أبي أمامة صُدَيّ بن عَجْلان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أوّلَ الآيات طلوعُ الشمس من مغربها" (7).
وفي حديث عاصم بن أبي النَّجُود ، عن زِرّ بن حُبَيْش ، عن صفوان بن عَسَّال قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله فتح بابًا قبل المغرب عرضه سبعون عامًا للتوبة" ، قال : "لا (8) يغلق
__________
(1) المسند (4/7) وصحيح مسلم برقم (2901) وسنن أبي داود برقم (4311) وسنن الترمذي برقم (2183) وسنن ابن ماجة برقم (4041).
(2) في أ : "رسول الله".
(3) في أ : "فيعملون".
(4) في أ : "هم كذلك".
(5) ذكره السيوطي في اللآلئ المصنوعة (1/31) قال ابن مردويه : "حدثنا محمد بن علي بن سهل ، حدثنا محمد بن يوسف الرازي ، حدثنا إدريس بن علي الرازي ، حدثنا يحيى بن الضريس ، عن سفيان الثوري فذكره".
(6) المسند (3/31) وسنن الترمذي برقم (3071) وقد رواه ابن أبي شيبة في المصنف (15/179) من طريق وكيع ، عن ابن أبي ليلى به موقوفا.
(7) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط كما في مجمع الزوائد (8/9) وقال الهيثمي : "فيه فضال بن جبير وهو ضعيف ، وقد أنكر هذا الحديث".
(8) في م : "إن".

(3/373)


حتى تطلع الشمس منه". رواه الترمذي وصححه النسائي ، وابن ماجه في حديث طويل (1).
حديث آخر عن عبد الله بن أبي أوفى :
قال ابن مردويه : حدثنا محمد بن علي بن دُحَيم ، حدثنا أحمد بن حازم ، حدثنا ضرار بن صُرَد ، حدثنا ابن فضيل ، عن سليمان بن زَيد ، عن عبد الله بن أبي أوفى قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ليأتين على الناس ليلة تعدل ثلاث ليال من لياليكم هذه ، فإذا كان ذلك يعرفها المتنفلون ، يقوم أحدهم فيقرأ حزبه ، ثم ينام ، ثم يقوم فيقرأ حزبه ، ثم ينام. فبينما هم كذلك إذ صاح الناس بعضهم في بعض فقالوا : ما هذا ؟ فيفزعون إلى المساجد ، فإذا هم بالشمس قد طلعت من مغربها ، فضج الناس ضجة واحدة ، حتى إذا صارت في وسط السماء رجعت وطلعت من مطلعها". قال : "حينئذ لا ينفع نفسًا إيمانها".
هذا حديث غريب من هذا الوجه (2) وليس هو في شيء من الكتب الستة.
حديث آخر عن عبد الله بن عمرو (3)
قال الإمام أحمد : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا أبو حيان ، عن أبي زُرْعَة بن عمرو بن جرير قال : جلس ثلاثة نفر من المسلمين إلى مروان بالمدينة فسمعوه يقول - وهو يحدث في الآيات - : إن أولها خروج الدجال. قال : فانصرف النفر إلى عبد الله بن عمرو ، فحدثوه بالذي سمعوه من مروان في الآيات ، فقال (4) لم يقل مَرْوان شيئا قد حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك حديثا لم أنسه بعد ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة ضحىً ، فأيتهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها". ثم قال عبد الله - وكان يقرأ الكتب - : وأظن أولها خروجا طلوع الشمس من مغربها ، وذلك أنها كلما غربت أتت تحت العرش فسجدت واستأذنت في الرجوع فأذن لها في الرجوع ، حتى إذا بدا الله أن تطلع من مغربها فعلت كما كانت تفعل : أتت تحت العرش فسجدت واستأذنت في الرجوع ، فلم يرد عليها شيء ، ثم تستأذنُ في الرجوع فلا يرد عليها شيء ، ثم تستأذن فلا يرد عليها شيء ، حتى إذا ذهب من الليل ما شاء الله أن يذهب ، وعرفت أنه إذا (5) أذن لها في الرجوع لم تدرك المشرق ، قالت : ربي ، ما أبعد المشرق. من لي بالناس. حتى إذا صار الأفق كأنه طوق استأذنت في الرجوع ، فيقال لها : من مكانك فاطلعي. فطلعت على الناس من مغربها" ، ثم تلا عبد الله هذه الآية : { لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ [أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ] } (6) الآية.
وأخرجه مسلم في صحيحه ، وأبو داود وابن ماجه ، في سننيهما ، من حديث أبي حيان التيمي -
__________
(1) سنن الترمذي برقم (3536) وسنن النسائي (1/83) وسنن ابن ماجه برقم (4070).
(2) ورواه عبد بن حميد كما في الدر المنثور (3/392).
(3) في أ : "عمر".
(4) في أ : "فقال عبد الله".
(5) في م : "إن".
(6) زيادة من : م ، أ.

(3/374)


واسمه يحيى بن سعيد بن حيان - عن أبي زُرْعَة بن عمرو بن جرير ، به (1).
حديث آخر عنه :
قال الطبراني : حدثنا أحمد بن يحيى بن خالد بن حبان الرَّقِّي ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم - بن زبريق الحمصي - حدثنا عثمان بن سعيد بن كثير بن دينار ، حدثنا ابن لهيعة ، عن حيي بن عبد الله ، عن أبي عبد الرحمن الحُبُلي (2) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إذا طلعت الشمس من مغربها خر إبليس ساجدًا ينادي ويجهر : إلهي ، مُرْني أن أسجد لمن شئت". قال : "فيجتمع إليه زبانيته فيقولون : يا سيدهم ، ما هذا التضرع ؟ فيقول : إنما سألت ربي أن يُنْظِر إلى الوقت المعلوم ، وهذا الوقت المعلوم". قال "ثم تخرج دابة الأرض من صَدْع في الصفا". قال : "فأول خطوة تضعها بأنطاكيا ، فتأتي إبليس فَتَخْطمه (3)..
هذا حديث غريب جدًا وسنده ضعيف (4) ولعله من الزاملتين اللتين أصابهما (5) عبد الله بن عمرو يوم اليرموك ، فأما رفعه فمنكر ، والله أعلم.
حديث آخر عن عبد الله بن عمرو ، وعبد الرحمن بن عوف ، ومعاوية بن أبي سفيان ، رضي الله عنهم أجمعين :
قال الإمام أحمد : حدثنا الحكم بن نافع ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن ضَمْضَم بن زُرْعَة ، عن شُرَيح بن عبيد يرده إلى مالك بن يُخَامر ، عن ابن السعدي ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل". فقال معاوية ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعبد الله بن عمرو بن العاص : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الهجرة خصلتان : إحداهما (6) تهجر السيئات ، والأخرى تهاجر (7) إلى الله ورسوله ، ولا تنقطع ما تقبلت التوبة ، ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من المغرب (8) فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه ، وكفى الناس العمل". هذا الحديث حسن الإسناد (9) ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة ، والله أعلم.
حديث آخر عن ابن مسعود ، رضي الله عنه :
قال عوف الأعرابي ، عن محمد بن سيرين ، حدثني أبو عبيدة ، عن ابن مسعود ؛ أنه كان يقول : ما ذكر من الآيات فقد مضى غير أربع : طلوع الشمس من مغربها ، والدجال ، ودابة الأرض ، وخروج يأجوج ومأجوج. قال : وكان يقول : الآية التي تختم بها الأعمال طلوع الشمس من مغربها ، ألم تر أن الله يقول : { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا ] } (10) الآية كلها ، يعني طلوع
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2941) وسنن أبي داود برقم (4310) وسنن ابن ماجة برقم (4069).
(2) في أ : "الجبلي".
(3) في أ : "فتلطمه".
(4) المعجم الكبير للطبراني برقم (111) "القسم المفقود" وقال الهيثمي في المجمع (8/8) : "فيه إسحاق بن إبراهيم بن زبريق وهو ضعيف".
(5) في أ : "أصابها".
(6) في أ : "إحديهما".
(7) في م : "يهاجر".
(8) في م : "مغربها".
(9) المسند (1/192) وقال الهيثمي في المجمع (5/251) : "ورجال أحمد ثقات".
(10) زيادة من أ.

(3/375)


إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)

الشمس من مغربها (1).
حديث ابن عباس ، رضي الله عنهما :
رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه في تفسيره من حديث عبد المنعم بن إدريس ، عن أبيه ، عن وَهْب ابن مُنَبِّه ، عن ابن عباس [رضي الله عنه] (2) مرفوعا - فذكر حديثًا طويلا غريبًا منكرًا رفعه ، وفيه : "أن الشمس والقمر يطلعان يومئذ مقرونين (3) وإذا نَصَفا السماء رجعا ثم عادا إلى ما كانا عليه". وهو حديث غريب جدًا (4) بل منكر ، بل موضوع ، [والله أعلم] (5) إن ادعى أنه مرفوع ، فأما وقفه على ابن عباس أو وهب بن منبه - وهو الأشبه - فغير مدفوع (6) والله أعلم.
وقال سفيان ، عن منصور ، عن عامر ، عن عائشة [رضي الله عنها] (7) قالت : إذا خرج أول الآيات ، طُرحت الأقلام ، وحبست الحفظة ، وشهدت الأجساد على الأعمال. رواه ابن جرير.
فقوله [عَزَّ وجل] (8) { لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ } أي : إذا أنشأ الكافر إيمانًا يومئذ لا يقبل منه ، فأما من كان مؤمنا قبل ذلك ، فإن كان مصلحًا في عمله فهو بخير عظيم ، وإن كان مخَلِّطًا فأحدث توبة حينئذ (9) لم تقبل منه توبته ، كما دلت عليه (10) الأحاديث المتقدمة ، وعليه يحمل قوله تعالى : { أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا } أي : ولا يقبل منها كَسْبُ عمل صالح إذا لم يكن عاملا به قبل ذلك.
وقوله : { قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ } تهديد شديد للكافرين ، ووعيد أكيد لمن سَوَّف بإيمانه وتوبته إلى وقت لا ينفعه ذلك. وإنما كان الحكم هذا عند طلوع الشمس من مغربها ، لاقتراب وقت القيامة ، وظهور أشراطها كما قال : { فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ } [محمد : 18] ، وقال تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا [سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ] } (11) [غافر : 84 ، 85].
{ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) }
قال مجاهد ، وقتادة ، والضحاك ، والسُّدِّي : نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى.
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس في قوله : { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا } وذلك أن اليهود
__________
(1) رواه الطبري في تفسيره (12/260).
(2) زيادة من أ.
(3) في م ، أ : "مقرونين من المغرب".
(4) ذكره السيوطي في الدر المنثور (3/396 ، 397) وقال : إسناده واه.
(5) زيادة من م.
(6) في أ : "مرفوع".
(7) زيادة من أ.
(8) زيادة من أ.
(9) في أ : "يومئذ".
(10) في م : "عليه هذه".
(11) زيادة من : م ، أ ، وفي هـ : "الآية".

(3/376)


والنصارى اختلفوا قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم ، فتفرقوا. فلما بعث [الله] (1) محمدا صلى الله عليه وسلم أنزل : { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } الآية.
وقال ابن جرير : حدثني سعد بن عَمْرو السكوني ، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد : كتب إليّ عباد بن كثير ، حدثني لَيْث ، عن طاوس ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن في هذه الأمَّة { الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } وليسوا منك ، هم أهل البدع ، وأهل الشبهات ، وأهل الضلالة ، من هذه الأمة" (2).
لكن هذا الإسناد لا يصح ، فإن عباد بن كثير متروك الحديث ، ولم يختلق هذا الحديث ، ولكنه وَهَم في رفعه. فإنه رواه سفيان الثوري ، عن ليث - وهو ابن أبي سليم - عن طاوس ، عن أبي هريرة ، في قوله : { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا } قال : نزلت في هذه الأمة.
وقال أبو غالب ، عن أبي أمامة ، في قوله : { [إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ ] وَكَانُوا شِيَعًا (3) } قال : هم الخوارج. وروى عنه مرفوعًا ، ولا يصح.
وقال شعبة ، عن مُجالد ، عن الشعبي ، عن شُرَيْح ، عن عمر [رضي الله عنه] (4) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة : { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا } قال : "هم أصحاب البدع".
وهذا رواه ابن مَرْدُوَيه ، وهو غريب أيضًا (5) ولا يصح رفعه.
والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفًا له ، فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ، وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق ، فمن اختلف فيه { وَكَانُوا شِيَعًا } أي : فرقًا كأهل الملل والنحل - وهي الأهواء والضلالات - فالله (6) قد بَرَّأ رسوله مما هم فيه. وهذه الآية كقوله تعالى : { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ] } (7) الآية[الشورى : 13] ، وفي الحديث : "نحن معاشر الأنبياء أولاد عَلات ، ديننا واحد".
فهذا هو الصراط المستقيم ، وهو ما جاءت به الرسل ، من عبادة الله وحده لا شريك له ، والتمسك بشريعة الرسول المتأخر ، وما خالف ذلك فضلالات وجهالات وآراء وأهواء ، الرسل بُرآء منها ، كما قال : { لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ }
__________
(1) زيادة من أ.
(2) تفسير الطبري (12/270) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (3321) من طريق معلل ، عن موسى بن أعين ، عن سفيان الثوري ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه به ، وقال : "لم يروه عن سفيان إلا موسى تفرد به معلل". ورواه الطبري في تفسيره (12/270) على أبي هريرة موقوفا كما بينه الحافظ ابن كثير.
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من أ.
(5) ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (3320) وأبو نعيم في الحلية (4/138) من طريق محمد بن مصفى ، عن بقية بن الوليد ، عن شعبة به ، وقال الطبراني : "لم يروه عن شعبة إلا بقية ، تفرد به محمد بن مصفى ، وهو حديثه".
(6) في م : "فإنه".
(7) زيادة من م ، أ.

(3/377)


مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)

وقوله : { إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } كقوله { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ] (1) } [الحج : 17] ، ثم بين فضله يوم القيامة في حكمه وعدله فقال :
{ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160) }
وهذه الآية الكريمة مفصلة لما أجمل في الآية الأخرى ، وهي قوله : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا } [النمل : 89] ، وقد وردت الأحاديث مطابقة لهذه الآية ، كما قال الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله :
حدثنا عفان ، حدثنا جعفر بن سليمان ، حدثنا الجعد أبو عثمان ، عن أبي رجاء العُطاردي ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما (2) ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما يروي عن ربه ، عز وجل (3) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن ربكم [عز وجل] (4) رحيم ، من هَمَّ بحسنة فلم يعملها كُتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشرا إلى سبعمائة ، إلى أضعاف كثيرة. ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له واحدة ، أو يمحوها الله ، عَزَّ وجل ، ولا يهلك على الله إلا هالك".
ورواه البخاري ، ومسلم ، والنسائي ، من حديث الجعد بن أبي عثمان ، به (5).
وقال [الإمام] (6) أحمد أيضًا : حدثنا معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن المعرور بن سُوَيْد ، عن أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يقول الله ، عَزَّ وجل : من عَمِل حسنة فله عشر أمثالها وأزيد. ومن عمل سيئة فجزاؤها مثلها أو أغفر. ومن عمل قُرَاب الأرض خطيئة ثم لقيني لا يشرك بي شيئا جعلت له مثلها مغفرة. ومن اقترب إليَّ شبرًا اقتربت إليه ذراعا ، ومن اقترب إليَّ ذراعًا اقتربت إليه باعًا ، ومن أتاني يمشي أتيته هَرْوَلَة".
ورواه مسلم عن أبي كريب ، عن أبي معاوية ، به. وعن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن وَكِيع ، عن الأعمش ، به (7). ورواه ابن ماجه ، عن علي بن محمد الطنافسي ، عن وكيع ، به (8).
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي : حدثنا شَيْبَان ، حدثنا حَمَّاد ، حدثنا ثابت ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من هَمَّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشرا. ومن هم بسيئة فلم يعملها لم يكتب عليه شيء ، فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة" (9).
واعلم أن تارك السيئة الذي لا يعملها على ثلاثة أقسام : تارة يتركها لله [عَزَّ وجل] (10) فهذا تكتب له حسنة على كفه عنها لله تعالى ، وهذا عمل ونِيَّة ؛ ولهذا جاء أنه يكتب له حسنة ، كما جاء
__________
(1) زيادة من أ ، وفي هـ : "الآية".
(2) في م : "عنه"
(3) في م : "تبارك وتعالى".
(4) زيادة من م ، أ.
(5) صحيح البخاري برقم (6491) وصحيح مسلم برقم (131).
(6) زيادة من م.
(7) المسند (5/153) وصحيح مسلم برقم (2687).
(8) سنن ابن ماجة برقم (3821).
(9) مسند أبي يعلى (6/170) وقال الهيثمي في المجمع (10/145) : "رجاله رجال الصحيح".
(10) زيادة من أ.

(3/378)


في بعض ألفاظ الصحيح : "فإنما تركها من جرائي" (1) أي : من أجلي. وتارة يتركها نسيانًا وذُهولا عنها ، فهذا لا له ولا عليه ؛ لأنه لم ينو خيرًا ولا فعل (2) شرًا. وتارة يتركها عجزا وكسلا بعد السعي في أسبابها والتلبس بما يقرب منها ، فهذا يتنزل منزلة فاعلها ، كما جاء في الحديث ، في الصحيحين : "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار". قالوا : يا رسول الله ، هذا القاتل ، فما بال المقتول ؟ قال : "إنه كان حريصًا على قتل صاحبه" (3).
قال الإمام أبو يعلى الموصلي : حدثنا مجاهد بن موسى ، حدثنا علي - وحدثنا الحسن بن الصباح وأبو خَيْثَمَة - قالا حدثنا إسحاق بن سليمان ، كلاهما عن موسى بن عبيدة ، عن أبي بكر بن عبيد الله ابن أنس ، عن جده أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من هم بحسنة كتب الله له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشرا. ومن هم بسيئة لم تكتب عليه حتى يعملها ، فإن عملها كتبت عليه سيئة ، فإن تركها كتبت له حسنة. يقول الله تعالى : إنما تركها من مخافتي".
هذا لفظ حديث مجاهد - يعني ابن موسى (4).
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِيّ ، حدثنا شيبان بن عبد الرحمن ، عن الرُّكَيْن بن الربيع ، عن أبيه ، عن عمه فلان بن عَمِيلة ، عن خُرَيْم بن فاتك (5) الأسدي ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الناس أربعة ، والأعمال ستة. فالناس مُوَسَّع له في الدنيا والآخرة ، وموسع له في الدنيا مَقْتور عليه في الأخرة ، ومقتور عليه في الدنيا موسع له في الآخرة ، وشَقِيٌ في الدنيا والآخرة. والأعمال مُوجبتان ، ومثل بمثل ، وعشرة أضعاف ، وسبعمائة ضعف ؛ فالموجبتان (6) من مات مُسْلِمًا مؤمنًا لا يشرك بالله شيئًا وَجَبَتْ له الجنة ، ومن مات كافرًا وجبت له النار. ومن هَمَّ بحسنة فلم يعملها ، فعلم الله أنه قد أشعَرَها قَلْبَه وحرص عليها ، كتبت له حسنة. ومن هم بسيئة لم تكتب عليه ، ومن عملها كتبت واحدة ولم تضاعف عليه. ومن عمل حسنة كانت عليه (7) بعشرة أمثالها. ومن أنفق نفقة في سبيل الله ، عَزَّ وجل ، كانت له بسبعمائة ضعف" (8).
ورواه الترمذي والنسائي ، من حديث الرُّكَيْن بن الربيع ، عن أبيه ، عن بشير بن عَمِيلة ، عن خُرَيْم بن فاتك ، به ببعضه (9). والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، حدثنا يزيد بن زُرَيْع ،
__________
(1) جزء من حديث رواه مسلم في صحيحه برقم (129) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.
(2) في أ : "عمل".
(3) صحيح البخاري برقم (31) وصحيح مسلم برقم (2888) من حديث أبي بكرة نفيع بن الحارث ، رضي الله عنه.
(4) ذكره الحافظ ابن حجر في المطالب العالية (3/218) ونسبه لأبي يعلى ، وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف.
(5) في أ : "قاتم".
(6) في أ : "والموجبتان".
(7) في م ، أ : "له".
(8) المسند (4/345).
(9) سنن الترمذي برقم (1625) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11027) وقال الترمذي : "وفي الباب عن أبي هريرة ، وهذا حديث حسن إنما نعرفه من حديث الركين بن الربيع".

(3/379)


قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)

حدثنا حبيب المعلم ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يحضر الجمعة ثلاثةُ نَفَر : رجل حَضَرها بِلَغْوٍ فهو حَظُّه منها ، ورجل حضرها بدعاء ، فهو رجل دعا الله ، فإن شاء أعطاه ، وإن شاء مَنَعه ، ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يَتَخَطَّ رَقَبَة مسلم ولم يُؤْذ أحدًا ، فهي (1) كفارة له إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام ؛ وذلك لأن الله يقول : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } (2).
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا هاشم بن مَرْثَد ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثني أبي ، حدثني ضَمْضَم بن زرعة ، عن شُرَيْح بن عبيد ، عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الجمعة كفارة لما بينها وبين الجمعة التي تليها (3) وزيادة ثلاثة أيام ؛ وذلك لأن الله تعالى قال : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } (4).
وعن أبي ذر ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من صام ثلاثة أيام من كل شهر فقد صام الدَّهْرَ كله".
رواه الإمام أحمد - وهذا لفظه - والنسائي ، وابن ماجه ، والترمذي (5) وزاد : "فأنزل الله تصديق ذلك في كتابه : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } اليوم بعشرة أيام" ، ثم قال : هذا حديث حسن.
وقال ابن مسعود : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } من جاء ب"لا إله إلا الله" ، { وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ } يقول : بالشرك.
وهكذا ورد عن جماعة من السلف.
وقد ورد فيه حديث مرفوع - الله أعلم بصحته ، لكني لم أره (6) من وجه يثبت - والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدًا ، وفيما ذكر كفاية ، إن شاء الله ، وبه الثقة.
{ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) }
يقول [الله] (7) تعالى آمرًا نبيه (8) صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين أن يخبر بما أنعم الله به عليه من الهداية إلى صراطه المستقيم ، الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف : { دِينًا قِيَمًا } أي : قائمًا ثابتًا ، { مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } كقوله { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ } [البقرة : 130] ، وقوله { وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } [الحج : 78] ،
__________
(1) في م : "فإنها".
(2) ورواه أبو داود في السنن برقم (1113) وابن خزيمة في صحيحه برقم (1813) من طريق يزيد بن زريع به.
(3) في أ : "قبلها".
(4) المعجم الكبير (3/298) وقال الهيثمي في المجمع (2/173) : "فيه محمد بن إسماعيل بن عياش عن أبيه ، قال أبو حاتم : لم يسمع من أبيه شيئا".
(5) المسند (5/145) وسنن النسائي (4/219) وسنن ابن ماجة برقم (1708) وسنن الترمذي برقم (762).
(6) في أ : "لم أروه".
(7) زيادة من م.
(8) في أ : "لنبيه".

(3/380)


وقوله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [النحل : 120 _ 123].
وليس يلزم من كونه [عليه السلام] (1) أُمِرَ باتباع ملة إبراهيم الحنيفية أن يكون إبراهيم أكمل منه فيها ؛ لأنه ، عليه السلام (2) قام بها قيامًا عظيمًا ، وأكملت له إكمالا تامًا لم يسبقه أحد إلى هذا الكمال ؛ ولهذا كان خاتم الأنبياء ، وسيد ولد آدم على الإطلاق ، وصاحب المقام المحمود الذي يرهب (3) إليه الخلق حتى إبراهيم الخليل ، عليه السلام.
وقد قال ابن مَرْدُوَيه : حدثنا محمد بن عبد الله بن حَفْص ، حدثنا أحمد بن عِصام ، حدثنا أبو داود الطيالسي ، حدثنا شعبة ، أنبأنا سلمة بن كُهَيْل ، سمعت ذر بن عبد الله الهَمْدَاني ، يحدث عن ابن أبْزَى ، عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح قال : "أصبحنا على مِلَّة الإسلام ، وكلمة الإخلاص ، ودين نبينا محمد ، وملة [أبينا] (4) إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين" (5).
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، أخبرنا محمد بن إسحاق ، عن داود بن الحُصَين ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الأديان أحبّ إلى الله ؟ قال : "الحنيفية السمحة" (6).
وقال [الإمام] (7) أحمد أيضًا : حدثنا سليمان بن داود ، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزِّناد ، عن هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذقني على منكبه ، لأنظر إلى زَفْن الحبشة ، حتى كنت التي مللت فانصرفت عنه.
قال عبد الرحمن ، عن أبيه قال : قال لي عروة : إن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ : "لتعلم (8) يَهودُ أن في ديننا فُسْحَةً ، إني أرسلت بِحَنيفيَّة سَمْحَة (9).
أصل الحديث مُخَرَّجٌ في الصحيحين ، والزيادة لها شواهد من طرق عدة ، وقد استقصيت طرقها في شرح البخاري ، ولله الحمد والمنة.
وقوله تعالى : { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } يأمره تعالى أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله ويذبحون لغير اسمه ، أنه مخالف لهم في ذلك ، فإن صلاته لله ونسكه على اسمه وحده لا شريك له ، وهذا كقوله تعالى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } [الكوثر : 2] أي : أخلص له صلاتك (10) وذبيحتك ، فإن المشركين كانوا يعبدون الأصنام ويذبحون لها ، فأمره الله تعالى
__________
(1) زيادة من م.
(2) في أ : "صلى الله عليه وسلم"
(3) في م : "يرغب".
(4) زيادة من أ.
(5) ورواه أحمد في مسنده (3/406) من طريق محمد بن جعفر عن شعبة به ، قال الهيثمي في المجمع (10/116) : "رجاله رجال الصحيح".
(6) المسند (1/236) وقال الهيثمي في المجمع (1/60) : "فيه ابن إسحاق وهو مدلس ولم يصرح بالسماع".
(7) زيادة من أ.
(8) في د ، م : "ليعلم".
(9) المسند (6/116).
(10) في م : "لصلاتك".

(3/381)


بمخالفتهم والانحراف عما هم فيه ، والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى.
قال مجاهد في قوله : { إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي } قال : النسك : الذبح في الحج والعمرة.
وقال الثوري ، عن السُّدِّي عن سعيد بن جُبَيْر : { وَنُسُكِي } قال : ذبحي. وكذا قال السُّدِّي والضحاك.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا محمد بن عَوْف ، حدثنا أحمد بن خالد الوَهْبِي ، حدثنا محمد بن إسحاق ، عن زيد بن أبي حبيب ، عن ابن عباس ، عن جابر بن عبد الله قال : ضَحَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عيدٍ بِكَبْشَيْنِ وقال حين ذبحهما (1) : " وَجَّهْت وجهي للذي فَطَر السموات والأرض حنيفًا وَمَا أنا من المشرِكين ، { إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } (2).
وقوله : { وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } قال قتادة : أي من هذه الأمة.
وهو كما قال ، فإن جميع الأنبياء قبله كلهم كانت دعوتهم إلى الإسلام ، وأصله عبادة الله وحده لا شريك له ، كما قال : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء : 25] ، وقد أخبر تعالى عن نوح أنه قال لقومه : { فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [يونس : 72] ، وقال تعالى : { وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ. إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [البقرة : 130 - 132] ، وقال يوسف ، عليه السلام : { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ } [يوسف : 101] ، وَقَالَ مُوسَى { يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [يونس : 84 - 86] ، وقال تعالى : { إِنَّا أَنزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ [بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ } (3) الآية[المائدة : 44] ، وقال تعالى : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } [المائدة : 111].
فأخبر [الله] (4) تعالى أنه بعث رسله بالإسلام ، ولكنهم متفاوتون فيه بحسب شرائعهم الخاصة التي ينسخ بعضها بعضًا ، إلى أن نسخت بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم التي لا تنسخ أبد الآبدين ، ولا تزال
__________
(1) في د : "وجههما".
(2) وفي إسناده انقطاع ، فإن يزيد بن أبي حبيب لم يسمع من ابن عباس ، قال الدارقطني في العلل : "لم يسمع من أحد من الصحابة".
(3) زيادة من م ، أ.
(4) زيادة من أ.

(3/382)


قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)

قائمة منصورة ، وأعلامها مشهورة (1) إلى قيام الساعة ؛ ولهذا قال عليه [الصلاة و] (2) السلام : "نحن مَعاشِر الأنبياء أولاد عَلات ديننا واحد" (3) فإن أولاد العلات هم الأخوة من أب واحد وأمهات شَتَّى ، فالدين واحد وهو عبادة الله وحده لا شريك له ، وإن تنوعت الشرائع التي هي بمنزلة الأمهات ، كما أن إخوة الأخياف (4) عكس هذا ، بنو الأم الواحدة من آباء شتى ، والأخوة الأعيان الأشقاء من أب واحد وأم واحدة ، والله أعلم.
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد ، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله الماجشُون ، حدثنا عبد الله ابن الفضل الهاشمي ، عن الأعرج ، عن عبيد الله بن أبي رافع ، عن علي رضي الله عنه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا كبر استفتح ، ثم قال : " { وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [الأنعام : 79] ، { إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } اللهم أنت الملك ، لا إله إلا أنت ، أنت ربي وأنا عبدك ، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي ، فاغفر لي ذنوبي جميعًا ، لا (5) يغفر الذنوب إلا أنت. واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت. واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت. تباركت وتعاليت ، أستغفرك وأتوب إليك".
ثم ذكر تمام الحديث فيما يقوله في الركوع والسجود والتشهد. وقد رواه مسلم في صحيحه (6).
{ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) }
يقول تعالى : { قُلْ } يا محمد لهؤلاء المشركين بالله في إخلاص العبادة له والتوكل عليه : { أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا } أي : أطلب ربا سواه ، وهو رب كل شيء ، يَرُبّنِي ويحفظني ويكلؤني ويدبر أمري ، أي : لا أتوكل إلا عليه ، ولا أنيب إلا إليه ؛ لأنه رب كل شيء ومليكه ، وله الخلق والأمر.
هذه (7) الآية فيها الأمر بإخلاص التوكل ، كما تضمنت الآية التي قبلها إخلاص العبادة له (8) لا شريك له. وهذا المعنى يقرن بالآخر كثيرًا [في القرآن] (9) كما قال (10) تعالى مرشدًا لعباده أن يقولوا : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة : 5] ، وقوله { فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [هود : 123] ، وقوله { قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } [الملك : 29] ، وقوله { رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا } [المزمل : 9] ، وأشباه ذلك من الآيات.
وقوله : { وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } إخبار عن الواقع يوم القيامة في
__________
(1) في أ : "منشورة".
(2) زيادة من أ.
(3) رواه البخاري في صحيحه برقم (3442 ، 3443) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.
(4) في أ : "الأختان".
(5) في م : "إنه لا".
(6) المسند (1/94) وصحيح مسلم برقم (771).
(7) في م ، أ : "فهذه".
(8) في أ : "وحده".
(9) زيادة من أ.
(10) في أ : "كقوله".

(3/383)


وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)

جزاء الله تعالى وحكمه وعدله ، أن النفوس إنما تجازى بأعمالها (1) إن خيرًا فخير ، وإن شرًا فشر ، وأنه لا يحمل من خطيئة أحد على أحد. وهذا من عدله تعالى ، كما قال : { وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } [فاطر : 18] ، وقوله { فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا } [طه : 112] ، قال علماء التفسير (2) : فلا يظلم بأن يحمل عليه سيئات غيره ، ولا يهضم بأن ينقص من حسناته. وقال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ } [المدثر : 38 ، 39] ، معناه : كل نفس مرتهنة بعملها السيئ إلا أصحاب اليمين ، فإنه قد تعود (3) بركات أعمالهم الصالحة على ذراريهم ، كما قال في سورة الطور : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } [الآية : 21] ، أي : ألحقنا بهم ذرياتهم في المنزلة الرفيعة في الجنة ، وإن لم يكونوا قد شاركوهم في الأعمال ، بل في أصل الإيمان ، { وَمَا أَلَتْنَاهُمْ } أي : أنقصنا أولئك السادة الرفعاء من أعمالهم شيئا حتى ساويناهم وهؤلاء الذين هم أنقص منهم منزلة ، بل رفعهم تعالى إلى منزلة الآباء ببركة أعمالهم ، بفضله ومنته (4) ثم قال : { كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ } [الطور : 21] ، أي : من شر.
وقوله : { ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } أي : اعملوا على مكانتكم إنا عاملون على ما نحن عليه ، فستعرضون ونعرض عليه ، وينبئنا وإياكم بأعمالنا وأعمالكم ، وما كنا نختلف فيه في الدار الدنيا ، كما قال تعالى : { قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ. قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ } [سبأ : 25 ، 26].
{ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) }
يقول تعالى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ } أي : جعلكم تعمرون الأرض جيلا بعد جيل ، وقَرْنا بعد قرن ، وخَلَفا بعد سَلَف. قاله ابن زيد وغيره ، كما قال : { وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأرْضِ يَخْلُفُونَ } [الزخرف : 60] ، وكقوله تعالى : { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ } [النمل : 62] ، وقوله { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة : 30] ، وقوله { عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [الأعراف : 129].
وقوله : { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } أي : فاوت بينكم في الأرزاق والأخلاق ، والمحاسن والمساوي ، والمناظر والأشكال والألوان ، وله الحكمة في ذلك ، كقوله : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا } [الزخرف : 32] ، وقوله [تعالى] (5) : { انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا } [الإسراء : 21].
__________
(1) في م : "بالأعمال".
(2) في د ، م ، أ : "العلماء بالتفسير".
(3) في أ : "يعود".
(4) في أ : "ومنه".
(5) زيادة من أ.

(3/384)


وقوله : { لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ } أي ليختبركم في الذي أنعم به عليكم وامتحنكم به ، ليختبر الغني في غناه ويسأله عن شكره ، والفقير في فقره ويسأله عن صبره.
وقد روى مسلم في صحيحه ، من حديث أبي نَضْرة ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الدنيا حُلْوَة خَضِرَة وإن الله مُسْتَخْلِفكم فيها لينظر كيف (1) تعملون ، فاتقوا الدنيا ، واتقوا النساء ، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" (2).
وقوله : { إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } ترهيب وترغيب ، أن حسابه وعقابه سريع ممن (3) عصاه وخالف رسله { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } لمن والاه واتبع رسله فيما جاءوا به من خير وطلب.
وقال محمد بن إسحاق : يرحم العباد على ما فيهم. رواه ابن أبي حاتم.
وكثيرا ما يقرن تعالى في القرآن بين هاتين الصفتين ، كما قال [تعالى] (4) : وقوله : { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ } [الحجر : 49 ، 50] ، [وقوله] (5) : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ } [الرعد : 6] وغير ذلك من الآيات المشتملة على الترغيب والترهيب ، فتارة يدعو عباده إليه بالرغبة وصفة الجنة والترغيب فيما لديه ، وتارة يدعوهم إليه بالرهبة وذكر النار وأنكالها وعذابها والقيامة وأهوالها ، وتارة بهذا وبهذا ليَنْجَع في كُلَّ بحَسَبِه. جَعَلَنا الله ممن (6) أطاعه فيما أمر ، وترك ما عنه نهى وزَجَر ، وصدقه فيما أخبر ، إنه قريب مجيب سميع الدعاء ، جواد كريم وهاب.
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا زُهَيْر ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة [رضي الله عنه] (7) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طَمِع بالجنة أحد ، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قَنطَ من الجنة أحد ، خلق الله مائة رَحْمَة فوضع واحدة بين خلقه يتراحمون بها ، وعند الله تسعة وتسعون".
ورواه الترمذي ، عن قُتَيْبَة ، عن عبد العزيز الدَّراوَرْدي ، عن العلاء به. وقال : حسن [صحيح] (8). ورواه مسلم عن يحيى بن يحيى وقتيبة وعلي بن حُجْر ، ثلاثتهم عن إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء (9).
[آخر تفسير سورة الأنعام ولله الحمد والمنة] (10)
__________
(1) في أ : "فناظر ماذا".
(2) صحيح مسلم برقم (2742).
(3) في أ : "فيمن".
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من أ.
(6) في أ : "فيمن".
(7) زيادة من أ.
(8) زيادة من أ.
(9) المسند (2/484) وسنن الترمذي برقم (3542) ورواه مسلم في صحيحه برقم (2752) حدثنا يحيي بن أيوب وقتيبة وابن حجر ، عن إسماعيل بن جعفر به.
(10) زيادة من م ، أ.

(3/385)


المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)

تفسير سورة الأعراف
بسم الله الرحمن الرحيم
{ المص (1) كِتَابٌ أُنزلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ (3) }
قد تقدم الكلام في أول "سورة البقرة" على ما يتعلق بالحروف وبسطه ، واختلاف الناس فيه.
وقال ابن جرير : حدثنا سفيان بن وَكِيع ، حدثنا أبي ، عن شَرِيك ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي الضُّحَى ، عن ابن عباس : { المص } أنا الله أفصل وكذا قال سعيد بن جُبَير.
[قوله] (1) { كِتَابٌ أُنزلَ إِلَيْكَ } أي : هذا كتاب أنزل إليك ، أي : من ربك ، { فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ } قال مجاهد ، [وعطاء] (2) وقتادة والسُّدِّي : شَكٌّ منه.
وقيل : لا تتحرج به في إبلاغه والإنذار به [واصبر] (3) كما صبر أولو العزم من الرسل ؛ ولهذا قال : { لِتُنْذِرَ بِهِ } أي : أنزل إليك لتنذر به الكافرين ، { وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ }.
ثم قال تعالى مخاطبًا للعالم : { اتَّبِعُوا مَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } أي : اقتفوا آثار النبي الأمي الذي جاءكم بكتاب أنزل إليكم من رب كلّ شيء ومليكه ، { وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ } أي : لا تخرجوا عما جاءكم به الرسول إلى غيره ، فتكونوا قد عدلتم عن حكم الله إلى حكم غيره.
{ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ } كقوله : { وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ]. وقوله : { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } [ الأنعام : 116 ] وقوله : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلا وَهُمْ مُشْرِكُونَ } [ يوسف : 106 ].
{ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) }
يقول تعالى : { وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } أي : بمخالفة رسلنا وتكذيبهم ، فأعقبهم ذلك خِزْيُ الدنيا موصولا بذُلِّ الآخرة ، كما قال تعالى : { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ الأنعام : 10 ]. وقال تعالى : { فَكَأَيِّنْ (4) مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ } [ الحج : 45 ].
__________
(1) زيادة من د.
(2) زيادة من م.
(3) زيادة من ك ، م ، أ.
(4) في أ : "وكأين".

(3/387)


وقال تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قَلِيلا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ } [ القصص : 58 ].
وقوله : { فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } أي : فكان منهم من جاءه أمر الله وبأسه ونقمته { بَيَاتًا } أي : ليلا { أَوْ هُمْ قَائِلُونَ } من القيلولة ، وهي : الاستراحة وسط النهار. وكلا الوقتين وقت غَفْلة ولَهْو (1) كما قال [تعالى] (2) { أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُون * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ } [ الأعراف : 97 ، 98 ]. وقال : { أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِين * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } [ النحل : 45 - 47 ].
وقوله : { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } أي : فما كان قولهم عند مجيء العذاب إلا أن اعترفوا بذنوبهم ، وأنهم حقيقون بهذا. كما قال تعالى : { وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً [ وَأَنْشَأَْ بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ * لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ. قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا ] خَامِدِين } (3) [ الأنبياء : 11 - 15 ].
وقال ابن جرير : في هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : "ما هلك قوم حتى يُعْذِروا من أنفسهم" ، حدثنا بذلك ابن حُمَيْد ، حدثنا جرير ، عن أبي سِنان ، عن عبد الملك بن مَيْسَرة الزرّاد قال : قال عبد الله بن مسعود [رضي الله عنه] (4) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما هلك قوم حتى يُعْذِروا من أنفسهم". قال : قلت لعبد الملك : كيف يكون ذاك ؟ قال : فقرأ هذه الآية : { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } (5).
وقوله : { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ } الآية ، كقوله [تعالى] (6) { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } [ القصص : 65 ] وقوله : { يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ } [ المائدة : 109 ] فالرَّبُّ تبارك وتعالى يوم القيامة يسأل الأمم عما أجابوا رسله فيما أرسلهم به ، ويسأل الرسل أيضا عن إبلاغ (7) رسالاته ؛ ولهذا قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، في تفسير هذه الآية : { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } قال : يسأل الله الناس عما أجابوا المرسلين ، ويسأل المرسلين عما بلغوا.
وقال ابن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن ، حدثنا أبو سعيد الكنْدي ، حدثنا المحاربي ، عن لَيْث ، عن نافع ، عن ابن عمر [رضي الله عنهما] (8) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كلكم رَاعٍ وكلكم مسئول عن رَعِيَّتِهِ ، فالإمام يُسْأل عن الرجل (9)
__________
(1) في ك : "لهو وغفلة".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من ك ، د ، أ ، وفي هـ "إلى قوله".
(4) زيادة من أ.
(5) تفسير الطبري (12/304).
(6) زيادة من ك ، م ، أ.
(7) في ك ، م : "بلاغ".
(8) زيادة من أ.
(9) في ك : "عن رعيته".

(3/388)


وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)

والرجل يسأل عن أهله (1) والمرأة تسأل عن بيت زوجها ، والعبد يسأل عن مال سيده". قال الليث : وحدثني ابن طاوس ، مثله ، ثم قرأ : { فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ } (2).
وهذا الحديث مُخَرَّجٌ في الصحيحين بدون هذه الزيادة (3)
وقال ابن عباس : { فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ } يوضع الكتاب يوم القيامة ، فيتكلم بما كانوا يعملون ، { وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ } يعني : أنه تعالى يخبر عباده يوم القيامة بما قالوا وبما عملوا ، من قليل وكثير ، وجليل وحَقِير ؛ لأنه تعالى شهيد على كل شيء ، لا يغيب عنه شيء ، ولا يغفل عن شيء ، بل هو العالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور ، { وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [ الأنعام : 59 ].
{ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9) }
يقول [تبارك و] (4) تعالى : { وَالْوَزْن } أي : للأعمال (5) يوم القيامة { الْحَق } أي : لا يظلم تعالى أحدا ، كما قال تعالى : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } [ الأنبياء : 47 ] وقال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا } [ النساء : 40 ] وقال تعالى : { فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ } [ القارعة : 6 - 11 ] وقال تعالى : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } [ المؤمنون : 101 - 103 ].
فصل :
والذي يوضع في الميزان يوم القيامة (6) قيل : الأعمال وإن كانت أعراضًا ، إلا أن الله تعالى يقلبها يوم القيامة أجساما.
قال البغوي : يروى هذا عن ابن عباس (7) كما جاء في الصحيح من أن "البقرة" و "آل عمران" يأتيان (8) يوم القيامة كأنهما غمامتان - أو : غيَايَتان - أو فِرْقَان من طير صَوَافّ. من ذلك في الصحيح قصة القرآن وأنه يأتي صاحبه في صورة شاب شاحب اللَّون ، فيقول : من أنت ؟ فيقول : أنا القرآن الذي
__________
(1) في أ : "أهل بيته".
(2) وفي إسناده عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، قال ابن معين : يروى المناكير عن المجهولين ، ولكن روي من وجه آخر عن نافع عن ابن عمر وفي الصحيحين.
(3) صحيح البخاري برقم (5188) وصحيح مسلم برقم (1829).
(4) زيادة من أ.
(5) في ك : "الأعمال".
(6) في ك : "يوم القيامة في الميزان".
(7) معالم التنزيل للبغوي (3/215).
(8) في أ : "تأتيان".

(3/389)


وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)

أسهرت ليلك وأظمأت نهارك (1) وفي حديث البراء ، في قصة سؤال القبر : "فيأتي المؤمن شابٌّ حسن اللون طيّب الريح ، فيقول : من أنت ؟ فيقول : أنا عملك الصالح" (2) وذكر عكسه في شأن الكافر والمنافق.
وقيل : يوزن كتاب الأعمال ، كما جاء في حديث البطاقة ، في الرجل الذي يؤتى به ويوضع له في كِفَّة تسعة وتسعون سجلا كل سِجِلّ مَدّ البصر ، ثم يؤتى بتلك البطاقة فيها : "لا إله إلا الله" فيقول : يا رب ، وما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقول الله تعالى : إنك لا تُظلَم. فتوضع تلك البطاقة في كفة الميزان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فَطاشَت السجلات ، وثَقُلَتِ البطاقة".
رواه الترمذي بنحو من هذا (3) وصححه.
وقيل : يوزن صاحب العمل ، كما في الحديث : "يُؤتَى يوم القيامة بالرجل السَّمِين ، فلا يَزِن عند الله جَنَاح بَعُوضَة" (4) ثم قرأ : { فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } [ الكهف : 105 ].
وفي مناقب عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى عليه وسلم قال : "أتعجبون من دِقَّة ساقَيْهِ ، فوالذي (5) نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من أُحُدٍ" (6)
وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار بأن يكون ذلك كله صحيحا ، فتارة (7) توزن الأعمال ، وتارة توزن محالها ، وتارة يوزن فاعلها ، والله أعلم.
{ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ (10) }
يقول تعالى ممتنا على عبيده (8) فيما مكن لهم من أنه جَعَل الأرض قرارًا ، وجعل لها رواسي وأنهارًا ، وجعل لهم فيها منازل وبيوتًا ، وأباح منافعها ، وسَخَّر لهم السحاب لإخراج أرزاقهم منها ، وجعل لهم فيها معايش ، أي : مكاسب وأسبابًا يتجرون فيها ، ويتسببون أنواع الأسباب ، وأكثرهم مع هذا قليل الشكر على ذلك ، كما قال تعالى : { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [ إبراهيم : 34 ].
وقد قرأ الجميع : { مَعَايِش } بلا همز ، إلا عبد الرحمن بن هُرْمُز الأعرج فإنه همزها. والصواب الذي عليه الأكثرون بلا همز ؛ لأن معايش جمع معيشة ، من عاش يعيش عيشا ، ومعيشة أصلها "مَعْيِشَة" فاستثقلت الكسرة على الياء ، فنقلت إلى العين فصارت مَعِيشة ، فلما جمعت رجعت الحركة إلى الياء لزوال الاستثقال ، فقيل : معايش. ووزنه مفاعل ؛ لأن الياء أصلية في الكلمة. بخلاف مدائن
__________
(1) ورواه أحمد في مسنده (5/348) وابن ماجه في السنن برقم (3781) من طريق بشير بن المهاجر ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه بريدة بن الحصيب ، رضي الله عنه ، مرفوعا
(2) رواه أحمد في مسنده (5/287).
(3) سنن الترمذي برقم (2639) ورواه ابن ماجة في السنن برقم (2639) والحاكم في المستدرك (1/529) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، وقال الحاكم : "صحيح الإسناد على شرطهما ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي ،
(4) رواه البخاري في صحيحه برقم (4729) بنحوه من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.
(5) في د ، م : "والذي".
(6) رواه أحمد في مسنده (1/420).
(7) في ك : "وتارة".
(8) في م : "عباده".

(3/390)


وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)

وصحائف وبصائر ، جمع مدينة وصحيفة وبصيرة من : مدن وصحف وأبصر ، فإن الياء فيها زائدة ، ولهذا تجمع على فعائل ، وتهمز لذلك ، والله أعلم.
{ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) }
ينبه تعالى بني آدم في هذا المقام على شرف أبيهم آدم ، ويبين لهم عداوة عدوهم إبليس ، وما هو مُنْطَوٍ عليه من الحسد لهم ولأبيهم آدم ، ليحذروه ولا يتبعوا طرائقه ، فقال تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ [ فَسَجَدُوا ] } (1) وهذا كقوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [ فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ ] } (2) الآية [ الحجر : 28 - 30 ] ، وذلك أنه تعالى لما خلق آدم ، عليه السلام ، بيده من طين لازب ، وصوره بشرًا [سويا] (3) ونفخ فيه من روحه ، وأمر الملائكة بالسجود له تعظيما لشأن الرب تعالى وجلاله ، فسمعوا كلهم وأطاعوا ، إلا إبليس لم يكن من الساجدين. وقد تقدم الكلام على إبليس في أول تفسير "سورة البقرة".
وهذا الذي قررناه هو اختيار ابن جرير : أن المراد بذلك كله آدم ، عليه السلام.
وقال سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن المِنْهَال بن عمرو ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ } قال : خُلِقوا في أصلاب الرجال ، وصُوِّروا في أرحام النساء.
رواه الحاكم ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه (4)
ونقله ابن جرير عن بعض السلف أيضا : أن المراد بخلقناكم ثم صورناكم : الذرية.
وقال الربيع بن أنس ، والسُّدي ، وقتادة ، والضحاك في هذه الآية : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ } أي : خلقنا آدم ثم صورنا الذرية.
وهذا فيه نظر ؛ لأنه قال بعده : { ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ } فدل على أن المراد بذلك آدم ، وإنما قيل ذلك بالجمع لأنه أبو البشر ، كما يقول الله تعالى لبني إسرائيل الذين كانوا في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى } [ البقرة : 57 ] والمراد : آباؤهم الذين كانوا في زمن موسى [عليه السلام] (5) ولكن لما كان ذلك مِنَّةً على الآباء الذين هم أصلٌ صار كأنه واقع على الأبناء. وهذا بخلاف قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ] } (6) [ المؤمنون : 12 - 13 ] فإن المراد منه آدم المخلوق من السلالة (7) وذريته مخلوقون من
__________
(1) زيادة من ك.
(2) زيادة من م.
(3) زيادة من ك ، م ، أ.
(4) المستدرك (2/319).
(5) زيادة من أ.
(6) زيادة من م ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(7) في ك ، م : "من سلالة من طين".

(3/391)


نطفة ، وصح هذا لأن المراد من (1) خلقنا الإنسان الجنس ، لا معينا ، والله أعلم.
__________
(1) في ك ، م ، أ : "في".

(3/392)


قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)

{ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) }
قال بعض النحاة في توجيه قوله تعالى : { مَا [مَنَعَكَ] (1) أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ } لا هاهنا زائدة.
وقال بعضهم : زيدت لتأكيد الجحد ، كقول الشاعر :
ما إن رأيتُ ولا سمعتُ بمثله
فأدخل "إن" وهي للنفي ، على "ما" النافية ؛ لتأكيد النفي ، قالوا : وكذلك هاهنا : { مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ } مع تقدم قوله : { لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ }
حكاهما ابن جرير (2) وردهما ، واختار أن "منعك" تضمن معنى فعل آخر تقديره : ما أحوجك وألزمك واضطرك ألا تسجد إذ أمرتك ، ونحو ذلك. وهذا القول قوي حسن ، والله أعلم.
وقول إبليس لعنه الله : { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ } من العذر الذي هو أكبر من الذنب ، كأنه امتنع من الطاعة لأنه لا يؤمر الفاضل بالسجود للمفضول ، يعني لعنه الله : وأنا خير منه ، فكيف تأمرني بالسجود له ؟ ثم بين أنه خير منه ، بأنه خلق من نار ، والنار أشرف مما خلقته منه ، وهو الطين ، فنظر اللعين إلى أصل العنصر ، ولم ينظر إلى التشريف العظيم ، وهو أن الله تعالى خلق آدم بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وقاس قياسًا فاسدًا في مقابلة نص قوله تعالى : { فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ } [ ص : 72 ] فشذ من بين الملائكة بتَرْك السجود ؛ فلهذا (3) أبلس من الرحمة ، أي : أيس من الرحمة ، فأخطأ قَبَّحه الله في قياسه ودعواه أن النار أشرف من الطين أيضًا ، فإن الطين من شأنه الرزانة والحلم والأناة والتثبت ، والطين محل النبات والنمو والزيادة والإصلاح. والنار من شأنها الإحراق والطيش والسرعة ؛ ولهذا خان إبليس عنصره ، ونفع آدم عنصره في الرجوع والإنابة والاستكانة والانقياد والاستسلام لأمر الله ، والاعتراف وطلب التوبة والمغفرة.
وفي صحيح مسلم ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خُلِقَت الملائكة من نور ، وخُلقَ إبليس من مارج من نار ، وخلق آدم مما وُصِفَ لكم" هكذا رواه مسلم (4).
وقال ابن مَرْدُوَيه : حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا إسماعيل ، عن عبد الله بن مسعود ، حدثنا نُعَيم ابن حماد ، حدثنا عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن الزهري ، عن عُرْوَة ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خلق الله الملائكة من نور العرش ، وخلق الجان من [مارج من] (5) نار ، وخلق آدم
__________
(1) زيادة من أ.
(2) تفسير الطبري (12/324).
(3) في م : "ولهذا".
(4) صحيح مسلم برقم (2996).
(5) زيادة من أ.

(3/392)


قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)

مما وُصِفَ لكم". قلت لنعيم بن حماد : أين سمعت هذا من عبد الرزاق ؟ قال : باليمن (1) وفي بعض ألفاظ هذا الحديث في غير الصحيح : "وخلقت الحور العين من الزعفران" (2).
وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا محمد بن كثير ، عن ابن شَوْذَب ، عن مطر الوَرَّاق ، عن الحسن في قوله : { خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } قال : قاس إبليس ، وهو أول من قاس. إسناده صحيح.
وقال : حدثني عمرو بن مالك ، حدثنى يحيى بن سليم الطائفي (3) عن هشام ، عن ابن سيرين قال : أول من قاس إبليس ، وما عُبِدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس (4) إسناد صحيح أيضا.
{ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) }
يقول تعالى مخاطبًا لإبليس بأمر قدري كوني : { فَاهْبِطْ مِنْهَا } أي : بسبب عصيانك لأمري ، وخروجك عن طاعتي ، فما يكون لك أن تتكبر فيها.
قال كثير من المفسرين : الضمير عائد إلى الجنة ، ويحتمل أن يكون عائدًا إلى المنزلة التي هو فيها في الملكوت الأعلى.
{ فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ } أي : الذليلين الحقيرين ، معاملة له بنقيض قصده ، مكافأة لمراده بضده ، فعند ذلك استدرك اللعين وسأل النظرة إلى يوم الدين ، قال : { أَنْظِرْنِي (5) إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِين } أجابه تعالى إلى ما سأل ، لما له في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة التي لا تخالف ولا تمانع ، ولا مُعَقِّبَ لحكمه ، وهو سريع الحساب.
{ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) }
يخبر تعالى أنه لما أنظر إبليس { إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } (6) واستوثق إبليس بذلك ، أخذ في المعاندة والتمرد ، فقال : { فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } أي : كما أغويتني.
قال ابن عباس : كما أضللتني. وقال غيره : كما أهلكتني لأقعدن لعبادك - الذين تخلقهم من
__________
(1) رواه عبد الرزاق في المصنف برقم (20904).
(2) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (8/237) من طريق عبيد الله بن زحر ، عن علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة ، رضي الله عنه ، وفي إسناده عبيد الله بن زحر ، قال ابن حبان في المجروحين : "يروى الموضوعات عن الأثبات ، وإذا روى عن علي بن يزيد أتى بالطامات ، وإذا اجتمع في إسناد خبر عبيد الله ، وعلي بن يزيد ، والقاسم أبو عبد الرحمن ، لم يكن ذلك الخبر إلا مما عملته أيديهم".
(3) في أ : "الطائي".
(4) تفسير الطبري (12/328).
(5) في ك ، م : "فأنظرني" وهو خطأ.
(6) في م : "الدين" وهو خطأ.

(3/393)


ذرية هذا الذي أبعدتني بسببه - على { صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } أي : طريق الحق وسبيل النجاة ، ولأضلنهم (1) عنها لئلا يعبدوك ولا يوحدوك بسبب إضلالك إياي.
وقال بعض النحاة : الباء هاهنا قسمية ، كأنه يقول : فبأغوائك إياي لأقعدن لهم صراطك المستقيم.
قال مجاهد : { صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } يعني : الحق.
وقال محمد (2) بن سوقة ، عن عون بن عبد الله : يعني طريق مكة.
قال ابن جرير : والصحيح أن الصراط المستقيم أعم من ذلك [كله] (3).
قلت : لما روى الإمام أحمد :
حدثنا هاشم بن القاسم ، حدثنا أبو عَقِيل - يعني الثقفي عبد الله بن عقيل - حدثنا موسى بن المسيب ، أخبرني سالم بن أبي الجَعْد عن سَبْرَة بن أبي فَاكِه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الشيطان قعد لابن آدم بطرقه ، فقعد له بطريق الإسلام ، فقال : أتسلم وتذر دينك ودين آبائك ؟". قال : "فعصاه وأسلم". قال : "وقعد له بطريق (4) الهجرة فقال : أتهاجر وتدع (5) أرضك وسماءك ، وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطّوَل ؟ فعصاه وهاجر ، ثم قعد له بطريق (6) الجهاد ، وهو جهاد النفس والمال ، فقال : تقاتل فتقتل ، فتنكح المرأة ويقسم المال ؟". قال : "فعصاه ، فجاهد". قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فمن فعل ذلك منهم (7) فمات ، كان حقًا على الله أن يدخله الجنة ، أو قتل كان (8) حقا على الله ، عز وجل ، أن يدخله الجنة ، وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة ، أو (9) وَقَصته دابة كان حقا على الله أن يدخله الجنة" (10).
وقوله : { ثمَُ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ [وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وِعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ] } (11) قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } أشككهم في آخرتهم ، { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } أرغبهم في دنياهم { وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ } أشبَه عليهم أمر دينهم { وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ } أشهي لهم المعاصي.
وقال [علي] (12) بن طلحة - في رواية - والعَوْفي ، كلاهما عن ابن عباس : أما { مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } فمن قبل دنياهم ، وأما { مِنْ خَلْفِهِمْ } فأمر آخرتهم ، وأما { عَنْ أَيْمَانِهِمْ } فمن قِبَل حسناتهم ، وأما { عَنْ شَمَائِلِهِمْ } فمن قبل سيئاتهم.
وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة : أتاهم { مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } فأخبرهم أنه (13) لا بعث ولا
__________
(1) في أ : "أفلأضلنهم".
(2) في أ : "مجاهد".
(3) زيادة من ك.
(4) في د : "في طريق".
(5) في د ، ك ، م ، أ : "وتذر".
(6) في د : "في طريق".
(7) في د : "منهم ذلك".
(8) في ك : "وإن قتل كان" ، وفي م : "وإن كان قتل".
(9) في م : "وإن".
(10) المسند (3/483).
(11) زيادة من أ ، وفي هـ : "الآية".
(12) زيادة من أ.
(13) في ك : "أن".

(3/394)


جنة ولا نار { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } من أمر الدنيا فزيَّنها لهم ودعاهم إليها و { عَنْ أَيْمَانِهِم } من قبل حسناتهم بَطَّاهم (1) عنها { وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ } زين لهم السيئات والمعاصي ، ودعاهم إليها ، وأمرهم بها. آتاك يا ابن آدم من كل وجه ، غير أنه لم يأتك من فوقك ، لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله.
وكذا رُوي عن إبراهيم النَّخَعي ، والحكم بن عتيبة (2) والسدي ، وابن جرير (3) إلا أنهم قالوا : { مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } الدنيا { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } الآخرة.
وقال مجاهد : "من بين أيديهم وعن أيمانهم" : حيث يبصرون ، "ومن خلفهم وعن شمائلهم" : حيث لا يبصرون.
واختار ابن جرير أن المراد جميع طرق الخير والشر ، فالخير يصدهم عنه ، والشر يُحببه (4) لهم.
وقال الحكم بن أبان ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس في قوله : { ثمَُ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وِعَنْ شَمَائِلِهِمْ } ولم يقل : من فوقهم ؛ لأن الرحمة تنزل من فوقهم.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } قال : موحدين.
وقول إبليس هذا إنما هو ظن منه وتوهم ، وقد وافق في هذا الواقع ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } [ سبأ : 20 ، 21 ].
ولهذا ورد في الحديث الاستعاذة من تسلط الشيطان على الإنسان من جهاته كلها ، كما قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده :
حدثنا نَصْر بن علي ، حدثنا عمرو بن مُجَمِّع ، عن يونس بن خَبَّاب ، عن ابن جُبَيْر بن مُطْعِم - يعني نافع بن جبير - عن ابن عباس - وحدثنا عمر بن الخطاب - يعني السجستاني - حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا عبيد الله بن عمرو ، عن زيد بن أبي أُنَيْسَةَ ، عن يونس بن خباب - عن ابن جبير بن مطعم - عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي ، وأهلي ومالي ، اللهم استر عَوْرَتي ، وآمن رَوْعَتِي (5) واحفظني من بين يدي ومن خلفي ، وعن يميني وعن شمالي ، ومن فوقي ، وأعوذ بك (6) اللهم أن أُغْتَال مِنْ تَحْتِي". تفرد به البزار (7) وحسنه.
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا عبادة بن مسلم الفزاري ، حدثني جُبَير بن أبي سليمان
__________
(1) في أ : "بطأهم".
(2) في م ، أ : "عيينة".
(3) في د ، ك ، م : "جريج".
(4) في د ، ك ، م ، أ : "يحسنه".
(5) في د ، ك : "اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي".
(6) في د : "بعظمتك".
(7) مسند البزار برقم (3196) "كشف الأستار" وقال الهيثمي في المجمع (10/175) : "فيه يونس بن خباب وهو ضعيف"

(3/395)


قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)

ابن جبير بن مطعم ، سمعت عبد الله بن عمر يقول : لم يكن رسول الله يدع هؤلاء الدعوات حين يصبح وحين يمسي : "اللهم إني أسألك العافية (1) في الدنيا والآخرة ، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي ، اللهم استر عوراتي ، وآمن رَوْعاتي ، اللهم احفظني من بين يديّ ومن خلفي ، وعن يميني وعن شمالي ، ومن فَوْقِي ، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي". قال وكيع : يعني الخسف.
ورواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، وابن حِبَّان ، والحاكم من حديث عبادة بن مسلم ، به (2) وقال الحاكم : صحيح الإسناد.
{ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) }
أكد تعالى عليه اللعنة (3) والطرد والإبعاد والنفي عن محل الملأ الأعلى بقوله : { اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا }
قال ابن جرير : أما "المذؤوُم" فهو المعيب ، والذّأم غير مشدَّد : العيب. يقال : "ذأمه يذأمه ذأما فهو مذءوم". ويتركون الهمز فيقولون : "ذمْته أذيمه ذيما وذَاما ، والذام والذيم أبلغ في العيب من الذم".
قال : "والمدحور" : المُقْصَى. وهو المبعد المطرود.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ما نعرف (4) المذءوم" و "المذموم" إلا واحدًا.
وقال سفيان الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن التميمي ، عن ابن عباس : { اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا } قال : مقيتا.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : صغيرا مقيتا. وقال السدي : مقيتا مطرودا. وقال قتادة : لعينا مقيتا. وقال مجاهد : منفيًا مطرودًا. وقال الربيع بن أنس : مذؤوما : منفيا ، والمدحور : المصغر (5).
وقوله تعالى : { لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ } كقوله { قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا } [ الإسراء : 63 - 65 ].
__________
(1) في أ : "أسألك العفو والعافية".
(2) المسند (2/25) وسنن أبي داود برقم (5074) وسنن النسائي (8/282) وسنن ابن ماجة برقم (3871) وصحيح ابن حبان (2/155) "الإحسان" والمستدرك (1/517).
(3) في د ، ك ، م ، أ : "أكد تعالى عليه اللعنة".
(4) في ك : "ما يعرف".
(5) في د : "الصغير".

(3/396)


وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)

{ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) }
يذكر تعالى أنه أباح لآدم ، عليه السلام ، ولزوجته [حواء] (1) الجنة أن يأكلا منها من جميع ثمارها إلا شجرة واحدة. وقد تقدم الكلام على ذلك في "سورة البقرة" ، فعند ذلك حسدهما الشيطان ، وسعى في المكر والخديعة والوسوسة ليُسلبا (2) ما هما فيه من النعمة واللباس الحسن ، وقال كذبا وافتراء : ما نهاكما ربكما عن أكل (3) الشجرة إلا لتكونا ملكين أي : لئلا تكونا ملكين ، أو خالدين هاهنا ولو أنكما أكلتما منها لحصل لكما ذلكما (4) كقوله : { قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى } [ طه : 120 ] أي : لئلا تكونا ملكين ، كقوله : { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا } [ النساء : 176 ] أي : لئلا تضلوا ، { وَأَلْقَى فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ } [ النحل : 15 ] أي : لئلا تميد بكم.
وكان ابن عباس ويحيى بن أبي كثير يقرآن : { إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ } بكسر اللام. وقرأه الجمهور بفتحها.
{ وَقَاسَمَهُمَا } أي : حلف لهما بالله : { إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } فإني من قَبْلكما هاهنا ، وأعلم بهذا المكان ، وهذا من باب المفاعلة والمراد أحد الطرفين ، كما قال خالد بن زهير ، ابن عم أبي ذؤيب :
وقاسَمَها بالله جَهْدا لأنتمُ... ألذّ من السلوى إذ ما نشورها (5)
أي : حلف لهما بالله [على ذلك] (6) حتى خدعهما ، وقد يخدع المؤمن بالله ، فقال : إني خُلقت قبلكما ، وأنا أعلم منكما ، فاتبعاني أرشدكما. وكان بعض أهل العلم يقول : "من خادعنا بالله خُدعنا له".
{ فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) }
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في د : "ليسلبهما".
(3) في د ، ك : "هذه".
(4) في أ : "ذلك".
(5) البيت في تفسير الطبري (12/350) وعزاه المحقق لأشعار الهذليين (1/158).
(6) زيادة من د ، ك ، م ، أ.

(3/397)


قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)

{ قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) }
قال سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن أبي بن كعب ، رضي الله عنه ، قال : كان آدم رجلا طُوَالا كأنه نخلة سَحُوق ، كثير شعر الرأس. فلما وقع بما وقع به من الخطيئة ، بَدَتْ له

(3/397)


عورته عند ذلك ، وكان لا يراها. فانطلق هاربا في الجنة فتعلقت برأسه شجرة من شجر الجنة ، فقال لها : أرسليني. فقالت : إني غير مرسلتك. فناداه ربه ، عز وجل : يا آدم ، أمنّي تفر ؟ قال : رب إني استحييتك. (1)
وقد رواه ابن جرير ، وابن مَرْدُويه من طُرُق ، عن الحسن ، عن أبيّ بن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والموقوف أصحّ إسنادا. (2)
وقال عبد الرزاق : أنبأنا سفيان بن عيينة وابن المبارك ، عن الحسن بن عمارة ، عن المِنْهَال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : كانت الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته ، السنبلة. فلما أكلا منها بدت لهما سوآتهما ، وكان الذي وارى عنهما من سوآتهما أظفارهما ، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وَرقَ التين ، يلزقان بعضه إلى بعض. فانطلق آدم ، عليه السلام ، موليا في الجنة ، فعلقت برأسه شجرة من الجنة ، فناداه : يا آدم ، أمني تفر ؟ قال : لا ولكني استحييتك يا رب. قال : أما كان لك فيما منحتك من الجنة وأبحتك منها مندوحة ، عما حرمت عليك. قال : بلى يا رب ، ولكن وعزتك ما حسبت أن أحدًا يحلف بك كاذبًا. قال : وهو قوله ، عز وجل (3) { وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ } قال : فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ، ثم لا تنال العيش إلا كَدا. قال : فأهبط من الجنة ، وكانا يأكلان منها رَغَدًا ، فأهبط إلى غير رغد من طعام وشراب ، فعُلّم صنعة الحديد ، وأمر بالحرث ، فحرث وزرع ثم سقى ، حتى إذا بلغ حصد ، ثم داسه ، ثم ذَرّاه ، ثم طحنه ، ثم عجنه ، ثم خبزه ، ثم أكله ، فلم يبلغه حتى بلغ منه ما شاء الله أن يبلغ (4) وقال الثوري ، عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ } قال : ورق التين. صحيح إليه.
وقال مجاهد : جعلا يخصفان عليهما من ورق الجنة كهيئة الثوب.
وقال وَهْب بن مُنَبِّه في قوله : { يَنزعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا } قال : كان لباس آدم وحواء نورا على فروجهما ، لا يرى هذا عورة هذه ، ولا هذه عورة هذا. فلما أكلا من الشجرة بدت لهما سوآتهما. رواه ابن جرير بإسناد صحيح إليه.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن قتادة قال : قال آدم : أي رب ، أرأيت إن تبت واستغفرت ؟ قال : إذًا أدخلك الجنة. وأما إبليس فلم يسأله التوبة ، وسأله النظرة ، فأعطي كل واحد منهما الذي سأله.
__________
(1) تفسير الطبري (12/354).
(2) تفسير الطبري (12/352) ورواه الحاكم في المستدرك (1/345) من طريق يزيد بن الهاد ، عن الحسن ، عن أبي بن كعب بنحوه ، وقال : "هذا لا يعلل حديث يونس بن عبيد ، فإنه أعرف بحديث الحسن من أهل المدينة ومصر ، والله أعلم" يقصد الحاكم ما أخرجه في المستدرك (1/344) من طريق يونس بن عبيد ، عن الحسن ، عن عتي ، عن أبي بن كعب بنحوه ، فإنه قد علله في آخره بأنه قد روى عن الحسن ، عن أبي دون ذكر عتي. ورواه عبد الرزاق في المصنف (3/400) ، عن ابن جريج حدثت عن أبي بن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره بنحوه
(3) في د ، م : "قول الله" ، وفي ك : "قوله تعالى".
(4) ورواه الطبري في تفسيره (12/352) من طريق عبد الرزاق به.

(3/398)


قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)

وقال ابن جرير : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا عَبَّاد بن العَوَّام ، عن سفيان بن حسين ، عن يعلى بن مسلم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : لما أكل آدم من الشجرة قيل له : لم أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها. قال : حواء. أمرتني. قال : فإني قد أعقبتها أن لا تحمل إلا كَرْها ، ولا تضع إلا كَرْها. قال : فرنَّت عند ذلك حواء. فقيل لها : الرنة عليك وعلى ولدك (1)
وقال الضحاك بن مُزَاحِم في قوله : { رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه [عز وجل] (2)
{ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) }
قيل : المراد بالخطاب في { اهْبِطُوا } آدم ، وحواء ، وإبليس ، والحية. ومنهم من لم يذكر الحية ، والله أعلم.
والعمدة في العداوة آدم وإبليس ؛ ولهذا قال تعالى في سورة "طه" قال : { اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا } [ الآية : 123 ] وحواء تبع لآدم. والحية - إن كان ذكرها صحيحا - فهي تبع لإبليس.
وقد ذكر المفسرون الأماكن التي هبط فيها كل منهم ، ويرجع حاصل تلك الأخبار إلى الإسرائيليات ، والله أعلم بصحتها. ولو كان في تعيين تلك البقاع فائدة تعود على المكلفين في أمر دينهم ، أو دنياهم ، لذكرها الله تعالى في كتابه أو رسوله (3) صلى الله عليه وسلم.
وقوله : { وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } أي : قرار وأعمار مضروبة إلى آجال معلومة ، قد جرى بها القلم ، وأحصاها القدر ، وسطرت في الكتاب الأول. وقال ابن عباس : { مُسْتَقَرٌّ } القبور. وعنه : وجه الأرض وتحتها. رواهما ابن أبي حاتم.
وقوله : { قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } كقوله تعالى : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } [ طه : 55 ] يخبر تعالى أنه يجعل (4) الأرض دارًا لبني آدم مدة الحياة الدنيا ، فيها محياهم وفيها مماتهم وقبورهم ، ومنها نشورهم ليوم القيامة (5) الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين ، ويجازي كلا بعمله.
{ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) }
يمتن تبارك وتعالى على عباده بما جعل لهم من اللباس والريش فاللباس (6) المذكور هاهنا لستر
__________
(1) تفسير الطبري (12/356).
(2) زيادة من أ.
(3) في ك : "ورسوله".
(4) في ك ، م : "جعل".
(5) في ك ، م ، أ : "المعاد".
(6) في ك : "واللباس".

(3/399)


العورات - وهي السوآت (1) والرياش والريش : هو ما يتجمل به ظاهرًا ، فالأول من الضروريات ، والريش من التكملات والزيادات.
قال ابن جرير : "الرياش" في كلام العرب : الأثاث ، وما ظهر من الثياب.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس - وحكاه البخاري - عنه : الرياش : المال. وكذا قال مجاهد ، وعُرْوَة بن الزبير ، والسُّدِّي والضحاك (2)
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس : "الرياش" اللباس ، والعيش ، والنعيم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : "الرياش" : الجمال.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا أصْبَغُ ، عن أبي العلاء الشامي قال : لبس أبو أمامة ثوبًا جديدًا ، فلما بلغ تَرْقُوَتَه قال : الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي ، وأتجمل به في حياتي. ثم قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من استجد ثوبًا فلبسه (3) فقال حين يبلغ ترقوته : الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي ، وأتجمل به في حياتي (4) ثم عمد إلى الثوب الذي خَلُقَ أو : ألقى فتصدق به ، كان في ذمة الله ، وفي جوار الله ، وفي كنف الله حيا وميتا ، [حيا وميتا ، حيا وميتا] " (5).
ورواه الترمذي ، وابن ماجه ، من رواية يزيد بن هارون ، عن أصبغ - هو ابن زيد الجهني (6) - وقد وثقه يحيى بن مَعِين وغيره ، وشيخه "أبو العلاء الشامي" لا يعرف إلا بهذا الحديث ، ولكن لم يخرجه أحد ، والله أعلم.
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا محمد بن عبيد ، حدثنا مختار بن نافع التمار ، عن أبي مطر ؛ أنه رأى عليا ، رضي الله عنه ، أتى غلامًا حدثًا ، فاشترى منه قميصًا بثلاثة دراهم ، ولبسه إلى ما بين الرسغين إلى الكعبين ، يقول ولبسه : الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس ، وأواري به عورتي. فقيل : هذا شيء ترويه عن نفسك أو عن نبي الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : هذا شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند الكسوة : "الحمد لله الذي رزقني (7) من الرياش (8) ما أتجمل به في الناس ، وأواري به عورتي " (9)
وقوله تعالى : { وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ } قرأ بعضهم : "ولباسَ التقوى" ، بالنصب. وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء ، { ذَلِكَ خَيْرٌ } خبره.
واختلف المفسرون في معناه ، فقال عكرمة : يقال : هو ما يلبسه المتقون يوم القيامة. رواه ابن أبي حاتم.
__________
(1) في ك : "الشهوات".
(2) في ك ، م ، أ : "والضحاك : الرياش : المال".
(3) في م : "يلبسه".
(4) في أ : "في الناس".
(5) زيادة من أ.
(6) المسند (1/44) وسنن الترمذي برقم (3560) وسنن ابن ماجة برقم (3557).
(7) في أ : "كساني".
(8) في م : "من اللباس".
(9) المسند (1/157) قال الهيثمي في المجمع (5/119) : "فيه مختار بن نافع وهو ضعيف".

