ج3. الروض الأنف
أَبُو طَالِبٍ يَفْخَرُ بِنَسَبِهِ
وَابْنِ أَخِيهِ
فَلَمّا خَشِيَ أَبُو طَالِبٍ دَهْمَاءَ الْعَرَبِ أَنْ يَرْكَبُوهُ مَعَ قَوْمِهِ
قَالَ قَصِيدَتَهُ الّتِي تَعَوّذَ فِيهَا بِحَرَمِ مَكّةَ وَبِمَكَانِهِ مِنْهَا
، وَتَوَدّدَ فِيهَا أَشْرَافُ قَوْمِهِ وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ يُخْبِرُهُمْ
وَغَيْرَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ شِعْرِهِ أَنّهُ غَيْرُ مُسْلِمٍ رَسُولَ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَلَا تَارِكِهِ لِشَيْءِ أَبَدًا حَتّى
يَهْلَكَ دُونَهُ فَقَالَ [ ص 17 ] [ ص 18 ] [ ص 19 ] وَلَمّا رَأَيْت الْقَوْمَ لَا وُدّ فِيهِمْ ... وَقَدْ قَطَعُوا كُلّ الْعُرَى
وَالْوَسَائِلِ وَقَدْ صَارَحُونَا بِالْعَدَاوَةِ وَالْأَذَى ... وَقَدْ طَاعُوا أَمْرَ
الْعَدُوّ الْمُزَايِلِ وَقَدْ حَالَفُوا قَوْمًا عَلَيْنَا أَظِنّةً ... يَعَضّونَ غَيْظًا خَلْفَنَا
بِالْأَنَامِلِ صَبَرْت لَهُمْ نَفْسِي بِسَمْرَاءَ سَمْحَةٍ ... وَأَبْيَضَ عَضْبٍ مِنْ تُرَاثِ
الْمَقَاوِلِ
وَأَحْضَرْت عِنْدَ الْبَيْتِ رَهْطِي وَإِخْوَتِي ... وَأَمْسَكْت مِنْ
أَثْوَابِهِ بِالْوَصَائِلِ
قِيَامًا مَعًا مُسْتَقْبِلِينَ رِتَاجَهُ ... لَدَيّ حَيْثُ يُقْضَى حَلْفَهُ
كُلّ نَافِلِ
وَحَيْثُ يُنِيخُ الْأَشْعَرُونَ رِكَابَهُمْ ... بِمُفْضَى السّيُولِ مِنْ إسَافَ
وَنَائِلِ
مُوَسّمَةُ الْأَعْضَادِ أَوْ قَصِرَاتِهَا ... مُخَيّسَةٌ بَيْنَ السّدِيسِ
وَبَازِلِ
تَرَى الْوَدْعَ فِيهَا ، وَالرّخَامَ وَزَبْنَةً ... بِأَعْنَاقِهَا مَعْقُودَةً
كَالْعَثَاكِلِSشَرْحُ
لَامِيّةِ أَبِي طَالِبٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ قَصِيدَةَ أَبِي طَالِبٍ إلَى آخِرِهَا ، وَفِيهَا : وَأَبْيَضَ
عَضْبٍ مِنْ تُرَاثِ الْمَقَاوِلِ . [ ص 17 ] الْأَقْيَالَ وَالْمَقَاوِلَ فِيمَا
تَقَدّمَ وَتُرَاثٌ أَصْلُهُ وُرَاثٌ مِنْ وَرِثْت ، وَلَكِنْ لَا تُبْدَلُ هَذِهِ
الْوَاوُ تَاءً إلّا فِي مَوَاضِعَ مَحْفُوظَةٍ وَعِلّتُهَا كَثْرَةُ وُجُودِ
التّاءِ فِي تَصَارِيفِ الْكَلِمَةِ فَالتّرَاثُ مَالٌ قَدْ تُوُورِثَ
وَتَوَارَثَهُ قَوْمٌ عَنْ قَوْمٍ فَالتّاءُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التّوْرِيثِ
وَالتّوَارُثِ وَكَذَلِكَ تُجَاهُ الْبَيْتِ التّاءُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي
التّوَجّهِ وَالتّوْجِيهِ وَنَحْوِهِ فَلَمّا أَلْفَوْهَا فِي تَصَارِيفِ
الْكَلِمَةِ لَمْ يُنْكِرُوا قَلْبَ الْوَاوِ إلَيْهَا ، كَمَا فَعَلُوا فِي
رَيْحَانٍ وَهُوَ مِنْ الرّوْحِ لِكَثْرَةِ الْيَاءِ فِي تَصَارِيفِ الْكَلِمَةِ
كَمَا قَدّمْنَا قَبْلُ وَهِيَ فِي تُرَاثٍ وَبَابِهِ أَبْعَدُ لِأَنّ الْيَاءَ
الْمَأْلُوفَةَ فِي مَادّةِ الْكَلِمَةِ زَائِدَةٌ وَيَاءُ رَيْحَانٍ لَيْسَتْ
كَذَلِكَ وَكَذَلِكَ التّكَأَةُ مِنْ تَوَكّأْت وَتَتْرَى مِنْ التّوَاتُرِ
وَالتّوَلّجُ مِنْ التّوَلّجِ وَالْمُتّلِجِ لِأَنّهُمْ يَقُولُونَ اتّلَجَ
بِالتّشْدِيدِ فَتَصِيرُ الْوَاوُ تَاءً لِلْإِدْغَامِ حَتّى يَقُولُوا : مُتّلِجٌ
فَيَجْعَلُونَهَا تَاءً دُونَ الْإِدْغَامِ . هَذَا أَشْبَهُ بِقِيَاسِ رَيْحَانٍ
وَبَابِهِ فَإِنّ التّاءَ الْأُولَى مِنْ مُتّلِجٍ أَصْلِيّةٌ وَهِيَ فِي مُتّلِجٍ
إذَا ضُعّفَتْ أَصْلِيّةٌ أَيْضًا ، فَهِيَ هِيَ فَقِفْ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ
فَإِنّهُ سِرّ الْبَابِ . وَأَرَادَ بِالْمَقَاوِلِ آبَاءَهُ شَبّهَهُمْ
بِالْمُلُوكِ وَلَمّا يَكُونُوا مُلُوكًا ، وَلَا كَانَ فِيهِمْ مِنْ مَلِكٍ
بِدَلِيلِ حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ حِينَ قَالَ لَهُ هِرَقْلُ : هَلْ كَانَ فِي
آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ ؟ فَقَالَ لَا . وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا السّيْفُ
الّذِي ذَكَرَ أَبُو طَالِبٍ مِنْ هِبَاتِ الْمُلُوكِ لِأَبِيهِ فَقَدْ وَهَبَ
ابْنُ ذِي يَزَنَ لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ هِبَاتٍ جَزْلَةً حِينَ وَفَدَ عَلَيْهِ
مَعَ قُرَيْشٍ ، يُهَنّئُونَهُ بِظَفْرِهِ بِالْحَبَشَةِ وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْلِدِ
رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِعَامَيْنِ . وَقَوْلُهُ
مُوَسّمَةُ الْأَعْضَادِ أَوْ قَصِرَاتُهَا يَعْنِي [ مُعَلّمَةٌ ] بِسِمَةِ فِي
أَعْضَادِهَا ، وَيُقَالُ لِذَلِكَ الْوَسْمِ السّطَاعُ وَالْخِبَاطُ فِي
الْفَخِذِ وَالرّقْمَةُ أَيْضًا فِي الْعَضُدِ وَيُقَالُ لِلْوَسْمِ فِي الْكَشْحِ
الْكِشَاحُ وَلِمَا فِي قَصَرَةِ الْعُنُقِ الْعِلَاطُ وَالْعَلْطَتَانِ
وَالشّعْبُ أَيْضًا فِي الْعُنُقِ وَهُوَ كَالْمِحْجَنِ وَفِي الْعُنُقِ وَسْمٌ
آخَرُ أَيْضًا يُقَالُ لَهُ قَيْدُ الْفَرَسِ . قَالَ الرّاجِزُ
كُومٌ عَلَى أَعْنَاقِهَا قَيْدُ الْفَرَسْ ... تَنْجُو إذَا اللّيْلُ تَدَانَى ،
وَالْتَبَسْ
[ ص 18 ] ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ أَكْثَرَهُ فِي كِتَابِ الْإِبِلِ فَمِنْهَا الْمُشَيْطَنَةُ
وَالْمُفَعّاةُ وَالْقُرْمَةُ وَهِيَ فِي الْأَنْفِ وَكَذَلِكَ الْجُرْفُ
وَالْخُطّافُ وَهِيَ فِي الْعُنُقِ وَالدّلْوُ وَالْمُشْطُ وَالْفِرْتَاجُ
وَالثّؤْثُورُ وَالدّمَاعُ فِي مَوْضِعِ الدّمْعِ وَالصّدَاغُ فِي مَوْضِعِ
الصّدْغِ وَاللّجَامُ مِنْ الْخَدّ إلَى الْعَيْنِ يُقَالُ مِنْهُ بَعِيرٌ
مَلْجُومٌ وَالْهِلَالُ وَالْخِرَاشُ وَهُوَ مِنْ الصّدْغِ إلَى الذّقَنِ .
وَقَوْلُهُ أَوْ قَصَرَاتُهَا جَمْعُ قَصَرَةٍ وَهِيَ أَصْلُ الْعُنُقِ
وَخَفْضُهَا بِالْعَطْفِ عَلَى الْأَعْضَادِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي
مَوْضِعِ نَصْبٍ كَمَا تَقُولُ هُوَ ضَارِبُ الرّجُلِ وَزَيْدًا فِي بَابِ اسْمِ
الْفَاعِلِ لِأَنّ قَوْلَهُ مُوَسّمَةُ الْأَعْضَادِ مِنْ بَابِ الصّفَةِ
الْمُشَبّهَةِ وَهِيَ لَا تَعْمَلُ إلّا مُضْمَرَةً وَاسْمُ الْفَاعِلِ يُضْمَرُ
إذَا عُطِفَ عَلَى الْمَخْفُوضِ وَذَلِكَ أَنّ الصّفَةَ لَا تَعْمَلُ بِالْمَعْنَى
، وَإِنّمَا تَعْمَلُ بِشَبَهِ لَفْظِيّ بَيْنَهَا ، وَبَيْنَ اسْمِ الْفَاعِلِ
فَإِذَا زَالَ اللّفْظُ وَرَجَعَ إلَى الْإِضْمَارِ لَمْ تَعْمَلْ وَتُخَالِفُ
اسْمَ الْفَاعِلِ أَيْضًا ؛ لِأَنّ مَعْمُولَهَا لَا يَتَقَدّمُ عَلَيْهَا ، كَمَا
يَتَقَدّمُ الْمَفْعُولُ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ وَذَلِكَ أَنّ مَنْصُوبَهَا
فَاعِلٌ فِي الْمَعْنَى ، وَالْفَاعِلُ لَا يَتَقَدّمُ وَالصّفَةُ لَا يُفْصَلُ
بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَنْصُوبِهَا بِالظّرْفِ وَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي اسْمِ
الْفَاعِلِ وَالصّفَةُ لَا تَعْمَلُ إلّا بِمَعْنَى الْحَالِ وَاسْمُ الْفَاعِلِ
يَعْمَلُ بِمَعْنَى الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ نَعَمْ وَيَعْمَلُ بِمَعْنَى
الْمَاضِي إذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللّامُ وَلَوْ رُوِيَ مُوَسّمَةُ
الْأَعْضَادَ بِنَصْبِ الدّالِ عَلَى مَعْنَى : مُوَسّمَةٌ الْأَعْضَادَ
بِالتّنْوِينِ وَحَذْفُهُ لِالْتِقَاءِ السّاكِنَيْنِ لَجَازَ كَمَا رُوِيَ فِي
شِعْرِ حُنْدُجٍ كَبِكْرِ مُقَانَاةٍ الْبَيَاضَ بِالنّصْبِ وَبِالرّفْعِ أَيْضًا
، أَيْ الْبَيَاضُ مِنْهُمْ عَلَى نِيّةِ التّنْوِينِ فِي مُقَانَاةٍ وَحَذْفه
لِالْتِقَاءِ السّاكِنَيْنِ وَأَمّا الْخَفْضُ فَلَا خَفَاءَ بِهِ . وَإِذَا
كَانَتْ الْقَصَرَاتُ مَخْفُوضَةً بِالْعَطْفِ عَلَى الْأَعْضَادِ فَفِيهِ شَاهِدٌ
لِمَنْ قَالَ هُوَ حَسَنٌ وَجْهِهِ كَمَا رَوَى سِيبَوَيْهِ حِينَ أَنْشَدَ كُمَيْتَا
الْأَعَالِي جَوْنَتَا مُصْطَلَاهُمَا وَفِي حَدِيثِ أُمّ زَرْعٍ صُفْرُ
رِدَائِهَا ، وَمِلْءُ كِسَائِهَا مِثْلَ حَسَنَةُ وَجْهِهَا ، وَفِي الْأَمَالِي
[ ص 19 ]
[ السّنّ مِنْ جَلْنَزِيزٍ عَوْزَمٍ خَلَقٍ ] ... وَالْحِلْمُ حِلْمُ صَبِيّ
يَمْرُسُ الْوَدَعَهْ
وَقَالَ الشّاعِرُ
إنّ الرّوَاةَ بِلَا فَهْمٍ لِمَا حَفِظُوا ... مِثْلَ الْجِمَالِ عَلَيْهَا
يُحْمَلُ الْوَدَعُ
لَا الْوَدْعُ يَنْفَعُهُ حَمْلُ الْجِمَالِ لَهُ ... وَلَا الْجِمَالُ بِحَمْلِ
الْوَدْعِ تَنْتَفِعُ
وَيُقَالُ إنّ هَذِهِ الْخَرَزَاتِ يَقْذِفُهَا الْبَحْرُ وَأَنّهَا حَيَوَانٌ فِي
جَوْفِ الْبَحْرِ فَإِذَا قَذَفَهَا مَاتَتْ وَلَهَا بَرِيقٌ وَلَوْنٌ حَسَنٌ
وَتَصَلّبُ صَلَابَةَ الْحَجَرِ ، فَتُثْقَبُ وَيُتّخَذُ مِنْهَا الْقَلَائِدُ
وَاسْمُهَا مُشْتَقّ مِنْ وَدَعْته أَيْ تَرَكْته ، لِأَنّ الْبَحْرَ يَنْضُبُ
عَنْهَا وَيَدَعُهَا ، فَهِيَ وَدَعٌ مِثْلَ قَبَضٍ وَنَفَضٍ وَإِذَا قُلْت
الْوَدْعَ بِالسّكُونِ فَهِيَ مِنْ بَابِ مَا سُمّيَ بِالْمَصْدَرِ . وَقَوْلُهُ
وَالرّخَامَ أَيْ مَا قُطِعَ مِنْ الرّخَامِ فَنُظِمَ وَهُوَ حَجَرٌ أَبْيَضُ
نَاصِعٌ وَالْعَثَاكِلُ أَرَادَ الْعَثَاكِيلَ فَحَذَفَ الْيَاءَ ضَرُورَةً كَمَا
قَالَ ابْنُ مُضَاضٍ وَفِيهَا الْعَصَافِرُ أَرَادَ الْعَصَافِيرَ وَفِي أَوّلِ
الْقَصِيدَةِ وَقَدْ حَالَفُوا قَوْمًا عَلَيْنَا أَظِنّةً [ جَمْعُ ظَنِينٍ ]
أَيْ مُتّهَمٌ وَلَوْ كَانَ بِالضّادِ مَعَ قَوْلِهِ عَلَيْنَا ، لَعَادَ
مَعْنَاهُ مَدْحًا لَهُمْ كَأَنّهُ قَالَ أَشِحّةً عَلَيْنَا ، كَمَا أَنْشَدَ
عَمْرُو بْنُ بَحْرٍ [ الْجَاحِظُ ] : [ ص 20 ]
لَوْ كُنْت فِي قَوْمٍ عَلَيْك أَشِحّةً ... عَلَيْك أَلَا إنّ مَنْ طَاحَ طَائِحُ
يَوَدّونَ لَوْ خَاطُوا عَلَيْك جُلُودَهُمْ ... وَهَلْ يَدْفَعُ الْمَوْتَ
النّفُوسُ الشّحَائِحُ
أَعُوذُ
بِرَبّ النّاسِ مِنْ كُلّ طَاعِنٍ ... عَلَيْنَا بِسُوءِ أَوْ مُلِحّ بِبَاطِلِ
وَمِنْ كَاشِحٍ يَسْعَى لَنَا بِمَعِيبَةِ ... وَمِنْ مُلْحِقٍ فِي الدّينِ مَا
لَمْ نُحَاوِلْ
وَثَوْرٍ وَمَنْ أَرْسَى ثَبِيرًا مَكَانَهُ ... وَرَاقٍ لِيَرْقَى فِي حِرَاءَ
وَنَازِلِ
وَبِالْبَيْتِ حَقّ الْبَيْتِ مِنْ بَطْنِ مَكّةَ ... وَبِاَللّهِ إنّ اللّهَ
لَيْسَ بِغَافِلِ
وَبِالْحَجَرِ الْمُسْوَدّ إذْ يَمْسَحُونَهُ ... إذَا اكْتَنَفُوهُ بِالضّحَى
وَالْأَصَائِلِ
وَمَوْطِئِ إبْرَاهِيمَ فِي الصّخْرِ رَطْبَةً ... عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا
غَيْرَ نَاعِلِ
وَأَشْوَاطٍ بَيْنَ الْمَرْوَتَيْنِ إلَى الصّفَا ... وَمَا فِيهِمَا مِنْ صُورَةٍ
وَتَمَاثِلِ
وَمَنْ حَجّ بَيْتَ اللّهِ مِنْ كُلّ رَاكِبٍ ... وَمِنْ كُلّ ذِي نَذْرٍ وَمِنْ
كُلّ رَاجِلِ
وَبِالْمَشْعَرِ الْأَقْصَى إذَا عَمَدُوا لَهُ ... إلْآلٍ إلَى مُفْضَى الشّرَاجِ
الْقَوَابِلِ
وَتَوْقَافِهِمْ فَوْقَ الْجِبَالِ عَشِيّةً ... يُقِيمُونَ بِالْأَيْدِي صُدُورَ
الرّوَاحِلِ
وَلَيْلَةِ جَمْعٍ وَالْمَنَازِلِ مِنْ مِنًى ... وَهَلْ فَوْقَهَا مِنْ حُرْمَةٍ
وَمَنَازِلِ
وَجَمْعِ إذَا مَا الْمُقْرَبَاتُ أَجَزْفه ... سِرَاعًا كَمَا يَخْرُجْنَ مِنْ
وَقْعٍ وَابِلِ
وَبِالْجَمْرَةِ الْكُبْرَى إذَا صَمَدُوا لَهَا ... يَؤُمّونَ قَذْفًا رَأْسَهَا
بِالْجَنَادِلِ
وَكِنْدَةَ إذْ هُمْ بِالْحِصَابِ عَشِيّةً ... تُجِيزُ بِهِمْ حُجّاجُ بَكْرِ
بْنِ وَائِلِ
حَلِيفَانِ شَدّا عَقْدَ مَا اخْتَلَفَا لَهُ ... وَرَدّا عَلَيْهِ عَاطِفَاتِ
الْوَسَائِلِ
وَحَطْمِهِمْ سَمْرَ الرّمَاحِ وَشَرْحَهُ ... وَشِبْرِقَهُ وَخْدَ النّعَامِ
الْحَوَامِلِ
فَهَلْ بَعْدَ هَذَا مِنْ مَعَاذٍ لِعَائِذِ ... وَهَلْ مِنْ مُعِيذٍ يَتّقِي
اللّهَ عَاذِلِSوَفِيهَا
:
وَثَوْرٍ وَمَنْ أَرْسَى ثَبِيرًا مَكَانَهُ ... وَرَاقٍ لِيَرْقَى فِي حِرَاءَ
وَنَازِلِ
ثَوْرٌ جَبَلٌ بِمَكّةَ وَثَبِيرٌ : جَبَلٌ مِنْ جِبَالِهَا ذَكَرُوا أَنّ
ثَبِيرًا كَانَ رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْجَبَلِ فَعُرِفَ
الْجَبَلُ بِهِ كَمَا عُرِفَ أَبُو قُبَيْس ٍ بِقُبَيْسِ بْنِ شَالَحٍ رَجُلٍ مِنْ
جُرْهُمٍ ، كَانَ قَدْ وَشَى بَيْنَ عَمْرِو بْنِ مُضَاضٍ وَبَيْنَ ابْنَةِ عَمّهِ
مَيّةَ فَنَذَرَتْ أَلّا تُكَلّمَهُ وَكَانَ شَدِيدَ الْكَلَفِ بِهَا ، فَحَلَفَ
لَيَقْتُلَن قُبَيْسًا ، فَهَرَبَ مِنْهُ فِي الْجَبَلِ الْمَعْرُوفِ بِهِ
وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ فَإِمّا مَاتَ وَإِمّا تَرَدّى مِنْهُ فَسُمّيَ الْجَبَلُ
أَبَا قُبَيْسٍ وَهُوَ خَبَرٌ طَوِيلٌ ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي غَيْرِ هَذَا
الْكِتَابِ . وَقَوْلُهُ وَرَاقٍ لِيَرْقَى قَدْ تَقَدّمَ الْقَوْلُ فِيهِ
وَأَصَحّ الرّوَايَتَيْنِ فِيهِ وَرَاقٍ لِبَرْقِيّ حِرَاءَ وَنَازِلِ . قَالَ
الْبَرْقِيّ : هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ إسْحَاقَ وَغَيْرُهُ وَهُوَ الصّوَابُ .
قَالَ الْمُؤَلّفُ فَالْوَهْمُ فِيهِ إذًا مِنْ ابْنِ هِشَامٍ ، أَوْ مِنْ
الْبَكّائِيّ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَقَوْلُهُ وَبِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فِيهِ
زِحَافٌ يُسَمّى : الْكَفّ ، وَهُوَ حَذْفُ النّونِ مِنْ مَفَاعِيلُنْ وَهُوَ
بَعْدَ الْوَاوِ مِنْ الْأَسْوَدِ وَنَحْوِهِ قَوْلُ حُنْدُجٍ أَلَا رُبّ يَوْمٍ
لَك مِنْهُنّ صَالِحُ وَمَوْضِعُ الزّحَافِ بَعْدَ اللّامِ مِنْ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ إذَا اكْتَنَفُوهُ بِالضّحَى وَالْأَصَائِلِ الْأَصَائِلُ جَمْعُ
أَصِيلَةٍ وَالْأُصُلُ جَمْعُ أَصِيلٍ وَذَلِكَ أَنّ فَعَائِلَ جَمْعُ فَعِيلَةٍ
وَالْأَصِيلَةُ لُغَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي الْأَصِيلِ وَظَنّ بَعْضُهُمْ أَنّ
أَصَائِلَ جَمْعُ آصَالٍ عَلَى وَزْنِ أَفْعَالٍ وَآصَالٌ جَمْعُ أَصْلٍ نَحْوَ
أَطْنَابٍ وَطُنُبٍ وَأُصُلٌ جَمْعُ أَصِيلٍ مِثْلَ رُغُفٍ جَمْعُ رَغِيفٍ
فَأَصَائِلُ عَلَى قَوْلِهِمْ جَمْعُ جَمْعِ الْجَمْعِ وَهَذَا خَطَأٌ بَيّنٌ مِنْ
وُجُوهٍ مِنْهَا : أَنّ جَمْعَ جَمْعِ الْجَمْعِ لَمْ يُوجَدْ [ ص 21 ] قَطّ فِي
الْكَلَامِ فَيَكُونُ هَذَا نَظِيرَهُ وَعَنْ جِهَةِ الْقِيَاسِ إذْ كَانُوا لَا
يَجْمَعُونَ الْجَمْعَ الّذِي لَيْسَ لِأَدْنَى الْعَدَدِ فَأَحْرَى أَلّا يَجْمَعُوا
جَمْعَ الْجَمْعِ وَأَبْيَنُ خَطَأٍ فِي هَذَا الْقَوْلِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ
الْهَمْزَةِ الّتِي هِيَ فَاءُ الْفِعْلِ الّتِي فِي أَصِيلٍ وَأُصُلٍ وَكَذَلِكَ
هِيَ فَاءُ الْفِعْلِ فِي أَصَائِلَ لِأَنّهَا فَعَائِلُ وَتَوَهّمُوهَا زَائِدَةً
كَاَلّتِي فِي أَقَاوِيلَ وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ كَانَتْ الصّادُ فَاءَ
الْفِعْلِ وَإِنّمَا هِيَ عَيْنُهُ كَمَا هِيَ فِي أَصِيلٍ وَأُصُلٍ فَلَوْ
كَانَتْ أَصَائِلُ جَمْعَ آصَالٍ مِثْلَ أَقْوَالٍ وَأَقَاوِيلَ لَاجْتَمَعَتْ
هَمْزَةُ الْجَمْعِ مَعَ هَمْزَةِ الْأَصْلِ وَلَقَالُوا فِيهِ أَوَاصِيلُ
بِتَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ الثّانِيَةِ وَوَجْهٌ آخَرُ مِنْ الْخَطَأِ بَيّنٌ
أَيْضًا ، وَهُوَ أَنّ أَفَاعِيلَ جَمْعُ أَفْعَالٍ لَا بُدّ مِنْ يَاءٍ قَبْلَ
آخِرِهِ كَمَا قَالُوا فِي أَقَاوِيلَ فَكَانَ يَكُونُ أَوَاصِيلَ وَلَيْسَ فِي
أَصَائِلَ حَرْفُ مَدّ وَلِينٍ قَبْلَ آخِرِهِ إنّمَا هِيَ هَمْزَةُ فَعَائِلَ
وَمِنْ الْخَطَأِ فِي قَوْلِهِمْ أَيْضًا : أَنْ جَعَلُوا أُصُلًا جَمْعًا
كَثِيرًا مِثْلَ رُغُفٍ ثُمّ زَعَمُوا أَنّ آصَالًا جَمْعٌ لَهُ فَهُمْ
بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ فِي رُغُفٍ جَمْعُ أَرْغَافٍ فَإِنْ قِيلَ فَجَمْعُ أَيّ
شَيْءٍ هِيَ آصَالٌ ؟ قُلْنَا : جَمْعَ أُصُلٍ الّذِي هُوَ اسْمٌ مُفْرَدٌ فِي
مَعْنَى الْأَصَائِلِ لَا جَمْعَ أُصُلٍ الّذِي هُوَ جَمْعٌ ، فَإِنْ قِيلَ فَهَلْ
يُقَالُ أُصُلٌ وَاحِدٌ كَمَا يُقَالُ أَصِيلٌ وَاحِدٌ ؟ قُلْنَا : قَدْ قَالَ
بَعْضُ أَرْبَابِ اللّغَةِ ذَلِكَ وَاسْتَشْهَدُوا بِقَوْلِ الْأَعْشَى :
يَوْمًا بِأَطْيَبَ مِنْهَا نَشْرَ رَائِحَةٍ ... وَلَا بِأَحْسَنَ مِنْهَا إذْ
دَنَا الْأُصُلُ
أَيْ دَنَا الْأَصِيلُ فَإِنْ صَحّ أَنّ الْأُصُلَ بِمَعْنَى الْأَصِيلِ وَإِلّا
فَآصَالُ جَمْعُ أَصِيلٍ عَلَى حَذْفِ الْيَاءِ الزّائِدَةِ مِثْلَ طَوِيّ
وَأَطْوَاءٍ وَلَا أَعْرِفُ أَحَدًا قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَعْنِي : جَمْعَ
جَمْعِ الْجَمْعِ غَيْرِ الزّجّاجِيّ وَابْنِ عَزِيزٍ . وَقَوْلُهُ وَمَوْطِئِ
إبْرَاهِيمَ فِي الصّخْرِ رَطْبَةً يَعْنِي مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ حِينَ غُسِلَتْ
كَنّتْهُ رَأْسَهُ وَهُوَ رَاكِبٌ فَاعْتَمَدَ بِقَدَمِهِ عَلَى الصّخْرَةِ حِينَ
أَمَالَ رَأْسَهُ لِيَغْسِلَ وَكَانَتْ سَارّةُ قَدْ أَخَذَتْ عَلَيْهِ عَهْدًا
حِينَ اسْتَأْذَنَهَا فِي أَنْ يُطَالِعَ تَرِكَتَهُ بِمَكّةَ فَحَلَفَ لَهَا
أَنّهُ لَا يَنْزِلُ عَنْ دَابّتِهِ وَلَا يَزِيدُ عَلَى السّلَامِ وَاسْتِطْلَاعُ
الْحَالِ غَيْرَةٌ مِنْ سَارّةَ عَلَيْهِ مِنْ هَاجَرَ ، فَحِينَ اعْتَمَدَ عَلَى
الصّخْرَةِ أَبْقَى اللّهُ فِيهَا أَثَرَ قَدَمِهِ آيَةً . قَالَ اللّهُ
سُبْحَانَهُ { فِيهِ آيَاتٌ بَيّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ } [ آلِ عِمْرَانَ :
97 ] أَيْ مِنْهَا مَقَامُ إبْرَاهِيمَ ، وَمَنْ [ ص 22 ] جَعَلَ مَقَامًا بَدَلًا
مِنْ آيَاتٍ قَالَ الْمَقَامُ جَمْعُ مَقَامَةٍ وَقِيلَ بَلْ هُوَ أَثَرُ قَدَمِهِ
حِينَ رَفَعَ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَيْهِ . وَقَوْلُهُ
بَيْنَ الْمَرْوَتَيْنِ هُوَ كَنَحْوِ مَا تَقَدّمَ فِي بَطْنِ الْمَكّتَيْنِ
وَالْحَمّتَيْنِ وَعُنَيْزَتَيْنِ مِمّا وَرَدَ مُثَنّى مِنْ أَسْمَاءِ
الْمَوَاضِعِ وَهُوَ وَاحِدٌ فِي الْحَقِيقَةِ وَذَكَرْنَا الْعِلّةَ فِي
مَجِيئِهِ مُثَنّى وَمَجْمُوعًا فِي الشّعْرِ . وَفِيهَا قَوْلُهُ وَبِالْمَشْعَرِ
الْأَقْصَى إذَا قَصَدُوا لَهُ أَلَالًا الْبَيْتَ . فَالْمَشْعَرُ الْأَقْصَى :
عَرَفَةُ وَأَلَالًا : جَبَلُ عَرَفَةَ . قَالَ النّابِغَةُ يَزُرْنَ أَلَالًا
سَيْرُهُنّ التّدَافُعُ وَسُمّيَ أَلَالًا لِأَنّ الْحَجِيجَ إذَا رَأَوْهُ أَلّوا
فِي السّيْرِ أَيْ اجْتَهَدُوا فِيهِ لِيُدْرِكُوا الْمَوْقِفَ قَالَ الرّاجِزُ
مُهْرَ أَبِي الْحَبْحَابِ لَا تَشَلّي ... بَارّك فِيك اللّهُ مِنْ ذِي أَلّ
وَالشّرَاجُ : جَمْعُ شَرْجٍ ، وَهُوَ مَسِيلُ الْمَاءِ وَالْقَوَابِلُ
الْمُتَقَابِلَةُ . وَفِيهَا قَوْلُهُ وَحَطْمُهُمْ سُمْرَ الصّفَاحِ جَمْعُ
صَفْحٍ وَهُوَ سَطْحُ الْجَبَلِ وَالسّمْرُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ
السّمُرَ يُقَالُ فِيهِ سَمُرَ وَسَمْرَ بِسُكُونِ الْمِيمِ وَيَجُوزُ نَقْلُ ضَمّةِ
الْمِيمِ إلَى مَا قَبْلَهَا إلَى السّينِ كَمَا قَالُوا فِي حَسُنَ حُسْنَ
وَكَذَا وَقَعَ فِي الْأَصْلِ بِضَمّ السّينِ غَيْرَ أَنّ هَذَا النّقْلَ إنّمَا
يَقَعُ غَالِبًا فِيمَا يُرَادُ بِهِ الْمَدْحُ أَوْ الذّمّ نَحْوَ حَسُنَ
وَقَبُحَ كَمَا قَالَ وَحُسْنَ ذَا أَدَبًا . أَيْ حَسُنَ ذَا أَدَبًا ، وَجَائِزٌ
أَنْ يُرَادَ بِالسّمْرِ هَهُنَا جَمْعُ : أَسْمَرَ وَسَمْرَاءَ وَيَكُونُ وَصْفًا
لِلنّبَاتِ وَالشّجَرِ كَمَا يُوصَفُ بِالدّهْمَةِ إذَا كَانَ مُخَضّرًا ، وَفِي
التّنْزِيلِ مُدْهَامّتَانِ [ الرّحْمَنِ 64 ] أَيْ خَضْرَاوَانِ إلَى السّوَادِ .
[ ص 23 ] وَشِبْرِقَهُ . وَهُوَ نَبَاتٌ يُقَالُ لِيَابِسِهِ الْحَلِيّ ،
وَالرّطْبَةِ : الشّبْرِقُ .
[
ص 24 ] [ ص 25 ]
يُطَاعُ بِنَا أَمْرُ الْعِدَا وَدّ أَنّنَا ... تُسَدّ بِنَا أَبْوَابُ تُرْكٍ
وَكَابُلِ
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللّهِ نَتْرُكُ مَكّةَ ... وَنَظْعَنُ إلّا أَمْرُكُمْ فِي
بَلَابِلِ
كَذَبْتُمْ - وَبَيْتِ اللّهِ - نُبْزَى مُحَمّدًا ... وَلَمّا نُطَاعِنْ دُونَهُ
وَنُنَاضِلْ
وَنُسْلِمُهُ حَتّى نُصْرَعَ حَوْلَهُ ... وَنَذْهَلُ عَنْ أَبْنَائِنَا
وَالْحَلَائِلِ
وَيَنْهَضُ قَوْمٌ فِي الْحَدِيدِ إلَيْكُمْ ... نُهُوضَ الرّوَايَا تَحْتَ ذَاتِ
الصّلَاصِلِ
وَحَتّى تَرَى ذَا الضّغْنِ يَرْكَبُ رَدْعَهُ ... مِنْ الطّعْنِ فِعْلَ
الْأَنْكَبِ الْمُتَحَامِلِ
وَإِنّا - لَعَمْرُ اللّهِ - إنْ جَدّ مَا أَرَى ... لَتَلْتَبِسَن أَسْيَافُنَا بِالْأَمَاثِلِ
بِكَفّيْ فَتًى مِثْلَ الشّهَابِ سَمَيْدَعٍ ... أَخِي ثِقَةٍ حَامِي الْحَقِيقَةِ
بَاسِلِ
شُهُورًا وَأَيّامًا وَحَوْلًا مُجَرّمًا ... عَلَيْنَا وَتَأْتِي حِجّةٌ بَعْدَ
قَابِلِ
وَمَا تَرْكُ قَوْمٍ - لَا أَبَا لَك - سَيّدًا ... يَحُوطُ الذّمَارَ غَيْرَ
ذَرْبٍ مُوَاكِلِ
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... ثِمَالَ الْيَتَامَى عِصْمَةً
لِلْأَرَامِلِ
يَلُوذُ بِهِ الْهُلّاكُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ ... فَهُمْ عِنْدَهُ فِي رَحْمَةٍ
وَفَوَاضِلِ
لَعَمْرِي لَقَدْ أَجْرَى أَسِيدٌ وَبِكْرُهُ ... إلَى بُغْضِنَا وَجَزّآنَا
لِآكِلِ
وَعُثْمَانُ لَمْ يَرْبَعْ عَلَيْنَا وَقُنْفُذٌ ... وَلَكِنْ أَطَاعَا أَمْرَ
تِلْكَ الْقَبَائِلِ
أَطَاعَا أُبَيّا ، وَابْنَ عَبْدِ يَغُثْهُمْ ... وَلَمْ يَرْقُبَا فِينَا
مَقَالَةَ قَائِلِ
كَمَا قَدْ لَقِينَا مِنْ سُبَيْعٍ وَنَوْفَلٍ ... وَكُلّ تَوَلّى مُعْرِضًا لَمْ
يُجَامِلْ
فَإِنْ يُلْفَيَا ، أَوْ يُمْكِنُ اللّهُ مِنْهُمَا ... نَكِلْ لَهُمَا صَاعًا
بِصَاعِ الْمُكَايِلِ
وَذَاكَ أَبُو عَمْرٍو أَبَى غَيْرَ بُغْضِنَا ... لِيُظْعِنَنَا فِي أَهْلِ شَاءٍ
وَجَامِلِ
يُنَاجِي بِنَا فِي كُلّ مُمْسًى وَمُصْبَحٍ ... فَنَاجَ أَبَا عَمْرٍ بِنَا ثُمّ
خَاتِلِ
وَيُؤْلِي لَنَا بِاَللّهِ مَا إنْ يَغُشّنَا ... بَلَى قَدْ تَرَاهُ جَهْرَةً
غَيْرَ حَائِلِ
أَضَاقَ عَلَيْهِ بُغْضُنَا كُلّ تَلْعَةٍ ... مِنْ الْأَرْضِ بَيْنَ أَخْشُبٍ
فَمَجَادِلِSوَقَوْلُهُ
نُبْدِي مُحَمّدًا أَيْ نُسْلَبُهُ وَنُغْلَبُ عَلَيْهِ . وَقَوْلُهُ نُهُوضَ
الرّوَايَا . هِيَ الْإِبِلُ تَحْمِلُ الْمَاءَ وَاحِدَتُهَا : رَاوِيَةٌ
وَالْأَسْقِيَةُ أَيْضًا يُقَالُ لَهَا : رَوَايَا ، وَأَصْلُ هَذَا الْجَمْعِ
رَوَاوِيّ ثُمّ يَصِيرُ فِي الْقِيَاسِ رِوَائِيّ مِثْلَ حَوَائِلَ جَمْعُ :
حَوْلٍ وَلَكِنّهُمْ قَلَبُوا الْكَسْرَةَ فَتْحَةً بَعْدَمَا قَدّمُوا الْيَاءَ
قَبْلَهَا ، وَصَارَ وَزْنُهُ فَوَالِعَ وَإِنّمَا قَلَبُوهُ كَرَاهِيَةَ
اجْتِمَاعِ وَاوَيْنِ وَاوُ فَوَاعِلَ الْوَاوُ الّتِي هِيَ عَيْنُ الْفِعْلِ
وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنّ الْوَاوَ الثّانِيَةَ قِيَاسُهَا أَنْ تَنْقَلِبَ
هَمْزَةً فِي الْجَمْعِ لِوُقُوعِ الْأَلِفِ بَيْنَ وَاوَيْنِ فَلَمّا انْقَلَبَتْ
هَمْزَةً قَلَبُوهَا يَاءً كَمَا فَعَلُوا فِي خَطَايَا وَبَابِهِ مِمّا
الْهَمْزَةُ فِيهِ مُعْتَرِضَةٌ فِي الْجَمْعِ وَالصّلَاصِلُ . الْمَزَادَاتُ
لَهَا صَلْصَلَةٌ بِالْمَاءِ . [ ص 24 ] ذَرِبَ وَالذّرِبُ اللّسَانُ الْفَاحِشُ
الْمَنْطِقُ وَالْمُوَاكِلُ الّذِي لَا جَدّ عِنْدَهُ فَهُوَ يَكِلُ أُمُورَهُ
إلَى غَيْرِهِ . وَفِيهَا قَوْلُهُ ثِمَالَ الْيَتَامَى ، أَيْ يَثْمُلُهُمْ
وَيَقُومُ بِهِمْ يُقَالُ هُوَ ثِمَالُ مَالٍ أَيْ يَقُومُ بِهِ . وَفِيهَا
قَوْلُهُ لِيُظْعِنَنَا فِي أَهْلِ شَاءٍ وَجَامِلِ الشّاءُ وَالشّوِيّ : اسْمٌ
لِلْجَمْعِ مِثْلُ الْبَاقِرِ وَالْبَقِيرِ وَلَا وَاحِدَ لِشَاءِ وَالشّوِيّ مِنْ
لَفْظِهِ وَإِذَا قَالُوا فِي الْوَاحِدِ شَاةٌ فَلَيْسَ مِنْ هَذَا ؛ لِأَنّ
لَامَ الْفِعْلِ فِي شَاةٍ هَاءٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ فِي التّصْغِيرِ شُوَيْهَةٌ
وَفِي الْجَمْعِ شِيَاهٌ وَالْجَامِلُ اسْمُ جَمْعٍ بِمَنْزِلَةِ الْبَاقِرِ .