(3/400)


وقال زيد بن علي ، والسُّدِّي ، وقتادة ، وابن جُريْج : { وَلِبَاسُ التَّقْوَى } الإيمان.
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس [رضي الله عنه : { وَلِبَاسُ التَّقْوَى } ] (1) العمل الصالح.
وقال زياد (2) بن عمرو ، عن ابن عباس : هو السمت الحسن في الوجه.
وعن عُرْوَة بن الزبير : { لِبَاسُ التَّقْوَى } خشية الله.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { لِبَاسُ التَّقْوَى } يتقي الله ، فيواري عورته ، فذاك لباس التقوى.
وكل هذه متقاربة ، ويؤيد ذلك الحديث الذي رواه ابن جرير حيث قال :
حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق بن الحجاج ، حدثنا إسحاق بن إسماعيل ، عن سليمان بن أرقم ، عن الحسن قال : رأيت عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ، على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه قميص قُوهي محلول الزرّ ، وسمعته يأمر بقتل الكلاب ، وينهى عن اللعب بالحمام. ثم قال : يا أيها الناس ، اتقوا الله في هذه السرائر ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "والذي نفس محمد بيده ، ما عمل أحد قط سرا إلا ألبسه الله رداء علانية ، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر". ثم تلا هذه الآية : "ورياشًا" ولم يقرأ : وريشًا - { وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ } قال : "السمت الحسن".
هكذا رواه ابن جرير من رواية سليمان بن أرقم (3) وفيه ضعف. وقد روى الأئمة : الشافعي ، وأحمد ، والبخاري في كتاب "الأدب" من طرق صحيحة ، عن الحسن البصري ؛ أنه سمع أمير المؤمنين عثمان بن عفان يأمر بقتل الكلاب وذبح الحمام ، يوم الجمعة على المنبر.
وأما المرفوع منه (4) فقد روى الحافظ أبو القاسم الطبراني في معجمه الكبير له شاهدًا (5) من وجه آخر ، حيث قال : حدثنا.... (6)
__________
(1) زيادة من ك ، أ.
(2) في أ : "الديال".
(3) تفسير الطبري (12/367)
(4) في م : "عنه".
(5) في ك ، م : شاهدا آخر".
(6) [محمود بن محمد المروزي ، حدثنا حامد بن آدم المروزي ، حدثنا الفضل بن موسى ، عن محمد بن عبيد الله العرزمى ، عن سلمة ابن كهيل ، عن جندب بن سفيان البجلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله رداءها إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر"].
المعجم الكبير (2/171) وقال الهيثمي في المجمع (10/225) : "فيه حامد بن آدم وهو كذاب" والعرزمي تركه الأئمة.
تنبيه : في جميع النسخ لم يذكر هذا الحديث الذي سقته ها هنا ، وموضعه بياض عدة أسطر ، وقد تعرفت على أن هذا الحديث هو مقصود الحافظ ابن كثير ، أني رأيته ساق أثر عثمان السابق ثم ساق بعده هذا الحديث بإسناد الطبراني ، كما سيأتي في سورة الفتح آية : 29 ، فرأيت إثباته في الحاشية.

(3/401)


يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)

{ يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) }
يقول تعالى محذرًا بني آدم من إبليس وقبيله ، ومبينًا لهم عداوته القديمة لأبي البشر آدم ، عليه السلام ، في سعيه في إخراجه من الجنة التي هي دار النعيم ، إلى دار التعب والعناء ، والتسبب في هتك عورته بعدما كانت مستورة عنه ، وما هذا إلا عن عداوة أكيدة ، وهذا كقوله تعالى : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا } [ الكهف : 50 ]
{ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) }
قال مجاهد : كان المشركون يطوفون بالبيت عراة ، يقولون : نطوف كما ولدتنا أمهاتنا. فتضع المرأة على فرجها النسعة ، أو الشيء وتقول :
اليوم يبدُو بعضُه أو كلّه... وما بَدا منه فلا أحلّهُ...
فأنزل الله [تعالى] (1) { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } الآية. (2)
قلت : كانت العرب - ما عدا قريشًا - لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها ، يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها ، وكانت قريش - وهم الحُمْس - يطوفون في ثيابهم ، ومن أعاره أحمسي ثوبًا طاف فيه ، ومن معه ثوب جديد طاف فيه ثم يلقيه فلا يتملكه أحد ، فمن لم يجد ثوبًا جديدًا ولا أعاره أحمسي ثوبًا ، طاف عريانًا. وربما كانت امرأة فتطوف عريانة ، فتجعل على فرجها شيئًا يستره بعض الشيء وتقول :
اليوم يبدُو بعضُه أو كلّه... وما بدَا منه فلا أحلّهُ...
(3)
وأكثر ما كان النساء يطفن [عراة] (4) بالليل ، وكان هذا شيئًا قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم ، واتبعوا فيه آباءهم ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرع ، فأنكر الله تعالى عليهم ذلك ، فقال : { وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } فقال تعالى ردًا عليهم : { قُلْ } أي : قل يا محمد لمن ادعى ذلك : { إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ } أي : هذا الذي تصنعونه فاحشة منكرة ، والله لا يأمر بمثل ذلك { أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } أي : أتسندون إلى الله من الأقوال ما لا تعلمون صحته.
وقوله : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ } أي : بالعدل والاستقامة ، { وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ }
__________
(1) زيادة من ك.
(2) تفسير الطبري (12/377).
(3) البيت منسوب لضباعة بنت عامر بن قرط ، وله قصة ذكرها ابن حبيب البغدادي في المنمق (ص270)
(4) زيادة من ك ، م.

(3/402)


أي : أمركم بالاستقامة في عبادته في محالها ، وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات فيما أخبروا به عن الله [تعالى] (1) وما جاءوا به [عنه] (2) من الشرائع ، وبالإخلاص له في عبادته ، فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين : أن يكون صوابًا موافقًا للشريعة ، وأن يكون خالصًا من الشرك.
وقوله تعالى : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُون. [فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ] (3) الضَّلالَة } (4) - اختلف في معنى [قوله تعالى]{ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } فقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } يحييكم بعد موتكم.
وقال الحسن البصري : كما بدأكم في الدنيا ، كذلك تعودون يوم القيامة أحياء.
وقال قتادة : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } قال : بدأ فخلقهم ولم يكونوا شيئًا ، ثم ذهبوا ، ثم يعيدهم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كما بدأكم أولا كذلك يعيدكم آخرًا.
واختار هذا القول أبو جعفر بن جرير ، وأيده بما رواه من حديث سفيان الثوري وشعبة بن الحجاج ، كلاهما عن المغيرة بن النعمان ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال : "يا أيها الناس ، إنكم تحشرون (5) إلى الله حُفَاة عُرَاة غُرْلا { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } [ الأنبياء : 104 ].
وهذا الحديث مُخَرَّجٌ في الصحيحين ، من حديث شعبة ، وفي حديث البخاري - أيضا - من حديث الثوري به. (6)
وقال وقَاء بن إياس أبو يزيد ، عن مجاهد : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } قال : يبعث المسلم مسلمًا ، والكافر كافرًا.
وقال أبو العالية : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } رُدُّوا إلى علمه فيهم.
وقال سعيد بن جبير : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } كما كتب عليكم تكونون - وفي رواية : كما كنتم تكونون عليه تكونون.
وقال محمد بن كعب القُرَظِي في قوله تعالى : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } من ابتدأ الله خلقه على الشقاوة صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه ، وإن عمل بأعمال أهل السعادة ، كما أن إبليس عمل بأعمال أهل السعادة ، ثم صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه. ومن ابتُدئ خلقه على السعادة ، صار إلى ما ابتدئ خلقه عليه ، إن عمل بأعمال أهل الشقاء ، كما أن السحرة عملت (7) بأعمال أهل الشقاء ، ثم صاروا إلى ما ابتدئوا عليه.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من ك.
(3) زيادة من ك ، أ وفي هـ : "إلى قوله".
(4) زيادة من أ.
(5) في أ : "محشورون".
(6) تفسير الطبري (12/386) وصحيح البخاري برقم (4625) وصحيح مسلم برقم (2860).
(7) في أ : "عملوا".

(3/403)


وقال السُّدِّي : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ. فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ } يقول : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } كما خلقناكم ، فريق مهتدون وفريق ضلال ، كذلك تعودون وتخرجون من بطون أمهاتكم.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ } قال : إن الله تعالى بدأ خلق ابن آدم مؤمنًا وكافرًا ، كما قال [تعالى] (1) { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ } [ التغابن : 2 ] ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأهم (2) مؤمنًا وكافرًا.
قلت : ويتأيد هذا القول بحديث ابن مسعود في صحيح البخاري " فوالذي لا إله غيره ، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع - أو : ذراع - فيسبق (3) عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار ، فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار ، حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع - أو : ذراع - فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة ، فيدخل الجنة" (4)
وقال أبو القاسم البَغَوي : حدثنا علي بن الجَعْد ، حدثنا أبو غَسَّان ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن العبد ليعمل - فيما يرى الناس - بعمل أهل الجنة ، وإنه من أهل النار. وإنه ليعمل - فيما يرى الناس - بعمل أهل النار ، وإنه من أهل الجنة ، وإنما الأعمال بالخواتيم" (5)
هذا قطعة من حديث رواه البخاري من حديث أبي غسان محمد بن مُطَرَّف المدني ، في قصة "قُزْمان" يوم أحد (6)
وقال ابن جرير : حدثنا ابن بشار ، حدثنا عبد الرحمن ، حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "تُبْعَثُ كل نَفْسٍ على ما كانت عليه".
وهذا الحديث رواه مسلم وابن ماجه من غير وجه ، عن الأعمش ، به. ولفظه : "يبعث كل عبد على ما مات عليه" (7)
قلت : ولا بد من الجمع بين هذا القول - إن كان هو المراد من الآية - وبين قوله تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } [ الروم : 30 ] وما جاء في الصحيحين ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسانه" (8) وفي صحيح مسلم ، عن عِياض بن حمَار (9) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يقول الله تعالى : إني خلقت عبادي حُنَفَاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم" الحديث. ووجه
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ك ، أ : "بدأ خلقهم".
(3) في ك : "ويسبق".
(4) صحيح البخاري برقم (3208).
(5) ورواه البغوي في تفسيره (3/224) من طريق عبد الرحمن بن أبي شريح ، عن أبي القاسم البغوي به.
(6) صحيح البخاري برقم (6607 ، 6493).
(7) تفسير الطبري (12/384) وصحيح مسلم برقم (2878) وسنن ابن ماجة برقم (4230).
(8) صحيح البخاري برقم (1385) وصحيح مسلم برقم (2658).
(9) في أ : "حماد".

(3/404)


الجمع على هذا أنه تعالى خلقهم ليكون منهم مؤمن وكافر ، في ثاني الحال ، وإن كان قد فطر الخلق كلهم على معرفته وتوحيده ، والعلم بأنه لا إله غيره ، كما أخذ عليهم بذلك الميثاق ، وجعله في غرائزهم وفطرهم ، ومع هذا قدر أن (1) منهم شقيًا ومنهم سعيدًا : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ } [ التغابن : 2 ] وفي الحديث : "كل الناس يغدو ، فبائع نفسه فمُعْتِقُهَا ، أو مُوبِقها" (2) وقدر الله نافذ في بريته ، فإنه هو { الَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } [ الأعلى : 3 ] و { الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [ طه : 50 ] وفي الصحيحين : "فأما من كان منكم من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة ، وأما من كان من أهل الشقاوة فسييسر لعمل أهل الشقاوة" ؛ ولهذا قال تعالى : { فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ } ثم علل ذلك فقال : { إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ] } (3)
قال ابن جرير : وهذا من أبين الدلالة على خطأ من زعم أن الله لا يعذب أحدًا على معصية ركبها أو ضلالة اعتقدها ، إلا أن يأتيها بعد علم منه بصواب وجهها ، فيركبها عنادًا منه لربه فيها ؛ لأن ذلك لو كان كذلك ، لم يكن بين فريق الضلالة الذي ضل وهو يحسب أنه هاد ، وفريق الهدى ، فرق. وقد فرق الله تعالى بين أسمائهما وأحكامهما في هذه الآية [الكريمة] (4)
__________
(1) في ك : "أن يكون".
(2) قطعة من حديث رواه مسلم في صحيحه برقم (223) من حديث أبي مالك الأشعري.
(3) زيادة من د ، ك ، م ، أ. وفي هـ : "الآية".
(4) زيادة من ك ، أ.

(3/405)


يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)

{ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) }
هذه الآية الكريمة ردٌّ على المشركين فيما كانوا يعتمدونه من الطواف بالبيت عُراة ، كما رواه مسلم والنسائي وابن جرير (1) - واللفظ له - من حديث شعبة ، عن سلمة بن كُهَيْل ، عن مسلم البَطِين ، عن سعيد بن جُبَيْر ، عن ابن عباس قال : كانوا يطوفون بالبيت عراة ، الرجال والنساء : الرجال بالنهار ، والنساء بالليل. وكانت المرأة تقول :
اليومَ يبدُو بعضُه أو كُلّه... وما بَدَا مِنْه فلا أحِلّهُ...
فقال الله تعالى : { خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } (2)
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس في قوله [تعالى] (3) { خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } الآية ، قال : كان رجال يطوفون بالبيت عراة ، فأمرهم الله بالزينة - والزينة : اللباس ، وهو ما يوارى السوأة ، وما سوى ذلك من جَيّد البزِّ والمتاع - فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد.
وكذا قال مجاهد ، وعطاء ، وإبراهيم النَّخعي ، وسعيد بن جُبَيْر ، وقتادة ، والسُّدِّي ، والضحاك ،
__________
(1) في أ : "ابن ماجة".
(2) صحيح مسلم برقم (3028) وسنن النسائي (5/233) وتفسير الطبري (12/390).
(3) زيادة من أ.

(3/405)


ومالك عن الزهري ، وغير واحد من أئمة السلف في تفسيرها : أنها أنزلت في طوائف المشركين بالبيت عراة.
وقد روى الحافظ بن مَرْدُويه ، من حديث سعيد بن بشير والأوزاعي ، عن قتادة ، عن أنس مرفوعا ؛ أنها أنزلت (1) في الصلاة في النعال. ولكن في صحته نظر (2) والله أعلم.
ولهذه الآية ، وما ورد في معناها من السنة ، يستحب التجمل عند الصلاة ، ولا سيما يوم الجمعة ويوم العيد ، والطيب لأنه من الزينة ، والسواك لأنه من تمام ذلك ، ومن أفضل الثياب (3) البياض ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا علي بن عاصم ، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خُثَيم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "البسوا من ثيابكم البياض ، فإنها من خير ثيابكم ، وكَفِّنوا فيها موتاكم ، وإن خير أكحالكم الإثْمِد ، فإنه يجلو البصر ، وينبت الشعر".
هذا حديث جيد الإسناد ، رجاله (4) على شرط مسلم. ورواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، من حديث عبد الله بن عثمان بن خُثَيم ، به (5) وقال الترمذي : حسن صحيح.
وللإمام أحمد أيضا ، وأهل السنن بإسناد جيد ، عن سَمُرَة بن جُنْدَب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "عليكم بالثياب البياض فالبسوها ؛ فإنها أطهر وأطيب ، وكفنوا فيها موتاكم" (6)
وروى الطبراني بسند (7) صحيح ، عن قتادة ، عن محمد بن سيرين : أن تميما الداري اشترى رداءً بألف ، فكان يصلي فيه.
وقوله تعالى : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ] } (8) الآية. قال بعض السلف : جمع الله الطب كله في نصف آية : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا }
وقال البخاري : قال ابن عباس : كل ما شئت ، والبس ما شئت ، ما أخطأتك خصلتان : سرَف ومَخِيلة.
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا محمد بن ثَوْر ، عن مَعْمَر ، عن
ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال : أحل الله الأكل والشرب ، ما لم يكن سرَفًا أو مَخِيلة. إسناده
__________
(1) في أ : "نزلت".
(2) ورواه العقيلي في الضعفاء الكبير (3/143) من طريق عباد بن جويرية ، عن الأوزاعي ، عن قتادة به. وعباد بن جويرية قال فيه الإمام أحمد : "كذاب أفاك".
ورواه الخطيب في تاريخ بغداد (14/287) من طريق يعقوب ، الدعاء عن يحيى بن عبد الله الدمشقي ، عن الأوزاعي به.
ويعقوب وشيخه لا يعرفان.
(3) في د ، ك ، م ، أ : "اللباس".
(4) في م : "رجاله كلهم ثقات".
(5) المسند (1/247) وسنن أبي داود برقم (4061) وسنن الترمذي برقم (944) وسنن ابن ماجة برقم (1472).
(6) المسند (5/7) وسنن النسائي (8/205).
(7) في م : "بإسناد".
(8) زيادة من ك ، م ، أ. وفي هـ : "الآية".

(3/406)


صحيح.
وقال الإمام أحمد : حدثنا بَهْز ، حدثنا هَمّام ، عن قتادة ، عن عمرو بن شُعَيْب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا ، في غير مَخِيلة ولا سرَف ، فإن الله يحب أن يرى (1) نعمته على عبده" (2)
ورواه النسائي وابن ماجه ، من حديث قتادة ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "كلوا وتصدقوا والبسوا في غير إسراف ولا مَخِيلة" (3)
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا سليمان بن سليم الكِناني ، حدثنا يحيى بن جابر الطائي (4) سمعت المقدام بن معد يكرب الكندي (5) قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ما ملأ آدمي وعاءً شرًا من بطنه ، حَسْبُ ابن آدم أكلات يُقِمْنَ صُلبه ، فإن كان فاعلا لا محالة ، فثلث طعامٌ ، وثلث شرابٌ ، وثلث لنفسه".
ورواه النسائي والترمذي ، من طرق ، عن يحيى بن جابر ، به (6) وقال الترمذي : حسن - وفي نسخة : حسن صحيح.
وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده : حدثنا سُوَيْد بن عبد العزيز (7) حدثنا بَقِيَّة ، عن يوسف ابن أبي كثير ، عن نوح بن ذَكْوان ، عن الحسن ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن من السَّرف أن تأكل كل ما اشتهيت".
ورواه الدارقطني في الأفراد ، وقال : هذا حديث غريب تفرد به بقية. (8)
وقال السُّدِّي : كان الذين يطوفون بالبيت عراة ، يحرمون عليهم الودَكَ ما أقاموا في الموسم ؛ فقال الله [تعالى] (9) لهم : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ] } (10) يقول : لا تسرفوا في التحريم.
وقال مجاهد : أمرهم أن يأكلوا ويشربوا مما رزقهم الله.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { وَلا تُسْرِفُوا } يقول : ولا تأكلوا حرامًا ، ذلك الإسراف.
وقال عطاء الخراساني ، عن ابن عباس قوله : { وَكُلُوا (11) وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ }
__________
(1) في ك : "ترى".
(2) المسند (2/182).
(3) سنن النسائي (5/79) وسنن ابن ماجة برقم (3605).
(4) في أ : "الطائي قال".
(5) في ك : "العبدي".
(6) المسند (4/132) النسائي في السنن الكبرى برقم (6768) وسنن الترمذي برقم (2380).
(7) في جميع النسخ : "سويد بن عبد العزيز" وصوابه : "سويد بن سعيد" كما في مسند أبي يعلى وكتب الرجال.
(8) مسند أبي يعلى (5/154) وأطراف الغرائب والأفراد لابن القيسراني (ق72) ورواه ابن ماجة في السنن برقم (3352) من طريق سويد بن سعيد به. وقال البوصيري في الزوائد (3/95) : "هذا إسناد ضعيف" وهو مسلسل بالعلل.
(9) زيادة من م.
(10) زيادة من ك ، م ، أ. وفي هـ "الآية".
(11) في م : "كلوا".

(3/407)


قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)

في الطعام والشراب.
وقال ابن جرير : وقوله : { إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } يقول الله : إن الله [تعالى] (1) لا يحب المتعدين (2) حَدَّه في حلال أو حرام ، الغالين فيما أحل أو حَرّم ، بإحلال الحرام وبتحريم الحلال ، ولكنه يحب أن يحلل ما أحل ، ويحرم ما حرم ، وذلك العدل الذي أمر به.
{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) }
يقول تعالى ردًا على من حَرَّم شيئًا من المآكل أو المشارب ، والملابس ، من تلقاء نفسه ، من غير شرع من الله : { قُلْ } يا محمد ، لهؤلاء المشركين الذين يحرمون ما يحرمون بآرائهم الفاسدة وابتداعهم : { مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ [ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ] } (3) الآية ، أي : هي مخلوقة لمن آمن بالله وعبده في الحياة الدنيا ، وإن شركهم فيها الكفار حسًا (4) في الدنيا ، فهي لهم خاصة يوم القيامة ، لا يَشْرَكهم فيها أحد من الكفار ، فإن الجنة محرّمة على الكافرين.
قال أبو القاسم الطبراني : حدثنا أبو حُصَين محمد بن الحسين القاضي ، حدثنا يحيى الحِمَّاني ، حدثنا يعقوب القُمِّي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ،
عن ابن عباس قال : كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراة ، يصفرون ويُصفِّقون. فأنزل الله : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ } فأمروا بالثياب. (5)
{ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (33) }
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن شَقِيقٍ ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا أحد أغير من الله ، فلذلك حَرَّم الفواحش ما ظَهَر منها وما بَطن ، ولا أحد أحب إليه المدح من الله".
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث سليمان بن مهْران الأعمش ، عن شقيق عن أبي وائل ، عن عبد الله بن مسعود (6) وتقدم الكلام في سورة الأنعام على ما يتعلق بالفواحش ما ظهر منها وما بطن.
وقوله : { وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ } قال السُّدِّي : أما الإثم فالمعصية ، والبغي أن تبغي على الناس بغير الحق.
__________
(1) زيادة من ك.
(2) في ك ، م : "المعتدين".
(3) زيادة من ك ، م ، أ.
(4) في ك : "حبا".
(5) المعجم الكبير (12/13) ، وقال الهيثمي في المجمع (7/23) : "فيه يحيى الحماني وهو ضعيف".
(6) المسند (1/381) ، وصحيح البخاري برقم (4634) ، وصحيح مسلم برقم (2760).

(3/408)


وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آَدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)

وقال مجاهد : الإثم المعاصي كلها ، وأخبر أن الباغي بغيه كائن على نفسه.
وحاصل ما فُسّر (1) به الإثم أنه الخطايا المتعلقة بالفاعل نفسه ، والبغي هو التعدي إلى الناس ، فحرم الله هذا وهذا.
وقوله : { وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنزلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } أي : تجعلوا له شريكا في عبادته ، وأن تقولوا عليه (2) من الافتراء والكذب من دعوى أن له ولدًا ونحو ذلك ، مما لا علم لكم به كما قال تعالى : { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ [وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ] } (3) الآية [ الحج : 30 ، 31 ].
{ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) }
يقول تعالى : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ } أي : قرن وجيل { أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ } أي : ميقاتهم المقدر لهم { لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً } عن ذلك (4) { وَلا يَسْتَقْدِمُونَ }
ثم أنذر تعالى بني آدم بأنه سيبعث إليهم رسلا يقصون عليهم آياته ، وبَشر وحذر فقال : { فَمَن اتَّقَى وَأَصْلَحَ } أي : ترك المحرمات وفعل الطاعات { فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا } أي : كذبت بها قلوبهم ، واستكبروا عن العمل بها { أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أي : ماكثون فيها مكثًا مخلدًا.
{ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) }
يقول [تعالى] (5) { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ } أي : لا أحد أظلم ممن افترى الكذب على الله ، أو كذب بآيات الله المنزلة.
{ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ } اختلف المفسرون في معناه ، فقال العَوْفي عن ابن عباس : ينالهم ما كتب عليهم ، وكتب لمن يفترى على الله أن وجهه مسود.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس يقول : نصيبهم من الأعمال ، من عَمِل خيرًا جُزِي به ،
__________
(1) في أ : "فسرا".
(2) في ك : "على الله".
(3) زيادة من ك ، م ، أ.
(4) في أ : "أي من ذلك".
(5) زيادة من أ.

(3/409)


ومن عمل شرًا جُزِي به.
وقال مجاهد : ما وعدوا فيه من خير وشر.
وكذا قال قتادة ، والضحاك ، وغير واحد. واختاره ابن جرير.
وقال محمد بن كعب القرظي : { أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ } قال : عمله ورزقه وعمره.
وكذا قال الربيع بن أنس ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وهذا القول قوي في المعنى ، والسياق يدل عليه ، وهو قوله : { حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ } ويصير المعنى في هذه الآية كما في قوله [تعالى] (1) { إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ* مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ } [ يونس : 69 ، 70 ] وقوله { وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلا [ ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ] } (2) [ لقمان : 23 ، 24 ].
وقوله [تعالى] (3) { حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ [ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ] } (4) الآية : يخبر تعالى أن الملائكة إذا توفت المشركين تفزعهم (5) عند الموت وقَبْض أرواحهم إلى النار ، يقولون لهم (6) أين الذين كنتم تشركون بهم في الحياة الدنيا وتدعونهم وتعبدونهم من دون الله ؟ ادعوهم يخلصوكم (7) مما أنتم فيه. قالوا : { ضَلُّوا عَنَّا } أي : ذهبوا عنا فلا نرجو نفعهم ، ولا خيرهم. { وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ } أي : أقروا واعترفوا على أنفسهم { أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ }.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من د ، ك ، م ، أ.
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من أ.
(5) في أ : "تقرعهم".
(6) في د : "قائلين لهم".
(7) في أ : "يخلصونكم".

(3/410)


قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآَتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)

{ قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) }
يقول تعالى مخبرًا عما يقوله لهؤلاء المشركين به ، المفترين عليه المكذبين بآياته : { ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ } أي : من أشكالكم وعلى صفاتكم ، { قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ } أي : من الأمم السالفة الكافرة ، { مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ فِي النَّارِ } يحتمل أن يكون بدلا من قوله : { فِي أُمَمٍ } ويحتمل أن يكون { فِي أُمَمٍ } أي : مع أمم.
وقوله : { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا } كما قال الخليل ، عليه السلام : { ثُمّ (1) َ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ [ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا ] } (2) الآية [ العنكبوت : 25 ]. وقوله تعالى : { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ } [ البقرة : 166 ، 167 ].
__________
(1) في د ، ك ، م : "ويوم".
(2) زيادة من ك ، م ، أ.

(3/410)


إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)

وقوله [تعالى] (1) { حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا } أي : اجتمعوا فيها كلهم ، { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأولاهُمْ } أي : أخراهم دخولا - وهم الأتباع - لأولاهم - وهم المتبوعون - لأنهم أشد جرمًا من أتباعهم ، فدخلوا قبلهم ، فيشكوهم (2) الأتباع إلى الله يوم القيامة ؛ لأنهم هم الذين أضلوهم عن سواء السبيل ، فيقولون : { رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ } أي : أضعف عليهم العقوبة ، كما قال تعالى : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ [ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (3) ] } [الأحزاب : 66 - 68 ]
وقوله : { قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ } أي : قد فعلنا ذلك وجازينا كلا بحسبه ، كما قال تعالى : { الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا [ فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (4) ] } [ النحل : 88 ] وقال تعالى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالا مَعَ أَثْقَالِهِمْ [ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (5) ] } [ العنكبوت : 13 ] وقال : { وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (6) ] } [ النحل : 25 ]
{ وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأخْرَاهُمْ } أي : قال المتبوعون للأتباع : { فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ } قال السدي : فقد ضللتم كما ضللنا.
{ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ } وهذا الحال كما أخبر الله تعالى عنهم في حال محشرهم ، في قوله تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ سبأ : 31 - 33 ]
{ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) }
قوله : { لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ } قيل : المراد : لا يرفع لهم منها عمل صالح ولا دعاء.
__________
(1) زيادة من م.
(2) في أ : "فيشكونهم".
(3) زيادة من ك ، م ، أ. وفي هـ : "الآية".
(4) زيادة من ك ، م ، أ. وفي هـ : "الآية".
(5) زيادة من أ. وفي هـ : "الآية".
(6) زيادة من ك ، م ، أ. وفي هـ : "الآية".

(3/411)


قاله مجاهد ، وسعيد بن جبير. ورواه العَوْفي وعلي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس. وكذا رواه الثوري ، عن ليْث ، عن عطاء ، عن ابن عباس.
وقيل : المراد : لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء.
رواه الضحاك ، عن ابن عباس. وقاله السُّدِّي وغير واحد ، ويؤيده ما قال ابن جرير : حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن المِنْهَال - هو ابن عمرو - عن زاذان ، عن البراء ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قَبْض روح الفاجر ، وأنه يُصْعَد بها إلى السماء ، قال : "فيصعدون بها ، فلا تمر على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذه الروح الخبيثة ؟ فيقولون : فلان ، بأقبح أسمائه التي كان يُدْعَى بها في الدنيا ، حتى ينتهوا بها إلى السماء ، فيستفتحون بابها له فلا يفتح له". ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ [ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ] } (1) الآية.
هكذا رواه ، وهو قطعة من حديث طويل رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه ، من طرق ، عن المنهال بن عمرو ، به (2) وقد رواه الإمام أحمد بطوله فقال :
حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن مِنْهَال بن عمرو ، عن زاذان ، عن البراء بن عازب [رضي الله عنه] (3) قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار ، فانتهينا إلى القبر ولَمَّا يُلْحَد. فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأن على رءوسنا الطير ، وفي يده عود ينكت به في الأرض ، فرفع رأسه فقال : "استعيذوا بالله من عذاب القبر". مرتين أو ثلاثًا ثم قال : "إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا ، وإقبال إلى الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه ، كأن وجوههم الشمس ، معهم كفن من أكفان الجنة ، وحَنُوط من حَنُوط الجنة ، حتى يجلسوا منه مدّ بصره. ثم يجيء ملك الموت ، حتى يجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس الطيبة (4) اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان".
قال : "فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء ، فيأخذها فإذا أخذها لم يَدَعوها (5) في يده طرفة عين ، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن ، وفي ذلك الحنوط. ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض. فيصعدون بها فلا يمرون - يعني - بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذا الروح الطيب ؟ فيقولون : فلان بن فلان ، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا ، حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا ، فيستفتحون له ، فيفتح له ، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها ، حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة ، فيقول الله ، عز وجل : اكتبوا كتاب عبدي في عِليِّين ، وأعيدوه إلى الأرض ، فإني منها خلقتهم ، وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى".
__________
(1) زيادة من ك ، م ، أ.
(2) تفسير الطبري (12/424) ، وسنن أبي داود برقم (4753) ، وسنن النسائي (4/78) ، وسنن ابن ماجة برقم (1548).
(3) زيادة من ك ، أ.
(4) في ك ، م : "المطمئنة".
(5) في ك : "يدعها".

(3/412)


قال : "فتعاد روحه ، فيأتيه مَلَكان فيجلسانه فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : ربي الله. فيقولان له ما دينك ؟ فيقول : ديني الإسلام. فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقولان له : وما علمك ؟ فيقول : قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت. فينادي مناد من السماء : أن صدق عبدي ، فأفرشوه من الجنة ، وألبسوه من الجنة ، وافتحوا له بابًا إلى الجنة". "فيأتيه (1) من روحها وطيبها ، ويفسح له في قبره مَدّ بصره".
قال : "ويأتيه رجل حسن الوجه ، حسن الثياب ، طيب الريح ، فيقول : أبشر بالذي يسُرك ، هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول له : من أنت ؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير. فيقول : أنا عملك الصالح. فيقول : رب أقم الساعة ، رب أقم الساعة ، حتى أرجع إلى أهلي ومالي".
قال : "وإن العبد الكافر ، إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة (2) نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم (3) المسوح ، فيجلسون منه مَدّ البصر ، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه ، فيقول : أيتها النفس الخبيثة ، اخرجي إلى سخط الله وغضب". قال : "فَتُفَرّق في جسده ، فينتزعها كما ينتزع السَّفُّود من الصوف المبلول ، فيأخذها ، فإذا أخذها لم يَدَعُوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح ، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض. فيصعدون بها ، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذا الروح الخبيث ؟ فيقولون : فلان ابن فلان ، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا ، حتى ينتهي به إلى السماء الدنيا ، فيستفتح له ، فلا يفتح (4) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ } فيقول الله ، عز وجل : اكتبوا كتابه في سجّين في الأرض السفلى. فتطرح روحه طرحا". ثم قرأ : { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } [ الحج : 31 ]
"فتعاد روحه في جسده. ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : هاه هاه! لا أدري. فيقولان (5) ما دينك ؟ فيقول : هاه هاه! لا أدري فيقولان (6) ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هاه هاه ! لا أدري. فينادي مناد من السماء : أن كذب ، فأفرشوه من النار ، وافتحوا له بابًا إلى النار. فيأتيه من حَرّها وسمومها ، ويُضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ، ويأتيه رجل قبيح الوجه ، قبيح الثياب ، منتن الريح ، فيقول : أبشر بالذي يسوؤك ؛ هذا يومك الذي كنت توعد فيقول : من (7) أنت ؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر. فيقول : أنا عملك الخبيث. فيقول : رب لا تقم الساعة" (8)
__________
(1) في ك ، م ، أ : "قال : فيأتيه".
(2) في م : "إذا كان في انقطاع عن الآخرة وإقبال من الدنيا".
(3) في م : "معهم السياط".
(4) في م ، أ : "فلا يفتح له".
(5) في م ، أ : "فيقولان له".
(6) في م ، أ : "فيقولان له".
(7) في م : "ومن".
(8) المسند (4/287).

(3/413)


وقال أحمد أيضا : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن يونس بن خَبَّاب ، عن المِنْهال بن عمرو ، عن زاذان ، عن البراء بن عازب قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة ، فذكر نحوه.
وفيه : "حتى إذا خرج روحه صلى عليه كل ملك من السماء والأرض ، وكل ملك في السماء ، وفتحت له أبواب السماء ، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله ، عز وجل ، أن يعرج بروحه من قبلهم".
وفي آخره : "ثم يقيض له أعمى أصم أبكم ، في يده مَرْزَبَّة لو ضرب بها جبل كان ترابًا ، فيضربه ضربة فيصير ترابًا ، ثم يعيده الله ، عز وجل ، كما كان ، فيضربه ضربة أخرى فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الثقلين". قال البراء : "ثم يفتح له باب من النار ، ويمهد له فرش من النار" (1)
وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد ، والنسائي ، وابن ماجه وابن جرير - واللفظ له - من حديث محمد بن عمرو بن عطاء ، عن سعيد بن يَسَار ، عن أبي هريرة [رضي الله عنه] (2) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "الميت تحضره الملائكة ، فإذا كان الرجل الصالح قالوا : اخرجي أيتها النفس المطمئنة كانت في الجسد الطيب ، اخرجي حَمِيدة ، وأبشري برَوْح وريحان ، ورب غير غضبان ، فيقولون ذلك حتى يُعْرج بها إلى السماء ، فيستفتح لها ، فيقولون : من هذا ؟ فيقولون : فلان. فيقال : مرحبًا بالنفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب ، ادخلي حميدة ، وأبشري برَوْح وريحان ، ورب غير غضبان ، فيقال لها ذلك حتى ينتهى به إلى السماء التي فيها الله ، عز وجل. وإذا كان الرجل السَّوْء قالوا : اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ، اخرجي ذميمة ، وأبشري بحميم وغَسّاق ، وآخر من شكله أزواج ، فيقولون ذلك حتى تخرج ، ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها ، فيقال : من هذا ؟ فيقولون : فلان. فيقولون : لا مرحبًا بالنفس الخبيثة التي كانت في الجسد الخبيث ، ارجعي ذميمة ، فإنه لم تفتح (3) لك أبواب السماء ، فترسل بين السماء والأرض ، فتصير إلى القبر" (4)
وقد قال ابن جُرَيج في قوله : { لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ } قال : لا تفتح لأعمالهم ، ولا لأرواحهم.
وهذا فيه جمع بين القولين ، والله أعلم.
وقوله : { وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ } هكذا قرأه (5) الجمهور ، وفسروه بأنه البعير. قال ابن مسعود : هو الجمل ابن الناقة. وفي رواية : زوج الناقة. وقال الحسن البصري : حتى يدخل البعير في خُرْق الإبرة. وكذا قال أبو العالية ، والضحاك. وكذا روى علي بن أبي طلحة ، والعَوْفي عن ابن عباس.
__________
(1) المسند (4/295).
(2) زيادة من أ.
(3) في ك : "يفتح".
(4) المسند (2/364) وسنن النسائي الكبرى برقم (11442) وسنن ابن ماجة برقم (4262) وتفسير الطبري (12/424).
(5) في د ، ك ، م : "فسره".

(3/414)


وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)

وقال مجاهد ، وعكرمة ، عن ابن عباس : أنه كان يقرؤها : "[حتى] (1) يلج الجُمَّل في سم الخياط" بضم الجيم ، وتشديد الميم ، يعني : الحبل الغليظ في خرم الإبرة.
وهذا اختيار سعيد بن جبير. وفي رواية أنه قرأ : "حتى يلج الجُمَّل" يعني : قُلُوس السفن ، وهي الحبال الغلاظ.
وقوله : { لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ [ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ] } (2) قال محمد بن كعب القُرَظِي : { لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ } قال : الفرش ، { وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } قال : اللحُفُ.
وكذا قال الضحاك بن مُزاحِم ، والسُّدِّي ، { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ }
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) }
لما ذكر تعالى حال الأشقياء (3) عطف بذكر حال السعداء ، فقال : { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } أي : آمنت قلوبهم وعملوا الصالحات بجوارحهم ، ضد أولئك الذين كفروا بآيات الله ، واستكبروا عنها.
وينبه (4) تعالى على أن الإيمان والعمل به سهل ؛ لأنه تعالى قال : { لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ. وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ } أي : من حسد وبغضاء ، كما جاء في الصحيح للبخاري ، من حديث قتادة ، عن أبي المتوكِّل الناجي ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا خلص المؤمنون من النار حُبِسوا على قنطرة بين الجنة والنار ، فاقتص لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتى إذا هُذبوا ونقوا ، أذن لهم في دخول الجنة ؛ فوالذي نفسي بيده ، إن أحدهم بمنزله في الجنة أدلّ منه بمسكنه كان في الدنيا" (5)
وقال السُّدِّي في قوله : { وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ } الآية : إن أهل الجنة إذا سبقوا إلى الجنة فبلغوا ، وجدوا عند بابها شجرة في أصل ساقها عينان ، فشربوا (6) من إحداهما ، فينزع ما في صدورهم من غل ، فهو "الشراب الطهور" ، واغتسلوا من الأخرى ، فجرت عليهم "نضرة النعيم" فلم يشعثوا ولم يشحبوا بعدها أبدًا.
__________
(1) زيادة من ك ، م ، أ.
(2) زيادة من ، م ، أ.
(3) في أ : "ما للأشقياء".
(4) في م ، أ : "ونبه".
(5) صحيح البخاري برقم (2440).
(6) في م : "فيشربون".

(3/415)


وقد روى أبو إسحاق ، عن عاصم ، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب نحوًا من ذلك (1) كما سيأتي في قوله تعالى : { وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا } [ الزمر : 73 ] إن شاء الله ، وبه الثقة وعليه التكلان.
وقال قتادة : قال علي ، رضي الله عنه : إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله تعالى فيهم : { وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ } رواه ابن جرير.
وقال عبد الرزاق : أخبرنا ابن عيينة ، عن إسرائيل قال : سمعت الحسن يقول : قال علي : فينا والله أهل بدر نزلت : { وَنزعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ } (2)
وروى النسائي وابن مَرْدُويه - واللفظ له - من حديث أبي بكر بن عياش ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول : لولا أن الله هداني ، فيكون له شكرًا. وكل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول : لو أن الله هداني فيكون له حسرة" (3)
ولهذا لما أورثوا مقاعد أهل النار من الجنة نودوا : { أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي : بسبب أعمالكم نالتكم الرحمة فدخلتم الجنة ، وتبوأتم منازلكم بحسب أعمالكم. وإنما وجب الحمل على هذا لما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : "واعلموا أن أحدكم (4) لن يدخله عمله الجنة". قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : "ولا أنا ، إلا أن يَتَغَمَّدَنِي الله برحمة منه وفضل" (5)
__________
(1) في ك ، م ، أ : "هذا".
(2) تفسير عبد الرزاق (1/217).
(3) سنن النسائي الكبرى كما في تحفة الأشراف للمزي برقم (12492) ورواه أحمد في مسنده (2/512) والحاكم في المستدرك (2/435) من طريق أبي بكر بن عياش به ، وقال : "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
(4) في أ : "أحدا".
(5) صحيح البخاري برقم (6463) وصحيح مسلم برقم (2816) من حديث أبي هريرة ، رضي الله عنه.

(3/416)


وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ (45)

{ وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) }
يخبر تعالى بما يخاطب أهل الجنة أهل النار إذا استقروا في منازلهم ، وذلك على وجه التقريع والتوبيخ : { أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا [ فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ] } (1) أن" هاهنا مفسِّرة للقول المحذوف ، و"قد" للتحقيق ، أي : قالوا لهم : { قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ } كما أخبر تعالى في سورة "الصافات" عن الذي كان له قرين من الكفار : { فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [ الآيات : 55 - 59 ]
__________
(1) زيادة من ك ، م.

(3/416)


وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)

أي : ينكر عليه مقالته التي يقولها في الدنيا ، ويقرعه بما صار إليه من العذاب والنكال ، وكذا (1) تقرعهم الملائكة يقولون لهم : { هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [الطور : 14 - 16] وكذلك قرع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قتلى القليب يوم بدر ، فنادى : "يا أبا جهل بن هشام ، ويا عتبة بن ربيعة ، ويا شيبة بن ربيعة - وسمى رءوسهم - : هل وجدتم ما وعد ربكم حقًا ؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقًا". وقال (2) عمر : يا رسول الله ، تخاطب قومًا قد جَيفوا ؟ فقال : "والذي نفسي بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا". (3)
وقوله : { فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ } أي : أعلم معلم ونادى مُنَاد : { أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ } أي : مستقرة عليهم.
ثم وصفهم بقوله : { الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } أي : يصدون الناس عن اتباع سبيل الله وشرعه وما جاءت به الأنبياء ، ويبغون أن تكون السبيل معوجة غير مستقيمة ، حتى لا يتبعها أحد. { وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ } أي : وهم بلقاء الله في الدار الآخرة كافرون ، أي : جاحدون مكذبون بذلك لا يصدقونه ولا يؤمنون به. فلهذا لا يبالون بما يأتون من منكر من القول والعمل ؛ لأنهم لا يخافون حسابًا عليه ، ولا عقابًا ، فهم شر الناس أعمالا وأقوالا.
{ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) }
لما ذكر تعالى مخاطبة أهل الجنة مع أهل النار ، نَبَّه أن بين الجنة والنار حجابًا ، وهو الحاجز المانع من وصول أهل النار إلى الجنة.
قال ابن جرير : وهو السور الذي قال الله تعالى : { فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ } [ الحديد : 13 ] وهو الأعراف الذي قال الله تعالى : { وَعَلَى الأعْرَافِ رِجَالٌ }
ثم روي بإسناده عن السدي أنه قال في قوله [تعالى] (4) { وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ } وهو "السور" ، وهو "الأعراف".
__________
(1) في م : "وكذلك".
(2) في ك ، م : "فقال".
(3) رواه البخاري في صحيحه برقم (3980) ومسلم في صحيحه برقم (932) من حديث عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما.
(4) زيادة من ك.

(3/417)


وقال مجاهد : الأعراف : حجاب بين الجنة والنار ، سور له باب. قال ابن جرير : والأعراف جمع "عُرْف" ، وكل مرتفع من الأرض عند العرب يسمى "عرفًا" ، وإنما قيل لعرف الديك عرفًا لارتفاعه.
وحدثنا سفيان بن وَكِيع ، حدثنا ابن عيينة ، عن عُبَيد الله بن أبي يزيد ، سمع ابن عباس يقول : الأعراف هو الشيء المشرف.
وقال الثوري ، عن جابر ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال : الأعراف : سور كعُرْف الديك.
وفي رواية عن ابن عباس : الأعراف ، تل بين الجنة والنار ، حبس عليه ناس من أهل الذنوب بين الجنة والنار. وفي رواية عنه : هو سور بين الجنة والنار. وكذلك قال الضحاك وغير واحد من علماء التفسير.
وقال السدي : إنما سمي "الأعراف" أعرافًا ؛ لأن أصحابه يعرفون الناس.
واختلفت عبارات المفسرين في أصحاب الأعراف من هم ، وكلها قريبة ترجع إلى معنى واحد ، وهو أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم. نص عليه حذيفة ، وابن عباس ، وابن مسعود ، وغير واحد من السلف والخلف ، رحمهم الله. وقد جاء في حديث مرفوع رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدُوَيه :
حدثنا عبد الله بن إسماعيل ، حدثنا عبيد بن الحسين ، حدثنا سليمان بن داود ، حدثنا النعمان بن عبد السلام ، حدثنا شيخ لنا يقال له : أبو عباد ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر بن عبد الله قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن استوت حسناته وسيئاته ، فقال : "أولئك أصحاب الأعراف ، لم يدخلوها وهم يطمعون".
وهذا حديث غريب من هذا الوجه (1) ورواه من وجه آخر ، عن سعيد بن سلمة عن أبي الحسام ، عن محمد بن المنكدر عن رجل من مزينة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف ، فقال : "إنهم قوم خرجوا عصاة بغير إذن آبائهم ، فقتلوا في سبيل الله" (2)
وقال سعيد بن منصور : حدثنا أبو مَعْشَر ، حدثنا يحيى بن شِبْل ، عن يحيى بن عبد الرحمن المزني (3) عن أبيه قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن "أصحاب الأعراف" فقال : "هم ناس (4) قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم ، فمنعهم من دخول الجنة معصية آبائهم ومنعهم النار (5) قتلهم في سبيل الله".
__________
(1) ورواه أبو الشيخ وابن عساكر في تاريخه كما في الدر المنثور (3/463).
(2) ورواه أبو الشيخ كما في الدر المنثور (3/465) ، وسعيد بن سلمة ضعفه النسائي وخرج له مسلم في صحيحه.
(3) وقع في النسخ "يحيى بن عبد الرحمن المزني" وفي تفسير الطبري "محمد بن عبد الرحمن المزني" وفي مسند الحارث ومساوئ الأخلاق "عمر بن عبد الرحمن المزني" ولم أجد من ترجم له إلا أن ابن أبي حاتم قال في الجرح والتعديل في ترجمة يحيى بن شبل أنه روى عن "عمر بن عبد الرحمن المزني".
(4) في أ : "قوم".
(5) في أ : "من دخول النار".

(3/418)


هكذا رواه ابن مَرْدُوَيه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم من طرق ، عن أبي معشر به (1) وكذلك (2) رواه ابنُ ماجه مرفوعًا ، من حديث ابن عباس وأبي سعيد الخدري (3) [رضي الله عنهما] (4) والله أعلم بصحة هذه الأخبار المرفوعة وقصاراها أن تكون موقوفة وفيه دلالة على ما ذكر.
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب ، حدثنا هُشَيْم ، أخبرنا حصين ، عن الشعبي ، عن حذيفة ؛ أنه سئل عن أصحاب الأعراف ، قال : فقال : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، فقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة ، وخلَّفت بهم حسناتهم عن النار. قال : فوقفوا هناك (5) على السور حتى يقضي الله فيهم. (6)
وقد رواه من وجه آخر أبسط (7) من هذا فقال :
حدثنا ابن حُمَيد ، حدثنا يحيى بن واضح ، حدثنا يونس بن أبي إسحاق قال : قال الشعبي : أرسل إليّ عبد الحميد بن عبد الرحمن - وعنده أبو الزناد عبد الله بن ذَكْوان مولى قريش - وإذا هما قد ذكرا من أصحاب الأعراف ذكرًا ليس كما ذكرا ، فقلت لهما : إن شئتما أنبأتكما بما ذكر حذيفة ، فقالا هات. فقلت : إن حذيفة ذكر أصحاب الأعراف فقال : هم قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار ، وقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة ، فإذا صُرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا : { رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } فبينا (8) هم كذلك ، اطلع عليهم ربك فقال لهم : اذهبوا فادخلوا الجنة فإني قد غفرت لكم. (9)
وقال عبد الله بن المبارك ، عن أبي بكر الهذلي قال : قال سعيد بن جبير ، وهو يحدث ذلك عن ابن مسعود قال يحاسب الناس يوم القيامة ، فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة ، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار. ثم قرأ قول الله : { فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (10) ] } [ المؤمنون : 102 ، 103 ] ثم قال : إن الميزان يخف بمثقال حبة ويرجح ، قال : ومن استوت حسناته وسيئاته كان من
__________
(1) تفسير الطبري (12/458) ، ورواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده برقم (711) "بغية الباحث".
والخرائطي في مساوئ الأخلاق برقم (252) كلاهما من طريق أبي معشر به.
وأبو معشر هو نجيح بن عبد الرحمن قال البخاري : منكر الحديث.
(2) في ك ، م : "وكذا".
(3) لم أجدهما في سنن ابن ماجة ، وإنما رواهما ابن مردوية في تفسيره كما في الدر المنثور (3/465) ، وحديث أبي سعيد رواه أيضا الطبراني في المعجم الأوسط برقم (3322) "مجمع البحرين" من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن عطاء ، عن أبي سعيد الخدري به. وقال الهيثمي في المجمع (7/23) : "فيه محمد بن مخلد الرعيني وهو ضعيف".
قلت : وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف أيضا.
(4) زيادة من أ.
(5) في ك ، م : "هنالك".
(6) تفسير الطبري (12/453).
(7) في م : "بأبسط".
(8) في أ : "فبينما".
(9) تفسير الطبري (12/452).
(10) زيادة من ك ، م ، أ. وفي هـ : "الآيتين".

(3/419)


أصحاب الأعراف ، فوقفوا على الصراط ، ثم عرفوا أهل الجنة وأهل النار ، فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا : سلام عليكم ، وإذا صرفوا أبصارهم إلى يسارهم نظروا أصحاب النار قالوا : { رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } فتعوذوا بالله من منازلهم. قال : فأما أصحاب الحسنات ، فإنهم يعطون نورًا فيمشون به بين أيديهم وبأيمانهم ، ويعطى كل عبد يومئذ نورًا ، وكل أمة نورًا ، فإذا أتوا على الصراط سلب الله نور كل منافق ومنافقة. فلما رأى أهل الجنة ما لقي المنافقون قالوا : { رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } [ التحريم : 8 ]. وأما أصحاب الأعراف ، فإن النور كان في أيديهم فلم ينزع ، فهنالك يقول الله تعالى : { لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } فكان الطمع دخولا. قال : وقال (1) ابن مسعود : على أن العبد إذا عمل حسنة كتب له بها عشر ، وإذا عمل سيئة لم تكتب إلا واحدة. ثم يقول : هلك من غلبت واحدته أعشاره.
رواه ابن جرير (2) وقال أيضا :
حدثني ابن وَكِيع وابن حميد قالا حدثنا جرير ، عن منصور ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن عبد الله بن الحارث ، عن ابن عباس قال : "الأعراف" : السور الذي بين الجنة والنار ، وأصحاب الأعراف بذلك المكان ، حتى إذا بدأ الله أن يعافيهم ، انْطُلِق بهم إلى نهر يقال له : "الحياة" ، حافتاه قصب الذهب ، مكلل باللؤلؤ ، ترابه المسك ، فألقوا (3) فيه حتى تصلح ألوانهم ، وتبدو في نحورهم بيضاء يعرفون بها ، حتى إذا صلحت ألوانهم أتى بهم الرحمن تبارك وتعالى فقال : تمنوا ما شئتم فيتمنون ، حتى إذا انقطعت أمنيتهم قال لهم : لكم الذي تمنيتم ومثله سبعون ضعفا. فيدخلون الجنة وفي نحورهم شامة بيضاء يعرفون بها ، يسمون مساكين أهل الجنة.
وكذا رواه ابن أبي حاتم ، عن أبيه ، عن يحيى بن المغيرة ، عن جرير ، به. وقد رواه سفيان الثوري ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن الحارث ، من قوله (4) وهذا أصح ، والله أعلم. وهكذا روي عن مجاهد والضحاك وغير واحد.
وقال سُنَيْد بن داود : حدثني جرير ، عن عمارة بن القعقاع ، عن أبي زُرْعَة عن عمرو بن جرير قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف قال (5) هم آخر من يفصل بينهم من العباد ، فإذا فرغ رب العالمين من فصله (6) بين العباد قال : أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار ، ولم تدخلوا (7) الجنة ، فأنتم عتقائي ، فارعوا من الجنة حيث شئتم". وهذا مرسل حسن (8)
__________
(1) في د : "فقال".
(2) تفسير الطبري (12/454).
(3) في م : "فألقي".
(4) تفسيرالطبري (12/455).
(5) في م : "فقال".
(6) في ك ، م : "فصل".
(7) في م : "يدخلوا".
(8) ورواه الطبري (12/461) عن القاسم ، عن سنيد بإسناده به.

(3/420)


وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة "الوليد بن موسى" ، عن منبه بن عثمان (1) عن عُرْوَة بن رُوَيْم ، عن الحسن ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أن مؤمني الجن لهم ثواب وعليهم عقاب ، فسألناه عن ثوابهم (2) فقال : "على الأعراف ، وليسوا في الجنة مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم. فسألناه : وما الأعراف ؟ فقال : "حائط الجنة تجري فيها الأنهار ، وتنبت فيه الأشجار والثمار".
رواه البيهقي ، عن ابن بشران ، عن علي بن محمد المصري ، عن يوسف بن يزيد ، عن الوليد بن موسى ، به (3)
وقال سفيان الثوري ، عن خُصَيف ، عن مجاهد قال : أصحاب الأعراف قوم صالحون فقهاء علماء.
وقال ابن جرير : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّة ، عن سليمان التيمي ، عن أبي مِجْلز في قوله تعالى : { وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ } قال : هم رجال من الملائكة ، يعرفون أهل الجنة وأهل النار ، قال : { وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَادَى أَصْحَابُ الأعْرَافِ رِجَالا } في النار { يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ * أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ } قال : فهذا حين دخل أهل الجنة الجنة : { ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ }.
وهذا صحيح إلى أبي مجلز لاحق بن حميد أحد التابعين ، وهو غريب من قوله وخلاف الظاهر من السياق : وقول الجمهور مقدم على قوله ، بدلالة الآية على ما ذهبوا إليه. وكذا قول مجاهد : إنهم قوم صالحون علماء فقهاء (4) فيه غرابة أيضا. والله أعلم.
وقد حكى القرطبي وغيره فيهم اثني عشر قولا منها : أنهم شهدوا أنهم صلحاء تفرعوا من فرع الآخرة ، دخلوا (5) يطلعون على أخبار الناس. وقيل : هم أنبياء. وقيل : ملائكة.
وقوله تعالى : { يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : يعرفون أهل الجنة ببياض الوجوه ، وأهل النار بسواد الوجوه. وكذا روى الضحاك ، عنه.
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس (6) أنزلهم الله بتلك المنزلة ، ليعرفوا من في الجنة والنار ، وليعرفوا أهل النار بسواد الوجوه ، ويتعوذوا بالله أن يجعلهم مع القوم الظالمين. وهم في ذلك يحيون أهل الجنة بالسلام ، لم يدخلوها ، وهم يطمعون أن يدخلوها ، وهم داخلوها إن شاء الله.
وكذا قال مجاهد ، والضحاك ، والسدي ، والحسن ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
__________
(1) في النسخ "شيبة بن عثمان" والتصويب من تاريخ دمشق والبعث للبيهقي.
(2) في النسخ : "عن ثوابهم وعن مؤمنيهم" والمثبت من الدر المنثور 3/88. مستفاد من هامش ط الشعب.
(3) تاريخ دمشق (17/910) "القسم المخطوط" والبعث للبيهقي برقم (117) ورجاله ثقات.
(4) في ك ، م ، أ : "فقهاء علماء".
(5) في م : "وجعلوا" ، وفي أ : "وخلق".
(6) في ك ، م : "عن ابن عباس قال".

(3/421)


وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)

وقال مَعْمَر ، عن الحسن : إنه تلا هذه الآية : { لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } قال : والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم ، إلا لكرامة يريدها بهم.
وقال قتادة [قد] (1) أنبأكم الله بمكانهم من الطمع.
وقوله : { وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } قال الضحاك ، عن ابن عباس : إن أصحاب الأعراف إذا نظروا إلى أهل النار وعرفوهم (2) قالوا : { رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
وقال السُّدِّي : وإذا مروا بهم - يعني بأصحاب الأعراف - بزمرة يُذهب بها إلى النار قالوا : { رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
وقال عكرمة : تحدد وجوههم في النار ، فإذا رأوا أصحاب الجنة ذهب ذلك عنهم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ } فرأوا وجوههم مسودة ، وأعينهم مزرقة ، { قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
{ وَنَادَى أَصْحَابُ الأعْرَافِ رِجَالا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) }
يقول الله تعالى مخبرًا (3) عن تقريع أهل الأعراف لرجال من صناديد المشركين وقادتهم ، يعرفونهم في النار بسيماهم : { مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ } أي : كثرتكم ، { وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ } أي : لا ينفعكم (4) كثرتكم ولا جموعكم من عذاب الله ، بل صرتم إلى ما صرتم فيه (5) من العذاب والنكال. { أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني : أصحاب الأعراف { ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ }
وقال ابن جرير : حدثني محمد بن سعد ، حدثني أبي ، حدثني عمي ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ [ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ] } (6) الآية ، قال : فلما قالوا لهم الذي قضى الله أن يقولوا - يعني أصحاب الأعراف لأهل الجنة وأهل النار - قال الله [تعالى] (7) لأهل التكبر والأموال : { أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ }
وقال (8) حذيفة : إن أصحاب الأعراف قوم تكافأت أعمالهم ، فقصرت بهم حسناتهم عن الجنة ،
__________
(1) زيادة من م ، أ.
(2) في ك ، م ، أ : "عرفوهم".
(3) في ك ، م ، أ : "إخبارا".
(4) في أ : "يمنعكم".
(5) في ك ، م : "إلى ما أنتم فيه".
(6) زيادة من د ، ك ، م ، أ.
(7) زيادة من أ.
(8) في ك ، م : "فقال".

(3/422)


وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)

وقصرت بهم سيئاتهم عن النار ، فجُعلوا على الأعراف ، يعرفون الناس بسيماهم ، فلما قضى الله بين العباد أذن لهم في طلب الشفاعة ، فأتوا آدم فقالوا : يا آدم ، أنت أبونا ، فاشفع لنا عند ربك. فقال : هل تعلمون أن أحدًا خلقه الله بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وسبقت رحمته إليه غضبَه ، وسجدت له الملائكة غيري ؟ فيقولون : لا. [قال] (1) فيقول : ما علمت كنهه ، ما أستطيع أن أشفع لكم ، ولكن ائتوا ابني إبراهيم. فيأتون إبراهيم صلى الله عليه وسلم (2) فيسألونه أن يشفع لهم عند ربهم ، فيقول : [هل] (3) تعلمون من أحد اتخذه الله خليلا ؟ هل تعلمون أن أحدًا أحرقه قومه بالنار في الله غيري ؟ فيقولون : لا. فيقول : ما علمت كنهه ، ما أستطيع أن أشفع لكم. ولكن ائتوا ابني موسى. فيأتون موسى ، عليه السلام ، [فيقولون : اشفع لنا عند ربك] (4) فيقول : هل تعلمون من أحد كلمه الله تكليمًا وقربه نجيًا غيري ؟ فيقولون : لا فيقول : ما علمت كنهه ، ما أستطيع أن أشفع لكم ، ولكن ائتوا عيسى. فيأتونه ، عليه السلام ، فيقولون له : اشفع لنا عند ربك. فيقول : هل تعلمون أحدًا خلقه الله من غير أب غيري ؟ فيقولون : لا. فيقول : هل تعلمون من أحد كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله غيري ؟ قال : فيقولون : لا. فيقول : أنا حجيج نفسي. ما علمت كنهه ، ما أستطيع أن أشفع لكم. ولكن ائتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فيأتونني (5) فأضرب بيدي على صدري ، ثم أقول : أنا لها. ثم أمشي حتى أقف بين يدي العرش ، فآتي ربي ، عز وجل ، فيفتح لي من الثناء ما لم يسمع السامعون بمثله قط ، ثم أسجد فيقال لي : يا محمد ، ارفع رأسك ، وسل تُعطه ، واشفع تشفع. فأرفع رأسي ، فأقول : ربي أمتي. فيقول : هم لك. فلا يبقى نبي مرسل ، ولا ملك مقرب ، إلا غبطني بذلك المقام ، وهو المقام المحمود. فآتي بهم الجنة ، فأستفتح فيفتح لي ولهم ، فيذهب بهم إلى نهر يقال له : نهر الحيوان ، حافتاه قصب مكلل باللؤلؤ ، ترابه المسك ، وحصباؤه الياقوت. فيغتسلون منه ، فتعود إليهم ألوان أهل الجنة ، وريح [أهل الجنة] (6) فيصيرون كأنهم الكواكب الدرية ، ويبقى في صدورهم شامات بيض يعرفون بها ، يقال لهم : مساكين أهل الجنة" (7)
{ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) }
يخبر تعالى عن ذلة أهل النار وسؤالهم أهل الجنة من شرابهم وطعامهم ، وأنهم لا يجابون إلى ذلك.
قال السُّدِّي : { وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ }
__________
(1) زيادة من ك ، م.
(2) في أ : "عليه الصلاة والسلام".
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من أ.
(5) في ك ، م : "فيأتوني".
(6) زيادة من ك ، م ، أ.
(7) رواه الطبري في تفسيره (12/469).

(3/423)


يعني : الطعام وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يستطعمونهم ويستسقونهم.
وقال الثوري ، عن عثمان الثقفي ، عن سعيد بن جبير في هذه الآية قال : ينادي الرجل أباه أو أخاه فيقول : قد احترقت ، أفض (1) علي من الماء. فيقال لهم : أجيبوهم. فيقولون : { إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ }
وروي من وجه آخر عن سعيد ، عن ابن عباس ، مثله [سواء] (2)
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ } يعني : طعام الجنة وشرابها.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا نصر بن علي ، أخبرنا موسى بن المغيرة ، حدثنا أبو موسى الصفَّار في دار عمرو بن مسلم قال : سألت ابن عباس - أو : سئل - : أي الصدقة أفضل ؟ فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أفضل الصدقة الماء ، ألم تسمع إلى أهل النار لما استغاثوا بأهل الجنة قالوا : { أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ } (3)
وقال أيضا : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن أبي صالح قال : لما مرض أبو طالب قالوا له : لو أرسلتَ إلى ابن أخيك هذا ، فيرسل إليك بعنقود من الجنة (4) لعله أن يشفيك به. فجاءه الرسول وأبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو بكر : إن الله حرمهما على الكافرين (5)
ثم وصف تعالى الكافرين بما كانوا يعتمدونه في الدنيا من اتخاذهم الدين لهوا ولعبا ، واغترارهم بالدنيا وزينتها وزخرفها عما أمروا به من العمل للدار الآخرة.
قوله (6) { فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا } أي : نعاملهم معاملة من نَسيهم ؛ لأنه تعالى لا يشذ عن (7) علمه شيء ولا ينساه ، كما قال تعالى : { فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى } [ طه : 52 ]
وإنما قال تعالى هذا من باب المقابلة ، كما قال : { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [التوبة : 67 ] وقال : { كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } [ طه : 126 ] وقال تعالى : { وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا } [ الجاثية : 34 ]
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس في [قوله] (8) { فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا } قال : نسيهم الله من الخير ، ولم ينسهم من الشر.
__________
(1) في د : "فأفض".
(2) زيادة من أ.
(3) ورواه البيهقي في شعب الإيمان برقم (3380) والذهبي في ميزان الاعتدال (4/224) من طريق موسى بن المغيرة به.
وقال الذهبي : "موسى بن المغيرة مجهول ، وشيخه أبو موسى الصفار لا يعرف".
(4) في د ، ك ، م ، أ : "جنته".
(5) ورواه ابن أبي شيبة كما في الدر المنثور للسيوطي (3/469).
(6) في م : "وقوله".
(7) في أ : "من".
(8) زيادة من أ.

(3/424)


وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : نتركهم ، كما تركوا لقاء يومهم هذا. وقال مجاهد : نتركهم في النار. وقال السُّدِّي : نتركهم من الرحمة ، كما تركوا أن يعملوا للقاء يومهم هذا.
وفي الصحيح أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة : "ألم أزوجك ؟ ألم أكرمك ؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل ، وأذَرْك ترأس وتَرْبَع ؟ فيقول : بلى. فيقول : أظننت أنك ملاقي ؟ فيقول : لا. فيقول الله : فاليوم أنساك كما نسيتني" (1)
__________
(1) ورواه ابن أبي شيبة كما في الدر المنثور للسيوطي (3/469).

(3/425)


وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)

{ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53) }
يقول تعالى مخبرًا عن إعذاره إلى المشركين بإرسال الرسول إليهم بالكتاب الذي جاء به الرسول ، وأنه كتاب مفصل مبين ، كما قال تعالى : { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ] } (1) الآية [ هود : 1 ].
وقوله : { فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ } (2) أي : على علم منا بما فصلناه به ، كما قال تعالى : { أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ } [ النساء : 166 ]
قال ابن جرير : وهذه الآية مردودة على قوله : { كِتَابٌ أُنزلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ [ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (3) ] } [ الأعراف : 2 ]{ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ [ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ ] } (4) الآية.
وهذا الذي قاله فيه نظر ، فإنه قد طال الفصل ، ولا دليل على ذلك ، وإنما لما أخبر عما صاروا إليه من الخسار في الدار الآخرة ، ذكر أنه قد أزاح عللهم في الدار الدنيا ، بإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، كقوله : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } [ الإسراء : 15 ] ؛ ولهذا قال : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ } أي : ما وُعِدَ من العذاب والنكال والجنة والنار. قاله مجاهد وغير واحد.
وقال مالك : ثوابه. وقال الربيع : لا يزال يجيء تأويله أمر ، حتى يتم يوم الحساب ، حتى يدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، فيتم تأويله يومئذ.
{ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } أي : يوم القيامة ، قاله ابن عباس - { يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ } أي : تركوا العمل به ، وتناسوه في الدار الدنيا : { قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا } أي : في
__________
(1) زيادة من ك ، م.
(2) في ك : "علم للعالمين" وهو خطأ.
(3) زيادة من ك ، م ، وفي هـ "الآية".
(4) زيادة من ك ، م.

(3/425)


إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)

خلاصنا مما نحن فيه ، { أَوْ نُرَدُّ } إلى الدار الدنيا { فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ } كما قال تعالى : { وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ الأنعام : 27 ، 28 ] كما قال هاهنا : { قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } أي : [قد] (1) خسروا أنفسهم بدخولهم النار وخلودهم فيه ، { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } أي : ذهب عنهم ما كانوا يعبدونهم من دون الله فلا ينصرونهم ، ولا يشفعون لهم (2) ولا ينقذونهم مما هم فيه.
{ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) }
يخبر تعالى بأنه خلق هذا العالم : سماواته وأرضه ، وما بين ذلك في ستة أيام ، كما أخبر بذلك في غير ما آية من القرآن ، والستة الأيام هي : الأحد ، والاثنين ، والثلاثاء ، والأربعاء ، والخميس ، والجمعة - وفيه اجتمع الخلق كله ، وفيه خلق آدم ، عليه السلام. واختلفوا في هذه الأيام : هل كل يوم منها كهذه الأيام كما هو المتبادر إلى الأذهان (3) ؟ أو كل يوم كألف سنة ، كما نص على ذلك مجاهد ، والإمام أحمد بن حنبل ، ويروى ذلك من رواية الضحاك عن ابن عباس ؟ فأما يوم السبت فلم يقع فيه خلق ؛ لأنه اليوم السابع ، ومنه سمي السبت ، وهو القطع.
فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده حيث قال : حدثنا حجاج ، حدثنا ابن جُرَيْج ، أخبرني إسماعيل بن أُمَيَّة ، عن أيوب بن خالد ، عن عبد الله بن رافع - مولى أم سلمة - عن أبي هريرة قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال : "خلق الله التربة يوم السبت ، وخلق الجبال فيها يوم الأحد ، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق النور يوم الأربعاء ، وبث فيها الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق ، في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل".
فقد رواه مسلم بن الحجاج في صحيحه والنسائي من غير وجه ، عن حجاج - وهو ابن محمد الأعور - عن ابن جريج به (4) وفيه استيعاب الأيام السبعة ، والله تعالى قد قال في ستة أيام ؛ ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث ، وجعلوه من رواية أبي هريرة ، عن كعب الأحبار ، ليس مرفوعا ، والله أعلم.
وأما قوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جدا ، ليس هذا موضع بسطها ، وإنما يُسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح : مالك ، والأوزاعي ، والثوري ،
__________
(1) زيادة من م.
(2) في ك ، م : "فيهم".
(3) في م : "الفهم".
(4) المسند (1/327) وصحيح مسلم برقم (2789) وسنن النسائي الكبرى برقم (11010).

(3/426)


ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)

والليث بن سعد ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه وغيرهم ، من أئمة المسلمين قديما وحديثا ، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل. والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله ، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه ، و { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [ الشورى : 11 ] بل الأمر كما قال الأئمة - منهم نُعَيْم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري - : "من شبه الله بخلقه فقد كفر ، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر". وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه ، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة ، على الوجه الذي يليق بجلال الله تعالى ، ونفى عن الله تعالى النقائص ، فقد سلك سبيل الهدى.
وقوله تعالى : { يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا } أي : يذهب ظلام هذا بضياء هذا ، وضياء هذا بظلام هذا ، وكل منهما يطلب الآخر طلبًا حثيثًا ، أي : سريعًا لا يتأخر عنه ، بل إذا ذهب هذا جاء هذا ، وإذا جاء هذا ذهب هذا ، كما قال تعالى : { وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 37 - 40] فقوله : { وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ } أي : لا يفوته بوقت يتأخر عنه ، بل هو في أثره لا واسطة بينهما ؛ ولهذا قال : { يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } - منهم من نصب ، ومنهم من رفع ، وكلاهما قريب المعنى ، أي : الجميع تحت قهره وتسخيره ومشيئته ؛ ولهذا قال منَبِّها : { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ } ؟ أي : له الملك والتصرف ، { تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } كما قال [تعالى] (1) { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا [ وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا ] } (2) [ الفرقان : 61 ].
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا هشام أبو عبد الرحمن ، حدثنا بَقِيِّة بن الوليد ، حدثنا عبد الغفار بن عبد العزيز الأنصاري ، عن عبد العزيز الشامي ، عن أبيه - وكانت له صحبة - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح ، وحمد نفسه ، فقد كفر وحبط عمله. ومن زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئا ، فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه ؛ لقوله : { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } (3)
وفي الدعاء المأثور ، عن أبي الدرداء - وروي مرفوعا - : "اللهم لك الملك كله ، ولك الحمد كله ، وإليك يرجع الأمر كله ، أسألك من الخير كله ، وأعوذ بك من الشر كله" (4)
{ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) }
أرشد [سبحانه و] (5) تعالى عباده إلى دعائه ، الذي هو صلاحهم في دنياهم وأخراهم ، فقال تعالى :
__________
(1) زيادة من ك.
(2) زيادة من م ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(3) تفسير الطبري (12/484).
(4) سبق الكلام على هذا الأثر ، وذكر وجوه رفعه عند الآية : 2 من سورة الفاتحة.
(5) زيادة من أ.