وَقَوْلُهُ وَكُنْتُمْ زَمَانًا حَطْبَ قِدْرٍ حَطْبٌ اسْمٌ لِلْجَمْعِ مِثْلُ
رَكْبٍ وَلَيْسَ بِجَمْعِ لِأَنّك تَقُولُ فِي تَصْغِيرِهِ حُطَيْبٌ وَرُكَيْبٌ .
وَقَوْلُهُ حِطَابُ أَقْدُرٍ هُوَ جَمْعُ حَاطِبٍ فَلَا يُصَغّرُ إلّا أَنْ
تَرُدّهُ إلَى الْوَاحِدِ فَتَقُولُ حُوَيْطِبُونَ وَمَعْنَى الْبَيْتِ أَيْ
كُنْتُمْ مُتّفِقِينَ لَا تَحْطِبُونَ إلّا لِقِدْرِ وَاحِدَةٍ فَأَنْتُمْ الْآنَ
بِخِلَافِ ذَلِكَ . [ ص 25 ] مِنْ الْأَرْضِ بَيْنَ أَخْشُبٍ فَمَجَادِل ِ أَرَادَ
الْأَخَاشِبَ ، وَهِيَ جِبَالُ مَكّةَ ، وَجَاءَ بِهِ عَلَى أَخْشُبٍ لِأَنّهُ فِي
مَعْنَى أَجْبُلٍ مَعَ أَنّ الِاسْمَ قَدْ يُجْمَعُ عَلَى حَذْفِ الزّوَائِدِ
كَمَا يُصَغّرُونَهُ كَذَلِكَ وَالْمَجَادِلُ جَمْعُ مِجْدَلٍ وَهُوَ الْقَصْرُ
كَأَنّهُ يُرِيدُ مَا بَيْنَ جِبَالِ مَكّةَ ، فَقُصُورُ الشّامِ أَوْ الْعِرَاقِ
، وَالْفَاءُ مِنْ قَوْلِهِ فَمَجَادِلِ تُعْطِي الِاتّصَالَ بِخِلَافِ الْوَاوِ
كَقَوْلِهِ بَيْنَ الدّخُولِ فَحَوْمَلِ وَتَقُولُ مُطِرْنَا بَيْنَ مَكّةَ
فَالْمَدِينَةِ إذَا اتّصَلَ الْمَطَرُ مِنْ هَذَا إلَى هَذِهِ وَلَوْ كَانَتْ
الْوَاوُ لَمْ تُعْطِ هَذَا الْمَعْنَى .
وَسَائِلْ
أَبَا الْوَلِيدِ مَاذَا حَبَوْتنَا ... بِسَعْيِك فِينَا مُعْرِضًا
كَالْمُخَاتِلِ
وَكُنْت امْرِئِ مِمّنْ يُعَاشُ بِرَأْيِهِ ... وَرَحْمَتِهِ فِينَا وَلَسْت
بِجَاهِلِ
فَعُتْبَةُ لَا تَسْمَعْ بِنَا قَوْلَ كَاشِحٍ ... حَسُودٍ كَذُوبٍ مُبْغِضٍ ذِي
دَغَاوِلِ
وَمَرّ أَبُو سُفْيَانَ عَنّي مُعْرِضًا ... كَمَا مَرّ قَيْلٌ مِنْ عِظَامِ
الْمَقَاوِلِ
يَفِرّ إلَى نَجْدٍ وَبَرْدِ مِيَاهِهِ ... وَيَزْعُمُ أَنّي لَسْت عَنْكُمْ
بِغَافِلِ
وَيُخْبِرُنَا فِعْلَ الْمُنَاصِحِ أَنّهُ ... شَفِيقٌ وَيُخْفِي عَارِمَاتِ
الدّوَاخِلِ
أَمُطْعِمُ لَمْ أَخْذُلْك فِي يَوْمِ بَحْدَةٍ ... وَلَا مُعْظِمٌ عِنْدَ
الْأُمُورِ الْجَلَائِلِ
وَلَا يَوْمَ خَصْمٍ إذْ أَتَوْك أَلِدّةً ... أُولِي جَدَلٍ مِنْ الْخُصُومِ
الْمَسَاجِلِ
أَمُطْعِمُ إنّ الْقَوْمَ سَامُوك خُطّةً ... وَإِنّي مَتَى أُوكَلْ فَلَسْت بِوَائِلِSوَقَوْلُهُ
أُولِي جَدَلٍ مِنْ الْخُصُومِ الْمَسَاجِلِ
يُرْوَى بِالْجِيمِ وَبِالْحَاءِ فَمَنْ رَوَاهُ بِالْجِيمِ فَهُوَ مِنْ
الْمُسَاجَلَةِ فِي الْقَوْلِ وَأَصْلُهُ فِي اسْتِقَاءِ الْمَاءِ بِالسّجِلّ
وَصَبّهِ فَكَأَنّهُ جَمْعُ مَسَاجِلَ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْأَلِفِ
الزّائِدَةِ مِنْ مَفَاعِلَ أَوْ جَمْعُ مِسْجَلٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَهُوَ مِنْ
نَعْتِ الْخُصُومِ وَمَنْ رَوَاهُ الْمَسَاحِلَ بِالْحَاءِ فَهُوَ جَمْعُ مِسْحَلٍ
وَهُوَ اللّسَانُ وَلَيْسَ بِصِفَةِ لِلْخُصُومِ إنّمَا هُوَ مَخْفُوضٌ بِالْإِضَافَةِ
أَيْ خُصَمَاءُ الْأَلْسِنَةِ وَقَالَ ابْنُ أَحْمَرَ مَنْ خَطِيبٌ إذَا مَا
انْحَلّ مِسْحَلُهُ
أَيْ لِسَانُهُ وَهُوَ أَيْضًا مِنْ السّحْلِ وَهُوَ الصّبّ ، وَمِنْهُ حَدِيثُ
أَيّوبَ حِينَ فُرّجَ عَنْهُ فَجَاءَتْ سَحَابَةٌ فَسَحَلَتْ فِي بَيْدَرِهِ ذَهَبًا
، وَجَاءَتْ أُخْرَى فَسَحَلَتْ فِي الْبَيْدَرِ الْآخَرِ فِضّةً .
[
ص 26 ] [ ص 27 ]
جَزَى اللّهُ عَنّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا ... عُقُوبَةَ شَرّ عَاجِلًا غَيْرَ
آجِلِ
بِمِيزَانِ قِسْطٍ لَا يُخِسّ شَعِيرَةً ... لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ
عَائِلِ
لَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلَامُ قَوْمٍ تَبَدّلُوا ... بَنِي خَلَفٍ قَيْضًا بِنَا
وَالْغَيَاطِلِ
وَنَحْنُ الصّمِيمُ مِنْ ذُؤَابَةِ هَاشِمٍ ... وَآلِ قُصَيّ فِي الْخُطُوبِ
الْأَوَائِلِ
وَسَهْمٌ وَمَخْزُومٌ تَمَالَوْا وَأَلّبُوا ... عَلَيْنَا الْعِدَا مِنْ كُلّ طِمْلٍ
وَخَامِلِ
فَعَبْدَ مَنَافٍ أَنْتُمْ خَيْرُ قَوْمِكُمْ ... فَلَا تُشْرِكُوا فِي أَمْرِكُمْ
كُلّ وَاغِلِ
لَعَمْرِي لَقَدْ وَهَنْتُمْ وَعَجَزْتُمْ ... وَجِئْتُمْ بِأَمْرِ مُخْطِئٍ
لِلْمَفَاصِلِ
وَكُنْتُمْ حَدِيثَا حَطْبَ قِدْرٍ وَأَنْتُمْ ... أَلَانَ حِطَابُ أَقْدُرٍ
وَمَرَاجِلِ
لِيَهْنِئْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ عُقُوقُنَا ... وَخِذْلَانُنَا ، وَتَرْكُنَا فِي
الْمَعَاقِلِ
فَإِنْ نَكُ قَوْمًا نَتّئِرْ مَا صَنَعْتُمْ ... وَتَحْتَلِبُوهَا لِقْحَةً
غَيْرَ بَاهِلِ
وَسَائِطُ كَانَتْ فِي لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ ... نَفَاهُمْ إلَيْنَا كُلّ صَقْرٍ
حُلَاحِلِ
وَرَهْطُ نُفَيْلٍ شَرّ مَنْ وَطِئَ الْحَصَى ... وَأَلَامَ حَافٍ مِنْ مَعَدْ
وَنَاعِلِ
فَأَبْلِغْ قُصَيّا أَنْ سَيُنْشَرُ أَمْرُنَا ... وَبَشّرْ قُصَيّا بَعْدَنَا
بِالتّخَاذُلِ
وَلَوْ طَرَقَتْ لَيْلًا قُصَيّا عَظِيمَةٌ ... إذَا مَا لَجَأْنَا دُونَهُمْ فِي
الْمَدَاخِلِ
وَلَوْ صَدَقُوا ضَرْبًا خِلَالَ بُيُوتِهِمْ ... لَكُنّا أُسًى عِنْدَ النّسَاءِ
الْمَطَافِلِS[ ص 26 ]
لَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلَامُ قَوْمٍ تَبَدّلُوا ... بَنِي خَلَفٍ قَيْضًا بِنَا
وَالْغَيَاطِلِ
قَيْضًا أَيْ مُعَاوَضَةً وَمِنْهُ قَوْلُ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ لِذِي
الْجَوْشَنِ إنْ شِئْت قَايَضْتُك بِهِ الْمُخْتَارَ مِنْ دُرُوعِ بَدْرٍ فَقَالَ
مَا كُنْت لِأَقِيضَهُ الْيَوْمَ الْيَوْمَ بِشَيْءِ يَعْنِي : فَرَسًا لَهُ
يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْقَرْحَاءِ . وَقَالَ أَبُو الشّيصِ
لَا تُنْكِرِي صَدّي وَلَا إعْرَاضِي ... لَيْسَ الْمُقِلّ عَنْ الزّمَانِ بِرَاضِ
بُدّلَتْ مِنْ بُرْدِ الشّبَابِ مُلَاءَةً ... خَلَقًا ، وَبِئْسَ مَثُوبَةُ
الْمُقْتَاضِ
وَالْغَيَاطِلُ : بَنُو سَهْمٍ ، لِأَنّ أُمّهُمْ الْغَيْطَلَةُ وَقَدْ تَقَدّمَ
نَسَبُهَا ، وَقِيلَ إنّ بَنِي سَهْمٍ سُمّوا بِالْغَيَاطِلِ لِأَنّ رَجُلًا
مِنْهُمْ قَتَلَ جَانّا طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا ، ثُمّ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ
فَقَتَلَهُ فَأَظْلَمَتْ مَكّةُ ، حَتّى فَزِعُوا مِنْ شِدّةِ الظّلْمَةِ الّتِي
أَصَابَتْهُمْ وَالْغَيْطَلَةُ الظّلْمَةُ الشّدِيدَةُ وَالْغَيْطَلَةُ أَيْضًا :
الشّجَرُ الْمُلْتَفّ ، وَالْغَيْطَلَةُ اخْتِلَاطُ الْأَصْوَاتِ وَالْغَيْطَلَةُ
الْبَقَرَةُ الْوَحْشِيّةُ وَالْغَيْطَلَةُ غَلَبَةُ النّعَاسِ وَقَوْلُهُ يُخِسّ
شَعِيرَةً أَيْ يُنْقِصُ وَالْخَسِيسُ النّاقِصُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ وَيُرْوَى فِي
غَيْرِ السّيرَةِ يَحُصّ بِالصّادِ وَالْحَاءِ مُهْمَلَةً مِنْ حَصّ الشّعْرَ إذَا
أَذْهَبَهُ . وَقَوْلُهُ مِنْ كُلّ طِمْلٍ وَخَامِلِ الطّمْلُ اللّصّ ، كَذَا
وَجَدْته فِي كِتَابِ أَبِي بَحْرٍ وَفِي الْعَيْنِ الطّمْلُ الرّجُلُ الْفَاحِشُ
وَالطّمْلُ وَالطّمْلَالُ الْفَقِيرُ وَالطّمْلُ الذّئْبُ . وَقَوْلُهُ لِقْحَةٌ
غَيْرَ بَاهِلِ الْبَاهِلُ النّاقَةُ الّتِي لَا صِرَارَ عَلَى أَخْلَافِهَا ،
فَهِيَ مُبَاحَةُ الْحَلْبِ يُقَالُ نَاقَةٌ مَصْرُورَةٌ إذَا كَانَ عَلَى
خَلْفِهَا صِرَارٌ يَمْنَعُ الْفَصِيلَ مِنْ أَنْ يَرْضَعَ وَلَيْسَتْ
الْمُصَرّاةُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى ، إنّمَا هِيَ الّتِي جُمِعَ لَبَنُهَا فِي
ضَرْعِهَا ، فَهُوَ مِنْ الْمَاءِ الصّرَى ، وَقَدْ غَلِطَ أَبُو عَلِيّ [ ص 27 ]
فَجَعَلَ الْمُصَرّاةَ بِمَعْنَى الْمَصْرُورَةِ وَلَهُ وَجْهٌ بَعِيدٌ وَذَلِكَ
أَنْ يَخْتَبِئَ لَهُ بِقَلْبِ إحْدَى الرّاءَيْنِ يَاءً مِثْلَ قَصَيْتُ
أَظْفَارِي ، غَيْرَ أَنّهُ بَعِيدٌ فِي الْمَعْنَى ، وَقَالَتْ امْرَأَةُ
الْمُغِيرَةِ تُعَاتِبُ زَوْجَهَا ، وَتَذْكُرُ أَنّهَا جَاءَتْهُ كَالنّاقَةِ الْبَاهِلَةِ
الّتِي لَا صِرَارَ عَلَى أَخْلَافِهَا : أَطْعَمْتُك مَأْدُومِي وَأَبْثَثْتُكَ
مَكْتُومِي ، وَجِئْتُك بَاهِلًا غَيْرَ ذَاتِ صِرَارٍ ، وَفِي الْحَدِيثِ لَا
تُورَدُ الْإِبِلُ بُهْلًا [ أَوْ بُهّلًا ] ، فَإِنّ الشّيَاطِينَ تَرْضَعُهَا ،
أَيْ لَا أَصِرّةَ عَلَيْهَا .