(3/427)


{ ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } [قيل] (1) معناه : تذللا واستكانة ، و { خُفْيَة } كما قال : { وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ [ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (2) ] } [ الأعراف : 205 ] وفي الصحيحين ، عن أبي موسى الأشعري [رضي الله عنه] (3) قال : رفع الناس أصواتهم بالدعاء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أيها الناس ، ارْبَعُوا على أنفسكم ؛ فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا ، إن الذي تدعونه سميع قريب (4) (5) الحديث.
وقال ابن جُرَيْج ، عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس في قوله : { تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً } قال : السر.
وقال ابن جرير : { تَضَرُّعًا } تذللا واستكانة لطاعته. { وَخُفْيَة } يقول : بخشوع قلوبكم ، وصحة اليقين بوحدانيته وربوبيته فيما بينكم وبينه ، لا جهارا ومراءاة.
وقال عبد الله بن المبارك ، عن المبارك بن فضالة ، عن الحسن قال : إنْ كانَ الرجل لقد جمع القرآن ، وما يشعر به الناس. وإن كان الرجل لقد فقُه (6) الفقه الكثير ، وما يشعر به الناس. وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزُّوَّر وما يشعرون به. ولقد أدركنا أقوامًا ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر ، فيكون علانية أبدا. ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء ، وما يُسمع لهم صوت ، إن كان إلا همسا بينهم وبين ربهم ، وذلك أن الله تعالى يقول : { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ] } (7) وذلك أن الله ذكر عبدًا صالحا رَضِي فعله فقال : { إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا } [ مريم : 3 ]
وقال ابن جُرَيْج : يكره رفع الصوت والنداء والصياحُ في الدعاء ، ويؤمر بالتضرع والاستكانة ، ثم روي عن عطاء الخراساني ، عن ابن عباس في قوله : { إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } في الدعاء ولا في غيره.
وقال أبو مِجْلِز : { إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } لا يسأل (8) منازل الأنبياء.
وقال الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله : حدثنا عبد الرحمن بن مَهْدِي ، حدثنا شعبة ، عن زياد ابن مِخْراق ، سمعت أبا نعامة (9) عن مولى لسعد ؛ أن سعدًا سمع ابنا له يدعو وهو يقول : اللهم ، إني أسألك الجنة ونعيمها وإستبرقها ونحوا من هذا ، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها. فقال : لقد سألت الله خيرًا كثيرًا ، وتعوذت بالله من شر كثير ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء". وقرأ هذه الآية : { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ] } (10)
__________
(1) زيادة من ك ، م ، د ، أ.
(2) زيادة من ك ، م ، أ. وفي هـ : "الآية".
(3) زيادة من أ.
(4) في م ، ك ، : "سميعا قريبا" ، وفي د : "قريبا سميعا".
(5) صحيح البخاري برقم (4205) ، وصحيح مسلم برقم (2704)
(6) في أ : "لفقه".
(7) زيادة من ك.
(8) في د : "تسأل".
(9) في م ، ك ، أ : "أبا عباية".
(10) زيادة من ك ، م ، أ. وفي هـ : "الآية".

(3/428)


وإن بحسبك أن تقول : "اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل ، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل" (1)
ورواه أبو داود ، من حديث شعبة ، عن زياد بن مخراق ، عن أبي نَعَامة ، عن ابن لسعد ، عن سعد ، فذكره (2) والله أعلم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفَّان ، حدثنا حَمَّاد بن سلمة ، أخبرنا الجريري ، عن أبي نَعَامة : أن عبد الله بن مغفل (3) سمع ابنه يقول : اللهم ، إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها. فقال : يا بني ، سل الله الجنة ، وعذ به من النار ؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "يكون قوم يعتدون في الدعاء والطَّهُور".
وهكذا رواه ابن ماجه ، عن أبي بكر بن أبي شيبة ، عن عفان به. وأخرجه أبو داود ، عن موسى ابن إسماعيل ، عن حماد بن سلمة ، عن سعيد بن إياس الجريري ، عن أبي نَعَامة (4) - واسمه : قيس ابن عباية الحنفي البصري - وهو إسناد حسن لا بأس به ، والله أعلم.
وقوله تعالى : { وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا } ينهى تعالى عن الإفساد في الأرض ، وما أضره بعد الإصلاح! فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد ، ثم وقع الإفساد بعد ذلك ، كان أضر ما يكون على العباد. فنهى [الله] (5) تعالى عن ذلك ، وأمر بعبادته ودعائه والتضرع إليه والتذلل لديه ، فقال : { وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا } أي : خوفا مما عنده من وبيل العقاب ، وطمعًا فيما عنده من جزيل الثواب.
ثم قال : { إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } أي : إن رحمته مُرْصَدة للمحسنين ، الذين يتبعون أوامره ويتركون زواجره ، كما قال تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ. [ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ ] } (6) [الأعراف : 156 ، 157].
وقال : { قَرِيبٌ } ولم يقل : "قريبة" ؛ لأنه ضمن الرحمة معنى الثواب ، أو لأنها مضافة إلى الله ، فلهذا قال : قريب من المحسنين.
وقال مطر الوراق : تَنَجَّزوا موعود (7) الله بطاعته ، فإنه قضى أن رحمته قريب من المحسنين ، رواه ابن أبي حاتم.
__________
(1) المسند (1/172).
(2) سنن أبي داود برقم (1480).
(3) في أ : "معقل".
(4) المسند (5/55) ، وسنن ابن ماجة برقم (3864) ، وسنن أبي داود برقم (96).
(5) زيادة من أ.
(6) زيادة من ك ، م ، أ.
(7) في أ : "فتنجزوا بوعد".

(3/429)


وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)

{ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنزلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) }

(3/430)


وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)

{ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) }
لما ذكر تعالى أنه خالق (1) السموات والأرض ، وأنه المتصرف الحاكم المدبِّر المسخِّر ، وأرشد إلى دعائه ؛ لأنه على ما يشاء قادر - نبه تعالى على أنه الرزّاق ، وأنه يعيد الموتى يوم القيامة فقال : " وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ نشْرًا " أي : ناشرة بين يدي السحاب الحامل للمطر ، ومنهم من قرأ { بُشْرًا } كقوله { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ } [ الروم : 46 ]
وقوله : { بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } أي : بين يدي المطر ، كما قال : { وَهُوَ الَّذِي يُنزلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ } [ الشورى : 28 ] وقال { فَانْظُرْ إِلَى أَثَر رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الروم : 50 ] (2)
وقوله : { حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالا } أي : حملت الرياح سحابًا ثقالا أي : من كثرة ما فيها من الماء ، تكون ثقيلة قريبة من الأرض مدلهمة ، كما قال زيد بن عمرو بن نفيل ، رحمه الله.
وأسلمتُ وجْهِي لمنْ أسْلَمَتْ... لَهُ المُزْنُ تَحْمل عَذْبا زُلالا...
وأسلَمْتُ وَجْهي لمن أسلَمَتْ... له الأرض تحملُ صَخرًا ثقالا (3)
وقوله : { سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ } أي : إلى أرض ميتة ، مجدبة (4) لا نبات فيها ، كما قال تعالى : { وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا [ وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (5) ] } [ يس : 33 ] ؛ ولهذا قال : { فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى } أي : كما أحيينا هذه الأرض بعد موتها ، كذلك نحيي الأجساد بعد صيرورتها رَمِيمًا يوم القيامة ، ينزل الله ، سبحانه وتعالى ، ماء من السماء ، فتمطر الأرض أربعين يوما ، فتنبت منه الأجساد في قبورها كما ينبت الحب في الأرض. وهذا المعنى كثير في القرآن ، يضرب الله مثلا للقيامة بإحياء الأرض بعد موتها ؛ ولهذا قال : { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }
وقوله : { وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ } أي : والأرض الطيبة يخرج نباتها سريعًا حسنا ، كما قال : { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } [ آل عمران : 37 ]
{ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلا نَكِدًا } قال مجاهد وغيره : كالسباخ ونحوها.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في الآية : هذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر.
__________
(1) في أ : "خلق".
(2) في أ : "آثار".
(3) البيتين في السيرة النبوية لابن هشام (1/231).
(4) في أ : "ميتة أي مجدبة".
(5) زيادة من ك ، م ، أ ، وفي هـ : "الآية".

(3/430)


لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)

وقال البخاري : حدثنا محمد بن العلاء ، حدثنا حماد بن أسامة (1) عن بُرَيد (2) بن عبد الله ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم ، كمثل الغيث الكثير أصاب أرضًا ، فكانت منها نقية قبلت الماء ، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير. وكانت منها أجادب أمسكت الماء ، فنفع الله بها الناس ، فشربوا وسقوا وزرعوا. وأصاب منها طائفة أخرى ، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت (3) فذلك مثل من فَقُه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به ، فَعَلم وَعَلَّم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا. ولم يَقْبَل هُدَى الله الذي أُرْسِلْتُ به".
رواه مسلم والنسائي من طرق ، عن أبي أسامة حماد بن أسامة ، به (4)
{ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (62) }
لما ذكر تعالى قصة آدم في أول السورة ، وما يتعلق بذلك وما يتصل به ، وفرغ منه ، شرع تعالى في ذكر قصص الأنبياء ، عليهم السلام ، الأول فالأولَ ، فابتدأ بذكر نوح ، عليه السلام ، فإنه أول رسول إلى أهل الأرض بعد آدم ، عليه السلام ، وهو : نوح بن لامك بن متوشلح بن خَنُوخ - وهو إدريس [النبي] (5) عليه السلام - فيما ، يزعمون ، وهو أول من خط بالقلم - ابن برد بن مهليل بن قنين بن يانش بن شيث بن آدم ، عليه (6) السلام.
هكذا نسبه [محمد] (7) بن إسحاق وغير واحد من أئمة النسب ، قال محمد بن إسحاق : ولم يلق نبي من قومه من الأذى مثل نوح إلا نبي قتل.
وقال يزيد الرقاشي : إنما سمّي نوحًا لكثرة ما ناح على نفسه.
وقد كان بين آدم إلى زمن نوح ، عليهما السلام ، عشرة قرون ، كلهم على الإسلام [قاله عبد الله ابن عباس] (8)
قال عبد الله بن عباس وغير واحد من علماء التفسير : وكان أول ما عبدت الأصنام ، أن قومًا صالحين ماتوا ، فبنى قومهم عليهم مساجدَ وصوروا صور أولئك فيها ، ليتذكروا حالهم وعبادتهم ، فيتشبهوا بهم. فلما طال الزمان ، جعلوا تلك الصور أجسادًا على تلك الصور. فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام وسموها بأسماء أولئك الصالحين "ودًا وسواعًا ويَغُوث وَيَعُوق ونسرًا". فلما تفاقم الأمر بعث الله ، سبحانه وتعالى - وله الحمد والمنة - رسوله نوحا يأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك
__________
(1) في أ : "ابن أبي أسامة" وهو خطأ.
(2) في أ : "يزيد".
(3) في ك ، د ، م ، أ : "ولا تنبت كلأ".
(4) صحيح البخاري برقم (79) ، وصحيح مسلم برقم (2282) ، وسنن النسائي الكبرى برقم (5843).
(5) زيادة من أ.
(6) في أ : "عليهم".
(7) زيادة من ك ، م ، أ.
(8) زيادة من م ، أ.

(3/431)


أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)

له ، فقال : { يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي : من عذاب يوم القيامة إنْ (1) لقيتم الله وأنتم مشركون به { قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِهِ } أي : الجمهور والسادة والقادة والكبراء منهم : { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ } أي : في دعوتك إيانا إلى ترك عبادة هذه الأصنام التي وجدنا عليها آباءنا. وهكذا حال الفجار إنما يرون الأبرار في ضلالة ، كما قال تعالى : { وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ } [ المطففين : 32 ] ، { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ } [ الأحقاف : 11 ] إلى غير ذلك من الآيات.
{ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : ما أنا ضال ، ولكن أنا رسول (2) من رب كل شيء ومليكه ، { أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ } وهذا شأن الرسول ، أن يكون بليغا فصيحا ناصحا بالله ، لا يدركهم أحد من خلق الله في هذه الصفات ، كما جاء في صحيح مسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم عرفة ، وهم أوفر ما كانوا وأكثر جمعا : "أيها الناس ، إنكم مسئولون عني ، فما أنتم قائلون ؟" قالوا : نشهد أنك بلغت وأديت ونصحت ، فجعل يرفع إصبعه إلى السماء وينكتُها عليهم ويقول : "اللهم اشهد ، اللهم اشهد (3) (4)
{ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) }
يقول تعالى إخبارًا عن نوح [عليه السلام] (5) أنه قال لقومه : { أَوَعَجِبْتُمْ [ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ] } (6) أي لا تعجبوا من هذا ، فإن هذا ليس يعجَب أن يوحي الله إلى رجل منكم ، رحمة بكم ولطفا وإحسانا إليكم ، لإنذركم ولتتقوا نقمة الله ولا تشركوا به ، { وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }
قال الله تعالى : { فَكَذَّبُوهُ } أي : فتمادوا (7) على تكذيبه ومخالفته ، وما آمن معه منهم إلا قليل ، كما نص عليه في موضع آخر ، { فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ } وهي السفينة ، كما قال : { فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ } [ العنكبوت : 15 ]{ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا } كما قال : { مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا } [ نوح : 25 ]
وقوله : { إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ } أي : عن الحق ، لا يبصرونه ولا يهتدون له.
فبين تعالى في هذه القصة أنه انتقم لأوليائه من أعدائه ، وأنجى رسوله والمؤمنين ، وأهلك أعداءهم
__________
(1) في د : "إذا".
(2) في أ : "ولكني رسول".
(3) جاءت "اللهم اشهد" في "أ" ثلاث مرات.
(4) صحيح مسلم برقم (1218) من حديث جابر ، رضي الله عنه.
(5) زيادة من أ.
(6) زيادة من ك ، م ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(7) في د : "تمادوا".

(3/432)


وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67)

من الكافرين ، كما قال تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا [ وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ ] وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (1) } [ غافر : 51 ، 52 ]
وهذه سنة الله في عباده في الدنيا والآخرة ، أن العاقبة (2) للمتقين والظفر والغلب لهم ، كما أهلك قوم نوح [عليه االسلام] (3) بالغرق ونجى نوحا وأصحابه المؤمنين.
قال مالك ، عن زيد بن أسلم : كان قوم نوح قد ضاق بهم السهل والجبل.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ما عذب الله قوم نوح [عليه السلام] (4) إلا والأرض ملأى بهم ، وليس بقعة من الأرض إلا ولها مالك وحائز.
وقال ابن وَهْب : بلغني عن ابن عباس : أنه نجا مع نوح [عليه السلام] (5) في السفينة ثمانون رجلا أحدهم "جُرْهم" ، وكان لسانه عربيا.
رواهن (6) ابن أبي حاتم. وقد روي هذا الأثر الأخير من وجه آخر متصلا عن ابن عباس ، رضي الله عنهما.
{ وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) }
__________
(1) زيادة من ك ، م ، أ ، وفي هـ : الآية إلى قوله".
(2) في أ : "أن العاقبة فيها.
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من أ.
(6) في م ، د ، أ : "رواه".

(3/433)


أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)

{ أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) }
يقول تعالى : وكما أرسلنا إلى قوم نوح نوحًا ، كذلك أرسلنا إلى عاد أخاهم هودًا.
قال محمد بن إسحاق : هم [من] (1) ولد عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح.
قلت : وهؤلاء هم عاد الأولى ، الذين ذكرهم الله [تعالى] (2) وهم أولاد عاد بن إرم الذين كانوا يأوون إلى العَمَد في البر ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ } [ الفجر : 6 - 8 ] وذلك لشدة بأسهم وقوتهم ، كما قال تعالى : { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } [ فصلت : 15 ].
وقد كانت مساكنهم باليمن بالأحقاف ، وهي جبال الرمل.
__________
(1) زيادة من م.
(2) زيادة من أ.

(3/433)


قال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن عبد الله بن أبي سعيد الخزاعي ، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة ، سمعت علي بن أبي طالب [رضي الله عنه] (1) يقول لرجل من حضرموت : هل رأيت كثيبا أحمر تخالطه مَدَرَة حمراء ذا أرَاكٍ وسدْر كثير بناحية كذا وكذا من أرض حضرموت ، هل رأيته ؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين. والله إنك لتنعته نعتَ رجل قد رآه. قال : لا ولكني قد حدِّثتُ عنه. فقال الحضرمي : وما شأنه يا أمير المؤمنين ؟ قال : فيه قبرُ هود ، عليه السلام.
رواه ابن جرير (2) وهذا فيه فائدة أن مساكنهم كانت باليمن ، وأن هودا ، عليه السلام ، دفن هناك ، وقد كان من أشرف (3) قومه نسبا ؛ لأن الرسل [صلوات الله عليهم] (4) إنما يبعثهم الله من أفضل القبائل وأشرفهم ، ولكن كان قومه كما شُدّد خلقهم شُدِّد على قلوبهم ، وكانوا من أشد الأمم تكذيبا للحق ؛ ولهذا دعاهم هود ، عليه السلام ، إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وإلى طاعته وتقواه.
{ قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ } - والملأ هم : الجمهور والسادة والقادة منهم - : { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ } أي : في ضلالة حيث دعوتنا إلى ترك عبادة الأصنام ، والإقبال إلى عبادة الله وحده [لا شريك له] (5) كما تعجب الملأ من قريش من الدعوة إلى إله واحد { فقالوا } { أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا [إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (6) ] } [ صّ : 5 ].
{ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : ليست كما تزعمون ، بل جئتكم بالحق من الله الذي خلق كل شيء ، فهو رب كل شيء ومليكه { أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ } وهذه الصفات التي يتصف بها الرسل البلاغة والنصح والأمانة.
{ أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ } أي : لا تعجبوا أن بعث الله إليكم رسولا من أنفسكم لينذركم أيام الله ولقاءه ، بل احمدوا الله على ذاكم ، { وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } أي : واذكروا نعمة الله عليكم إذ جعلكم من ذرية نوح ، الذي أهلك الله أهل الأرض بدعوته ، لما خالفوه وكذبوه ، { وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً } أي : زاد طولكم على الناس بسطة ، أي : جعلكم أطول من أبناء جنسكم ، كما قال تعالى : في قصة طالوت : { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ } [ البقرة : 247 ]{ فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ } أي : نعمه ومنَنه عليكم { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [وألاء جمع ألى وقيل : إلى] (7)
__________
(1) زيادة من أ.
(2) تفسير الطبري (12/507).
(3) في م ، ك : "أشراف".
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من ك.
(6) زيادة من ك ، م. وفي هـ : "الآية"
(7) زيادة من ك ، م.

(3/434)


قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)

{ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72) }
يقول تعالى مخبرا عن تمردهم وطغيانهم وعنادهم وإنكارهم على هود ، عليه السلام : { قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ [ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ] } (1) كما قال الكفار من قريش : { وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ]
وقد ذكر محمد بن إسحاق وغيره : أنهم كانوا يعبدون أصناما ، فصنم يقال له : صُدَاء ، وآخر يقال له : صمُود ، وآخر يقال له : الهباء (2)
ولهذا قال هود ، عليه السلام : { قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ } أي : قد وجب عليكم بمقالتكم هذه من ربكم رجس [وغضب] (3) قيل : هو مقلوب من رجز. وعن ابن عباس : معناه السخَط والغضب.
{ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ } أي : أتحاجوني (4) في هذه الأصنام التي سميتموها أنتم وآباؤكم آلهة ، وهي لا تضر ولا تنفع ، ولا جعل الله لكم على عبادتها حجة ولا دليلا ؛ ولهذا قال : { مَا نزلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ }
وهذا تهديد ووعيد من الرسول لقومه ؛ ولهذا عقب بقوله : { فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ }
وقد ذكر الله ، سبحانه ، صفة إهلاكهم في أماكن أخر من القرآن ، بأنه أرسل عليهم الريح العقيم ، ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ، كما قال في الآية الأخرى : { وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ } [الحاقة : 6 - 8] لما تمردوا وعتوا أهلكهم الله بريح عاتية ، فكانت تحمل الرجل منهم فترفعه في الهواء ثم تنكسه على أمّ رأسه فتثلغُ رأسه حتى تُبينه من بين جثته ؛ ولهذا قال : { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ }
وقال محمد بن إسحاق : كانوا يسكنون باليمن من (5) عمان وحضرموت ، وكانوا مع ذلك قد
__________
(1) زيادة من ك ، م ، وفي هـ : الآية".
(2) انظر : تفسير الطبري (12/507).
(3) زيادة من م.
(4) في م ، د : "أتجادلونني".
(5) في م ، ك : "بين".

(3/435)


فشوا في الأرض وقهروا أهلها ، بفضل قوتهم التي آتاهم الله ، وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون الله ، فبعث الله إليهم هودًا ، عليه السلام ، وهو من أوسطهم نسبا ، وأفضلهم موضعًا ، فأمرهم أن يوحدوا الله ولا يجعلوا معه إلها غيره ، وأن يكفوا عن ظلم الناس ، فأبوا عليه وكذبوه ، وقالوا : من أشد منا قوة ؟ واتبعه منهم ناس ، وهم يسير مكتتمون بإيمانهم ، فلما عتت عاد على الله وكذبوا نبيه ، وأكثروا في الأرض الفساد وتجبروا ، وبنوا بكل ريع آية عبثا بغير نفع ، كلمهم هود فقال : { أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ * وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } [الشعراء : 128 - 131]{ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ } أي : بجنون { قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [هود : 53 - 56]
قال محمد بن إسحاق : فلما أبوا إلا الكفر به ، أمسك الله عنهم القطر (1) ثلاث سنين ، فيما يزعمون ، حتى جهدهم ذلك ، قال : وكان الناس إذا جهدهم أمر في ذلك الزمان ، فطلبوا من الله الفرج فيه ، إنما يطلبونه بحُرْمة ومكان بيته ، وكان معروفا عند المِلَل (2) وبه العماليق مقيمون ، وهم من سلالة عمليق بن لاوَذَ بن سام بن نوح ، وكان سيدهم إذ ذاك رجلا يقال له : "معاوية بن بكر" ، وكانت له أم (3) من قوم عاد ، واسمها كلهدة (4) ابنة الخيبري ، قال : فبعثت عاد وفدًا قريبا من سبعين رجلا إلى الحرم ، ليستسقوا لهم عند الحرم ، فمروا بمعاوية بن بكر بظاهر مكة فنزلوا عليه ، فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان - قينتان لمعاوية - وكانوا قد وصلوا إليه في شهر ، فلما طال مقامهم عنده وأخذته شفقة على قومه ، واستحيا منهم أن يأمرهم بالانصراف ، عمل شعرا يعرض لهم بالانصراف ، وأمر القينتين أن تغنياهم به ، فقال :
ألا يا قيل ويحك قُْم فَهَيْنم... لعلّ الله يُصْبحُنَا غَمَاما...
فَيَسْقي أرضَ عادٍ إنّ عادًا... قَد امْسَوا لا يُبِينُونَ الكَلاما...
من العطش الشديد فليس نَرجُو... به الشيخَ الكبيرَ ولا الغُلاما...
وَقَْد كانَت نساؤهُم بخيرٍ... فقد أمست (5) نِسَاؤهم عَيَامى
وإنّ الوحشَ تأتيهمْ جِهارا... ولا تَخْشَى لعاديَ سِهَاما...
وأنتم هاهُنَا فيما اشتَهَيْتُمْ... نهارَكُمُ وَلَيْلَكُمُ التماما...
فقُبّحَ وَفُْدكم من وَفْدِ قَوْمٍ... ولا لُقُّوا التحيَّةَ والسَّلاما...
__________
(1) في م : "القطر عنهم".
(2) في ك ، م : " عند أهل ذلك الزمان"
(3) في م : "وكانت أمه".
(4) في ك ، م : "جلهدة".
(5) في أ : "فأصبحت".

(3/436)


قال : فعند ذلك تنبه القوم لما جاءوا له ، فنهضوا إلى الحرم ، ودعوا لقومهم فدعا داعيهم ، وهو : "قيل بن عنز" فأنشأ الله سحابات ثلاثا : بيضاء ، وسوداء ، وحمراء ، ثم ناداه مناد من السماء : "اختر لنفسك - أو : - لقومك من هذا السحاب" ، فقال : "اخترت هذه السحابة السوداء ، فإنها أكثر السحاب ماء" فناداه مناد : اخترت رَمادا رِمْدَدًا ، لا تبقي من عاد أحدا ، لا والدًا تترك ولا ولدا ، إلا جعلته هَمدا ، إلا بني اللّوذيّة المهندًا (1) قال : وبنو اللوذية : بطن من عاد مقيمون (2) بمكة ، فلم يصبهم ما أصاب قومهم - قال : وهم من بقي من أنسالهم (3) وذراريهم (4) عاد الآخرة - قال : وساق الله السحابة السوداء ، فيما يذكرون ، التي اختارها "قيل بن عنز" بما فيها من النقمة إلى عاد ، حتى تخرج عليهم من واد يقال له : "المغيث" ، فلما رأوها استبشروا ، وقالوا : { هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا } يقول : { بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } [الأحقاف : 24 ، 25] أي : تهلك كل شيء مَرّت (5) به ، فكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح ، فيما يذكرون ، امرأة من عاد يقال لها : مَهْدد (6) فلما تبينت ما فيها صاحت ، ثم صُعِقت. فلما أفاقت قالوا : ما رأيت يا مَهْدد (7) ؟ قالت (8) ريحا فيها شُهُب النار ، أمامها رجال يقودونها. فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما ، كما قال الله. و "الحسوم" : الدائمة - فلم تدع من عاد أحدًا إلا هلك واعتزل هُود ، عليه السلام ، فيما ذكر لي ، ومن معه من المؤمنين في حظيرة ، ما يصيبه ومن معه إلا ما تلين عليه الجلود ، وتلْتذ الأنفس ، وإنها لتمر على عاد بالطعن ما بين السماء والأرض ، وتدمغهم بالحجارة.
وذكر تمام القصة بطولها ، وهو سياق غريب (9) فيه فوائد كثيرة ، وقد قال الله تعالى : { وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [هود : 58]
وقد ورد في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده قريب مما أورده محمد بن إسحاق بن يسار ، رحمه الله.
قال الإمام أحمد : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثني أبو المنذر سلام بن سليمان النحوي ، حدثنا عاصم بن أبي النَّجُود ، عن أبي وائل ، عن الحارث البكري قال : خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمررت بالربذة فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها ، فقالت لي : يا عبد الله ، إن لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة ، فهل أنت مبلغي إليه ؟ قال : فحملتها فأتيت المدينة ، فإذا المسجد غاص بأهله ، وإذا راية سوداء تخفق ، وإذا بلال متقلد بسيف (10) بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : ما شأن الناس ؟ فقالوا : يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجها. قال : فجلست ، فدخل منزله - أو قال : رحله فاستأذنت عليه ، فأذن لي ، فدخلت فسلمت ، قال : هل بينكم وبين تميم (11) شيء ؟ قلت : نعم ، وكانت لنا الدّبَرة عليهم ، ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها ، فسألتني أن أحملها إليك ،
__________
(1) في م : "المهدي".
(2) في ك ، م ، أ : "مقيمين".
(3) في أ : "أنسابهم".
(4) في ك ، م : "ذرياتهم".
(5) في ك ، م : "أمرت".
(6) في ك ، م ، أ : "مهد".
(7) في ك ، م ، أ : "مهد".
(8) في ك ، م : "فقالت".
(9) تفسير الطبري (12/507).
(10) في أ : "السيف".
(11) في أ : "وبين بني تميم".

(3/437)


وها هي بالباب. فأذن لها ، فدخلت ، فقلت : يا رسول الله ، إن رأيت (1) أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزًا ، فاجعل الدهناء. فحميت العجوز واستوفزت ، فقالت : يا رسول الله ، فإلى أين يضطر مُضطَرُك (2) ؟ قال : قلت : إن مثلي مثل ما قال الأول : "معْزَى حَمَلت حتفها" ، حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصما ، أعوذ بالله وبرسوله (3) أن أكون كوافد عاد! قال : هيه ، وما وافد عاد ؟ - وهو أعلم بالحديث منه ، ولكن يستطعمه - قلت : إن عادا قُحطوا فبعثوا وافدًا لهم يقال له : "قيل" ، فمر بمعاوية بن بكر ، فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان ، يقال لهما : "الجرادتان" ، فلما مضى (4) الشهر خرج إلى جبال مَهْرة ، فقال : اللهم إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه ، ولا إلى أسير فأفاديه. اللهم اسق عادًا ما كنت تسقيه ، فمرت به سحابات سُودُ ، فنودي : منها "اختر". فأومأ إلى سحابة منها سوداء ، فنودي منها : "خذها رمادا رِمْدِدا ، لا تبقي من عاد أحدا". قال : فما بلغني أنه بُعث عليهم من الريح إلا قدر (5) ما يجري في خاتمي هذا ، حتى ، هلكوا - قال أبو وائل : وصدق - قال : وكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافدًا لهم قالوا : "لا تكن كوافد عاد".
هكذا رواه الإمام أحمد في المسند ، ورواه الترمذي ، عن عبد بن حميد ، عن زيد بن الحباب ، به (6) نحوه : ورواه النسائي من حديث سلام بن أبي المنذر. عن عاصم - وهو ابن بَهْدَلة - ومن طريقه رواه ابن ماجه أيضا ، عن أبي وائل ، عن الحارث بن حسان البكري ، به. ورواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب عن زيد بن حُبَاب ، به. ووقع عنده : "عن الحارث بن يزيد البكري" فذكره ، ورواه أيضا عن أبي كريب ، عن أبي بكر بن عياش ، عن عاصم ، عن الحارث بن يزيد البكري ، فذكره (7) ولم أر في النسخة "أبا وائل" ، والله أعلم.
__________
(1) في أ : "أرأيت".
(2) في أ : "مطهرك".
(3) في ك ، م : "ورسوله".
(4) في د : "قضى".
(5) في ك ، م : "كقدر".
(6) المسند (3/482) ، وسنن الترمذي برقم (3274).
(7) سنن النسائي الكبرى كما في تحفة الأشراف وسنن ابن ماجة برقم (3816) وتفسير الطبري (12/513 ، 516).

(3/438)


وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)

{ وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) }

(3/439)


وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)

{ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) }
قال علماء التفسير والنسب : ثمود بن عاثر بن إرم بن سام بن نوح ، وهو أخو جَديس بن عاثر ، وكذلك قبيلة طَسْم ، كل هؤلاء كانوا أحياء من العرب العاربة قبل إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، وكانت ثمود بعد عاد ، ومساكنهم مشهورة فيما بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله ، وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قراهم ومساكنهم ، وهو ذاهب إلى تبوك سنة تسع.
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا صَخْر بن جُوَيرية ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس على تبوك ، نزل بهم (1) الحجر عند بيوت ثمود ، فاستسقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود ، فعجنوا منها ونصبوا منها القدور. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فأهرقوا القدور ، وعلفوا العجينَ الإبلَ ، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة ، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا وقال : "إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم ، فلا تدخلوا عليهم" (2)
وقال [الإمام] (3) أحمد أيضا : حدثنا عفان ، حدثنا عبد العزيز بن مسلم ، حدثنا عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالحجر : "لا تدخلوا على هؤلاء المعذَّبين إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تكونوا باكين ، فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثلُ ما أصابهم" (4)
وأصل هذا الحديث مُخَرَّج في الصحيحين من غير وجه (5)
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا المسعودي ، عن إسماعيل بن أوسط ، عن محمد بن أبي كَبْشَة الأنماري ، عن أبيه قال : لما كان في غزوة تبوك ، تسارع الناس إلى أهل الحجر ، يدخلون عليهم ، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فنادى في الناس : "الصلاة جامعة". قال : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ممسك بعيره (6) وهو يقول : "ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم". فناداه رجل منهم : نعجبُ منهم يا رسول الله. قال : "أفلا أنبئكم بأعجب من ذلك : رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم ، وبما هو كائن بعدكم ، فاستقيموا وسَدِّدوا ، فإن الله لا يعبأ بعذابكم شيئا ، وسيأتي قوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئا" (7)
لم يخرجه أحد من أصحاب السنن (8) وأبو كبشة اسمه : عمر (9) بن سعد ، ويقال : عامر بن سعد ، والله أعلم.
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق : حدثنا مَعْمَر ، عن عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال : "لا تسألوا الآيات ، فقد سألها قوم صالح فكانت - يعني الناقة - ترد من هذا الفَجّ ، وتَصْدُر من هذا الفج ، فعتوا عن أمر ربهم فعقروها ، وكانت تشرب ماءهم يوما ويشربون لبنها يوما ، فعقروها ، فأخذتهم صيحة ، أهمد (10) الله مَنْ تحت
__________
(1) في أ : "بهم على".
(2) المسند (2/117).
(3) زيادة من أ.
(4) المسند (2/74).
(5) صحيح البخاري برقم (3381) ، وصحيح مسلم برقم (298).
(6) في د ، م : "بعنزة".
(7) المسند (4/231) ، وقال الهيثمي في المجمع (6/194) : "فيه عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي وقد اختلط".
(8) في م : "الكتب" ، وفي ك ، أ : "الكتب الستة".
(9) في ك ، م : "عمرو".
(10) في د : "أخمد".

(3/439)


أديم السماء منهم ، إلا رجلا واحدًا كان في حرم الله". فقالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال : "أبو رِغال. فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه" (1)
وهذا الحديث ليس في شيء من الكتب الستة ، وهو على شرط مسلم.
فقوله تعالى : { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا } أي : ولقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحا ، { قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } جميع الرسل يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء : 25] وقال [تعالى] (2) { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [النحل : 36].
وقوله : { قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً } أي : قد جاءتكم حجة من الله على صدق ما جئتكم به. وكانوا هم الذين سألوا صالحا أن يأتيهم بآية ، واقترحوا عليه أن تخرج لهم من صخرة صمَاء عَيّنوها بأنفسهم ، وهي صخرة منفردة في ناحية الحِجْر ، يقال لها : الكَاتبة ، فطلبوا منه (3) أن يخرج لهم منها ناقة عُشَراء تَمْخَضُ ، فأخذ عليهم صالح العهود والمواثيق لئن أجابهم الله إلى سؤالهم وأجابهم إلى طُلْبتهم ليؤمنن به وليتبعنه ؟ فلما أعطوه على ذلك عهودهم ومواثيقهم ، قام صالح ، عليه السلام ، إلى صلاته ودعا الله ، عز وجل ، فتحركت تلك الصخرة ثم انصدعت عن ناقة جَوْفاء وَبْرَاء يتحرك جنينها بين جنبيها ، كما سألوا ، فعند ذلك آمن رئيس القوم وهو : "جُندَع بن عمرو" ومن كان معه على أمره (4) وأراد بقية أشراف ثمود أن يؤمنوا فصدهم "ذُؤاب بن عمرو بن لبيد" "والحباب" صاحب أوثانهم ، ورباب بن صمعر بن جلهس ، وكان ل"جندع بن عمرو" ابن عم يقال له : "شهاب بن خليفة بن محلاة بن لبيد بن حراس" ، وكان من أشراف ثمود وأفاضلها ، فأراد أن يسلم أيضا فنهاه أولئك الرهط ، فأطاعهم ، فقال في ذلك رجل من مؤمني ثمود ، يقال له مهوس (5) بن عنمة بن الدميل ، رحمه الله :
وكانت عُصْبةٌ من آل عَمْرو... إلى دين النبيّ دَعَوا شِهَابا...
عَزيزَ ثَمُودَ كُلَّهمُ جميعا... فَهَمّ بأن يُجِيبَ فلو (6) أجابا...
لأصبحَ صالحٌ فينا عَزيزًا... وما عَدَلوا بصاحبهم ذُؤابا...
ولكنّ الغُوَاة من آل حُجْرٍ... تَوَلَّوْا بعد رُشْدهم ذئابا...
فأقامت الناقة وفصيلها بعد ما وضعته بين أظهرهم مدة ، تشرب ماء بئرها يوما ، وتدعه لهم يوما ، وكانوا يشربون لبنها يوم (7) شربها ، يحتلبونها فيملئون ما شاءوا من أوعيتهم وأوانيهم ، كما قال في الآية الأخرى : { وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ } [القمر : 28] وقال تعالى : { هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } [الشعراء : 155] وكانت تسرح في بعض تلك الأودية
__________
(1) المسند (3/296) وقال الهيثمي في المجمع (6/194) : "رجال أحمد رجال الصحيح".
(2) زيادة من م.
(3) في م : "منها".
(4) في أ : "على دينه".
(5) في ك ، م ، أ : "مهوش".
(6) في م : "ولو".
(7) في أ : "بيوم".

(3/440)


ترد من فَجّ وتصدر من غيره ليسعها ؛ لأنها كانت تتضلَّع عن الماء ، وكانت - على ما ذكر - خَلْقًا هائلا ومنظرًا رائعًا ، إذا مرت بأنعامهم نفرت منها. فلما طال عليهم واشتد تكذيبهم لصالح النبي ، عليه السلام ، عزموا على قتلها ، ليستأثروا بالماء كل يوم ، فيقال : إنهم اتفقوا كلهم على قتلها (1)
قال قتادة : بلغني أن الذي قتل الناقة طاف عليهم كلهم ، أنهم راضون بقتلها حتى على النساء في خدورهن ، وعلى الصبيان [أيضا] (2)
قلت : وهذا هو الظاهر ؛ لأن الله تعالى يقول : { فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا } [الشمس : 14] وقال : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا } [الإسراء : 59] وقال : { فَعَقَرُوا النَّاقَةَ } فأسند ذلك على مجموع القبيلة ، فدل على رضا جميعهم بذلك ، والله أعلم.
وذكر الإمام أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله ، وغيره من علماء التفسير في سبب قتل الناقة : أن امرأة منهم يقال لها : "عنيزة ابنة غنم بن مِجْلِز" وتكنى أم غَنَمْ (3) كانت عجوزا كافرة ، وكانت من أشد الناس عداوة لصالح ، عليه السلام ، وكانت لها بنات حسان ومال جزيل ، وكان زوجها ذُؤاب بن عمرو أحد رؤساء ثمود ، وامرأة أخرى يقال لها : "صدوف بنت المحيا بن دهر (4) بن المحيا" ذات حسب ومال وجمال ، وكانت تحت رجل مسلم من ثمود ، ففارقته ، فكانتا تجعلان لمن التزم لهما بقتل الناقة ، فدعت "صدوف" رجلا يقال له : "الحباب" وعرضت عليه نفسها إن هو عقر الناقة ، فأبى عليها. فدعت ابن عم لها يقال له : "مصدع بن مهرج بن المحيا" ، فأجابها إلى ذلك - ودعت "عنيزة بنت غنم" قدار بن سالف بن جُنْدَع (5) وكان رجلا أحمر أزرق قصيرًا ، يزعمون أنه كان ولد زَنية ، وأنه لم يكن من أبيه الذي ينسب إليه ، وهو سالف ، وإنما هو (6) من رجل يقال له : "صهياد" (7) ولكن ولد على فراش "سالف" ، وقالت له : أعطيك أي بناتي شئتَ على أن تعقر (8) الناقة! فعند ذلك ، انطلق "قدار بن سالف" "ومصدع بن مهرج" ، فاستفزا غُواة من ثمود ، فاتبعهما سبعة نفر ، فصاروا تسعة رهط ، وهم الذين قال الله تعالى : { وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ } [النمل : 48] وكانوا رؤساء في قومهم ، فاستمالوا القبيلة الكافرة بكمالها ، فطاوعتهم على ذلك ، فانطلقوا فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء ، وقد كمن لها "قدار" في أصل صخرة على طريقها ، وكمن لها "مصدع" في أصل أخرى ، فمرت على "مصدع" فرماها بسهم ، فانتظم به عضَلَة ساقها وخرجت "أم غَنَمْ عنيزة" ، وأمرت ابنتها وكانت من أحسن الناس وجها ، فسفرت عن وجهها لقدار وذمّرته فشدّ على الناقة بالسيف ، فكسفَ (9) عرقوبها ، فخرت ساقطة إلى الأرض ، ورغت رَغاة واحدة تحذر سَقْبَها ، ثم طعن في لَبَّتها فنحرها ، وانطلق سَقْبَها - وهو فصيلها - حتى أتى جبلا منيعًا ، فصعد أعلى صخرة فيه ورغا - فروى عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عمن سمع الحسن البصري أنه قال :
__________
(1) تفسير الطبري (12/529).
(2) زيادة من أ.
(3) في ك ، م : "أم عثمان".
(4) في أ : "زهير".
(5) في أ : "جذع".
(6) في أ : "كان".
(7) في م : "صبيان" ، وفي ك : "ضبيان".
(8) في ك ، م : "يعقر".
(9) في ك ، م ، د : "فكشف" ، وفي أ : "فكشف عن".

(3/441)


يا رب أين أمي ؟ ويقال : إنه رغا ثلاث مرات. وإنه دخل في صخرة فغاب فيها ، ويقال : بل اتبعوه فعقروه مع أمه ، فالله أعلم (1)
فلما فعلوا ذلك وفرغوا من عقر الناقة ، بلغ الخبر صالحا ، عليه السلام ، فجاءهم وهم مجتمعون ، فلما رأى الناقة بكى وقال : { تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (2) ] } [هود : 65] وكان قتلهم الناقة يوم الأربعاء ، فلما أمسى أولئك التسعة الرهط عزموا على قتل صالح [عليه السلام] (3) وقالوا : إن كان صادقًا عَجَّلناه قبلنا ، وإن كان كاذبًا ألحقناه بناقته! { قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ. وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا } (4) الآية.[النمل : 49 - 52]
فلما عزموا على ذلك ، وتواطؤوا عليه ، وجاءوا من الليل ليفتكوا بنبي الله صالح ، أرسل الله ، سبحانه وتعالى ، وله العزة ولرسوله ، عليهم حجارة فرضَختهم سلفا وتعجيلا قبل قومهم ، وأصبح ثمود يوم الخميس ، وهو اليوم الأول من أيام النَّظرة ، ووجوههم مصفرة كما وعدهم صالح ، عليه السلام ، وأصبحوا في اليوم الثاني من أيام التأجيل ، وهو يوم الجمعة ، ووجوههم محمرة ، وأصبحوا (5) في اليوم الثالث من أيام المتاع (6) وهو يوم السبت ، ووجوههم مسودة ، فلما أصبحوا من يوم الأحد وقد تحَنَّطوا وقعدوا ينتظرون نقمة الله وعذابه ، عياذا بالله من ذلك ، لا يدرون ماذا يفعل بهم ، ولا كيف يأتيهم العذاب ؟ و[قد] (7) أشرقت الشمس ، جاءتهم صيحة من السماء ورَجْفة شديدة من أسفل منهم ، ففاضت الأرواح وزهقت النفوس في ساعة واحدة { فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } أي : صرعى لا أرواح فيهم ، ولم يفلت منهم أحد ، لا صغير ولا كبير ، لا ذكر ولا أنثى - قالوا : إلا جارية كانت مقعدة - واسمها "كلبة بنة السّلْق" ، ويقال لها : "الزريقة" (8) - وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح ، عليه السلام ، فلما رأت ما رأت من العذاب ، أُطلِقَت رجلاها ، فقامت تسعى كأسرع شيء ، فأتت حيا من الأحياء فأخبرتهم بما رأت وما حل بقومها ، ثم استسقتهم من الماء ، فلما شربت ، ماتت.
قال علماء التفسير : ولم يبق من ذرية ثمود أحد ، سوى صالح ، عليه السلام ، ومن اتبعه ، رضي الله عنهم ، إلا أن رجلا يقال له : "أبو رِغال" ، كان لما وقعت النقمة بقومه مقيما في الحرم ، فلم يصبه شيء ، فلما خرج في بعض الأيام إلى الحلّ ، جاءه حجر من السماء فقتله.
وقد تقدم في أول القصة حديث "جابر بن عبد الله" في ذلك ، وذكروا أن أبا رغال هذا هو والد
__________
(1) تفسير الطبري (12/536).
(2) زيادة من ك ، م ، وفي هـ : "الآية".
(3) زيادة من ك ، م.
(4) زيادة من ك ، م ، أ.
(5) في م : "واجتمعوا".
(6) في ك : "التمتع".
(7) زيادة من م.
(8) في م : "الذريعة".

(3/442)


فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)

ثقيف" الذين كانوا يسكنون الطائف (1)
قال عبد الرزاق : قال مَعْمَر : أخبرني إسماعيل بن أمية ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر أبي رغال فقال : "أتدرون من هذا ؟" فقالوا : الله ورسوله أعلم. قال : "هذا قبر أبي رغال ، رجل من ثمود ، كان في حرم الله ، فمنعه حرمُ الله عذاب الله. فلما خرج أصابه ما أصاب قومه ، فدفن هاهنا ، ودفن معه غصن من ذهب ، فنزل القوم فابتدروه بأسيافهم ، فبحثوا عنه ، فاستخرجوا الغصن".
وقال عبد الرزاق : قال معمر : قال الزهري : أبو رغال : أبو ثقيف (2)
هذا مرسل من هذا الوجه ، وقد روي متصلا من وجه آخر ، كما قال محمد بن إسحاق ، عن إسماعيل بن أمية ، عن بُجَير بن أبي بجير قال : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ، حين خرجنا معه إلى الطائف ، فمررنا بقبر فقال : "هذا قبر أبي رغال ، وهو أبو ثقيف ، وكان من ثمود ، وكان بهذا الحرم فدفع (3) عنه ، فلما خرج [منه] (4) أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان ، فدفن فيه. وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب ، إن أنتم نبشم عنه أصبتموه [معه] (5) فابتدره الناس (6) فاستخرجوا منه الغصن".
وهكذا رواه أبو داود ، عن يحيى بن معين ، عن وهب بن جرير بن حازم ، عن أبيه ، عن ابن إسحاق ، به (7)
قال شيخنا أبو الحجاج المزي : وهو حديث حسن عزيز (8) (9)
قلت : تفرد بوصله "بُجَيْر بن أبي بجير" هذا ، وهو شيخ لا يعرف إلا بهذا الحديث. قال يحيى ابن معين : ولم أسمع أحدًا روى عنه غير إسماعيل بن أمية.
قلت : وعلى هذا ، فيخشى أن يكون وهم في رفع هذا الحديث ، وإنما يكون من كلام عبد الله بن عمرو ، مما أخذه من الزاملتين.
قال شيخنا أبو الحجاج ، بعد أن عرضت عليه ذلك : وهذا محتمل ، والله أعلم.
وقوله تعالى :
{ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) }
هذا تقريع من صالح ، عليه السلام ، لقومه ، لما أهلكهم الله بمخالفتهم إياه ، وتمردهم على الله ،
__________
(1) انظر : "الكلام على أبي رغال ، وترجيح أنه كان دليل أبرهة في تفسير سورة النساء آية : 4.
(2) المصنف برقم (20989) ، وتفسير عبد الرزاق (1/119 ، 220).
(3) في ك : "يدفع".
(4) زيادة من ك ، م.
(5) زيادة من أ.
(6) في أ : "القوم".
(7) سنن أبي داود برقم (3088).
(8) في أ : "غريب".
(9) تهذيب الكمال (4/11).

(3/443)


وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)

وإبائهم عن قبول الحق ، وإعراضهم عن الهدى إلى العَمى - قال لهم صالح ذلك بعد هلاكهم تقريعا وتوبيخا وهم يسمعون ذلك ، كما ثبت في الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على أهل بدر ، أقام هناك ثلاثًا ، ثم أمر براحلته فشُدّت بعد ثلاث من آخر الليل فركبها (1) ثم سار حتى وقف على القليب ، قليب بدر ، فجعل يقول : "يا أبا جهل بن هشام ، يا عتبة بن ربيعة ، يا شيبة بن ربيعة ، ويا فلان بن فلان : هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا". فقال له عمر : يا رسول الله ، ما تُكَلّم من أقوام قد جيفوا ؟ فقال : "والذي نفسي بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكن لا يجيبون".
وفي السيرة أنه ، عليه السلام (2) قال لهم : "بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم ، كذبتموني وصدقني الناس ، وأخرجتموني وآواني الناس ، وقاتلتموني ونصرني الناس ، فبئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم". (3)
وهكذا صالح ، عليه السلام ، قال لقومه : { لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ } أي : فلم تنتفعوا بذلك ، لأنكم لا تحبون (4) الحق ولا تتبعون ناصحا ؛ ولهذا قال : { وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ }
وقد ذكر بعض المفسرين أن كل نبي هلكت أمته ، كان يذهب فيقيم في الحرم ، حرم مكة ، فالله أعلم.
وقد قال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا زَمْعَة بن صالح ، عن سلمة بن وهرام ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي عُسْفان حين حَجّ قال : "يا أبا بكر ، أيّ وادي هذا ؟ " قال : هذا وادي عُسْفَان. قال : "لقد مر به هود وصالح ، عليهما السلام ، على بَكَرات حُمْر خُطُمها الليف ، أزُرُهم العبَاء ، وأرديتهم النّمار ، يلبون يحجون البيت العتيق".
هذا حديث غريب من هذا الوجه ، لم يخرجه أحد منهم (5)
{ وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) }
يقول تعالى : { وَ } قَدْ أَرْسَلْنَا { لُوطًا } أو تقديره : { وَ } اذكر { َلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ }
ولوط هو ابن هاران بن آزر ، وهو ابن أخي إبراهيم الخليل ، عليهما (6) السلام ، وكان قد آمن مع إبراهيم ، عليه السلام ، وهاجر معه إلى أرض الشام ، فبعثه الله [تعالى] (7) إلى أهل "سَدُوم" وما
__________
(1) في ك : "ثم ركبها".
(2) في أ : "صلى الله عليه وسلم".
(3) السيرة النبوية لابن هشام (1/639).
(4) في أ : "تتبعون".
(5) المسند (1/232) وقال الهيثمي في المجمع (3/220) : "فيه زمعة بن صالح وفيه كلام وقد وثق".
(6) في ك ، أ : "عليه".
(7) زيادة من أ.

(3/444)


حولها من القرى ، يدعوهم إلى الله ، عز وجل ، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عما كانوا يرتكبونه من المآثم والمحارم والفواحش التي اخترعوها ، لم يسبقهم بها أحد من بني آدم ولا غيرهم ، وهو إتيان الذكور. وهذا شيء لم يكن بنو آدم تعهده ولا تألفه ، ولا يخطر ببالهم ، حتى صنع ذلك أهل "سَدُوم" عليهم لعائن الله.
قال عمرو بن دينار : قوله : { مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ } قال : ما نزا ذَكَر على ذَكَر ، حتى كان قوم لوط.
وقال الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي ، باني جامع دمشق : لولا أن الله ، عز وجل ، قص علينا خبر لوط ، ما ظننت أن ذكرًا يعلو ذكرًا.
ولهذا قال لهم لوط ، عليه السلام : { أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ } أي : عدلتم (1) عن النساء ، وما خلق لكم ربكم منهن إلى الرجال ، وهذا إسراف منكم وجهل ؛ لأنه وضع الشيء في غير محله ؛ ولهذا قال لهم في الآية الأخرى : { [ قَالَ ] (2) هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } [الحجر : 71] فأرشدهم إلى نسائهم ، فاعتذروا إليه بأنهم لا يشتهونهن ، { قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ } [هود : 79] أي : لقد علمت أنه لا أرَبَ لنا في النساء ، ولا إرادة ، وإنك لتعلم مرادنا من أضيافك.
وذكر المفسرون أن الرجال كانوا قد استغنى (3) بعضهم ببعض ، وكذلك نساؤهم كن قد استغنى (4) بعضهن ببعض أيضًا.
__________
(1) في د ، م : "أعدلتم".
(2) زيادة من أ.
(3) في ك ، م : "اغتني".
(4) في ك : "استغنين".

(3/445)


وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)

{ وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) }
أي : ما أجابوا لوطًا إلا أن هَموا بإخراجه ونفيه ومن معه [من المؤمنين] (1) من بين أظهرهم ، فأخرجه الله تعالى سالما ، وأهلكهم في أرضهم صاغرين مهانين.
وقوله تعالى : { إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } قال قتادة ، عابوهم بغير عيب.
وقال مجاهد : { إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } من أدبار الرجال وأدبار النساء. ورُوي مثله عن ابن عباس أيضًا.
{ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) }
يقول تعالى : فأنجينا لوطًا وأهله ، ولم يؤمن به أحد منهم سوى أهل بيته فقط ، كما قال تعالى :
__________
(1) زيادة من أ.

(3/445)


وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)

{ فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [الذريات : 35 ، 36] إلا امرأته فإنها لم تؤمن به ، بل كانت على دين قومها ، تمالئهم عليه وتُعْلمهم بمن يَقْدم عليه من ضيفانه بإشارات بينها وبينهم ؛ ولهذا لما أمر لوط ، عليه السلام ، أن يُسْري بأهله أمر ألا يعلم امرأته ولا يخرجها من البلد. ومنهم من يقول : بل اتبعتهم ، فلما جاء العذابُ التفتت هي فأصابها ما أصابهم. والأظهر أنها لم تخرج من البلد ، ولا أعلمها لوط ، بل بقيت معهم ؛ ولهذا قال هاهنا : { إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ } أي : الباقين. ومنهم من فسر ذلك { مِنَ الْغَابِرِينَ } [من] (1) الهالكين ، وهو تفسير باللازم.
وقوله : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا } مفسر بقوله : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ } [هود 82 ، 83] ولهذا قال : { فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ } أي : انظر - يا محمد - كيف كان عاقبة من تجهرم على معاصي الله وكذّب رسله (2)
وقد ذهب الإمام أبو حنيفة ، رحمه الله ، إلى أن اللائط يلقى من شاهق ، ويتبع بالحجارة كما فعل بقوم لوط.
وذهب آخرون من العلماء إلى أنه يرجم سواء كان محصنًا أو غير محصن. وهو أحد قولي الشافعي ، رحمه الله ، والحجة ما رواه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، من حديث الدراوردي ، عن عمرو بن أبي عَمْرو (3) عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط ، فاقتلوا الفاعل والمفعول به" (4)
وقال آخرون : هو كالزاني ، فإن كان محصنًا رجم ، وإن لم يكن محصنًا جلد مائة جلدة. وهو القول الآخر للشافعي.
وأما إتيان النساء في الأدبار ، فهو اللوطية الصغرى ، وهو حرام بإجماع العلماء ، إلا قولا [واحدا] (5) شاذًا لبعض السلف ، وقد ورد في النهي عنه أحاديث كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد تقدم الكلام عليها في سورة البقرة (6)
{ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) }
قال محمد بن إسحاق : هم من سلالة "مدين بن إبراهيم". وشعيب هو ابن ميكيل بن يشجر قال : واسمه بالسريانية : "يثرون".
__________
(1) زيادة من ك ، م.
(2) في ك : "برسله".
(3) في أ : "عمرو بن سلمة".
(4) المسند (1/300) وسنن أبي داود برقم (4462) وسنن الترمذي برقم (1455) وسنن ابن ماجة برقم (2561).
(5) زيادة من ك.
(6) الآية : 223.

(3/446)


وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)

قلت : وتطلق مدين على القبيلة ، وعلى المدينة ، وهي التي بقرب "مَعَان" من طريق الحجاز ، قال الله تعالى : { وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ } [القصص : 23] وهم أصحاب الأيكة ، كما سنذكره إن شاء الله ، وبه الثقة.
{ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } هذه دعوة الرسل كلهم ، { قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ } أي : قد أقام الله الحجج والبينات على صدق ما جئتكم به. ثم وعظهم في معاملتهم الناس بأن يوفوا المكيال والميزان ، ولا يبخسوا الناس أشياءهم ، أي : لا يخونوا الناس في أموالهم ويأخذوها على وجه البخس ، وهو نقص المكيال والميزان خفْية وتدليسًا ، كما قال تعالى : { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * [ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ ] (1) لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [المطففين : 1 - 6] وهذا تهديد شديد ، ووعيد أكيد ، نسأل الله العافية منه.
ثم قال تعالى إخبارًا عن شعيب ، الذي يقال (2) له : "خطيب الأنبياء" ، لفصاحة عبارته ، وجزالة موعظته.
{ وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) }
ينهاهم شعيب ، عليه السلام ، عن قطع الطريق الحسي والمعنوي ، بقوله : { وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ } أي : توعدون الناس بالقتل إن لم يعطوكم أموالهم. قال السدي وغيره : كانوا عشارين. وعن ابن عباس [رضي الله عنه] (3) ومجاهد وغير واحد : { وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ } أي : تتوعدون المؤمنين الآتين إِلى شعيب ليتبعوه. والأول أظهر ؛ لأنه قال : { بِكُلِّ صِرَاطٍ } وهي الطرق ، وهذا الثاني هو قوله : { وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا } أي : وتودون أن تكون سبيل الله عوجا مائلة. { وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلا فَكَثَّرَكُمْ } أي : كنتم مستضعفين لقلتكم فصرتم أعزة لكثرة عَدَدكم ، فاذكروا نعمة الله عليكم في ذلك ، { وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } أي : من الأمم الخالية والقرون الماضية ، ما حل بهم من العذاب والنكال باجترائهم على معاصي الله وتكذيب (4) رسله.
وقوله : { وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا } أي : [قد] (5) اختلفتم عليّ
__________
(1) زيادة من ك ، م ، وفي هـ : "إلى قوله".
(2) في م : "قال".
(3) زيادة من أ.
(4) في أ : "وتكذيبهم".
(5) زيادة من د ، ك ، م.

(3/447)


{ فاصبروا } أي : انتظروا { حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا } أي : يفصل ، { وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } فإنه سيجعل العاقبة للمتقين ، والدمار على الكافرين.

(3/448)


قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)

{ قَالَ الْمَلأ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) }
هذا إخبار من الله [تعالى] (1) عما واجهت به الكفار نبي الله شعيبًا ومن معه من المؤمنين ، في (2) توعدهم إياه ومن معه بالنفي من القرية ، أو الإكراه على الرجوع في مِلَّتهم والدخول معهم فيما هم فيه. وهذا خطاب مع الرسول والمراد أتباعه الذين كانوا معه على الملة.
وقوله : { أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } يقول : أو أنتم فاعلون ذلك ولو كنا (3) كارهين ما تدعونا إليه ؟ فإنا إن رجعنا إلى ملتكم ودخلنا معكم فيما أنتم فيه ، فقد أعظمنا الفِرْية على الله في جعل الشركاء معه أندادًا. وهذا تعبير منه عن اتباعه. { وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا } وهذا ردّ إلى المشيئة ، فإنه يعلم كل شيء ، وقد أحاط بكل شيء علمًا ، { عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا } أي : في أمورنا ما نأتي منها وما نذر { رَبَّنَا افْتَحْ (4) بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ } أي : افصل بيننا وبين قومنا ، وانصرنا عليهم ، { وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } أي : خير الحاكمين ، فإنك العادل الذي لا يجور أبدًا.
{ وَقَالَ الْمَلأ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) }
يخبر تعالى عن شدة كفر قوم شعيب وتمردهم وعتوهم ، وما هم فيه من الضلال ، وما جبلت عليه قلوبهم من المخالفة للحق ، ولهذا أقسموا وقالوا (5) { لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ } فلهذا عقب ذلك بقوله : { فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } أخبر تعالى هاهنا أنهم أخذتهم الرجفة كما (6) أرجفوا شعيبًا وأصحابه وتوعدوهم بالجلاء ، كما أخبر عنهم في سورة "هود" فقال : { وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } [هود : 94] والمناسبة في ذلك - والله أعلم - أنهم لما تهكموا بنبي الله شعيب في
__________
(1) زيادة من ك ، م.
(2) في ك ، م ، أ : "من".
(3) في ك ، م ، أ : "وإن كنا".
(4) في ك ، م : "احكم".
(5) في ك ، م : "فقالوا".
(6) في ك ، م ، أ : "لما".

(3/448)


فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آَسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آَبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)

قولهم : { أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ } [ هود : 87 ] فجاءت الصيحة فأسكتتهم.
وقال تعالى إخبارا عنهم في سورة الشعراء : { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [الشعراء : 189] وما ذاك إلا لأنهم (1) قالوا له في سياق القصة : { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ [ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (2) ] } [الشعراء : 187] فأخبر أنه (3) أصابهم عذاب يوم الظلة ، وقد اجتمع عليهم ذلك كله : أصابهم عذاب يوم الظلة ، " وهي سحابة أظلتهم فيها شرر من نار ولَهَب (4) ووهَج عظيم ، ثم جاءتهم صيحة من السماء ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم ، فزهقت الأرواح ، وفاضت النفوس وخمدت الأجساد ، { فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ }
ثم قال تعالى : { كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا } أي : كأنهم لما أصابتهم النقمة لم يقيموا بديارهم التي أرادوا إجلاء الرسول وصحبه منها.
ثم قال مقابلا لقيلهم : { الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ }
{ فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) }
أي : فتولى عنهم "شعيب" عليه السلام بعد ما أصابهم ما أصابهم من العذاب والنقمة والنكال ، وقال مقرعًا لهم وموبخًا : { يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ } أي : قد أديتُ إليكم ما أُرْسِلْت به ، فلا أسفة عليكم وقد كفرتم بما جئتم به ، ولهذا (5) قال : { فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ } ؟.
{ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95) }
يقول تعالى مخبرًا عما اختبر به الأمم الماضية ، الذين أرسل إليهم الأنبياء بالبأساء والضراء ، يعني { بالْبَأْسَاءِ } ما يصيبهم في أبدانهم من أمراض وأسقام. { وَالضَّرَّاءِ } ما يصيبهم من فقر وحاجة ونحو ذلك ، { لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } أي : يدعون ويخشعون ويبتهلون إلى الله تعالى في كشف ما نزل بهم.
وتقدير الكلام : أنه ابتلاهم بالشدة ليتضرعوا ، فما فعلوا شيئا من الذي أراد الله منهم ، فقلب الحال إلى الرخاء ليختبرهم فيه ؛ ولهذا قال : { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ } أي : حولَّنا الحال من شدة
__________
(1) في ك : "إلا أنهم".
(2) زيادة من ك ، م. وفي هـ : "الآية".
(3) في م : "أنهم".
(4) في ك ، م : "لهيب".
(5) في د : "فلهذا".

(3/449)


إلى رخاء ، ومن مرض وسقم إلى صحة وعافية ، ومن فقر إلى غنى ، ليشكروا على ذلك ، فما فعلوا.
وقوله : { حَتَّى عَفَوْا } أي : كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم ، يقال : عفا الشيء إذا كثر ، { وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } يقول تعالى : ابتلاهم (1) بهذا وهذا (2) ليتضرعوا ويُنيبوا إلى الله ، فما نَجَع فيهم لا هذا ولا هذا ، ولا انتهوا بهذا ولا بهذا (3) بل قالوا : قد مسنا من البأساء والضراء ، ثم بعده من الرخاء مثل ما أصاب آباءنا في قديم الدهر ، وإنما هو الدهر تارات وتارات ، ولم يتفطنوا لأمر الله فيهم ، ولا استشعروا ابتلاء الله لهم في الحالين. وهذا بخلاف حال المؤمنين الذين يشكرون الله على السراء ، ويصبرون على الضراء ، كما ثبت في الصحيحين : "عجبًا للمؤمن ، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرًا له ، وإن أصابته سَراء شكر فكان خيرًا له ، وإن أصابته ضَرَّاء صَبَر فكان خيرا له" (4) فالمؤمن من يتفطن لما ابتلاه الله به من السراء والضراء (5) ؛ ولهذا جاء في الحديث : "لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يخرج نَقِيِّا (6) من ذنوبه ، والمنافق مثله كمثل الحمار ، لا يدري فيم ربطه أهله ، ولا فيم أرسلوه" ، أو كما قال. ولهذا عقب هذه الصفة بقوله : { فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } أي : أخذناهم بالعقوبة بغتة ، أي : على بغتة منهم ، وعدم شعور منهم ، أي : أخذناهم فجأة (7) كما جاء في الحديث : "موت الفجأة رحمة للمؤمن وأخذة أسف للكافر". (8)
__________
(1) في د : "ابتليناهم".
(2) في أ : "بهذا وبهذا".
(3) في م : "ولا هذا".
(4) صحيح مسلم برقم (2999) من حديث صهيب بن سنان ، رضي الله عنه ، ولم أجده في صحيح البخاري بهذا اللفظ.
(5) في ك ، م : "من الضراء والسراء".
(6) في ك ، "حتى يخرج من الدنيا نقيا".
(7) في ك : "بغتة".
(8) جاء من حديث عائشة وعبيد بن خالد السلمي وأنس بن مالك ، رضي الله عنه.
فأما حديث عائشة : فأخرجه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (1207) "مجمع البحرين" ، وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/894) من طريق صالح بن موسى ، عن عبد الملك بن عمير ، عن موسى بن طلحة ، عن عائشة بلفظ : "موت الفجأة تخفيف على المؤمن وسخط على الكافر" وفيه صالح بن موسى وهو متروك.
وأما حديث عبيد بن خالد : فرواه أحمد في المسند (3/424) وأبو داود في السنن برقم (3110) من طريق شعبة ، عن منصور ، عن تميم بن سلمة أو سعد بن عبيدة ، عن عبيد بن خالد بلفظ : "موت الفجأة أخذة أسف"
وأما حديث أنس : فرواه ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/893) من طريق محمد بن مقاتل ، عن جعفر بن هارون ، عن سمعان ابن المهدي ، عن أنس بلفظ : "موت الفجأة رحمة للمؤمنين وعذاب للكافرين" قال ابن الجوزي : "سمعان مجهول منكر الحديث".

(3/450)


وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)

{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) }
يقول تعالى مخبرًا عن قلة إيمان أهل القرى الذين أرسل فيهم الرسل ، كقوله تعالى (1) { فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [يونس : 98]
__________
(1) في ك ، م ، أ : "كما قال تعالى".

(3/450)


أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)

أي : ما آمنت قرية بتمامها إلا قوم يونس ، فإنهم آمنوا ، وذلك بعد ما عاينوا العذاب ، كما قال تعالى : { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [الصافات : 147 ، 148] وقال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ [ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (1) ] } [سبأ : 34]
وقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا } أي : آمنت قلوبهم بما جاءتهم به الرسل ، وصدقت به واتبعته ، واتقوا بفعل الطاعات وترك المحرمات ، { لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ } أي : قطر السماء ونبات الأرض. قال تعالى : { وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } أي : ولكن كذبوا رسلهم ، فعاقبناهم بالهلاك على ما كسبوا من المآثم والمحارم.
ثم قال تعالى مخوفًا ومحذرًا من مخالفة أوامره ، والتجرؤ على زواجره : { أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى } أي : الكافرة { أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا } أي : عذابنا ونكالنا ، { بياتا } أي : ليلا { وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ } أي : في حال شغلهم وغفلتهم ، { أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ } أي : بأسه ونقمته وقدرته عليهم وأخذه إياهم في حال سهوهم وغفلتهم { فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } ؛ ولهذا قال الحسن البصري ، رحمه الله : المؤمن يعمل بالطاعات وهو مُشْفِق وَجِل خائف ، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن.
{ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) }
قال ابن عباس ، رضي الله عنهما ، في قوله : { أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا } أو لم نُبَيًن ، [وكذا قال مجاهد والسدي ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أو لم نبين] (2) لهم أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم.
وقال أبو جعفر بن جرير في تفسيرها : يقول (3) تعالى : أو لم نبيِّن للذين يستخلفون في الأرض من بعد إهلاك آخرين قبلهم كانوا أهلها ، فساروا سيرتهم ، وعملوا أعمالهم ، وعتوا على ربهم : { أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ } يقول : أن لو نشاء فعلنا بهم كما فعلنا بمن قبلهم ، { وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ } يقول : ونختم على قلوبهم { فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ } موعظة ولا تذكيرًا.
قلت : وهكذا قال تعالى : { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى } [طه : 128] وقال تعالى : { أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ } [السجدة : 29] وقال { أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ. وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ ] (4) } [إبراهيم : 44 ، 45] وقال تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا } [مريم : 98]
__________
(1) زيادة من ك ، م ، أ. وفي هـ : "الآية".
(2) زيادة من ك ، م ، أ.
(3) في م : "بقوله".
(4) زيادة من ك ، م ، أ. وفي هـ : "الآية".

(3/451)


تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)

أي : هل ترى لهم شخصًا أو تسمع لهم صوتًا ؟ وقال تعالى : { أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ } [الأنعام : 6] وقال تعالى بعد ذكره إهلاك عاد : { فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ. وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ. وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الأحقاف : 25 - 27] وقال تعالى : { وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } [سبأ : 45] وقال تعالى : { وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } [الملك : 18] وقال تعالى : { فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ. أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [الحج : 45 ، 46] وقال تعالى : { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [الأنعام : 10] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على حلول نقمه بأعدائه ، وحصول نعمه لأوليائه ؛ ولهذا عقب ذلك بقوله ، وهو أصدق القائلين ورب العالمين :
{ تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لأكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) }
لما قص تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم خبر قوم نوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب [عليهم الصلاة والسلام] (1) وما كان من إهلاكه الكافرين وإنجائه المؤمنين ، وأنه تعالى أعذر إليهم بأن بين لهم الحق بالحجج على ألسنة الرسل ، صلوات الله عليهم أجمعين ، قال تعالى : { تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ } أي : يا محمد { مِنْ أَنْبَائِهَا } أي : من أخبارها ، { وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } أي : بالحجج على صدقهم فيما أخبروهم به ، كما قال تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا } [الإسراء : 15] وقال تعالى : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } [هود : 101 ، 102]
وقوله تعالى : { فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ } الباء سببية ، أي : فما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل بسبب تكذيبهم بالحق أول ما ورد عليهم. حكاه ابن عطية ، رحمه الله ، وهو متجه حسن ، كقوله : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ [فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون] (2) َ } [الأنعام : 110 ، 111] ؛
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من ك ، م ، أ. وفي هـ : "الآية".

(3/452)


ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)

ولهذا قال هنا : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ * وَمَا وَجَدْنَا لأكْثَرِهِمْ } أي : لأكثر الأمم الماضية { مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ } أي : ولقد وجدنا أكثرهم فاسقين خارجين عن الطاعة والامتثال. والعهد الذي أخذه [عليهم] (1) هو ما جبلهم عليه وفطرهم عليه ، وأخذ عليهم في الأصلاب أنه ربهم ومليكهم ، وأنه لا إله إلا هو ، فأقروا بذلك ، وشهدوا على أنفسهم به ، فخالفوه وتركوه وراء ظهورهم ، وعبدوا مع الله غيره بلا دليل ولا حجة ، لا من عقل ولا شرع ، وفي الفطر السليمة خلاف ذلك ، وجاءت الرسل الكرام من أولهم إلى آخرهم بالنهي عن ذلك ، كما جاء في صحيح مسلم يقول الله تعالى : "إني خلقت عبادي حُنَفَاء ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحَرّمَتْ عليهم ما أحللتُ لهم". وفي الصحيحين : "كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" الحديث. وقال تعالى في كتابه العزيز : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [الأنبياء : 25] وقال تعالى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [الزخرف : 45] وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [النحل : 36] إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قيل في تفسير قوله تعالى : { فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ } ما روى (2) أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أُبيّ بن كعب في قوله : { فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ } قال : كان في علمه تعالى يوم أقروا له بالميثاق ، أي : فما كانوا ليؤمنوا لعلم الله منهم ذلك ، وكذا قال الربيع بن أنس ، واختاره ابن جرير.
وقال السدي : { فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ } قال : ذلك يوم أخذ منهم الميثاق فآمنوا كرها.
وقال مجاهد في قوله : { فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ } هذا كقوله : { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا [لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ] (3) } [الأنعام : 28]
{ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) }
يقول تعالى : { ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ } أي : الرسل المتقدم ذكرهم ، كنوح ، وهود ، وصالح ، ولوط ، وشعيب ، صلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر أنبياء الله أجمعين. { مُوسَى بِآيَاتِنَا } أي : بحججنا ودلائلنا البينة إلى { فِرْعَوْنَ } وهو ملك مصر في زمن موسى ، { وَمَلَئِهِ } أي : قومه ، { فَظَلَمُوا بِهَا } أي : جحدوا وكفروا بها ظلما منهم وعنادا ، كقوله تعالى (4) { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ } [النمل : 14]
__________
(1) زيادة من م.
(2) في أ : "فقال".
(3) زيادة من ك ، أ. وفي هـ : "الآية".
(4) في ك ، م ، أ : "كما قال تعالى".

(3/453)


وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104)

أي : الذين صدوا عن سبيل الله وكذبوا رسله ، أي : انظر - يا محمد - كيف فعلنا بهم ، وأغرقناهم عن آخرهم ، بمرأى من موسى وقومه. وهذا أبلغ في النكال بفرعون وقومه ، وأشفى لقلوب أولياء الله - موسى وقومه - من المؤمنين به (1).
{ وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) }
__________
(1) في أ : "وقومه المؤمنين".

(3/454)


حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآَيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)

{ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) }.
يخبر تعالى عن مناظرة موسى لفرعون ، وإلجامه إياه بالحجة ، وإظهاره الآيات البينات بحضرة فرعون وقومه من قبط مصر ، فقال تعالى : { وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي : أرسلني الذي هو خالقُ كل شيء وربه ومليكه.
{ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ } فقال بعضهم : معناه : حقيق بأن لا أقول على الله إلا الحق ، أي : جدير بذلك وحري به.
وقالوا و"الباء" و"على" يتعاقبان ، فيقال (1) رميت بالقوس" و"على القوس" ، و"جاء على حال حسنة" و "بحال حسنة".
وقال بعض المفسرين : معناه : حريص على ألا أقول على الله إلا الحق.
وقرأ آخرون من أهل المدينة : { حَقِيقٌ عَلَيّ } بمعنى : واجب وحق عَلَيّ ذلك ألا أخبر عنه إلا بما هو حق وصدق ، لما أعلم من عز جلاله وعظيم سلطانه.
{ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ } أي : بحجة قاطعة من الله ، أعطانيها دليلا على صدقي فيما (2) جئتكم به ، { فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } أي : أطلقهم من أسْرك وقهرك ، ودعهم وعبادة ربك وربهم ؛ فإنهم من سلالة نبي كريم إسرائيل ، وهو : يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن [عليهم صلوات الرحمن] (3)
{ قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } أي : قال فرعون : لست بمصدقك فيما قلت ، ولا بمطيعك فيما طلبت ، فإن كانت معك حجة فأظهرها لنراها ، إن كنت صادقًا فيما ادعيت.
{ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنزعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) }
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { ثُعْبَانٌ مُبِينٌ } الحية الذكر. وكذا قال السدي ، والضحاك.
__________
(1) في م : "يقال" ، وفي أ : "فيقول".
(2) في د : "ما".
(3) زيادة من أ.

(3/454)


قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)

وفي حديث "الفُتُون" ، من رواية يزيد بن هارون عن الأصْبَغ بن زيد ، عن القاسم بن أبي أيوب ، عن (1) سعيد بن جُبَيْر عن ابن عباس قال { فَأَلْقَى عَصَاهُ } فتحولت حية عظيمة فاغرة فاها ، مسرعة إلى فرعون ، فلما رآها فرعون أنها قاصدة إليه ، اقتحم عن سريره ، واستغاث بموسى أن يكفها [عنه] (2) ففعل.
وقال قتادة : تحولت حية عظيمة مثل المدينة.
وقال السدي في قوله : { فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ } والثعبان : الذكر من الحيات ، فاتحة فاها ، واضعة لِحْيها ، الأسفل في الأرض ، والآخر على سور القصر ، ثم توجهت نحو فرعون لتأخذه. فلما رآها ذعر منها ، ووثب وأحدث ، ولم يكن يُحْدث قبل ذلك ، وصاح : يا موسى ، خذها وأنا أومن بك ، وأرسل معك بني إسرائيل. فأخذها موسى ، عليه السلام ، فعادت عصا.
وروي عن عكرمة عن ابن عباس نحو هذا.
وقال وَهْب بن مُنَبِّه : لما دخل موسى على فرعون ، قال له فرعون : أعرفك ؟ قال : نعم ، قال : { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا } [الشعراء : 18] ؟ قال : فرد إليه موسى الذي ردّ ، فقال فرعون : خذوه ، فبادره موسى { فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ } فحملت على الناس فانهزموا منها ، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا ، قتل بعضهم بعضا ، وقام فرعون منهزما حتى دخل البيت.
رواه ابن جرير ، والإمام أحمد في كتابه "الزهد" ، وابن أبي حاتم. وفيه غرابة في سياقه (3) والله أعلم.
وقوله : { وَنزعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ } أي : نزع يده : أخرجها من درعه بعد ما أدخلها فيه فخرجت بيضاء تتلألأ من غير بَرَص ولا مرض ، كما قال تعالى : { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } [النمل : 12] (4)
وقال ابن عباس في حديث الفتون : [أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء] (5) { مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } يعني : من غير برص ، ثم أعادها إلى كمه ، فعادت إلى لونها الأول. وكذا قال مجاهد وغير واحد.
{ قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) }
أي : قال الملأ - وهم الجمهور والسادة من قوم فرعون - موافقين لقول فرعون فيه ، بعد ما رجع إليه رَوْعه ، واستقر على سرير مملكته (6) بعد ذلك ، قال للملأ حوله - : { إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } فوافقوه وقالوا كمقالته ، وتشاوروا في أمره ، وماذا يصنعون في أمره ، وكيف تكون حيلتهم في إطفاء
__________
(1) في ك ، م ، أ : "حدثني".
(2) زيادة من ك ، م ، أ.
(3) تفسير الطبري (13/16) ، والزهد للإمام أحمد برقم (341).
(4) بعدها في د ، ك ، م ، أ : "آية أخرى".
(5) زيادة من أ.
(6) في د : "ملكه".

(3/455)


قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)

نوره وإخماد كلمته ، وظهور كذبه وافترائهم ، وتخوفوا من [معرفته] (1) أن يستميل (2) الناس بسحره فيما يعتقدون (3) فيكون ذلك سببا لظهوره عليهم ، وإخراجه إياهم من أرضهم والذي خافوا منه وقعوا فيه ، كما قال تعالى : { وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ } [القصص : 6] فلما تشاوروا في شأنه ، وائتمروا فيه ، اتفق رأيهم على ما حكاه الله تعالى عنهم في قوله تعالى :
{ قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) }
قال ابن عباس : { أَرْجِهِ } أخّره. وقال قتادة : احبسهُ. { وَأَرْسِلْ } أي : ابعث { فِي الْمَدَائِنِ } أي : في الأقاليم ومعاملة ملكك ، { حَاشِرِينَ } أي : من يحشر لك السحرة من سائر البلاد ويجمعهم.
وقد كان السحر في زمانهم غالبا كثيرا ظاهرا. واعتقد من اعتقد منهم ، وأوهم من أوهم منهم ، أن ما جاء موسى ، عليه السلام ، من قبيل ما تشعبذه (4) سحرتهم ؛ فلهذا جمعوا له السحرة ليعارضوه بنظير ما أراهم من البينات ، كما أخبر تعالى عن فرعون حيث قال : { قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى. فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى. قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى. فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى } [طه : 57 - 60] وقال تعالى هاهنا :
{ وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لأجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) }
يخبر تعالى عما تشارط عليه فرعون والسحرة الذين (5) استدعاهم لمعارضة موسى ، عليه السلام : إن غلبوا موسى ليثيبنهم وليعطينهم عطاء جزيلا. فوعدهم ومناهم أن يعطيهم ما أرادوا ، ويجعلنهم (6) من جلسائه والمقربين عنده ، فلما توثقوا من فرعون لعنه الله :
{ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) }
هذه مبارزة من السحرة لموسى ، عليه السلام ، في قولهم : { إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ } أي : قَبْلك. كما قال (7) في الآية الأخرى : { وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى } [طه : 65] فقال لهم موسى ، عليه السلام : { أَلْقُوا } أي : أنتم أولا قبلي. والحكمة في هذا - والله أعلم - ليري الناس صنيعهم ويتأملوه ، فإذا فُرغ من بهرجهم (8) ومحالهم ، جاءهم الحق الواضح الجلي بعد تطلب له والانتظار منهم لمجيئه ، فيكون أوقع في النفوس. وكذا كان. ولهذا قال تعالى : { فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ } أي : خيلوا إلى الأبصار أن ما فعلوه له حقيقة في الخارج ، ولم يكن إلا مجرد صنعة وخيال ، كما قال تعالى : { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } [طه : 66 : 69].
__________
(1) زيادة من ك ، م ، أ.
(2) في د : "يميل".
(3) في ك : "يعتقدوه".
(4) في ك : "يشعبذه".
(5) في د : "لما".
(6) في أ : "وليجعلهم".
(7) في أ : "قالوا".
(8) في أ : "بهرجتهم".

(3/456)


وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)

قال سفيان بن عُيَيْنَة : حدثنا أبو سعيد ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس : ألقوا حبالا غلاظًا وخشبًا طوالا. قال : فأقبلت يُخَيل إليه من سحرهم أنها تسعى.
وقال محمد بن إسحاق : صَفّ خمسة عشر ألف ساحر ، مع كل ساحر حباله وعصيه ، وخرج موسى ، عليه السلام ، معه أخوه يتكئ على عصاه ، حتى أتى الجمع ، وفرعون في مجلسه مع أشراف أهل مملكته ، ثم قال السحرة : { يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ } [طه : 65 ، 66] فكان أول ما اختطفوا بسحرهم بصر موسى وبصر فرعون ، ثم أبصار الناس بعد ، ثم ألقى كل رجل منهم ما في يده من الحبال والعصي (1) فإذا حيات كأمثال الجبال ، قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا.
وقال السُّدِّي : كانوا بضعة وثلاثين ألف رجل ، ليس رجل منهم إلا ومعه حبل وعصا ، { فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ } يقول : فَرَقوهم أي : من الفرَق.
وقال ابن جرير : حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ابن عُلَيَّةَ ، عن هشام الدَّستَوَائي ، حدثنا القاسم ابن أبي بَزَّة قال : جمع فرعون سبعين ألف ساحر ، فألقوا سبعين ألف حبل ، وسبعين ألف عصا ، حتى جعل يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى (2) ؛ ولهذا قال تعالى : { وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ }
{ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) }
__________
(1) في ك ، م ، أ : "العصى والحبال".
(2) تفسير الطبري (13/28) وهذا من أخبار أهل الكتاب التي لا فائدة من علمها.

(3/457)


قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)

{ قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) }
يخبر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله موسى ، عليه السلام ، في ذلك الموقف العظيم ، الذي فرق الله تعالى فيه بين الحق والباطل ، يأمره بأن يلقي ما في يمينه وهي عصاه ، { فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ } أي : تأكل { مَا يَأْفِكُونَ } أي : ما يلقونه ويوهمون أنه حق ، وهو باطل.
قال ابن عباس : فجعلت لا تَمُرّ بشيء (1) من حبالهم ولا من خُشُبهم (2) إلا التقمته ، فعرفت السحرة أن هذا أمر من السماء ، وليس هذا بسحر ، فخروا سجدا وقالوا : { آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ. رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ }
وقال محمد بن إسحاق : جعلت تبتلع (3) تلك الحبال والعصى واحدة ، واحدة حتى ما يُرَى
__________
(1) في أ : "على شيء".
(2) في أ : "عصيهم".
(3) في أ : "تتبع".

(3/457)


قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)

بالوادي قليل ولا كثير مما ألقوا ، ثم أخذها موسى فإذا هي عصا في يده كما كانت ، ووقع السحرة سجدا { قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ. رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ } لو كان هذا ساحرا ما غُلبنا.
وقال القاسم بن أبي بَزَّة : أوحى الله إليه أن ألق عصاك ، فألقى عصاه ، فإذا هي ثعبان فاغرٌ فَاهُ ، يبتلع (1) حبالهم وعصيهم. فألقي السحرة عند ذلك سجدا ، فما رفعوا رءوسهم حتى رأوا الجنة والنار وثواب أهلهما.
{ قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) }
يخبر تعالى عما توعد به فرعون ، لعنه الله ، السحرة لما آمنوا بموسى ، عليه السلام ، وما أظهره للناس من كيده ومكره في قوله : { إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا } أي : إن غَلَبَه لكم في يومكم هذا إنما كان عن تشاور منكم ورضا منكم لذلك ، كقوله في الآية الأخرى : { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ } [طه : 70] وهو يعلم وكلّ من له لب أن هذا الذي قاله من أبطل الباطل ؛ فإن موسى ، عليه السلام ، بمجرد ما جاء من "مَدْين" دعا فرعون إلى الله ، وأظهر المعجزات الباهرة والحجج القاطعة على صدق ما جاء به ، فعند ذلك أرسل فرعون في مدائن ملكه ومعاملة سلطنته ، فجمع سحرة متفرقين من سائر الأقاليم ببلاد مصر ، ممن اختار هو والملأ من قومه ، وأحضرهم عنده ووعدهم بالعطاء الجزيل. وقد كانوا من أحرص الناس على ذلك ، وعلى الظهور في مقامهم ذلك والتقدم عند فرعون ، وموسى ، عليه السلام ، لا يعرف أحدا منهم ولا رآه ولا اجتمع به ، وفرعون يعلم ذلك ، وإنما قال هذا تسترا وتدليسا على رعاع دولته وجَهَلتهم ، كما قال تعالى : { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ } [الزخرف : 54] فإن قوما صدّقوه في قوله : { أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى } [النازعات : 24] من أجْهَل خلق الله وأضلهم.
وقال السدي في تفسيره بإسناده المشهور عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما من الصحابة ، في قوله تعالى : { إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ } قاوا : التقى موسى ، عليه السلام ، وأميرُ السحرة ، فقال له موسى : أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي ، وتشهد أن ما جئت به حق ؟ قال الساحر : لآتين غدا بسحر لا يغلبه سحر ، فوالله لئن غلبتني لأومنن بك ولأشهدن أنك حق. وفرعون ينظر إليهما ، قالوا : فلهذا قال ما قال.
وقوله : { لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا } أي : تجتمعوا أنتم وهو ، وتكون لكم (2) دولة وصولة ، وتخرجوا
__________
(1) في م : "يبلع".
(2) في ك ، م : "لهم".

(3/458)


وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)

منها الأكابر والرؤساء ، وتكون الدولة والتصرف لكم ، { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } أي : ما أصنع بكم.
ثم فسر هذا الوعيد بقوله : { لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ } يعني : يقطع يد الرّجُل اليمنى ورجْله اليسرى أو بالعكس. و { لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } وقال في الآية الأخرى : { فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } [طه : 71] أي : على الجذوع.
قال ابن عباس : وكان (1) أولَ من صلب ، وأولَ من قطع الأيدي والأرجل من خلاف ، فرعون.
وقول السحرة : { إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ } أي : قد تحققنا أنا إليه راجعون ، وعذابه أشد من عذابك ، ونكاله (2) ما تدعونا إليه ، وما أكرهتنا عليه من السحر ، أعظم (3) من نكالك ، فلنصبرن اليوم على عذابك لنخلص من عذاب الله ، لما قالوا : { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا } أي : عمنا بالصبر على دينك ، والثبات عليه ، { وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } أي : متابعين لنبيك موسى ، عليه السلام. وقالوا لفرعون : { فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُالدَّرَجَاتُ الْعُلا } [طه : 72 - 75] فكانوا في أول النهار سحرة ، فصاروا في آخره (4) شهداء بررة.
قال ابن عباس ، وعُبَيد بن عُمَيْر ، وقتادة ، وابن جُرَيْج : كانوا في أول النهار سحرة ، وفي آخره شهداء.
{ وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) }
يخبر تعالى عما تمالأ عليه فرعون وملؤه ، وما أظهروه (5) لموسى ، عليه السلام ، وقومه من الأذى والبغضة : { وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ } أي : لفرعون { أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ } أي : أتدعهم ليفسدوا في الأرض ، أي : يفسدوا أهل رعيتك ويدعوهم إلى عبادة ربهم دونك ، يالله للعجب ! صار (6) هؤلاء يشفقون من إفساد موسى وقومه! ألا إن فرعون وقومه هم المفسدون ، ولكن لا يشعرون ؛ ولهذا قالوا : { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } قال بعضهم : "الواو" هنا حالية ، أي : أتذره وقومه يفسدون وقد ترك عبادتك ؟
__________
(1) في م ، أ : "فكان".
(2) في أ : "ونكاله على ".
(3) في د : "أشد".
(4) في ك ، م ، أ : "في آخر النهار".
(5) في ك ، م ، أ : "أضمروه" ، وفي د : "أضمروا".
(6) في أ : "صاروا".

(3/459)


وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)

وقرأ ذلك أُبيّ بن كعب : "وقد تركوك أن يعبدوك وآلهتك" ، حكاه ابن جرير.
وقال آخرون : هي عاطفة ، أي : لا تدع موسى يصنع هو وقومه من الفساد ما قد أقررتهم (1) عليه وعلى تركه آلهتك.
وقرأ بعضهم : "إلاهتك" أي : عبادتك ، ورُوي ذلك عن ابن عباس ومجاهد.
وعلى القراءة الأولى قال بعضهم : كان لفرعون إله يعبده. قال الحسن البصري : كان لفرعون إله يعبده في السر. وقال في رواية أخرى : كان له (2) جُمَانة في عنقه معلقة يسجد لها.
وقال السدي في قوله تعالى : { وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ } وآلهته ، فيما زعم ابن عباس ، كانت البقر ، كانوا إذا رأوا بقرة حسناء أمرهم فرعون أن يعبدوها ، فلذلك أخرج لهم عجلا جسدا.
فأجابهم فرعون فيما سألوه بقوله : { سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ } وهذا أمر ثان بهذا الصنيع ، وقد كان نكل بهم به قبل ولادة موسى ، عليه السلام ، حذرا من وجوده ، فكان خلاف ما رامه وضدّ ما قصده فرعون. وهكذا عومل في صنيعه [هذا] (3) أيضا ، إنما أراد قهر بني إسرائيل وإذلالهم ، فجاء الأمر على خلاف ما أراد : نصرهم الله عليه وأذله ، وأرغم أنفه ، وأغرقه وجنوده.
ولما صمم فرعون على ما ذكره من المساءة لبني إسرائيل ، { قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا } ووعدهم بالعاقبة ، وأن الدار ستصير لهم في قوله : { إِنَّ الأرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } أي : قد جرى علينا مثل ما رأيت من الهوان والإذلال من قبل ما جئت يا موسى ، ومن بعد ذلك. فقال منبهًا لهم على حالهم الحاضرة (4) وما يصيرون (5) إليه في ثاني الحال : { عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ [ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ] } (6) وهذا تحضيض لهم على العزم على الشكر ، عند حلول النعم وزوال النقم.
{ وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) }
__________
(1) في أ : "أقررتم".
(2) في ك ، م ، أ : "لفرعون".
(3) زيادة من م ، أ.
(4) في ك ، د ، م : "الحاضر".
(5) في د : "يصير".
(6) زيادة من د ، ك ، م ، وفي هـ : "الآية".

(3/460)


فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)

{ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) }
يقول تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ } أي : اختبرناهم وامتحناهم وابتليناهم { بِالسِّنِينَ } وهي سِنِي الجوع بسبب قلة الزروع (1) { وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ } قال مجاهد : وهو دون ذلك.
وقال أبو إسحاق ، عن رجاء بن حَيْوة : كانت النخلة لا تحمل إلا ثمرة واحدة.
__________
(1) في د ، ك ، م : "الزرع".

(3/460)


وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)

{ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ } أي : من الخصب والرزق { قَالُوا لَنَا هَذِهِ } أي : هذا لنا بما نستحقه : ، { وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } أي : جدب وقحط { يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ } أي : هذا بسببهم وما جاؤوا به.
{ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ } يقول : مصائبهم عند الله ، قال الله : { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ }
وقال ابن جُرَيْج ، عن ابن عباس قال : { أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ } قال : إلا من قِبَل الله.
{ وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) }
هذا إخبار من الله ، عز وجل ، عن تَمرد قوم فرعون وعتوهم ، وعنادهم للحق وإصرارهم على الباطل في قولهم : { مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } يقولون : أيُّ آية جئتنا بها ودلالة وحجة أقمتها ، رددناها فلا نقبلها منك ، ولا نؤمن بك ولا بما جئت به ، قال الله تعالى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ }
اختلفوا في معناه ، فعن ابن عباس في رواية : كثرة الأمطار المغرقة المتلفة للزروع والثمار. وبه قال الضحاك بن مُزَاحِم.
وقال ابن عباس في رواية أخرى : هو كثرة الموت. وكذا قال عطاء.
وقال مجاهد : { الطُّوفَانَ } الماء ، والطاعون على كل حال.
وقال ابن جرير : حدثنا أبو هشام الرفاعي ، حدثنا يحيى بن يَمان ، حدثنا المِنْهَال بن (1) خليفة ، عن الحجاج ، عن الحكم بن مِيناء ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الطوفان الموت".
وكذا رواه ابن مردويه ، من حديث يحيى بن يمان ، به وهو حديث غريب.
وقال ابن عباس في رواية أخرى : هو أمر من الله طاف بهم ، ثم قرأ : { فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ. [ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ ] (2) } [القلم : 19 ، 20]
__________
(1) في أ : "عن".
(2) زيادة من أ.

(3/461)


وأما الجراد فمعروف مشهور ، وهو مأكول ؛ لما ثبت في الصحيحين عن أبي يعفُور (1) قال : سألت عبد الله بن أبي أَوْفَى عن الجراد ، فقال : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد (2)
وروى الشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وابن ماجة من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أحلت لنا ميتتان ودمان : الحوت والجراد ، والكبد والطحال" (3)
ورواه أبو القاسم البغوي ، عن داود بن رُشَيْد ، عن سُوَيْد بن عبد العزيز ، عن أبي تمام الأيليّ ، عن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر مرفوعا مثله (4)
وروى أبو داود ، عن محمد بن الفرج ، عن محمد بن الزِّبْرِقان الأهوازي ، عن سليمان التيمي ، عن أبي عثمان ، عن سلمان قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجراد فقال : "أكثر جنود الله ، لا آكله ، ولا أحرمه" (5)
وإنما تركه ، عليه السلام (6) لأنه كان يعافه ، كما عافت نفسه الشريفة أكل الضب ، وأذن فيه.
وقد روى الحافظ ابن عساكر في جزء جمعه في الجراد ، من حديث أبي سعيد الحسن بن علي العدوي ، حدثنا نصر بن يحيى بن سعيد ، حدثنا يحيى بن خالد ، عن ابن جُرَيْج ، عن عطاء ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأكل الجراد ، ولا الكلوتين ، ولا الضب ، من غير أن يحرمها. أما الجراد : فرجز وعذاب. وأما الكلوتان : فلقربهما من البول. وأما الضب فقال : "أتخوف أن يكون مسخا" ، ثم قال (7) غريب ، لم أكتبه إلا من هذا الوجه (8)
وقد كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، يشتهيه ويحبه ، فروى عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر : أن عمر سُئل عن الجراد فقال : ليت أن عندنا منه قَفْعَة أو قفعتين نأكله (9)
وروى ابن ماجة : حدثنا أحمد بن مَنِيع ، عن سفيان بن عيينة ، عن أبي سعد سعيد بن المرزبان البقال ، سمع أنس بن مالك يقول : كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يَتَهادَيْن الجراد على الأطباق (10)
وقال أبو القاسم البغوي : حدثنا داود بن رُشَيْد ، حدثنا بَقِيَّة بن الوليد ، عن نُمَيْر بن يزيد
__________
(1) في م : "يعقوب".
(2) صحيح البخاري برقم (5495) ، وصحيح مسلم برقم (1952).
(3) مسند الشافعي (1734) ، ومسند أحمد (2/97) ، وسنن ابن ماجة برقم (3218).
وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف وقد رجح أبو زرعة والدارقطني وقفه.
(4) ورواه ابن مردويه في تفسيره كما في نصب الراية للزيعلي (4/202) من طريق محمد بن بشر ، عن داود بن راشد ، عن سويد بن عبد العزيز ، عن (أبي هشام الأيلي) سمعت زيد بن أسلم يحدث عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره.
تنبيه : وقع هنا : "أبو تمام الأيلي". وفي نصب الراية : "أبو هشام الأيلي" وهذا تصحيف والصواب : "أبو هاشم الأيلي" وهو كثير بن عبد الله الأيلي ، ضعيف. انظر : تلخيص الحبير لابن حجر (1/26).
(5) سنن أبي داود (3913).
(6) في أ : " صلى الله عليه وسلم".
(7) في أ : "وقال".
(8) ورواه ابن صصري في أماليه كما في الكنز برقم (18185) وفي إسناده انقطاع فإن عطاء لم يسمع من ابن عباس وابن جريج مدلس وقد عنعن.
(9) رواه مالك في الموطأ (2/933).
(10) سنن ابن ماجة برقم (3220) وقال البوصيري في الزوائد (3/64) : "هذا إسناد ضعيف".

(3/462)


القَيْني (1) حدثني أبي ، عن صُدَيّ بن عَجْلان ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن مريم بنت عمران ، عليها السلام ، سألت ربها [عز وجل] (2) أن يطعمها لحما لا دم له ، فأطعمها الجراد ، فقالت : اللهم أعشه بغير رضاع ، وتابع بَيْنَه بغير شياع" (3) وقال نُمَير : "الشَيَاع" : الصوت.
وقال أبو بكر بن أبي داود : حدثنا أبو تقي هشام بن عبد الملك اليَزَني (4) حدثنا بقية بن الوليد ، حدثنا إسماعيل بن عياش ، عن ضَمْضَم بن زُرْعَة ، عن شُرَيْح بن عبيد ، عن أبي زُهَيْر النميري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تقاتلوا الجراد ، فإنه جند الله الأعظم". غريب جدًا (5)
وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد ، في قوله تعالى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ } قال : كانت تأكل مسامير أبوابهم ، وتَدَع الخشب.
وروى ابن عساكر من حديث علي بن زيد الخرائطي ، عن محمد بن كثير ، سمعت الأوزاعي يقول : خرجت إلى الصحراء ، فإذا أنا برِجْل من جراد في السماء ، وإذا برَجل راكب على جَرَادة منها ، وهو شاك في الحديد ، وكلما قال بيده هكذا ، مال الجراد مع يده ، وهو يقول : الدنيا باطل باطل ما فيها ، الدنيا باطل باطل ما فيها ، الدنيا باطل باطل ما فيها.
وروى الحافظ أبو الفرج (6) المعافي بن زكريا الحريري ، حدثنا محمد بن الحسن بن زياد ، حدثنا أحمد بن عبد الرحيم ، أخبرنا وَكِيع ، عن الأعمش ، أنبأنا عامر قال : سئل شُرَيْح القاضي عن الجراد ، فقال : قبح الله الجرادة. فيها خلقة سبعة جبابرة : رأسها رأس فرس ، وعنقها عنق ثور ، وصدرها صدر أسد ، وجناحها جناح نسر ، ورجلاها رجلا جمل. وذنبها ذنب حية ، وبطنها بطن عقرب.
و[قد] (7) قدمنا عند قوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } [المائدة : 96] حديث حماد بن سلمة ، عن أبي المُهزَم ، عن أبي هريرة ، قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حج أو عمرة ، فاستقبلنا (8) رجْلُ جراد ، فجعلنا نضربه بالعِصِيِّ ، ونحن محرمون ، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم [عن ذلك] (9) فقال : "لا بأس بصيد البحر" (10)
وروى ابن ماجه ، عن هارون الحمال (11) عن هاشم بن القاسم ، عن زياد بن عبد الله بن عُلاثة ، عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي ، عن أبيه ، عن أنس وجابر [رضي الله عنهما] (12) عن رسول الله (13) صلى الله عليه وسلم ؛ أنه كان إذا دعا على الجراد قال : "اللهم أهلك كباره ، واقتل صغاره ، وأفسد بيضه ، واقطع دابره ، وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا ، إنك سميع الدعاء". فقال له جابر : يا رسول الله ، أتدعو على جند من أجناد الله بقطع دابره ؟ فقال : "إنما هو نثرة حوت (14) في البحر" قال
__________
(1) في أ : "عن الوليد بن يحيى بن مرثد".
(2) زيادة من ك ، د.
(3) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (8/166) من طريق بقية بن الوليد به قال الهيثمي في المجمع (4/39) : "فيه بقية وهو ثقة لكنه مدلس ، ويزيد القيني لم أعرفه ، وبقية رجاله ثقات".
(4) في أ : "المزني".
(5) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (22/297) ، وأبو االشيخ الأصبهاني في العظمة برقم (1293) من طريق إسماعيل بن عياش ، عن ضمضم بن زرعة به.
(6) في أ : "ابن الفرج".
(7) زيادة من ك ، أ.
(8) في ك : "فاستقبلتنا".
(9) زيادة من أ.
(10) سورة المائدة آية : 96.
(11) في أ : "الحماني".
(12) زيادة من أ.
(13) في ك ، م ، أ : "النبي".
(14) في أ : "صوت".

(3/363)


هاشم (1) أخبرني زياد أنه أخبره من رآه ينثره الحوت (2) قال : من حقق ذلك إن السمك إذا باض في ساحل البحر فنضب الماء عنه وبدا للشمس ، أنه يفقس كله جرادًا طيارًا.
وقدمنا عند قوله : { إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } [الأنعام : 38] حديث عُمَر ، رضي الله عنه : "إن الله خلق ألف أمة ، ستمائة في البحر وأربعمائة في البر ، وإن أولها هلاكًا الجراد" (3)
وقال أبو بكر بن أبي داود : حدثنا يزيد بن المبارك ، حدثنا عبد الرحمن بن قَيْس ، حدثنا سالم بن سالم ، حدثنا أبو المغيرة الجوزجاني محمد بن مالك ، عن البراء بن عازب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا وَباء مع السيف ، ولا نجاء مع الجراد". حديث غريب (4)
وأما { الْقُمَّلَ } فعن ابن عباس : هو (5) السوس الذي يخرج من الحنطة. وعنه أنه الدبى (6) - وهو الجراد الصغار الذي لا أجنحة له. وبه قال مجاهد ، وعكرمة ، وقتادة.
وعن الحسن وسعيد بن جبير : { الْقُمَّلَ } دواب سود صغار.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { الْقُمَّلَ } البراغيث.
وقال ابن جرير { الْقُمَّل } جمع واحدتها "قُمَّلة" ، وهي دابة تشبه القَمْل ، تأكلها الإبل ، فيما بلغني ، وهي التي عناها الأعشى بقوله :
قوم تعالج (7) قُمَّلا أبناؤهم وسلاسلا أجُدا وبابًا مؤصدا (8)
قال : وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يزعم أن القمل عند العرب "الحمنان" ، واحدتها "حمنانة" ، وهي صغار القردان فوق القمقامة.
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير : حدثنا ابن حميد الرازي ، حدثنا يعقوب القمي ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير قال : لما أتى موسى ، عليه السلام ، فرعون قال له : أرسل معي بني إسرائيل ، فأرسل الله عليهم الطوفان - وهو المطر - فصب عليهم منه شيئا ، خافوا أن يكون عذابا ، فقالوا لموسى : ادع لنا ربك يكشف عنا المطر ، فنؤمن لك ، ونرسل معك بني إسرائيل. فدعا ربه ، فلم يؤمنوا ، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل. فأنبت لهم في تلك السنة شيئا لم ينبته قبل ذلك من الزرع والثمر (9) والكلأ فقالوا : هذا ما كنا نتمنى. فأرسل الله عليهم الجراد ، فسلطه على الكلأ فلما رأوا
__________
(1) في ك : "هشام".
(2) سنن ابن ماجة برقم (3221) قال البوصيري في الزوائد (3/65) : "هذا أسناد ضعيف لضعف موسى بن محمد بن إبراهيم. أورده ابن الجوزي في الموضوعات من طريق هارون بن عبد الله وقال : لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وضعه موسى بن محمد المذكور".
(3) سورة الأنعام آية : 38 ، وقد تفرد بهذا الحديث محمد بن عيسى ، قال ابن عدي في الكامل : "قال عمرو بن علي : محمد بن عيسى بصري صاحب محمد بن المنكدر ، ضعيف منكر الحديث روي عن محمد بن المنكدر ، عن جابر ، عن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الجراد".
(4) ورواه ابن صصري في أماليه كما في الكنز برقم (30871) والجامع الصغير للسيوطي (6/439) ورمز له بالضعف ، وأقره المناوي والألباني.
(5) في م : "أنه".
(6) في م : "الدباب".
(7) في م : "يعالج".
(8) البيت في تفسير الطبري (13/56) ، واللسان مادة (قمل).
(9) في م : "من الزروع والثمار" ، وفي ك ، أ : "الزروع والثمر".

(3/364)


أثره في الكلأ عرفوا أنه لا يبقي الزرع ، فقالوا : يا موسى ، ادع لنا ربك ليكشف (1) عنا الجراد فنؤمن لك ، ونرسل معك بني إسرائيل. فدعا ربه ، فكشف عنهم الجراد ، فلم يؤمنوا ، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل ، فداسوا وأحرزوا في البيوت ، فقالوا : قد أحرزنا. فأرسل الله عليهم القمل - وهو السوس الذي يخرج منه - فكان الرجل يخرج عشرة (2) أجربة إلى الرحى ، فلم يرد منها إلا ثلاثة أقفزة (3) فقالوا لموسى : ادع لنا ربك يكشف عنا القمل ، فنؤمن لك ، ونرسل معك بني إسرائيل. فدعا ربه ، فكشف عنهم ، فأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل. فبينما هو جالس عند فرعون ، إذ سمع نقيق ضفدع ، فقال لفرعون : ما تلقى أنت وقومك من هذا. قال (4) وما عسى أن يكون كيد هذا ؟ فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى ذَقْنه في الضفادع ، ويهم أن يتكلم فتثب (5) الضفدع في فيه. فقالوا لموسى : ادع لنا ربك يكشف عنا هذه الضفادع ، فنؤمن لك ، ونرسل معك بني إسرائيل ، فدعا ربه ، فكشف (6) عنهم فلم يؤمنوا. وأرسل (7) الله عليهم الدم ، فكانوا ما استقوا من الأنهار والآبار ، وما كان في أوعيتهم ، وجدوه دمًا عبيطًا ، فشكوا إلى فرعون ، فقالوا : إنا قد ابتلينا بالدم ، وليس لنا شراب. فقال : إنه قد سحركم !! فقالوا : من أين سحرنا ، ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئا من الماء إلا وجدناه دمًا عَبِيطًا ؟ فأتوه وقالوا : يا موسى ، ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن بك (8) ونرسل معك بني إسرائيل. فدعا ربه ، فكشف عنهم ، فلم يؤمنوا ، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل (9)
وقد روي نحو هذا عن ابن عباس ، والسدي ، وقتادة وغير واحد من علماء السلف (10)
وقال محمد بن إسحاق بن يسار ، رحمه الله : فرجع عدو الله فرعون حين آمنت السحرة مغلوبا مغلولا ثم أبى إلا الإقامة على الكفر ، والتمادي في الشر ، فتابع الله عليه الآيات ، وأخذه بالسنين ، فأرسل عليه الطوفان ، ثم الجراد ، ثم القمل ، ثم الضفادع ، ثم الدم ، آيات مفصلات. فأرسل الطوفان - وهو الماء - ففاض على وجه الأرض ثم ركد ، لا يقدرون على أن يحرثوا ولا يعملوا شيئا ، حتى جهدوا جوعًا ، فلما بلغهم ذلك { قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } فدعا موسى ربه ، فكشف (11) عنهم ، فلم يفوا له بشيء مما قالوا ، فأرسل الله عليهم الجراد ، فأكل الشجر ، فيما بلغني ، حتى إن كان ليأكل مسامير الأبواب من الحديد ، حتى تقع دورهم ومساكنهم ، فقالوا مثل ما قالوا ، فدعا ربه فكشف عنهم ، فلم يفوا له بشيء مما قالوا ، فأرسل الله عليهم القمل ، فذكر لي أن موسى ، عليه السلام ، أمر أن يمشي إلى كثيب حتى يضربه بعصاه ، فمشى إلى كثيب أهيل عظيم ، فضربه بها ، فانثال عليهم قملا حتى غلب على البيوت والأطعمة ومنعهم النوم والقرارة ، فلما جهدهم قالوا له مثل ما قالوا له ، فدعا ربه ، فكشف عنهم ، فلم يفوا له بشيء مما قالوا. فأرسل الله عليهم الضفادع ، فملأت البيوت والأطعمة والآنية ، فلا يكشف أحد ثوبًا ولا طعامًا إلا وجد فيه الضفادع ، قد غلبت عليه. فلما جهدهم ذلك ، قالوا له
__________
(1) في د ، ك ، م : "فيكشف".
(2) في ك "يخرج معه عشرة".
(3) في ك : "ثلاثة إلا أقفزة".
(4) في ك ، د ، م ، أ : "فقال".
(5) في م ، أ : "فيثب" ، وفي د : "فتبدر".
(6) في م : "فكشف الضفادع".
(7) في م : "فأرسل".
(8) في ك ، م ، أ : "لك".
(9) تفسير الطبري (13/57).
(10) بعدها في م ، أ : "أنه أخذ بذلك".
(11) في م ، ك : "فكشفه".

(3/465)


فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)

مثل ما قالوا ، فسأل ربه (1) فكشف عنهم ، فلم يفوا له بشيء مما قالوا ، فأرسل الله عليهم الدم ، فصارت مياه آل فرعون دمًا ، لا يستقون من بئر ولا نهر ، ولا يغترفون من إناء ، إلا عاد دما عبيطا (2)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور المروزي ، أنبأنا النضر ، أنبأنا إسرائيل ، أنبأنا جابر ابن يزيد (3) عن عكرمة ، قال عبد الله بن عَمْرو : لا تقتلوا الضفادع ، فإنها لما أرسلت على قوم فرعون (4) انطلق ضفدع منها فوقع في تنور فيه نار ، يطلب بذلك مرضات الله ، فأبدلهن الله من هذا أبرد شيء يعلمه من الماء ، وجعل نقيقهن التسبيح. وروي من طريق عكرمة ، عن ابن عباس ، نحوه (5)
وقال زيد بن أسلم : يعني بالدم : الرعاف. رواه ابن أبي حاتم.
{ فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) }
يخبر تعالى أنهم لما عتوا وتمردوا ، مع ابتلائه إياهم بالآيات المتواترة واحدة بعد واحدة ، [أنه] (6) انتقم منهم بإغراقه إياهم في اليم ، وهو البحر الذي فرقه لموسى ، فجاوزه وبنو إسرائيل معه ، ثم ورده فرعون وجنوده على أثرهم ، فلما استكملوا فيه ارتطم عليهم ، فغرقوا عن آخرهم ، وذلك بسبب تكذيبهم بآيات الله وتغافلهم عنها.
وأخبر تعالى أنه أورث القوم الذين كانوا يستضعفون - وهم بنو إسرائيل - { مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا } كما قال تعالى : { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ } [القصص : 5 ، 6] وقال تعالى : { كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيم وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ } [ الدخان : 25 - 28]
وعن الحسن البصري وقتادة ، في قوله : { مَشَارِقَ الأرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا } يعني : الشام.
وقوله : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا } قال مجاهد وابن جرير : وهي قوله تعالى : { وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ }
وقوله : { وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ } أي : وخربنا ما كان فرعون وقومه يصنعونه من العمارات والمزارع ، { وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ } قال ابن عباس ومجاهد : { يَعْرِشُونَ } يبنون.
__________
(1) في ك ، م : "فدعا".
(2) رواه الطبري في تفسيره (13/63).
(3) في أ : "زيد".
(4) في ك ، م ، أ : "بني إسرائيل".
(5) وفي إسناده جابر بن يزيد وهو ضعيف وقد ورد النهي عن قتل الضفدع مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فروي عبد الرحمن التيمي ، رضي الله عنه : "أن طبيبا ذكر ضفدعا في دواء عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتله". أخرجه أبو داود في السنن برقم (5269).
(6) زيادة من أ.

(3/466)


وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)

{ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) }
يخبر تعالى عما قاله جهلة بني إسرائيل لموسى ، عليه السلام ، حين جاوزوا البحر ، وقد رأوا من آيات الله وعظيم سلطانه ما رأوا ، { فَأَتَوْا } أي : فمروا { عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ } قال بعض المفسرين : كانوا من الكنعانيين. وقيل : كانوا من لخم.
قال ابن جريج : وكانوا يعبدون أصناما على صور البقر ، فلهذا أثار (1) ذلك شبهة لهم في عبادتهم العجل بعد ذلك ، فقالوا : { يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } أي : تجهلون عظمة الله وجلاله ، وما يجب أن ينزه (2) عنه من الشريك والمثيل.
{ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ } أي : هالك { وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
وروى الإمام أبو جعفر بن جرير [رحمه الله] (3) تفسير هذه الآية من حديث محمد بن إسحاق وعَقِيل ، ومعمر كلهم ، عن الزهري ، عن سنان بن أبي سنان ، عن أبي واقد الليثي : أنهم خرجوا من مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ، قال : وكان للكفار سدرة (4) يعكفون عندها ، ويعلقون بها أسلحتهم ، يقال لها : "ذات أنواط" ، قال : فمررنا بسدرة خضراء عظيمة ، قال : فقلنا : يا رسول الله ، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال : "قلتم والذي نفسي بيده ، كما قال قوم موسى لموسى : { اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ. إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (5)
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا مَعْمَر ، عن الزهري ، عن سنان بن أبي سنان الدِّيلي ، عن أبي واقد الليثي قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين ، فمررنا بسدرة ، فقلت : يا نبي الله (6) اجعل لنا هذه "ذات أنواط" ، كما للكفار ذات أنواط ، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ، ويعكفون حولها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "الله أكبر ، هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ] } (7) إنكم تركبون (8) سنن من قبلكم" (9)
ورواه ابن أبي حاتم ، من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني ، عن أبيه عن جده مرفوعا (10)
__________
(1) في أ : "أثر".
(2) في د : "تنزيهه".
(3) زيادة من أ.
(4) في م : "سدة".
(5) تفسير الطبري (13/81 ، 82).
(6) في أ : "رسول الله".
(7) زيادة من د.
(8) في م : "لتركبون".
(9) المسند (5/218) ورواه النسائي في السنن الكبرى برقم (11185) من طريق عبد الرزاق به ورواه الترمذي في السنن برقم (2180) من طريق سفيان عن الزهري بنحوه ، قال الترمذي : "هذا حديث حسن صحيح".
(10) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (17/21) من طريق ابن أبي فديك ، عن كثير بن عبد الله المزني ، عن أبيه ، عن جده مرفوعا ، قال الهيثمي في المجمع (7/24) : "فيه كثير بن عبد الله وقد ضعفه الجمهور وحسن الترمذي حديثه.

(3/467)


قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)

{ قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) }
يذكِّرهم موسى ، عليه السلام ، بنعمة الله عليهم ، من إنقاذهم من أسر فرعون وقهره ، وما كانوا فيه من الهوان والذلة ، وما صاروا إليه من العزة والاشتفاء من عدوهم ، والنظر إليه في حال هوانه وهلاكه ، وغرقه ودماره. وقد تقدم تفسيرها في [سورة] (1) البقرة.
{ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) }
يقول تعالى ممتنا على بني إسرائيل ، بما حصل لهم من الهداية ، بتكليمه موسى ، عليه السلام ، وإعطائه التوراة ، وفيها أحكامهم وتفاصيل شرعهم ، فذكر تعالى أنه واعد موسى ثلاثين ليلة.
قال المفسرون : فصامها موسى ، عليه السلام ، فلما تم الميقات استاك بلحاء شجرة ، فأمره الله تعالى أن يكمل بعشر (2) أربعين.
وقد اختلف المفسرون في هذه العشر ما هي ؟ فالأكثرون على أن الثلاثين هي ذو القعدة ، والعشر عشر ذي الحجة. قاله مجاهد ، ومسروق ، وابن جريج. وروي عن ابن عباس. فعلى هذا يكون قد كمل الميقات يوم النحر ، وحصل فيه التكليم لموسى ، عليه السلام ، وفيه أكمل الله الدين لمحمد صلى الله عليه وسلم ، كما قال تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا } [المائدة : 3]
فلما تم الميقات عزم (3) موسى على الذهاب إلى الطور ، كما قال تعالى : { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأيْمَنَ } الآية [طه : 80] ، فحينئذ استخلف موسى على بني إسرائيل أخاه هارون ، وأوصاه بالإصلاح وعدم الإفساد. وهذا تنبيه وتذكير ، وإلا فهارون ، عليه السلام ، نبي شريف كريم على الله ، له وجاهة وجلالة ، صلوات الله وسلامه عليه ، وعلى سائر الأنبياء (4)
{ وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) }
يخبر تعالى عن موسى ، عليه السلام ، أنه لما جاء لميقات الله تعالى ، وحصل له التكليم من الله [تعالى] (5) سأل الله تعالى أن ينظر إليه فقال : { رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي }
__________
(1) زيادة من م ، أ.
(2) في أ : "العشرة".
(3) في د ، ك ، م : "وعزم".
(4) في ك ، أ : "أنبياء الله".
(5) زيادة من ك ، أ.

(3/468)


وقد أشكل حرف "لن" هاهنا على كثير من العلماء ؛ لأنها موضوعة لنفي التأبيد ، فاستدل به المعتزلة على نفي الرؤية في الدنيا والآخرة. وهذا أضعف الأقوال ؛ لأنه قد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة ، كما سنوردها عند قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ } [القيامة : 22 ، 23].
وقوله تعالى إخبارًا عن الكفار : { كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } [المطففين : 15]
وقيل : إنها لنفي التأبيد في الدنيا ، جمعا بين هذه الآية ، وبين الدليل القاطع على صحة الرؤية في الدار الآخرة.
وقيل : إن هذا الكلام في هذا المقام كالكلام في قوله تعالى : { لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } وقد تقدم ذلك في الأنعام [الآية : 103].
وفي الكتب المتقدمة أن الله تعالى قال لموسى ، عليه السلام : "يا موسى ، إنه لا يراني حي إلا مات ، ولا يابس إلا تدهده" ؛ ولهذا قال تعالى : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا }
قال أبو جعفر بن جرير الطبري في تفسير هذه الآية : حدثنا أحمد بن سُهَيْل الواسطي ، حدثنا قُرَّة بن عيسى ، حدثنا الأعمش ، عن رجل ، عن أنس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لما تجلى ربه للجبل ، أشار بإصبعه فجعله دكًا" وأرانا أبو إسماعيل بإصبعه السبابة (1)
هذا الإسناد فيه رجل مبهم لم يسم ، ثم قال (2)
حدثني المثنى ، حدثنا حجَّاج بن مِنْهال ، حدثنا حَمَّاد ، عن لَيْث ، عن أنس ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا } قال : "هكذا بإصبعه - ووضع النبي صلى الله عليه وسلم إصبعه الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر - فساخ الجبل" (3)
هكذا وقع في هذه الرواية "حماد بن سلمة ، عن ليث ، عن أنس". والمشهور : "حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس" ، كما قال ابن جرير :
حدثني المثنى ، حدثنا هُدْبَة بن خالد ، حدثنا حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس قال : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا } قال : وضع الإبهام قريبًا من طرف خنصره ، قال : فساخ الجبل - قال حميد لثابت : تقول هذا ؟ فرفع ثابت يده فضرب صدر حميد ، وقال : يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقوله أنس وأنا أكتمه ؟ (4)
وهكذا رواه الإمام أحمد في مسنده : حدثنا أبو المثنى ، معاذ بن معاذ العنبري ، حدثنا حماد بن
__________
(1) تفسير الطبري (13/98).
(2) في أ : "وقال".
(3) تفسير الطبري (13/99).
(4) تفسير الطبري (13/99).

(3/469)


سلمة ، حدثنا ثابت البناني ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ [ جَعَلَهُ دَكًّا ] } (1) قال : قال هكذا - يعني أنه خرج طرف الخنصر - قال أحمد : أرانا معاذ ، فقال له حميد الطويل : ما تريد إلى هذا يا أبا محمد ؟ قال : فضرب صدره ضربة شديدة وقال : من أنت يا حميد ؟! وما أنت يا حميد ؟! يحدثني به أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فتقول أنت : ما تريد إليه ؟!
وهكذا رواه الترمذي في تفسير هذه الآية عن عبد الوهاب بن الحكم الوراق ، عن معاذ بن معاذ به. وعن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، عن سليمان بن حرب ، عن حماد [بن سلمة] (2) به (3) ثم قال : هذا حديث حسن صحيح غريب ، لا نعرفه إلا من حديث حماد.
وهكذا رواه الحاكم في مستدركه من طرق ، عن حماد بن سلمة ، به. وقال : هذا حديث صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه (4) (5)
ورواه أبو محمد الحسن (6) بن محمد الخلال ، عن محمد بن علي بن سُوَيْد ، عن أبي القاسم البغوي ، عن هدبة بن خالد ، عن حماد بن سلمة ، فذكره وقال : هذا إسناد صحيح لا علة فيه.
وقد رواه داود بن المحبر ، عن شعبة ، عن ثابت ، عن أنس مرفوعًا [وهذا ليس بشيء ، لأن داود ابن المحبر كذاب ورواه الحافظان أبو القاسم الطبراني وأبو بكر] (7) بنحوه (8)
وأسنده ابن مردويه من طريقين ، عن سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة ، عن أنس مرفوعا (9) بنحوه ، وأسنده ابن مردويه من طريق ابن البيْلِمِاني ، عن أبيه ، عن ابن عمر مرفوعا ، ولا يصح أيضًا.
وقال السُّدِّي ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس في قول الله تعالى : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } قال : ما تجلى منه إلا قدر الخنصر { جَعَلَهُ دَكًّا } قال : ترابا { وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا } قال : مغشيًا عليه. رواه ابن جرير.
وقال قتادة : { وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا } قال : ميتًا.
وقال سفيان الثوري : ساخ الجبل في الأرض ، حتى وقع في البحر فهو يذهب معه (10)
وقال سُنَيْد ، عن حجاج بن محمد الأعور ، عن أبي بكر الهذلي : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا } انقعر فدخل تحت الأرض ، فلا يظهر إلى يوم القيامة.
وجاء في بعض الأخبار أنه ساخ في الأرض ، فهو يهوي فيها إلى يوم القيامة ، رواه ابن مردويه.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من أ.
(3) المسند (3/125) وسنن الترمذي برقم (3074) ورواه ابن خزيمة في التوحيد برقم (113) من طريق معاذ بن جبل به.
(4) في أ : "يخرجه".
(5) المستدرك (2/320) ورواه ابن خزيمة في التوحيد برقم (114) وابن الأعرابي في معجمه برقم (405) من طريق عفان بن مسلم عن حماد بن سلمة به.
(6) في أ ك : "أبو محمد بن الحسن".
(7) زيادة من أ.
(8) ورواه ابن منده في الرد على الجهمية برقم (59) من طريق شعبة به.
(9) ورواه ابن عدي في الكامل (1/350) من طريق أيوب بن خوط عن قتادة عن أنس مرفوعا وأيوب بن خوط متروك الحديث.
(10) في أ : "بعد".

(3/470)


وقال ابن أبي حاتم : حدثنا عمر بن شَبَّة ، حدثنا محمد بن يحيى أبو غسان الكناني ، حدثنا عبد العزيز بن عمران ، عن معاوية بن عبد الله ، عن الجلد بن أيوب ، عن معاوية بن قُرَّة ، عن أنس بن مالك ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لما تجلى الله للجبال (1) طارت لعظمته ستة أجبل ، فوقعت ثلاثة بالمدينة وثلاثة بمكة ، بالمدينة : أحد ، وورقان ، ورضوى. ووقع بمكة : حراء ، وثَبِير ، وثور".
وهذا حديث غريب ، بل منكر (2)
وقال ابن أبي حاتم : ذكر عن محمد بن عبد الله بن أبي الثلج ، حدثنا الهَيْثَم بن خارجة ، حدثنا عثمان بن حُصَين بن عَلاق ، عن عُرْوة بن رُوَيم قال : كانت الجبال قبل أن يتجلى الله لموسى على الطور صُمًا مُلْسا ، فلما تجلى الله لموسى على الطور دك (3) وتفطرت الجبال فصارت الشقوق والكهوف.
وقال الربيع بن أنس : { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا } وذلك أن الجبل حين كشف الغطاء ورأى النور ، صار مثل دك من الدكاك. وقال بعضهم : { جَعَلَهُ دَكًّا } أي : فتته.
وقال مجاهد في قوله : { وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } فإنه أكبر منك وأشد خلقا ، { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } فنظر إلى الجبل لا يتمالك ، وأقبل الجبل فدك على أوله ، ورأى موسى ما يصنع الجبل ، فخر صعقًا.
وقال عكرمة : { جَعَلَهُ دَكًّا } قال : نظر الله إلى الجبل ، فصار صحراء ترابًا.
وقد قرأ بهذه القراءة بعض القراء ، واختارها ابن جرير ، وقد ورد فيها حديث مرفوع ، رواه بن مردويه.
والمعروف أن "الصَّعْق" هو الغشي هاهنا ، كما فسره ابن عباس وغيره ، لا كما فسره قتادة بالموت ، وإن كان ذلك صحيحًا في اللغة ، كقوله تعالى : { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } [الزمر : 68] فإن هناك قرينة تدل على الموت كما أن هنا قرينة تدل على الغشي ، وهي قوله : { فَلَمَّا أَفَاقَ } والإفاقة إنما تكون من (4) غشي.
{ قَالَ سُبْحَانَكَ } تنزيها وتعظيما وإجلالا أن يراه أحد من الدنيا إلا مات.
وقوله : { تُبْتُ إِلَيْكَ } قال مجاهد : أن أسألك الرؤية.
__________
(1) في أ : "للجبل".
(2) ورواه ابن الأعرابي في معجمه (166/2) والمحاملي في أماليه (1/172/1) كما في االسلسة الضعيفة للشيخ ناصر الألباني برقم (162) والخطيب االبغدادي في تاريخ بغداد (10/441) كلهم من طريق عبد العزيز بن عمران عن معاوية بن عبد الله به.
قال الخطيب : "هذا الحديث غريب جدا لم أكتبه إلا بهذا الإسناد" وأورده ابن الجوزي في الموضوعات (1/120) وقال : "قال ابن حبان : موضوع ، وعبد العزيز متروك يروى المناكير عن المشاهير".
(3) في أ : "صارت دكا".
(4) في ك ، م : "عن".

(3/471)


{ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } قال ابن عباس ومجاهد : من بني إسرائيل. واختاره ابن جرير. وفي رواية أخرى عن ابن عباس : { وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ } أنه لا يراك أحد. وكذا قال أبو العالية : قد كان قبله مؤمنون ، ولكن يقول : أنا أول من آمن بك أنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة.
وهذا قول حسن له اتجاه. وقد ذكر محمد بن جرير في تفسيره هاهنا أثرًا طويلا فيه غرائب وعجائب ، عن محمد بن إسحاق بن يسار [رحمه الله] (1) وكأنه تلقاه من الإسرائيليات (2) والله [تعالى] (3) أعلم.
وقوله : { وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا } فيه أبو سعيد وأبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم فأما حديث أبي سعيد ، فأسنده البخاري في صحيحه هاهنا ، فقال :
حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا سفيان ، عن عمرو بن يحيى المازني ، عن أبيه ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، قال : جاء رجل من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد لطم وجهه ، فقال : يا محمد ، إن رجلا من أصحابك من الأنصار لطم وجهي. قال : "ادعوه" فدعوه ، قال : "لم لطمت وجهه ؟" قال : يا رسول الله ، إني مررت باليهودي فسمعته يقول : والذي اصطفى موسى على البشر.
قال : قلت : وعلى محمد ؟ فأخذتني غضبة (4) فلطمته ، قال : "لا تخيروني من بين الأنبياء ، فإن الناس يصعقون يوم القيامة ، فأكون أول من يفيق ، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور".
وقد رواه البخاري في أماكن كثيرة من صحيحه ، ومسلم في أحاديث الأنبياء من صحيحه ، وأبو داود في كتاب "السنة" من سننه من طرق ، عن عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي الحسن المازني الأنصاري المدني ، عن أبيه ، عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري ، به (5)
وأما حديث أبي هريرة فقال الإمام أحمد في مسنده :
حدثنا أبو كامل ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، حدثنا ابن شهاب ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعبد الرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : استب رجلان : رجل من المسلمين ، ورجل من اليهود ، فقال المسلم : والذي اصطفى محمدًا على العالمين. وقال اليهودي : والذي اصطفى موسى على العالمين ، فغضب المسلم على اليهودي فلطمه ، فأتى اليهودي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأله فأخبره ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاعترف بذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تخيروني على موسى ؛ فإن الناس يصعقون يوم القيامة ، فأكون أول من يفيق ، فأجد موسى ممسكًا بجانب العرش ، فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي ، أم كان ممن استثناه الله ، عز وجل". أخرجاه في الصحيحين ، من حديث
__________
(1) زيادة من أ.
(2) انظر : تفسير الطبري (13/91).
(3) زيادة من م.
(4) في د : "غيظة".
(5) صحيح البخاري برقم (4638 ، 2412 ، 6917 ، 3398 ، 7427 ، 6518) وصحيح مسلم برقم (2374) وسنن أبي داود برقم (4668).

(3/472)


الزهري ، به (1)
وقد روى الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا ، رحمه الله : أن الذي لطم اليهودي في هذه القضية هو أبو بكر الصديق ، رضي الله عنه (2) ولكن تقدم في الصحيحين أنه رجل من الأنصار ، وهذا هو أصح وأصرح ، والله أعلم.
والكلام في قوله ، عليه السلام : "لا تخيروني على موسى" ، كالكلام على قوله : "لا تفضلوني على الأنبياء ولا على يونس بن متى" ، قيل : من باب التواضع. وقيل : قبل أن يعلم بذلك. وقيل : نهى أن يفضل بينهم على وجه الغضب والتعصب. وقيل : على وجه القول بمجرد الرأي والتشهي ، والله أعلم.
وقوله : "فإن الناس يصعقون يوم القيامة" ، الظاهر أن هذا الصعق يكون في عرصات القيامة ، يحصل أمر يصعقون منه ، والله أعلم به. وقد يكون ذلك إذا جاء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء ، وتجلى للخلائق الملك الديان ، كما صعق موسى من تجلي الرب ، عز وجل ، ولهذا قال ، عليه السلام : "فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور" ؟
وقد روى القاضي عياض في أوائل كتابه "الشفاء" بسنده عن محمد بن محمد بن مرزوق : حدثنا قتادة ، حدثنا الحسن ، عن قتادة ، عن يحيى بن وثاب ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "لما تجلى الله لموسى ، عليه السلام ، كان يبصر النملة على الصفا في الليلة الظلماء ، مسيرة عشرة فراسخ" (3) ثم قال : "ولا يبعد على هذا أن يختص نبيا بما ذكرناه من هذا الباب ، بعد الإسراء والحظوة بما رأى من آيات ربه الكبرى.
انتهى ما قاله ، وكأنه صحح هذا الحديث ، وفي صحته نظر ، ولا يخلو رجال إسناده من مجاهيل لا يعرفون ، ومثل هذا إنما يقبل من رواية العدل الضابط عن مثله ، حتى ينتهي إلى منتهاه ، والله أعلم.
__________
(1) المسند (2/264) وصحيح البخاري برقم (3408 ، 2411) وصحيح مسلم برقم (2373).
(2) قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (6/443) : "وأما كون اللاطم في هذه القصة الصديق فهو مصرح به فيما أخرجه سفيان بن عيينة في جامعة وابن أبي الدنيا في "كتاب البعث" من طريقه عن عمرو بن دينار ، عن عطاء وابن جدعان ، عن سعيد بن المسيب قال : كان بين رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وبين رجل من اليهود كلام في شيء فقال عمرو بن دينار : هو أبو بكر الصديق".
(3) الشفا (1/165).

(3/473)


قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)

{ قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) }
يذكر تعالى أنه خاطب موسى [عليه السلام] (1) بأنه اصطفاه على عالمي زمانه برسالاته وبكلامه (2) تعالى ولا شك أن محمدًا صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم من الأولين والآخرين ؛ ولهذا اختصه الله بأن
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ك ، م : "وكلامه".

(3/473)


سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآَخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)

جعله خاتم الأنبياء والمرسلين ، التي (1) تستمر شريعته إلى قيام الساعة ، وأتباعه أكثر من أتباع سائر الأنبياء والمرسلين كلهم ، وبعده في الشرف والفضل إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، ثم موسى [بن عمران] (2) كليم الرحمن ، عليه السلام ؛ ولهذا قال الله تعالى له : { فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ } أي : من الكلام [والوحي] (3) والمناجاة { وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ } أي : على ذلك ، ولا تطلب ما لا طاقة لك به.
ثم أخبر تعالى أنه كتب له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء ، قيل : كانت الألواح من جوهر ، وأن الله تعالى كتب له فيها مواعظ وأحكاما مفصلة مبينة للحلال والحرام ، وكانت هذه الألواح مشتملة على التوراة التي قال الله [تعالى] (4) فيها : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ } [القصص : 43]
وقيل : الألواح أعطيها موسى قبل التوراة ، فالله أعلم. وعلى كل تقدير كانت (5) كالتعويض له عما سأل من الرؤية ومنع منه ، والله أعلم.
وقوله : { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } أي : بعزم على الطاعة { وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا } قال سفيان بن عيينة : حدثنا أبو سعد (6) عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : أمر موسى - عليه السلام - أن يأخذ بأشد ما أمر قومه.
وقوله : { سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } أي : سترون (7) عاقبة من خالف أمري ، وخرج عن طاعتي ، كيف يصير إلى الهلاك والدمار والتباب ؟
قال ابن جرير : وإنما قال : { سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } كما يقول القائل لمن يخاطبه : "سأريك غدا إلام يصير إليه حال من خالف أمري" ، على وجه التهديد والوعيد لمن عصاه وخالف أمره.
ثم نقل معنى ذلك عن مجاهد ، والحسن البصري.
وقيل : معناه { سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ } أي : من أهل الشام ، وأعطيكم إياها. وقيل : منازل قوم فرعون ، والأول أولى ، والله أعلم ؛ لأن هذا كان بعد انفصال موسى وقومه عن بلاد مصر ، وهو خطاب لبني إسرائيل قبل دخولهم التيه ، والله أعلم.
{ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) }
يقول تعالى : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } أي : سأمنع فهم (8) الحجج
__________
(1) في أ : "الذي".
(2) زيادة من م ، أ.
(3) زيادة من م.
(4) زيادة من ك ، م ، أ.
(5) في ، م ، ك ، أ : "فكانت".
(6) في أ : "أبو سعيد".
(7) في أ : "أي : ستروا".
(8) في أ : "منهم".

(3/474)


وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)

والأدلة على عظمتي وشريعتي وأحكامي قلوب المتكبرين عن طاعتي ، ويتكبرون على الناس (1) بغير حق ، أي : كما استكبروا بغير حق أذلهم الله بالجهل ، كما قال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [الأنعام : 110] وقال تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [الصف : 5]
وقال بعض السلف : لا ينال العلم حيي ولا مستكبر.
وقال آخر : من لم يصبر على ذل التعلم ساعة ، بقي في ذل الجهل أبدا.
وقال سفيان بن عُيَينة في قوله : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } قال : أنزع عنهم فهم القرآن ، وأصرفهم عن آياتي.
قال ابن جرير : وهذا يدل على أن هذا خطاب لهذه الأمة (2)
قلت : ليس هذا بلازم ؛ لأن ابن عيينة إنما أراد أن هذا مطرد في حق كل أمة ، ولا فرق بين أحد وأحد في هذا ، والله أعلم.
وقوله : { وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا } كما قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ } [يونس : 96 ، 97].
وقوله : { وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا } أي : وإن ظهر لهم سبيل الرشد ، أي : طريق النجاة لا يسلكوها ، وإن ظهر لهم طريق الهلاك والضلال يتخذوه سبيلا.
ثم علل مصيرهم إلى هذه الحال بقوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا } أي : كذبت بها قلوبهم ، { وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ } أي : لا يعلمون شيئًا مما فيها.
وقوله : { وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } أي : من فعل منهم ذلك واستمر عليه إلى الممات ، حبط عمله.
وقوله : { هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي : إنما نجازيهم بحسب (3) أعمالهم التي أسلفوها ، إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر ، وكما تدين تدان.
{ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) }
يخبر تعالى عن ضلال من ضل من بني إسرائيل في عبادتهم العجل ، الذي اتخذه لهم السامري من حلي القبط ، الذي كانوا استعاروه منهم ، فشكل لهم منه عجلا ثم ألقى فيه القبضة من التراب التي أخذها من أثر فرس جبريل ، عليه السلام ، فصار عجلا جسدا له خوار ، و"الخوار" صوت البقر.
__________
(1) في أ : "على الله".
(2) تفسير الطبري (13/113).
(3) في أ : "نجازيهم إلا بحسب".

(3/475)


وكان هذا منهم بعد ذهاب موسى [عليه السلام] (1) لميقات ربه تعالى ، وأعلمه الله تعالى بذلك وهو على الطور ، حيث يقول تعالى إخبارا عن نفسه الكريمة : { قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ } [طه : 85]
وقد اختلف المفسرون في هذا العجل : هل صار لحما ودما له خوار ؟ أو استمر على كونه من ذهب ، إلا أنه يدخل فيه الهواء فيصوت كالبقر ؟ على قولين ، والله أعلم. ويقال : إنهم لما صَوّت لهم العجل رَقَصُوا حوله وافتتنوا به ، { فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ } [طه : 88] فقال الله تعالى : { أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا } [طه : 89]
وقال في هذه الآية الكريمة : { أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا } ينكر تعالى عليهم في ضلالهم بالعجل ، وذُهُولهم عن خالق السماوات والأرض وربّ كل شيء ومليكه ، أن عبدوا (2) معه عجلا جسدًا له خُوَار لا يكلمهم ، ولا يرشدهم إلى خير. ولكن غَطَّى على أعيُن بصائرهم (3) عَمَى الجهل والضلال ، كما تقدم من رواية الإمام أحمد وأبو داود ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "حبك الشيء يُعْمي ويُصِم" (4)
وقوله : { وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ } أي : ندموا على ما فعلوا ، { وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا } وقرأ بعضهم : "لئن لم ترحمنا" بالتاء المثناة من فوق ، "ربنا" منادى ، "وتَغْفِر لنا" ، { لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } أي : من الهالكين وهذا اعتراف منهم بذنبهم والتجاء إلى الله عز وجل.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في م : "يعبدوا".
(3) في م : "أبصارهم".
(4) المسند (5/194) وسنن أبي داود برقم (5130) وقد رواه الإمام أحمد في مسنده (6/450) موقوفا ، قال الحافظ ابن حجر في أجوبته عن أحاديث المصابيح : "الموقوف أشبه".

(3/476)


وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)

{ وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) }
يخبر تعالى أن موسى ، عليه السلام ، رجع إلى قومه من مناجاة ربه تعالى وهو غضبان أسف.
قال أبو الدرداء "الأسف" : أشد الغضب.
{ قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي } يقول : بئس ما صنعتم في عبادتكم العجل بعد أن ذهبت وتركتكم.
وقوله : { أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ } ؟ يقول : استعجلتم مجيئي إليكم ، وهو مقدر من الله تعالى.
وقوله : { وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ } قيل : كانت الألواح من زُمُرُّد. وقيل : من

(3/476)


إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآَمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)

ياقوت. وقيل : من بَرَد وفي هذا دلالة على ما جاء في الحديث : "ليس الخبر كالمعاينة" (1)
ثم ظاهر السياق أنه إنما ألقى الألواح غضبًا على قومه ، وهذا قول جمهور العلماء سلفا وخلفا. وروى ابن جرير عن قتادة في هذا قولا غريبًا ، لا يصح إسناده إلى حكاية قتادة ، وقد رَدّه ابن عطية وغير واحد من العلماء ، وهو جدير بالرد ، وكأنه تَلَقَّاه قتادة عن بعض أهل الكتاب ، وفيهم كذابون ووَضّاعون وأفاكون وزنادقة.
وقوله : { وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ } خوفًا أن يكون قد قَصَّر في نهيهم ، كما قال في الآية الأخرى : { قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي. قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } [طه : 92 - 94] وقال هاهنا : { ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } أي : لا تَسُقني مَسَاقهم ، ولا تخلطني معهم. وإنما قال : { ابْنَ أُمَّ } ؛ لتكون (2) أرأف وأنجع عنده ، وإلا فهو شقيقه لأبيه وأمه. فلما تحقق موسى ، عليه السلام ، براءة ساحة هارون [عليه السلام] (3) كما قال تعالى : { وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي } [طه : 90] فعند ذلك قال موسى : { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ }
قال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا عفان ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن أبي بِشْر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال النبي (4) صلى الله عليه وسلم "يرحم (5) الله موسى ، ليس المعاين كالمخبر ؛ أخبره ربه ، عز وجل ، أن قومه فتنوا بعده ، فلم يلق الألواح ، فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح" (6)
{ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) }
أما الغضب الذي نال بني إسرائيل في عبادة العجل ، فهو أن الله تعالى لم يقبل لهم توبة ، حتى قَتَل بعضهم بعضًا ، كما تقدم في سورة البقرة : { فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [البقرة : 54]
وأما الذلة فأعقبهم ذلك ذلا وصغارًا (7) في الحياة الدنيا ، وقوله : { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ } نائلة
__________
(1) رواه أحمد في مسنده (1/271) من حديث ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ليس الخبر كالمعاينة إن الله ، عز وجل ، أخبر موسى بما صنع قومه في العجل ، فلم يلق الألواح ، فلما عاين ما صنعوا ألقى الألواح فانكسرت".
(2) في ك ، م : "ليكون".
(3) زيادة من ك ، أ.
(4) في ك ، أ : "رسول الله"
(5) في م : "رحم".
(6) ورواه الحاكم في المستدرك (2/380) من طريق أبي بشر ، به. وقال : "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" وفي تلخيص الذهبي : "سمعه من أبي بشر ثقتان".
(7) في أ : "فأعقبهم ذل وصغار".

(3/477)


وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)

لكل من افترى بدعة ، فإن ذُلَّ البدعة ومخالفة الرسالة (1) متصلة من قلبه على كتفيه ، كما قال الحسن البصري : إن ذل البدعة على أكتافهم ، وإن هَمْلَجَت بهم البغلات ، وطقطقت بهم البراذين.
وهكذا روى أيوب السَّخْتَيَاني ، عن أبي قِلابة الجَرْمي ، أنه قرأ هذه الآية : { وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ } قال : هي والله لكل مفتر إلى يوم القيامة.
وقال سفيان بن عيينة : كل صاحب بدعة ذليل.
ثم نبه تعالى عباده وأرشدهم إلى أنه يقبل توبة عباده من أي ذنب كان ، حتى ولو كان من كفر أو شرك أو نفاق أو شقاق ؛ ولهذا عقب هذه القصة بقوله : { وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ } أي : يا محمد ، يا رسول الرحمة ونبي النور (2) { مِنْ بَعْدِهَا } أي : من بعد تلك الفعلة { لَغَفُورٌ رَحِيمٌ }
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا مسلم بن إبراهيم ، حدثنا أبان ، حدثنا قتادة ، عن عَزْرَة (3) عن الحسن العُرَفي ، عن عَلْقَمة ، عن عبد الله بن مسعود ؛ أنه سئل عن ذلك - يعني عن الرجل يزني بالمرأة ، ثم يتزوجها - فتلا هذه الآية : { وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } فتلاها عبد الله عشر مرات ، فلم يأمرهم (4) بها ولم ينههم عنها.
{ وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الألْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) }
يقول تعالى : { وَلَمَّا سَكَتَ } أي : سكن { عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ } أي : غضبه على قومه { أَخَذَ الألْوَاحَ } أي : التي كان ألقاها من شدة الغضب على عبادتهم العجل ، غيرةً لله وغضبًا له { وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ }
يقول كثير من المفسرين : إنها لما ألقاها تكسرت ، ثم جمعها بعد ذلك ؛ ولهذا قال بعض السلف : فوجد فيها هدى ورحمة. وأما التفصيل فذهب ، وزعموا أن رضاضها لم يزل موجودا في خزائن الملوك لبني إسرائيل إلى الدولة الإسلامية ، والله أعلم بصحة هذا. وأما الدليل القاطع على أنها تكسرت حين ألقاها ، وهي من جوهر الجنة (5) فقد (6) أخبر [الله] (7) تعالى أنه لما أخذها بعد ما ألقاها وجد فيها هدى ورحمة.
{ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } ضمن الرهبة معنى الخضوع ؛ ولهذا عدَّاها باللام. وقال قتادة : في قوله تعالى : { أَخَذَ الألْوَاحَ } قال : رب ، إني أجدُ في الألواح أمة خير أمة أخرجت للناس ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، فاجعلهم (8) أمتي. قال : تلك أمة أحمد. قال : رب ، إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون - أي آخرون في الخَلْقِ - السابقون (9) في دخول الجنة ،
__________
(1) في م : "الرسل".
(2) في ك ، م ، أ : "التوبة".
(3) في م : "عروة".
(4) في ك ، م : "يأمر".
(5) في أ : "من جوهر من الجنة".
(6) في ك : "وقد".
(7) زيادة من أ.
(8) في د ، ك ، م ، أ : "اجعلهم".
(9) في د ، أ : "سابقون".

(3/478)


وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)

رب اجعلهم أمتي. قال : تلك أمة أحمد. قال : رب ، إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرءونها - كتابهم - وكان من قبلهم يقرءون كتابهم نظرا ، حتى إذا رفعوها لم يحفظوا [منها] (1) شيئًا ، ولم يعرفوه. قال قتادة : وإن الله أعطاهم أيتها الأمة من الحفظ شيئا لم يعطه (2) أحدًا من الأمم. قال : رب ، اجعلهم أمتي. قال : تلك أمة أحمد. قال : رب ، إني أجد في الألواح أمة يؤمنون بالكتاب الأول ، وبالكتاب الآخر ، ويقاتلون فصول الضلالة ، حتى يقاتلوا (3) الأعور الكذاب ، فاجعلهم أمتي. قال : تلك أمة أحمد. قال : رب ، إني أجد في الألواح أمة صدقاتهم يأكلونها في بطونهم ، ويؤجرون عليها - وكان مَنْ قبلهم من الأمم إذا تصدق بصدقة فقبلت منه ، بعث الله عليها نارًا فأكلتها ، وإن ردت عليه تُركَت ، فتأكلها السباع والطير ، وإن الله أخذ صدقاتكم من غنيكم لفقيركم (4) - قال : رب ، اجعلهم أمتي. قال : تلك أمة أحمد. قال رب ، إني أجد في الألواح أمة إذا همّ أحدهم بحسنة ثم لم يعملها ، كتبت له حسنة ، فإن عملها ، كتبت له عشر أمثالها إلى سبعمائة [ضعف] (5) رب اجعلهم أمتي. قال : تلك أمة أحمد. قال : رب ، إني أجد في الألواح أمة إذا هَم أحدهم بسيئة لم تكتب عليه حتى يعملها ، فإذا عملها كتبت عليه سيئة واحدة ، فاجعلهم أمتي : قال : تلك أمة أحمد. قال : رب ، إني أجد في الألواح أمة هم المستجيبون والمستجاب لهم ، فاجعلهم أمتي. قال : تلك أمة أحمد. قال : رب ، إني أجد في الألواح أمة هم المشفَّعون والمشفوع لهم ، فاجعلهم أمتي. قال : تلك أمة أحمد. قال : قتادة فذكر لنا أن نبي الله موسى [عليه السلام] (6) نبذ الألواح ، وقال اللهم اجعلني من أمة أحمد (7)
{ وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) }
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ك ، م ، أ : "يعط".
(3) في ك ، م : "يقاتلون" وهو خطأ.
(4) في ك : "غنيهم لفقيرهم".
(5) زيادة من أ.
(6) زيادة من أ.
(7) تفسير الطبري (13/124).