فَكُلّ
صَدِيقٍ وَابْنِ أُخْتٍ نَعُدّهُ ... لَعَمْرِي - وَجَدْنَا غِبّهُ غَيْرَ طَائِلِ
سِوَى أَنّ رَهْطًا مِنْ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ ... بَرَاءٌ إلَيْنَا مِنْ مَعَقّةِ
خَاذِلِ
وَهَنّا لَهُمْ حَتّى تَبَدّدَ جَمْعُهُمْ ... وَيَحْسُرَ عَنّا كُلّ بَاغٍ
وَجَاهِلِ
وَكَانَ لَنَا حَوْضُ السّقَايَةِ فِيهُمُ ... وَنَحْنُ الْكُدَى مِنْ غَالِبٍ
وَالْكَوَاهِلِ
شَبَابٌ مِنْ الْمُطَيّبِينَ وَهَاشِمِ ... كَبِيضِ السّيُوفِ بَيْنَ أَيْدِي
الصّيَاقِلِ
فَمَا أَدْرَكُوا ذَحْلًا وَلَا سَفَكُوا دَمًا ... وَلَا حَالَفُوا إلّا شَرّ
الْقَبَائِلِ
بِضَرْبِ تَرَى الْفِتْيَانَ فِيهِ ... كَأَنّهُمْ ضَوَارِي أُسُودٍ فَوْقَ لَحْمٍ
خَرَادِلِ
بَنِي أُمّةٍ مَحْبُوبَةٍ هِنْدِكيّة ... بَنِي جُمَحَ عُبَيْدِ قَيْسِ بْنِ
عَاقِلِ
وَلَكِنّنَا نَسْلٌ كِرَامٌ لِسَادَةِ ... بِهِمْ نُعِيَ الْأَقْوَامُ عِنْدَ
الْبَوَاطِلِ
وَنِعْمَ ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ غَيْرَ مُكَذّبٍ ... زُهَيْرٌ حُسَامًا مُفْرَدًا
مِنْ حَمَائِلِ
أَشَمّ مِنْ الشّمّ الْبَهَالِيلِ يَنْتَمِي ... إلَى حَسَبٍ فِي حَوْمَةِ
الْمَجْدِ فَاضِلِ
لَعَمْرِي لَقَدْ كَلِفْت وَجْدًا بِأَحْمَدَ ... وَإِخْوَتِهِ دَأْبَ الْمُحِبّ
الْمُوَاصِلِ
فَلَا زَالَ فِي الدّنْيَا جَمَالًا لِأَهْلِهَا ... وَزَيْنًا لِمَنْ وَالَاهُ
رَبّ الْمَشَاكِلِ
فَمَنْ مِثْلُهُ فِي النّاسِ أَيّ مُؤَمّلٍ ... إذَا قَاسَهُ الْحُكّامُ عِنْدَ
التّفَاضُلِ
حَلِيمٌ رَشِيدٌ عَادِلٌ غَيْرُ طَائِشِ ... يُوَالِي إلَهًا لَيْسَ عَنْهُ
بِغَافِلِ
فَوَاَللّهِ لَوْلَا أَنْ أَجِيءَ بِسُبّةِ ... تُجَرّ عَلَى أَشْيَاخِنَا فِي
الْمَحَافِلِ
لَكُنّا اتّبَعْنَاهُ عَلَى كُلّ حَالَةٍ ... مِنْ الدّهْرِ جِدّا غَيْرَ قَوْلِ
التّهَازُلِ
لَقَدْ عَلِمُوا أَنّ ابْنَنَا لَا مُكَذّبٌ ... لَدَيْنَا ، وَلَا يُعْنَى
بِقَوْلِ الْأَبَاطِلِ
فَأَصْبَحَ فِينَا أَحْمَدُ فِي أَرُومَةٍ ... تُقَصّرُ عَنْهُ سَوْرَةُ
الْمُتَطَاوِلِ
حَدِبْت بِنَفْسِي دُونَهُ وَحَمَيْته ... وَدَافَعْت عَنْهُ بِالذّرَا
وَالْكَلَاكِلِ
فَأَيّدَهُ رَبّ الْعِبَادِ بِنَصْرِهِ ... وَأَظْهَرَ دِينًا حَقّهُ غَيْرُ
بَاطِلِ
رِجَالٌ كِرَامٌ غَيْرُ مِيلٍ نَمَاهُمْ ... إلَى الْخَيْرِ آبَاءٌ كِرَامُ
الْمَحَاصِلِ
فَإِنْ تَكُ كَعْبٌ مِنْ لُؤَيّ صُقَيْبةً ... فَلَا بُدّ يَوْمًا مَرّةً مِنْ
تَزَايُلِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هَذَا مَا صَحّ لِي مِنْ هَذِهِ الْقَصِيدَةِ وَبَعْضُ
أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشّعْرِ يُنْكِرُ أَكْثَرَهَا .Sوَفِيهَا
قَوْلُهُ بِرَاءٍ إلَيْنَا مِنْ مَعْقَةِ خَاذِلِ
يُقَالُ قَوْمٌ بُرَاءٌ [ بِالضّمّ ] وَبَرَاءٌ بِالْفَتْحِ وَبِرَاءٌ بِالْكَسْرِ
فَأَمّا بِرَاءٌ بِالْكَسْرِ فَجَمْعُ بَرِيءٍ مِثْلَ كَرِيمٍ وَكِرَامٍ وَأَمّا
بَرَاءٌ فَمَصْدَرٌ مِثْلَ سَلَامٍ وَالْهَمْزَةُ فِيهِ وَفِي الّذِي قَبْلَهُ
لَامُ الْفِعْلِ وَيُقَالُ رَجُلٌ بَرَاءٌ وَرَجُلَانِ بَرَاءٌ وَإِذَا كَسَرْتهَا
أَوْ ضَمَمْتهَا لَمْ يَجُزْ إلّا فِي الْجَمْعِ وَأَمّا بُرَاءٌ بِضَمّ الْبَاءِ
فَالْأَصْلُ فِيهِ بُرَآءُ مِثْلَ كُرَمَاءُ فَاسْتَثْقَلُوا اجْتِمَاعَ
الْهَمْزَتَيْنِ فَحَذَفُوا الْأُولَى ، وَكَانَ وَزْنُهُ فُعَلَاءَ فَلَمّا
حَذَفُوا الّتِي هِيَ لَامُ الْفِعْلِ صَارَ وَزْنُهُ فُعَاءَ وَانْصَرَفَ
لِأَنّهُ أَشْبَهَ فُعَالًا ، [ ص 28 ] بُرَاوِيّ ، وَالنّسَبُ إلَى الْآخَرَيْنِ
بَرَائِيّ وَبِرَائِيّ ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنّ بُرَاءَ بِضَمّ أَوّلِهِ
مِنْ الْجَمْعِ الّذِي جَاءَ عَلَى فُعَالٍ وَهِيَ ثَمَانِيَةُ أَلْفَاظٍ فَرِيرٌ
وَفُرَارٌ وَعَرْنُ وَعُرّانُ وَلَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا ، وَقَالَ النّحّاسُ
بُرَاءُ بِضَمّ الْبَاءِ .
قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : وَحَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ قَالَ أُقْحِطَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ
، فَأَتَوْا رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَشَكَوْا ذَلِكَ
إلَيْهِ فَصَعِدَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمِنْبَرَ
فَاسْتَسْقَى ، فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ مِنْ الْمَطَرِ مَا أَتَاهُ أَهْلُ
الضّوَاحِي يَشْكُونَ مِنْهُ الْغَرَقَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ اللّهُمّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا ، فَانْجَابَ السّحَابُ
عَنْ الْمَدِينَةِ ، فَصَارَ حَوَالَيْهَا كَالْإِكْلِيلِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلّمَ . لَوْ أَدْرَكَ أَبُو طَالِبٍ هَذَا
الْيَوْمَ لَسَرّهُ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ كَأَنّك يَا رَسُولَ اللّهِ
أَرَدْت قَوْلَهُ
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... ثِمَالَ الْيَتَامَى عِصْمَةً
لِلْأَرَامِلِ
قَالَ أَجَلْ [ ص 30 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَقَوْلُهُ " وَشِبْرِقَهُ
" عَنْ غَيْرِ ابْنِ إسْحَاقَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَالْغَيَاطِلُ :
مِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصٍ ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبِ
بْنِ أُمَيّةَ . وَمُطْعِمُ بْنُ عَدِيّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ .
وَزُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ
بْنِ مَخْزُومٍ ، وَأُمّهُ عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ . قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : وَأَسِيدٌ وَبِكْرُهُ عَتّابُ بْنُ أَسِيدِ بْنِ أَبِي الْعِيصِ بْنِ
أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ . وَعُثْمَانُ بْنُ
عُبَيْدِ اللّهِ : أَخُو طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ التّيْمِيّ . وَقُنْفُذُ
بْنُ عُمَيْرِ بْنِ جُدْعَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ
بْنِ مُرّةَ . وَأَبُو الْوَلِيدِ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ . وَأُبَيّ :
الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ الثّقَفِيّ ، حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَإِنّمَا سُمّيَ الْأَخْنَسُ لِأَنّهُ خَنَسَ بِالْقَوْمِ
يَوْمَ بَدْرٍ وَإِنّمَا اسْمُهُ أُبَيّ ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عِلَاجٍ وَهُوَ
عِلَاجُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُقْبَةَ . وَالْأَسْوَدُ بْنُ
عَبْدِ يَغُوثَ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ .
وَسُبَيْعُ بْنُ خَالِدٍ ، أَبُو بَلْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ . وَنَوْفَلُ بْنِ
خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ ، وَهُوَ ابْنُ
الْعَدَوِيّةِ . وَكَانَ مِنْ [ ص 31 ] شَيَاطِينِ قُرَيْشٍ ، وَهُوَ الّذِي
قَرَنَ بَيْنَ أَبِي بَكْرِ الصّدّيقِ وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُمَا فِي حَبْلٍ حِينَ أَسْلَمَا ، فَبِذَلِكَ كَانَا يُسَمّيَانِ
الْقَرِينَيْنِ فَقَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ يَوْمَ
بَدْرٍ . وَأَبُو عَمْرٍو : قُرَظَةُ بْنُ عَبْدِ عَمْرِو بْنِ نَوْفَلِ بْنِ
عَبْدِ مَنَافٍ " وَقَوْمٍ عَلَيْنَا أَظِنّةً " : بَنُو بَكْرِ بْنُ
عَبْدِ مَنَاةَ بِنْتِ كِنَانَةَ فَهَؤُلَاءِ الّذِينَ عَدّدَ أَبُو طَالِبٍ فِي
شِعْرِهِ مِنْ الْعَرَبِ .
ذِكْرُ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَنْتَشِرُ
فَلَمّا انْتَشَرَ أَمْرُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي
الْعَرَبِ ، وَبَلَغَ الْبُلْدَانَ ذُكِرَ بِالْمَدِينَةِ وَلَمْ يَكُنْ حَيّ مِنْ
الْعَرَبِ أَعْلَمُ بِأَمْرِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
حِينَ ذُكِرَ وَقَبْلَ أَنْ يُذْكَرَ مِنْ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَوْسِ
وَالْخَزْرَجِ ، وَذَلِكَ لَمّا كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ ،
وَكَانُوا لَهُمْ حُلَفَاءَ وَمَعَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ . فَلَمّا وَقَعَ ذِكْرُهُ
بِالْمَدِينَةِ وَتَحَدّثُوا بِمَا بَيْنَ قُرَيْشٍ فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ .
قَالَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ أَخُو بَنِي وَاقِفٍ .Sالِاسْتِسْقَاءُ
[ ص 29 ] وَذَكَرَ حَدِيثَ اسْتِسْقَاءِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - بِالْمَدِينَةِ ، وَهُوَ حَدِيثٌ مَرْوِيّ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ
وَبِأَلْفَاظِ مُخْتَلِفَةٍ . وَقَوْلُهُ حَتّى أَتَاهُ أَهْلُ الضّوَاحِي
يَشْكُونَ الْغَرَقَ . الضّوَاحِي : جَمْعُ ضَاحِيَةٍ وَهِيَ الْأَرْضُ الْبَرَازُ
الّتِي لَيْسَ فِيهَا مَا يُكِنّ مِنْ الْمَطَرِ وَلَا مَنْجَاةٌ مِنْ السّيُولِ
وَقِيلَ ضَاحِيَةُ كُلّ بَلَدٍ خَارِجُهُ . وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ
اللّهُمّ حَوَالَيْنَا ، وَلَا عَلَيْنَا كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ اللّهُمّ
مَنَابِتَ الشّجَرِ وَبُطُونَ الْأَوْدِيَةِ وَظُهُورَ الْآكَامِ فَلَمْ يَقُلْ اللّهُمّ
ارْفَعْهُ عَنّا - هُوَ مِنْ حُسْنِ الْأَدَبِ فِي الدّعَاءِ لِأَنّهَا رَحْمَةُ
اللّهِ وَنِعْمَتُهُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْهُ فَكَيْفَ يُطْلَبُ مِنْهُ رَفْعُ
نِعْمَتِهِ وَكَشْفُ رَحْمَتِهِ وَإِنّمَا يُسْأَلُ سُبْحَانَهُ كَشْفَ الْبَلَاءِ
وَالْمَزِيدَ مِنْ النّعْمَاءِ فَفِيهِ تَعْلِيمُ كَيْفِيّةِ الِاسْتِسْقَاءِ .
وَقَالَ اللّهُمّ مَنَابِتَ الشّجَرِ وَلَمْ يَقُلْ اصْرِفْهَا إلَى مَنَابِتِ
الشّجَرِ لِأَنّ الرّبّ تَعَالَى أَعْلَمُ بِوَجْهِ اللّطْفِ وَطَرِيقُ
الْمَصْلَحَةِ كَانَ ذَلِكَ بِمَطَرِ أَوْ بِنَدَى أَوْ طَلّ أَوْ كَيْفَ شَاءَ
وَكَذَلِكَ بُطُونُ الْأَوْدِيَةِ وَالْقَدْرُ الّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ
مَائِهَا . فَصْلٌ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ قَالَ أَبُو طَالِبٍ وَأَبْيَضَ
يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ
[ ص 30 ] قَطّ اسْتَسْقَى ، وَإِنّمَا كَانَتْ اسْتِسْقَاءَاتُهُ عَلَيْهِ
السّلَامُ بِالْمَدِينَةِ فِي سَفَرٍ وَحَضَرٍ وَفِيهَا شُوهِدَ مَا كَانَ مِنْ
سُرْعَةِ إجَابَةِ اللّهِ لَهُ . فَالْجَوَابُ أَنّ أَبَا طَالِبٍ قَدْ شَاهَدَ
مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا فِي حَيَاةِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ مَا دَلّهُ عَلَى مَا قَالَ
رَوَى أَبُو سَلْمَانَ حَمَدُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ [ بْنِ الْخَطّابِ
الْخَطّابِيّ ] الْبُسْتِيّ النّيْسَابُورِيّ ، أَنّ رَقِيقَةَ بِنْتَ أَبِي
صَيْفِيّ بْنِ هَاشِمٍ قَالَتْ تَتَابَعَتْ عَلَى قُرَيْشٍ سُنُو جَدْبٍ قَدْ
أَقْحَلَتْ الظّلْفَ وَأَرّقَتْ الْعَظْمَ فَبَيْنَا أَنَا رَاقِدَةٌ اللّهُمّ
أَوْ مُهَدّمَةٌ وَمَعِي صِنْوَى إذْ أَنَا بِهَاتِفِ صَيّتٍ يَصْرُخُ بِصَوْتِ
صَحِلٍ يَقُولُ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إنّ هَذَا النّبِيّ الْمَبْعُوثَ مَعَكُمْ
هَذَا إبّانُ نُجُومِهِ فَحَيّ هَلًا بِالْحَيَا وَالْخِصْبِ أَلَا فَانْظُرُوا
مِنْكُمْ رَجُلًا طُوّالًا عُظّامًا أَبْيَضَ فَظّا ، أَشَمّ الْعِرْنِينَ لَهُ
فَخْرٌ يَكْظِمُ عَلَيْهِ . أَلَا فَلْيَخْلُصْ هُوَ وَوَلَدُهُ وَلْيَدْلِفْ
إلَيْهِ مِنْ كُلّ بَطْنٍ رَجُلٌ أَلَا فَلْيَشُنّوا مِنْ الْمَاءِ وَلِيَمَسّوا
مِنْ الطّيبِ وَلْيَطُوفُوا بِالْبَيْتِ سَبْعًا ، أَلَا وَفِيهِمْ الطّيبُ
الطّاهِرُ لِذَاتِهِ أَلَا فَلْيَدْعُ الرّجُلُ وَلْيُؤَمّنْ الْقَوْمُ أَلَا
فَغِثْتُمْ أَبَدًا مَا عِشْتُمْ . قَالَتْ فَأَصْبَحْت مَذْعُورَةً قَدْ قَفّ
جِلْدِي ، وَوَلِهَ عَقْلِي ، فَاقْتَصَصْت رُؤْيَايَ فَوَالْحُرْمَةِ وَالْحَرَمِ
إنْ بَقِيَ أَبْطَحِيّ إلّا قَالَ هَذَا شَيْبَةُ الْحَمْدِ وَتَتَامّتْ عِنْدَهُ
قُرَيْشٌ ، وَانْفَضّ إلَيْهِ النّاسُ مِنْ كُلّ بَطْنٍ رَجُلٌ فَشَنّوا وَمَسّوا
وَاسْتَلَمُوا وَاطّوَفّوا ، ثُمّ ارْتَقَوْا أَبَا قُبَيْسٍ وَطَفِقَ الْقَوْمُ
يَدِفّونَ [ ص 31 ] قَرّوا بِذَرْوَةِ الْجَبَلِ وَاسْتَكَفّوْا جَنَابَيْهِ
فَقَامَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ ، فَاعْتَضَدَ ابْنَ ابْنِهِ مُحَمّدًا - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَرَفَعَهُ عَلَى عَاتِقِهِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ قَدْ
أَيْفَعَ أَوْ قَدْ كَرَبَ ثُمّ قَالَ اللّهُمّ سَادّ الْخَلّةِ وَكَاشِفَ
الْكُرْبَةِ أَنْتَ عَالِمٌ غَيْرُ مُعَلّمٍ وَمَسْئُولٌ غَيْرُ مُبَخّلٍ وَهَذِهِ
عِبِدّاؤُكَ وَإِمَاؤُك بِعَذِرَاتِ حَرَمِك يَشْكُونَ إلَيْك سَنَتَهُمْ
فَاسْمَعْنَ اللّهُمّ وَأَمْطِرْنَ عَلَيْنَا غَيْثًا مَرِيعًا مُغْدِقًا ، فَمَا
رَامُوا وَالْبَيْتِ حَتّى انْفَجَرَتْ السّمَاءُ بِمَائِهَا ، وَكَظّ الْوَادِي
بِثَجِيجِهِ . رَوَاهُ أَبُو سُلَيْمَانَ عَنْ ابْنِ الْأَعْرَابِيّ . قَالَ
حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَلِيّ بْنِ الْبَخْتَرِيّ ، نا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدِ
بْنِ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ
عَوْفٍ ، نا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عِمْرَانَ عَنْ ابْنِ حُوَيّصَةَ قَالَ
يُحَدّثُ مَخْرَمَةُ بْنُ نُفَيْلٍ عَنْ أُمّهِ رَقِيقَةَ بِنْتِ أَبِي صَيْفِيّ .
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَرَوَاهُ بِإِسْنَادِ آخَرَ إلَى رَقِيقَةَ وَفِيهِ أَلَا
فَانْظُرُوا مِنْكُمْ رَجُلًا وَسِيطًا عُظَامًا جُسَامًا أَوْطَفُ الْأَهْدَابِ
وَأَنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ قَامَ وَمَعَهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - قَدْ أَيْفَعَ أَوْ كَرَبَ وَذَكَرَ الْقِصّةَ .