(3/479)


وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)

{ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) }
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في تفسير هذه الآية : كان الله أمرَه أن يختار من قومه سبعين رجلا فاختار سبعين رجلا فبرز بهم ليدعوا ربهم ، فكان فيما دَعَوُا الله قالوا : اللهم أعطنا ما لم تعطه أحدا قبلنا ولا تعطه أحدا بعدنا فكره الله ذلك من دعائهم ، فأخذتهم الرجفة ، قال موسى : { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ } الآية.
وقال السُّدِّي : إن الله أمر موسى أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل ، يعتذرون إليه من عبادة العجل ، ووعدهم موعدا ، فاختار موسى قومه سبعين رجلا على عينه ، ثم ذهب بهم ليعتذروا. فلما أتوا ذلك المكان قالوا : لن نؤمن لك يا موسى حتى نرى الله جهرة ، فإنك قد كلمته ، فأرناه. فأخذتهم

(3/479)


الصاعقة فماتوا ، فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول : رب ، ماذا أقول لبني إسرائيل إذا لقيتهم (1) وقد أهلكت خيارهم ؟ { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ }
وقال محمد بن إسحاق : اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلا الخيّرَ فالخيّر ، وقال : انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم ، وسَلُوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم ، صوموا وتطهَّروا ، وطهِّروا ثيابكم. فخرج بهم إلى طُور سَيْناء ، لميقات وقَّته له ربه ، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم - فقال له السبعون - فيما ذكر لي - حين صنعوا ما أمرهم به ، وخرجوا معه للقاء ربه ، [فقالوا] (2) لموسى : اطلب لنا نسمع كلام ربنا. فقال : أفعل. فلما دنا موسى من الجبل ، وقع عليه عمودُ الغمام ، حتى تَغَشَّى الجبل كله. ودنا موسى فدخل فيه ، وقال للقوم : ادنوا. وكان موسى إذا كلمه (3) الله وقع على جبهة موسى نور ساطع ، لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه. فضرب دونه بالحجاب. ودنا القوم ، حتى إذا دخلوا وقعوا سُجُودا (4) فسمعوه وهو يكلم موسى ، يأمره وينهاه : افعل ، ولا تفعل. فلما فرغ إليه من أمره ، انكشف عن موسى الغمام ، فأقبل إليهم ، فقالوا لموسى : لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. فأخذتهم الرجفة - وهي الصاعقة - فافتُلتَت (5) أرواحهم ، فماتوا جميعا. فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ، ويقول : { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ } قد سفهوا ، أفنهلك من ورائي من بني إسرائيل.
وقال سفيان الثوري : حدثني أبو إسحاق ، عن عمارة بن عبد السَّلُولي ، عن علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه ، قال : انطلق موسى وهارون وشبر وشبير ، فانطلقوا إلى سفح جَبَل ، فنام (6) هارون على سرير ، فتوفاه الله ، عز وجل. فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا له : أين هارون ؟ قال : توفاه الله ، عز وجل. قالوا [له] (7) أنت قتلته ، حَسَدتنا على خُلقه ولينه - أو كلمة نحوها - قال : فاختاروا من شئتم. قال : فاختاروا سبعين رجلا. قال : فذلك قوله تعالى : { وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا } فلما انتهوا إليه قالوا : يا هارون ، من قتلك ؟ قال : ما قتلني أحد ، ولكن توفاني الله. قالوا : يا موسى ، لن تعصى بعد اليوم. قال : فأخذتهم الرجفة. قال : فجعل موسى ، عليه السلام ، يرجع يمينًا وشمالا وقال : يا { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ } قال : فأحياهم الله وجعلهم أنبياء كلهم.
هذا أثر غريب جدا ، وعمارة بن عبد (8) هذا لا أعرفه. وقد رواه شعبة ، عن أبي إسحاق عن رجل من بني سلول عن علي ، فذكره (9)
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن جُرَيْج : إنما أخذتهم الرجفة لأنهم لم يزايلوا قومهم في عبادتهم العجل ، ولا نهوهم ، ويتوجه هذا القول بقول موسى : { أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا }
__________
(1) في أ : "أتيتهم".
(2) زيادة من أ.
(3) في ك : "كلم".
(4) في أ : "سجدا".
(5) في أ : "فالتقت".
(6) في أ : "فقام".
(7) زيادة من ك.
(8) في ك : "عبيد".
(9) تفسير الطبري (13/142) وفي إسناده عمارة بن عبد السلولي. قال الذهبي في ميزان الاعتدال : "عمارة بن عبد ، عن علي ، مجهول لا يحتج به. قاله أبو حاتم. وقال أحمد : مستقيم الحديث لا يروى عنه غير أبي إسحاق".

(3/480)


وقوله : { إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ } أي : ابتلاؤك واختبارك وامتحانك. قاله ابن عباس ، وسعيد بن جبير ، وأبو العالية ، وربيع بن أنس ، وغير واحد من علماء السلف والخلف. ولا معنى له غير ذلك ؛ يقول : إن الأمرُ إلا أمرُك ، وإن الحكمُ إلا لك ، فما شئت كان ، تضل من تشاء ، وتهدي من تشاء ، ولا هادي لمن أضللت ، ولا مُضِل لمن هَدَيت ، ولا مُعطِي لما مَنَعت ، ولا مانع لما أعطيت ، فالملك كله لك ، والحكم كله لك ، لك الخلق والأمر.
وقوله : { أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } الغَفْر هو : الستر ، وترك المؤاخذة بالذنب ، والرحمة إذا قرنت مع الغفر ، يراد بها ألا يوقعه في مثله في المستقبل ، { وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ } أي : لا يغفر الذنوب إلا أنت ، { وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ } هناك الفصل الأول من الدعاء دفع المحذور ، وهذا لتحصيل المقصود { وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ } أي : أوجب لنا وأثبت لنا فيهما حسنة ، وقد تقدم [تفسير] (1) ذلك في سورة البقرة. [الآية : 201]
{ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ } أي : تبنا ورجعنا وأنبنا إليك. قاله ابن عباس ، وسعيد بن جُبَير ، ومجاهد ، وأبو العالية ، والضحاك ، وإبراهيم التيمي ، والسُّدِّي ، وقتادة ، وغير واحد. وهو كذلك لُغَة.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا أبي ، عن شريك ، عن جابر ، عن عبد الله بن نُجيَّ (2) عن علي [رضي الله عنه] (3) قال : إنما سميت اليهود لأنهم قالوا : { إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ }
جابر - هو ابن يزيد الجُعْفي - ضعيف.
قال تعالى مجيبا لموسى في قوله : { إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ [ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ ] } (4) الآية : { عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ] } (5) أي : أفعل ما أشاء ، وأحكم ما أريد ، ولي الحكمة والعدل في كل ذلك ، سبحانه لا إله إلا هو.
وقوله تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } آية عظيمة الشمول والعموم ، كقوله إخبارًا عن حَمَلة العرش ومن حوله أنهم يقولون : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا } [غافر : 7]
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا أبي ، حدثنا الجُرَيري ، عن أبي عبد الله الجُشَمي ، حدثنا جُنْدُب - هو ابن عبد الله البَجَلي ، رضي الله عنه - قال : جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم عَقَلها ثم صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى راحلته فأطلق عقالها ، ثم ركبها ، ثم نادى : اللهم ، ارحمني ومحمدًا ، ولا تشرك في رحمتنا أحدًا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أتقولون هذا أضل أم بعيره ؟ ألم تسمعوا ما قال ؟" قالوا : بلى. قال : "لقد حَظَرْت (6) رحمةً واسعة ؛ إن الله ، عز
__________
(1) زيادة من ك ، م ، أ.
(2) في أ : "يحيى".
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من ك ، م ، أ.
(5) زيادة من م.
(6) في د : "حجرت".

(3/481)


وجل ، خلق مائة رحمة ، فأنزل رحمة واحدة يتعاطف بها الخلق ؛ جنّها وإنسها وبهائمها ، وأخَّرَ عنده تسعًا وتسعين (1) رحمة ، أتقولون هو أضل أم بعيره ؟ ".
رواه أبو داود عن علي بن نصر ، عن عبد الصمد بن عبد الوارث ، به (2)
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا يحيى بن سعيد عن سليمان ، عن أبي عثمان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن لله عز وجل ، مائة رحمة ، فمنها رحمة يتراحمُ بها الخلق ، وبها تعطف الوحوش على أولادها ، وأخر تسعًا وتسعين إلى يوم القيامة".
تفرد (3) بإخراجه مسلم ، فرواه من حديث سُلَيمان - هو ابن طِرْخان - وداود بن أبي هند كلاهما ، عن أبي عثمان - واسمه عبد الرحمن بن مل (4) - عن سلمان ، هو الفارسي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، به (5)
وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد ، عن عاصم بن بَهْدَلَة ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة ؛ أن النبي (6) صلى الله عليه وسلم قال : "لله مائة رحمة ، عنده تسعة وتسعون ، وجعل عندكم واحدة تتراحمون بها بين (7) الجن والإنس وبين الخلق ، فإذا كان يوم القيامة ضمها إليه". تفرد به أحمد من هذا الوجه (8)
وقال أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا عبد الواحد ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لله مائة رحمة ، فقسم منها جزءًا واحدًا بين الخلق ، فيه يتراحم الناس والوحش والطير".
ورواه ابن ماجه من حديث أبي معاوية ، عن الأعمش ، به (9)
وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، حدثنا أحمد بن يونس ، حدثنا سعد أبو غَيْلان الشيباني ، عن حماد بن أبي سليمان ، عن إبراهيم ، عن صلة بن زُفَر ، عن حذيفة بن اليمان ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "والذي نفسي بيده ، ليدخلن الجنة الفاجرُ في دينه ، الأحمق في معيشته. والذي نفسي بيده ، ليدخلن الجنة الذي قد مَحَشته النار بذنبه. والذي نفسي بيده ، ليغفرن الله يوم القيامة مغفرة يتطاول لها إبليس رجاء أن تصيبه".
هذا حديث غريب (10) جدا ، "وسعد" هذا لا أعرفه (11)
وقوله : { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } الآية ، يعني : فسأوجب حُصُول رحمتي مِنَّةً مني وإحسانا إليهم ، كما قال تعالى : { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } [الأنعام : 54]
__________
(1) في ك ، م : "تسعا وتسعون" ، وفي أ : "تسع وتسعون".
(2) المسند (4/312) وسنن أبي داود برقم (4885).
(3) في ك ، م ، أ : "انفرد".
(4) في أ : "بن مثل".
(5) المسند (5/439) وصحيح مسلم برقم (2753).
(6) في ك ، أ : "عن النبي" ، وفي م : "عن رسول الله".
(7) في أ : "من".
(8) المسند (3/55).
(9) المسند (3/55) ، وسنن ابن ماجة برقم (4294).
(10) في أ : "هذا الأثر".
(11) المعجم الكبير (3/168) وقال الهيثمي في المجمع (10/216) : "سعيد بن طالب أبو غيلان وثقه أبو زرعة وابن حبان ، وفيه ضعف وبقية رجاله ثقات".

(3/482)


الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)

وقوله : { لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } أي : سأجعلها للمتصفين بهذه الصفات ، وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم الذين يتقون ، أي : الشرك والعظائم من الذنوب.
{ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } قيل : زكاة النفوس. وقيل : [زكاة] (1) الأموال. ويحتمل أن تكون عامة لهما ؛ فإن الآية مكية { وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } أي : يصدقون.
{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) }
{ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ } وهذه صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتب الأنبياء بشروا أممهم ببعثه (2) وأمروهم بمتابعته ، ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم كما قال الإمام أحمد :
حدثنا إسماعيل ، عن الجُرَيري ، عن أبي صخر العقيلي ، حدثني رجل من الأعراب ، قال : جلبت جَلُوبَةً إلى المدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما فرغت من بيعتي (3) قلت : لألقين هذا الرجل فلأسمعن منه ، قال : فتلقاني بين أبي بكر وعمر يمشون ، فتبعتهم في أقفائهم حتى أتوا على رجل من اليهود ناشرًا التوراة يقرؤها ، يعزي بها نفسه عن ابن له في الموت كأحسن الفتيان وأجمله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أنشدك بالذي أنزل التوراة ، هل تجد (4) في كتابك هذا صفتي ومخرجي ؟" فقال برأسه هكذا ، أي : لا. فقال ابنه ، إي : والذي أنزل التوراة إنا لنجد في كتابنا صفتك ومَخرجك ، وإني أشهد أن لا إله إلا الله ، وأنك (5) رسول الله فقال : "أقيموا اليهودي عن أخيكم". ثم ولى كفنه (6) والصلاة عليه (7)
هذا حديث جيد قوي له شاهد في الصحيح ، عن أنس.
وقال الحاكم صاحب المستدرك : أخبرنا أبو محمد - عبد الله بن إسحاق البغوي ، حدثنا إبراهيم بن الهيثم البلدي (8) حدثنا عبد العزيز بن مسلم بن إدريس ، حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن شُرَحْبِيل بن مسلم ، عن أبي أمامة الباهلي ، عن هشام بن العاص الأموي قال : بعثت أنا ورجل آخر إلى هرقل صاحب الروم ندعوه إلى الإسلام ، فخرجنا حتى قدمنا الغوطة - يعني غوطة دمشق - فنزلنا على جبلة بن الأيهم الغساني ، فدخلنا عليه ، فإذا هو على سرير له ، فأرسل إلينا برسوله نكلمه ، فقلنا : والله لا نكلم رسولا إنما بعثنا إلى الملك ، فإن أذن لنا كلمناه (9) وإلا لم نكلم
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ك ، م ، أ : "ببعثته".
(3) في د : "بيعي".
(4) في أ : "هل تجدني".
(5) في ك : "وأشهد أنك".
(6) في ك ، م ، أ : "ثم ولى كفنه وحنطه".
(7) المسند (5/411).
(8) في أ : "البكري".
(9) في د : "تكلمنا".

(3/483)


الرسول (1) فرجع إليه الرسول فأخبره بذلك ، قال : فأذن لنا فقال : تكلموا (2) فكلّمه هشام بن العاص ، ودعاه إلى الإسلام ، فإذا عليه ثيابُ سوادٍ (3) فقال له هشام : وما هذه التي عليك ؟ فقال : لبستها وحلفت ألا أنزعها حتى أخرجكم من الشام. قلنا : ومجلسك هذا ، والله (4) لنأخذنه منك ، ولنأخذن ملك الملك الأعظم ، إن شاء الله ، أخبرنا بذلك نبينا (5) صلى الله عليه وسلم. قال : لستم بهم ، بل هم قوم يصومون بالنهار ، ويقومون بالليل ، فكيف صومكم ؟ فأخبرناه ، فمُلئ وجهه سوادًا فقال : قوموا. وبعث معنا رسولا إلى الملك ، فخرجنا ، حتى إذا كنا قريبًا من المدينة ، قال لنا الذي معنا : إن دوابكم هذه لا تدخل مدينة الملك ، فإن شئتم حملناكم على براذين وبغال ؟ قلنا : والله لا ندخل إلا عليها ، فأرسلوا إلى الملك أنهم يأبون ذلك. فدخلنا على رواحلنا متقلدين سيوفنا ، حتى انتهينا إلى غرفة (6) فأنخنا في أصلها وهو ينظر إلينا ، فقلنا : لا إله إلا الله ، والله أكبر فالله يعلم لقد تَنَفَّضَت الغرفة حتى صارت كأنها عِذْق تصَفّقه الرياح ، فأرسل (7) إلينا : ليس لكم أن تجهروا علينا بدينكم. وأرسل إلينا : أن ادخلوا فدخلنا عليه وهو على فراش له ، وعنده بطارقته من الروم ، وكل شيء في مجلسه أحمر ، وما حوله حمرة ، وعليه ثياب من الحمرة ، فدنونا منه فضحك ، فقال : ما كان عليكم لو حييتموني بتحيتكم فيما بينكم ؟ وإذا عنده رجل فصيح بالعربية ، كثير الكلام ، فقلنا : إن تحيتنا فيما بيننا لا تحل لك ، وتحيتك التي تُحيى بها لا تحل (8) لنا أن نحييك بها. قال : كيف تحيتكم فيما بينكم ؟ قلنا : السلام عليك. قال : وكيف تحيون ملككم ؟ قلنا : بها. قال : وكيف يرد عليكم ؟ قلنا : بها. قال : فما أعظم كلامكم ؟ قلنا : لا إله إلا الله ، والله أكبر فلما تكلمنا بها والله يعلم - لقد تَنَفَّضت الغرفة حتى رفع رأسه إليها ، قال : فهذه الكلمة التي قلتموها حيث تنفضت الغرفة ، كلما قلتموها في بيوتكم تنفضت عليكم غرفكم ؟ قلنا : لا ما رأيناها فعلت هذا قط إلا عندك. قال : لوددت أنكم كلما قلتم تَنَفَّضَ كل شيء عليكم. وإني خرجت (9) من نصف ملكي. قلنا : لم ؟ قال : لأنه كان أيسر لشأنها ، وأجدر ألا تكون من أمر النبوة ، وأنها (10) تكون من حيل الناس. ثم سألنا عما أراد فأخبرناه. ثم قال : كيف صلاتكم وصومكم ؟ فأخبرناه ، فقال : قوموا فقمنا. فأمر لنا بمنزل حسن ونزل كَثير ، فأقمنا ثلاثًا.
فأرسل إلينا ليلا فدخلنا عليه ، فاستعاد قولنا ، فأعدناه. ثم دعا بشيء كهيئة الرَّبْعَةِ العظيمة مذهبة ، فيها بيوت صغار عليها أبواب ، ففتح بيتا وقفلا فاستخرج حريرة سوداء ، فنشرها ، فإذا فيها صورة حمراء ، وإذا فيها رجل ضخم العينين. عظيم الأليتين ، لم أر مثل طول عنقه ، وإذا ليست له لحية ، وإذا له ضفيرتان أحسن ما خلق الله. قال : أتعرفون هذا ؟ قلنا : لا. قال : هذا آدم ، عليه السلام ، وإذا هو أكثر الناس شعرًا.
ثم فتح بابًا آخر ، فاستخرج منه حريرة سوداء ، وإذا فيها صورة بيضاء ، وإذا له شعر كشعر القطط ، أحمر العينين ، ضخم الهامة ، حسن اللحية ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا. قال : هذا
__________
(1) في ك : "الرسل".
(2) في ك : "فتكلموا".
(3) في أ : "سود".
(4) في د ، ك ، م : "فوالله".
(5) في أ : "نبينا محمد".
(6) في أ : "غرفة له".
(7) في د : "قال فأرسل".
(8) في د ، م : "لا يحل".
(9) في د. "وأني قد خرجت".
(10) في ك ، م : "أن".

(3/484)


نوح ، عليه السلام.
ثم فتح بابًا آخر ، فاستخرج (1) حريرة سوداء ، وإذا فيها رجل شديد البياض ، حسن العينين ، صَلْت الجبين ، طويل الخد ، أبيض اللحية كأنه يبتسم ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا. قال : هذا إبراهيم ، عليه السلام.
ثم فتح بابا آخر (2) فإذا فيه صورة بيضاء ، وإذا - والله - رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (3) أتعرفون هذا ؟ قلنا : نعم ، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وبكينا. قال : والله يعلم أنه قام قائما ثم جلس ، وقال : والله إنه لهو ؟ قلنا : نعم ، إنه لهو ، كأنك تنظر إليه ، فأمسك ساعة ينظر إليها ، ثم قال : أما إنه كان آخر البيوت ، ولكني عَجَّلته لكم لأنظر ما عندكم.
ثم فتح بابا آخر ، فاستخرج منه حريرة سوداء ، فإذا فيها صورة أدماء سحماء (4) وإذا رجل جعد قطط ، غائر العينين ، حديد النظر ، عابس متراكب الأسنان ، مقلَّص (5) الشفة كأنه غضبان ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا. قال : هذا موسى (6) عليه السلام. وإلى جانبه صورة تشبهه ، إلا أنه مُدْهَان الرأس ، عريض الجبين ، في عينيه قبل ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا. قال : هذا هارون بن عمران ، عليه السلام.
ثم فتح بابًا آخر ، فاستخرج منه حريرة بيضاء ، فإذا فيها صورة رجل آدم سَبْط رَبْعَة ، كأنه غضبان ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا. قال : هذا لوط ، عليه السلام.
ثم فتح بابًا آخر ، فاستخرج منه حريرة بيضاء ، فإذا فيها صورة رجل أبيض مُشْرَب حُمرة ، أقنى ، خفيف العارضين ، حسن الوجه فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا. قال هذا إسحاق ، عليه السلام.
ثم فتح بابًا آخر ، فاستخرج (7) حريرة بيضاء ، فإذا فيها صورة تشبه إسحاق ، إلا أنه على شفته خال ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا. [قال] (8) هذا يعقوب ، عليه السلام.
ثم فتح بابًا آخر ، فاستخرج منه حريرة سوداء ، فيها صورة رجل أبيض ، حسن الوجه ، أقنى الأنف ، حسن القامة ، يعلو وجهه نور ، يعرف في وجهه الخشوع ، يضرب إلى الحمرة ، قال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا. قال : هذا إسماعيل جد نبيكم ، عليهما السلام.
ثم فتح بابًا آخر ، فاستخرج (9) حريرة بيضاء ، فيها صورة كأنها آدم ، عليه السلام ، كأن وجهه الشمس ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا. قال : هذا يوسف ، عليه السلام.
ثم فتح بابا آخر فاستخرج (10) حريرة بيضاء ، فإذا فيها صورة رجل أحمر حَمْش الساقين ، أخفش العينين ضخم البطن ، رَبْعة متقلد سيفا ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا. قال : هذا داود ، عليه السلام.
__________
(1) في د ، ك ، أ : "فاستخرج منه".
(2) في أ : "آخر فاستخرج منه حريرة سوداء".
(3) في د ، م : "قال".
(4) في أ : "جسماء".
(5) في د : "مفلطس".
(6) في م : "موسى بن عمران".
(7) في د ، ك ، أ : "فاستخرج منه".
(8) زيادة من أ.
(9) في ك ، م ، أ : "فاستخرج منه".
(10) في ك ، م ، أ : "فاستخرج منه".

(3/485)


ثم فتح بابًا آخر ، فاستخرج (1) حريرة بيضاء ، فيها صورة رجل ضخم الأليتين ، طويل الرجلين ، راكب فرسًا ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا. قال : هذا سليمان بن داود ، عليه (2) السلام.
ثم فتح بابًا آخر ، فاستخرج منه حريرة سوداء ، فيها صورة بيضاء ، وإذا شابٌّ (3) شديد سواد اللحية ، كثير الشعر ، حسن العينين ، حسن الوجه ، فقال : هل تعرفون هذا ؟ قلنا : لا. قال : هذا عيسى ابن مريم ، عليه السلام.
قلنا : من أين لك هذه الصور ؟ لأنا نعلم أنها على ما صورت عليه الأنبياء ، عليهم السلام ، لأنا رأينا صورة نبينا عليه السلام مثله. فقال : إن آدم ، عليه السلام ، سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده ، فأنزل عليه صورهم ، فكان في خزانة آدم ، عليه السلام ، عند مغرب الشمس ، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشمس فدفعها إلى دانيال. ثم قال : أما والله إن نفسي طابت بالخروج من ملكي ، وإني كنت عبدًا لأشركم ملكه ، حتى أموت. ثم أجازنا فأحسن جائزتنا ، وسرحنا ، فلما أتينا أبا بكر الصديق ، رضي الله عنه ، فحدثناه بما أرانا ، وبما قال لنا ، وما أجازنا ، قال : فبكى أبو بكر وقال : مسكين! لو أراد الله به خيرًا لفعل. ثم قال : أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم واليهود يجدون نعت محمد صلى الله عليه وسلم عندهم.
هكذا أورده الحافظ الكبير أبو بكر البيهقي ، رحمه الله ، في كتاب "دلائل النبوة" ، عن الحاكم إجازة ، فذكره (4) وإسناده لا بأس به.
وقال ابن جرير : حدثنا المثنى ، حدثنا عثمان بن عُمَر ، حدثنا فُلَيْح ، عن هلال بن علي ، عن عطاء بن يسار ، قال : لقيت عبد الله بن عمرو فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. قال : أجل والله ، إنه لموصوف في التوراة كصفته في القرآن : "يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وحرزًا للأميين ، أنت عبدي ورسولي ، سميتك المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخَّاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح ، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا : لا إله إلا الله ويفتح به قلوبا غُلفا ، وآذانًا صمًا ، وأعينًا عميًا" قال عطاء : ثم لقيت كعبا فسألته عن ذلك ، فما اختلف حرفا ، إلا أن كعبا قال بلغته ، قال : "قلوبًا غُلوفيًا وآذانًا صموميًا وأعينًا عموميًا".
وقد رواه البخاري في صحيحه ، عن محمد بن سِنَان ، عن فُلَيْح ، عن هلال بن علي - فذكر بإسناده نحوه (5) وزاد بعد قوله : "ليس بفظ ولا غليظ" : "ولا صخاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح".
ويقع في كلام كثير من السلف إطلاق "التوراة" على كتب أهل الكتاب. وقد ورد في بعض الأحاديث ما يشبه هذا ، والله أعلم.
__________
(1) في ك ، م ، أ : "فاستخرج منه".
(2) في أ : "عليهما".
(3) في د : "وإذا رجل شاب".
(4) دلائل النبوة (1/385).
(5) تفسير الطبري (13/164) وصحيح البخاري برقم (2125).

(3/486)


وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا موسى بن هارون ، حدثنا محمد بن إدريس ورَّاق الحميدي (1) حدثنا محمد بن عمر بن إبراهيم - من ولد جبير بن مطعم - قال : حدثتني أم عثمان بنت سعيد - وهي جدتي - عن أبيها سعيد بن محمد بن جبير ، عن أبيه محمد بن جبير ، عن أبيه جبير بن مطعم ، قال : خرجت تاجرًا إلى الشام ، فلما كنت بأدنى الشام ، لقيني رجل من أهل الكتاب ، فقال : هل عندكم رجل نبيًا ؟ قلت : نعم. قال : هل تعرف صورته إذا رأيتها ؟ قلت : نعم. فأدخلني بيتا فيه صور ، فلم أر صورة النبي صلى الله عليه وسلم ، فبينما أنا كذلك إذ دخل رجل منهم علينا ، فقال : فيم أنتم ؟ فأخبرناه ، فذهب بنا إلى منزله ، فساعة ما دخلت نظرت إلى صورة النبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا رجل آخذ بعقب النبي صلى الله عليه وسلم ، قلت : من هذا الرجل القابض على عقبه ؟ قال : إنه لم يكن نبي إلا كان بعده نبي إلا هذا النبي ، فإنه لا نبي بعده ، وهذا الخليفة بعده ، وإذا صفة أبي بكر ، رضي الله عنه (2)
وقال أبو داود : حدثنا حفص بن عمر أبو عمر الضرير (3) حدثنا حماد بن سلمة أن سعيد بن إياس الجريري أخبرهم ، عن عبد الله بن شقيق العقيلي ، عن الأقرع مؤذن عمر بن الخطاب قال : بعثني عمر إلى الأسقف ، فدعوته ، فقال له عمر : هل تجدني في الكتاب ؟ قال : نعم. قال : كيف تجدني ؟ قال : أجدك قَرْنا. قال : فرفع عمر الدرة وقال (4) قرن مه ؟ قال : قرن حديد ، أمير شديد. قال : فكيف تجد الذي بعدي ؟ قال : أجد خليفة صالحا ، غير أنه يؤثر قرابته قال عمر : يرحم الله عثمان ، ثلاثا. قال : كيف تجد الذي بعده ؟ قال : أجد صدأ حديد. قال : فوضع عمر يده على رأسه وقال : يا دفراه ، يا دَفْراه! قال : يا أمير المؤمنين ، إنه خليفة صالح ، ولكنه يُستخلف حين يُستخلف والسيف مسلول ، والدم مهراق (5)
وقوله تعالى { يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ } هذه صفة الرسول صلى الله عليه وسلم (6) في الكتب المتقدمة ، وهكذا كان (7) حاله ، عليه الصلاة والسلام ، لا يأمر إلا بخير ، ولا ينهى إلا عن شر ، كما قال عبد الله بن مسعود : إذا سمعت الله يقول : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } فَأرْعها سمعك ، فإنه خير يأمر به أو شر ينهى عنه. ومن أهم ذلك وأعظمه ، ما بعثه الله [تعالى] (8) به من الأمر بعبادته وحده لا شريك له ، والنهي عن عبادة من سواه ، كما أرسل به جميع الرسل قبله ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [النحل : 36] وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر - هو العقدي عبد الملك بن عمرو - حدثنا سليمان - هو ابن بلال - عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، عن عبد الملك بن سعيد ، عن أبي حميد وأبي أسيد ، رضي
__________
(1) في هـ : "محمد بن إدرس بن الحميدي" ، وفي بقية النسخ : "محمد بن إدريس بن وراق بن الحميدي" والمثبت من الجرح والتعدل 213/204 مستفاد من هامش ط. الشعب.
(2) المعجم الكبير (2/125) ورواه أيضا في الأوسط برقم (3496) "مجمع البحرين" وقال : "لا يروى عن جبير إلا بهذا الإسناد ، تفرد به محمد بن إدريس". قال الهيثمي في المجمع (8/233) : "فيه من لم أعرفهم".
(3) في جميع النسخ : "عمر بن حفص أبو عمر الضرير" ، والمثبت من سنن أبي داود.
(4) في أ : "فقال".
(5) سنن أبي داود برقم (4656) ، "والدفر : النتن".
(6) في م : "صلوات الله وسلامه عليه".
(7) في ك ، م ، أ : "كانت".
(8) زيادة من م.

(3/487)


الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم ، وتلين له أشعاركم وأبشاركم ، وترون أنه منكم قريب ، فأنا أولاكم به. وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم ، وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم ، وترون أنه منكم بعيد ، فأنا أبعدكم منه" (1)
هذا [حديث] (2) جيد الإسناد ، لم يخرجه أحد من أصحاب الكتب [الستة] (3)
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي البختري ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : إذا حدثتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا ، فظنوا به الذي هو أهدى ، والذي هو أهنا ، [والذي هو أنجي] (4) والذي هو أتقى (5) (6)
ثم رواه عن يحيى عن بن سعيد ، عن مسعر ، عن عمرو بن مرة ، عن أبي البختري ، عن أبي عبد الرحمن ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : إذا حدثتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا ، فظنوا به الذي هو أهداه وأهناه وأتقاه (7)
وقوله : { وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ } أي : يحل لهم ما كانوا حرموه على أنفسهم من البحائر ، والسوائب ، والوصائل ، والحام ، ونحو ذلك ، مما كانوا ضيقوا به على أنفسهم ، ويحرم عليهم الخبائث.
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : كلحم الخنزير والربا ، وما كانوا يستحلونه من المحرمات من المآكل التي حرمها الله تعالى.
وقال بعض العلماء : كل ما أحل الله تعالى ، فهو طيب نافع في البدن والدين ، وكل ما حرمه ، فهو خبيث ضار في البدن والدين.
وقد تمسك بهذه الآية الكريمة من يرى التحسين والتقبيح العقليين ، وأجيب عن ذلك بما لا يتسع هذا الموضع له.
وكذا احتج بها من ذهب من العلماء إلى أن المرجع في حل المآكل التي لم ينص على تحليلها ولا تحريمها ، إلى ما استطابته العرب في حال رفاهيتها ، وكذا في جانب التحريم إلى ما استخبثته. وفيه (8) كلام طويل أيضا.
وقوله : { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } أي : إنه جاء بالتيسير والسماحة ، كما ورد الحديث من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "بعثت بالحنيفية السمحة". وقال لأميريه معاذ وأبي موسى الأشعري ، لما (9) بعثهما إلى اليمن : "بشرا ولا تنفرا ، ويسرا ولا تعسرا ، وتطاوعا ولا تختلفا". وقال صاحبه أبو برزة الأسلمي : إني صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشهدت تيسيره.
__________
(1) المسند من حديث أبي أسيد (3/497) ومن حديث أبي حميد (5/425).
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من أ.
(5) في أ : "أبقى".
(6) المسند (1/122).
(7) المسند (1/130).
(8) في م : "وفي ذلك".
(9) في أ : "حين".

(3/488)


قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)

وقد كانت الأمم الذين (1) كانوا قبلنا في شرائعهم ضيق عليهم ، فوسع الله على هذه الأمة أمورها ، وسهلها لهم ؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ، ما لم تقل أو تعمل" (2) وقال : "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" (3) ؛ ولهذا قد أرشد الله هذه الأمة أن يقولوا : { رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } [البقرة : 286] وثبت في صحيح مسلم أن الله تعالى قال بعد كل سؤال من هذه : قد فعلت ، قد فعلت (4)
وقوله : { فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ } أي : عظموه ووقروه ، { وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزلَ مَعَهُ } أي : القرآن والوحي الذي جاء به مبلغًا إلى الناس ، { أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي : في الدنيا والآخرة.
{ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) }
يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم { قُلْ } يا محمد : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ } وهذا خطاب للأحمر والأسود ، والعربي والعجمي ، { إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } أي : جميعكم ، وهذا من شرفه وعظمته أنه خاتم النبيين ، وأنه مبعوث إلى الناس كافة ، كما قال تعالى : { قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [الأنعام : 19] وقال تعالى : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ } [هود : 17] وقال تعالى : { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ } [آل عمران : 20] والآيات في هذا كثيرة ، كما أن الأحاديث في هذا أكثر من أن تحصر ، وهو معلوم من دين الإسلام ضرورة أنه ، صلوات الله وسلامه عليه ، رسول الله إلى الناس كلهم.
قال البخاري ، رحمه الله ، في تفسير هذه الآية : حدثنا عبد الله ، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن وموسى بن هارون قالا حدثنا الوليد بن مسلم ، حدثنا عبد الله بن العلاء بن زَبْر (5) حدثني بسر (6) ابن عبيد الله ، حدثني أبو إدريس الخولاني قال : سمعت أبا الدرداء ، رضي الله عنه ، يقول : كانت بين أبي بكر وعمر ، رضي الله عنهما ، محاورة ، فأغضب أبو بكر عمر ، فانصرف عمر عنه مغضبا ، فأتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له ، فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهه ، فأقبل أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فقال أبو الدرداء : ونحن عنده - فقال (7) رسول الله صلى الله عليه وسلم "أما صاحبكم هذا فقد غامر" - أي :
__________
(1) في ك : "التي".
(2) رواه البخاري في صحيحه برقم (5269) ومسلم في صحيحه برقم (127) من حديث أبي هريرة.
(3) رواه ابن ماجة في السنن برقم (2045) من حديث أبي ذر ، رضي الله عنه ، وقد سبق تخريجه وذكر شواهده.
(4) صحيح مسلم برقم (126) من حديث ابن عباس ، رضي الله عنه.
(5) في أ : "زيد".
(6) في أ : "بشر".
(7) في ك ، م ، أ : "قال".

(3/489)


غاضب وحاقد - قال : وندم عمر على ما كان منه ، فأقبل حتى سلم وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقص على رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر - قال أبو الدرداء : وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل أبو بكر يقول : والله يا رسول الله لأنا كنت أظلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هل أنتم تاركوا لي صاحبي ؟ إني قلت : يأيها الناس ، إني رسول الله إليكم جميعا ، فقلتم : كذبت وقال أبو بكر : صدقت". انفرد به البخاري (1)
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا عبد العزيز بن مسلم ، حدثنا يزيد بن أبي زياد ، عن مقسم ، عن ابن عباس [رضي الله عنه] (2) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أعطيت خمسًا لم يعطهن نبي قبلي - ولا أقوله فخرًا : بعثت إلى الناس كافة : الأحمر والأسود ، ونصرت بالرعب مسيرة شهر ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا ، وأعطيت الشفاعة فأخرتها لأمتي ، فهي لمن لا يشرك بالله شيئا" (3) إسناده جيد ، ولم يخرجوه.
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا بكر بن مضر ، عن أبي الهاد ، عن عمرو ابن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك ، قام من الليل يصلي ، فاجتمع وراءه رجال من أصحابه (4) يحرسونه ، حتى إذا صلى انصرف إليهم فقال لهم : "لقد أعطيت الليلة خمسًا ما أعطيهن أحد قبلي ، أما أنا فأرسلت إلى الناس كلهم عامة (5) وكان من قبلي إنما يرسل إلى قومه ، ونصرت على العدو بالرعب ، ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر لملئ مني رعبا ، وأحلت لي الغنائم آكلها (6) وكان من قبلي يعظمون أكلها ، كانوا يحرقونها ، وجعلت لي الأرض مساجد (7) وطهورًا ، أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت ، وكان من قبلي يعظمون ذلك ، إنما كانوا يصلون في بيعهم وكنائسهم ، والخامسة هي ما هي ، قيل لي : سل ؛ فإن كل نبي قد سأل. فأخرت مسألتي إلى يوم القيامة ، فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلا الله" (8) إسناد جيد قوي أيضا ولم يخرجوه.
وقال أيضا : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن أبي موسى الأشعري ، رضي الله عنه ، عن رسول الله (9) صلى الله عليه وسلم قال : "من سمع بي من أمتي أو يهودي أو نصراني ، فلم يؤمن بي ، لم يدخل الجنة" (10)
وهذا الحديث في صحيح مسلم من وجه آخر ، عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "والذي نفسي بيده ، لا يسمع بي رجل (11) من هذه الأمة : يهودي ولا (12) نصراني ، ثم لا يؤمن (13) بي إلا دخل النار" (14)
__________
(1) صحيح البخاري برقم (4640).
(2) زيادة من أ.
(3) المسند (1/301) قال الهيثمي في المجمع (8/258) : "رجال أحمد رجال الصحيح غير يزيد بن أبي زياد وهو حسن الحديث".
(4) في أ : "من الأنصار".
(5) في ك : "كافة".
(6) في أ : "كلها".
(7) في ك : "مسجدا".
(8) المسند (2/222).
(9) في م : "عن النبي".
(10) المسند (4/496).
(11) في م : "أحد".
(12) في م : "أو".
(13) في م : "ثم يموت ولا يؤمن".
(14) هذا لفظ حديث أبي هريرة وقد رواه مسلم في صحيحه برقم (153) وحديث أبي موسى الأشعري بهذا اللفظ رواه النسائي في السنن الكبرى برقم (11241).

(3/490)


وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)

وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا أبو يونس - وهو سليم بن جبير - عن أبي هريرة ، عن رسول الله (1) صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : "والذي نفسي بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة : يهودي أو نصراني ، ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به ، إلا كان من أصحاب النار". تفرد به أحمد (2)
وقال الإمام أحمد : حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن أبي بُرْدَة ، عن أبي موسى ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أعطيت خمسًا : بعثت إلى الأحمر والأسود ، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل (3) لمن كان قبلي ، ونصرت بالرعب شهرًا (4) وأعطيت الشفاعة - وليس من نبي إلا وقد سأل الشفاعة ، وإني قد اختبأت شفاعتي ، ثم جعلتها لمن مات من أمتي لم يشرك بالله شيئا" (5)
وهذا أيضا إسناد صحيح ، ولم أرهم خرجوه ، والله أعلم ، وهذا الحديث ثابت في الصحيحين أيضا ، من حديث (6) جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، وأحلت لي الغنائم ، ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي [صلى الله عليه وسلم] (7) يبعث إلى قومه ، وبعثت إلى الناس عامة" (8)
وقوله : { الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ } صفة الله تعالى ، في قوله (9) { رَسُولُ اللَّهِ } أي : الذي أرسلني هو خالق كل شيء وربه ومليكه ، الذي بيده الملك والإحياء والإماتة ، وله الحكم.
وقوله : { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأمِّيِّ } أخبرهم أنه رسول الله إليهم ، ثم أمرهم باتباعه والإيمان به ، { النَّبِيِّ الأمِّيِّ } أي : الذي وعدتم به وبشرتم به في الكتب المتقدمة ، فإنه منعوت بذلك في كتبهم ؛ ولهذا قال : { النَّبِيِّ الأمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ } أي : يصدق قوله عمله ، وهو يؤمن بما أنزل إليه من ربه { وَاتَّبِعُوهُ } أي : اسلكوا طريقه واقتفوا أثره ، { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي : إلى الصراط المستقيم.
{ وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) }
يقول تعالى مخبرًا عن بني إسرائيل أن منهم طائفة يتبعون الحق ويعدلون به ، كما قال تعالى : { مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ } [آل عمران : 113] ، وقال تعالى : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } [آل عمران : 199] ، وقال تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا [ وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ] (10) } [القصص : 52 - 54] ،
__________
(1) في ك : "عن النبي".
(2) المسند (2/350).
(3) في أ : "ولم تحل لأحد".
(4) في ك : "مسيرة شهر".
(5) المسند (4/416) وقال الهيثمي في المجمع (8/258) : "رجاله رجال الصحيح".
(6) في ك ، م ، أ : "رواية".
(7) زيادة من أ.
(8) صحيح البخاري برقم (335) وصحيح مسلم برقم (521).
(9) في ك : "قول".
(10) زيادة من م ، وفي هـ : "الآية".

(3/491)


وقال تعالى : { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } الآية [البقرة : 121] ، وقال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ سُجَّدًا* وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولا * وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا } [الإسراء : 107 - 109]
وقد ذكر ابن جرير في تفسيرها خبرًا عجيبًا ، فقال : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا حجاج ، عن ابن جريج قوله : { وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } قال : بلغني أن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم ، وكفروا - وكانوا اثني عشر سبطا - تبرأ سبط منهم مما صنعوا ، واعتذروا ، وسألوا الله ، عز وجل ، أن يفرق بينهم وبينهم ، ففتح الله لهم نفقا في الأرض ، فساروا فيه حتى خرجوا من وراء الصين ، فهم هنالك حنفاء مسلمين يستقبلون قبلتنا. قال ابن جريج : قال ابن عباس : فذلك قوله : { وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا } [الإسراء : 104] و"وعد الآخرة" : عيسى ابن مريم (1) - قال ابن جريج : قال ابن عباس : ساروا في السرب سنة ونصفًا.
وقال ابن عيينة ، عن صدقة أبي الهذيل ، عن السُّدِّي : { وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } قال : قوم بينكم وبينهم نهر من شُهْد (2)
__________
(1) تفسير الطبري (13/173).
(2) في أ : "سهل".

(3/492)


وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)

{ وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنزيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) }
تقدم تفسير هذا كله في سورة "البقرة" ، وهي مدنية ، وهذا السياق مكي ، ونبهنا على الفرق بين هذا السياق وذاك بما أغنى عن إعادته ، ولله الحمد والمنة (1)
__________
(1) سورة البقرة الآية : 60.

(3/492)


وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)

{ وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) }
هذا السياق هو بسط لقوله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [البقرة : 65] يقول [الله] (1) تعالى ، لنبيه صلوات الله وسلامه عليه : { وَاسْأَلْهُمْ } أي : واسأل هؤلاء اليهود الذين بحضرتك عن قصة أصحابهم الذين خالفوا أمر الله ، ففاجأتهم نقمته على صنيعهم واعتدائهم واحتيالهم في المخالفة ، وحذر هؤلاء من كتمان صفتك التي يجدونها في كتبهم ؛ لئلا يحل بهم ما حل بإخوانهم وسلفهم. وهذه القرية هي "أيلة" وهي على شاطئ بحر القلزم.
قال محمد بن إسحاق : عن داود بن الحُصَين ، عن عكرمة عن ابن عباس في قوله : { وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ } قال : هي قرية يقال لها "أيلة" بين مدين والطور. وكذا قال عكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، والسُّدِّي.
وقال عبد الله بن كثير القارئ ، سمعنا أنها أيلة. وقيل : هي مدين ، وهو رواية عن ابن عباس وقال ابن زيد : هي قرية يقال لها. "مقنا" بين مدين وعَيدُوني.
وقوله : { إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ } أي : يعتدون فيه ويخالفون أمر الله فيه لهم بالوصاة به إذ ذاك. { إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا } قال الضحاك ، عن ابن عباس : أي ظاهرة على الماء.
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { شُرَّعًا } من كل مكان.
قال ابن جرير : وقوله : { وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ } أي : نختبرهم بإظهار السمك لهم على ظهر الماء في اليوم المحرم عليهم صيده ، وإخفائه (2) عنهم في اليوم المحلل لهم صيده { كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ } نختبرهم { بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } يقول : بفسقهم عن طاعة الله وخروجهم عنها.
وهؤلاء قوم احتالوا على انتهاك محارم الله ، بما تعاطوا من الأسباب الظاهرة التي معناها في الباطن تعاطي الحرام.
وقد قال الفقيه الإمام أبو عبد الله بن بطة ، رحمه الله : حدثنا أحمد بن محمد بن مسلم ، حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني ، حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا ترتكبوا ما ارتكبت (3) اليهود ، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل" (4)
وهذا إسناد جيد ، فإن أحمد بن محمد بن مسلم هذا (5) ذكره الخطيب في تاريخه (6) ووثقه ، وباقي رجاله مشهورون ثقات ، ويصحح الترمذي بمثل هذا الإسناد كثيرًا.
__________
(1) زيادة من م.
(2) في ك ، م ، أ : "إخفائها".
(3) في أ : "ارتكب".
(4) جزء في الخلع وإبطال الحيل لابن بطة (42).
(5) في م : "هكذا".
(6) في تاريخ بغداد (5/98 ، 99) أحمد بن محمد بن مسلم البغدادي ولكن لم يتكلم عليه الخطيب ولم يوثق.

(3/493)


وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)

{ وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) }
يخبر تعالى عن أهل هذه القرية أنهم صاروا إلى ثلاث فرق : فرقة (1) ارتكبت المحذور ، واحتالوا على اصطياد السمك يوم السبت ، كما تقدم بيانه في سورة البقرة. وفرقة نهت عن ذلك ، [وأنكرت] (2) واعتزلتهم. وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه ، ولكنها قالت للمنكرة : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا } ؟ أي : لم تنهون هؤلاء ، وقد علمتم أنهم هلكوا واستحقوا العقوبة من الله ؟ فلا فائدة في نهيكم إياهم. قالت لهم المنكرة : { مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ } قرأ بعضهم بالرفع ، كأنه على تقديره : هذا معذرة وقرأ آخرون بالنصب ، أي : نفعل ذلك { مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ } أي : فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر { وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } يقولون : ولعل بهذا الإنكار يتقون ما هم فيه ويتركونه ، ويرجعون إلى الله تائبين ، فإذا تابوا تاب الله عليهم ورحمهم.
قال تعالى : { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ } أي : فلما أبى الفاعلون المنكر قبول النصيحة ، { أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا } أي : ارتكبوا المعصية { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } فنص على نجاة الناهين وهلاك الظالمين ، وسكت عن الساكتين ؛ لأن الجزاء من جنس العمل ، فهم لا يستحقون مدحا فيمدحوا ، ولا ارتكبوا عظيما فيذموا ، ومع هذا فقد اختلف الأئمة فيهم : هل كانوا من الهالكين أو من الناجين ؟ على قولين :
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا } [قال : ] (3) هي قرية على شاطئ البحر بين مصر والمدينة ، يقال لها : "أيلة" ، فحرم الله عليهم الحيتان يوم سبتهم ، وكانت الحيتان تأتيهم يوم سبتهم شرعًا في ساحل البحر ، فإذا مضى يوم السبت لم يقدروا عليها. فمضى على ذلك ما شاء الله ، ثم إن طائفة منهم أخذوا الحيتان يوم سبتهم ، فنهتهم طائفة وقالوا : تأخذونها وقد حرمها الله عليكم يوم سبتكم ؟ فلم يزدادوا إلا غيًا وعتوًا ، وجعلت طائفة أخرى تنهاهم ، فلما طال ذلك عليهم قالت طائفة من النهاة : تعلمون أن هؤلاء قوم قد حق عليهم العذاب ، { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ [ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ] } (4) وكانوا أشد غضبا لله من الطائفة الأخرى ؟ فقالوا : { مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } وكل قد كانوا ينهون ، فلما وقع عليهم غضب الله نجت الطائفتان اللتان قالوا : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ } والذين قالوا : { مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ } وأهلك الله أهل معصيته الذين أخذوا الحيتان ، فجعلهم قردة.
وروى العوفي ، عن ابن عباس قريبًا من هذا.
وقال حماد بن زيد ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا }
__________
(1) في ك ، م ، أ : "ففرقة".
(2) زيادة من ك ، م ، أ.
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من أ.

(3/494)


قال : ما أدري أنجا الذين قالوا : "أتعظون قوما الله مهلكهم" ، أم لا ؟ قال : فلم أزل به حتى عرَّفته أنهم نجوا ، فكساني حلة.
قال عبد الرزاق : أخبرنا ابن جُرَيْج ، حدثني رجل ، عن عكرمة قال : جئت ابن عباس يوما وهو يبكي ، وإذا (1) المصحف في حجره ، فأعظمت أن أدنو ، ثم لم أزل على ذلك حتى تقدمت فجلست ، فقلت : ما يبكيك يا أبا عباس ، جعلني الله فداك ؟ قال : فقال : هؤلاء الورقات. قال : وإذا هو في "سورة الأعراف" ، قال : تعرف (2) أيلة قلت : نعم. قال : فإنه كان بها حي من يهود سيقت الحيتان إليهم يوم السبت ، ثم غاصت لا يقدرون عليها حتى يغوصوا بعد كد ومؤنة شديدة ، كانت تأتيهم يوم السبت شرعا بيضًا سمانًا كأنها الماخض ، تتبطح (3) ظهورها لبطونها بأفنيتهم. فكانوا كذلك برهة من الدهر ، ثم إن الشيطان أوحى إليهم فقال : إنما نهيتم عن أكلها يوم السبت ، فخذوها فيه ، وكلوها في غيره من الأيام. فقالت ذلك طائفة منهم ، وقالت طائفة : بل نهيتم عن أكلها وأخذها وصيدها يوم السبت. فكانوا كذلك ، حتى جاءت الجمعة المقبلة ، فغدت طائفة بأنفسها وأبنائها ونسائها ، واعتزلت طائفة ذات اليمين ، وتنحت واعتزلت طائفة ذات اليسار وسكتت. وقال الأيمنون : ويلكم ، الله ، الله ننهاكم أن (4) تتعرضوا لعقوبة الله. وقال الأيسرون : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا } ؟ قال الأيمنون : { مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } إن ينتهوا فهو أحب إلينا ألا يصابوا ولا يهلكوا ، وإن لم ينتهوا فمعذرة إلى ربكم. فمضوا على الخطيئة ، وقال الأيمنون : فقد (5) فعلتم ، يا أعداء الله. والله لا نبايتكم (6) الليلة في مدينتكم ، والله ما نراكم تصبحون حتى يصبحكم الله بخسف أو قذف أو بعض ما عنده من العذاب. فلما أصبحوا ضربوا عليهم الباب ونادوا ، فلم يجابوا ، فوضعوا سلما ، وأعلوا سور المدينة رجلا فالتفت إليهم فقال : أي عباد الله ، قردة والله تعاوي لها أذناب. قال : ففتحوا فدخلوا عليهم ، فعرفت القرود أنسابها (7) من الإنس ، ولا تعرف الإنس أنسابها من القردة ، فجعلت القرود يأتيها نسيبها (8) من الإنس فتشم ثيابه وتبكي ، فتقول : ألم ننهكم عن كذا ؟ فتقول برأسها ، أي نعم. ثم قرأ (9) ابن عباس : { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } قال : فأرى الذين نهوا قد نجوا ، ولا أرى الآخرين ذكروا ، ونحن نرى أشياء ننكرها ولا نقول فيها ؟. قال : قلت : جعلني الله فداك ، ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه ، وخالفوهم وقالوا : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ } ؟ قال : فأمر لي فكسيت ثوبين غليظين (10)
وكذا روى مجاهد ، عنه.
وقال ابن جرير : حدثنا يونس ، أخبرنا أشهب بن عبد العزيز ، عن مالك ، قال : زعم ابن رومان
__________
(1) في أ : "إن".
(2) في أ : "قال هل تعرف".
(3) في م : "حتى تنبطح".
(4) في أ : "الله ، الله ينهاكم عن ذلك ولا".
(5) في أ : "قد".
(6) في م : "لنأتينكم".
(7) في م : "أنسابهم".
(8) في أ : "تأت نسبها".
(9) في أ : "ثم فسر".
(10) تفسير عبد الرزاق (1/226).

(3/495)


أن قوله تعالى : { تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ } قال : كانت تأتيهم يوم السبت ، فإذا كان المساء ذهبت ، فلا يرى منها شيء إلى يوم السبت الآخر ، فاتخذ - لذلك - رجل خيطًا ووتدًا ، فربط حوتا منها في الماء يوم السبت ، حتى إذا أمسوا ليلة الأحد ، أخذه فاشتواه ، فوجد الناس ريحه ، فأتوه فسألوه عن ذلك ، فجحدهم ، فلم يزالوا به حتى قال لهم : "فإنه جلد حوت وجدناه". فلما كان السبت (1) الآخر فعل مثل ذلك - ولا أدري لعله قال : ربط حوتين - فلما أمسى من ليلة الأحد أخذه فاشتواه ، فوجدوا رائحة ، فجاءوا (2) فسألوه (3) فقال لهم : لو شئتم صنعتم كما أصنع. فقالوا له : وما صنعت ؟ فأخبرهم ، ففعلوا مثل ما فعل ، حتى كثر ذلك. وكانت لهم مدينة لها ربض يغلقونها عليهم ، فأصابهم من المسخ ما أصابهم. فغدوا (4) عليهم جيرانهم مما كانوا (5) حولهم ، يطلبون منهم ما يطلب الناس ، فوجدوا المدينة مغلقة عليهم ، فنادوا فلم يجيبوهم ، فتسوروا عليهم ، فإذا هم قردة ، فجعل القرد يدنو يتمسح بمن كان يعرف قبل ذلك ، ويدنو منه ويتمسح به (6)
وقد قدمنا في سورة "البقرة" (7) من الآثار في خبر هذه القرية ما فيه مقنع وكفاية ، ولله الحمد والمنة.
القول الثاني : أن الساكتين كانوا من الهالكين.
قال محمد بن إسحاق ، عن داود بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ؛ أنه قال : ابتدعوا السبت فابتلوا فيه ، فحرمت عليهم فيه الحيتان ، فكانوا إذا كان يوم السبت ، شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر. فإذا انقضى السبت ، ذهبت فلم تر حتى السبت المقبل ، فإذا جاء السبت جاءت شرعا ، فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا كذلك ، ثم إن رجلا منهم أخذ حوتًا فخزم أنفه ثم ، ضرب له وتدًا في الساحل ، وربطه وتركه في الماء. فلما كان الغد ، أخذه فشواه فأكله ، ففعل ذلك وهم ينظرون ولا ينكرون ، ولا ينهاه منهم أحد ، إلا عصبة منهم نهوه ، حتى ظهر ذلك في الأسواق ، ففعل علانية. قال : فقالت طائفة للذين ينهونهم : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ } فقالوا : سخط أعمالهم { وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ } إلى قوله : { قِرَدَةً خَاسِئِينَ } قال ابن عباس : كانوا أثلاثًا : ثلث نهوا ، وثلث قالوا : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ } وثلث أصحاب الخطيئة ، فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم.
وهذا إسناد جيد عن ابن عباس ، ولكن رجوعه إلى قول عكرمة في نجاة الساكتين ، أولى من القول بهذا ؛ لأنه تبين حالهم بعد ذلك ، والله أعلم.
وقوله تعالى : { وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } فيه دلالة بالمفهوم على أن الذين بقوا نجوا.
و { بَئِيسٍ } فيه قراءات كثيرة ، ومعناه في قول مجاهد : "الشديد" ، وفي رواية : "أليم". وقال قتادة : موجع. والكل متقارب ، والله أعلم.
__________
(1) في م : "فلما كان يوم السبت".
(2) في م : "فأتوه".
(3) في م : "فسألوه عن ذلك فجحدهم".
(4) في م : "فعدا".
(5) في ك ، م : "ممن كان".
(6) تفسير الطبري (13/193).
(7) سورة البقرة الآية : 60.

(3/496)


وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)

وقوله : { خاسئين } أي : ذليلين حقيرين مهانين.
{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) }
{ تَأَذَّنَ } تَفَعَّل من الإذن أي : أعلم ، قاله مجاهد. وقال غيره : أمر.
وفي قوة الكلام ما يفيد معنى القسم من هذه اللفظة ، ولهذا تُلُقِّيَت باللام في قوله : { لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ } أي : على اليهود { إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ } أي : بسبب عصيانهم ومخالفتهم أوامر الله وشرعه واحتيالهم على المحارم.
ويقال : إن موسى ، عليه السلام ، ضرب عليهم الخراج سبع سنين - وقيل : ثلاث عشرة سنة ، وكان أول من ضرب الخراج. ثم كانوا في قهر الملوك من اليونانيين والكشدانيين والكلدانيين ، ثم صاروا في (1) قهر النصارى وإذلالهم وإياهم ، أخذهم منهم الجزية والخراج ، ثم جاء الإسلام ، ومحمد ، عليه أفضل الصلاة والسلام ، فكانوا تحت صفاره وذمته يؤدون الخراج والجزى (2)
قال العوفي ، عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قال : هي المسكنة ، وأخذ الجزية منهم.
وقال علي بن أبي طلحة ، عنه : هي الجزية ، والذين يسومهم سوء العذاب : محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته ، إلى يوم القيامة.
وكذا قال سعيد بن جبير ، وابن جُرَيْج ، والسُّدِّي ، وقتادة.
وقال عبد الرزاق : عن مَعْمَر ، عن عبد الكريم الجزري ، عن سعيد بن المسيب قال : يستحب أن تبعث الأنباط في الجزية.
قلت : ثم آخر أمرهم أنهم يخرجون أنصار الدجال ، فيقتلهم المسلمون مع عيسى ابن مريم ، عليه السلام ، وذلك آخر الزمان.
وقوله : { إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ } أي : لمن عصاه وخالف [أمره و] (3) شرعه ، { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : لمن تاب إليه وأناب.
وهذا من باب قرن الرحمة مع العقوبة ، لئلا يحصل اليأس ، فيقرن [الله] (4) تعالى بين الترغيب والترهيب كثيرا ؛ لتبقى النفوس بين الرجاء والخوف.
__________
(1) في ك ، م ، أ : "إلى".
(2) في م : "الجزية".
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من م.

(3/497)


وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)

{ وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) }
يذكر تعالى أنه فرقهم في الأرض أمما ، أي : طوائف وفرقًا ، كما قال [تعالى] (1) { وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الأرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا } [الأسراء : 104]
{ مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ } أي : فيهم الصالح وغير ذلك ، كما قالت الجن : { وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا } [الجن : 11] ، { وَبَلَوْنَاهُمْ } أي : اختبرناهم { بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ } أي : بالرخاء والشدة ، والرغبة والرهبة ، والعافية والبلاء ، { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }
ثم قال تعالى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } يقول تعالى : فخلف من بعد ذلك الجيل الذين فيهم الصالح والطالح ، خلف آخر لا خير فيهم ، وقد ورثوا دراسة [هذا] (2) الكتاب وهو التوراة - وقال مجاهد : هم النصارى - وقد يكون أعم من ذلك ، { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى } أي : يعتاضون عن بذل الحق ونشره بعَرَض الحياة الدنيا ، ويسرفون أنفسهم ويعدونها بالتوبة ، وكلما لاح لهم مثل الأول وقعوا فيه ؛ ولهذا قال : { وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } كما قال سعيد بن جبير : يعملون الذنب ، ثم يستغفرون الله منه ، فإن عرض ذلك الذنب أخذوه.
وقول مجاهد في قوله : { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى } قال : لا يشرف لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه ، حلالا كان أو حرامًا ، ويتمنون المغفرة ، ويقولون : { سَيُغْفَرُ لَنَا } وإن يجدوا عَرَضًا مثله يأخذوه.
وقال قتادة في : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } أي : والله ، لخلف سوء ، ورثوا الكتاب بعد أنبيائهم ورسلهم ، ورثهم الله وعهد إليهم ، وقال الله في آية أخرى : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ } [مريم : 59] ، قال { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } تمنوا على الله أماني ، وغرَّة يغترون بها ، { وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } لا يشغلهم شيء عن شيء ، ولا ينهاهم شيء عن ذلك ، كلما هف لهم شيء من [أمر] (3) الدنيا أكلوه ، ولا يبالون حلالا كان أو حرامًا.
وقال السُّدِّي [في] (4) قوله : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } إلى قوله : { وَدَرَسُوا مَا فِيهِ } قال : كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضيا إلا ارتشى في الحكم ، وإن خيارهم اجتمعوا ، فأخذ بعضهم على بعض العهود ألا يفعلوا ولا يرتشى ، فجعل الرجل منهم إذا استقضى ارتشى ، فيقال له : ما شأنك ترتشي في الحكم ، فيقول : "سيغفر لي" ، فتطعن عليه البقية الآخرون من بني إسرائيل فيما صنع ، فإذا مات ، أو نزع ، وجعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه ، فيرتشي. يقول : وإن يأت الآخرين عرض الدنيا يأخذوه.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من م.
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من م.

(3/498)


قال الله تعالى : { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ } يقول تعالى منكرًا عليهم في صنيعهم هذا ، مع ما أخذ عليهم من الميثاق ليبينن الحق للناس ، ولا يكتمونه كقوله : { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ } [آل عمران : 187]
وقال ابن جُرَيْج : قال ابن عباس : { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ } قال : فيما يوجبون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون فيها ، ولا يتوبون منها.
وقوله تعالى : { وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ } يرغبهم تعالى في جزيل ثوابه ، ويحذرهم من وبيل عقابه ، أي : وثوابي وما عندي خير لمن اتقى المحارم ، وترك هوى نفسه ، وأقبل على طاعة ربه.
{ أَفَلا تَعْقِلُونَ } يقول : أفليس لهؤلاء الذين اعتاضوا بعَرَض الدنيا عما عندي عقل يردعهم عما هم فيه من السفه والتبذير ؟ ثم أثنى تعالى على من تمسك بكتابه الذي يقوده إلى اتباع رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، كما هو مكتوب فيه ، فقال تعالى { وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ } أي : اعتصموا به واقتدوا بأوامره ، وتركوا زواجره { وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ }

(3/499)


وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)

{ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) }
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ } يقول : رفعناه ، وهو قوله : { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ } [النساء : 154]
وقال سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، رفعته الملائكة فوق رءوسهم.
وقال القاسم بن أبي أيوب ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : ثم سار بهم موسى ، عليه السلام ، متوجها نحو الأرض المقدسة ، وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب ، فأمرهم بالذي أمره (1) الله تعالى [به] (2) - أن يبلغهم من الوظائف ، فثقلت عليهم ، وأبوا أن يقربوها حتى ينتق (3) الله الجبل فوقهم كأنه ظلة ، قال : رفعته الملائكة فوق رءوسهم. رواه النسائي بطوله (4)
وقال سنيد بن داود في تفسيره ، عن حجاج بن محمد ، عن أبي بكر بن عبد الله قال : هذا كتاب ، أتقبلونه بما فيه ، فإن فيه بيان ما أحل لكم وما حرم عليكم ، وما أمركم وما نهاكم ؟ قالوا : انشر علينا ما فيها ، فإن كانت فرائضها يسيرة ، وحدودها خفيفة قبلناها. قال : اقبلوها بما فيها. قالوا : لا حتى نعلم ما فيها ، كيف حدودها وفرائضها ؟ فراجعوا موسى مرارا ، فأوحى الله إلى الجبل فانقلع فارتفع في السماء ، حتى إذا كان بين رءوسهم وبين السماء قال لهم موسى : ألا ترون ما يقول ربي ،
__________
(1) في م : "أمر".
(2) زيادة من أ.
(3) في د ، ك ، م : "نتق".
(4) سنن النسائي الكبرى برقم (11326) وهو حديث الفتون وسيأتي إن شاء الله في سورة طه.

(3/499)


وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)

عز وجل ؟ لئن لم تقبلوا التوراة بما فيها ، لأرمينكم بهذا الجبل. قال : فحدثني الحسن البصري قال : لما نظروا إلى الجبل خر كل رجلٍ ساجدًا على حاجبه الأيسر ، ونظر بعينه اليمنى إلى الجبل ، فرقًا من أن يسقط [عليه] (1) فكذلك ليس اليوم في الأرض يهودي يسجد إلا على حاجبه الأيسر ، يقولون : هذه السجدة التي رفعت بها العقوبة. قال أبو بكر : فلما نشر الألواح فيها كتاب الله كتبه بيده ، لم يبق على وجه الأرض جبل ولا شجر ولا حجر إلا اهتز ، فليس اليوم يهودي على وجه الأرض صغير ، ولا كبير ، تقرأ عليه التوراة إلا اهتز ونفض لها رأسه. [أي : حرك كما قال تعالى : { فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ } [الإسراء : 51] أي يحركونها] (2)
{ وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) }
يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم ، شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم ، وأنه لا إله إلا هو. كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه ، قال تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } [الروم : 30] وفي الصحيحين عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كل مولود يولد على الفطرة - وفي رواية : على هذه الملة - فأبواه يهودانه ، وينصرانه ، ويمجسانه ، كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء" وفي صحيح مسلم ، عن عياض بن حمار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يقول الله [تعالى] (3) إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم (4) الشياطين فاجتالتهم ، عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم" (5)
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني السري بن يحيى : أن الحسن بن أبي الحسن حدثهم ، عن الأسود بن سريع من بني سعد ، قال : غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع غزوات ، قال : فتناول القوم الذرية بعد ما قتلوا المقاتلة ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاشتد عليه ، ثم قال : "ما بال أقوام يتناولون الذرية ؟" قال رجل : يا رسول الله ، أليسوا أبناء المشركين ؟ فقال : "إن خياركم أبناء المشركين! ألا إنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة ، فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها ، فأبواها يهودانها أو (6) ينصرانها". قال الحسن : والله لقد قال الله في كتابه : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ] } (7) الآية (8)
__________
(1) زيادة من ك ، أ.
(2) زيادة من ك ، م.
(3) زيادة من ك ، م.
(4) في م : "فجاءت".
(5) صحيح مسلم برقم (2865) ، وسبق تخريجه هو والذي قبله عند الآية : 30.
(6) في م : "و".
(7) زيادة من أ.
(8) تفسير الطبري (13/321).

(3/500)


وقد رواه الإمام أحمد ، عن إسماعيل بن علية ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن البصري (1) به. وأخرجه النسائي في سننه من حديث هُشَيْم ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن قال : حدثنا الأسود ابن سَرِيع ، فذكره ، ولم يذكر قول الحسن البصري واستحضاره الآية عند ذلك (2)
وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلْب آدم ، عليه السلام ، وتمييزهم إلى أصحاب اليمين و[إلى] (3) أصحاب الشمال ، وفي بعضها (4) الاستشهاد عليهم بأن الله ربهم.
قال الإمام أحمد : حدثنا حَجَّاج ، حدثنا شُعْبة ، عن أبي عمران الجَوْني ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديا به ؟" قال : "فيقول : نعم. فيقول : قد أردت منك أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر آدم (5) ألا تشرك بي شيئًا ، فأبيت إلا أن تشرك بي".
أخرجاه في الصحيحين ، من حديث شعبة ، به (6)
حديث آخر : وقال الإمام أحمد : حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا جرير - يعني ابن حازم - عن كلثوم بن جابر (7) عن سعيد بن جُبَير ، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] (8) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم ، عليه السلام ، بنعمان. يعني (9) عرفة فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه ، ثم كلمهم قبلا قال : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } إلى قوله : { الْمُبْطِلُونَ }
وقد روى هذا الحديث النسائي في كتاب التفسير من سننه ، عن محمد بن عبد الرحيم - صاعقة - عن حسين بن محمد المروزي ، به. ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم من حديث حسين بن محمد (10) به. إلا أن ابن أبي حاتم جعله موقوفا. وأخرجه الحاكم في مستدركه من حديث حسين بن محمد وغيره ، عن جرير بن حازم ، عن كلثوم بن جَبْر ، به. وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وقد احتج مسلم بكلثوم بن جبير (11) (12) هكذا قال ، وقد رواه عبد الوارث ، عن كلثوم بن جبر (13) عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، فوقفه (14) وكذا رواه إسماعيل بن علية ووَكِيع ، عن ربيعة بن كلثوم ، عن جبير ، عن أبيه ، به. (15) وكذا رواه عطاء بن السائب ، وحبيب بن أبي ثابت ، وعلي بن بَذِيمة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس (16) قوله ، وكذا رواه العَوْفي وعلي بن أبي طلحة عن ابن
__________
(1) المسند (3/435).
(2) سنن النسائي الكبرى برقم (8616).
(3) زيادة من ك ، م ، أ.
(4) في أ : "وفي بعض".
(5) في أ : "ظهر أبيك".
(6) المسند (3/127) وصحيح البخاري برقم (3334) وصحيح مسلم برقم (2805).
(7) في ك ، م : "جبر" ، وفي أ : "جبير".
(8) زيادة من أ.
(9) في ك ، م ، أ : "يوم".
(10) المسند (1/272) وسنن النسائي الكبرى برقم (11191) وتفسير الطبري (13/222) وقال النسائي : "كلثوم هذا ليس بالقوى ، وحديثه ليس بالمحفوظ".
(11) في ك ، م : "جبر".
(12) المستدرك (1/27).
(13) في أ : "جبير".
(14) أخرجه الطبري في تفسيره (13/172).
(15) رواه الطبري في تفسيره (13/224) من طريق ابن علية ورواه (13/229) من طريق وكيع.
(16) تفسير الطبري (13/227 - 229).

(3/501)


عباس (1) فهذا أكثر وأثبت ، والله أعلم.
وقال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا أبي ، عن أبي هلال ، عن أبي جَمْرَة الضبعي ، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] (2) قال : أخرج الله ذرية آدم [عليه السلام] (3) من ظهره كهيئة الذر ، وهو في آذى من الماء.
وقال أيضا : حدثنا علي بن سهل ، حدثنا ضَمْرَة بن ربيعة ، حدثنا أبو مسعود عن جُوبير قال : مات ابن للضحاك بن مُزَاحِم ، [وهو] (4) ابن ستة أيام. قال : فقال : يا جابر ، إذا أنت وضعت ابني في لحده ، فأبرز وجهه ، وحُلّ عنه عقده ، فإن ابني مُجْلَس ، ومسئول. ففعلت به الذي أمر ، فلما فرغت قلت : يرحمك الله ، عمّ يُسأل ابنك ؟ من يسأله إياه ؟ قال : يُسْأل عن الميثاق الذي أقر به في (5) صلب آدم. قلت : يا أبا القاسم ، وما هذا الميثاق الذي أقر به في (6) صلب آدم ؟ قال : حدثني ابن عباس [رضي الله عنه] (7) ؛ أن الله مسح صلب آدم فاستخرج منه كل نسمة هو خلقها (8) إلى يوم القيامة ، فأخذ منهم الميثاق : أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا ، وتكفل لهم بالأرزاق ، ثم أعادهم في صلبه. فلن تقوم الساعة حتى يولد من أعطي الميثاق يومئذ ، فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفى به ، نفعه الميثاق الأول. ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يف (9) به ، لم ينفعه الميثاق الأول. ومن مات صغيرا قبل أن يدرك الميثاق الآخر ، مات على الميثاق الأول على الفطرة (10)
فهذه الطرق كلها مما تقوِّي وَقْف هذا على ابن عباس ، والله أعلم.
حديث آخر : وقال ابن جرير : حدثنا عبد الرحمن بن الوليد ، حدثنا أحمد بن أبي طيبة ، عن سفيان بن سعيد ، عن الأجلح ، عن الضحاك وعن (11) - منصور ، عن مجاهد - عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } قال : "أخذ من ظهره ، كما يؤخذ بالمشط من الرأس ، فقال لهم : { ألست بربكم قالوا بلى } قَالَتِ الْمَلائِكَةُ { شهدنا أن يقولوا } (12) يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين (13)
أحمد بن أبي طيبة هذا هو : أبو محمد الجرجاني قاضي قومس ، كان أحد الزهاد ، أخرج له النسائي في سننه ، وقال أبو حاتم الرازي : يكتب حديثه. وقال ابن عَدِيّ : حدث بأحاديث أكثرها (14) غرائب.
وقد روى هذا الحديث عبد الرحمن بن مَهْدِيّ ، عن سفيان الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد ،
__________
(1) تفسير الطبري (13 / 236 ، 237).
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من م.
(5) في ك ، م ، أ : "من".
(6) في ك ، م ، أ : "من".
(7) زيادة من أ.
(8) في ك ، م ، أ : "خالقها".
(9) في ك ، م : "يقر".
(10) تفسير الطبري (13/230).
(11) في م : "بن".
(12) في أ : "تقولوا".
(13) تفسير الطبري (13/232) قال الطبري : "ولأعلمه صحيحا ؛ لأن الثقات الذين يعتمد على حفظهم واتقانهم ، حدثوا بهذا الحديث عن الثوري فوقفوه على عبد الله بن عمرو ، ولم يرفعوه ولم يذكروا في الحديث هذا الحرف الذي ذكره أحمد بن أبي طيبة عنه".
(14) في ك ، م ، أ : "كثيرة".

(3/502)


عن عبد الله بن عمرو ، قوله ، وكذا رواه جرير ، عن منصور ، به. وهذا أصح (1) والله أعلم.
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا روح - هو ابن عبادة - حدثنا مالك ، وحدثنا إسحاق ، أخبرنا مالك ، عن زيد بن أبي أُنَيْسةَ : أن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ، أخبره ، عن مسلم بن يَسار الجُهَني : أن عمر بن الخطاب سُئِل عن هذه الآية : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } الآية ، فقال عمر بن الخطاب : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سُئل عنها ، فقال : "إن الله خلق آدم ، عليه السلام ، ثم مسح ظهره بيمينه ، فاستخرج منه ذرية ، قال : خلقت هؤلاء للجنة ، وبعمل أهل الجنة يعملون. ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية ، قال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون". فقال رجل : يا رسول الله ، ففيم العمل ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا خلق الله العبد للجنة ، استعمله بأعمال (2) أهل الجنة ، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة ، فيدخله (3) به الجنة. وإذا خلق العبد للنار ، استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار ، فيدخله (4) به النار".
وهكذا رواه أبو داود عن القَعْنَبي - والنسائي عن قتيبة - والترمذي (5) عن إسحاق بن موسى ، عن مَعْن. وابن أبي حاتم ، عن يونس بن عبد الأعلى ، عن ابن وهب. وابن جرير من حديث روح ابن عبادة وسعيد بن عبد الحميد بن جعفر. وأخرجه ابن حبان في صحيحه ، من رواية أبي مصعب الزبيري ، كلهم عن الإمام مالك بن أنس ، به (6)
قال الترمذي : وهذا حديث حسن ، ومسلم بن يَسَار لم يسمع (7) عُمَر. وكذا قاله أبو حاتم وأبو زُرْعَة. زاد أبو حاتم : وبينهما نُعَيْم بن ربيعة.
وهذا الذي قاله أبو حاتم ، رواه أبو داود في سننه ، عن محمد بن مصفى ، عن بَقِيَّةَ ، عن عمر ابن جُعْثُم (8) القرشي ، عن زيد بن أبي أُنَيْسَة ، عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ، عن مسلم بن يَسَار الجهني ، عن نعيم بن ربيعة قال : كنت عند عمر بن الخطاب [رضي الله عنه] (9) وقد سئل عن هذه الآية : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } فذكره (10)
وقال الحافظ الدارقطني : وقد تابع عمر بن جُعْثُم بن زيد بن سِنان أبو فَرْوَة الرَّهَاوي ، وقولهما أولى بالصواب من قول مالك ، والله أعلم (11)
قلت : الظاهر أن الإمام مالكا إنما أسقط ذكر "نعيم بن ربيعة" عمدًا ؛ لما جهل حاله ولم يعرفه ،
__________
(1) تفسير الطبري (13/233).
(2) في ك ، م ، أ : "بعمل".
(3) في ك ، م ، أ : "فيدخل".
(4) في أ : "فيدخل".
(5) في ك ، م ، أ : "والترمذي في تفسيرهما".
(6) المسند (1/44) وسنن أبي داود برقم (4703) وسنن النسائي الكبرى برقم (11190) وسنن الترمذي برقم (3075) وتفسير الطبري (13/233).
(7) في أ : "لم يسمع من".
(8) في أ : "عمرو بن خثعم".
(9) زيادة من أ.
(10) سنن أبي داود برقم (4704) ورواه الطبري في تفسيره (13/235) من طريق محمد بن مصفى ، به.
(11) العلل للدارقطني (2/221 - 223).