أَبُو
قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ وَنَسَبُهُ وَشِعْرُهُ فِي الرّسُولِ " صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ "
[ ص 32 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : نَسَبَ ابْنُ إسْحَاقَ أَبَا قَيْسٍ هَذَا هَهُنَا
إلَى بَنِي وَاقِفٍ وَنَسَبَهُ فِي حَدِيثِ الْفِيلِ إلَى خَطْمَةَ لِأَنّ
الْعَرَبَ قَدْ تَنْسُبُ الرّجُلَ إلَى أَخِي جَدّهِ الّذِي هُوَ أَشْهُرُ مَعَهُ
. قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ أَنّ الْحَكَمَ بْنَ عَمْرٍو
الْغِفَارِيّ مِنْ وَلَدِ نُعَيْلَةَ أَخِي غِفَارٍ ، وَهُوَ غِفَارُ بْنُ مُلَيْلٍ
وَنُعَيْلَةُ بْنُ مُلَيْلِ بْنِ ضَمْرَةَ بْنِ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ وَقَدْ
قَالُوا : عُتْبَةَ بْنَ غَزْوَانَ السّلَمِيّ وَهُوَ مِنْ وَلَدِ مَازِنِ بْنِ
مَنْصُورٍ وَسُلَيْمِ بْنِ مَنْصُورٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : فَأَبُو قَيْسِ بْنُ
الْأَسْلَتِ مِنْ بَنِي وَائِلٍ وَوَائِلٌ وَوَاقِفٌ وخَطْمَةُ إخْوَةٌ مِنْ
الْأَوْسِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَقَالَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ -
وَكَانَ يُحِبّ قُرَيْشًا ، وَكَانَ لَهُمْ صِهْرًا ، كَانَتْ عِنْدَهُ أَرْنَبُ
بِنْتُ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ ، وَكَانَ يُقِيمُ عِنْدَهُمْ
السّنِينَ بِامْرَأَتِهِ - قَصِيدَةً يُعَظّمُ فِيهَا الْحُرْمَةَ وَيَنْهَى
قُرَيْشًا فِيهَا عَنْ الْحَرْبِ وَيَأْمُرُهُمْ بِالْكَفّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ
وَيَذْكُرُ فَضْلَهُمْ وَأَحْلَامَهُمْ وَيَأْمُرُهُمْ بِالْكَفّ عَنْ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَيُذَكّرُهُمْ بَلَاءَ اللّهِ عِنْدَهُمْ
وَدَفْعَهُ عَنْهُمْ الْفِيلَ وَكَيْدَهُ عَنْهُمْ فَقَالَ [ ص 33 ] [ ص 34 ] [ ص
35 ] [ ص 36 ]
يَا رَاكِبًا إمّا عَرَضْت فَبَلّغَنْ ... مُغَلْغَلَةً عَنّي لُؤَيّ بْنَ غَالِبِ
رَسُولُ امْرِئِ قَدْ رَاعَهُ ذَاتُ بَيْنِكُمْ ... عَلَى النّأْيِ مَحْزُونٌ
بِذَلِكَ نَاصِبِ
وَقَدْ كَانَ عِنْدِي لِلْهُمُومِ مُعَرّسٌ ... فَلَمْ أَقْضِ مِنْهَا حَاجَتِي
وَمَآرِبِي
نُبَيّتُكُمْ شَرْجَيْنِ كُلّ قَبِيلَةٍ ... لَهَا أَزْمَلٌ مِنْ بَيْنِ مُذْكٍ
وَحَاطِبِ
أُعِيذُكُمْ بِاَللّهِ مِنْ شَرّ صُنْعِكُمْ ... وَشَرّ تَبَاغِيكُمْ وَدَسّ
الْعَقَارِبِ
وَإِظْهَارِ أَخْلَاقٍ وَنَجْوَى سَقِيمَةٍ ... كَوَخْزِ الْأَشَافِي وَقْعُهَا
حَقّ صَائِبِ
فَذَكّرْهُمْ بِاَللّهِ أَوّلَ وَهْلَةٍ ... وَإِحْلَالِ أَحْرَامِ الظّبَاءِ
الشّوَازِبِ
وَقُلْ لَهُمْ وَاَللّهُ يَحْكُمُ حُكْمَهُ ... ذَرُوا الْحَرْبَ تَذْهَبُ
عَنْكُمْ فِي الْمَرَاحِبِ
مَتَى تَبْعَثُوهَا ، تَبْعَثُوهَا ذَمِيمَةً ... هِيَ الْغُولُ لِلْأَقْصَيْنَ
أَوْ لِلْأَقَارِبِ
تُقَطّعُ أَرْحَامًا ، وَتُهْلِكُ أُمّةً ... وَتَبْرِي السّدِيفَ مِنْ سَنَامٍ
وَغَارِبِ
وَتَسْتَبْدِلُوا بِالْأَتْحَمِيّةِ بَعْدَهَا ... شَلِيلًا وَأَصْدَاءً ثِيَابَ
الْمُحَارِبِ
وَبِالْمِسْكِ وَالْكَافُورِ غُبْرًا سَوَابِغًا ... كَأَنّ قَتِيرَيْهَا عُيُونُ
الْجَنَادِبِ
فَإِيّاكُمْ وَالْحَرْبَ لَا تَعْلَقَنكُمْ ... وَحَوْضًا وَخِيمَ الْمَاءِ مُرّ
الْمَشَارِبِ
تَزَيّنُ لِلْأَقْوَامِ ثُمّ يَرَوْنَهَا ... بِعَاقِبَةِ إذْ بَيّنَتْ أُمّ
صَاحِبِ
تُحَرّقُ لَا تُشْوِي ضَعِيفًا ، وَتَنْتَحِي ... ذَوِي الْعِزّ مِنْكُمْ
بِالْحُتُوفِ الصّوَائِبِ
أَلَمْ تَعْلَمُوا مَا كَانَ فِي حَرْبِ دَاحِسٍ ... فَتَعْتَبِرُوا أَوْ كَانَ
فِي حَرْبِ حَاطِبِ
وَكَمْ قَدْ أَصَابَتْ مِنْ شَرِيفٍ مُسَوّدٍ ... طَوِيلِ الْعِمَادِ ضَيْفُهُ
غَيْرُ خَائِبِ
عَظِيمِ رَمَادِ النّارِ يُحْمَدُ أَمْرُهُ ... وَذِي شِيمَةٍ مَحْضٍ كَرِيمِ
الْمَضَارِبِ
وَمَاءٍ هُرِيقَ فِي الضّلَالِ كَأَنّمَا ... أَذَاعَتْ بِهِ رِيحُ الصّبّا
وَالْجَنَائِبِ
يُخْبِرُكُمْ عَنْهَا امْرُؤُ حَقّ عَالِمٍ ... بِأَيّامِهَا وَالْعِلْمُ عِلْمُ
التّجَارِبِ
فَبِيعُوا الْحِرَابَ مِلْمُحَارِبٍ وَاذْكُرُوا ... حِسَابَكُمْ وَاَللّهُ خَيْرُ
مُحَاسِبِ
وَلِيّ امْرِئِ فَاخْتَارَ دِينًا ، فَلَا يَكُنْ ... عَلَيْكُمْ رَقِيبًا غَيْرَ
رَبّ الثّوَاقِبِ
أَقِيمُوا لَنَا دِينًا حَنِيفًا فَأَنْتُمْ ... لَنَا غَايَةٌ قَدْ يُهْتَدَى
بِالذّوَائِبِ
وَأَنْتُمْ لِهَذَا النّاسِ نُورٌ وَعِصْمَةٌ ... تُؤَمّونَ وَالْأَحْلَامُ غَيْرُ
عَوَازِبِ
وَأَنْتُمْ - إذَا مَا حُصّلَ النّاسُ - جَوْهَرٌ ... لَكُمْ سُرّةُ الْبَطْحَاءِ
شُمّ الْأَرَانِبِ
تَصُونُونَ أَجْسَادًا كِرَامًا عَتِيقَةً ... مُهَذّبَةَ الْأَنْسَابِ غَيْرَ
أَشَائِبِ
يَرَى طَالِبُ الْحَاجَاتِ نَحْوَ بُيُوتِكُمْ ... عَصَائِبَ هَلْكَى تَهْتَدِي
بِعَصَائِبِ
لَقَدْ عَلِمَ الْأَقْوَامُ أَنّ سَرَاتَكُمْ ... عَلَى كُلّ حَالٍ خَيْرُ أَهْلِ
الْجَبَاجِبِ
وَأَفْضَلُهُ رَأْيًا ، وَأَعْلَاهُ سُنّةً ... وَأَقْوَلُهُ لِلْحَقّ وَسَطَ
الْمَوَاكِبِ
فَقُومُوا ، فَصَلّوا رَبّكُمْ وَتَمَسّحُوا ... بِأَرْكَانِ هَذَا الْبَيْتِ
بَيْنَ الْأَخَاشِبِ
فَعِنْدَكُمْ مِنْهُ بَلَاءٌ وَمَصْدَقٌ ... غَدَاةَ أَبَى يَكْسُومُ هَادِي
الْكَتَائِبِ
كَتِيبَتُهُ بِالسّهْلِ تُمْسِي ، وَرِجْلُهُ ... عَلَى الْقَاذِفَاتِ فِي رُءُوسِ
الْمَنَاقِبِ
فَلَمّا أَتَاكُمْ نَصْرُ ذِي الْعَرْشِ رَدّهُمْ ... جُنُودُ الْمَلِيكِ بَيْنَ
سَافٍ وَحَاصِبِ
فَوَلّوْا سِرَاعًا هَارِبِينَ وَلَمْ يَؤُبْ ... إلَى أَهْلِهِ م الْحُبْشِ
غَيْرُ عَصَائِبِ
فَإِنْ تَهْلِكُوا ، نَهْلِكْ وَتَهْلِكْ مَوَاسِمُ ... يُعَاشُ بِهَا ، قَوْلُ
امْرِئِ غَيْرِ كَاذِبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : أَنْشَدَنِي بَيْتَهُ " وَمَاءٍ هُرِيقَ " ،
وَبَيْتَهُ " فَبِيعُوا الْحِرَابَ " ، وَقَوْلَهُ " وَلِيّ
امْرِئِ فَاخْتَارَ " ، وَقَوْلَهُ عَلَى الْقَاذِفَاتِ فِي رُءُوسِ
الْمَنَاقِبِ
أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيّ وَغَيْرُهُ .Sابْنُ
الْأَسْلَتِ وَقَصِيدَتُهُ
[ ص 32 ] وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ كُلّ مَنْ سَمّاهُ أَبُو طَالِبٍ فِي قَصِيدَتِهِ
أَوْ أَشَارَ إلَيْهِ وَعَرّفَ بِهِمْ تَعْرِيفًا مُسْتَغْنِيًا عَنْ الزّيْدِ .
وَذَكَرَ قَصِيدَةَ أَبِي قَيْسٍ صَيْفِيّ بْنِ الْأَسْلَتِ وَاسْمُ الْأَسْلَتِ
عَامِرٌ وَالْأَسْلَتُ هُوَ الشّدِيدُ الْفَطَسُ يُقَالُ سَلَتَ اللّهُ أَنْفَهُ
وَمِنْ السّلْتِ حَدِيثُ بِشْرِ بْنِ عَاصِمٍ حِينَ أَرَادَ عُمَرُ أَنْ
يَسْتَعْمِلَهُ فَلَمّا كَتَبَ لَهُ عَهْدَهُ أَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ وَقَالَ لَا حَاجَةَ
لِي بِهِ . إنّي سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
يَقُولُ إنّ الْوُلَاةَ يُجَاءُ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقِفُونَ عَلَى
جِسْرِ جَهَنّمَ فَمَنْ كَانَ مُطَاوِعًا لِلّهِ تَنَاوَلَهُ بِيَمِينِهِ حَتّى
يُنْجِيَهُ وَمَنْ كَانَ عَاصِيًا لِلّهِ انْخَرَقَ بِهِ الْجِسْرُ إلَى وَادٍ
مِنْ نَارٍ تَلْتَهِبُ الْتِهَابًا ، قَالَ فَأَرْسَلَ عُمَرُ إلَى أَبِي ذَرّ
وَإِلَى سَلْمَانَ فَقَالَ لِأَبِي ذَرّ أَنْتَ سَمِعْت هَذَا مِنْ رَسُولِ اللّهِ
- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ نَعَمْ وَاَللّهِ وَبَعْدَ الْوَادِي
وَادٍ آخَرُ مِنْ نَارٍ . قَالَ وَسَأَلَ سَلْمَانَ فَكَرِهَ أَنْ يُخْبِرَهُ
بِشَيْءِ فَقَالَ عُمَرُ مَنْ يَأْخُذُهَا بِمَا فِيهَا ؟ فَقَالَ أَبُو ذَرّ مَنْ
سَلَتَ اللّهُ أَنْفَهُ وَعَيْنَيْهِ وَأَضْرَعَ خَدّهُ إلَى الْأَرْضِ ذَكَرَهُ
ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ . [ ص 33 ] الْقَصِيدَةِ يَا رَاكِبًا إمّا عَرَضْت
فَبَلّغَنْ
الْبَيْتَ . الْمُغَلْغَلَةُ الدّاخِلَةُ إلَى أَقْصَى مَا يُرَادُ بُلُوغُهُ
مِنْهَا ، وَمِنْهُ تَغَلْغَلَ فِي الْبِلَادِ إذَا بَالَغَ فِي الدّخُولِ فِيهَا
، وَأَصْلُهُ تَغَلّلَ وَمُغَلّلَةٌ وَلَكِنْ قَلَبُوا إحْدَى اللّامَيْنِ غَيْنًا
، كَمَا فَعَلُوا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُضَاعَفِ وَأَصْلُهُ مِنْ الْغَلَلِ
وَالْغِلَالَةِ فَأَمّا الْغَلَلُ فَمَاءٌ يَسْتُرُهُ النّبَاتُ وَالشّجَرُ
وَأَمّا الْغِلَالَةُ فَسَاتِرَةٌ لِمَا تَحْتَهَا . وَفِيهَا . نُبَيّتُكُمْ
شَرْجَيْنِ . أَيْ فَرِيقَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَنُبّئْتُكُمْ لَفْظٌ مُشْكِلٌ
وَفِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ نُبَيّتُكُمْ شَرْجَيْنِ وَهُوَ بَيّنٌ فِي الْمَعْنَى ،
وَفِيهِ زِحَافُ خَرْمٍ وَلَكِنْ لَا يُعَابُ الْمَعْنَى بِذَلِكَ وَأَمّا لَفْظُ
التّبَيّتِ فِي هَذَا الْبَيْتِ فَبَعِيدٌ مِنْ مَعْنَاهُ وَالْأَزْمَلُ الصّوْتُ
وَالْمُذَكّي : الّذِي يُوقِدُ النّارَ وَالْحَاطِبُ الّذِي يَحْطِبُ لَهَا ،
ضُرِبَ هَذَا مَثَلًا لِنَارِ الْحَرْبِ كَمَا قَالَ الْآخَرُ
أَرَى خَلَلَ الرّمَادِ وَمِيضَ جَمْرٍ ... وَيُوشِكُ أَنْ يَكُونَ لَهَا ضِرَامُ
فَإِنّ النّارَ بِالْعُودَيْنِ تُذْكَى ... وَإِنّ الْحَرْبَ أَوّلُهَا الْكَلَامُ
وَقَوْلُهُ وَهِيَ الْغُولُ لِلْأَدْنَى ، أَيْ هِيَ الْهَلَاكُ يُقَالُ الْغَضَبُ
غُولُ الْحِلْمِ أَيْ يُهْلِكُهُ وَالْغَوْلُ بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَجَعُ الْبَطْنِ
قَالَهُ الْبُخَارِيّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ { لَا فِيهَا غَوْلٌ } وَقَوْلُهُ
وَإِحْلَالِ أَحْرَامِ الظّبَاءِ الشّوَازِبِ . أَيْ إنّ بَلَدَكُمْ بَلَدٌ
حَرَامٌ تَأْمَنُ فِيهِ الظّبَاءُ الشّوَازِبُ [ ص 34 ] تَأْتِيهِ مِنْ بُعْدٍ
لِتَأْمَنَ فِيهِ فَهِيَ شَارِبَةٌ أَيْ ضَامِرَةٌ مِنْ بُعْدِ الْمَسَافَةِ
وَإِذَا لَمْ تَحِلّوا بِالظّبَاءِ فِيهِ فَأَحْرَى أَلَا تَحِلّوا بِدِمَائِكُمْ
وَإِحْرَامُ الظّبَاءِ كَوْنُهَا فِي الْحَرَمِ ، يُقَالُ لِمَنْ دَخَلَ فِي
الشّهْرِ الْحَرَامِ أَوْ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ : مُحْرِمٌ .
وَالْأَتْحَمِيّةُ ثِيَابٌ رِقَاقٌ تُصْنَعُ بِالْيَمَنِ وَالشّلِيلُ دِرْعٌ
قَصِيرَةٌ وَالْأَصْدَاءُ جَمْعُ صَدَأِ الْحَدِيدِ وَالْقَتِيرُ حَلَقُ الدّرْعِ
شَبّهَهَا بِعُيُونِ الْجَرَادِ وَأَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى التّنّوخِيّ فَقَالَ
كَأَثْوَابِ الْأَرَاقِمِ مَزّقَتْهَا ... فَخَاطَتْهَا بِأَعْيُنِهَا الْجَرَادُ
وَقَوْلُهُ فِي وَصْفِ الْحَرْبِ
تَزَيّنُ لِلْأَقْوَامِ ثُمّ يَرَوْنَهَا ... بِعَاقِبَةِ إذْ بَيّتَتْ أُمّ
صَاحِبِ
هُوَ كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ :
الْحَرْبُ أَوّلُ مَا تَكُونُ فَتِيّةٌ ... تَسْعَى بِبَزّتِهَا لِكُلّ جَهُولِ
حَتّى إذَا اشْتَعَلَتْ وَشَبّ ضِرَامُهَا ... وَلّتْ عَجُوزًا غَيْرَ ذَاتِ
خَلِيلِ
شَمْطَاءَ جَزّتْ رَأْسَهَا ، فَتَنَكّرَتْ ... مَكْرُوهَةً لِلشّمّ وَالتّقْبِيلِ
فَقَوْلُهُ أُمّ صَاحِبِ أَيْ عَجُوزًا كَأُمّ صَاحِبٍ لَك ، إذْ لَا يَصْحَبُ
الرّجُلَ إلّا رَجُلٌ فِي سِنّهِ وَفِي جَامِعِ الْبُخَارِيّ : كَانُوا إذَا
وَقَعَتْ الْحَرْبُ يَأْمُرُونَ بِحِفْظِ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ يَعْنِي : أَبْيَاتِ
عَمْرٍو الْمُتَقَدّمَةَ . وَقَوْلُهُ
أَلَمْ تَعْلَمُوا مَا كَانَ فِي حَرْبِ دَاحِسٍ
[ ص 35 ] ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ بَعْدَ هَذِهِ الْقَصِيدَةِ إنْ شَاءَ اللّهُ
تَعَالَى . وَقَوْلُهُ فِيهَا : وَلِيّ امْرِئِ فَاخْتَارَ دِينًا فَإِنّمَا .