(3/503)


فإنه غير معروف إلا في هذا الحديث ، وكذلك يسقط ذكر جماعة ممن لا يرتضيهم ؛ ولهذا يرسل كثيرًا من المرفوعات ، ويقطع كثيرًا من الموصولات ، والله أعلم.
حديث آخر : قال الترمذي عند تفسيره هذه الآية : حدثنا عبد بن حميد ، حدثنا أبو نُعَيْم ، حدثنا هشام بن سعد ، عن زيد بن أسلم ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة [رضي الله عنه] (1) قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لما خلق الله [عز وجل] (2) آدم مسح ظهره ، فسقط من ظهره كل نَسَمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة ، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وَبيصًا من نور ، ثم عرضهم على آدم ، فقال : أي رب ، من هؤلاء ؟ قال : هؤلاء ذرّيتك. فرأى رجلا منهم فأعجبه وَبِيص ما بين عينيه ، فقال : أي رب ، من هذا ؟ قال : هذا رجل من آخر الأمم من ذُرّيتك ، يقال له : داود. قال : رب ، وكم جعلت عمره ؟ قال : ستين سنة. قال : أي رب ، زده من عمري أربعين سنة. فلما انقضى عمر آدم ، جاءه ملك الموت قال : أو لم يبق من عمري أربعون (3) سنة ؟ قال : أوَ لم تعطها ابنك داود ؟ قال : فجحد آدم فجحدت ذريته ، ونسي آدم فنسيت ذريته ، وخطئ آدم فخطئت ذريته".
ثم قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ، وقد رُوي من غير وجه عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ورواه الحاكم في مستدركه ، من حديث أبي نُعَيْم الفضل بن دُكَيْن ، به. وقال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه (4)
ورواه ابن أبي حاتم في تفسيره ، من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، أنه حدثه عن عطاء بن يسار ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر نحو ما تقدم ، إلى أن قال : "ثم عرضهم على آدم فقال : يا آدم ، هؤلاء ذريتك. وإذا فيهم الأجذم والأبرص والأعمى ، وأنواع الأسقام ، فقال آدم : يا رب ، لم فعلت هذا بذريتي ؟ قال : كي تشكر نعمتي. وقال آدم : يا رب ، من هؤلاء الذين أراهم أظْهَرَ الناس نورا ؟ قال : هؤلاء الأنبياء يا آدم من ذريتك". ثم ذكر قصة داود ، كنحو ما تقدم (5)
حديث آخر : قال عبد الرحمن بن قتادة النَّصْري (6) عن أبيه ، عن هشام بن حكيم ، رضي الله عنه ، أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أتبدأ الأعمال ، أم قد قُضِي القضاء ؟ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله قد أخذ ذرية آدم من ظهورهم ، ثم أشهدهم على أنفسهم ، ثم أفاض بهم في كفيه" ثم قال : "هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار ، فأهل الجنة مُيَسَّرون لعمل أهل الجنة ، وأهل النار مُيَسَّرون لعمل أهل النار".
رواه ابن جرير ، وابن مردويه من طرق عنه (7)
__________
(1) زيادة من أ.
(2) زيادة من أ.
(3) في د ، أ : "أربعين".
(4) سنن الترمذي برقم (3076) والمستدرك (2/325).
(5) ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم (1015) من طريق محمد بن شعيب ، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، به. وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف.
(6) في أ : "البصري".
(7) تفسير الطبري (13/244) وقد توسع الشيخ محمود شاكر في الكلام عليه في الحاشية بما يغني عن إعادته هنا.

(3/504)


حديث آخر : روى جعفر بن الزبير - وهو ضعيف - عن القاسم ، عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لما خلق الله الخلق ، وقضى القضية ، أخذ أهل اليمين بيمينه وأهل الشمال بشماله ، فقال : يا أصحاب اليمين. فقالوا : لبيك وسعديك. قال : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى. قال : يا أصحاب الشمال. قالوا : لبيك وسعديك. قال : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ثم خلط بينهم ، فقال قائل : يا رب ، لم خلطت بينهم ؟ قال : لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون ، أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين ، ثم ردهم في صلب آدم [عليه السلام] (1). رواه ابن مردويه (2)
أثر آخر : قال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أُبي بن كعب [رضي الله عنه] (3) في قول الله تعالى (4) { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } الآية والتي بعدها ، قال : فجمعهم له يومئذ جميعا ، ما هو كائن منه إلى يوم القيامة ، فجعلهم أرواحًا ثم صورهم ثم استنطقهم فتكلموا ، وأخذ عليهم العهد والميثاق ، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ؟ قالوا : بلى ، الآية. قال : فإني أشهد عليكم السماوات السبع ، والأرَضِين السبع ، وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة : لم نعلم بهذا اعلموا أنه لا إله غيري ، ولا رب غيري ، فلا تشركوا بي شيئًا ، وإني سأرسل إليكم رسلا يذكرونكم (5) عهدي وميثاقي ، وأنزل عليكم كتبي. قالوا : نشهد أنك ربنا وإلهنا ، لا رب لنا غيرك ، ولا إله لنا غيرك. فأقروا له يومئذ بالطاعة ، ورفع أباهم آدم فنظر إليهم ، فرأى فيهم الغني والفقير ، وحسن الصورة ودون ذلك. فقال : يا رب ، لو سَويت بين عبادك ؟ قال : إني أحببت أن أشكر. ورأى فيهم الأنبياء مثل السرُج عليهم النور ، وخصوا بميثاق آخر من الرسالة والنبوة ، فهو الذي يقول تعالى (6) { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ [وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ] (7) } [الأحزاب : 7] وهو الذي يقول : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ [ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ] } (8) الآية [الروم : 30] ، ومن ذلك قال : { هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأولَى } [النجم : 56] ومن ذلك قال : { وَمَا وَجَدْنَا لأكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ [ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ] (9) } [الأعراف : 102].
رواه عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه ، ورواه ابن أبي حاتم وابن جرير وابن مَرْدُويه في تفاسيرهم ، من رواية ابن جعفر الرازي ، به. وروي عن مجاهد ، وعكرمة ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، والسدي ، وغير واحد من علماء السلف ، سياقات توافق هذه الأحاديث ، اكتفينا بإيرادها عن التطويل في تلك الآثار كلها ، وبالله المستعان.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (8/287) من طريق عثمان بن االهيثم ، عن جعفر بن الزبير به. وجعفر بن الزبير ضعيف جدا ، وقد توبع :
تابعه بشر بن نمير عن القاسم عن أبي أمامة بنحوه. ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم (228) والعقيلي في الضعفاء الكبير (1/51) ، ولكن لم يفرح بهذه المتابعة فإن بشر بن نمير متروك متهم.
(3) زيادة من أ.
(4) في أ : "الله عز وجل".
(5) في أ : "ينذرونكم".
(6) في أ : "عز وجل".
(7) زيادة من م ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(8) زيادة من ك ، م ، أ.
(9) زيادة من د ، ك ، م ، أ ، وفي هـ : "الآية".

(3/505)


وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آَتَيْنَاهُ آَيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)

فهذه الأحاديث دالة على أن الله ، عز وجل ، استخرج ذرية آدم من صلبه ، وميز بين أهل الجنة وأهل النار ، وأما الإشهاد عليهم هناك بأنه ربهم ، فما هو إلا في حديث كلثوم بن جبر (1) عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] (2) وفي حديث عبد الله بن عمرو [رضي الله عنهما] (3) وقد بينا أنهما موقوفان لا مرفوعان ، كما تقدم. ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف : إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فَطْرهم على التوحيد ، كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض بن حمَار المُجَاشعي ، ومن رواية الحسن البصري عن الأسود بن سَرِيع. وقد فسر الحسن البصري الآية بذلك ، قالوا : ولهذا قال : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ } ولم يقل : "من آدم" ، { مِنْ ظُهُورِهِمْ } ولم يقل : "من ظهره" { ذُرِّيَّاتِهِمْ } أي : جعل نسلهم جيلا بعد جيل ، وقرنًا بعد قرن ، كما قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ } [الأنعام : 165] وقال : { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرْضِ } [النمل : 62] وقال : { كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } [الأنعام : 133]
ثم قال : { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } أي : أوجدهم شاهدين بذلك ، قائلين له حالا وقالا. والشهادة تارة تكون بالقول ، كما قال [تعالى] (4) { قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا } [الأنعام : 130] الآية ، وتارة تكون حالا كما قال تعالى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ } [التوبة : 17] أي : حالهم شاهد عليهم بذلك لا أنهم قائلون ذلك ، وكذلك (5) قوله تعالى : { وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ } [العاديات : 7] كما أن السؤال تارة يكون بالقال ، وتارة يكون بالحال ، كما في قوله : { وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } [إبراهيم : 34] قالوا : ومما يدل على أن المراد بهذا هذا ، أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك ، فلو كان قد وقع هذا كما قاله من قال (6) لكان كل أحد يذكره ، ليكون حجة عليه. فإن قيل : إخبار الرسول به كاف في وجوده ، فالجواب : أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره. وهذا جعل حجة مستقلة عليهم ، فدل على أنه الفطرة التي فُطِروا عليها من الإقرار بالتوحيد ؛ ولهذا قال : { أَنْ يَقُولُوا } (7) أي : لئلا يقولوا يوم القيامة : { إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا } أي : [عن] (8) التوحيد { غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا } (9) الآية.
{ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) }
قال عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري ، عن الأعمش ومنصور ، عن أبي الضُّحَى ، عن مسروق ،
__________
(1) في أ : "جبير".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من أ.
(5) في ك : "وكذا" ، وفي م : "وهذا كقوله".
(6) في م ، أ : "قاله".
(7) في ك ، م ، أ : "تقولوا".
(8) زيادة من م ، أ.
(9) في م : "تقولوا".

(3/506)


عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، في قوله تعالى : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا [ فَأَتْبَعَهُ ] } (1) الآية ، قال : هو رجل من بني إسرائيل ، يقال له : بَلْعم بن أبَرَ. وكذا رواه شعبة وغير واحد ، عن منصور ، به.
وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة ، عن قتادة ، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] (2) هو صيفي بن الراهب.
قال قتادة : وقال كعب : كان رجلا من أهل البلقاء ، وكان يعلم الاسم الأكبر ، وكان مقيما ببيت (3) المقدس مع الجبارين.
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] (4) هو رجل من أهل اليمن ، يقال له : بَلْعَم ، آتاه الله آياته فتركها.
وقال مالك بن دينار : كان من علماء بني إسرائيل ، وكان مجاب الدعوة ، يقدمونه في الشدائد ، بعثه نبي الله موسى إلى ملك مَدْين يدعوه إلى الله ، فأقطعه وأعطاه ، فتبع دينه وترك دين موسى ، عليه السلام.
وقال سفيان بن عيينة ، عن حُصَين ، عن عمران بن الحارث ، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] (5) هو بلعم بن باعر. وكذا قال مجاهد وعكرمة.
وقال ابن جرير : حدثني الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا إسرائيل ، عن مغيرة ، عن مجاهد ، عن ابن عباس [رضي الله عنهما] (6) قال : هو بلعام - وقالت ثقيف : هو أمية بن أبي الصلت.
وقال شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، عن نافع بن عاصم ، عن عبد الله بن عمرو [رضي الله عنهما] (7) في قوله : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ [ آيَاتِنَا ] } (8) قال : هو صاحبكم أمية بن أبي الصلت.
وقد روي من غير وجه ، عنه وهو صحيح إليه ، وكأنه إنما أراد أن أمية بن أبي الصلت يشبهه ، فإنه كان قد اتصل إليه علم كثير من علم الشرائع المتقدمة ، ولكنه لم ينتفع بعلمه ، فإنه أدرك زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبلغته أعلامه وآياته ومعجزاته ، وظهرت لكل من له بصيرة ، ومع هذا اجتمع به ولم يتبعه ، وصار إلى موالاة المشركين ومناصرتهم وامتداحهم ، ورثى أهل بدر من المشركين بمرثاة بليغة ، قبحه الله [تعالى] (9) (10) وقد جاء في بعض الأحاديث : "أنه ممن آمن لسانه ، ولم يؤمن قلبه" ؛ فإن له أشعارا ربانية وحكما وفصاحة ، ولكنه لم يشرح الله صدره للإسلام.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان عن أبي سعيد الأعور ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا } قال : هو رجل أعطي ثلاث دعوات يستجاب له فيهن ، وكانت له امرأة له منها ولد ، فقالت : اجعل لي منها واحدة. قال :
__________
(1) زيادة من ك.
(2) زيادة من أ.
(3) في أ : "بيت".
(4) زيادة من أ.
(5) زيادة من أ.
(6) زيادة من أ.
(7) زيادة من أ.
(8) زيادة من ك ، م ، أ.
(9) زيادة من أ.
(10) انظر : العقيدة في السيرة النبوية لابن هشام (2/30).

(3/507)


فلك واحدة ، فما الذي تريدين ؟ قالت : ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل. فدعا الله ، فجعلها أجمل امرأة في بني إسرائيل ، فلما علمت أن (1) ليس فيهم مثلها رغبت عنه ، وأرادت شيئًا آخر ، فدعا الله أن يجعلها كلبة ، فصارت كلبة ، فذهبت دعوتان. فجاء بنوها فقالوا : ليس بنا على هذا قرار ، قد صارت أمنا كلبة يعيرنا الناس بها ، فادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليها ، فدعا الله ، فعادت كما كانت ، فذهبت الدعوات الثلاث ، وسميت البسوس. (2) غريب.
وأما المشهور في سبب نزول هذه الآية الكريمة ، فإنما هو رجل من المتقدمين في زمن بني إسرائيل ، كما قال ابن مسعود وغيره من السلف.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هو رجل من مدينة الجبارين ، يقال له : "بلعام" (3) وكان يعلم اسم الله الأكبر.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغيره من علماء السلف : كان [رجلا] (4) مجاب الدعوة ، ولا يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه.
وأغرب ، بل أبعد ، بل أخطأ من قال : كان قد (5) أوتي النبوة فانسلخ منها. حكاه ابن جرير ، عن بعضهم ، ولا يصح (6)
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : لما نزل موسى بهم - يعني بالجبارين - ومن معه ، أتاه يعني بلعام (7) - أتاه بنو عمه وقومه ، فقالوا : إن موسى رجل حديد ، ومعه جنود كثيرة ، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا ، فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه. قال : إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه ، ذهبت دنياي وآخرتي. فلم يزالوا به حتى دعا عليهم ، فسلخه الله ما كان عليه ، فذلك قوله تعالى : { فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ [ مِنَ الْغَاوِينَ ] } (8)
وقال السدي : إن الله لما انقضت الأربعون سنة التي قال الله : { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً } [المائدة : 26] بعث يوشع بن نون نبيا ، فدعا بني إسرائيل ، فأخبرهم أنه نبي ، وأن الله [قد] (9) أمره أن يقاتل الجبارين ، فبايعوه وصدقوه. وانطلق رجل من بني إسرائيل يقال له : "بلعم" وكان عالمًا ، يعلم الاسم الأعظم المكتوم ، فكفر - لعنه الله - وأتى الجبارين وقال لهم : لا ترهبوا بني إسرائيل ، فإني إذا خرجتم تقاتلونهم ادعوا عليهم دعوة فيهلكون! وكان عندهم فيما شاء من الدنيا ، غير أنه كان لا يستطيع أن يأتي النساء ، يعظمهن (10) فكان ينكح أتانا له ، وهو الذي قال الله تعالى (11) { فَانْسَلَخَ مِنْهَا }
__________
(1) في أ : "أنه".
(2) ورواه أبو الشيخ في تفسيره كما في الدر المنثور (3/608).
(3) في د ، ك ، م ، أ : "بلعم".
(4) زيادة من أ.
(5) في أ : "من قال أنه".
(6) تفسير الطبري (13/259).
(7) في د ، ك ، م ، أ : "بلعم".
(8) زيادة من د ، ك ، م ، أ. وفي هـ : "الآية".
(9) زيادة من د ، أ.
(10) في أ : "لعظمهن".
(11) في أ : "الله عز وجل".

(3/508)


وقوله : { فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ } أي : استحوذ عليه وغلبه على أمره ، فمهما أمره امتثل وأطاعه ؛ ولهذا قال : { فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ } أي : من الهالكين الحائرين (1) البائرين.
وقد ورد في معنى هذه الآية حديث رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده حيث قال : حدثنا محمد بن مرزوق ، حدثنا محمد بن بكر ، عن الصلت بن بَهْرام ، حدثنا الحسن ، حدثنا جُنْدُب البجلي في هذا المسجد ؛ أن حذيفة - يعني بن اليمان ، رضي الله عنه - حدثه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن مما أتخوف عليكم رجُل قرأ القرآن ، حتى إذا رؤيت بهجته عليه وكان رِدْء الإسلام اعتراه (2) إلى ما شاء الله ، انسلخ منه ، ونبذه وراء ظهره ، وسعى على جاره بالسيف ، ورماه بالشرك". قال : قلت : يا نبي الله ، أيهما أولى بالشرك : المرمي أو الرامي ؟ قال : "بل الرامي".
هذا إسناد جيد (3) والصلت بن بهرام كان من ثقات الكوفيين ، ولم يرم بشيء سوى الإرجاء ، وقد وثقه الإمام أحمد بن حنبل ويحيى بن معين ، وغيرهما.
وقوله تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } يقول تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } أي : لرفعناه من التدنس عن (4) قاذورات الدنيا بالآيات التي آتيناه إياها ، { وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ } أي : مال إلى زينة الدنيا وزهرتها ، وأقبل على لذاتها ونعيمها ، وغرّته كما غرت غيره من غير أولي البصائر (5) والنهى.
وقال أبو الزاهرية في قوله تعالى : { وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ } قال : تراءى له الشيطان على غَلْوة من قنطرة بانياس ، فسجدت الحمارة لله ، وسجد بلعام للشيطان. وكذا قال عبد الرحمن بن جُبَيْر بن نُفَير ، وغير واحد.
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله : وكان من قصة هذا الرجل : ما حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر ، عن أبيه : أنه سُئل عن هذه الآية : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا [ فَانْسَلَخَ مِنْهَا ] } (6) فحدث عن سيار أنه كان رجلا يقال له بلعام ، وكان قد أوتي النبوة وكان مجاب الدعوة ، قال : وإن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بلعام - أو قال : الشام - قال فرُعب الناس منه رعبًا شديدًا ، قال : فأتوا بلعام ، فقالوا : ادع الله على هذا الرجل وجيشه! قال : حتى أوَامر ربي - أو : حتى أؤامر - قال : فوامر في الدعاء عليهم ، فقيل له : لا تدع عليهم ، فإنهم عبادي ، وفيهم نبيهم. قال : فقال لقومه : إني قد آمرت ربي في الدعاء عليهم ، وإني قد نهيت. فأهدوا له هدية فقبلها ، ثم راجعوه فقالوا : ادع عليهم. فقال : حتى أوامر. فوامر ، فلم يَحُر إليه شيء. فقال : قد وامرت فلم يَحُر إلى شيء! فقالوا : لو كره ربك أن تدعو عليهم لنهاك كما نهاك المرة الأولى. قال : فأخذ يدعو عليهم ، فإذا دعا عليهم ، جرى على لسانه الدعاء على قومه ، وإذا أراد أن يدعو أن يفتح
__________
(1) في أ : "الجائرين".
(2) في أ : "اعتره".
(3) ورواه البزار في مسنده برقم (175) من طريق : حدثنا محمد بن مرزوق والحسن بن أبي كبشة ، حدثنا محمد بن بكر البرساني به. قال الهيثمي في المجمع (1/188) : "إسناده حسن".
(4) في أ : "من".
(5) في أ : "الأبصار".
(6) زيادة من أ.

(3/509)


لقومه (1) دعا أن يفتح لموسى وجيشه - أو نحوًا من ذا إن شاء الله. قال (2) ما نراك تدعو إلا علينا. قال : ما يجري على لساني إلا هكذا ، ولو دعوت عليه أيضا ما استجيب لي ، ولكن سأدلكم على أمر عسى أن يكون فيه هلاكهم. إن الله يبغض الزنا ، وإنهم إن وقعوا بالزنا هلكوا ، ورجوت أن يهلكهم الله ، فأخرجوا النساء يَسْتقبلنهم (3) ؛ فإنهم قوم مسافرون ، فعسى أن يزنوا فيهلكوا. قال : ففعلوا. قال : فأخرجوا النساء يستقبلنهم. قال : وكان للملك ابنة ، فذكر من عظمها ما الله أعلم به! قال : فقال أبوها - أو بلعام - : لا تمكني نفسك إلا من موسى! قال : ووقعوا في الزنا. قال : وأتاها رأس سبط من أسباط بني إسرائيل ، قال : فأرادها على نفسه ، فقالت : ما أنا بممكنة نفسي إلا من موسى. قال : فقال : إن منزلتي (4) كذا وكذا ، وإن من حالي كذا وكذا. قال : فأرسلت إلى أبيها تستأمره ، قال : فقال لها : فأمكنيه قال : ويأتيهما رجل من بني هارون ومعه الرمح فيطعنهما. قال : وأيده الله بقوة. فانتظمهما جميعا ، ورفعهما على رمحه (5) فرآهما الناس - أو كما حدَّث - قال : وسلط الله عليهم الطاعون ، فمات منهم سبعون ألفا.
قال أبو المعتمر : فحدثني سَيَّار : أن بلعامًا ركب حمارة له حتى (6) أتى العلولي (7) - أو قال : طريقا من العلولي (8) - جعل يضربها ولا تُقْدم ، وقامت عليه فقالت : علام تضربني ؟ أما ترى هذا الذي بين يديك ؟ فإذا الشيطان بين يديه ، قال : فنزل وسجد له ، قال الله تعالى : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا } إلى قوله : { لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }
قال : فحدثني بهذا سيار ، ولا أدري لعله قد دخل فيه شيء من حديث غيره.
قلت : هو بلعام - ويقال : بلعم - بن باعوراء ، ابن أبر. ويقال : ابن باعور بن شهوم (9) بن قوشتم ابن ماب بن لوط بن هاران - ويقال : ابن حران - بن آزر. وكان يسكن قرية من قرى البلقاء.
قال ابن عساكر : وهو الذي كان يعرف اسم الله الأعظم ، فانسلخ من دينه ، له ذكر في القرآن. ثم أورد (10) من قصته نحوا مما ذكرنا هاهنا ، وأورده عن وهب وغيره ، والله أعلم.
وقال محمد بن إسحاق بن يسار عن سالم أبي النضر ؛ أنه حدث : أن موسى ، عليه السلام ، لما نزل في أرض بني كنعان من أرض الشام ، أتى قوم بلعام إليه فقالوا له : هذا موسى بن عمران في بني إسرائيل ، قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل ، وإنا قومك ، وليس لنا منزل ، وأنت رجل مجاب الدعوة ، فاخرج فادع الله عليهم. قال : ويلكم! نبي الله معه الملائكة والمؤمنون ، كيف أذهب أدعو عليهم ، وأنا أعلم من الله ما أعلم ؟! قالوا له : ما لنا من منزل! فلم يزالوا به يرققونه ويتضرعون إليه ، حتى فتنوه فافتتن ، فركب حمارة (11) له متوجهًا إلى الجبل الذي يطلعه على عسكر بني إسرائيل ، وهو جبل حُسْبان ، فلما سار عليها غير كثير ، ربضت به ، فنزل عنها فضربها ، حتى إذا
__________
(1) في م : "على قومه".
(2) في أ : "فقالوا له".
(3) في أ : "تستقبلهم".
(4) في أ : "إن من منزلتي".
(5) في م : "على رأس رمحه".
(6) في أ : "حتى إذا".
(7) في ك : "العلوي".
(8) في ك : "العلوي".
(9) في أ : "شهتوم".
(10) في أ : "ثم ذكر".
(11) في م ، أ : "حمارا".

(3/510)


أذلقها قامت فركبها. فلم تسر به كثيرًا حتى ربضت به ، فضربها حتى إذا أذلقها أذن الله لها فكلمته حجة عليه ، فقالت : ويحك يا بلعم : أين تذهب ؟ أما (1) ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا ؟ أتذهب إلى نبي الله والمؤمنين لتدعو (2) عليهم ؟ فلم ينزع عنها يضربها ، فخلى الله سبيلها حين فعل بها ذلك. فانطلقت به حتى إذا أشرفت به على رأس حسبان ، على عسكر موسى وبني إسرائيل ، جعل يدعو عليهم ، ولا يدعو عليهم بشر إلا صرف الله لسانه إلى قومه ، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف لسانه إلى بني إسرائيل. فقال له قومه : أتدري يا بلعم ما تصنع ؟ إنما تدعو لهم ، وتدعو علينا! قال : فهذا ما لا أملك ، هذا شيء قد غلب الله عليه! قال : واندلع لسانه فوقع على صدره ، فقال لهم : قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة ، ولم يبق إلا المكر والحيلة ، فسأمكر لكم وأحتال ، جَمِّلوا النساء وأعطوهن السلع ، ثم أرسلوهن إلى العسكر يبعنها فيه ، ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها ، فإنهم إن زنى رجل منهم واحد كُفِيتموهم ، ففعلوا. فلما دخل النساء العسكر ، مرت امرأة من الكنعانيين اسمها "كسبي ابنة صور ، رأس أمته" برجل من عظماء بني إسرائيل ، وهو "زمرى بن شلوم" ، رأس سبط بني سمعان بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، عليهم السلام ، فقام إليها ، فأخذ بيدها حين أعجبه جمالها ، ثم أقبل بها حتى وقف بها على موسى ، عليه السلام ، فقال : إني أظنك ستقول هذا حرام عليك ؟ قال : أجل ، هي حرام عليك ، لا تقربها. قال : فوالله لا نطيعك في هذا. ثم دخل بها قبته فوقع عليها. وأرسل الله ، عز وجل ، الطاعون في بني إسرائيل ، وكان فنحاص بن العيزار بن هارون ، صاحب أمر موسى ، وكان غائبا حين صنع زمرى بن شلوم ما صنع ، فجاء والطاعون يجوس في بني إسرائيل ، فأخبر الخبر ، فأخذ حربته ، وكانت من حديد كلها ، ثم دخل القبة وهما متضاجعان ، فانتظمهما بحربته ، ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء ، والحربة قد أخذها بذراعه ، واعتمد بمرفقه على خاصرته ، وأسند الحربة إلى لَحْيَيْه - وكان بكر العيزار - وجعل يقول : اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك. ورفع الطاعون ، فحسب من هلك من بني إسرائيل في الطاعون فيما بين أن أصاب زمرى المرأة إلى أن قتله فنحاص ، فوجدوه قد هلك منهم سبعون ألفا - والمقلل لهم يقول : عشرون ألفا - في ساعة من النهار. فمن هنالك تعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص من كل ذبيحة ذبحوها القبة والذراع واللَّحَى - لاعتماده بالحربة على خاصرته ، وأخذه إياها بذراعه ، وإسناده إياها إلى لحييه - والبكر من كل أموالهم وأنفسهم ؛ لأنه كان بكر أبيه العيزار. ففي بلعام بن باعوراء أنزل الله : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا [ فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ ] } (3) - إلى قوله : { لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (4)
وقوله تعالى : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ } اختلف المفسرون في معناه (5) فأما على سياق ابن إسحاق ، عن سالم بن أبي النضر : أن بلعاما اندلع لسانه على صدره - فتشبيهه بالكلب في لهثه (6) في كلتا حالتيه إن زجر وإن ترك. وقيل : معناه : فصار مثله في ضلاله واستمراره فيه ، وعدم انتفاعه بالدعاء إلى الإيمان وعدم الدعاء ، كالكلب في لهثه (7) في حالتيه ، إن
__________
(1) في ك ، م : "ألا".
(2) في أ : "تدعو".
(3) زيادة من أ.
(4) رواه الطبري في تفسيره (13/264).
(5) في أ : "في معنى هذا".
(6) في د ، ك ، م : "لهيثه".
(7) في د ، ك ، م ، "لهيثه".

(3/511)


مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)

حملت عليه وإن تركته ، هو يلهث في الحالين ، فكذلك هذا لا ينتفع بالموعظة والدعوة إلى الإيمان ولا عدمه ؛ كما قال تعالى : { سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ } [البقرة : 6] ، { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ } [التوبة : 80] ونحو ذلك.
وقيل : معناه : أن قلب الكافر والمنافق والضال ، ضعيف فارغ من الهدى ، فهو كثير الوجيب (1) فعبر عن هذا بهذا ، نقل نحوه عن الحسن البصري وغيره.
وقوله تعالى : { فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ } أي : لعل بني إسرائيل العالمين بحال بلعام ، وما جرى له في إضلال الله إياه وإبعاده من رحمته ، بسبب أنه استعمل نعمة الله عليه - في تعليمه الاسم الأعظم الذي إذا سئل به أعطى ، وإذا دعي به أجاب - في غير طاعة ربه ، بل دعا به على حزب الرحمن ، وشعب الإيمان ، أتباع عبده ورسوله في ذلك الزمان ، كليم الله موسى بن عمران ، [عليه السلام] (2) ؛ ولهذا قال : { لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } أي : فيحذروا أن يكونوا مثله ؛ فإن الله قد أعطاهم علمًا ، وميزهم على من عداهم من الأعراب ، وجعل بأيديهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم يعرفونها كما يعرفون أبناءهم ، فهم أحق الناس وأولاهم باتباعه ومناصرته ومؤازرته ، كما أخبرتهم أنبياؤهم بذلك وأمرتهم به ؛ ولهذا من خالف منهم ما في كتابه وكتمه فلم يعلم به العباد ، أحل الله به ذلا في الدنيا موصولا بذل الآخرة.
وقوله : { سَاءَ مَثَلا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ } يقول تعالى ساء مثلا مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا ، أي : ساء مثلهم أن شبهوا بالكلاب التي (3) لا همة لها (4) إلا في تحصيل أكلة أو شهوة ، فمن خرج عن حَيِّز العلم والهدى وأقبل على شهوة نفسه ، واتبع هواه ، صار شبيها بالكلب ، وبئس المثل مثله ؛ ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ليس لنا مثل السوء ، العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه" (5)
وقوله : { وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ } أي : ما ظلمهم الله ، ولكن هم ظلموا أنفسهم ، بإعراضهم عن اتباع الهدى ، وطاعة المولى ، إلى الركون إلى دار البلى ، والإقبال على تحصيل اللذات وموافقة الهوى.
{ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) }
يقول تعالى : من هداه الله فإنه لا مضل له ، ومن أضله فقد خاب وخسر وضل لا محالة ، فإنه تعالى ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ؛ ولهذا جاء في حديث ابن مسعود : "إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل الله فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله".
__________
(1) في أ : "الوجيف".
(2) زيادة من ك.
(3) في د ، ك : "الذين".
(4) في ك ، م : "لهم".
(5) صحيح البخاري برقم (2622).

(3/512)


الحديث بتمامه رواه الإمام أحمد ، وأهل السنن ، وغيرهم (1)
__________
(1) المسند (1/392) وسنن أبي داود برقم (1097) وسنن النسائي (6/89) وسنن ابن ماجة برقم (1892).

(3/513)


وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)

{ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) }
يقول تعالى : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا } أي : خلقنا وجعلنا { لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ } أي : هيأناهم لها ، وبعمل أهلها يعملون ، فإنه تعالى لما أراد أن يخلق الخلائق ، علم ما هم عاملون قبل كونهم ، فكتب ذلك عنده في كتاب قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، كما ورد في صحيح مسلم ، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء" (1)
وفي صحيح مسلم أيضا ، من حديث عائشة بنت طلحة ، عن خالتها عائشة أم المؤمنين ، رضي الله عنها ، أنها قالت : دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار ، فقلت : يا رسول الله طوبى له ، عصفور من عصافير الجنة ، لم يعمل السوء ولم يدركه. فقال [رسول الله صلى الله عليه وسلم] (2) أو غير ذلك يا عائشة ؟ إن الله خلق الجنة ، وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق النار ، وخلق لها (3) أهلا وهم في أصلاب آبائهم" (4)
وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود [رضي الله عنه] (5) ثم يبعث إليه الملك ، فيؤمر بأربع كلمات ، فيكتب : رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي أم (6) سعيد".
وتقدم أن الله [تعالى] (7) لما استخرج ذرية آدم من صلبه وجعلهم فريقين : أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، قال : "هؤلاء للجنة ولا أبالي ، وهؤلاء للنار ولا أبالي".
والأحاديث في هذا كثيرة ، ومسألة القدر كبيرة ليس هذا موضع بسطها.
وقوله تعالى : { لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا } يعني : ليس ينتفعون بشيء من هذه الجوارح التي جعلها الله [سببا للهداية] (8) كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ] (9) } [الأحقاف : 26] وقال تعالى : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } [البقرة : 18] هذا في حق المنافقين ، وقال في حق الكافرين : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ } [البقرة : 171] ولم يكونوا صمًا بكمًا عميًا إلا عن الهدى ، كما قال تعالى : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ } [الأنفال : 23] ،
__________
(1) صحيح مسلم برقم (2653).
(2) زيادة من د.
(3) في د ، ك ، م : "للنار".
(4) صحيح مسلم برقم (2662).
(5) زيادة من أ.
(6) في ك ، م ، أ : "أو".
(7) زيادة من أ.
(8) زيادة من د ، ك ، م ، أ.
(9) زيادة من أ. وفي هـ : "الآية".

(3/513)


وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)

وقال : { فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [الحج : 46] ، وقال { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } [الزخرف : 36 ، 37].
وقوله تعالى : { أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ } أي : هؤلاء الذين لا يسمعون الحق ولا يعونه ولا يبصرون الهدى ، كالأنعام السارحة التي لا تنتفع (1) بهذه الحواس منها إلا في الذي يعيشها من ظاهر الحياة الدنيا كما قال تعالى : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً [ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ ] (2) } [البقرة : 171] أي : ومثلهم - في حال دعائهم إلى الإيمان - كمثل الأنعام إذا دعاها راعيها لا تسمع إلا صوته ، ولا تفقه (3) ما يقول ؛ ولهذا قال في هؤلاء : { بَلْ هُمْ أَضَلُّ } أي : من الدواب ؛ لأن الدواب قد تستجيب مع ذلك لراعيها إذا أبس بها ، وإن لم تفقه كلامه ، بخلاف هؤلاء ؛ ولأن الدواب تفقه (4) ما خلقت له إما بطبعها وإما بتسخيرها ، بخلاف الكافر فإنه إنما خلق ليعبد الله ويوحده ، فكفر بالله وأشرك به ؛ ولهذا من أطاع الله من البشر كان أشرف من مثله من الملائكة في معاده ، ومن كفر به (5) من البشر ، كانت الدواب أتم منه ؛ ولهذا قال تعالى : { أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }
{ وَلِلَّهِ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) }
عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن لله تسعا وتسعين اسما مائة إلا واحدا ، من أحصاها دخل الجنة ، وهو وتر يحب الوتر".
أخرجاه في الصحيحين من حديث سفيان بن عيينة ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عنه (6) رواه البخاري ، عن أبى اليمان ، عن شعيب بن أبي حمزة ، عن أبي الزناد به (7) وأخرجه الترمذي ، عن الجوزجاني ، عن صفوان بن صالح ، عن الوليد بن مسلم ، عن شعيب فذكر بسنده مثله ، وزاد بعد قوله : "يحب الوتر" : هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ، الملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارئ ، المصور ، الغفار ، القهار ، الوهاب ، الرزاق ، الفتاح ، العليم ، القابض ، الباسط ، الخافض ، الرافع ، المعز ، المذل ، السميع ، البصير ، الحكم ، العدل ، اللطيف ، الخبير ، الحليم ، العظيم ، الغفور ، الشكور ، العلي ، الكبير ، الحفيظ ، المقيت ، الحسيب ، الجليل ، الكريم ، الرقيب ، المجيب ، الواسع ، الحكيم ، الودود ، المجيد ، الباعث ، الشهيد ، الحق ، الوكيل ، القوي ، المتين ، الولي ، الحميد ، المحصي ، المبدئ ، المعيد ، المحيي ، المميت ، الحي ، القيوم ، الواجد ، الماجد ، الواحد ، الأحد ، الفرد ، الصمد ، القادر ، المقتدر ، المقدم ، المؤخر ، الأول ، الآخر ، الظاهر ،
__________
(1) في ك ، م : "لا ينتفع".
(2) زيادة من أ.
(3) في أ : "لا تفهم".
(4) في أ : "تفعل".
(5) في أ : "بالله".
(6) صحيح البخاري برقم (6410) وصحيح مسلم برقم (2677).
(7) صحيح البخاري برقم (7392).

(3/514)


الباطن ، الوالي ، المتعالي ، البر ، التواب ، المنتقم ، العفوّ ، الرءوف ، مالك الملك ، ذو الجلال والإكرام ، المقسط ، الجامع ، الغني ، المغني ، المانع ، الضار ، النافع ، النور ، الهادي ، البديع ، الباقي ، الوارث ، الرشيد ، الصبور (1)
ثم قال الترمذي : هذا حديث غريب وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة [رضي الله عنه] (2) ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث.
ورواه ابن حبان في صحيحه ، من طريق صفوان ، به (3) وقد رواه ابن ماجه في سننه ، من طريق آخر (4) عن موسى بن عقبة ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة مرفوعا (5) فسرد الأسماء كنحو ما تقدم بزيادة ونقصان.
والذي عول عليه جماعة من الحفاظ أن سرد الأسماء في هذا الحديث مدرج فيه ، وإنما ذلك كما رواه الوليد بن مسلم وعبد الملك بن محمد الصنعاني ، عن زهير بن محمد : أنه بلغه عن غير واحد من أهل العلم أنهم قالوا ذلك ، أي : أنهم جمعوها من القرآن كما رود (6) عن جعفر بن محمد وسفيان بن عيينة وأبي زيد اللغوي ، والله أعلم.
ثم ليعلم أن الأسماء الحسنى ليست منحصرة في التسعة والتسعين (7) بدليل ما رواه الإمام أحمد في مسنده ، عن يزيد بن هارون ، عن فضيل بن مرزوق ، عن أبي سلمة الجهني ، عن القاسم بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك ، ابن عبدك ، ابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو أعلمته (8) أحدًا من خلقك ، أو أنزلته في كتابك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني ، وذهاب همي ، إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرحًا". فقيل : يا رسول الله ، أفلا نتعلمها ؟ فقال : "بلى ، ينبغي لكل من سمعها (9) أن يتعلمها".
وقد أخرجه الإمام أبو حاتم بن حبان البستي في صحيحه بمثله (10)
وذكر الفقيه الإمام أبو بكر بن العربي أحد أئمة المالكية في كتابه : "الأحوذي في شرح الترمذي" ؛ أن بعضهم جمع من الكتاب والسنة من أسماء الله ألف اسم ، فالله أعلم.
وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } قال : إلحاد الملحدين : أن دعوا "اللات (11) في أسماء الله.
__________
(1) بعدها في م : "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير".
(2) زيادة من أ.
(3) سنن الترمذي برقم (3507).
(4) في أ : "أخرى".
(5) سنن ابن ماجة برقم (3861) ، وقال البوصيري : "إسناد طريق ابن ماجة ضعيف لضعف عبد الملك بن محمد الصنعاني".
(6) في ك ، م ، أ : "روى".
(7) في د : "تسعة وتسعين".
(8) في م : "علمته".
(9) في أ : "ينبغي لمن سمعها".
(10) المسند (1/392) ، وصحيح ابن حبان برقم (2372) "موارد".
(11) في أ : "اللات والعزى".

(3/515)


وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)

وقال ابن جريج ، عن مجاهد : { وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ } قال : اشتقوا "اللات" من الله ، واشتقوا "العزى" من العزيز.
وقال قتادة : { يُلْحِدُونَ } يشركون. وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : الإلحاد : التكذيب. وأصل الإلحاد في كلام العرب : العدل عن القصد ، والميل والجور والانحراف ، ومنه اللحد في القبر ، لانحرافه إلى جهة القبلة عن سمت الحفر.
{ وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) }
يقول تعالى : { وَمِمَّنْ خَلَقْنَا } أي : ومن الأمم { أُمًّةٌ } قائمة بالحق ، قولا وعملا { يَهْدُونَ بِالْحَقِّ } يقولونه ويدعون إليه ، { وَبِهِ يَعْدِلُونَ } يعملون ويقضون.
وقد جاء في الآثار : أن المراد بهذه الأمة المذكورة في الآية ، هي هذه الأمة المحمدية.
قال سعيد ، عن قتادة في تفسير هذه الآية : بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قرأ هذه الآية : "هذه لكم ، وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها : { وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } (1) [ الأعراف : 159 ]
وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس في قوله تعالى : { وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ } قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن من أمتي قومًا على الحق ، حتى ينزل عيسى ابن مريم متى ما نزل". (2)
وفي الصحيحين ، عن معاوية بن أبي سفيان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ، لا يضرهم من خذلهم ، ولا من خالفهم ، حتى تقوم الساعة - وفي رواية - : حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك - وفي رواية - : وهم بالشام" (3)
{ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) }
يقول تعالى : { وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ } ومعناه : أنه يفتح لهم أبواب الرزق ووجوه المعاش في الدنيا ، حتى يغتروا بما هم فيه ويعتقدوا (4) أنهم على شيء ، كما قال تعالى : { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الأنعام : 44 ، 45] ؛ ولهذا قال تعالى : { وَأُمْلِي لَهُمْ } أي : وسأملي لهم ، أطول لهم ما هم فيه { إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } أي : قوي شديد.
__________
(1) رواه الطبري في تفسيره (13/286) ، وهو مرسل.
(2) رواه الثعلبي في تفسيره كما في تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي (1/474).
(3) صحيحح البخاري برقم (3641) وصحيح مسلم برقم (1037).
(4) في أ : "ويعتقدون".

(3/516)


أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)

{ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) }
يقول تعالى : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا } هؤلاء المكذبون بآياتنا { مَا بِصَاحِبِهِمْ } يعني محمدًا - صلوات الله وسلامه عليه (1) { مِنْ جِنَّةٍ } أي : ليس به جنون ، بل هو رسول الله حقًا دعا إلى حق ، { إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ } أي : ظاهر لمن كان له قلب ولب يعقل به ويعي به ، كما قال تعالى : { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } [التكوير : 22] ، وقال تعالى : { قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } [سبأ : 46] يقول إنما أطلب منكم أن تقوموا لله قياما خالصا لله ، ليس فيه تعصب ولا عناد ، { مَثْنَى وَفُرَادَى } أي : مجتمعين ومتفرقين ، { ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا } في هذا الذي جاءكم بالرسالة من الله : أبه جنون أم لا ؟ فإنكم إذا فعلتم ذلك ، بان لكم وظهر أنه رسول [الله] (2) حقًا وصدقًا.
وقال قتادة بن دعامة : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان على الصفا ، فدعا قريشًا فجعل يُفَخِّذهم فَخِذًا فَخِذًا : "يا بني فلان ، يا بني فلان" ، فحذرهم بأس الله ووقائع الله ، فقال قائلهم : إن صاحبكم هذا لمجنون. بات يصوت إلى الصباح - أو : حتى أصبح ، فأنزل الله تعالى : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ مُبِينٌ } (3)
{ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) }
يقول تعالى : { أَوَلَمْ يَنْظُرُوا } - هؤلاء المكذبون بآياتنا - في ملك الله وسلطانه في السماوات والأرض ، وفيما خلق [الله] (4) من شيء فيهما ، فيتدبروا ذلك ويعتبروا به ، ويعلموا أن ذلك لمن لا نظير له ولا شبيه ، ومِنْ فِعْل من لا ينبغي أن تكون (5) العبادة. والدين الخالص إلا له. فيؤمنوا به ، ويصدقوا رسوله ، وينيبوا إلى طاعته ، ويخلعوا الأنداد والأوثان ، ويحذروا أن تكون آجالهم قد اقتربت ، فيهلكوا على كفرهم ، ويصيروا إلى عذاب الله وأليم عقابه.
وقوله : { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } ؟ يقول : فبأي تخويف وتحذير وترهيب - بعد تحذير محمد وترهيبه ، الذي أتاهم به من عند الله في آي كتابه - يصدقون ، إن لم يصدقوا بهذا الحديث الذي جاءهم به محمد من عند الله ، عز وجل ؟!.
وقد روى الإمام أحمد عن حسن بن موسى وعفان (6) بن مسلم وعبد الصمد بن عبد الوارث ، عن حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد بن جُدْعَان ، عن أبي الصلت ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "رأيت ليلة أسري بي ، لما انتهينا إلى السماء السابعة ، فنظرت فوقي ، فإذا أنا برعد وبرق وصواعق" ، قال : "وأتيت على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم ، قلت : من
__________
(1) في أ : "صلى الله عليه وسلم"
(2) زيادة من د ، ك ، م ، أ.
(3) رواه الطبري في تفسيره (13/289).
(4) زيادة من م.
(5) في ك ، أ : "يكون".
(6) في أ : "عثمان".

(3/517)


مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)

هؤلاء يا جبريل ؟ قال : هؤلاء أكلة الربا. فلما نزلت إلى السماء الدنيا فنظرت إلى أسفل مني ، فإذا أنا برَهج ودخان وأصوات (1) فقلت : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذه الشياطين (2) يُحَرِّفون على أعين بني آدم أن لا يتفكروا في ملكوت السماوات والأرض ، ولولا ذلك لرأوا العجائب".
علي بن زيد بن جدعان له منكرات (3).
ثم قال تعالى :
{ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) }
يقول تعالى : من كُتِب عليه الضلالة فإنه لا يهديه أحد ، ولو نظر لنفسه فيما نظر ، فإنه لا يجزي (4) عنه شيئا ، { وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا } [المائدة : 41] قال تعالى : { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ } [يونس : 101]
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187) }
يقول تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ } كما قال تعالى : { يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ } [الأحزاب : 63] قيل : نزلت في قريش. وقيل : في نفر من اليهود. والأول أشبه ؛ لأن الآية مكية ، وكانوا يسألون عن وقت الساعة ، استبعادًا لوقوعها ، وتكذيبًا بوجودها ؛ كما قال تعالى : { وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [الأنبياء : 38] ، وقال تعالى : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ } [الشورى : 18]
وقوله : { أَيَّانَ مُرْسَاهَا } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : "منتهاها" أي : متى محطها ؟ وأيان آخر مدة الدنيا الذي هو أول وقت الساعة ؟
{ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلا هُوَ } أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن وقت الساعة ، أن يرُدَّ علمها إلى الله تعالى ؛ فإنه هو الذي يجليها لوقتها ، أي : يعلم جلية أمرها ، ومتى يكون على التحديد ، [أي] (5) لا يعلم ذلك [أحد] (6) إلا هو تعالى ؛ ولهذا قال : { ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ }
قال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة في قوله : { ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } قال : ثقل علمها على أهل السماوات والأرض أنهم لا يعلمون. قال معمر : قال الحسن : إذا جاءت ، ثقلت على أهل السماوات والأرض ، يقول : كَبُرَت عليهم.
__________
(1) في م : "وأصوات عالية".
(2) في أ : "هذه أصوات الشياطين".
(3) المسند (2/353).
(4) في م ، ك : "لا يجدى".
(5) زيادة من م.
(6) زيادة من أ.

(3/518)


وقال الضحاك ، عن ابن عباس في قوله : { ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } قال : ليس شيء من الخلق إلا يصيبه من ضرر يوم القيامة.
وقال ابن جُرَيْج : { ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } قال : إذا جاءت انشقت السماء (1) وانتثرت النجوم ، وكورت الشمس ، وسيرت الجبال ، وكان ما قاله الله ، عز وجل (2) فذلك ثقلها.
واختار ابن جرير ، رحمه الله : أن المراد : ثَقُلَ علم وقتها على أهل السماوات والأرض ، كما قال (3) قتادة.
وهو كما قالاه ، كقوله تعالى : { لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً } ولا ينفي ذلك ثقل مجيئها على أهل السماوات والأرض ، والله أعلم.
وقال السدي [في قوله تعالى] (4) { ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ } يقول : خفيت في السماوات والأرض ، فلا يعلم قيامها حين تقوم ملك مقرب ، ولا نبي مرسل.
{ لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً } [قال] (5) يبغتهم قيامها ، تأتيهم على غفلة.
وقال قتادة في قوله تعالى : { لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً } قضى الله أنها { لا تَأْتِيكُمْ إِلا بَغْتَةً } قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال (6) "إن الساعة تهيج بالناس ، والرجل يصلح حوضه ، والرجل يسقي ماشيته ، والرجل يقيم سلعته في السوق ويخفض ميزانه ويرفعه" (7)
وقال البخاري : حدثنا أبو اليمان ، أنبأنا شعيب ، حدثنا أبو الزناد عن عبد الرحمن ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت فرآها الناس آمنوا أجمعون ، فذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ، ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما (8) بينهما ، فلا يتبايعانه ولا يطويانه. ولتقومَنّ الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقْحَته فلا يَطْعَمُه. ولتقومَنّ الساعة وهو يَلِيط حوضه فلا يسقي فيه. ولتقومَنّ الساعة والرجل قد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها" (9)
وقال مسلم في صحيحه : حدثني زهير بن حرب ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال : "تقوم الساعة والرجل يحلب اللِّقْحَة ، فما يصل الإناء إلى فيه حتى تقوم الساعة. والرجلان (10) يتبايعان الثوب فما يتبايعانه حتى تقوم. والرجل يلوط حوضه فما يصدر حتى تقوم" (11)
وقوله [تعالى] (12) { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } اختلف المفسرون في معناه ، فقيل : معناه : كما قال (13) العوفي عن ابن عباس : { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } يقول : كأن بينك وبينهم مودة ،
__________
(1) في أ : "السموات".
(2) في أ : "الله تعالى".
(3) في م ، أ : "قاله".
(4) زيادة من م.
(5) زيادة من أ.
(6) في م : "كان يقول".
(7) رواه الطبري في تفسيره (13/297) والثعلبي في تفسيره كما في "تخريج أحاديث الكشاف" للزيلعي (1/475) وهو مرسل.
(8) في م : "ثوبا".
(9) صحيح البخاري برقم (6506).
(10) في ك : "والرجل".
(11) صحيح مسلم برقم (2954).
(12) زيادة من ك ، م ، أ.
(13) في ك ، م ، أ : "فقيل معناه : كأنك حفى بها كما قال".

(3/519)


كأنك صديق لهم. قال ابن عباس : لما سأل الناس محمدًا صلى الله عليه وسلم عن الساعة ، سألوه سؤال قوم كأنهم يرون أن محمدا حفي بهم ، فأوحى الله إليه : إنما علمها عنده ، استأثر بعلمها ، فلم يطلع الله عليها ملكًا مقربًا ولا رسولا.
وقال قتادة : قالت قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم : إن بيننا وبينك قرابة ، فأسرّ إلينا متى الساعة. فقال الله ، عز وجل : { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا }
وكذا روي عن مجاهد ، وعكرمة ، وأبي مالك ، والسُّدِّي ، وهذا قول. والصحيح عن مجاهد - من رواية ابن أبي نَجِيح وغيره - : { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } قال : استَحْفَيت عنها السؤال ، حتى علمت وقتها.
وكذا قال الضحاك ، عن ابن عباس : { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } يقول : كأنك عالم بها ، لست تعلمها ، { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ }
وقال معمر ، عن بعضهم : { كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } كأنك عالم بها.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } كأنك عالم بها ، وقد أخفى الله علمها على خلقه ، وقرأ : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } الآية [لقمان : 34].
ولهذا القول أرجح في المعنى من الأول ، والله أعلم ؛ ولهذا قال : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ }
ولهذا لما جاء جبريل ، عليه السلام ، في صورة أعرابي ، يعلم الناس أمر دينهم ، فجلس من رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلس السائل المسترشد ، وسأله عن الإسلام ، ثم عن الإيمان ، ثم عن الإحسان ، ثم قال : فمتى الساعة ؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما المسئول عنها بأعلم من السائل" أي : لست أعلم بها منك ولا أحد أعلم بها من أحد ، ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ } الآية (1)
وفي رواية : فسأله عن أشراط الساعة ، ثم قال : "في خمس لا يعلمهن إلا الله". وقرأ هذه الآية ، وفي هذا كله يقول له بعد كل جواب : "صدقت" ؛ ولهذا عجب الصحابة من هذا السائل يسأله ويصدقه ، ثم لما انصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هذا جبريل أتاكم يعلمكم (2) دينكم" (3)
وفي رواية قال : "وما أتاني في صورة إلا عرفته فيها ، إلا صورته هذه".
وقد ذكرت هذا الحديث بطرقه وألفاظه من الصحاح والحسان والمسانيد ، في أول شرح صحيح البخاري ، ولله الحمد والمنة (4)
ولما سأله ذلك الأعرابي وناداه بصوت جهوري فقال : يا محمد ، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : هاء (5) -
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه برقم (50) ومسلم في صحيحه برقم (9).
(2) في م ، أ : "يعلمكم أمر".
(3) رواه البخاري في صحيحه برقم (50) ومسلم في صحيحه برقم (9).
(4) وانظر هذا المطلب في : شرح الحافظ ابن حجر "فتح الباري" (1/114).
(5) في أ : "هاؤم".

(3/520)


على نحو من صوته - قال : يا محمد ، متى الساعة ؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ويحك إن الساعة آتية ، فما أعددت لها ؟" قال : ما أعددت لها كبير (1) صلاة ولا صيام ، ولكني أحب الله ورسوله. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "المرء مع من أحب". فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث (2)
وهذا له طرق متعددة في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أنه قال : "المرء مع من أحب" (3) وهي متواترة عند كثير من الحفاظ المتقنين.
ففيه أنه ، عليه السلام ، كان إذا سئل عن هذا الذي لا يحتاجون إلى علمه ، أرشدهم إلى ما هو الأهم في حقهم ، وهو الاستعداد لوقوع ذلك ، والتهيؤ له قبل نزوله ، وإن لم يعرفوا تعيين وقته.
ولهذا قال مسلم في صحيحه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا حدثنا أبو أسامة ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة ، رضي الله عنها ، قالت : كانت الأعراب إذا قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سألوه عن الساعة : متى الساعة ؟ فنظر (4) إلى أحدث إنسان (5) منهم فقال : "إن يعش هذا لم يدركه الهرم حتى قامت عليكم ساعتكم" (6) يعني بذلك موتهم الذي يفضي بهم إلى الحصول في برزخ الدار الآخرة.
ثم قال مسلم : وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا يونس بن محمد ، عن حماد بن سلمة ، عن ثابت ، عن أنس ؛ أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة ، وعنده غلام من الأنصار يقال له محمد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن يعش هذا الغلام فعسى ألا يدركه الهَرَم حتى تقوم الساعة". انفرد به مسلم (7)
وحدثنا حجاج بن الشاعر ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا معبد بن هلال العنزي (8) عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ؛ أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال : متى الساعة ؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم هُنَيهة ، ثم نظر إلى غلام بين يديه من أزد شنوءة ، فقال : "إن عُمِّرَ هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة" - قال أنس : ذلك الغلام من أترابي (9)
وقال : حدثنا هارون بن عبد الله ، حدثنا عفان بن مسلم ، حدثنا همام ، حدثنا قتادة ، عن أنس قال : مر غلام للمغيرة بن شعبة - وكان من أقراني (10) - فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : "إن يؤخر هذا لم يدركه الهرم حتى تقوم الساعة" (11)
__________
(1) في أ : "كثير".
(2) رواه مسلم في صحيحه برقم (2639) من حديث أنس بن مالك ، رضي الله عنه.
(3) جاء من حديث أنس بن مالك وصفوان بن عسال وعبد الله بن مسعود وأبي موسى الأشعري : .
أما حديث أنس بن مالك فهو السابق ذكره.
وأما حديث صفوان بن عسال فرواه الترمذي في السنن برقم (3535).
وأما حديث عبد الله بن مسعود فرواه البخاري في صحيحه برقم (6169) ومسلم في صحيحه برقم (2640).
وأما حديث أبي موسى الأشعري فرواه البخاري في صحيحه برقم (6170) ومسلم في صحيحه برقم (2641).
(4) في ك ، م : "فينظر".
(5) في ك ، م ، أ : "أسنان".
(6) صحيح مسلم برقم (2952).
(7) صحيح مسلم برقم (2953).
(8) في ك ، م ، أ : "سعيد بن أبي هلال المصري".
(9) صحيح مسلم برقم (2953).
(10) في ك ، م : "أترابي".
(11) صحيح مسلم برقم (2953).

(3/521)


ورواه البخاري في كتاب "الأدب" من صحيحه ، عن عمرو بن عاصم ، عن همام بن يحيى ، عن قتادة ، عن أنس ؛ أن رجلا من أهل البادية قال : يا رسول الله ، متى الساعة ؟ فذكر الحديث ، وفي آخره : "فمر غلام للمغيرة بن شعبة" ، وذكره (1)
وهذا الإطلاق في هذه الروايات محمول على التقييد ب"ساعتكم" في حديث عائشة ، رضي الله عنها.
وقال ابن جُرَيْج : أخبرني أبو الزبير : أنه سمع جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل (2) أن يموت بشهر ، قال : "تسألوني عن الساعة ، وإنما علمها عند الله. وأقسم بالله ما على ظهر الأرض اليوم من نفس منفوسة ، تأتي عليها مائة سنة" رواه مسلم (3)
وفي الصحيحين ، عن ابن عمر مثله ، قال ابن عمر : وإنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم انخرام ذلك القرن.
وقال الإمام أحمد : حدثنا هشيم ، أنبأنا العوام ، عن جبلة بن سحيم ، عن مؤثر بن عَفَازة (4) عن ابن مسعود ، رضي الله عنه ، عن رسول الله (5) صلى الله عليه وسلم قال : "لقيت ليلة أسري بي إبراهيم وموسى وعيسى" ، قال : "فتذاكروا أمر الساعة" ، قال : "فردوا أمرهم إلى إبراهيم ، عليه السلام ، فقال : لا علم لي بها. فردوا أمرهم إلى موسى ، فقال : لا علم لي بها. فردوا أمرهم إلى عيسى ، فقال عيسى : أما وجبتها فلا يعلم بها أحد إلا الله ، عز وجل ، وفيما عهد إليَّ ربي ، عز وجل ، أن الدجال خارج" ، قال : "ومعي قضيبان ، فإذا رآني ذاب كما يذوب الرصاص" ، قال : "فيهلكه الله ، عز وجل ، إذا رآني ، حتى إن الحجر والشجر يقول : يا مسلم ، إن تحتي كافرًا تعالى فاقتله". قال : "فيهلكهم الله ، عز وجل ، ثم يرجع الناس إلى بلادهم وأوطانهم" ، قال : "فعند ذلك يخرج يأجوج ومأجوج ، وهم من كل حدب ينسلون ، فيطئون بلادهم ، لا يأتون على شيء إلا أهلكوه ، ولا يمرون على ماء إلا شربوه" ، قال : "ثم يرجع الناس إليَّ فيشكونهم ، فأدعو (6) الله ، عز وجل ، عليهم فيهلكهم ويميتهم ، حتى تَجْوَى الأرض من نتن ريحهم - أي : تُنْتِن - " قال : "فينزل الله المطر ، فيجترف أجسادهم حتى يقذفهم في (7) البحر".
قال أحمد : قال يزيد بن هارون : ثم تنسف الجبال ، وتمد الأرض مد الأديم - ثم رجع إلى حديث هشيم قال : ففيما عهد إلي ربي ، عز وجل ، أن ذلك إذا كان كذلك ، فإن (8) الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تفاجئهم بولادها (9) ليلا أو نهارا (10)
ورواه ابن ماجه ، عن بُنْدَار عن يزيد بن هارون ، عن العوام بن حَوْشَب بسنده ، نحوه (11)
فهؤلاء أكابر أولي العزم من المرسلين ، ليس عندهم علم بوقت الساعة على التعيين ، وإنما ردوا
__________
(1) صحيح البخاري برقم (6167).
(2) في ك : "يقول قبل".
(3) صحيح مسلم برقم (2538).
(4) في م : "غفارة" ، وفي ك : "عفان".
(5) في م : "عن النبي".
(6) في م : "وأدعوا".
(7) في أ : "إلى".
(8) في أ : "تكون".
(9) في د ، ك : "بولادتها".
(10) المسند (1/375).
(11) سنن ابن ماجة برقم (4081) وقال البوصيري في الزوائد (3/261) : "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات ، مؤثر بن عفازة ذكره ابن حبان في الثقات ، وباقي رجال الإسناد ثقات".

(3/522)


الأمر إلى عيسى عليه السلام ، فتكلم على أشراطها ؛ لأنه ينزل في آخر هذه الأمة منفذًا لأحكام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويقتل المسيح الدجال ، ويجعل الله هلاك يأجوج ومأجوج ببركة دعائه ، فأخبر بما أعلمه الله تعالى به.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن أبي بُكَيْر (1) حدثنا عُبيد الله بن إياد بن لَقِيط (2) قال : سمعت أبي يذكر عن حذيفة قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال : "علمها عند ربي لا يُجَلِّيها لوقتها إلا هو ، ولكن سأخبركم (3) بمشاريطها ، وما يكون بين يديها : إن بين يديها فتنة وهرجًا" ، قالوا : يا رسول الله ، الفتنة قد عرفناها ، فالهرج ما هو ؟ قال بلسان الحبشة : "القتل". قال (4) وَيُلقَى بين الناس التَّنَاكرُ ، فلا يكاد أحد يعرف أحدًا" (5) لم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة من هذا الوجه.
وقال وَكِيع : حدثنا ابن أبي خالد ، عن طارق بن شهاب ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال يذكر من شأن (6) الساعة حتى نزلت : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا } الآية [النازعات : 42].
ورواه النسائي من حديث عيسى بن يونس ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، به (7) وهذا إسناد جيد قوي.
فهذا النبي الأمي سيد الرسل وخاتمهم [محمد] (8) صلوات الله عليه وسلامه (9) نبي الرحمة ، ونبي التوبة ، ونبي الملحمة ، والعاقب والمُقَفَّي ، والحاشر الذي تحشر (10) الناس على قدميه ، مع قوله فيما ثبت عنه في الصحيح من حديث أنس وسهل بن سعد ، رضي الله عنهما : "بعثت أنا والساعة كهاتين" (11) وقرن بين إصبعيه السبابة والتي تليها. ومع هذا كله ، قد أمره الله تعالى أن يَرُد علم وقت الساعة إليه إذا سئل عنها ، فقال : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ }
__________
(1) في م : "مليكة".
(2) في أ : "عبد الله بن زياد بن لقيط".
(3) في ك ، م : "أخبركم".
(4) في م : "وقال".
(5) المسند (5/389) قال الهيثمي في المجمع (7/309) : "رجاله رجال الصحيح".
(6) في أ : "أمر".
(7) سنن النسائي الكبرى برقم (11645).
(8) زيادة من م ، أ.
(9) في م : " صلى الله عليه وسلم "
(10) في أ : "يحشر".
(11) أما حديث أنس بن مالك :
فأخرجه البخاري في صحيحه برقم (6504) ومسلم في صحيحه برقم (2951).
وأما حديث سهل بن سعد :
فأخرجه البخاري في صحيحه برقم (4936) ومسلم في صحيحه برقم (2950).

(3/523)


قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)

{ قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) }
أمره الله تعالى أن يفوّض الأمور إليه ، وأن يخبر عن نفسه أنه لا يعلم الغيب ، ولا اطلاع له على شيء من ذلك إلا بما أطلعه الله عليه ، كما قال تعالى : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا.[ إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ] } [الجن : 26 ، 27] (1)
__________
(1) زيادة من م ، أ.

(3/523)


هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آَتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آَتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آَتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)

وقوله : { وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ } قال عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن منصور ، عن مجاهد. { وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ } قال : لو كنت أعلم متى أموت ، لعملت عملا صالحا.
وكذلك روى ابن أبي نجِيح عن مجاهد : وقال مثله ابن جُرَيْج.
وفيه نظر ؛ لأن عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم كان دَيمة. وفي رواية : كان إذا عمل عملا أثبته (1)
فجميع عمله كان على منوال واحد ، كأنه ينظر إلى الله ، عز وجل ، في جميع أحواله ، اللهم إلا أن يكون المرادُ أن يرشد غيره إلى الاستعداد لذلك ، والله أعلم.
والأحسن في هذا ما رواه الضحاك ، عن ابن عباس : { وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ } أي : من المال. وفي رواية : لعلمت إذا اشتريت شيئًا ما (2) أربح فيه ، فلا أبيع شيئًا إلا ربحت فيه ، وما مسني السوء ، قال : ولا يصيبني الفقر.
وقال ابن جرير : وقال آخرون : معنى ذلك : لو كنت أعلم الغيب لأعددت للسنة المجدبة من المخصبة ، ولعرفت (3) الغَلاء من الرخص ، فاستعددت له من الرخص.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : { وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ } قال : لاجتنبت ما يكون من الشر قبل أن يكون ، واتقيته.
ثم أخبر أنه إنما هو نذير وبشير ، أي : نذير من العذاب ، وبشير للمؤمنين بالجنات ، كما قال تعالى : { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا } [مريم : 97]
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) }
ينبه تعالى على أنه خلق جميع الناس من آدم ، عليه السلام ، وأنه خلق منه زوجه (4) حواء ، ثم انتشر الناس منهما ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات : 13] وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالا كَثِيرًا وَنِسَاءً ] (5) } الآية [النساء : 1].
__________
(1) رواه مسلم في صحيحه برقم (783) من حديث عائشة ، رضي الله عنها.
(2) في م : "مما".
(3) في أ : "ولوقت".
(4) في د : "زوجته".
(5) زيادة من م ، أ.

(3/524)


وقال في هذه الآية الكريمة : { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } أي : ليألفها ويسكن بها ، كما قال تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً } [الروم : 21] فلا ألفة بين زَوْجين أعظم مما بين الزوجين ؛ ولهذا ذكر تعالى أن الساحر ربما توصل بكيده إلى التفرقة بين المرء وزوجه.
{ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا } أي : وطئها { حَمَلَتْ حَمْلا خَفِيفًا } وذلك أول الحمل ، لا تجد المرأة له ألما ، إنما هي النُّطفة ، ثم العَلَقة ، ثم المُضغة.
وقوله : { فَمَرَّتْ بِهِ } قال مجاهد : استمرت بحمله. وروي عن الحسن ، وإبراهيم النَّخَعَي ، والسُّدِّي ، نحوه.
وقال ميمون بن مهران : عن أبيه استخفته.
وقال أيوب : سألت الحسن عن قوله : { فَمَرَّتْ بِهِ } قال : لو كنت رجلا عربيًا لعرفت ما هي. إنما هي : فاستمرت به.
وقال قتادة : { فَمَرَّتْ بِهِ } واستبان حملها.
وقال ابن جرير : [معناه] (1) استمرت بالماء ، قامت به وقعدت.
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس : استمرت به ، فشكت : أحملت (2) أم لا.
{ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ } أي : صارت ذات ثقل (3) بحملها.
وقال السدي : كبر الولد في بطنها.
{ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا } أي : بشرا سويا ، كما قال الضحاك ، عن ابن عباس : أشفقا أن يكون بهيمة.
وكذلك (4) قال أبو البَخْتري وأبو مالك : أشفقا ألا يكون إنسانًا.
وقال الحسن البصري : لئن آتيتنا غلامًا.
{ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } ذكر المفسرون هاهنا آثارا وأحاديث سأوردها وأبين ما فيها ، ثم نتبع ذلك بيان الصحيح في ذلك ، إن شاء الله وبه الثقة.
قال الإمام أحمد في مسنده : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا عمر بن إبراهيم ، حدثنا قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة ، عن النبي (5) صلى الله عليه وسلم قال : "ولما ولدت حواء طاف بها إبليس - وكان لا يعيش لها ولد - فقال : سميه عبد الحارث ؛ فإنه يعيش ، فسمته عبد الحارث ، فعاش وكان ذلك من وحي
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في د ، ك ، م ، أ : "أحبلت".
(3) في م : "أثقل".
(4) في أ : "وكذا".
(5) في د : "رسول الله".

(3/525)


الشيطان وأمره".
وهكذا رواه (1) ابن جرير ، عن محمد بن بشار ، بُنْدَار ، عن عبد الصمد بن عبد الوارث ، به.
ورواه الترمذي في تفسيره (2) هذه الآية عن محمد بن المثنى ، عن عبد الصمد ، به وقال : هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث عمر بن إبراهيم ، عن قتادة ، ورواه بعضهم عن عبد الصمد ، ولم يرفعه.
ورواه الحاكم في مستدركه ، من حديث عبد الصمد مرفوعًا ثم قال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
ورواه الإمام أبو محمد بن أبي حاتم في تفسيره ، عن أبي زُرْعَة الرازي ، عن هلال بن فياض ، عن عمر بن إبراهيم ، به مرفوعًا.
وكذا رواه الحافظ أبو بكر بن مَرْدويه في تفسيره من حديث شاذ بن فياض ، عن عمر بن إبراهيم ، به مرفوعا (3)
قلت : "وشاذ" [هذا] (4) هو : هلال ، وشاذ لقبه. والغرض أن هذا الحديث معلول من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن عمر بن إبراهيم هذا هو البصري ، وقد وثقه ابن معين ، ولكن قال أبو حاتم الرازي : لا يحتج به. ولكن رواه ابن مردويه من حديث المعتمر ، عن أبيه ، عن الحسن ، عن سمرة (5) مرفوعا فالله أعلم.
الثاني : أنه قد روي من قول سمرة نفسه ، ليس مرفوعًا ، كما قال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا المعتمر ، عن أبيه. وحدثنا ابن علية (6) عن سليمان التيمي ، عن أبي العلاء بن الشخير ، عن سمرة بن جندب ، قال : سمى آدم ابنه "عبد الحارث".
الثالث : أن الحسن نفسه فسر الآية بغير هذا ، فلو كان هذا عنده عن سمرة مرفوعًا ، لما عدل عنه.
قال ابن جرير : حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا سهل بن يوسف ، عن عمرو ، عن الحسن : { جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا } قال : كان هذا في بعض أهل الملل ، ولم يكن بآدم (7)
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر قال : قال الحسن : عنى بها ذرية آدم ، ومن أشرك منهم بعده - يعني : [قوله] (8) { جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا } (9)
__________
(1) في أ : "وروي".
(2) في د ، ك ، م ، أ : "تفسير".
(3) المسند (5/11) وتفسير الطبري (13/309) ، وسنن الترمذي برقم (3077) ، والمستدرك (2/545).
(4) زيادة من أ.
(5) في أ : "حمزة".
(6) في د ، ك ، م : "بكر بن عبد الله".
(7) تفسير الطبري (13/314).
(8) زيادة من ك ، م ، أ.
(9) تفسير الطبري (13/314).

(3/526)


وحدثنا بشر (1) حدثنا يزيد ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : كان الحسن يقول : هم اليهود والنصارى ، رزقهم الله أولادًا ، فهوّدوا ونَصَّروا (2)
وهذه أسانيد صحيحة عن الحسن ، رحمه الله ، أنه فسر الآية بذلك ، وهو من أحسن التفاسير وأولى ما حملت (3) عليه الآية ، ولو كان هذا الحديث عنده محفوظًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما عدل عنه هو ولا غيره ، ولا سيما مع تقواه لله وَوَرَعه ، فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابي ، ويحتمل أنه تلقاه من بعض أهل الكتاب ، من آمن منهم ، مثل : كعب أو وهب بن مُنَبّه وغيرهما ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله [تعالى] (4) إلا أننا برئنا من عهدة المرفوع ، والله أعلم.
فأما (5) الآثار فقال محمد بن إسحاق بن يسار ، عن داود بن الحُصَين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : كانت حواء تلد لآدم ، عليه السلام ، أولادا فيعبدهم لله ويُسَمّيه : "عبد الله" و"عبيد الله" ، ونحو ذلك ، فيصيبهم الموت فأتاهما إبليس وآدم فقال : إنكما لو تسميانه بغير الذي تُسميانه به لعاش (6) قال : فولدت له رجلا (7) فسماه "عبد الحارث" ، ففيه أنزل الله ، يقول الله : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } إلى قوله : { جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا } إلى آخر الآية.
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس قوله في آدم : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } إلى قوله : { فَمَرَّتْ بِهِ } شَكَّت (8) أحَبَلتْ أم لا ؟ { فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ } فأتاهما الشيطان ، فقال : هل تدريان ما يولد لكما ؟ أم هل تدريان ما يكون ؟ أبهيمة (9) يكون أم لا ؟ وزيَّن لهما الباطل ؛ إنه غوي مبين ، وقد كانت قبل ذلك ولدت ولدين فماتا ، فقال لهما الشيطان : إنكما إن لم تسمياه بي ، لم يخرج سويا ، ومات كما مات الأولان (10) فسميا ولدهما "عبد الحارث" ، فذلك قول الله [تعالى] (11) { فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا } الآية.
وقال عبد الله بن المبارك ، عن شريك ، عن خصيف ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : { فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا } قال : قال الله تعالى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا } آدم { حَمَلَتْ [ حَمْلا خَفِيفًا ] } (12) فأتاهما إبليس - لعنه الله - فقال : إنى صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة لَتطيعُنِّي أو لأجعلنَّ قرني له (13) أيل فيخرج من بطنك فيشقه ، ولأفعلنَّ ولأفعلنَّ - يخوفهما - فسمِّياه "عبد الحارث" فأبيا أن يطيعاه ، فخرج ميتا ، ثم حملت الثانية ، فأتاهما أيضا فقال : أنا صاحبكما الذي فعلت ما فعلت ، لتفعلُنَّ أو لأفعلَنَّ - يخوفهما - فأبيا أن يطيعاه ، فخرج ميتا ، ثم حملت الثالثة فأتاهما أيضا ، فذكر لهما ، فأدركهما حبُّ الولد ، فسمياه "عبد الحارث" ، فذلك قوله : { جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا } رواه ابن أبي حاتم.
__________
(1) في أ : "بشير".
(2) تفسير الطبري (13/315).
(3) في أ : "ما دلت".
(4) زيادة من م.
(5) في د ، م : "وأما".
(6) في ك : "فعاش".
(7) في أ : "ولدا".
(8) في م ، أ : "فشكت".
(9) في ك : "بهيمة".
(10) في ك ، م ، أ : "الأول".
(11) زيادة من ك.
(12) زيادة من أ.
(13) في م ، ك : "له قرن".