أَيْ هُوَ وَلِيّ امْرِئِ اخْتَارَ دِينًا ، وَالْفَاءُ زَائِدَةٌ عَلَى أَصْلِ
أَبِي الْحَسَنِ قَالَ فِي قَوْلِهِمْ زَيْدًا فَاضْرِبْ الْفَاءُ مُعَلّقَةٌ أَيْ
زَائِدَةٌ وَمَنْ لَا يَقُولُ بِهَذَا الْقَوْلِ يَجْعَلُ الْفَاءَ عَاطِفَةً
عَلَى فِعْلٍ مُضْمَرٍ كَأَنّهُ قَالَ وَلِيّ امْرِئِ تَدِينُ فَاخْتَارَ دِينًا ،
أَوْ نَحْوَ هَذَا ، وَقَدْ تَقَدّمَ شَرْحُ بَاقِي الْقَصِيدَةِ فِي آخِرِ قِصّةِ
الْحَبَشَةِ . وَقَالَ فِيهَا : كَرِيمِ الْمَضَارِبِ وَفِي حَاشِيَةِ كِتَابِ
الشّيْخِ لَعَلّهُ الضّرَائِبِ يُرِيدُ جَمْعَ ضَرِيبَةٍ وَلَا يَبْعُدُ أَيْضًا
أَنْ يَكُونَ قَالَ الْمَضَارِبِ . يُرِيدُ أَنّ مَضَارِبَ سُيُوفِهِ غَيْرُ
مَذْمُومَةٍ وَلَا رَاجِعَةٍ عَلَيْهِ إلّا بِالثّنَاءِ وَالْحَمْدِ وَالْوَصْفِ
بِالْمَكَارِمِ . وَفِيهَا قَوْلُهُ وَمَاءٍ هُرِيقَ فِي الضّلَالِ . وَيُرْوَى :
فِي الصّلَالِ جَمْعُ صِلَةٍ وَهِيَ الْأَرْضُ الّتِي لَا تُمْسِكُ الْمَاءَ أَيْ
رُبّ مَاءٍ هُرِيقَ فِي الضّلَالِ مِنْ أَجْلِ السّرَابِ لِأَنّهُ لَا يُهْرِيقُ
مَاءً مِنْ أَجْلِ السّرَابِ إلّا ضَالّ غَيْرُ مُمَيّزٍ بِمَوَاضِعِ الْمَاءِ
وَأَذَاعَتْ بِهِ أَيْ بَدّدَتْهُ فَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ
لِلنّظَرِ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ وَيُرْوَى : وَمَا أُهْرِيقَ فِي أَمْرٍ
وَمَعْنَاهُ وَاَلّذِي أُهْرِيقَ فِي أَمْرِ الضّلَالِ فَوَصَلَ أَلِفَ الْقَطْعِ
ضَرُورَةً وَيُقَالُ أُرِيقَ الْمَاءُ وَأُهْرِيقَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْهَمْزَةِ
وَالْهَاءِ وَهِيَ أَقَلّهَا ، وَلِتَعْلِيلِهَا مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا . [ ص 36 ]
سَافٍ وَحَاصِبِ السّافِي : الّذِي يَرْمِي بِالتّرَابِ وَالْحَاصِبُ الّذِي
يَقْذِفُ بِالْحَصْبَاءِ . وَفِيهَا ذِكْرُ الْجَبَاجِبِ ، وَهِيَ مَنَازِلُ مِنًى
. كَذَا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ ، وَقَالَ الْبَرْقِيّ : هِيَ حُفَرٌ بِمِنَى ،
يُجْمَعُ فِيهَا دَمُ الْبُدْنِ وَالْهَدَايَا ، وَالْعَرَبُ تُعَظّمُهَا
وَتَفْخَرُ بِهَا ، وَقِيلَ الْجَبَاجِبُ : الْكُرُوشُ . يُقَالُ لِلْكَرِشِ
جَبْجَبَةٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَاَلّذِي تَقَدّمَ وَاحِدُهُ جُبْجُبَةٌ بِالضّمّ .
حَرْبُ
دَاحِسٍ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَأَمّا قَوْلُهُ أَلَمْ تَعْلَمُوا مَا كَانَ فِي حَرْبِ
دَاحِسِ [ ص 37 ] أَبُو عُبَيْدَةَ النّحْوِيّ : أَنّ دَاحِسًا فَرَسٌ كَانَ
لِقَيْسِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ جَذِيمَةَ بْنِ رَوَاحَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ مَازِنِ بْنِ قَطِيعَةَ بْنِ عَبْسِ بْنِ بَغِيضِ بْنِ رَيْثِ
بْنِ غَطَفَانَ ، أَجْرَاهُ مَعَ فَرَسٍ لِحُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرِ بْنِ عَمْرِو
بْنِ زَيْدِ بْنِ جُؤْيَةَ بْنِ لَوْذَانَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَدِيّ بْنِ
فَزَارَةَ بْنِ ذُبْيَانَ بْنِ بَغِيضِ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ ، يُقَالُ
لَهَا : الْغَبْرَاءُ . فَدَسّ حُذَيْفَةُ قَوْمًا وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَضْرِبُوا
وَجْهَ دَاحِسٍ إنْ رَأَوْهُ قَدْ جَاءَ سَابِقًا ، فَجَاءَ دَاحِسٌ سَابِقًا ،
فَضَرَبُوا وَجْهَهُ وَجَاءَتْ الْغَبْرَاءُ . فَلَمّا جَاءَ فَارِسُ دَاحِسٍ أَخْبَرَ
قَيْسًا الْخَبَرَ ، فَوَثَبَ أَخُوهُ مَالِكُ بْنُ زُهَيْرٍ فَلَطَمَ وَجْهَ
الْغَبْرَاءِ فَقَامَ حَمَلُ بْنُ بَدْرٍ ، فَلَطَمَ مَالِكًا . ثُمّ إنّ أَبَا
الْجُنَيْدِبِ الْعَبْسِيّ لَقِيَ عَوْفَ بْنَ حُذَيْفَةَ فَقَتَلَهُ ثُمّ لَقِيَ
رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ مَالِكًا فَقَتَلَهُ فَقَالَ حَمَلُ بْنُ بَدْرٍ
أَخُو حُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرٍ
قَتَلْنَا بِعَوْفِ مَالِكًا وَهُوَ ثَأْرُنَا ... فَإِنْ تَطْلُبُوا مِنّا سِوَى
الْحَقّ تَنْدَمُوا
[ ص 38 ] وَقَالَ الرّبِيعُ بْنُ زِيَادٍ الْعَبْسِيّ :
أَفَبَعْدَ مَقْتَلِ مَالِكِ بْنِ زُهَيْرٍ ... تَرْجُو النّسَاءُ عَوَاقِبَ
الْأَطْهَارِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . فَوَقَعَتْ الْحَرْبُ بَيْنَ عَبْسٍ
وَفَزَارَةَ فَقُتِلَ حُذَيْفَةُ بْنُ بَدْرٍ وَأَخُوهُ حَمَلُ بْنُ بَدْرٍ ،
فَقَالَ قَيْسُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ جَذِيمَةَ يَرْثِي حُذَيْفَةَ وَجَزِعَ
عَلَيْهِ
كَمْ فَارِسٍ يُدْعَى وَلَيْسَ بِفَارِسِ ... وَعَلَى الْهَبَاءَةِ فَارِسٌ ذُو
مَصْدَقِ
فَابْكُوا حُذَيْفَةَ لَنْ تَرِثُوا مِثْلَهُ ... حَتّى تَبِيدَ قَبَائِلٌ لَمْ
تُخْلَقْ
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ . وَقَالَ قَيْسُ بْنُ زُهَيْرٍ :
عَلَى أَنّ الْفَتَى حَمَلَ بْنَ بَدْرٍ ... بَغَى ، وَالظّلْمُ مَرْتَعُهُ
وَخِيمُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ زُهَيْرٍ أَخُو
قَيْسِ بْنِ زُهَيْرٍ :
تَرَكْت عَلَى الْهَبَاءَةِ غَيْرَ فَخْرٍ ... حُذَيْفَةَ عِنْدَهُ قِصَدُ
الْعَوَالِي
[ ص 39 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ أَرْسَلَ قَيْسٌ دَاحِسًا
وَالْغَبْرَاءَ وَأَرْسَلَ حُذَيْفَةُ الْخَطّارَ وَالْحَنْفَاءَ وَالْأَوّلُ
أَصَحّ الْحَدِيثَيْنِ . وَهُوَ حَدِيثٌ طَوِيلٌ مَنَعَنِي مِنْ اسْتِقْصَائِهِ
قَطْعُهُ حَدِيثَ سِيرَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .Sحَرْبُ
دَاحِسٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ حَدِيثَ حَرْبِ دَاحِسٍ مُخْتَصَرًا ، وَدَاحِسٌ اسْمُ فَرَسٍ
كَانَ لِقَيْسِ بْنِ أَبِي [ ص 37 ] قِيلَ مَاءٌ دَافِقٌ أَيْ مَدْفُوقٌ
وَالدّحْسُ إدْخَالُ الْيَدِ بِقُوّةِ فِي ضَيّقٍ كَمَا رُوِيَ أَنّ رَسُولَ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَرّ بِغُلَامِ يَسْلُخُ شَاةً
فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْتَحِيَ لِيُرِيَهُ ثُمّ دَحَسَ عَلَيْهِ السّلَامُ بِيَدِهِ
بَيْنَ الْجِلْدِ وَاللّحْمِ حَتّى بَلَغَ الْإِبِطَ ثُمّ صَلّى ، وَلَمْ
يَتَوَضّأْ . فَدَاحِسٌ سُمّيَ بِهَذَا الِاسْمِ لِأَنّ أُمّهُ كَانَتْ لِرَجُلِ
مِنْ بَنِي تَمِيمٍ ثُمّ مِنْ بَنِي يَرْبُوعٍ اسْمُهُ قِرْوَاشُ بْنُ عَوْفٍ
وَكَانَ اسْمُ الْفَرَسِ : جَلْوَى ، وَكَانَ ذُو الْعُقّالِ فَرَسًا عَتِيقًا
لِحَوْطِ بْنِ جَابِرٍ فَخَرَجَتْ بِهِ فَتَاتَانِ لَهُ لِتَسْقِيَاهُ فَبَصُرَ
بِجَلْوَى ، فَأَدْلَى حِينَ رَآهَا ، فَضَحِكَ غِلْمَةٌ كَانُوا هُنَالِكَ
فَاسْتَحْيَتْ الْفَتَاتَانِ وَنَكّسَتَا رَأْسَيْهِمَا ، فَأَفْلَتَ ذُو
الْعُقّالِ حَتّى نَزَا عَلَى جَلْوَى ، وَقِيلَ ذَلِكَ لِحَوْطِ فَأَقْبَلَ
مُغْضَبًا ، وَهُوَ يَسْعَى حَتّى ضَرَبَ بِيَدِهِ فِي التّرَابِ ثُمّ دَحَسَهَا
فِي رَحِمِ الْفَرَسِ ، فَسَطَا عَلَيْهَا ، فَأَخْرَجَ مَاءَ الْفَحْلِ مَعَهَا ،
وَاشْتَمَلَتْ الرّحِمُ عَلَى بَقِيّةِ الْمَاءِ وَحَمَلَتْ بِمُهْرِ فَسَمّوْهُ
دَاحِسًا ، وَأَظْهَرُ مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ لَابِنٍ وَتَامِرٍ وَأَنْ
لَا يَكُونَ فَاعِلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ فَهُوَ دَاحِسُ بْنُ ذِي الْعُقّالِ
بْنِ أَعْوَجَ الّذِي تُنْسَبُ إلَيْهِ الْخَيْلُ الْأَعْوَجِيّةُ فِي قَوْلِ
بَعْضِهِمْ وَقَدْ تَقَدّمَ غَيْرُ هَذَا الْقَوْلِ - ابْنُ سَبَلٍ وَكَانَ
لِغَنِيّ بْنِ يَعْصُرَ وَفِيهِ يُقَالُ
إنّ الْجَوَادَ بْنَ الْجَوَادِ بْنِ سَبَلٍ ... إنْ دَايَمُوا جَادَ وَإِنْ جَادَ
وَبَلْ
وَفِي ذِي الْعُقّالِ يَقُولُ جَرِيرٌ
تُمْسِي جِيَادُ الْخَيْلِ حَوْلَ بُيُوتِنَا ... مِنْ آلِ أَعْوَجَ أَوْ لِذِي
الْعُقّالِ
[ ص 38 ]
أَفَبَعْدَ مَقْتَلِ مَالِكِ بْنِ زُهَيْرٍ ... تَرْجُو النّسَاءُ عَوَاقِبَ
الْأَطْهَارِ
وَفِيهِ إقْوَاءٌ وَهُوَ حَذْفُ نِصْفِ سَبَبٍ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوّلِ وَقَدْ
تَكَلّمْنَا عَلَى مَعْنَى الْإِقْوَاءِ قَبْلُ وَأَمّا اخْتِلَافُ الْقَوَافِي
فَيُسَمّى : اكْتِفَاءً وَإِقْوَاءً أَيْضًا لِأَنّهُ مِنْ الْكُفْءِ فَكَأَنّهُ
جَعَلَ الرّفْعَ كُفْئًا لِلْخَفْضِ فَسَوّى بَيْنَهُمَا ، وَفِيهَا قَوْلُهُ
تَرْجُو النّسَاءُ عَوَاقِبَ الْأَطْهَارِ . كَقَوْلِ الْأَخْطَلِ
قَوْمٌ إذَا حَارَبُوا شَدّوا مَآزِرَهُمْ ... دُونَ النّسَاءِ وَلَوْ بَاتَتْ
بِأَطْهَارِ
فَيُقَالُ إنّ حَرْبَ دَاحِسٍ دَامَتْ أَرْبَعِينَ سَنَةً لَمْ تَحْمِلْ فِيهَا
أُنْثَى ، لِأَنّهُمْ كَانُوا لَا يَقْرَبُونَ النّسَاءَ مَا دَامُوا مُحَارِبِينَ
وَذَكَرَ الْأَصْبَهَانِيّ أَنّ حَرْبَ دَاحِسٍ كَانَتْ بَعْدَ يَوْمِ جَبَلَةَ
بِأَرْبَعِينَ سَنَةً وَقَدْ تَقَدّمَ يَوْمُ جَبَلَةَ ، وَأَنّ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وُلِدَ فِي تِلْكَ الْأَيّامِ وَقَالَ لَبِيدٌ
وَغَنِيت حَرَسًا قَبْلَ مَجْرَى دَاحِسٍ ... لَوْ كَانَ لِلنّفْسِ اللّجُوجِ
خُلُودُ
وَكَانَ لَبِيدٌ فِي حَرْبِ جَبَلَةَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ وَقَوْلُهُ حَرَسًا
أَيْ وَقْتًا مِنْ الدّهْرِ وَيُرْوَى سَبْتًا وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَكَانَ
إجْرَاءُ دَاحِسٍ وَالْغَبْرَاءِ عَلَى ذَاتِ الْإِصَادِ مَوْضِعٍ فِي بِلَادِ
فَزَارَةَ [ ص 39 ] وَكَانَ آخِرُ أَيّامِ حَرْبِ دَاحِسٍ بِقَلَهَى مِنْ أَرْضِ
قَيْسٍ ، وَهُنَاكَ اصْطَلَحَتْ عَبْسٌ وَمَنُولَةُ وَهِيَ أُمّ بَنِي فَزَارَةَ
شَمْخٍ وَعَدِيّ وَمَازِنٍ فَيُقَالُ لِهَذَا الْمَوْضِعِ قَلَهَى ، وَأَمّا قَلَهّي
فَمَوْضِعٌ بِالْحِجَازِ وَفِيهِ اعْتَزَلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ حِينَ
قُتِلَ عُثْمَانُ وَأَمَرَ أَلّا يُحَدّثَ بِشَيْءِ مِنْ أَخْبَارِ النّاسِ
وَأَلّا يَسْمَعَ مِنْهَا شَيْئًا ، حَتّى يَصْطَلِحُوا ، وَيُقَالُ إنّ
الْحَنْفَاءَ كَانَتْ فَرَسَ حُذَيْفَةَ وَأَنّهَا أُجْرِيَتْ مَعَ الْغَبْرَاءِ
ذَلِكَ الْيَوْمِ . قَالَ الشّاعِرُ
إذَا كَانَ غَيْرُ اللّهِ لِلْمَرْءِ عُدّةً ... أَتَتْهُ الرّزَايَا مِنْ وُجُوهِ
الْفَوَائِدِ
فَقَدْ جَرَتْ الْحَنْفَاءُ حَتْفَ حُذَيْفَةَ ... وَكَانَ يَرَاهَا عُدّةً
لِلشّدَائِدِ
حَرْبُ
حَاطِبٍ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَأَمّا قَوْلُهُ " حَرْبُ حَاطِبٍ " . فَيَعْنِي
حَاطِبَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ هَيْشَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أُمَيّةَ
بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ
بْنِ الْأَوْسِ ، كَانَ قَتَلَ يَهُودِيّا جَارًا لِلْخَزْرَجِ فَخَرَجَ إلَيْهِ
يَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَحْمَرَ بْنِ حَارِثَةَ
بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ -
وَهُوَ الّذِي يُقَالُ لَهُ ابْنُ فُسْحُمٍ وَفُسْحُمٌ أُمّهُ وَهِيَ امْرَأَةٌ
مِنْ الْقَيْنِ بْنِ جِسْرٍ - لَيْلًا فِي نَفَرٍ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ
الْخَزْرَجِ فَقَتَلُوهُ فَوَقَعَتْ الْحَرْبُ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ
فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا ، فَكَانَ الظّفْرُ لِلْخَزْرَجِ عَلَى الْأَوْسِ
، وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ سُوَيْدُ بْنُ صَامِتِ بْنِ خَالِدِ بْنِ عَطِيّةَ بْنِ
حَوْطِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ ،
قَتَلَهُ الْمُجَذّرُ بْنُ ذِيَادٍ الْبَلَوِيّ ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللّهِ حَلِيفُ
بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ . فَلَمّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ خَرَجَ الْمُجَذّرُ
بْنُ ذِيَادٍ مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَخَرَجَ
مَعَهُ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ صَامِتٍ ، فَوَجَدَ الْحَارِثَ بْنَ
سُوَيْدٍ غِرّةً مِنْ الْمُجَذّرِ فَقَتَلَهُ بِأَبِيهِ . وَسَأَذْكُرُ حَدِيثَهُ
فِي مَوْضِعِهِ - إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى - ثُمّ كَانَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ
مَنَعَنِي مِنْ ذِكْرِهَا وَاسْتِقْصَاءِ هَذَا الْحَدِيثِ مَا ذَكَرْت فِي
حَدِيثِ حَرْبِ دَاحِسٍ .Sوَأَمّا
حَرْبُ حَاطِبٍ الّذِي ذَكَرَهَا ، فَهِيَ حَرْبٌ كَانَتْ عَلَى يَدِ حَاطِبِ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ هَيْشَةَ بْنِ الْأَوْسِ ، فَنُسِبَتْ إلَيْهِ
وَكَانَتْ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ .
حَكِيمُ
بْنُ أُمَيّةَ يُنْهِي قَوْمَهُ عَنْ عَدَاوَةِ الرّسُولِ
[ ص 40 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ حَكِيمُ بْنُ أُمَيّةَ بْنِ حَارِثَةَ
بْنِ الْأَوْقَصِ السّلَمِيّ ، حَلِيفُ بَنِي أُمَيّةَ وَقَدْ أَسْلَمَ ، يُوَرّعُ
قَوْمَهُ عَمّا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ عَدَاوَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَكَانَ فِيهِمْ شَرِيفًا مُطَاعًا :
هَلْ قَائِلٌ قَوْلًا مِنْ الْحَقّ قَاعِدٌ ... عَلَيْهِ وَهَلْ غَضْبَانُ
لِلرّشْدِ سَامِعُ
وَهَلْ سَيّدٌ تَرْجُو الْعَشِيرَةُ نَفْعَهُ ... لِأَقْصَى الْمَوَالِي
وَالْأَقَارِبِ جَامِعُ
تَبَرّأْت إلّا وَجْهَ مَنْ يَمْلِكُ الصّبّا ... وَأَهْجُرُكُمْ مَا دَامَ مُدْلٍ
وَنَازِعُ
وَأُسْلِمُ وَجْهِي لِلْإِلَهِ وَمَنْطِقِي ... وَلَوْ رَاعَنِي مِنْ الصّدِيقِ
رَوَائِعُ
ذِكْر
مَا لَقِيَهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ قَوْمِهِ
مُفْتَرَيَاتُ قُرَيْشٍ وَإِيذَاؤُهُمْ لِلرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ قُرَيْشًا اشْتَدّ أَمْرُهُمْ لِلشّقَاءِ الّذِي
أَصَابَهُمْ فِي عَدَاوَةِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَنْ
أَسْلَمَ مَعَهُ مِنْهُمْ فَأَغْرَوْا بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
سُفَهَاءَهُمْ فَكَذّبُوهُ وَآذَوْهُ وَرَمَوْهُ بِالشّعْرِ وَالسّحْرِ
وَالْكَهَانَةِ وَالْجُنُونِ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
مُظْهِرٌ لِأَمْرِ اللّهِ لَا يُسْتَخْفَى بِهِ مُبَادٍ لَهُمْ بِمَا يَكْرَهُونَ
مِنْ عَيْبِ دِينِهِمْ وَاعْتِزَالِ أَوْثَانِهِمْ وَفِرَاقِهِ إيّاهُمْ عَلَى
كُفْرِهِمْ . [ ص 41 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ
بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ، قَالَ قُلْت لَهُ مَا أَكْثَرَ مَا رَأَيْت
قُرَيْشًا أَصَابُوا مِنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
فِيمَا كَانُوا يُظْهِرُونَ مِنْ عَدَاوَتِهِ ؟ قَالَ حَضَرْتهمْ وَقَدْ اجْتَمَعَ
أَشْرَافُهُمْ يَوْمًا فِي الْحِجْرِ ، فَذَكَرُوا رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَقَالُوا : مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَبَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ
هَذَا الرّجُلِ قَطّ : سَفّهَ أَحْلَامَنَا ، وَشَتَمَ آبَاءَنَا ، وَعَابَ
دِينَنَا ، وَفَرّقَ جَمَاعَتَنَا ، وَسَبّ آلِهَتَنَا ، لَقَدْ صَبَرْنَا مِنْهُ
عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ أَوْ كَمَا قَالُوا ، فَبَيْنَا هُمْ فِي ذَلِكَ إذْ طَلَعَ
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَأَقْبَلَ يَمْشِي حَتّى
اسْتَلَمَ الرّكْنَ ثُمّ مَرّ بِهِمْ طَائِفًا بِالْبَيْتِ فَلَمّا مَرّ بِهِمْ
غَمَزُوهُ بِبَعْضِ الْقَوْلِ قَالَ فَعَرَفْت ذَلِكَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . قَالَ ثُمّ مَضَى ، فَلَمّا مَرّ بِهِمْ
الثّانِيَةَ غَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا ، فَعَرَفْت ذَلِكَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللّهِ
- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ثُمّ مَرّ بِهِمْ الثّالِثَةَ فَغَمَزُوهُ
بِمِثْلِهَا ، فَوَقَفَ ثُمّ قَالَ أَتَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ؟ أَمَا
وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذّبْحِ . قَالَ فَأَخَذَتْ
الْقَوْمَ كَلِمَتُهُ حَتّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إلّا كَأَنّمَا عَلَى رَأْسِهِ
طَائِرٌ وَاقِعٌ حَتّى إنّ أَشَدّهُمْ فِيهِ وَصَاةً قَبْلَ ذَلِكَ لَيرْفَؤُه
بِأَحْسَنَ مَا يَجِدُ مِنْ الْقَوْلِ حَتّى إنّهُ لَيَقُولُ انْصَرِفْ يَا أَبَا
الْقَاسِمِ فَوَاَللّهِ مَا كُنْت جَهُولًا . قَالَ فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَتّى إذَا كَانَ الْغَدُ اجْتَمَعُوا فِي
الْحِجْرِ وَأَنَا مَعَهُمْ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ ذَكَرْتُمْ مَا بَلَغَ
مِنْكُمْ وَمَا بَلَغَكُمْ عَنْهُ حَتّى إذَا بَادَاكُمْ بِمَا تَكْرَهُونَ
تَرَكْتُمُوهُ . فَبَيْنَمَا هُمْ فِي ذَلِكَ طَلَعَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَوَثَبُوا إلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ
وَأَحَاطُوا بِهِ يَقُولُونَ أَنْتَ الّذِي تَقُولُ كَذَا وَكَذَا ، لِمَا كَانَ
يَقُولُ مِنْ عَيْبِ آلِهَتِهِمْ وَدِينِهِمْ ؟ فَيَقُولُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَعَمْ أَنَا الّذِي أَقُولُ ذَلِكَ قَالَ فَلَقَدْ
رَأَيْت رَجُلًا مِنْهُمْ أَخَذَ بِمَجْمَعِ رِدَائِهِ . قَالَ فَقَامَ أَبُو
بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ دُونَهُ وَهُوَ يَبْكِي وَيَقُولُ أَتَقْتُلُونَ
رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبّي اللّهَ ؟ ثُمّ انْصَرَفُوا عَنْهُ فَإِنّ ذَلِكَ
لَأَشَدّ مَا رَأَيْت قُرَيْشًا نَالُوا مِنْهُ قَطّ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
وَحَدّثَنِي بَعْضُ آلِ أُمّ كُلْثُومٍ ابْنَةِ أَبِي بَكْرٍ أَنّهَا قَالَتْ
رَجَعَ أَبُو بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ وَقَدْ صَدَعُوا فَرَقَ رَأْسِهِ مِمّا جَبَذُوهُ
بِلِحْيَتِهِ وَكَانَ رَجُلًا كَثِيرَ الشّعْرِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي
بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ إنّ أَشَدّ مَا لَقِيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ قُرَيْشٍ أَنّهُ خَرَجَ يَوْمًا فَلَمْ يَلْقَهُ أَحَدٌ
مِنْ النّاسِ إلّا عَذّبَهُ وَآذَاهُ لَا حُرّ وَلَا عَبْدٌ فَرَجَعَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى مَنْزِلِهِ فَتَدَثّرَ مِنْ شِدّةِ
مَا أَصَابَهُ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ { يَا أَيّهَا الْمُدّثّرُ
قُمْ فَأَنْذِرْ } [ الْمُدّثّرِ 1 - 2 ] . [ ص 42 ] [ ص 43 ] [ ص 40 ]Sمَا
لَقِيَ رَسُولُ اللّهِ ( صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ) مِنْ قَوْمِهِ
فَصْلٌ فِيمَا لَقِيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ
قَوْمِهِ ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ وَالْوَاقِدِيّ وَالتّيْمِيّ ، وَابْنُ عُقْبَةَ
وَغَيْرُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ أُمُورًا كَثِيرَةً تَتَقَارَبُ أَلْفَاظُهَا
وَمَعَانِيهَا ، وَبَعْضُهُمْ يَزِيدُ عَلَى بَعْضٍ فَمِنْهَا حَثْوُ
سُفَهَائِهِمْ التّرَابَ عَلَى رَأْسِهِ وَمِنْهَا أَنّهُمْ كَانُوا يَنْضِدُونَ
الْفَرْثَ وَالْأَفْحَاثَ وَالدّمَاءَ عَلَى بَابِهِ وَيَطْرَحُونَ رَحِمَ الشّاةِ
فِي بُرْمَتِهِ وَمِنْهَا : بَصْقُ أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ فِي وَجْهِهِ وَمِنْهَا :
وَطْءُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ عَلَى رَقَبَتِهِ وَهُوَ سَاجِدٌ عِنْدَ
الْكَعْبَةِ حَتّى كَادَتْ عَيْنَاهُ تَبْرُزَانِ وَمِنْهَا أَخْذُهُمْ بِمُخَثّقِهِ
حِينَ اجْتَمَعُوا لَهُ عِنْدَ الْحِجْرِ ، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ ،
وَزَادَ غَيْرُهُ الْخَبَرَ أَنّهُمْ خَنَقُوهُ خَنْقًا شَدِيدًا وَقَامَ أَبُو
بَكْرٍ دُونَهُ فَجَبَذُوا رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ حَتّى سَقَطَ أَكْثَرُ شَعْرِهِ
وَأَمّا السّبّ وَالْهَجْوُ وَالتّلْقِيبُ وَتَعْذِيبُ أَصْحَابِهِ وَأَحِبّائِهِ
وَهُوَ يَنْظُرُ فَقَدْ ذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ ابْنُ إسْحَاقَ مَا فِي الْكِتَابِ
وَقَدْ قَالَ أَبُو جَهْلٍ لِسُمَيّةَ أُمّ عَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ : مَا آمَنْت
بِمُحَمّدِ إلّا لِأَنّك عَشِقْته لِجَمَالِهِ ثُمّ طَعَنَهَا بِالْحَرْبَةِ فِي
قُبُلِهَا حَتّى قَتَلَهَا ، وَالْأَخْبَارُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ .
السّبَبُ فِي تَلْقِيبِهِ بِالْمُدّثّرِ وَالنّذِيرِ الْعُرْيَانِ [ ص 41 ]
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ قَوْلَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
- " دَثّرُونِي دَثّرُونِي فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : { يَا أَيّهَا
الْمُدّثّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ } قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي تَسْمِيَتِهِ
إيّاهُ بِالْمُدّثّرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ [ ص 42 ] مُلَاطَفَةٌ وَتَأْنِيسٌ
وَمِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إذَا قَصَدَتْ الْمُلَاطَفَةَ أَنْ تُسَمّيَ
الْمُخَاطَبَ بِاسْمِ مُشْتَقّ مِنْ الْحَالَةِ الّتِي هُوَ فِيهَا ، كَقَوْلِهِ
عَلَيْهِ السّلَامُ لِحُذَيْفَةَ قُمْ يَا نَوْمَانُ وَقَوْلِهِ لِعَلِيّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ - وَقَدْ تَرِبَ جَنْبُهُ قُمْ أَبَا تُرَابٍ فَلَوْ نَادَاهُ
سُبْحَانَهُ وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَالِ مِنْ الْكَرْبِ بِاسْمِهِ أَوْ
بِالْأَمْرِ الْمُجَرّدِ مِنْ هَذِهِ الْمُلَاطَفَةِ لَهَالَهُ ذَلِكَ وَلَكِنْ
لَمّا بُدِئَ
بـ { يَا أَيّهَا الْمُدّثّرُ } أَنِسَ وَعَلِمَ أَنّ رَبّهُ رَاضٍ عَنْهُ أَلَا
تَرَاهُ كَيْفَ قَالَ عِنْدَمَا لَقِيَ مِنْ أَهْلِ الطّائِفِ مِنْ شِدّةِ
الْبَلَاءِ وَالْكَرْبِ مَا لَقِيَ رَبّ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك غَضَبٌ عَلَيّ فَلَا
أُبَالِي إلَى آخِرِ الدّعَاءِ فَكَانَ مَطْلُوبُهُ رِضَا رَبّهِ وَبِهِ كَانَتْ
تَهُونُ عَلَيْهِ الشّدَائِدُ . فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَنْتَظِمُ يَا أَيّهَا
الْمُدّثّرُ مَعَ قَوْلِهِ { قُمْ فَأَنْذِرْ } وَمَا الرّابِطُ بَيْنَ
الْمَعْنَيَيْنِ حَتّى يَلْتَئِمَا فِي قَانُونِ الْبَلَاغَةِ وَيَتَشَاكَلَا فِي
حُكْمِ الْفَصَاحَةِ ؟ قُلْنَا : مِنْ صِفَتِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ مَا وَصَفَ
بِهِ نَفْسَهُ حِينَ قَالَ أَنَا النّذِيرُ الْعُرْيَانُ وَهُوَ مَثَلٌ مَعْرُوفٌ
عِنْدَ الْعَرَبِ ، يُقَالُ لِمَنْ أَنْذَرَ بِقُرْبِ الْعَدُوّ وَبَالَغَ فِي
الْإِنْذَارِ وَهُوَ النّذِيرُ الْعُرْيَانُ وَذَلِكَ أَنّ النّذِيرَ الْجَادّ
يُجَرّدُ ثَوْبَهُ وَيُشِيرُ بِهِ إذَا خَافَ أَنْ يَسْبِقَ الْعَدُوّ صَوْتَهُ
وَقَدْ قِيلَ إنّ أَصْلَ الْمَثَلِ لِرَجُلِ مِنْ خَثْعَمَ سَلَبَهُ الْعَدُوّ
ثَوْبَهُ وَقَطَعُوا يَدَهُ فَانْطَلَقَ إلَى قَوْمِهِ نَذِيرًا عَلَى تِلْكَ
الْحَالِ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ أَنَا النّذِيرُ الْعُرْيَان أَيْ مَثَلِي
مِثْلُ ذَلِكَ وَالتّدَثّرُ بِالثّيَابِ مُضَادّ لِلتّعَرّي ، فَكَانَ فِي
قَوْلِهِ { يَا أَيّهَا الْمُدّثّرُ } مَعَ قَوْلِهِ { قُمْ فَأَنْذِرْ }
وَالنّذِيرُ الْجَادّ يُسَمّى : الْعُرْيَانُ تَشَاكُلٌ بَيّنٌ وَالْتِئَامٌ
بَدِيعٌ وَسَمَاقَةٌ فِي الْمَعْنَى ، وَجَزَالَةٌ فِي اللّفْظِ . تَقْدِيمُ
الْمَفْعُولِ عَلَى الْفِعْلِ وَقَوْلُهُ بَعْدَ هَذَا : { وَرَبّكَ فَكَبّرْ }
أَيْ رَبّك كَبّرْ لَا غَيْرَهُ لَا يَكْبُرُ عَلَيْك شَيْءٌ مِنْ أَمْرِ
الْخَلْقِ وَفِي تَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ عَلَى فِعْلِ الْأَمْرِ إخْلَاصٌ
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ { إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ } أَيْ لَا
نَعْبُدُ غَيْرَك [ وَلَا نَسْتَعِينُ إلّا بِك ] ، وَلَمْ يَقُلْ نَعْبُدُك
وَنَسْتَعِينُك ، وَفِي الْحَدِيثِ إذَا قَالَ الْعَبْدُ { إِيّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ } يَقُولُ اللّهُ تَعَالَى : أَخْلَصَ لِي عَبْدِي
الْعِبَادَةَ وَاسْتَعَانَنِي عَلَيْهَا ، فَهَذِهِ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي
عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَالرّئِيّ : [ ص 43 ] وَذَكَرَ قَوْلَ عُتْبَةَ إنْ
كَانَ هَذَا رَئِيّ تَرَاهُ . وَلُغَةُ بَنِي تَمِيمٍ رِئِيّ بِكَسْرِ الرّاءِ
وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ فِي كُلّ فَعِيلٍ عَيْنُ الْفِعْلِ مَعَهُ هَمْزَةٌ أَوْ
غَيْرُهَا مِنْ حُرُوفِ الْحَلْقِ يَكْسِرُونَ أَوّلَهُ مِثْلَ رَحِيمٍ وَشَهِيدٍ
وَالرّئِيّ : فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ وَلَا يَكُونُ إلّا مِنْ الْجِنّ ،
وَلَا يَكُونُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ فِي غَيْرِ الْجِنّ . إلّا أَنْ
يُؤَثّرَ فِيهِ الْفِعْلُ نَحْوَ جَرِيحٍ وَقَتِيلٍ وَذَبِيحٍ وَطَحِينٍ وَلَا
يُقَالُ مِنْ الشّكْرِ شَكِيرٌ وَلَا ذَكَرْته فَهُوَ ذَكِيرٌ وَلَا فِيمَنْ
لَطَمَ لَطِيمٌ إلّا أَنْ تُغَيّرَ مِنْهُ اللّطْمَةُ كَمَا قَالُوا : لَطِيمُ
الشّيْطَانِ . قَالَ ابْنُ الزّبَيْرِ حِينَ قُتِلَ عَمْرُو بْنُ سَعِيدٍ
الْأَشْدَقُ [ بْنِ الْعَاصِ ] : أَلَا إنّ أَبَا ذِبّانَ قَتَلَ لَطِيمَ
الشّيْطَانِ { وَكَذَلِكَ نُوَلّي بَعْضَ الظّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ } [ الْأَنْعَامِ 29 ] . وَقَالُوا مِنْ الْحَمْدِ حَمِيدٌ ذَهَبُوا
بِهِ مَذْهَبٌ كَرِيمٌ وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الْجِنّ : رَئِيّ ، وَإِنْ كَانَتْ
الرّؤْيَا لَا تُؤَثّرُ فِي الْمَرْئِيّ لِأَنّهُمْ ذَهَبُوا بِهِ مَذْهَبَ
قَرِينٍ وَنَجِيّ .