(3/527)


وقد تلقى هذا الأثر عن ابن عباس جماعة من أصحابه ، كمجاهد ، وسعيد بن جبير ، وعكرمة. ومن الطبقة الثانية : قتادة ، والسدي ، وغير واحد من السلف وجماعة من الخلف ، ومن المفسرين من المتأخرين جماعات لا يحصون كثرة ، وكأنه - والله أعلم - أصله مأخوذ من أهل الكتاب ، فإن ابن عباس رواه عن أُبي بن كعب ، كما رواه ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا أبو الجماهر (1) حدثنا سعيد - يعني ابن بشير - عن عقبة ، عن قتادة ، عن مجاهد ، عن ابن عباس ، عن أُبي بن كعب قال : لما حملت حواء أتاها الشيطان ، فقال (2) لها : أتطيعيني ويَسْلَم لك ولدك ؟ سميه "عبد الحارث" ، فلم تفعلْ ، فولدت فمات ، ثم حملت فقال لها مثل ذلك ، فلم تفعل. ثم حملت الثالث فجاءها فقال : إن تطيعيني يسلم ، وإلا فإنه يكون بَهِيمة ، فهيَّبهما فأطاعا.
وهذه الآثار يظهر عليها - والله أعلم - أنها من آثار أهل الكتاب ، وقد صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إذا حَدَّثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم" ، ثم أخبارهم على ثلاثة أقسام : فمنها : ما علمنا صحته بما دل عليه الدليل من كتاب الله أو سنة رسوله. ومنها ما علمنا كذبه ، بما دُلَّ على خلافه من الكتاب والسنة أيضًا. ومنها : ما هو مسكوت عنه ، فهو المأذون في روايته ، بقوله ، عليه السلام : "حدثوا عن بني إسرائيل ولا حَرج" وهو الذي لا يصدَّق ولا يكذب ، لقوله : "فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم". وهذا الأثر : [هل] (3) هو من القسم الثاني أو الثالث ؟ فيه نظر. فأما من حدث به من صحَابي أو تابعي ، فإنه يراه من القسم الثالث ، وأما نحن فعلى مذهب الحسن البصري ، رحمه الله ، في هذا [والله أعلم] (4) وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء ، وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته ؛ ولهذا قال الله : { فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } ثم قال :
__________
(1) في أ : "أبو الجماهير".
(2) في م ، ك : "قال".
(3) زيادة من ك ، م ، أ.
(4) زيادة من ك.

(3/528)


أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195)

{ أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) }

(3/529)


إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)

{ إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نزلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198) }
هذا إنكار من الله على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره ، من الأنداد والأصنام والأوثان ، وهي مخلوقة لله مربوبة مصنوعة ، لا تملك شيئا من الأمر ، ولا تضر ولا تنفع ، [ولا تنصر] (1) ولا تنتصر لعابديها ، بل هي جماد لا تتحرك ولا تسمع ولا تبصر ، وعابدوها أكمل منها بسمعهم وبصرهم وبطشهم ؛ ولهذا قال : { أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } أي : أتشركون (2) به من المعبودات ما لا يخلق شيئًا ولا يستطيع ذلك ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحج : 73 ، 74] أخبر تعالى أنه لو اجتمعت آلهتهم كلها ، ما استطاعوا خلق ذبابة ، بل لو أستَلبتهم (3) الذبابة شيئا من حَقير المطاعم (4) وطارت ، لما استطاعوا إنقاذ ذلك منها ، فمن هذه صفته وحاله ، كيف يعبد ليرزق ويستنصر ؟ ولهذا قال تعالى : { لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ } أي : بل هم مخلوقون مصنوعون كما قال الخليل : { قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * [ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ] (5) } [الصافات : 95 ، 96]
ثم قال تعالى : { وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا } أي : لعابديهم { وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ } يعني : ولا لأنفسهم ينصرون ممن أرادهم بسوء ، كما كان الخليل ، عليه الصلاة والسلام ، يكسر أصنام قومه ويهينُها غاية الإهانة ، كما أخبر تعالى عنه في قوله : { فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ } [الصافات : 93] وقال تعالى : { فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ } [الأنبياء : 58] وكما كان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن جبل ، رضي الله عنهما - وكانا شابين قد أسلما لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة - فكانا يعدوان في الليل على أصنام المشركين يكسرانها ويتلفانها ويتخذانها حطبا للأرامل ، ليعتبر قومهما بذلك ، ويرتئوا لأنفسهم ، فكان لعمرو بن الجموح - وكان سيدًا في قومه - كان له صنم يعبده ويطيبه ، فكانا يجيئان في الليل فينكسانه على رأسه ، ويلطخانه بالعَذِرة ، فيجيء عمرو بن الجموح فيرى ما صنع به فيغسله ويطيبه ويضع عنده سيفا ، ويقول له : "انتصر". [ثم] (6) يعودان لمثل ذلك ، ويعود إلى صنيعه أيضا ، حتى أخذاه مرة فقرنا معه جرو كلب ميت ، ودلَّياه في حبل في بئر هناك ، فلما جاء عمرو بن الجموح ورأى ذلك ، نظر فعلم أن ما كان عليه من الدين باطل ، وقال :
تَالله لو كُنتَ إِلَها مُسْتَدن... لم تَكُ والكَلْبُ جَمِيعًا في قَرنْ (7)
ثم أسلم فَحسُن إسلامه ، وقتل يوم أحد شهيدًا ، رضي الله عنه وأرضاه ، وجعل جنة الفردوس مأواه.
وقوله : { وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ [ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ] } (8) يعني : أن هذه الأصنام لا تسمع دعاء من دعاها ، وسواء لديها من دعاها ومن دحاها ، كما قال إبراهيم : { يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا } [مريم : 42] ؟
ثم ذكر تعالى أنها عبيد مثل عابديها ، أي : مخلوقات مثلهم ، بل الأناسي أكمل منها ، لأنها
__________
(1) زيادة من د ، ك ، م ، أ.
(2) في م ، أ : "أيشركون".
(3) في د : "سلبتهم".
(4) في د ، م : "الطعام".
(5) زيادة من د ، ك ، م ، أ. وفي هـ : "الآية".
(6) زيادة من د ، م ، أ.
(7) انظر : الرجز في السيرة النبوية لابن هشام (1/354).
(8) زيادة من أ ، وفي هـ : "الآية".

(3/529)


خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)

تسمع وتبصر وتبطش ، وتلك لا تفعل شيئا من ذلك.
وقوله : { قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ } (1) أي : استنصروا بها علي ، فلا تؤخروني طرفة عين ، واجهدوا جهدكم! { إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نزلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } أي : الله حسبي وكافىّ ، وهو نصيري وعليه متكلي ، وإليه ألجأ ، وهو وليي في الدنيا والآخرة ، وهو ولي كل صالح بعدي. وهذا كما قال هود ، عليه السلام ، لما قال له قومه : { إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُون * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [هود : 54 - 56] وكقول الخليل [عليه السلام] (2) { أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * [ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ] (3) } [الشعراء : 75 - 80] الآيات ، وكقوله لأبيه وقومه { إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [الزخرف : 26 - 28]
وقوله : { وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ } إلى آخر الآية ، مؤكد لما تقدم ، إلا أنه بصيغة الخطاب ، وذلك بصيغة الغيبة ؛ ولهذا قال : { لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ }
وقوله : { وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ } كقوله تعالى : { إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ [ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (4) ] } [فاطر : 14]
وقوله : { وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ } إنما قال : { يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ } أي : يقابلونك بعيون مصورة كأنها ناظرة ، وهي جماد ؛ ولهذا عاملهم معاملة من يعقل ؛ لأنها على صور مصورة كالإنسان ، [فقال] (5) { وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ } فعبر عنها بضمير من يعقل.
وقال السدي : المراد بهذا (6) المشركون وروي عن مجاهد نحوه. والأول أولى ، وهو اختيار ابن جرير ، وقاله قتادة.
{ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) }
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { خُذِ الْعَفْوَ } يعني : خذ ما عفا لك من أموالهم ، وما أتوك به من شيء فخذه. وكان هذا قبل أن تنزل "براءة" بفرائض الصدقات وتفصيلها ، وما انتهت إليه الصدقات. قاله السدي.
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : { خُذِ الْعَفْوَ } أنفق الفضل. وقال سعيد (7) بن جبير عن ابن عباس : قال الفضل.
__________
(1) زيادة من د ، ك ، م ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(2) زيادة من أ.
(3) زيادة من أ.
(4) زيادة من أ. وفي هـ : "الآية".
(5) زيادة من د ، أ.
(6) في أ : "بها".
(7) في م : "حميد".

(3/530)


وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : { خُذِ الْعَفْوَ } أمره الله بالعفو والصفح عن المشركين عشر سنين ، ثم أمره بالغلظة عليهم. واختار هذا القول ابن جرير.
وقال غير واحد ، عن مجاهد في قوله تعالى : { خُذِ الْعَفْوَ } قال : من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تحسس (1)
وقال هشام بن عُرْوة ، عن أبيه : أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس. وفي رواية قال : خذ ما عفي لك من أخلاقهم.
وفي صحيح البخاري ، عن هشام ، عن أبيه عروة ، عن أخيه (2) عبد الله بن الزبير قال : إنما أنزل (3) { خُذِ الْعَفْوَ } من أخلاق الناس (4) وفي رواية لغيره : عن هشام ، عن أبيه ، عن ابن عمر. وفي رواية : عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة أنهما قالا مثل ذلك (5) والله أعلم.
وفي رواية سعيد بن منصور ، عن أبي معاوية ، عن هشام ، عن وهب بن كيسان ، عن ابن (6) الزبير : { خُذِ الْعَفْوَ } قال : من أخلاق الناس ، والله لآخذنه منهم ما صحبتهم. وهذا أشهر الأقوال ، ويشهد له ما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم جميعا : حدثنا يونس حدثنا سفيان - هو ابن عيينة - عن أمي قال : لما أنزل الله ، عز وجل ، على نبيه صلى الله عليه وسلم : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما هذا يا جبريل ؟" قال : إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك.
وقد رواه ابن أبي حاتم أيضا ، عن أبي يزيد القراطيسي كتابة ، عن أصْبَغ بن الفرج ، عن سفيان ، عن أُمَيّ عن الشعبي. نحوه ، وهذا - على كل حال - مرسل ، وقد روي له شاهد (7) من وجوه أخر ، وقد روي مرفوعا عن جابر وقيس بن سعد بن عبادة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أسندهما ابن مردويه (8)
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا معاذ بن رفاعة ، حدثني علي بن يزيد ، عن القاسم ، عن أبي أمامة الباهلي ، عن عقبة بن عامر ، رضي الله عنه ، قال : لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدأته ، فأخذت بيده ، فقلت : يا رسول الله ، أخبرني بفواضل الأعمال. فقال : "يا عقبة ، صل من قطعك ، وأعط من حرمك ، وأعرض عمن ظلمك".
وروى الترمذي نحوه ، من طريق عبيد الله بن زَحْر (9) عن علي بن يزيد ، به. وقال حسن (10)
قلت : ولكن "علي بن يزيد" وشيخه "القاسم أبو عبد الرحمن" ، فيهما ضعف.
__________
(1) في د ، ك ، م : "تحسيس" ، وفي أ : "تجسيس".
(2) في أ : "عن أبيه".
(3) في أ : "أنزل الله".
(4) صحيح البخاري برقم (4643 ، 4644).
(5) قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (8/305) : "وقال عبيد الله بن عمر ، عن هشام ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، أخرجه البزار والطبراني وهي شاذة ، وكذا رواية حماد بن سلمة ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة عند ابن مردويه".
(6) في أ : "عن أبي".
(7) في ك ، م : "شواهد".
(8) ذكره السيوطي في الدر المنثور (3/628).
(9) في م : "أحمد" ، وفي أ : "نحر".
(10) المسند (4/148) وسنن الترمذي برقم (2406).

(3/531)


وقال البخاري قوله : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } "العرف" : المعروف. حدثنا أبو اليمان ، أخبرنا شعيب ، عن الزهري ، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، أن ابن عباس قال : قدم عيينة بن حصن بن حذيفة ، فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس - وكان من النفر الذين يدنيهم عمر - وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاورته - كُهولا كانوا أو شبابا - فقال عيينة لابن أخيه : يابن أخي ، لك وجه عند هذا الأمير ، فاستأذن لي عليه. قال : سأستأذن لك عليه. قال ابن عباس : فاستأذن الحر لعيينة ، فأذن له عمر [رضي الله عنه] (1) فلما دخل عليه قال : هي يا ابن الخطاب ، فوالله ما تعطينا الجزل ، ولا تحكم بيننا بالعدل. فغضب عمر حتى هم أن يوقع به ، فقال له الحر : يا أمير المؤمنين ، قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } وإن هذا من الجاهلين ، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه ، وكان وَقَّافًا عند كتاب الله ، عز وجل. انفرد بإخراجه البخاري (2)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى قراءة ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني مالك بن أنس ، عن عبد الله بن نافع ؛ أن سالم بن عبد الله بن عمر مر على عير لأهل الشام وفيها جرس ، فقال : إن هذا منهي عنه ، فقالوا : نحن أعلم بهذا منك ، إنما يكره الجُلْجُل الكبير ، فأما مثل هذا فلا بأس به. فسكت سالم وقال : { وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ }
وقول البخاري : "العرف : المعروف" نص عليه عروة بن الزبير ، والسُّدِّي ، وقتادة ، وابن جرير ، وغير واحد. وحكى ابن جرير أنه يقال : أوليته عرفًا ، وعارفًا ، وعارفة ، كل ذلك بمعنى : "المعروف". قال : وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباده بالمعروف ، ويدخل في ذلك جميع الطاعات ، وبالإعراض عن الجاهلين ، وذلك وإن كان أمرا لنبيه صلى الله عليه وسلم فإنه تأديب لخلقه باحتمال من ظلمهم واعتدى عليهم ، لا بالإعراض عمن جهل الحق الواجب من حق الله ، ولا بالصفح عمن كفر بالله وجهل وحدانيته ، وهو للمسلمين حرب.
وقال سعيد بن أبي عَرُوبة ، عن قتادة في قوله : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } قال : هذه أخلاق أمر الله [عز وجل] (3) بها نبيه صلى الله عليه وسلم ، ودله عليها.
وقد أخذ بعض الحكماء هذا المعنى ، فسبكه في بيتين فيهما جناس فقال :
خُذ العفو وأمر بعُرفٍ كَمَا... أُمِرتَ وأعْرض عن الجَاهلينْ...
وَلِنْ في الكَلام لكُلِّ الأنام... فَمُسْتَحْسَن من ذَوِي الجاه لين...
وقال بعض العلماء : الناس رجلان : فرجل محسن ، فخذ ما عفا لك من إحسانه ، ولا تكلفه فوق طاقته ولا ما يحرجه. وإما مسيء ، فمره بالمعروف ، فإن تمادى على ضلاله ، واستعصى عليك ، واستمر في جهله ، فأعرض عنه ، فلعل ذلك أن يرد كيده ، كما قال تعالى : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ } [المؤمنون : 96 - 98]
__________
(1) زيادة من أ.
(2) صحيح البخاري برقم (4642).
(3) زيادة من أ.

(3/532)


وقال تعالى : { وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا} أي هذه الوصية { إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [فصلت : 34 - 36] وقال في هذه السورة الكريمة أيضا : { وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } فهذه الآيات الثلاث في "الأعراف" و "المؤمنون" و "حم السجدة" ، لا رابع لهن ، فإنه تعالى يرشد فيهن إلى معاملة العاصي من الإنس بالمعروف والتي هي أحسن ، فإن ذلك يكفه عما هو فيه من التمرد بإذنه تعالى ؛ ولهذا قال : { فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } ثم يرشد تعالى إلى الاستعاذة به من شيطان الجان ، فإنه لا يكفه (1) عنك الإحسان ، وإنما يريد هلاكك ودمارك بالكلية ، فإنه عدو مبين لك ولأبيك من قبلك.
قال ابن جرير في تفسير قوله : { وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ } وإما يُغْضبَنَّك من الشيطان غضب يصدك عن الإعراض عن الجاهلين (2) ويحملك على مجازاتهم { فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ } يقول : فاستجر بالله من نزغه { سَمِيعٌ عَلِيمٌ } يقول : إن الله الذي تستعيذ به من نزغ الشيطان سميع لجهل الجاهل عليك ، والاستعاذة به من نزغه ، ولغير ذلك من كلام خلقه ، لا يخفى عليه منه شيء ، عليم بما يذهب عنك نزغ الشيطان ، وغير ذلك من أمور خلقه.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : لما نزل : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا رب ، كيف بالغضب ؟" فأنزل الله : { وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (3)
قلت : وقد تقدم في أول الاستعاذة حديث الرجلين اللذين تسابا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ، فغضب أحدهما حتى جعل أنفه يتمزع غضبًا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم". فقيل له ، فقال : ما بي من جنون (4)
وأصل "النزغ" : الفساد ، إما بالغضب أو غيره ، قال الله تعالى : { وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزغُ بَيْنَهُمْ } [الإسراء : 53] و"العياذ" : الالتجاء والاستناد والاستجارة من الشر ، وأما "الملاذ" ففي طلب الخير ، كما قال أبو الطيب [الحسن بن هانئ] (5) المتنبي :
يَا مَنْ ألوذُ به فيمَا أؤمِّلُه... وَمَنْ أعوذُ به مما أحَاذرُه...
لا يَجْبر الناس عَظمًا أنت كاسرُه... ولا يَهِيضُون عَظمًا أنت جَابِره (6)...
وقد قدمنا أحاديث الاستعاذة في أول التفسير ، بما أغنى عن إعادته هاهنا.
__________
(1) في ك ، م : "لا يكفيه" ، وفي أ : "لا يكفيك".
(2) في د ، ك ، م : "الجاهل".
(3) تفسير الطبري (13/333).
(4) انظر : الحديث وتخريجه في الكلام على الاستعاذة.
(5) زيادة من ك ، م ، أ.
(6) ديوان المتنبي (2/272).
قال الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية (11/275) : "وقد بلغني عن شيخنا العلامة شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ، رحمه الله ، أنه كان ينكر على المتنبي هذه المبالغة في مخلوق ويقول : إنما يصلح لجناب الله سبحانه وتعالى.
وأخبرني العلامة شمس الدين بن القيم ، رحمه الله ، أنه سمع الشيخ تقي الدين المذكور يقول : ربما قلت هذين البيتين في السجود ، أدعوا الله بما تضمناه من الذل والخضوع".

(3/533)


إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)

{ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202) }
يخبر تعالى عن المتقين من عباده الذين أطاعوه فيما أمر ، وتركوا ما عنه زجر ، أنهم { إِذَا مَسَّهُمْ } أي : أصابهم "طيف" وقرأ آخرون : "طائف" ، وقد جاء فيه حديث ، وهما قراءتان مشهورتان ، فقيل : بمعنى واحد. وقيل : بينهما فرق ، ومنهم من فسر ذلك بالغضب ، ومنهم من فسره بمس الشيطان بالصرع ونحوه ، ومنهم من فسره بالهم بالذنب ، ومنهم من فسره بإصابة الذنب.
وقوله : { تَذَكَّرُوا } أي : عقاب الله وجزيل ثوابه ، ووعده ووعيده ، فتابوا وأنابوا ، واستعاذوا بالله ورجعوا إليه من قريب. { فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } أي : قد استقاموا وصحوا مما كانوا فيه.
وقد أورد (1) الحافظ أبو بكر بن مردويه هاهنا حديث محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : جاءت امرأة إلى النبي (2) صلى الله عليه وسلم وبها طيف فقالت : يا رسول الله ، ادع الله أن يشفيني. فقال : "إن شئت دعوت الله فشفاك ، وإن شئت فاصبري ولا حساب عليك". فقالت : بل أصبر ، ولا حساب علي.
ورواه غير واحد من أهل السنن ، وعندهم : قالت (3) يا رسول الله ، إني أصرع وأتكشف ، فادع الله أن يشفيني. فقال (4) إن شئت دعوت الله أن يشفيك ، وإن شئت صبرت ولك الجنة ؟" فقالت : بل أصبر ، ولي الجنة ، ولكن (5) ادع الله أن لا أتكشف ، فدعا لها ، فكانت لا تتكشف.
وأخرجه الحاكم في مستدركه ، وقال : صحيح على شرط مسلم ، ولم يخرجاه (6)
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة "عمرو بن جامع" من تاريخه : أن شابًا كان يتعبد في المسجد ، فهويته امرأة ، فدعته إلى نفسها ، وما (7) زالت به حتى كاد يدخل معها المنزل ، فذكر هذه الآية : { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } فخر مغشيًا عليه ، ثم أفاق فأعادها ، فمات. فجاء عمر فَعزَّى فيه أباه (8) وكان قد دفن ليلا فذهب فصلى على قبره بمن معه ، ثم ناداه عمر فقال : يا فتى (9) { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [الرحمن : 46] وأجابه الفتى من داخل القبر : يا عمر ، قد أعطانيهما ربي ، عز وجل ، في الجنة مرتين (10)
وقوله : { وَإِخْوَانِهِمْ } أ : ي وإخوان الشياطين من الإنس ، كقوله : { إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ } [الإسراء : 27] وهم أتباعهم والمستمعون (11) لهم القابلون (12) لأوامرهم { يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ } أي : تساعدهم الشياطين على [فعل] (13) المعاصي ، وتسهلها عليهم وتحسنها لهم.
__________
(1) في ك : "روى".
(2) في أ : "رسول الله".
(3) في م ، أ : "فقالت".
(4) في أ : "فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(5) في أ : ولكن يا رسول الله".
(6) المستدرك (4/218).
(7) في د : "فما".
(8) في أ : "أهله".
(9) في د ، ك ، أ : "يا فلان".
(10) تاريخ دمشق لابن عساكر (13/ 411 ، 412) "القسم المخطوط". ومختصر تاريخ دمشق لابن منظور (19/190 ، 191).
(11) في ك ، م ، أ : "المستمعين".
(12) في أ : "القائلون".
(13) زيادة من أ.

(3/534)


وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآَيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)

وقال ابن كثير : المد : الزيادة. يعني : يزيدونهم في الغي ، يعني : الجهل والسفه.
{ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ } قيل : معناه إن الشياطين تمد ، والإنس لا تقصر في أعمالهم بذلك. كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله : { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ } قال : لا الإنس يقصرون عما يعملون من السيئات ، ولا الشياطين تمسك عنهم.
قيل : معناه كما رواه العوفي ، عن ابن عباس في قوله : { يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ } قال : هم الجن ، يوحون إلى أوليائهم من الإنس { ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ } يقول : لا يسأمون.
وكذا قال السُّدِّي وغيره : يعني إن الشياطين يمدون أولياءهم من الإنس ولا تسأم من إمدادهم في الشر ؛ لأن ذلك طبيعة لهم وسَجِيَّة ، لا تفتر فيه ولا تبطل عنه ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا } [مريم : 83] قال ابن عباس وغيره : تزعجهم إلى المعاصي إزعاجا.
{ وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) }
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا } يقول : لولا تلقيتها. وقال مرة أخرى : لولا أحدثتها فأنشأتها.
وقال ابن جرير (1) عن عبد الله بن كثير ، عن مجاهد في قوله [تعالى] (2) { وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا } قال : لولا اقتضيتها ، قالوا : تخرجها عن نفسك. وكذا قال قتادة ، والسدي ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، واختاره ابن جرير.
وقال العوفي ، عن ابن عباس [رضي الله عنه] (3) { لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا } يقول : تلقيتها من الله ، عز وجل (4)
وقال الضحاك : { لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا } يقول : لولا أخذتها أنت فجئت بها من السماء.
ومعنى قوله تعالى : { وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ } أي : معجزة ، وخارق ، كما قال تعالى : { إِنْ نَشَأْ نُنزلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [الشعراء : 4] يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم : ألا تجهد نفسك في طلب الآيات [من الله] (5) حتى نراها ونؤمن بها ، قال الله تعالى له : { قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي } أي : أنا لا أتقدم إليه تعالى في شيء ، وإنما أتبع ما أمرني به فأمتثل ما يوحيه إلي ، فإن بعث آية قبلتها ، وإن منعها لم أسأله ابتداء إياها ؛ إلا أن يأذن لي في ذلك ، فإنه حكيم عليم.
ثم أرشدهم إلى أن هذا القرآن هو أعظم المعجزات ، وأبين الدلالات ، وأصدق الحجج والبينات ، فقال : { هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
__________
(1) في د ، أ : "جريج".
(2) زيادة من ك ، أ.
(3) زيادة من أ.
(4) في د ، ك ، أ : "تعالى".
(5) زيادة من م.

(3/535)


وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)

{ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) }
لما ذكر تعالى أن القرآن بصائر للناس وهدى ورحمة ، أمر تعالى بالإنصات عند تلاوته إعظامًا له واحترامًا ، لا كما كان يعتمده كفار قريش المشركون (1) في قولهم : { لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ] (2) } [فصلت : 26] ولكن يتأكد ذلك في الصلاة المكتوبة إذا جهر الإمام بالقراءة كما ورد الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه ، من حديث أبي موسى الأشعري ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إنما جعل الإمام ليؤتم به ، فإذا كبر فكبروا ، وإذا قرأ فأنصتوا" (3) وكذلك رواه أهل السنن من حديث أبي هريرة (4) وصححه مسلم بن الحجاج أيضا ، ولم يخرجه في كتابه (5) وقال إبراهيم بن مسلم الهجري ، عن أبي عياض ، عن أبي هريرة قال : كانوا يتكلمون في الصلاة ، فلما نزلت هذه الآية : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ [ وَأَنْصِتُوا ] } (6) والآية الأخرى ، أمروا بالإنصات (7)
وقال ابن جرير : حدثنا أبو كريب ، حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن عاصم ، عن المسيب بن رافع ، قال ابن مسعود : كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة : سلام على فلان ، وسلام على فلان ، فجاء القرآن { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }
وقال أيضا : حدثنا أبو كريب ، حدثنا المحاربي ، عن داود بن أبي هند ، عن بشير بن جابر قال : صلى ابن مسعود ، فسمع ناسًا يقرءون مع الإمام ، فلما انصرف قال : أما آن لكم أن تفهموا ؟ أما آن لكم أن تعقلوا ؟ { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } كما أمركم (8) الله (9)
قال : وحدثني أبو السائب ، حدثنا حفص ، عن أشعث ، عن الزهري قال : نزلت هذه الآية في فتى من الأنصار ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما قرأ شيئا قرأه ، فنزلت : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا }
وقد روى الإمام أحمد وأهل السنن ، من حديث الزهري ، عن أبي أُكَيْمضة الليثي ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة ، فقال : "هل قرأ أحد منكم معي آنفا ؟" قال رجل : نعم يا رسول الله. قال (10) إني أقول : ما لي أنازع القرآن ؟" قال : فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقراءة من الصلوات (11) حين سمعوا ذلك من
__________
(1) في أ : "المشركين".
(2) زيادة من د.
(3) صحيح مسلم برقم (404).
(4) رواه النسائي في السنن (12/141) ، وابن ماجة في السنن برقم (846).
(5) انظر الكلام على هذه الزيادة في : سورة الفاتحة.
(6) زيادة من م.
(7) رواه الطبري في تفسيره (13/345).
(8) في أ : "كما أمر".
(9) تفسير الطبري (13/346).
(10) في ك ، م : "فقال".
(11) في د : "الصلاة"

(3/536)


رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)
وقال الترمذي : "هذا حديث حسن". وصححه أبو حاتم الرازي.
وقال عبد الله بن المبارك ، عن يونس عن الزهري قال : لا يقرأ من وراء الإمام فيما يجهر به الإمام ، تكفيهم قراءة الإمام وإن لم يسمعهم صوته ، ولكنهم يقرءون فيما لا يجهر به سرًا في أنفسهم ، ولا يصلح لأحد خلفه أن يقرأ معه فيما يجهر به سرًا ولا علانية ، فإن الله تعالى قال : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }
قلت : هذا مذهب طائفة من العلماء : أن المأموم لا يجب عليه في الصلاة الجهرية قراءة فيما جهر فيه الإمام لا الفاتحة ولا غيرها ، وهو أحد قولي الشافعي ، وهو القديم كمذهب مالك ، ورواية عن أحمد بن حنبل ، لما ذكرناه من الأدلة المتقدمة. وقال في الجديد : يقرأ الفاتحة فقط في سكتات الإمام ، وهو قول طائفة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم. وقال أبو حنيفة وأحمد بن حنبل : لا يجب على المأموم قراءة أصلا في السرية ولا الجهرية ، لما ورد في الحديث : "من كان له إمام فقراءته له قراءة". وهذا الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده عن جابر مرفوعًا ، وهو في موطأ مالك عن وهب بن كيسان ، عن جابر موقوفًا ، وهذا أصح. وهذه المسألة مبسوطة في غير هذا الموضع (2) وقد أفرد لها الإمام أبو عبد الله البخاري مصنفًا على حدة (3) واختار وجوب القراءة خلف الإمام في السرية والجهرية أيضا ، والله أعلم.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } يعني : في الصلاة المفروضة. وكذا روي عن عبد الله بن المغفل.
وقال ابن جرير : حدثنا حُمَيْد بن مَسْعَدة ، حدثنا بشر بن المفضل ، حدثنا الجريري ، عن طلحة بن عبيد الله بن كَرِيزَ قال : رأيت عبيد بن عمير وعطاء بن أبي رباح يتحدثان ، والقاص يقص ، فقلت : ألا تستمعان إلى الذكر وتستوجبان الموعود ؟ قال : فنظرا إلي ، ثم أقبلا على حديثهما. قال : فأعدت (4) فنظرا إلي ، وأقبلا (5) على حديثهما. قال : فأعدت الثالثة ، قال : فنظرا إلي فقالا إنما ذلك في الصلاة : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا }
وقال سفيان الثوري ، عن أبي هاشم إسماعيل بن كثير ، عن مجاهد في قوله : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } قال : في الصلاة. وكذا رواه غير واحد عن مجاهد.
وقال عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن ليث ، عن مجاهد قال : لا بأس إذا قرأ الرجل في غير الصلاة أن يتكلم.
__________
(1) المسند (2/301) وسنن أبي داود برقم (826) وسنن الترمذي برقم (312) وسنن النسائي (2/140) وسنن ابن ماجة برقم (848).
(2) انظر الكلام مبسوطا في : مقدمة سورة الفاتحة.
(3) سماه "جزء القراءة خلف الإمام" مطبوع في مؤسسة الرسالة ببيروت.
(4) في أ : "فأعدت الكلام".
(5) في أ : "ثم أقبلا".

(3/537)


وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)

وكذا قال سعيد بن جبير ، والضحاك ، وإبراهيم النخعي ، وقتادة ، والشعبي ، والسدي ، وعبد الرحمن ابن زيد بن أسلم : أن المراد بذلك في الصلاة.
وقال شعبة ، عن منصور ، سمعت إبراهيم بن أبي حرة يحدث أنه سمع مجاهدا يقول في هذه الآية : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } قال : في الصلاة والخطبة يوم الجمعة.
وكذا روى ابن جريج (1) عن عطاء ، مثله.
وقال هُشَيْم ، عن الربيع بن صبيح ، عن الحسن قال : في الصلاة وعند الذكر.
وقال ابن المبارك ، عن بَقِيَّة : سمعت ثابت بن عجلان يقول : سمعت سعيد بن جبير يقول في قوله : { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا } قال : الإنصات يوم الأضحى ، ويوم الفطر ، ويوم الجمعة ، وفيما يجهر به الإمام من الصلاة.
وهذا اختيار ابن جرير أن المراد بذلك [الإنصات في الصلاة وفي الخطبة ؛ لما جاء في الأحاديث من الأمر بالإنصات] (2) خلف الإمام وحال الخطبة.
وقال عبد الرزاق ، عن الثوري ، عن ليث ، عن مجاهد أنه كره إذا مر الإمام بآية خوف أو بآية رحمة أن يقول أحد من خلفه شيئا ، قال : السكوت.
وقال مبارك بن فَضَالة ، عن الحسن : إذا جلست إلى القرآن ، فأنصت له.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا عباد بن ميسرة ، عن الحسن ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من استمع إلى آية من كتاب الله ، كتبت له حسنة مضاعفة ، ومن تلاها كانت له نورًا يوم القيامة". تفرد به أحمد (3) رحمه الله.
{ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) }
يأمر تعالى بذكره أول النهار وآخره ، كما أمر بعبادته في هذين الوقتين في قوله : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ } [ق : 39] وقد كان هذا قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء ، وهذه الآية مكية.
وقال هاهنا بالغدو - وهو أوائل النهار : { وَالآصَالِ } جمع أصيل ، كما أن الأيمان جمع يمين.
وأما قوله : { تَضَرُّعًا وَخِيفَةً } أي : اذكر ربك في نفسك رهبة ورغبة ، وبالقول لا جهرًا ؛ ولهذا
__________
(1) في د ، أ : "ابن جرير".
(2) زيادة من م ، أ.
(3) المسند (2/341) وفي إسناده عباد بن ميسرة وهو ضعيف.

(3/538)


قال : { وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ } وهكذا يستحب أن يكون الذكر لا يكون نداء و[لا] (1) جهرًا بليغًا ؛ ولهذا لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه ؟ فأنزل الله : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [البقرة : 186] (2)
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال : رفع الناس أصواتهم بالدعاء في بعض الأسفار ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : "أيها الناس ، أربعوا على أنفسكم ، فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا ؛ إن الذي تدعونه سميع قريب" (3)
وقد يكون المراد من هذه الآية كما في قوله تعالى : { وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا } [الإسراء : 110] فإن المشركين كانوا إذا سمعوا القرآن سبوه ، وسبوا من أنزله ، و[سبوا] (4) من جاء به ؛ فأمره الله تعالى ألا يجهر به ، لئلا ينال منه المشركون ، ولا يخافت به عن أصحابه فلا يسمعهم ، وليتخذ سبيلا بين الجهر والإسرار. وكذا قال في هذه الآية الكريمة : { وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ }
وقد زعم ابن جرير وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم قبله : أن المراد بهذه الآية : أمر السامع للقرآن في حال استماعه بالذكر على هذه الصفة. وهذا بعيد مناف للإنصات المأمور به ، ثم المراد بذلك في الصلاة ، كما تقدم ، أو الصلاة والخطبة ، ومعلوم أن الإنصات إذ ذاك أفضل من الذكر باللسان ، سواء كان سرًا أو جهرًا ، فهذا الذي قالاه لم يتابعا عليه ، بل المراد الحض على كثرة الذكر من العباد بالغدو والآصال ، لئلا يكونوا من الغافلين ؛ ولهذا مدح الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، فقال : { إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ [ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ] } (5) وإنما ذكرهم بهذا ليتشبه بهم في كثرة طاعتهم وعبادتهم ؛ ولهذا شرع لنا السجود هاهنا لما ذكر سجودهم لله ، عز وجل ، كما جاء في الحديث : "ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها ، يتمون الصفوف الأوَل ، ويتَراصُّون في الصف" (6)
وهذه أول سجدة في القرآن ، مما يشرع لتاليها ومستمعها السجود بالإجماع. وقد ورد في حديث رواه ابن ماجة ، عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عدها في سجدات القرآن (7)
آخر [تفسير] (8) سورة الأعراف ، ولله الحمد والمنة.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) رواه الطبري في تفسيره (3/480) من طريق عبدة السجستاني ، عن الصلت بن حكيم ، عن أبيه ، عن جده فذكره ، وقد سبق الكلام عليه عند الآية : 186 من سورة البقرة.
(3) صحيح البخاري برقم (4205) وصحيح مسلم برقم (2704).
(4) زيادة من د.
(5) زيادة من ك ، م ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(6) رواه مسلم في صحيحه برقم (430) من حديث جابر بن سمرة ، رضي الله عنه.
(7) سنن ابن ماجة برقم (1056).
(8) زيادة من ك ، م.

(3/539)


يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)

تفسير سورة الأنفال
وهي مدنية (1) آياتها سبعون وست آيات (2) كلماتها ألف كلمة ، وستمائة كلمة ، وإحدى (3) وثلاثون كلمة ، حروفها خمسة آلاف ومائتان ، وأربعة وتسعون (4) حرفا ، والله أعلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) }
قال البخاري : قال ابن عباس الأنفال : الغنائم : حدثنا محمد بن عبد الرحيم ، حدثنا سعيد بن سليمان ، أخبرنا هُشَيْم ، أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، قال : قلت لابن عباس : سورة الأنفال ؟ قال نزلت في بدر.
أما ما عَلَّقه عن ابن عباس ، فكذلك رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس أنه قال : "الأنفال" : الغنائم ، كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة ، ليس لأحد منها (5) شيء. وكذا قال مجاهد ، وعكرمة ، وعطاء ، والضحاك ، وقتادة ، وعطاء الخراساني ، ومقاتل بن حَيَّان ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغير واحد أنها الغنائم (6)
وقال الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس أنه قال : الأنفال : الغنائم ، قال فيها لَبِيدُ : إِنَّ تَقْوَى رَبّنَا خيرُ نَفَلوَبِإِذْنِ اللهِ رَيثي وَعَجَلْ (7)
وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني مالك بن أنس ، عن ابن شهاب ، عن القاسم بن محمد قال : سمعت رجلا يسأل ابن عباس عن "الأنفال" ، فقال ابن عباس ، رضي الله عنهما : الفرس من النَّفل ، والسلب من النفل. ثم عاد لمسألته ، فقال ابن عباس ذلك أيضا. ثم قال الرجل : الأنفال التي قال الله في كتابه ما هي ؟ قال القاسم : فلم يزل يسأله حتى كاد يُحرجه ، فقال ابن عباس : أتدرون ما مثل هذا ، مثل صبيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب (8)
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن القاسم بن محمد قال : قال ابن عباس : كان
__________
(1) في د : "مكية".
(2) في د ، م : "ستة وأربعون" ، وفي أ : "أربعون وست آيات".
(3) في د : "واحد".
(4) في د : "سبعون".
(5) في د : "فيها".
(6) في د ، ك ، م : "المغانم".
(7) البيت في تفسير الطبري (13/366) ولسان العرب مادة (نفل).
(8) تفسير الطبري (13/364).

(4/5)


عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، إذا سئل عن شيء قال : لا آمرك ولا أنهاك. ثم قال ابن عباس : والله ما بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم إلا زاجرا آمرا محلا محرما. قال القاسم : فَسُلِّطَ على ابن عباس رجل يسأله (1) عن الأنفال ، فقال ابن عباس : كان الرجل ينفل فرس الرجل وسلاحه. فأعاد عليه الرجل ، فقال له مثل ذلك ، ثم أعاد عليه حتى أغضبه ، فقال ابن عباس : أتدرون ما مثل هذا ؟ مثل صَبِيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب ، حتى سالت الدماء على عقبيه - أو على : رجليه فقال الرجل : أما أنت فقد انتقم الله لعمر منك (2)
وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس : أنه فسر النفل بما ينفله الإمام لبعض الأشخاص من سلب أو نحوه ، بعد قسم أصل المغنم ، وهو المتبادر إلى فهم كثير من الفقهاء من لفظ النفل ، والله أعلم.
وقال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : إنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمس بعد الأربعة الأخماس ، فنزلت : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ } (3)
وقال ابن مسعود ومسروق : لا نفل يوم الزحف ، إنما النفل قبل التقاء الصفوف. رواه ابن أبي حاتم عنهما.
وقال ابن المبارك وغير واحد ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء بن أبي رباح : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ } قال : يسألونك فيما شذ من المشركين إلى المسلمين في غير قتال ، من دابة أو عبد أو أمة أو متاع ، فهو نفل للنبي صلى الله عليه وسلم يصنع به ما يشاء.
وهذا يقتضي أنه فسر الأنفال بالفيء ، وهو ما أخذ من الكفار من غير قتال.
وقال ابن جرير : وقال آخرون : هي أنفال السرايا ، حدثني الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا علي بن صالح بن حيي قال : بلغني في قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ } قال : السرايا.
ويعني (4) هذا : ما ينفله الإمام لبعض السرايا زيادة على قسمهم مع بقية
الجيش ، وقد صرح بذلك الشعبي ، واختار ابن جرير أنها الزيادات على القسم ، ويشهد لذلك ما ورد في سبب نزول الآية ، وهو ما رواه الإمام أحمد حيث قال : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا أبو إسحاق الشيباني ، عن محمد بن عبد الله (5) الثقفي ، عن سعد بن أبي وقاص قال : لما كان يوم بدر ، وقتل أخي عُمَيْر ، وقتلت سعيد بن العاص وأخذت سيفه ، وكان يسمى "ذا الكتيفة" ، فأتيت به نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : "اذهب فاطرحه في القبض". قال : فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي. قال : فما جاوزت إلا يسيرا حتى نزلت سورة الأنفال ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اذهب فخذ سيفك" (6)
__________
(1) في د ، ك ، م : "فسأله" وفي أ : "سأله".
(2) تفسير عبد الرزاق (1/231) وصبيغ هو "ابن عسل" ويقال "ابن سهل" التميمي. انظر قصته في : الإصابة (2/198).
(3) رواه الطبري في تفسيره (13/365).
(4) في د : "ومعنى".
(5) في أ : "عبيد الله".
(6) المسند (1/180).

(4/6)


وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا أسود بن عامر ، أخبرنا أبو بكر ، عن عاصم بن أبي النَّجود ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد بن مالك قال : قال : يا رسول الله ، قد شفاني الله اليوم من المشركين ، فهب لي هذا السيف. فقال : "إن هذا السيف لا لك ولا لي ، ضعه" قال : فوضعته ، ثم رجعت ، قلت : عسى أن يعطى هذا السيف اليوم من لا يبلي بلائي! قال : رجل (1) يدعوني من ورائي ، قال : قلت : قد أنزل الله في شيئا ؟ قال : "كنت سألتني السيف ، وليس هو لي وإنه قد وهب لي ، فهو لك" قال : وأنزل الله هذه الآية : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ }
ورواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي من طرق ، عن أبي [بكر] (2) بن عياش ، به (3) وقال الترمذي : حسن صحيح.
وهكذا رواه أبو داود الطيالسي : أخبرنا شعبة ، أخبرنا سماك بن حرب ، قال : سمعت مصعب بن سعد ، يحدث عن سعد قال : نزلت في أربع آيات : أصبت سيفا يوم بدر ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : نَفِّلْنِيه. فقال : "ضعه من حيث أخذته" مرتين ، ثم عاودته فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "ضعه من حيث أخذته" ، فنزلت هذه الآية : "يسألونك عن الأنفال : (4)
وتمام الحديث في نزول : { وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا } [العنكبوت : 8] (5) وقوله تعالى : { إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ } [المائدة : 90]وآية الوصية. وقد رواه مسلم في صحيحه ، من حديث شعبة ، به (6)
وقال محمد بن إسحاق : حدثني عبد الله بن أبي بكر ، عن بعض بني ساعدة قال : سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة يقول : أصبت سيف ابن عائذ يوم بدر ، وكان السيف يدعى بالمرزبان ، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يردوا ما في أيديهم من النفل ، أقبلت به فألقيته في النفل ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع شيئا يسأله ، فرآه الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي ، فسأله رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (7) فأعطاه إياه (8)
ورواه ابن جرير من وجه آخر.
[سبب آخر في نزول الآية] :
وقال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عبد الرحمن ، عن (9) سليمان بن موسى ، عن مكحول ، عن أبي أمامة قال : سألت عبادة عن الأنفال ، فقال : فينا - أصحاب بدر -
__________
(1) في أ : "إذا رجل".
(2) زيادة من ك ، م ، أ.
(3) المسند (1/178) وسنن أبي داود برقم (2740) وسنن الترمذي برقم (3079) والنسائي في السنن الكبرى برقم (11196).
(4) مسند الطيالسي برقم (208).
(5) في أ : : إحسانا".
(6) صحيح مسلم برقم (1748).
(7) زيادة من ك ، أ.
(8) رواه الطبري في تفسيره (13/374) من طريق ابن إسحاق به.
(9) في د : "بن".

(4/7)


نزلت ، حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فانتزعه الله من أيدينا ، وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين عن بواء - يقول : عن سواء (1)
وقال الإمام أحمد أيضا : حدثنا معاوية بن عمرو ، أخبرنا أبو (2) إسحاق ، عن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش (3) بن أبي ربيعة ، عن سليمان بن موسى ، عن أبي سلام ، عن أبي أمامة ، عن عبادة بن الصامت قال : خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فشهدت معه بدرا ، فالتقى الناس ، فهزم الله [تعالى] (4) العدو ، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون ، وأكبت (5) طائفة على العسكر يحوونه ويجمعونه. وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة ، حتى إذا كان الليل ، وفاء الناس بعضهم إلى بعض ، قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها ، فليس لأحد فيها نصيب. وقال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم بأحق به منا ، نحن منعنا (6) عنها (7) العدو وهزمناهم. وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم : لستم بأحق منا ، نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخفنا أن يصيب العدو منه غرة ، فاشتغلنا به ، فنزلت : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين - وكان رسول الله إذا غار في أرض العدو نفل الربع ، فإذا أقبل وكل الناس راجعا ، نفل الثلث ، وكان يكره الأنفال ويقول : "ليرد قوي المؤمنين على ضعيفهم".
ورواه الترمذي وابن ماجه ، من حديث سفيان الثوري ، عن عبد الرحمن بن الحارث به نحوه ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن. ورواه ابن حبان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه من حديث عبد الرحمن بن الحارث (8) وقال الحاكم : صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه.
وروى أبو داود والنسائي ، وابن جرير ، وابن مردويه - واللفظ له - وابن حبان ، والحاكم من طرق ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا ، فتسارع (9) في ذلك شبان الرجال ، وبقي الشيوخ تحت الرايات ، فلما كانت المغانم ، جاءوا يطلبون الذي جعل لهم ، فقال الشيوخ : لا تستأثروا علينا ، فإنا كنا ردءًا لكم ، لو انكشفتم لفئتم (10) إلينا. فتنازعوا فأنزل الله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ } إلى قوله : { وَأَطِيعُوااللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } (11)
وقال الثوري ، عن الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عباس قال : لما كان يوم بدر قال رسول الله
__________
(1) المسند (5/322).
(2) في م ، د : "ابن".
(3) في أ : "عباس".
(4) زيادة من د ، م.
(5) في د : "وأقبلت".
(6) في د ، ك ، م ، أ : "نفينا".
(7) في د : "عنه".
(8) المسند (5/324) وسنن الترمذي برقم (1561) وسنن ابن ماجة برقم (2852) وصحيح ابن حبان برقم (1693) "موارد". والمستدرك (2/136).
(9) في جميع النسخ : "فتنازع" ، والمثبت من الطبري
(10) في د : "لنتبتم".
(11) سنن أبي داود برقم (2737) وسنن النسائي الكبرى برقم (11197) وتفسير الطبري (13/368) والمستدرك (2/326)

(4/8)


صلى الله عليه وسلم : "من قتل قتيلا فله كذا وكذا ، ومن أتى بأسير فله كذا وكذا". فجاء أبو اليَسَر بأسيرين ، فقال : يا رسول الله ، (1) وعدتنا ، فقام سعد بن عبادة فقال : يا رسول الله ، إن أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شيء ، وإنه لم يمنعنا من هذا زهادة في الأجر ، ولا جبن عن العدو ، وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك ، نخاف أن يأتوك من ورائك ، فتشاجروا ، ونزل القرآن : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } قال : ونزل القرآن : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ [وَلِلرَّسُولِ] } (2) إلى آخر الآية [الأنفال : 41] (3)
وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام ، رحمه الله ، في كتاب "الأموال الشرعية وبيان جهاتها ومصارفها" : أما الأنفال : فهي المغانم ، وكل نيل ناله المسلمون من أموال أهل الحرب ، فكانت الأنفال الأولى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول الله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } فقسمها يوم بدر على ما أراده الله من غير أن يخمسها على ما ذكرناه في حديث سعد ، ثم نزلت بعد ذلك آية الخمس ، فنسخت الأولى (4)
قلت : هكذا روى علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، سواء. وبه قال مجاهد ، وعكرمة والسُّدِّيّ.
وقال ابن زيد : ليست منسوخة ، بل هي محكمة.
قال أبو عبيد : وفي ذلك آثار ، والأنفال أصلها جمع (5) الغنائم ، إلا أن الخمس منها مخصوص لأهله على ما نزل به الكتاب ، وجرت به السنة. ومعنى الأنفال في كلام العرب : كل إحسان فعله فاعل تفضلا من غير أن يجب ذلك عليه ، فذلك النفل الذي أحله الله للمؤمنين من أموال عدوهم وإنما هو شيء خصه الله به تطولا منه عليهم بعد أن كانت المغانم محرمة على الأمم قبلهم ، فنفلها الله هذه الأمة فهذا أصل النفل.
قلت : شاهد هذا في الصحيحين عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي" فذكر الحديث ، إلى أن قال : "وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي" ، وذكر تمام الحديث (6)
ثم قال أبو عبيد : ولهذا سمى ما جعل الإمام للمقاتلة نفلا وهو تفضيله بعض الجيش على بعض بشيء سوى سهامهم ، يفعل ذلك بهم على قدر الغناء عن الإسلام والنكاية في العدو. وفي النفل الذي ينفله الإمام سنن أربع ، لكل واحدة منهن موضع غير موضع الأخرى :
__________
(1) في أ : "يا رسول الله إنك".
(2) زيادة من أ.
(3) رواه عبد الرزاق في المصنف برقم (9483) عن الثوري به.
(4) الأموال (ص 426).
(5) في د ، ك ، أ : "جماع".
(6) انظر : تخريج هذا الحديث عند تفسير الآية : 43 من سورة النساء.

(4/9)


فإحداهن : في النفل لا خمس فيه ، وذلك السلب.
والثانية : في النفل الذي يكون من الغنيمة بعد إخراج الخمس ، وهو أن يوجه الإمام السرايا في أرض الحرب ، فتأتي بالغنائم فيكون للسرية مما جاءت به الربع أو الثلث بعد الخمس.
والثالثة : في النفل من الخمس نفسه ، وهو أن تحاز الغنيمة كلها ، ثم تخمس ، فإذا صار الخمس في يدي الإمام نفل منه على قدر ما يرى.
والرابعة : في النفل في جملة الغنيمة قبل أن يخمس منها شيء ، وهو أن يعطى الأدلاء ورعاة الماشية والسَّوَّاق لها ، وفي كل ذلك اختلاف.
قال الربيع : قال الشافعي : الأنفال : ألا يخرج من رأس الغنيمة قبل الخمس شيء غير السلب.
قال أبو عبيد : والوجه الثاني من النفل هو شيء زيدوه غير الذي كان لهم ، وذلك من خمس النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإن له خمس الخمس من كل غنيمة ، فينبغي للإمام أن يجتهد ، فإذا كثر العدو واشتدت شوكتهم ، وقل من بإزائه من المسلمين ، نفل منه اتباعا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإذا لم يكن ذلك لم ينفل.
والوجه الثالث من النفل : إذا بعث الإمام سرية أو جيشًا ، فقال لهم قبل اللقاء : من غنم شيئا فله بعد الخمس ، فذلك لهم على ما شرط الإمام ؛ لأنهم على ذلك غزوا ، وبه رضوا. انتهى كلامه (1)
وفيما تقدم من كلامه وهو قوله : "إن غنائم بدر لم تخمس" ، نظر. ويرد عليه حديث علي بن أبي طالب في شارفيه اللذين حصلا له من الخمس يوم بدر ، وقد بينت ذلك في كتاب السيرة بيانًا شافيا (2) ولله الحمد [والمنة] (3)
وقوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } أي : اتقوا الله في أموركم ، وأصلحوا فيما بينكم ولا تظالموا ولا تخاصموا ولا تشاجروا ؛ فما آتاكم الله من الهدى والعلم خير مما تختصمون بسببه ، { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : في قسمه بينكم على ما أراده الله ، فإنه قسمه (4) كما أمره الله من العدل والإنصاف.
وقال ابن عباس : هذا تحريج من الله على المؤمنين أن يتقوا [الله] (5) ويصلحوا ذات بينهم. وكذا قال مجاهد.
وقال السدي : { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ } أي : لا تستبوا. ونذكر هاهنا حديثا أورده الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي ، رحمه الله ، في مسنده ، فإنه قال : حدثنا مجاهد
__________
(1) الأموال (ص 431).
(2) السيرة لابن كثير (2/466).
(3) زيادة من أ.
(4) في أ : "يقسمه".
(5) زيادة من أ.

(4/10)


إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)

بن موسى ، حدثنا عبد الله بن بكر (1) حدثنا عباد بن شيبة الحبطي (2) عن سعيد بن أنس ، عن أنس ، رضي الله عنه ، قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس ، إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه ، فقال عمر : ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي ؟ فقال : "رجلان جثيا من أمتي بين يدي رب العزة ، تبارك وتعالى ، فقال أحدهما : يا رب ، خذ لي مظلمتي من أخي. قال الله تعالى : أعط أخاك مظلمتك. قال : يا رب ، لم يبق من حسناتي شيء. قال : رب ، فليحمل عني من أوزاري" قال : وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ، ثم قال : "إن ذلك (3) ليوم عظيم ، يوم يحتاج الناس إلى من يتحمل عنهم من أوزارهم ، فقال الله تعالى للطالب : ارفع بصرك فانظر في الجنان ، فرفع رأسه فقال : يا رب ، أرى مدائن من فضة وقصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ ، لأي نبي هذا ؟ لأي صديق هذا ؟ لأي شهيد هذا ؟ قال : هذا لمن أعطى الثمن. قال : يا رب ، ومن يملك ذلك ؟ قال : أنت تملكه. قال : ماذا يا رب ؟ قال : تعفو عن أخيك. قال : يا رب ، فإني قد عفوت عنه. قال الله تعالى : خذ بيد أخيك فأدخله الجنة". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ، فإن الله تعالى يصلح بين المؤمنين يوم القيامة" (4)
{ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) }
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } قال : المنافقون لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه ، ولا يؤمنون بشيء من آيات الله ، ولا يتوكلون ، ولا يصلون إذا غابوا ، ولا يؤدون زكاة أموالهم ، فأخبر الله تعالى أنهم ليسوا بمؤمنين ، ثم وصف المؤمنين فقال : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } فأدوا فرائضه. { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا } يقول : تصديقا { وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } يقول : لا يرجون غيره.
وقال مجاهد : { وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } فرقت ، أي : فزعت وخافت. وكذا قال السدي وغير واحد.
وهذه صفة المؤمن حق المؤمن ، الذي إذا ذكر الله وجل قلبه ، أي : خاف منه ، ففعل أوامره ، وترك زواجره. كقوله تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [آل عمران : 135]وكقوله تعالى : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى } [النازعات : 40 ، 41]ولهذا قال سفيان الثوري : سمعت السدي يقول في قوله تعالى : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ }
__________
(1) في أ : "كثير".
(2) في د ، أ : الحنظلي".
(3) في د ، م : "وذلك".
(4) ورواه الحاكم في المستدرك (4/576) من طريق عبد الله بن بكر السهمي به ، وقال : "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" وتعقبه الذهبي فقال : "عباد بن شيبة الحبطي ، عن سعيد ، والأول ضعيف ، وشيخه لا يعرف".

(4/11)


قال : هو الرجل يريد أن يظلم - أو قال : يهم بمعصية - فيقال له : اتق الله فَيجل (1) قلبه.
وقال الثوري أيضًا : عن عبد الله بن عثمان بن خثيم ، عن شهر بن حوشب ، عن أم الدرداء في قوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } قالت : الوجل في القلب إحراق (2) السعفة ، أما تجد له قشعريرة ؟ قال : بلى. قالت لي : إذا وجدت ذلك فادع الله عند ذلك ، فإن الدعاء يذهب ذلك.
وقوله : { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا [وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ] } (3) كقوله : { وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [التوبة : 124]
وقد استدل البخاري وغيره من الأئمة بهذه الآية وأشباهها ، على زيادة الإيمان وتفاضله في القلوب ، كما هو مذهب جمهور الأمة ، بل قد حكى الإجماع على ذلك غير واحد من الأئمة ، كالشافعي ، وأحمد بن حنبل ، وأبي عبيد ، كما بينا ذلك مستقصى في أول الشرح (4) البخاري ، ولله الحمد والمنة.
{ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي : لا يرجون سواه ، ولا يقصدون إلا إياه ، ولا يلوذون إلا بجنابه ، ولا يطلبون الحوائج إلا منه ، ولا يرغبون إلا إليه ، ويعلمون أنه ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ، وأنه المتصرف في الملك ، وحده لا شريك له ، ولا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب ؛ ولهذا قال سعيد بن جبير : التوكل على الله جماع الإيمان.
وقوله { الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } ينبه بذلك على أعمالهم ، بعد ما ذكر اعتقادهم ، وهذه الأعمال تشمل أنواع الخير كلها ، وهو إقامة الصلاة ، وهو حق الله تعالى.
وقال قتادة : إقامة الصلاة : المحافظة على مواقيتها (5) ووضوئها ، وركوعها ، وسجودها.
وقال مقاتل بن حَيَّان : إقامتها : المحافظة على مواقيتها ، وإسباغ الطهور فيها ، وتمام ركوعها وسجودها ، وتلاوة القرآن فيها ، والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، هذا إقامتها.
والإنفاق مما رزقهم الله يشمل خراج (6) الزكاة ، وسائر الحقوق للعباد من واجب ومستحب ، والخلق كلهم عيال الله ، فأحبهم (7) إلى الله أنفعهم لخلقه.
قال قتادة في قوله { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } فأنفقوا مما أعطاكم الله ، فإنما هذه الأموال عواري وودائع عندك يا ابن آدم ، أوشكت أن تفارقها.
وقوله { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } أي : المتصفون بهذه الصفات هم المؤمنون حق الإيمان.
__________
(1) في م : "فيوجل".
(2) في أ : "كإحراق".
(3) زيادة من ك.
(4) في أ : "شرح".
(5) في م : "أوقاتها".
(6) في ك ، م : "إخراج"
(7) في د : "أحبكم".

(4/12)


وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي ، حدثنا أبو كُرَيْب ، حدثنا زيد بن الحُبَاب ، حدثنا ابن لَهِيعَة ، عن خالد بن يزيد (1) السَّكْسَكِيّ ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن محمد بن أبي الجهم ، عن الحارث بن مالك الأنصاري ؛ أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : "كيف أصبحت يا حارث ؟" قال : أصبحت مؤمنا حقا. قال : "انظر ماذا (2) تقول ، فإن لكل شيء حقيقة ، فما حقيقة إيمانك ؟" فقال : عَزَفَت نفسي عن الدنيا ، فأسهرت ليلى ، وأظمأت نهاري ، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها ، وكأني أنظر إلى أهل النار يَتَضاغَوْن فيها ، فقال : "يا حارث ، عرفت فالزم" ثلاثا (3)
وقال عمرو بن مُرَّة في قوله : { أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا } إنما أُنزلَ (4) القرآن بلسان العرب ، كقولك : فلان سيد حقا ، وفي القوم سادة ، وفلان تاجر حقا ، وفي القوم تجار ، وفلان شاعر حقا ، وفي القوم شعراء.
وقوله : { لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ } أي : منازل ومقامات ودرجات في الجنات ، كما قال تعالى : { هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } [آل عمران : 163]
{ ومغفرة } أي : يغفر لهم السيئات ، ويشكر لهم الحسنات.
وقال الضحاك في قوله : { لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ } أهل الجنة بعضهم فوق بعض ، فيرى الذي هو فوق فضله على الذي هو أسفل منه ، ولا يرى الذي هو أسفلُ أنه فُضّل عليه أحد.
ولهذا جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن أهل علِّيين ليراهم من أسفل منهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق من آفاق السماء" ، قالوا (5) يا رسول الله ، تلك منازل الأنبياء ، لا ينالها غيرهم ؟ فقال : "بلى ، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين" (6)
وفي الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد [و] (7) أهل السنن من حديث عَطية ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن أهل الجنة ليتراءون أهل الدرجات العلى كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء ، وإن أبا بكر وعمر منهم وأنْعَمَا" (8)
__________
(1) في د ، م : "زيد".
(2) في م ، أ : "ما".
(3) المعجم الكبير (3/266) قال الهيثمي في المجمع (1/57) : "فيه ابن لهيعة وفيه من يحتاج إلى الكشف عنه".
(4) في د ، ك ، م : "نزل".
(5) في أ : "فقالوا".
(6) صحيح البخاري برقم (3256) وصحيح مسلم برقم (2831) من حديث أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه.
(7) زيادة من د ، ك ، م ، أ.
(8) المسند (3/61) وسنن أبي داود برقم (3987) وسنن الترمذي برقم (3658) وسنن ابن ماجة برقم (96).

(4/13)


كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)

{ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) }
قال الإمام أبو جعفر الطبري : اختلف المفسرون في السبب الجالب لهذه "الكاف" في قوله : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ } فقال بعضهم : شُبِّه به في الصلاح للمؤمنين ، اتقاؤهم ربهم ، وإصلاحهم ذات بينهم ، وطاعتهم الله ورسوله.
ثم روى عن عكرمة نحو هذا.
ومعنى هذا أن الله تعالى يقول : كما أنكم لما اختلفتم في المغانم وتشاححتم فيها فانتزعها الله منكم ، وجعلها إلى قسمه وقسم رسوله صلى الله عليه وسلم (1) فقسمها على العدل والتسوية ، فكان هذا هو المصلحة التامة لكم ، وكذلك لما كرهتم الخروج إلى الأعداء من قتال ذات الشوكة - وهم النفير (2) النفير الذين خرجوا لنصر دينهم ، وإحراز عيرهم - فكان عاقبة ، كراهتكم للقتال - بأن قدَّره لكم ، وجَمَع به بينكم وبين عدوكم على غير ميعاد - رَشَدَا وهدى ، ونصرا وفتحا ، كما قال تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } [البقرة : 216]
قال ابن جرير : وقال آخرون : معنى ذلك : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ } على كره من فريق من المؤمنين ، كذلك هم كارهون للقتال ، فهم يجادلونك فيه بعد ما تبين لهم ، ثم روى نحوه عن مجاهد أنه قال : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ } قال : كذلك يجادلونك في الحق.
وقال السُّدِّي : أنزل الله في خروجه (3) إلى بدر ومجادلتهم إياه فقال : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } لطلب المشركين { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ }
وقال بعضهم : يسألونك عن الأنفال مجادلة ، كما جادلوك يوم بدر فقالوا : أخرجتنا للعِير ، ولم تعلمنا قتالا فنستعد له.
قلت : رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج من المدينة طالبا لعير أبي سفيان ، التي بلغه خبرها أنها صادرة من الشام ، فيها أموال جزيلة لقريش فاستنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين من خَف منهم ، فخرج في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا وطلب نحو الساحل من على طريق بدر ، وعلم أبو سفيان بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه ، فبعث ضَمْضَم بن عمرو نذيرا إلى مكة ، فنهضوا في قريب من ألف مُقَنَّع ، ما بين التسعمائة إلى الألف ، وتيامن أبو سفيان بالعير إلى سيف البحر فنجا ، وجاء النفير فوردوا ماء بدر ، وجمع الله المسلمين والكافرين على غير ميعاد ، لما يريد الله تعالى من إعلاء كلمة المسلمين
__________
(1) في ك ، م ، أ : "صلوات الله وسلامه عليه".
(2) في د : "وهو".
(3) في د : "خروجهم".

(4/14)


ونصرهم على عدوهم ، والتفرقة (1) بين الحق والباطل ، كما سيأتي بيانه.
والغرض : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه خروج النفير ، أوحى الله إليه يَعدهُ إحدى الطائفتين : إما العير وإما النَّفير ، ورغب كثير من المسلمين إلى العير ؛ لأنه كسب بلا قتال ، كما قال تعالى : { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ }
قال الحافظ أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسيره : حدثنا سليمان بن أحمد الطبراني ، حدثنا بكر بن سهل ، حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أسلم أبي عمران حدثه أنه سمع أبا أيوب الأنصاري يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن بالمدينة : إني أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير لعل الله يُغْنمناهَا ؟ " فقلنا : نعم ، فخرج وخرجنا ، فلما سِرْنا يوما أو يومين قال لنا : " ما ترون في قتال القوم ؛ فإنهم قد أخبروا بمخرجكم ؟ " فقلنا : لا والله ما لنا طاقة بقتال العدو ، ولكنا أردنا العير ، ثم قال : " ما ترون في قتال القوم ؟ " فقلنا مثل ذلك فقال المقداد بن عمرو : إذًا لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [المائدة : 24]قال : فتمنينا - معشر الأنصار - أن لو قلنا كما قال المقداد أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم ، قال : فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } وذكر تمام الحديث (2)
ورواه ابن أبي حاتم ، من حديث ابن لهيعة ، بنحوه.
ورواه ابن مَرْدُوَيْه أيضًا من حديث محمد بن عمرو بن عَلْقَمة بن وقاص الليثي ، عن أبيه ، عن جده قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر ، حتى إذا كان بالرَّوْحاء ، خطب الناس فقال : " كيف تَرَون ؟ " فقال أبو بكر : يا رسول الله ، بلغنا أنهم بمكان كذا وكذا. قال : ثم خطب الناس فقال : " كيف ترون ؟ " فقال عمر مثل قول أبي بكر. ثم خطب الناس فقال : " كيف ترون ؟ " فقال سعد بن معاذ : يا رسول الله إيانا تريد ؟ فو الذي أكرمك [بالحق] (3) وأنزل عليك الكتاب ، ما سلكتها قط ولا لي بها علم ، ولئن سرت [بنا] (4) حتى تأتي "بَرْك الغماد" من ذي يمن لنسيرن معك ، ولا نكون كالذين قالوا لموسى { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما متبعون ، ولعلك أن تكون خرجت لأمر ، وأحدث الله إليك غيره ، فانظر الذي أحدث الله إليك ، فامض له ، فَصِلْ حبال من شئت ، واقطع حبال من شئت ، وعاد من شئت ، وسالم من شئت ، وخذ من أموالنا ما شئت ، فنزل القرآن على قول سعد : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ } الآيات.
وقال العَوْفي ، عن ابن عباس : لما شاور النبي صلى الله عليه وسلم في لقاء العدو ، وقال له سعد بن عبادة ما قال
__________
(1) في د : "التفريق".
(2) رواه الطبراني في المعجم الكبير (4/174).
(3) زيادة من م.
(4) زيادة من أ.

(4/15)


وذلك يوم بدر ، أمر الناس فعبئوا للقتال ، وأمرهم بالشوكة ، فكره ذلك أهل الإيمان ، فأنزل الله : { كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ }
وقال مجاهد : يجادلونك في الحق : في القتال. وقال محمد بن إسحاق : { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ [بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ] } (1) أي : كراهية للقاء المشركين ، وإنكارا لمسير قريش حين ذكروا لهم.
وقال السُّدِّي : { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ } أي : بعد ما تبين لهم أنك لا تفعل إلا ما أمرك الله به.
قال ابن جرير : وقال آخرون : عنى بذلك المشركين.
حدثني يونس ، أنبأنا ابن وَهْب قال : قال ابن زيد في قوله تعالى : { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ } قال : هؤلاء المشركون ، جادلوه في الحق { كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ } حين يدعون إلى الإسلام { وَهُمْ يَنْظُرُونَ } قال : وليس هذا من صفة الآخرين ، هذه صفة مبتدأة لأهل الكفر.
ثم قال ابن جرير : ولا معنى لما قاله ؛ لأن الذي قبل قوله : { يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ } خبر عن أهل الإيمان ، والذي يتلوه خبر عنهم ، والصواب قول ابن عباس وابن إسحاق أنه خبر عن المؤمنين.
وهذا الذي نصره ابن جرير هو الحق ، وهو الذي يدل عليه سياق الكلام ، والله أعلم..
وقال الإمام أحمد ، رحمه الله : حدثنا يحيى بن أبي بكير وعبد الرزاق قالا حدثنا إسرائيل ، عن سِمَال ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر : عليك بالعير ليس دونها شيء فناداه العباس بن عبد المطلب - قال عبد الرزاق : وهو أسير في وثاقه - ثم اتفقا : إنه لا يصلح لك ، قال : ولم ؟ قال : لأن الله عز وجل إنما وعدك إحدى الطائفتين ، وقد أعطاك ما وعدك (2)
إسناد جيد ، ولم يخرجه (3)
ومعنى قوله تعالى { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ } أي : يحبون أن الطائفة التي لا حَدَّ لها ولا منعة ولا قتال ، تكون لهم وهي العير { وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } أي : هو يريد أن يجمع بينكم وبين الطائفة التي لها الشوكة والقتال ، ليُظَفِّرَكم بهم ويظهركم عليهم ، ويظهر دينه ، ويرفع كلمة الإسلام ، ويجعله غالبا على الأديان ، وهو أعلم بعواقب الأمور ، وهو الذي دبركم
__________
(1) زيادة من أ.
(2) المسند (1/229) من رواية يحيى بن أبي بكير و (1/314) من رواية عبد الرزاق.
(3) في ك ، م ، أ : "يخرجوه".

(4/16)


بحسن تدبيره ، وإن كان العباد يحبون خلاف ذلك فيما يظهر لهم ، كما قال تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ [ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ] [البقرة : 216] } (1)
وقال محمد بن إسحاق ، رحمه الله : حدثني محمد بن مسلم الزهري ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، وعبد الله بن أبي بكر ، ويزيد بن رومان ، عن عُرْوَة بن الزبير وغيرهم من علمائنا ، عن عبد الله بن عباس - كل قد حدثني بعض هذا الحديث ، فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر - قالوا : لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلا من الشام نَدب المسلمين إليهم ، وقال : "هذه عيرُ قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله أن يُنْفلكُموها" فانتدب الناسُ ، فخف بعضهم وثقل بعضهم ، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا ، وكان أبو سفيان قد استنفر حين دنا من الحجاز يتجسس الأخبار ، ويسأل من لقى من الركبان ، تخوفا على أمر الناس ، حتى أصاب خبرًا من بعض الركبان : أن محمدًا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك ، فَحَذِرَ عند ذلك ، فاستأجر ضَمْضَم بن عمرو الغفاري ، فبعثه إلى أهل مكة ، وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم ، ويخبرهم أن محمدًا قد عرض لها في أصحابه ، فخرج ضمضم بن عمرو سريعًا إلى مكة ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى بلغ واديا يقال له "ذَفرَان" ، فخرج منه حتى إذا كان ببعضه نزل ، وأتاه الخبر عن قُريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم الناس ، وأخبرهم عن قريش ، فقام أبو بكر ، رضي الله عنه ، فقال فأحسن ، ثم قام عمر ، رضي الله عنه ، فقال فأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله ، امض لما أمرك الله به ، فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [المائدة : 24]ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما (2) مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق ، لو سرت بنا إلى "بَرْك الغِماد" - يعني مدينة الحبشة - لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ، ودعا له بخير ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أشيروا علي أيها الناس" - وإنما يريد الأنصار - وذلك أنهم كانوا عَدد الناس ، وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا : يا رسول الله ، إنا برآء من ذِمَامك حتى تصل إلى دارنا ، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمَمنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة ، من عدوه ، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم ، فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، قال له سعد بن معاذ : والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال : "أجل" قال : فقال : فقد آمنا بك ، وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت. فوالذي بعثك بالحق ، إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما يتخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا ، إنا لصُبُر عند الحرب ، صُدُق عند اللقاء ، ولعل الله [أن] (3) يريك منا ما تَقَرّ به عينك ، فسِرْ بنا على بركة الله. فسُرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ، ونَشَّطه
__________
(1) زيادة من م ، أ.
(2) في د ، ك ، م : "معكم".
(3) زيادة من م.

(4/17)


ذلك ، ثم قال : " سيروا على بركة الله وأبشروا ، فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم" (1)
وروى العَوْفي عن ابن عباس نحو هذا ، وكذلك قال السدي ، وقتادة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، وغير واحد من علماء السلف والخلف ، اختصرنا أقوالهم اكتفاء بسياق محمد بن إسحاق.
__________
(1) رواه الطبري في تفسيره (13/399).

(4/18)


إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)

{ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) }
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو نوح قُرَاد ، حدثنا عكرمة بن عَمَّار ، حدثنا سماك الحَنَفي أبو زُميل ، حدثني ابن عباس (1) حدثني عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، قال : لما كان يوم بدر نظر النبي (2) صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه ، وهم ثلاثمائة ونَيّف ، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة ، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة ، ثم مد يديه ، وعليه رداؤه وإزاره ، ثم قال : " اللهم أين ما وعدتني ، اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبدا" ، قال : فما زال يستغيث ربه [عز وجل] (3) ويدعوه حتى سقط رداؤه ، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرداه ، ثم التزمه من ورائه ، ثم قال : يا رسول الله ، كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله ، عز وجل : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ } فلما كان يومئذ والتقوا ، فهزم الله المشركين ، فقُتِل منهم سبعون رجلا وأسر منهم سبعون رجلا واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعليًّا وعمر (4) فقال أبو بكر : يا رسول الله ، هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان ، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية ، فيكون ما أخذناه منهم قُوَّةً لنا على الكفار ، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عَضُدا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما ترى يا ابن الخطاب ؟ " قال : قلت : والله ما أرى ما رأى أبو بكر ، ولكني أرى أن تُمْكنَني من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه ، وتُمكن عليًّا من عقيل فيضربَ عنقه ، وتُمكن حمزة من فلان - أخيه - فيضرب عنقه ، حتى يعلم الله أن ليس (5) في قلوبنا هوادة للمشركين ، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم ، فَهَوَى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ، ولم يهو ما قلت ، وأخذ منهم الفداء ، فلما كان من الغد - قال عمر - غدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وهما يبكيان ، فقلت : يا رسول الله ، [أخبرني] (6) ما (7) يبكيك أنت وصاحبك ، فإن وجدتُ بكاء بَكَيتُ ، وإن لم أجد بكاء تَبَاكيتُ لبكائكما! قال النبي صلى الله عليه وسلم : " للذي عَرض على أصحابك من أخذهم الفداء ، قد عرض عليَّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة - لشجرة قريبة" ، وأنزل الله [عز وجل] (8) { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ }
__________
(1) في ك : "ابن عياش".
(2) في أ : "رسول الله".
(3) زيادة من أ.
(4) في م : "أبا بكر وعمر وعليا".
(5) في ك : "ليست" وفي أ : "أنه ليست".
(6) زيادة من أ.
(7) في أ : "ماذا".
(8) زيادة من د ، ك ، م ، أ.

(4/18)


إلى قوله : { لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ } [الأنفال : 67 ، 68] من الفداء ، ثم أحل لهم الغنائم ، فلما كان يوم أحد من العام المقبل ، عوقبوا مما صنعوا يوم بدر ، من أخذهم الفداء فقتل منهم سبعون ، وفَرَّ أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكسرت ربَاعيته ، وهشمت البيضة على رأسه ، وسال الدم على وجهه ، فأنزل الله [عز وجل] (1) { أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [آل عمران : 165 ]بأخذكم الفداء..
ورواه مسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن مَرْدُويه ، من طرق عن عكرمة بن عمار ، به. وصححه علي بن المديني والترمذي ، وقالا لا يعرف إلا من حديث عكرمة بن عمار اليماني (2)
وهكذا رَوَى علي بن أبي طلحة والعَوْفي ، عن ابن عباس : أن هذه الآية الكريمة قوله : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ [فَاسْتَجَابَ لَكُمْ] } (3) أنها في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وكذا قال يزيد (4) بن يُثيَع ، والسُّدِّي ، وابن جريج.
وقال أبو بكر بن عياش ، عن أبي حُصَين ، عن أبي صالح قال : لما كان يوم بدر ، جعل النبي صلى الله عليه وسلم يناشد ربه أشد النِّشدة يدعو ، فأتاه عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، فقال : يا رسول الله ، بعض (5) نِشْدَتِك ، فوالله ليفيَن الله لك بما وعدك (6)
وقال البخاري في "كتاب المغازي" ، باب قول الله عز وجل : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ } إلى قوله : { فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } حدثنا أبو نُعَيم ، حدثنا إسرائيل ، عن مُخَارق ، عن طارق بن شهاب قال : سمعت ابن مسعود يقول : شهدت من المقداد بن الأسود مَشْهدًا لأن أكون صاحبه أحبَّ إلي مما عدل به : أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين ، فقال : لا نقول (7) كما قال قوم موسى لموسى : { اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا } [المائدة : 24]ولكن نقاتل عن يمينك وعن شمالك ، وبين يديك وخلفك ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسره - يعني قوله (8)
وحدثنا محمد بن عبد الله بن حَوْشَب ، حدثنا عبد الوهاب ، حدثنا خالد الحَذَّاء ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر : "اللهم أنشدك عَهدك ووعدك ، اللهم إن شئت لم تُعْبَد" ، فأخذ أبو بكر بيده ، فقال : حسبك! فخرج وهو يقول : { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } [القمر : 45].
ورواه النسائي عن بُندار عن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي (9)
__________
(1) زيادة من أ.
(2) المسند (1/30) وصحيح مسلم برقم (1763) وسنن أبي داود برقم (2690) وسنن الترمذي برقم (3081) وتفسير الطبري (13/409).
(3) زيادة من أ.
(4) في د ، م : "زيد".
(5) في أ : "يا رسول الله ، تدعو بعض".
(6) رواه الطبري في تفسيره (13/411).
(7) في أ : "لا نقول لك".
(8) صحيح البخاري برقم (3952).
(9) صحيح البخاري برقم (3953) وسنن النسائي الكبرى برقم (11557).

(4/19)


وقوله تعالى : { بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ } أي : يُرْدفُ بعضُهم بعضًا ، كما قال هارون بن عنترة (1) عن ابن عباس : { مُرْدِفِينَ } متتابعين.
ويحتمل أن [يكون] (2) المراد { مُرْدِفِينَ } لكم ، أي : نجدة لكم ، كما قال العوفي ، عن ابن عباس : { مُرْدِفيِنَ } يقول : المدَدَ ، كما تقول : ائت الرجل فزده كذا وكذا.
وهكذا قال مجاهد ، وابن كثير القارئ ، وابن زيد : { مُرْدِفِينَ } ممدين.
وقال أبو كُدَيْنة ، عن قابوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ } قال : وراء كل ملك ملك.
وفي رواية بهذا الإسناد : { مُرْدِفِينَ } قال : بعضهم على أثر بعض. وكذا قال أبو ظِبْيَان ، والضحاك ، وقتادة.
وقال ابن جرير : حدثني المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري ، حدثني عبد العزيز بن عمران ، عن الزَّمْعِي ، عن أبي الحويرث ، عن محمد بن جُبَيْر ، عن علي رضي الله عنه ، قال : نزل جبريل في ألف من الملائكة عن ميمنة النبي صلى الله عليه وسلم وفيها أبو بكر ، ونزل ميكائيل في ألف من الملائكة عن ميسرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنا في الميسرة.
وهذا يقتضي - لو صح إسناده - أن الألف مردفة بمثلها ؛ ولهذا قرأ بعضهم : "مُرْدَفِين" بفتح الدال ، فالله أعلم.
والمشهور ما رواه علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : وأمد الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة ، فكان جبريل في خمسمائة من الملائكة مُجَنِّبة ، وميكائيل في خمسمائة مُجَنِّبة.
وروى الإمام أبو جعفر بن جرير ، ومسلم ، من حديث عكرمة بن عمار ، عن أبي زُمَيل سِمَاك بن وليد الحَنَفي ، عن ابن عباس ، عن عمر ، الحديث المتقدم. ثم قال أبو زُمَيل (3) حدثني (4) ابن عباس قال : بينا رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه ، إذ سمع ضربة بالسوط فوقه ، وصوتَ الفارس يقول : "أقدم حَيْزُوم (5) إذ نظر إلى المشرك أمامه ، فخر مستلقيا قال : فنظر إليه ، فإذا هو قد خُطِم أنفه ، وشُقَّ وجهه كضربة السوط ، فاخضر ذلك أجمع ، فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : "صدقتَ ، ذلك (6) من مَدَد السماء الثالثة" ، فقَتَلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين.
وقال البخاري : "باب شهود الملائكة بدرا " : حدثنا إسحاق بن إبراهيم ، حدثنا جرير ، عن يحيى بن سعيد ، عن معاذ بن رِفاعة بن رافع الزُّرَقي ، عن أبيه - وكان أبوه من أهل بدر - قال : جاء جبريل
__________
(1) في أ : "هبيرة".
(2) زيادة من أ.
(3) في م : "أبو زميل سماك بن الوليد الحنفي".
(4) في م : "عن".
(5) في م : "حزوم".
(6) في د ، ك ، م : "ذاك".

(4/20)


إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما تعدون أهل بدر فيكم ؟ قال : " من أفضل المسلمين" - أو كلمة نحوها - قال : "وكذلك من شهد بدرا من الملائكة.
انفرد بإخراجه البخاري (1) وقد رواه الطبراني في المعجم الكبير من حديث رافع بن خَدِيج ، وهو خطأ (2) والصواب رواية البخاري ، والله [تعالى] (3) أعلم.
وفي الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر لما شاوره في قتل حاطب بن أبي بَلْتَعَة : "إنه قد شهد بدرا ، وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد (4) غفرت لكم " (5)
قوله تعالى : { وَمَا جَعَلَهُ اللهُ إِلا بُشْرَى [وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللهِ] } (6) الآية أي : وما جعل الله بعث الملائكة وإعلامه إياكم بهم إلا بُشرى ، { وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ } ؛ وإلا فهو تعالى قادر على نصركم على أعدائكم بدون ذلك ، ولهذا قال : { وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } كما قال تعالى : { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } [محمد : 4 - 6] وقال تعالى : { وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } [آل عمران : 140 ، 141]فهذه حكم شَرَع الله جهاد الكفار بأيدي المؤمنين لأجلها ، وقد كان تعالى إنما يعاقب الأمم السالفة المكذبة للأنبياء بالقوارع التي تعم تلك الأمة المكذبة ، كما أهلك قوم نوح بالطوفان ، وعادًا الأولى بالدَّبُور ، وثمود بالصيحة ، وقوم لوط بالخسف والقلب وحجارة السجيل (7) وقوم شعيب بيوم الظلة ، فلما بعث الله تعالى موسى [عليه السلام] (8) وأهلك عدوه فرعون وقومه بالغرق في اليمّ ، ثم أنزل (9) على موسى التوراة ، شرع فيها قتال الكفار ، واستمر الحكم في بقية الشرائع بعده على ذلك ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَائِرَ [لِلنَّاسِ] } [القصص : 43] (10) وقتل المؤمنين الكافرين أشد إهانة للكافرين ، وأشفى لصدور المؤمنين ، كما قال تعالى للمؤمنين من هذه الأمة : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرُكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ] } [التوبة : 14 ، 15] ؛ (11) ولهذا كان قَتلُ صناديد قريش بأيدي أعدائهم الذين ينظرون إليهم بأعين ازدرائهم ، أنكى لهم وأشفى لصدور حزب الإيمان. فَقَتْلُ أبي جهل في معركة القتال وحومة الوغى ، أشد إهانة له من أن
__________
(1) صحيح البخاري برقم (3992).
(2) المعجم الكبير (4/277).
(3) زيادة من م.
(4) في د : "قد".
(5) صحيح البخاري برقم (3983) وصحيح مسلم برقم (2494).
(6) زيادة من د ، ك ، م.
(7) في ك ، أ : "السجين".
(8) زيادة من أ.
(9) في ك : "أنزل الله".
(10) زيادة من م.
(11) زيادة من أ.

(4/21)


إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)

يموت على فراشه بقارعة أو صاعقة أو نحو ذلك ، كما مات أبو لهب - لعنه الله - بالعَدَسة (1) بحيث لم يقربه أحد من أقاربه ، وإنما غسلوه بالماء قذفًا من بعيد ، ورجموه حتى دفنوه ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ } أي : له العزة ولرسوله وللمؤمنين بهما في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : { إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ [يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ] } [غافر : 51 ، 52] (2) { حَكِيم } فيما شرعه من قتال الكفار ، مع القدرة على دمارهم وإهلاكهم ، بحوله وقوته ، سبحانه وتعالى.
{ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنزلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) }
يذكرهم الله (3) بما أنعم به عليهم من إلقائه النعاس عليهم ، أمانا من خوفهم الذي حصل لهم من كثرة عَدُوِّهم وقلة عَدَدهم ، وكذلك فعل تعالى بهم يوم أُحُد ، كما قال تعالى : { ثُمَّ أَنزلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } [آل عمران : 154].
قال أبو طلحة (4) كنت ممن أصابه النعاس يوم أحد ، ولقد سقط السيف من يدي مرارا يسقط وآخذه ، ويسقط وآخذه ، ولقد نظرت إليهم يميدون وهم تحت الحَجَف.
وقال الحافظ أبو يعلى : حدثنا زُهَيْر ، حدثنا ابن مَهْدِي ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن حارثة بن مُضَرِّب ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد ، ولقد رأيتُنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يصلي تحت شجرة ويبكي حتى أصبح (5)
وقال سفيان الثوري ، عن عاصم عن أبي رَزِين ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، أنه قال : النعاس في القتال أمنة من الله ، وفي الصلاة من الشيطان.
وقال قتادة : النعاس في الرأس ، والنوم في القلب.
قلت : أما النعاس فقد أصابهم يوم أحد ، وأمر ذلك مشهور جدا ، وأما يوم بدر في هذه الآية الشريفة (6) إنما هي في سياق قصة بدر ، وهي دالة على وقوع ذلك أيضا وكأن ذلك كان سجية
__________
(1) قال ابن الأثير في النهاية (3/190) في حديث أبي رافع : "أن أبا لهب رماه الله بالعدسة" وهي بثرة تشبه العدسة تخرج في مواضع من الجسد ، من جنس الطاعون ، تقتل صاحبها غالبا".
(2) زيادة من أ.
(3) في ك ، م : "تعالى".
(4) في أ : "قال على بن أبي طلحة".
(5) مسند أبي يعلى (1/242) ورواه أحمد في مسنده (1/125) من طريق عبد الرحمن بن مهدي بهذا الإسناد.
(6) في ك ، م : "الكريمة".

(4/22)


للمؤمنين عند شدة البأس لتكون قلوبهم آمنة مطمئنة بنصر الله. وهذا من فضل الله ورحمته بهم ونعمه عليهم ، وكما قال تعالى : { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } [الشرح : 5 ، 6] ؛ ولهذا [جاء] (1) في الصحيح (2) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يوم بدر في العريش مع الصديق ، رضي الله عنه ، وهما يدعوان ، أخذت رسول الله سنة من النوم ، ثم استيقظ متبسما فقال : "أبشر يا أبا بكر ، هذا جبريل على ثناياه النقع" ثم خرج من باب العريش ، وهو يتلو قوله تعالى : { سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ } [القمر : 45].
وقوله : { وَيُنزلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قال : نزل النبي صلى الله عليه وسلم - يعني : حين سار إلى بدر - والمسلمون (3) بينهم وبين الماء رملة دعصة (4) وأصاب المسلمين ضعف شديد ، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ ، يوسوس بينهم : تزعمون أنكم أولياء الله تعالى وفيكم رسوله ، وقد غلبكم المشركون على الماء ، وأنتم تصلون مجنبين! فأمطر الله عليهم مطرا شديدا ، فشرب المسلمون وتطهروا ، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان ، وانشف (5) الرمل حين أصابه المطر ومشى الناس عليه والدواب ، فساروا إلى القوم وأمد الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة ، فكان جبريل في خمسمائة مُجَنِّبَة ، وميكائيل في خمسمائة مُجَنِّبة.
وكذا قال العوفي عن ابن عباس : إن المشركين من قريش لما خرجوا لينصروا العير وليقاتلوا (6) عنها ، نزلوا على الماء يوم بدر ، فغلبوا المؤمنين عليه. فأصاب المؤمنين الظمأ ، فجعلوا يصلون مجنبين محدثين ، حتى تعاظموا ذلك في صدورهم ، فأنزل الله من السماء ماء حتى سال الوادي ، فشرب المؤمنون ، وملئوا الأسقية ، وسقوا الركاب (7) واغتسلوا من الجنابة ، فجعل الله في ذلك طهورا ، وثبت الأقدام. وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رملة ، فبعث الله المطر عليها ، فضربها حتى اشتدت ، وثبتت عليها الأقدام.
ونحو ذلك رُوِي عن قتادة ، والضحاك ، والسدي.
وقد روى عن سعيد بن المسيب ، والشعبي ، والزهري ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم : أنه طش (8) أصابهم يوم بدر.
والمعروف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سار إلى بدر ، نزل على أدنى ماء هناك أي : أول ماء وجده ، فتقدم إليه الحباب بن المنذر فقال : يا رسول الله ، هذا المنزل الذي نزلته منزل أنزلكه الله فليس لنا أن نجاوزه ، أو منزل نزلته للحرب والمكيدة ؟ فقال : " بل منزل نزلته للحرب والمكيدة". فقال : يا رسول الله إن هذا ليس بمنزل ، ولكن سر بنا حتى ننزل على أدنى ماء يلي القوم ونغور ما وراءه من القلب ،
__________
(1) زيادة من م.
(2) في أ : "الصحيحين".
(3) في ك ، م ، أ : "المشركون".
(4) في أ : "وعصمة".
(5) في ك : "وانكشف".
(6) في ك ، م : "ويقاتلوا".
(7) في م : "الركائبط.
(8) في ك ، م : "طس".

(4/23)


ونستقي الحياض فيكون لنا ماء وليس لهم ماء. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل كذلك (1)
وفي مغازي " الأموي" أن الحباب لما قال ذلك نزل ملك من السماء وجبريل جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ذلك الملك : يا محمد ، إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك : إن الرأي ما أشار به "الحباب بن المنذر" (2) فالتفت رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (3) إلى جبريل ، عليه (4) السلام ، فقال : هل تعرف هذا ؟ فنظر إليه فقال : ما كل الملائكة أعرفهم ، وإنه ملك وليس بشيطان.
وأحسن ما في هذا ما رواه الإمام محمد بن إسحاق بن يسار صاحب "المغازي" ، رحمه الله : حدثني يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير قال : بعث الله السماء - وكان الوادي دهسا - فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما لبد لهم الأرض ولم يمنعهم من المسير ، وأصاب قريشا ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه (5)
وقال مجاهد : أنزل الله عليهم المطر قبل النعاس ، فأطفأ بالمطر الغبار ، وتلبدت به الأرض ، وطابت نفوسهم (6) وثبتت به أقدامهم.
وقال ابن جرير : حدثنا هارون بن إسحاق ، حدثنا مصعب بن المقدام ، حدثنا إسرائيل ، حدثنا أبو إسحاق ، عن جارية ، عن علي ، رضي الله عنه ، قال : أصابنا من الليل طش (7) من المطر - يعني الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة بدر - فانطلقنا تحت الشجر والحَجَف نستظل تحتها من المطر. وبات رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو ربه : "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض"! فلما أن طلع الفجر ، نادى : "الصلاة ، عباد الله" ، فجاء الناس من تحت الشجر والحجف ، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحرض على القتال.
وقوله : { لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } أي : من حدث أصغر أو أكبر ، وهو تطهير (8) الظاهر { وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ } أي : من وسوسة أو (9) خاطر سيئ ، وهو تطهير الباطن ، كما قال تعالى في حق أهل الجنة : { عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ } فهذا زينة الظاهر { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا } [الإنسان : 21]أي : مطهرا لما كان من غل أو حسد أو تباغض ، وهو زينة الباطن وطهارته.
{ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ } أي : بالصبر والإقدام على مجالدة الأعداء ، وهو شجاعة الباطن ، { وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقْدَامَ } وهو شجاعة الظاهر ، والله أعلم.
__________
(1) في م : "ذلك".
(2) ورواه الواقدي في المغازي (1/54) إلى هذا الموضع. فقال : "حدثني ابن أبي حبيبة ، عن رواد بن الحصين ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : نزل جبريل.. فذكره".
(3) زيادة من ك ، م ، أ.
(4) في ك : "عليهما".
(5) السيرة النبوية لابن هشام (1/620).
(6) في ك ، م : "طابت به أنفسهم".
(7) في ك ، م : "طس".
(8) في م : "طهارة".
(9) في م : "و".

(4/24)


وقوله : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا } وهذه نعمة خفية أظهرها الله تعالى لهم ، ليشكروه عليها ، وهو (1) أنه - تعالى وتقدس وتبارك وتمجد - أوحى إلى الملائكة الذين أنزلهم لنصر نبيه ودينه وحزبه المؤمنين ، يوحي إليهم فيما بينه وبينهم أن يثبتوا الذين آمنوا.
قال ابن إسحاق : وازروهم. وقال غيره : قاتلوا معهم. وقيل : كثروا سوادهم. وقيل : كان ذلك بأن الملك كان يأتي الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول : سمعت هؤلاء القوم - يعني المشركين - يقولون : "والله لئن حملوا علينا لننكشفن" ، فيحدث المسلمون بعضهم بعضا بذلك ، فتقوى أنفسهم (2) حكاه ابن جرير ، وهذا لفظه بحروفه.
وقوله : { سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ } أي : ثبتوا أنتم المسلمين (3) وقووا أنفسهم على أعدائهم ، عن أمري لكم بذلك ، سألقي الرعب والمذلة والصغار على من خالف أمري ، وكذب رسولي (4) { فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } أي : اضربوا الهام ففلقوها ، واحتزوا الرقاب فقطعوها ، وقطعوا الأطراف منهم ، وهي أيديهم وأرجلهم.
وقد اختلف المفسرون في معنى : { فَوْقَ الأعْنَاقِ } فقيل : معناه اضربوا الرؤوس. قاله عكرمة.
وقيل : معناه : { فَوْقَ الأعْنَاقِ } أي : على الأعناق ، وهي الرقاب. قاله الضحاك ، وعطية العوفي.
ويشهد لهذا المعنى أن الله تعالى أرشد المؤمنين إلى هذا في قوله تعالى : { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ } [محمد : 4].
وقال وكيع ، عن المسعودي ، عن القاسم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إني لم أبعث لأعذب بعذاب الله ، إنما بعثت بضرب الرقاب وشد الوثاق" (5)
واختار ابن جرير أنها قد تدل على ضرب الرقاب وفلق الهام.
قلت : وفي مغازي "الأموي" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يمر بين القتلى يوم بدر فيقول :
"نُفَلِّق هاما... ".
فيقول أبو بكر : من رجال أعزة عليناوهم كانوا أعق وأظلما (6)
__________
(1) في ك : "وهي".
(2) في م : "أنفسهم بذلك".
(3) في ك ، م ، أ : "المؤمنين".
(4) في أ : "رسلي".
(5) رواه الطبري في تفسيره (13/429) وابن أبي شيبة في المصنف (12/390) من طريق وكيع بهذا الإسناد.
(6) البيت للحصين بن الهمام المري ، وهو في "الشعر" والشعراء" لابن قتيبة (2/648).

(4/25)


فيبتدئ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأول البيت ، ويستطعم أبا بكر ، رضي الله عنه ، إنشاد آخره ؛ لأنه كان لا يحسن إنشاد الشعر ، كما قال تعالى : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } [يس : 69].
وقال الربيع بن أنس : كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة ممن قتلوا هم بضرب فوق الأعناق ، وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق به.
وقوله : { وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } قال ابن جرير : معناه : واضربوه أيها المؤمنون من عدوكم كل طرف ومَفْصِل من أطراف أيديهم وأرجلهم. و "البنان" : جمع بنانة ، كما قال الشاعر (1) أَلا لَيْتَنِي قَطَّعْتُ مِنْهُ بَنَانَةًوَلاقَيْتُهُ فِي الْبَيْتِ يَقْظَانَ حَاذِرَا
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } يعني بالبنان : الأطراف. وكذا قال الضحاك وابن جريج.
وقال السدي : البنان : الأطراف ، ويقال : كل مَفْصِل.
وقال عكرمة ، وعطية العوفي والضحاك - في رواية أخرى - : كل مفصل.
وقال الأوزاعي في قوله تعالى : { وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } قال : اضرب منه الوجه والعين ، وارمه بشهاب من نار ، فإذا أخذته حرم ذلك كله عليك.
وقال العوفي ، عن ابن عباس - فذكر قصة بدر إلى أن قال - : فقال أبو جهل : لا تقتلوهم قتلا ولكن خذوهم أخذا ، حتى تعرفوهم الذي صنعوا من طعنهم في دينكم ، ورغبتهم عن اللات والعزى. فأوحى الله إلى الملائكة : { أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } فقتل أبو جهل لعنه الله ، في تسعة وستين رجلا وأسر عقبة بن أبي مُعَيْط فقتل صبرا ، فوفى ذلك سبعين - يعني : قتيلا.
ولذلك قال [الله] (2) تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي : خالفوهما فساروا في شق ، وتركوا الشرع والإيمان به واتباعه في شق - وهو مأخوذ أيضا من شق العصا ، وهو جعلها فرقتين - { وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } أي : هو الطالب الغالب لمن خالفه وناوأه ، لا يفوته شيء ، ولا يقوم لغضبه شيء ، تبارك وتعالى ، لا إله غيره ، ولا رب سواه.
{ ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ } هذا خطاب للكفار أي : ذوقوا هذا العذاب والنكال في الدنيا ، واعلموا أيضًا أن للكافرين عذاب النار في الآخرة.
__________
(1) هو العباس بم مرداس السلمى ، والبيت في تفسير الطبري (13/431) ولسان العرب مادة (بنن).
(2) زيادة من ك ، م ، أ.

(4/26)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) }
يقول تعالى متوعدًا على الفرار من الزحف بالنار لمن فعل ذلك : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا } أي : تقاربتم منهم ودنوتم إليهم ، { فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ } أي : تفروا وتتركوا أصحابكم ،
{ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ } أي : يفر بين يدي قرنه مكيدة ؛ ليريه أنه [قد] (1) خاف منه فيتبعه ، ثم يكر عليه فيقتله ، فلا بأس عليه في ذلك. نص عليه سعيد بن جبير ، والسدي.
وقال الضحاك : أن يتقدم عن أصحابه ليرى غرة من العدو فيصيبها.
{ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ } أي : فر من هاهنا إلى فئة أخرى من المسلمين ، يعاونهم ويعاونوه (2) فيجوز له ذلك ، حتى [و] (3) لو كان في سرية ففر إلى أميره أو إلى الإمام الأعظم ، دخل في هذه الرخصة.
قال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا زُهَيْر ، حدثنا يزيد بن أبي زياد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن عبد الله بن عمر ، رضي الله عنهما ، قال : كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحاص الناس حيصة - وكنت فيمن حاص - فقلنا : كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب ؟ ثم قلنا : لو دخلنا المدينة فبتنا ؟ ثم قلنا : لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا ؟ فأتيناه قبل صلاة الغداة ، فخرج فقال : "من القوم ؟" فقلنا : نحن الفرارون. فقال : "لا بل أنتم العَكَّارون ، أنا فئتكم ، وأنا فئة المسلمين" قال : فأتيناه حتى قَبَّلنا يده.
وهكذا رواه أبو داود ، والترمذي ، وابن ماجه ، من طرق عن يزيد بن أبي زياد (4) وقال الترمذي : حسن لا نعرفه إلا من حديثه.
ورواه ابن أبي حاتم ، من حديث يزيد بن أبي زياد به. وزاد في آخره : وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ }
قال أهل العلم : معنى قوله : "العَكَّارون" أي : العطافون. وكذلك قال عمر بن الخطاب. رضي الله عنه ، في أبي عبيد لما قتل على الجسر بأرض فارس ، لكثرة الجيش من ناحية المجوس ، فقال عمر : لو انحاز إليّ كنت له فئة. هكذا رواه محمد بن سيرين ، عن عمر (5)
وفي رواية أبي عثمان النهدي ، عن عمر قال : لما قتل أبو عبيد قال عمر : يا أيها الناس ، أنا فئتكم.
__________
(1) زيادة من أ.
(2) في ك ، م : "يعاونونه".
(3) زيادة من ك ، م.
(4) المسند (2/70) وسنن أبي داود برقم (2647) وسنن الترمذي برقم (1716) وسنن ابن ماجة برقم (3704).
(5) رواه الطبري في تفسيره (13/439).

(4/27)


وقال مجاهد : قال عمر : أنا فئة كل مسلم.
وقال عبد الملك بن عُمَيْر ، عن عمر : أيها الناس ، لا تغرنكم هذه الآية ، فإنما كانت يوم بدر ، وأنا (1) فئة لكل مسلم.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا حسان بن عبد الله المصري ، حدثنا خلاد بن سليمان الحضرمي ، حدثنا نافع : أنه سأل ابن عمر قلت : إنا قوم لا نثبت عند قتال عدونا ، ولا ندري من الفئة : إمامنا أو عسكرنا ؟ فقال : إن الفئة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت إن الله يقول : { إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ } (2) فقال : إنما نزلت هذه الآية في يوم بدر ، لا قبلها ولا بعدها.
وقال الضحاك في قوله : { أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ } المتحيز : الفار إلى النبي وأصحابه ، وكذلك من فر اليوم إلى أميره أو أصحابه.
فأما إن كان الفرار لا عن سبب من هذه الأسباب ، فإنه حرام وكبيرة من الكبائر ، لما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اجتنبوا السبع الموبقات". قيل : يا رسول الله ، وما هن ؟ قال : "الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتَّوَلِّي يوم الزحف ، وقَذْفِ المحصنات الغافلات المؤمنات" (3)
ولهذا الحديث شواهد من وجوه أخر ؛ ولهذا قال تعالى : { فَقَدْ بَاءَ } أي : رجع { بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ } أي : مصيره ومنقلبه يوم ميعاده : { جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
وقال الإمام أحمد : حدثنا زكريا بن عَدِيّ ، حدثنا عبيد الله بن عمرو الرَّقِّي ، عن زيد بن أبي أُنَيْسَة ، حدثنا جبلة بن سُحَيْم ، عن أبي المثنى العبدي ، سمعت السدوسي - يعني ابن الخصاصية ، وهو بشير بن معبد - قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبايعه ، فاشترط علي : "شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن أقيم الصلاة ، وأن أؤدي الزكاة ، وأن أحج حَجَّة الإسلام ، وأن أصوم شهر رمضان ، وأن أجاهد في سبيل الله". فقلت : يا رسول الله ، أما اثنتان فوالله لا أطيقهما : الجهاد ، فإنهم زعموا أنه من ولى الدُّبُر فقد باء بغضب من الله ، فأخاف إن حضرت ذلك خشعت نفسي وكرهت الموت. والصدقة ، فوالله ما لي إلا غُنَيْمَةٌ وعشر ذَوْدٍ هُنَّ رَسَل أهلي وحَمُولتهم. فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ، ثم حرك يده ، ثم قال : "فلا جهاد ولا صدقة ، فيم تدخل الجنة إذا ؟ " فقلت : يا رسول الله ، أنا أبايعك. فبايعته عليهنَّ كلهنَّ.
هذا حديث (4) غريب (5) من هذا الوجه (6) ولم يخرجوه في الكتب الستة.
__________
(1) في م : "وإنه".
(2) زيادة من ك ، د ، م ، أ ، وفي هـ : : الآية".
(3) صحيح البخاري برقم (2766) وصحيح مسلم برقم (89).
(4) في م : "الحديث".
(5) في أ : "عزيز".
(6) المسند (5/224).

(4/28)


وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة ، حدثنا إسحاق بن إبراهيم أبو النضر ، حدثنا يزيد بن ربيعة ، حدثنا أبو الأشعث ، عن ثوبان ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ثلاثة لا ينفع معهن عمل : الشرك بالله ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف". (1)
وهذا أيضا حديث غريب جدا.
وقال الطبراني أيضا : حدثنا العباس بن الفضل الأسْفَاطِيّ ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حفص بن عمر الشَّنِّي ، حدثني عمرو بن مرة قال : سمعت بلال بن يسار بن زيد - مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال : سمعت أبي حدث عن جدي قال : قال رسول الله : "من قال أستغفر الله الذي لا إله إلا هو وأتوب إليه ، غفر له وإن كان قد فر من الزحف".
وهكذا رواه أبو داود عن موسى بن إسماعيل ، به. وأخرجه الترمذي ، عن البخاري ، عن موسى بن إسماعيل به. وقال : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه (2)
قلت : ولا يعرف لزيد مولى النبي صلى الله عليه وسلم ، عنه سواه.
وقد ذهب ذاهبون إلى أن الفرار إنما كان حراما على الصحابة ؛ لأنه - يعني الجهاد - كان فرض عين عليهم. وقيل : على الأنصار خاصة ؛ لأنهم بايعوا على السمع والطاعة في المنشط والمكره. وقيل : [إنما] (3) المراد بهذه الآية أهل بدر خاصة ، يروى هذا عن عمر ، وابن عمر ، وابن عباس ، وأبي هريرة ، وأبي سعيد ، وأبي نضرة ، ونافع مولى ابن عمر ، وسعيد بن جبير ، والحسن البصري ، وعكرمة ، وقتادة ، والضحاك ، وغيرهم.
وحجتهم في هذا : أنه لم تكن عصابة لها شوكة يفيئون إليها سوى عصابتهم تلك ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض" ؛ ولهذا قال عبد الله بن المبارك ، عن مبارك بن فضالة ، عن الحسن في قوله : { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } قال : ذلك يوم بدر ، فأما اليوم : فإن انحاز إلى فئة أو مصر - أحسبه قال : فلا بأس عليه.
وقال ابن المبارك أيضا ، عن ابن لَهِيعَة : حدثني يزيد بن أبي حبيب قال : أوجب الله تعالى لمن فر يوم بدر النار ، قال : { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } فلما كان يوم أحد بعد ذلك قال : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا] } (4) { وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ } [آل عمران : 155] ، ثم كان يوم حُنَيْن بعد ذلك بسبع سنين ، قال : { ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ } [التوبة : 25 ] { ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ } [التوبة : 27].
__________
(1) المعجم الكبير (2/95) قال الهيثمي في المجمع (1/104) : "فيه يزيد بم ربيعة ضعيف".
(2) المعجم الكبير (5/89) وسنن أبي داود برقم (1517) وسنن الترمذي برقم (3577).
(3) زيادة من ك ، م ، أ.
(4) زيادة من ك ، م ، أ ، وفي هـ "إلى قوله".

(4/29)


وفي سنن أبي داود ، والنسائي ، ومستدرك الحاكم ، وتفسير ابن جرير ، وابن مَرْدُوَيه ، من حديث داود بن أبي هند ، عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد أنه قال في هذه الآية : { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } إنما (1) أنزلت في أهل بدر (2) وهذا كله لا ينفي أن يكون الفرار من الزحف حراما على غير أهل بدر ، وإن كان سبب النزول فيهم ، كما دل عليه حديث أبي هريرة المتقدم ، من أن الفرار من الزحف من الموبقات ، كما هو مذهب الجماهير ، والله [تعالى] (3) أعلم.
__________
(1) في م : "أنها".
(2) سنن أبي داود برقم (2648) وسنن النسائي الكبرى برقم (11203) والمستدرك (2/327) وتفسير الطبري (13/437).
(3) زيادة من م.

(4/30)


فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)

{ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) }
يبين تعالى أنه خالق أفعال العباد ، وأنه المحمود على جميع ما صدر عنهم من خير ؛ لأنه هو الذي وفقهم لذلك وأعانهم ؛ ولهذا قال : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ } أي : ليس بحولكم وقوتكم قتلتم أعداءكم مع كثرة عددهم وقلة عددكم ، أي : بل هو الذي أظفركم [بهم ونصركم] (1) عليهم كما قال تعالى : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ] } [آل عمران : 123]. (2) وقال تعالى : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ } [التوبة : 25] يعلم - تبارك وتعالى - أن النصر ليس عن كثرة العدد ، ولا بلبس اللأمة والعدد ، وإنما النصر من عند الله تعالى (3) كما قال : { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ } [البقرة : 249].
ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم أيضا في شأن القبضة من التراب ، التي حصب بها وجوه المشركين (4) يوم بدر ، حين خرج من العريش بعد دعائه وتضرعه واستكانته ، فرماهم بها وقال : " شاهت الوجوه ". ثم أمر الصحابة أن يصدقوا الحملة إثرها ، ففعلوا ، فأوصل الله تلك الحصباء إلى أعين المشركين ، فلم يبق أحد منهم إلا ناله منها ما شغله عن حاله ؛ ولهذا قال [تعالى] (5) { وَمَارَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ } أي : هو الذي بلغ ذلك إليهم ، وكبتهم بها لا أنت.
قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه - يعني يوم بدر - فقال : " يا رب إن تهلك هذه العصابة ، فلن تعبد في الأرض أبدا". فقال له جبريل : "خذ قبضة من التراب ، فارم بها في وجوههم" فأخذ قبضة من التراب ، فرمى بها في وجوههم ، فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة ، فولوا مدبرين.
وقال السُّدِّيّ : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي ، رضي الله عنه ، يوم بدر : "أعطني حصبا من الأرض".
__________
(1) زيادة من ك ، م.
(2) زيادة من ك ، م ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(3) في م : "عنده تعالى".
(4) في أ : "القوم".
(5) زيادة من أ.

(4/30)


فناوله حصبا (1) عليه تراب ، فرمى به في وجوه القوم ، فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه من ذلك التراب شيء ، ثم ردفهم المؤمنون (2) يقتلونهم ويأسرونهم ، وأنزل الله : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى }
وقال أبو معشر المدني ، عن محمد بن قَيْس ومحمد بن كعب القُرَظِي قالا لما دنا القوم بعضهم من بعض ، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب ، فرمى بها في وجوه القوم ، وقال : "شاهت الوجوه". فدخلت في أعينهم كلهم ، وأقبل أصحاب رسول الله [صلى الله عليه وسلم] (3) يقتلونهم ويأسرونهم ، وكانت هزيمتهم في رَمْية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى }
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : في قوله [تعالى] (4) { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى } قال : هذا يوم بدر ، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حصيات فرمى بحصاة [في] (5) ميمنة القوم ، وحصاة في ميسرة القوم ، وحصاة بين أظهرهم ، وقال : "شاهت الوجوه" ، فانهزموا.
وقد روي في هذه القصة (6) عن عروة بن الزبير ، ومجاهد وعكرمة ، وقتادة وغير واحد من الأئمة : أنها نزلت في رمية النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، وإن كان قد فعل ذلك يوم حنين أيضا.
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثنا أحمد بن منصور ، حدثنا يعقوب بن محمد ، حدثنا عبد العزيز بن عمران ، حدثنا موسى بن يعقوب بن عبد الله بن زمعة ، عن يزيد بن عبد الله ، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حَثْمَة ، عن حكيم بن حزام قال : لما كان يوم بدر ، سمعنا صوتا وقع من السماء ، كأنه صوت حصاة وقعت في طست ، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الرمية ، فانهزمنا (7)
غريب من هذا الوجه. وهاهنا قولان آخران غريبان جدا.
أحدهما : قال ابن جرير : حدثنى محمد بن عوف الطائي ، حدثنا أبو المغيرة ، حدثنا صفوان بن عمرو ، حدثنا عبد الرحمن بن جبير ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ابن أبي الحقيق بخيبر ، دعا بقوس ، فأتى بقوس طويلة ، وقال : "جيئوني غيرها". فجاؤوا بقوس كبداء ، فرمى النبي صلى الله عليه وسلم الحصن ، فأقبل السهم يهوي حتى قتل ابن أبي الحقيق ، وهو في فراشه ، فأنزل الله عز وجل : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى } (8)
وهذا غريب ، وإسناده جيد إلى عبد الرحمن بن جبير بن نفير ، ولعله اشتبه عليه ، أو أنه أراد أن الآية تعم هذا كله ، وإلا فسياق الآية في سورة الأنفال في قصة بدر لا محالة ، وهذا مما لا يخفى على أئمة العلم ، والله أعلم.
__________
(1) في م : "حصباء".
(2) في م : "المسلمون".
(3) زيادة من م ، ك ، أ.
(4) زيادة من م.
(5) في ك ، م ، أ : "فرمى في".
(6) انظر : تفسير الطبري (13/443 - 445).
(7) تفسير الطبري (13/443).
(8) سقط هذا الأثر والذي يليه من نص الطبري وأثبته المحقق في الهامش (13/446).

(4/31)


إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)

والثاني : روى ابن جرير أيضا ، والحاكم في مستدركه ، بإسناد صحيح إلى سعيد بن المسيب والزهري أنهما قالا أنزلت (1) في رمية رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد أُبَي بن خلف بالحربة وهو في لأمته ، فخدشه في ترقوته ، فجعل يتدأدأ عن فرسه مرارا ، حتى كانت وفاته [بها] (2) بعد أيام ، قاسى فيها العذاب الأليم ، موصولا بعذاب البرزخ ، المتصل بعذاب الآخرة (3)
وهذا القول عن هذين الإمامين غريب أيضا جدا ، ولعلهما أرادا أن الآية تتناوله بعمومها ، لا أنها نزلت فيه خاصة كما تقدم ، والله أعلم.
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عُرْوَة بن الزبير في قوله : { وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا } أي : ليُعَرّف المؤمنين من نعمته عليهم ، من إظهارهم على عدوهم مع كثرة عدوهم ، وقلة عددهم ، ليعرفوا بذلك حقه ، ويشكروا بذلك نعمته.
وهكذا فسر (4) ذلك ابن جرير أيضا. وفي الحديث : "وكل بلاء حسن أبلانا".
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي : سميع الدعاء ، عليم بمن يستحق النصر والغلب.
وقوله { ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ } هذه بشارة أخرى مع ما حصل من النصر : أنه أعلمهم تعالى بأنه مُضْعِفُ كيد الكافرين فيما يستقبل ، مُصَغِّرًا أمرهم ، وأنهم كل ما لهم في تبار (5) ودمار ، ولله الحمد والمنة.
{ إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) }
يقول تعالى للكفار { إِنْ تَسْتَفْتِحُوا } أي : تستنصروا وتستقضوا الله وتستحكموه أن يفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين ، فقد جاءكم ما سألتم ، كما قال محمد بن إسحاق وغيره ، عن الزهري ، عن عبد الله بن ثعلبة بن صُغَيْر ؛ أن أبا جهل قال يوم بدر : اللهم أَقْطَعُنَا للرحم وآتانا بما لا نعرف (6) فأحنه الغداة - وكان ذلك استفتاحا منه - فنزلت : { إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ } إلى آخر الآية.
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد - يعني ابن هارون - أخبرنا محمد بن إسحاق ، حدثني الزهري ، عن عبد الله بن ثعلبة : أن أبا جهل قال حين التقى القوم : اللهم ، أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لا نعرف ، فأحنه الغداة ، فكان المستفتح.
وأخرجه النسائي في التفسير من حديث ، صالح بن كيسان ، عن الزهري ، به وكذا رواه الحاكم
__________
(1) في م : "نزلت".
(2) زيادة من أ.
(3) المستدرك (2/327).
(4) في د : "فسره".
(5) في م : "شغال".
(6) في ك ، م : "بما لم يعرف".

(4/32)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)

في مستدركه من طريق الزهري ، به (1) وقال : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه. وروي [نحو] (2) هذا عن ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وقتادة ، ويزيد بن رُومَان ، وغير واحد.
وقال السُّدِّي : كان المشركون حين خرجوا من مكة إلى بَدْر ، أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا : اللهم انصر أعلى الجندين ، وأكرم الفئتين ، وخير القبيلتين. فقال الله : { إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ } يقول : قد نصرت ما قلتم ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هو قوله تعالى إخبارا عنهم : { وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ [فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] } [الأنفال : 32]. (3)
وقوله : { وَإِنْ تَنْتَهُوا } أي : عما أنتم فيه من الكفر بالله والتكذيب لرسوله ، { فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } أي : في الدنيا والآخرة. [وقوله] (4) { وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ } كقوله (5) { وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا } [الإسراء : 8]معناه : وإن عدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والضلالة ، نعد لكم بمثل هذه الواقعة.
وقال السدي : { وَإِنْ تَعُودُوا } أي : إلى الاستفتاح { نعد } إلى الفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم ، والنصر له ، وتظفيره على أعدائه ، والأول أقوى.
{ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ } أي : ولو جمعتم من الجموع ما عسى أن تجمعوا ، فإن من كان الله معه فلا غالب له ، فإن الله مع المؤمنين ، وهم الحزب النبوي ، والجناب المصطفوي.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) }
يأمر تعالى عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله ، ويزجرهم عن مخالفته والتشبه بالكافرين به المعاندين له ؛ ولهذا قال : { وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ } أي : تتركوا طاعته وامتثال أوامره وترك زواجره ، { وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ } أي : بعد ما علمتم ما دعاكم إليه.
{ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ } قيل : المراد المشركون. واختاره ابن جرير.
وقال ابن إسحاق : هم المنافقون ؛ فإنهم يظهرون أنهم قد سمعوا واستجابوا ، وليسوا كذلك.
ثم أخبر تعالى أن هذا الضرب من بني آدم شر (6) الخلق والخليقة ، فقال : { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ }
__________
(1) المسند (5/431) وسنن النسائي الكبرى برقم (11201) والمستدرك (2/328).
(2) زيادة من د ، وفي ك ، م ، أ : "في هذا".
(3) زيادة من ك ، م ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(4) زيادة من د.
(5) في ك ، م : "أي كقوله".
(6) في ك ، م ، أ : "سيئ".

(4/33)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)

أي : عن سماع الحق { البكم } عن فهمه ؛ ولهذا قال : { الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ } فهؤلاء شر البرية ؛ لأن كل دابة مما سواهم مطيعة لله [عز وجل] (1) فيما خلقها له ، وهؤلاء خلقوا للعبادة فكفروا ؛ ولهذا شبههم بالأنعام في قوله : { وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً [صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ] } [البقرة : 171]. (2) وقال في الآية الأخرى : { أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } [الأعراف : 179].
وقيل : (3) المراد بهؤلاء المذكورين نَفَرٌ من بني عبد الدار من قريش. روي عن ابن عباس ومجاهد ، واختاره ابن جرير ، وقال محمد بن إسحاق : هم المنافقون.
قلت : ولا منافاة بين المشركين والمنافقين في هذا ؛ لأن كلا منهم مسلوب الفهم الصحيح ، والقصد إلى العمل الصالح.
ثم أخبر تعالى بأنهم لا فهم لهم صحيح ، ولا قصد لهم صحيح ، لو فرض أن لهم فهما ، فقال : { وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ } أي : لأفهمهم ، وتقدير الكلام : ولكن لا خير فيهم فلم يفهمهم ؛ لأنه يعلم أنه { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ } أي : أفهمهم { لَتَوَلَّوْا } عن ذلك قصدا وعنادا بعد فهمهم ذلك ، { وَهُمْ مُعْرِضُونَ } عنه.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) }
قال البخاري : { اسْتَجِيبُوا } أجيبوا ، { لِمَا يُحْيِيكُمْ } لما يصلحكم. حدثنا إسحاق ، حدثنا روح ، حدثنا شعبة ، عن خبيب (4) بن عبد الرحمن قال : سمعت حفص بن عاصم يحدث عن أبي سعيد بن المعلى قال : كنت أصلي ، فمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعاني فلم آته حتى صليت ، ثم أتيته فقال : "ما منعك أن تأتيني ؟" ألم يقل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } ثم قال : "لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج" ، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرج ، فذكرت له - وقال معاذ : حدثنا شعبة ، عن خُبَيْب (5) بن عبد الرحمن ، سمع حفص بن عاصم ، سمع أبا سعيد رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بهذا - وقال : " هي { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } السبع المثاني" (6)
هذا لفظه بحروفه ، وقد تقدم الكلام على هذا الحديث بذكر طرقه في أول تفسير الفاتحة.
وقال مجاهد في قوله : { لِمَا يُحْيِيكُمْ } قال : الحق.
__________
(1) زيادة من م.
(2) زيادة من ك ، م ، أ ، وفي هـ : "الآية".
(3) في د ، م : "ثم قيل".
(4) في أ : "حبيب".
(5) في أ : "حبيب".
(6) صحيح البخاري برقم (4647).

(4/34)


وقال قتادة { لِمَا يُحْيِيكُمْ } قال : هو هذا القرآن ، فيه النجاة والتقاة (1) والحياة.
وقال السُّدِّيّ : { لِمَا يُحْيِيكُمْ } ففي الإسلام إحياؤهم بعد موتهم بالكفر.
وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عُرْوَةَ بن الزبير : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } أي : للحرب التي أعزكم الله تعالى بها بعد الذل ، وقواكم بها بعد الضعف ، ومنعكم من عدوكم بعد القهر منهم لكم.
وقوله تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } قال ابن عباس : يحول بين المؤمن وبين الكفر ، وبين الكافر وبين الإيمان.
رواه الحاكم في مستدركه موقوفا ، وقال : صحيح ولم يخرجاه (2) ورواه ابن مَرْدُوَيه من وجه آخر مرفوعا (3) ولا يصح لضعف إسناده ، والموقوف أصح. وكذا قال مجاهد ، وسعيد ، وعكرمة ، والضحاك ، وأبو صالح ، وعطية ، ومُقَاتِل بن حيَّان ، والسُّدِّيّ.
وفي رواية عن مجاهد في قوله : { يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ } حتى تركه لا يعقل.
وقال السدي : يحول بين الإنسان وقلبه ، فلا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه.
وقال قتادة هو كقوله : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ } [ق : 16].
وقد وردت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يناسب هذه الآية.
وقال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول : " يا مُقَلِّب القلوب ، ثبت قلبي على دينك". قال : فقلنا : يا رسول الله ، آمنا بك وبما جئت به ، فهل تخاف علينا ؟ قال (4) نعم ، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها".
وهكذا رواه الترمذي في "كتاب القدر" من جامعه ، عن هناد بن السري ، عن أبي معاوية محمد بن حازم الضرير ، عن الأعمش - واسمه سليمان بن مهران - عن أبي سفيان - واسمه طلحة بن نافع - عن أنس (5) ثم قال : حسن. وهكذا روي عن غير واحد عن الأعمش ، رواه بعضهم عنه ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وحديث أبي سفيان عن أنس أصح (6)
حديث آخر : قال عبد بن حميد (7) في مسنده : حدثنا عبد الملك بن عمرو ، حدثنا شعبة ، عن الحكم ، عن ابن أبي ليلى ، عن بلال ، رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو : "يا مُقَلِّب القلوب ثَبِّت قلبي على دينك".
__________
(1) في ك ، م : "البقاء".
(2) المستدرك (2/328).
(3) ذكره السيوطي في الدر المنثور (4/45).
(4) في أ : "فقال".
(5) المسند (3/112) وسنن الترمذي برقم (2140).
(6) رواه الحاكم في المستدرك (2/288) من طريق الأعمش ، عن أبي سفيان ، عن جابر ، رضي الله عنه.
(7) في ك ، م ، أ : "قال الإمام عبد بن حميد".

(4/35)


هذا حديث جيد الإسناد إلا أن فيه انقطاعا وهو - مع ذلك - على شرط أهل السنن ولم يخرجوه (1)
حديث آخر : وقال الإمام أحمد : حدثنا الوليد بن مسلم قال : سمعت ابن جابر يقول : حدثني بسر بن عبد الله (2) الحضرمي : أنه سمع أبا إدريس الخولاني يقول : سمعت النواس بن سَمْعَان الكلابي ، رضي الله عنه ، يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن رب العالمين ، إذا شاء أن يقيمه أقامه ، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه". وكان يقول : "يا مقلب القلوب ، ثبت قلوبنا (3) على دينك". قال : "والميزان بيد الرحمن يخفضه ويرفعه".
وهكذا رواه النسائي وابن ماجه ، من حديث عبد الرحمن بن يزيد (4) بن جابر (5) فذكر مثله.
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يونس ، حدثنا حماد بن زيد ، عن المعلى بن زياد ، عن الحسن ؛ أن عائشة قالت : دعوات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بها : "يا مقلب القلوب ، ثبت قلبي على دينك". قالت : فقلت : يا رسول الله ، إنك تكثر (6) تدعو بهذا الدعاء. فقال : "إن قلب الآدمي بين إصبعين (7) من أصابع الله ، فإذا شاء أزاغه (8) وإذا شاء أقامه (9) (10)
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا هاشم ، حدثنا عبد الحميد ، حدثني شهر ، سمعت أم سلمة تحدث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه يقول : "اللهم يا مقلب القلوب ، ثبت قلبي على دينك". قالت : فقلت (11) يا رسول الله ، أو إن القلوب لتقلب (12) ؟ قال : "نعم ، ما (13) خلق الله من بشر من بني آدم إلا أن قلبه بين إصبعين من أصابع الله ، عز وجل ، فإن شاء أقامه ، وإن شاء أزاغه. فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب". قالت : قلت : يا رسول الله ، ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي ؟ قال : " بلى ، قولي : اللهم رب النبي محمد ، اغفر لي ذنبي ، وأذهب غيظ قلبي ، وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتني" (14)
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثنا حيوة ، أخبرني أبو هانئ ، أنه سمع أبا عبد الرحمن الحُبَلي (15) أنه سمع عبد الله بن عمرو ؛ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن ، كقلب واحد يُصَرِّف (16) كيف شاء (17). ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "اللهم مُصَرِّف القلوب ، صَرِّف قلوبنا إلى طاعتك".
__________
(1) المنتخب برقم (359).
(2) في د ، ك ، م : "عبيد الله".
(3) في د ، ك ، م : "قلبي".
(4) في أ : "زيد".
(5) المسند (4/182) وسنن النسائي الكبرى برقم (7738) وسنن ابن ماجة برقم (199).
(6) في أ : "تكثر أن".
(7) في د : "الإصبعين".
(8) في أ : "أزاغه أزاغه".
(9) في أ : "أقامه أقامه".
(10) المسند (6/91).
(11) في ك ، أ : "قلت".
(12) في أ : "وإن القلب ليتقلب".
(13) في أ : "ما من".
(14) المسند (6/301) ورواه الترمذي في السنن برقم (3522) من طريق شهر بن حوشب به. قال الترمذي : "هذا حديث حسن".
(15) في أ : "الجبلي".
(16) في د : "يصرفها".
(17) في د ، م : "يشاء".

(4/36)


وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)

انفرد بإخراجه مسلم عن البخاري ، فرواه مع النسائي من حديث حَيْوَة بن شُرَيْح المصري ، به. (1)
{ وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) }
يحذر تعالى عباده المؤمنين { فِتْنَةً } أي : اختبارًا ومحنة ، يعم بها المسيء وغيره ، لا يخص بها أهل المعاصي ولا من باشر الذنب ، بل يعمهما ، حيث لم تدفع وترفع. كما قال الإمام أحمد :
حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا شَدَّاد بن سعيد ، حدثنا غَيْلان بن جرير ، عن مُطَرِّف قال : قلنا للزبير : يا أبا عبد الله ، ما جاء بكم ؟ ضيعتم الخليفة الذي قتل ، ثم جئتم تطلبون بدمه ؟ فقال الزبير ، رضي الله عنه : إنا قرأنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ، رضي الله عنهم : { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً } لم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت منا حيث وقعت (2)
وقد رواه البزار (3) من حديث مطرف ، عن الزبير ، وقال : لا نعرف مطرفا روى عن الزبير غير هذا الحديث (4)
وقد روى النسائي من حديث جرير بن حازم ، عن الحسن ، عن الزبير نحو هذا (5)
وروى ابن جرير : حدثني الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا مبارك بن فَضَالة ، عن الحسن قال : قال الزبير : لقد خوفنا بها ، يعني قوله [تعالى] (6) { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً } ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما ظننا أنا خصصنا بها خاصة.
وكذا رواه حميد ، عن الحسن ، عن الزبير ، رضي الله عنه (7)
وقال داود بن أبي هِنْد ، عن الحسن في هذه الآية قال : نزلت في علي ، وعثمان (8) وطلحة والزبير ، رضي الله عنهم.
وقال سفيان الثوري عن الصَّلت بن دينار ، عن عقبة بن صُهْبان ، سمعت الزبير يقول : لقد قرأت هذه الآية زمانا وما أرانا من أهلها فإن (9) نحن المعنيون بها : { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
وقد روي من غير وجه ، عن الزبير بن العوام.
وقال السُّدِّيّ : نزلت في أهل بدر خاصة ، فأصابتهم يوم الجمل ، فاقتتلوا.
__________
(1) المسند (2/168) وصحيح مسلم برقم (2654) وسنن النسائي الكبرى برقم (7861).
(2) المسند (4/165).
(3) في أ : "الترمذي".
(4) مسند البزار برقم (976).
(5) وسنن النسائي الكبرى برقم (11206).
(6) زيادة من ك.
(7) تفسير الطبري (13/474).
(8) في د ، ك ، م ، أ : "عمار".
(9) في د ، ك ، م : "فإذا".

(4/37)


وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً } يعني : أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة
وقال في رواية له ، عن ابن عباس ، في تفسير هذه الآية : أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين ظهرانيهم إليهم فيعمهم الله بالعذاب.
وهذا تفسير حسن جدًّا ؛ ولهذا قال مجاهد في قوله تعالى : { وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً } هي أيضا لكم ، وكذا قال الضحاك ، ويزيد بن أبي حبيب ، وغير واحد.
وقال ابن مسعود : ما منكم من أحد إلا وهو مشتمل على فتنة ، إن الله تعالى يقول : { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ } [التغابن : 15] فأيكم استعاذ فليستعذ بالله من مضلات الفتن. رواه ابن جرير.
والقول بأن هذا التحذير يعم الصحابة وغيرهم - وإن كان الخطاب معهم - هو الصحيح ، ويدل على ذلك الأحاديث الواردة في التحذير من الفتن ، ولذلك كتاب مستقل يوضح فيه إن شاء الله تعالى ، كما فعله الأئمة وأفردوه بالتصنيف ومن أخص ما يذكر هاهنا ما رواه الإمام أحمد حيث قال :
حدثنا أحمد بن الحجاج ، أخبرنا عبد الله - يعني ابن المبارك - أنبأنا سيف بن أبي سليمان ، سمعت عَدِيّ بن عَدِيّ الكندي يقول : حدثني مولى لنا أنه سمع جدي - يعني عَدِيّ بن عميرة - يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الله عز وجل ، لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظَهْرَانَيْهم ، وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه ، فإذا فعلوا ذلك عَذَّب الله الخاصة والعامة" (1)
فيه رجل مبهم ، ولم يخرجوه في الكتب الستة ، ولا واحد منهم ، والله أعلم.
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا سليمان الهاشمي ، حدثنا إسماعيل - يعني ابن جعفر - أخبرني عمرو بن أبي عمرو ، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأشهل ، عن حُذَيفة بن اليمان ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفسي بيده ، لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عِقابا من عنده ، ثم لتَدعُنّه فلا يستجيب لكم" (2)
ورواه عن أبي سعيد ، عن إسماعيل بن جعفر ، وقال : "أو ليبعثن الله عليكم قوما ثم تدعونه فلا يستجيب لكم " (3)
وقال أحمد : حدثنا عبد الله بن نمير ، قال حدثنا رَزِين بن حبيب الجُهَني ، حدثني أبو الرُّقاد قال : خرجت مع مولاي ، فدفعت إلى حذيفة وهو يقول : إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصير منافقا ، وإني لأسمعها من أحدكم في المقعد الواحد أربع مرات ؛ لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، ولَتَحَاضُّن على الخير ، أو لَيَسْحَتَنَّكم الله جميعا بعذاب ، أو ليؤمرَنّ عليكم
__________
(1) المسند (4/192).
(2) المسند (5/388).
(3) في المسند (5/388) "أبو سعيد مولى بني هاشم عن سليمان بن بلال" ثم راجعت أطراف المسند للحافظ ابن حجر (2/263) فوجدته كما هو في المسند.

(4/38)


شراركم ، ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم (1)
حديث آخر : قال الإمام أحمد أيضا : حدثني يحيى بن سعيد ، عن زكريا ، حدثنا عامر ، قال : سمعت النعمان بن بشير ، رضي الله عنه ، يخطب يقول - وأومأ بإصبعيه (2) إلى أذنيه - يقول : مثل القائم على حدود الله والواقع فيها - أو (3) المُداهن فيها - كمثل قوم ركبوا سفينة ، فأصاب بعضهم أسفلها وأوعرها وشرها ، وأصاب بعضهم أعلاها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مَرُّوا على من فوقهم فآذوهم ، فقالوا : لو خَرَقْنا في نصيبنا خَرْقا ، فاستقينا منه ، ولم نؤذ من فوقنا ، فإن تركوهم وأمرهم هَلَكوا جميعا ، وإن أخذوا على أيديهم نَجَوْا جميعا.
انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم ، فرواه في "الشركة" و "الشهادات" ، والترمذي في الفتن من غير وجه ، عن سليمان بن مهران الأعمش ، عن عامر بن شَرَاحيل الشعبي ، به (4)
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا حسين ، حدثنا خَلَف بن خليفة ، عن لَيْث ، عن عَلْقَمَة بن مَرْثد ، عن المعرور بن سُوَيْد ، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إذا ظهرت المعاصي في أمتي ، عَمَّهم الله بعذاب من عنده". فقلت : يا رسول الله ، أما فيهم أناس صالحون ؟ قال : "بلى" ، قالت : فكيف يصنع أولئك ؟ قال : "يصيبهم ما أصاب الناس ، ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان" (5)
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا حَجَّاج بن محمد ، أخبرنا شريك ، عن أبي إسحاق ، عن المنذر بن جرير ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من قوم يعملون بالمعاصي ، وفيهم رجل أعزّ منهم وأمنع لا يغيرون ، إلا عمهم الله بعقاب (6) - أو : أصابهم العقاب".
ورواه أبو داود ، عن مُسَدَّد ، عن أبي الأحوص ، عن أبي إسحاق ، به (7)
وقال أحمد أيضًا : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة سمعت أبا إسحاق يحدث ، عن عُبَيد الله بن جرير ، عن أبيه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ما من قوم يُعْمَل فيهم بالمعاصي ، هم أعَزّ وأكثر ممن يعمله ، لم يغيروه ، إلا عمهم الله بعقاب" (8)
ثم رواه أيضًا عن وَكِيع ، عن إسرائيل - وعن عبد الرزاق ، عن مَعْمَر - وعن أسود ، عن شريك ويونس - كلهم عن أبي إسحاق السَّبِيعي ، به.
وأخرجه ابن ماجه ، عن علي بن محمد ، عن وكيع ، به (9)
__________
(1) المسند (5/390).
(2) في د ، ك : "بأصبعه".
(3) في ك ، م : "و".
(4) المسند (4/269) وصحيح البخاري برقم (2493) ، (2686) وسنن الترمذي برقم (2173).
(5) المسند (6/304).
(6) في د : "بعذاب".
(7) المسند (4/361) وسنن أبي داود برقم (4339).
(8) المسند (4/364).
(9) سنن ابن ماجه برقم (4009).

(4/39)


[حديث آخر] (1) وقال الإمام أحمد : حدثنا سفيان ، حدثنا جامع بن أبي راشد ، عن مُنْذِر ، عن حسن بن محمد ، عن امرأته ، عن عائشة تبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم : "إذا ظهر السوء في الأرض ، أنزل الله بأهل الأرض بأسه". قالت : وفيهم أهل طاعة الله ؟ قال : "نعم ، ثم يصيرون إلى رحمة الله" (2)
__________
(1) زيادة من م.
(2) المسند (6/41).

(4/40)


وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)

{ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) }
ينبه تعالى عباده المؤمنين على نعمه عليهم وإحسانه إليهم ، حيث كانوا قليلين فكثَّرهم ، ومستضعفين خائفين فقوَّاهم ونصرهم ، وفقراء عالة فرزقهم من الطيبات ، واستشكرهم (1) فأطاعوه ، وامتثلوا جميع ما أمرهم. وهذا (2) كان حال المؤمنين حال مقامهم بمكة قليلين مستخفين مضطرين (3) يخافون أن يتخطفهم الناس من سائر بلاد الله ، من مشرك ومجوسي ورومي ، كلهم أعداء لهم (4) لقلتهم وعدم قوتهم ، فلم يزل ذلك دأبهم حتى أذن الله لهم في الهجرة إلى المدينة ، فآواهم إليها ، وقَيَّض لهم أهلها ، آووا ونصروا يوم بدر وغيره وآسَوا بأموالهم ، وبذلوا مُهَجهم في طاعة الله وطاعة رسوله.
قال قتادة بن دِعَامة السَّدوسي ، رحمه الله ، في قوله تعالى : { وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ } قال : كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذُلا وأشقاه عَيْشًا ، وأجوعه بطونًا ، وأعراه جلودا ، وأبينه ضلالا مكعومين على رأس حجر ، بين الأسدين فارس والروم ، ولا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه ، من عاش منهم عاش شقيًّا ، ومن مات منهم رُدِّيَ في النار ، يؤكلون ولا يأكلون ، والله ما نعلم قَبِيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منزلا منهم ، حتى جاء الله بالإسلام فمكن به في البلاد ، ووسع به في الرزق ، وجعلهم به ملوكا على رقاب الناس. وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم ، فاشكروا لله نعمه ، فإن ربكم مُنْعِم يحب الشكر ، وأهل الشكر في مزيد من الله [تعالى] (5) (6)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) }
قال عبد الله بن أبي قتادة والزهري : أنزلت في أبي لُبابة بن عبد المنذر ، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قُرَيْظة لينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستشاروه في ذلك ، فأشار عليهم بذلك - وأشار بيده إلى حلقه - أي : إنه الذبح ، ثم فطن أبو لبابة ، ورأى أنه قد خان الله ورسوله ، فحلف لا يذوق ذواقا حتى يموت أو يتوب الله عليه ، وانطلق إلى مسجد المدينة ، فربط نفسه في سارية منه ، فمكث
__________
(1) في أ : "واستكثرهم".
(2) في د : "وهكذا".
(3) في د ، ك ، م ، أ : "مضطهدين".
(4) في م : "أعدائهم".
(5) زيادة من أ.
(6) رواه الطبري في تفسيره (13/478) وهذا كلام عظيم من إمام جليل يبين أن لا عز إلا بالإسلام وقد جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمتى ابتغينا بغير الإسلام أذلنا الله".

(4/40)


كذلك تسعة أيام ، حتى كان يخر مغشيا عليه من الجهد ، حتى أنزل الله توبته على رسوله. فجاء الناس يبشرونه بتوبة الله عليه ، وأرادوا أن يحلوه من السارية ، فحلف لا يحله منها إلا رسول الله صلى الله عليه [وسلم] (1) بيده ، فحله ، فقال : يا رسول الله ، إني كنت نذرت أن أنخلع من مالي صدقة ، فقال (2) يجزيك الثلث أن تصدق به" (3)
وقال ابن جرير : حدثني الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا يونس بن الحارث الطائفي ، حدثنا محمد بن عبيد الله أبو عون الثقفي ، عن المغيرة بن شعبة قال : نزلت هذه الآية في قتل عثمان ، رضي الله عنه : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ } الآية.
وقال ابن جرير أيضا : حدثنا القاسم بن بِشْر بن معروف ، حدثنا شَبَابة بن سَوَّار ، حدثنا محمد بن المحرم قال : لقيت عطاء بن أبي رباح فحدثني قال : حدثني جابر بن عبد الله ؛ أن أبا سفيان خرج من مكة ، فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن أبا سفيان في كذا وكذا. فقال النبي (4) صلى الله عليه وسلم لأصحابه : "إن أبا سفيان في موضع (5) كذا وكذا ، فاخرجوا إليه واكتموا" فكتب رجل من المنافقين إليه : إن محمدًا يريدكم ، فخذوا حذركم ، فأنزل الله [عز وجل] (6) { لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ } الآية (7)
هذا حديث غريب جدًّا ، وفي سنده وسياقه نظر.
وفي الصحيحين قصة "حاطب بن أبي بَلْتَعَة" أنه كتب إلى قريش يعلمهم بقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم عام الفتح ، فأطلع الله رسوله على ذلك ، فبعث في إثر الكتاب فاسترجعه ، واستحضر حاطبا فأقر بما صنع ، فقام عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله ، ألا أضرب عنقه ، فإنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين ؟ فقال : " دعه ، فإنه قد شهد بدرا ، ما (8) يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : "اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" (9)
قلت : والصحيح أن الآية عامة ، وإن صح أنها وردت على سبب خاص ، فالأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند الجماهير من العلماء. والخيانة تعم الذنوب الصغار والكبار اللازمة والمتعدية.
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ } الأمانة الأعمال التي ائتمن الله عليها العباد - يعني الفريضة يقول : لا تخونوا : لا تنقضوها.
وقال في رواية : { لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ } يقول : بترك سنته وارتكاب معصيته.
وقال محمد بن إسحاق : حدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير في هذه الآية ،
__________
(1) زيادة من د ، ك ، م ، أ.
(2) في أ : "فقال له".
(3) رواه الطبري في تفسيره (13/481).
(4) في أ : "رسول الله".
(5) في أ : "بمكان".
(6) زيادة من د ، ك ، م.
(7) تفسير الطبري (13/480).
(8) في ك ، م : "وما".
(9) انظر : تخريجه عند تفسير الآية : 9 من هذه السورة.

(4/41)


يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

أي : لا تظهروا لله (1) من الحق ما يرضى به منكم ، ثم تخالفوه في السر إلى غيره ، فإن ذلك هلاك لأماناتكم ، وخيانة لأنفسكم.
وقال السُّدِّيّ : إذا خانوا الله والرسول ، فقد خانوا أماناتهم.
وقال أيضا : كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين. وقال عبد الرحمن بن زيد [بن أسلم] (2) نهاكم أن تخونوا الله والرسول ، كما صنع المنافقون.
وقوله تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ } أي : اختبار وامتحان منه لكم ؛ إذ أعطاكموها ليعلم أتشكرونه عليها وتطيعونه (3) فيها ، أو تشتغلون بها عنه ، وتعتاضون بها منه ؟ كما قال تعالى : { إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [التغابن : 15] ، وقال : { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً } [الأنبياء : 35] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } [المنافقون : 9] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ } الآية [التغابن : 14].
وقوله : { وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } أي : ثوابه وعطاؤه وجناته خير لكم من الأموال والأولاد ، فإنه قد يوجد منهم عدو ، وأكثرهم لا يغني عنك شيئا ، والله ، سبحانه ، هو المتصرف المالك للدنيا والآخرة ، ولديه الثواب الجزيل يوم القيامة.
وفي الأثر يقول [الله] (4) تعالى : "ابن آدم ، اطلبني تَجدني ، فإن وَجَدْتَنِي وجَدْتَ كل شيء ، وإن فُتُّكَ فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء".
وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [أنه قال] (5) ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ، ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ (6) أنقذه الله منه" (7)
بل حب رسوله مقدم على الأولاد والأموال والنفوس ، كما ثبت في الصحيح أنه ، عليه السلام ، قال : "والذي نفسي بيده ، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وأهله وماله والناس أجمعين" (8)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) }
قال ابن عباس ، والسُّدِّيّ ، ومُجاهِد ، وعِكْرِمة ، والضحاك ، وقَتَادة ، ومُقَاتِل بن حَيَّان : { فُرْقَانًا }
__________
(1) في د ، ك ، م : "لا تظهروا له".
(2) زيادة من أ.
(3) في د ، ك ، م : "أتشكروه عليها وتطيعوه".
(4) زيادة من د ، ك ، م ، أ.
(5) زيادة من أ.
(6) في د ، ك ، م ، أ : "أن".
(7) رواه مسلم في صحيحه برقم (43) من حديث أنس بن مالك ، رضي الله عنه.
(8) صحيح البخاري برقم (14).

(4/42)


وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)

مخرجا. زاد مجاهد : في الدنيا والآخرة.
وفي رواية عن ابن عباس : { فُرْقَانًا } نجاة. وفي رواية عنه : نصرا.
وقال محمد بن إسحاق : { فُرْقَانًا } أي : فصلا بين الحق والباطل.
وهذا التفسير من ابن إسحاق أعم مما تقدم وقد يستلزم ذلك كله ؛ فإن من اتقى الله بفعل أوامره وترك زواجره ، وفق لمعرفة الحق من الباطل ، فكان ذلك سبب نصره (1) ونجاته ومخرجه من أمور الدنيا ، وسعادته يوم القيامة ، وتكفير ذنوبه - وهو محوها - وغفرها : سترها عن الناس - سببًا لنيل ثواب الله الجزيل ، كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [الحديد : 28].
{ وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) }
قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة : { لِيُثْبِتُوكَ } [أي] : (2) ليقيدوك.
وقال عطاء ، وابن زيد : ليحبسوك.
وقال السُّدِّيّ : "الإثبات". هو الحبس والوثاق.
وهذا يشمل ما قاله هؤلاء وهؤلاء ، وهو مجمع الأقوال (3) وهو الغالب من صنيع من أراد غيره بسوء.
وقال سُنَيْد ، عن حجاج ، عن ابن جُرَيْج ، قال عطاء : سمعت عُبَيْد بن عُمَيْر يقول : لما ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه ، قال له عمه أبو طالب : هل تدري ما ائتمروا بك ؟ قال : "يريدون أن يسحروني (4) أو يقتلوني أو يخرجوني" ، فقال : من أخبرك (5) بهذا ؟ قال : "ربي" ، قال : نعم الرب ربك ، استوص به خيرا فقال : "أنا أستوصي به ؟ ! بل هو يستوصي بي" (6)
وقال أبو جعفر بن جرير : حدثني محمد بن إسماعيل البصري ، المعروف بالوساوسي ، أخبرنا عبد الحميد بن أبي رَوَّاد (7) عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن عبيد بن عمير ، عن المطلب بن أبي وَدَاعةِ ، أن أبا طالب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يأتمر بك قومك ؟ قال : "يريدون أن يسحروني (8) أو يقتلوني أو يخرجوني". فقال : من أخبرك بهذا ؟ قال : "ربي" ، قال : نعم الرب ربك ، فاستوص به خيرا ، "قال : أنا أستوصي به ؟! بل هو يستوصي بي". قال : فنزلت : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ } الآية (9)
__________
(1) في أ : "نصرته".
(2) زيادة من أ.
(3) في د : "وهذا يجمع الأقوال" ، وفي ك ، م : "وهو تجمع الأقوال".
(4) في د : "يسجنونني" ، وفي أ : "يسخروني".
(5) في ك ، م ، أ : "خبرك".
(6) رواه الطبري في تفسيره (13/493).
(7) في د ، م : "داود".
(8) في د : "يسجنونني" ، وفي أ : "يسخروني".
(9) تفسير الطبري (13/492). 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

البرص و العميان-أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ

البرص و العميان-أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ  المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله عليه محمد وسلم وهب الله لك حسن الاستماع وأشعر ...