إسْلَامُ
حَمْزَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
[ ص 44 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَسْلَمَ ، كَانَ
وَاعِيَةً أَنّ أَبَا جَهْلٍ مَرّ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ عِنْدَ الصّفَا فَآذَاهُ وَشَتَمَهُ وَنَالَ مِنْهُ بَعْضَ مَا يَكْرَهُ
مِنْ الْعَيْبِ لِدِينِهِ وَالتّضْعِيفِ لِأَمْرِهِ فَلَمْ يُكَلّمْهُ رَسُولُ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَمَوْلَاةٌ لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ
جُدْعَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرّةَ فِي
مَسْكَنٍ لَهَا تَسْمَعُ ذَلِكَ ثُمّ انْصَرَفَ عَنْهُ فَعَمَدَ إلَى نَادٍ مِنْ
قُرَيْشٍ عِنْدَ الْكَعْبَةِ ، فَجَلَسَ مَعَهُمْ فَلَمْ يَلْبَثْ حَمْزَةُ بْنُ
عَبْدِ الْمُطّلِبِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ أَنْ أَقْبَلَ مُتَوَشّحًا قَوْسَهُ
رَاجِعًا مِنْ قَنْصٍ لَهُ وَكَانَ صَاحِبَ قَنْصٍ يَرْمِيهِ وَيَخْرُجُ لَهُ
وَكَانَ إذَا رَجَعَ مِنْ قَنْصِهِ لَمْ يَصِلْ إلَى أَهْلِهِ حَتّى يَطُوفَ
بِالْكَعْبَةِ وَكَانَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَمُرّ عَلَى نَادٍ مِنْ قُرَيْشٍ
إلّا وَقَفَ وَسَلّمَ وَتَحَدّثَ مَعَهُمْ وَكَانَ أَعَزّ فَتًى فِي قُرَيْشٍ ،
وَأَشَدّ شَكِيمَةً فَلَمّا مَرّ بِالْمَوْلَاةِ وَقَدْ رَجَعَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى بَيْتِهِ قَالَتْ لَهُ يَا أَبَا عُمَارَةَ
لَوْ رَأَيْت مَا لَقِيَ ابْنَ أَخِيك مُحَمّدٍ آنِفًا مِنْ أَبِي الْحَكَمِ بْنِ
هِشَامٍ وَجَدَهُ هَهُنَا جَالِسًا ، فَآذَاهُ وَسَبّهُ وَبَلَغَ مِنْهُ مَا
يَكْرَهُ ثُمّ انْصَرَفَ عَنْهُ وَلَمْ يُكَلّمْهُ مُحَمّدٌ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ . فَاحْتَمَلَ حَمْزَةَ الْغَضَبُ لِمَا أَرَادَ اللّهُ بِهِ مِنْ
كَرَامَتِهِ فَخَرَجَ يَسْعَى ، وَلَمْ يَقِفْ عَلَى [ ص 45 ] أَحَدٍ ، مُعِدّا
لِأَبِي جَهْلٍ إذَا لَقِيَهُ أَنْ يُوقِعَ بِهِ فَلَمّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ
نَظَرَ إلَيْهِ جَالِسًا فِي الْقَوْمِ فَأَقْبَلَ نَحْوَهُ حَتّى إذَا قَامَ
عَلَى رَأْسِهِ رَفَعَ الْقَوْسَ فَضَرَبَهُ بِهَا ، فَشَجّهُ شَجّةً مُنْكَرَةً ثُمّ
قَالَ أَتَشْتُمُهُ فَأَنَا عَلَى دِينِهِ أَقُولُ مَا يَقُولُ ؟ فَرُدّ ذَلِكَ
عَلَيّ إنْ اسْتَطَعْت . فَقَامَتْ رِجَالٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ إلَى حَمْزَةَ
لِيَنْصُرُوا أَبَا جَهْلٍ فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ دَعُوا أَبَا عُمَارَةَ فَإِنّي
وَاَللّهِ قَدْ سَبَبْت ابْنَ أَخِيهِ سَبّا قَبِيحًا ، وَتَمّ حَمْزَةُ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُ عَلَى إسْلَامِهِ وَعَلَى مَا تَابَعَ عَلَيْهِ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ قَوْمِهِ . فَلَمّا أَسْلَمَ حَمْزَةُ
عَرَفَتْ قُرَيْشٌ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ عَزّ
وَامْتَنَعَ وَأَنّ حَمْزَةَ سَيَمْنَعُهُ فَكَفّوا عَنْ بَعْضِ مَا كَانُوا
يَنَالُونَ مِنْهُ .Sإسْلَامُ
حَمْزَةَ
[ ص 44 ] وَذَكَرَ إسْلَامَ حَمْزَةَ وَأُمّهُ هَالَةُ بِنْتُ أُهَيْبِ بْنِ
عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ وَأُهَيْبُ عَمّ آمِنَةَ بِنْتِ وَهْبٍ تَزَوّجَهَا
عَبْدُ الْمُطّلِبِ ، وَتَزَوّجَ ابْنُهُ عَبْدِ اللّهِ آمِنَةَ فِي سَاعَةٍ
وَاحِدَةٍ فَوَلَدَتْ هَالَةُ لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ حَمْزَةَ . وَوَلَدَتْ آمِنَةُ
لِعَبْدِ اللّهِ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ثُمّ
أَرْضَعَتْهُمَا ثُوَيْبَةُ كَمَا تَقَدّمَ وَزَادَ غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ فِي
إسْلَامِ حَمْزَةَ أَنّهُ قَالَ لَمّا احْتَمَلَنِي الْغَضَبُ وَقُلْت : أَنَا
عَلَى [ ص 45 ] آبَائِي وَقَوْمِي ، وَبِتّ مِنْ الشّكّ فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ لَا
أَكْتَحِلُ بِنَوْمِ ثُمّ أَتَيْت الْكَعْبَةَ ، وَتَضَرّعْت إلَى اللّهِ
سُبْحَانَهُ أَنْ يَشْرَحَ صَدْرِي لِلْحَقّ وَيُذْهِبَ عَنّي الرّيْبَ فَمَا
اسْتَتْمَمْتُ دُعَائِي حَتّى زَاحَ عَنّي الْبَاطِلُ وَامْتَلَأَ قَلْبِي
يَقِينًا - أَوْ كَمَا قَالَ - فَغَدَوْت إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَأَخْبَرْته بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِي ، فَدَعَا لِي بِأَنْ
يُثَبّتَنِي اللّهُ وَقَالَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ حِينَ أَسْلَمَ :
حَمِدْت اللّهَ حِينَ هَدَى فُؤَادِي ... إلَى الْإِسْلَامِ وَالدّينِ الْحَنِيفِ
الدّينُ جَاءَ مِنْ رَبّ عَزِيزٍ ... خَبِيرٍ بِالْعِبَادِ بِهِمْ لَطِيفِ
إذَا تُلِيَتْ رَسَائِلُهُ عَلَيْنَا ... تَحَدّرَ دَمْعُ ذِي اللّبّ الْحَصِيفِ
رَسَائِلُ جَاءَ أَحْمَدُ مِنْ هُدَاهَا ... بِآيَاتِ مُبَيّنَةِ الْحُرُوفِ
وَأَحْمَدُ مُصْطَفًى فِينَا مُطَاعٌ ... فَلَا تَغْشَوْهُ بِالْقَوْلِ الْعَنِيفِ
فَلَا وَاَللّهِ نُسْلِمُهُ لِقَوْمِ ... وَلَمّا نَقْضِ فِيهِمْ بِالسّيُوفِ
وَنَتْرُكْ مِنْهُمْ قَتْلَى بِقَاعٍ ... عَلَيْهَا الطّيْرُ كَالْوِرْدِ
الْعَكُوفِ
وَقَدْ خُبّرْت مَا صَنَعَتْ ثَقِيفٌ ... بِهِ فَجَزَى الْقَبَائِلَ مِنْ ثَقِيفِ
إلَهُ النّاسِ شَرّ جَزَاءِ قَوْمٍ ... وَلَا أَسْقَاهُمْ صَوْبَ الْخَرِيفِ
[ ص 46 ]
عُتْبَةُ
بْنُ رَبِيعَةَ يَذْهَبُ إلَى الرّسُولِ ( صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ )
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ
كَعْبٍ الْقُرَظِيّ ، قَالَ حُدّثْت أَنّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ - وَكَانَ
سَيّدًا - قَالَ يَوْمًا وَهُوَ جَالِسٌ فِي نَادِي قُرَيْشٍ وَرَسُولُ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَحْدَهُ يَا مَعْشَرَ
قُرَيْشٍ ، أَلَا أَقُومُ إلَى مُحَمّدٍ فَأُكَلّمَهُ [ ص 46 ] شَاءَ وَيَكُفّ
عَنّا ؟ وَذَلِكَ حِينَ أَسْلَمَ حَمْزَةُ ، وَرَأَوْا أَصْحَابَ رَسُولِ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَزِيدُونَ وَيَكْثُرُونَ فَقَالُوا : بَلَى يَا
أَبَا الْوَلِيدِ قُمْ إلَيْهِ فَكَلّمْهُ فَقَامَ إلَيْهِ عُتْبَةُ حَتّى جَلَسَ
إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ يَا ابْنَ أَخِي
، إنّك مِنّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْت مِنْ السّطَةِ فِي الْعَشِيرَةِ وَالْمَكَانِ
فِي النّسَبِ وَإِنّك قَدْ أَتَيْت قَوْمَك بِأَمْرِ عَظِيمٍ فَرّقْت بِهِ
جَمَاعَتَهُمْ وَسَفّهْت بِهِ أَحْلَامَهُمْ وَعِبْت بِهِ آلِهَتَهُمْ وَدِينَهُمْ
وَكَفّرْت بِهِ مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِهِمْ فَاسْمَعْ مِنّي أَعْرِضُ عَلَيْك
أُمُورًا تَنْظُرُ فِيهَا لَعَلّك تَقْبَلُ مِنْهَا بَعْضَهَا . قَالَ فَقَالَ
لَهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قُلْ يَا أَبَا
الْوَلِيدِ أَسْمَعُ قَالَ يَا ابْنَ أَخِي إنْ كُنْت إنّمَا تُرِيدُ بِمَا جِئْت
بِهِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَالًا ، جَمَعْنَا لَك مِنْ أَمْوَالِنَا ، حَتّى
تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا ، وَإِنْ كُنْت تُرِيدُ بِهِ شَرَفًا سَوّدْنَاك
عَلَيْنَا ، حَتّى لَا نَقْطَعَ أَمْرًا دُونَك ، وَإِنْ كُنْت تُرِيدُ بِهِ
مُلْكًا مَلّكْنَاك عَلَيْنَا ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الّذِي يَأْتِيك رَئِيّا
تَرَاهُ لَا تَسْتَطِيعُ رَدّهُ عَنْ نَفْسِك ، طَلَبْنَا لَك الطّبّ ، وَبَذَلْنَا
فِيهِ أَمْوَالَنَا حَتّى نُبْرِئَك مِنْهُ فَإِنّهُ رُبّمَا غَلَبَ التّابِعُ
عَلَى الرّجُلِ حَتّى يُدَاوَى مِنْهُ أَوْ كَمَا قَالَ لَهُ حَتّى إذَا فَرَغَ
عُتْبَةُ وَرَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَسْتَمِعُ مِنْهُ
قَالَ أَقَدْ فَرَغْت يَا أَبَا الْوَلِيدِ " ؟ قَالَ نَعَمْ قَالَ "
فَاسْمَعْ مِنّي " ، قَالَ أَفْعَلُ فَقَالَ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ
الرّحِيمِ { حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ كِتَابٌ فُصّلَتْ آيَاتُهُ
قُرْآنًا عَرَبِيّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ
أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنّةٍ مِمّا
تَدْعُونَا إِلَيْهِ } [ فُصّلَتْ 1 - 5 ] . ثُمّ مَضَى رَسُولُ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيهَا يَقْرَؤُهَا عَلَيْهِ فَلَمّا سَمِعَهَا مِنْهُ
عُتْبَةُ أَنْصَتَ لَهَا ، وَأَلْقَى يَدَيْهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ مُعْتَمِدًا
عَلَيْهِمَا ، يَسْمَعُ مِنْهُ ثُمّ انْتَهَى رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى السّجْدَةِ مِنْهَا ، فَسَجَدَ ثُمّ قَالَ قَدْ سَمِعْت
يَا أَبَا الْوَلِيدِ مَا سَمِعْت ، فَأَنْتَ وَذَاكَ فَقَامَ عُتْبَةُ إلَى
أَصْحَابِهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ نَحْلِفُ بِاَللّهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ
أَبُو الْوَلِيدِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الّذِي ذَهَبَ بِهِ . فَلَمّا جَلَسَ
إلَيْهِمْ قَالُوا : مَا وَرَاءَك يَا أَبَا الْوَلِيدِ ؟ قَالَ وَرَائِي أَنّي قَدْ
سَمِعْت قَوْلًا وَاَللّهِ مَا سَمِعْت مِثْلَهُ قَطّ ، وَاَللّهِ مَا هُوَ
بِالشّعْرِ وَلَا بِالسّحْرِ وَلَا بِالْكَهَانَةِ . يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ
أَطِيعُونِي وَاجْعَلُوهَا بِي ، وَخَلّوا بَيْنَ هَذَا الرّجُلِ وَبَيْنَ مَا
هُوَ فِيهِ فَاعْتَزِلُوهُ فَوَاَللّهِ لَيَكُونَن لِقَوْلِهِ الّذِي سَمِعْت
مِنْهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ فَإِنْ تُصِبْهُ الْعَرَبُ فَقَدْ كَفَيْتُمُوهُ
بِغَيْرِكُمْ وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَرَبِ ، فَمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ وَعِزّهُ
عِزّكُمْ وَكُنْتُمْ أَسْعَدَ النّاسِ بِهِ قَالُوا : سَحَرَك وَاَللّهِ يَا أَبَا
الْوَلِيدِ بِلِسَانِهِ قَالَ هَذَا رَأْيِي فِيهِ فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ .
بَيْنَ
النّبِيّ ( صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ ) وَبَيْنَ قُرَيْشٍ
[ ص 47 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّ الْإِسْلَامَ جَعَلَ يَفْشُو بِمَكّةَ
فِي قَبَائِلِ قُرَيْشٍ فِي الرّجَالِ وَالنّسَاءِ وَقُرَيْشٌ تَحْبِسُ مَنْ
قَدَرَتْ عَلَى حَبْسِهِ وَتَفْتِنُ مَنْ اسْتَطَاعَتْ فِتْنَتَهُ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ ثُمّ إنّ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنْ كُلّ قَبِيلَةٍ - كَمَا
حَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، وَعَنْ
عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبّاسٍ ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُمَا قَالَ اجْتَمَعَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ ، وَشَيْبَةُ بْنُ
رَبِيعَةَ ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ ، وَالنّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ ، أَخُو
بَنِي عَبْدِ الدّارِ ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيّ بْنُ هِشَامٍ وَالْأَسْوَدُ بْنُ
الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدٍ ، وَزَمَعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ ، وَالْوَلِيدُ بْنُ
الْمُغِيرَةِ ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ - لَعَنَهُ اللّهُ - وَعَبْدُ اللّهِ
بْنُ أَبِي أُمَيّةَ ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ ، وَنَبِيهٌ وَمُنَبّهٌ ابْنَا
الْحَجّاجِ السّهْمِيّانِ ، وَأُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ ، أَوْ مَنْ اجْتَمَعَ
مِنْهُمْ . قَالَ اجْتَمَعُوا بَعْدَ غُرُوبِ الشّمْسِ عِنْدَ ظَهْرِ الْكَعْبَةِ
، ثُمّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ ابْعَثُوا إلَى مُحَمّدٍ فَكَلّمُوهُ
وَخَاصِمُوهُ حَتّى تُعْذَرُوا فِيهِ فَبَعَثُوا إلَيْهِ إنّ أَشْرَافَ قَوْمِك
قَدْ اجْتَمَعُوا لَك لِيُكَلّمُوك ، فَأْتِهِمْ فَجَاءَهُمْ رَسُولُ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - سَرِيعًا ، وَهُوَ يَظُنّ أَنْ قَدْ بَدَا
لَهُمْ فِيمَا كَلّمَهُمْ فِيهِ بَدَاءٌ وَكَانَ عَلَيْهِمْ حَرِيصًا يُحِبّ
رُشْدَهُمْ وَيَعِزّ عَلَيْهِ عَنَتُهُمْ حَتّى جَلَسَ إلَيْهِمْ فَقَالُوا لَهُ
يَا مُحَمّدُ إنّا قَدْ بَعَثْنَا إلَيْك ؛ لِنُكَلّمَك ، وَإِنّا وَاَللّهِ مَا
نَعْلَمُ رَجُلًا مِنْ الْعَرَبِ أَدْخَلَ عَلَى قَوْمِهِ مِثْلَ مَا أَدْخَلْت
عَلَى قَوْمِك ، لَقَدْ شَتَمْت الْآبَاءَ وَعِبْت الدّينَ وَشَتَمْت الْآلِهَةَ
وَسَفّهْت الْأَحْلَامَ وَفَرّقْت الْجَمَاعَةَ فَمَا بَقِيَ أَمْرٌ قَبِيحٌ إلّا
قَدْ جِئْته فِيمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَك - أَوْ كَمَا قَالُوا لَهُ - فَإِنْ كُنْت
إنّمَا جِئْت بِهَذَا الْحَدِيثِ تَطْلُبُ بِهِ مَالًا جَمَعْنَا لَك مِنْ
أَمْوَالِنَا حَتّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا ، وَإِنْ كُنْت إنّمَا تَطْلُبُ
بِهِ الشّرَفَ فِينَا ، فَنَحْنُ نُسَوّدُك عَلَيْنَا ، وَإِنْ كُنْت تُرِيدُ بِهِ
مُلْكًا مَلّكْنَاك عَلَيْنَا ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الّذِي يَأْتِيَك رَئِيّا
تَرَاهُ قَدْ غَلَبَ عَلَيْك - وَكَانُوا يُسَمّونَ التّابِعَ مِنْ الْجِنّ
رَئِيّا - فَرُبّمَا كَانَ ذَلِكَ بَذَلْنَا لَك أَمْوَالَنَا فِي طَلَبِ الطّبّ
لَك حَتّى نُبْرِئَك مِنْهُ أَوْ نُعْذَرَ فِيك ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَا بِي مَا تَقُولُونَ ، مَا جِئْت بِمَا
جِئْتُكُمْ بِهِ أَطْلُبُ أَمْوَالَكُمْ وَلَا الشّرَفَ فِيكُمْ وَلَا الْمُلْكَ
عَلَيْكُمْ . وَلَكِنّ اللّهَ بَعَثَنِي إلَيْكُمْ رَسُولًا ، وَأَنْزَلَ عَلَيّ
كِتَابًا ، [ ص 48 ] أَكُونَ لَكُمْ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ، فَبَلّغْتُكُمْ
رِسَالَاتِ رَبّي ، وَنَصَحْت لَكُمْ فَإِنْ تَقْبَلُوا مِنّي مَا جِئْتُكُمْ بِهِ
فَهُوَ حَظّكُمْ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَإِنْ تَرُدّوهُ عَلَيّ أَصْبِرُ
لِأَمْرِ اللّهِ حَتّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أَوْ كَمَا قَالَ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالُوا : يَا مُحَمّدُ فَإِنْ كُنْت غَيْرَ
قَابِلٍ مِنّا شَيْئًا مِمّا عَرَضْنَاهُ عَلَيْك ، فَإِنّك قَدْ عَلِمْت أَنّهُ
لَيْسَ مِنْ النّاسِ أَحَدٌ أَضْيَقُ بَلَدًا ، وَلَا أَقَلّ مَاءً وَلَا أَشَدّ
عَيْشًا مِنّا ، فَسَلْ لَنَا رَبّك الّذِي بَعَثَك بِمَا بَعَثَك بِهِ
فَلْيُسَيّرْ عَنّا هَذِهِ الْجِبَالَ الّتِي قَدْ ضَيّقَتْ عَلَيْنَا ،
وَلْيَبْسُطْ لَنَا بِلَادَنَا ، وَلْيُفَجّرْ لَنَا فِيهَا أَنَهَارًا
كَأَنْهَارِ الشّامِ وَالْعِرَاقِ ، وَلْيَبْعَثْ لَنَا مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِنَا
، وَلْيَكُنْ فِيمَنْ يَبْعَثُ لَنَا مِنْهُمْ قُصَيّ بْنُ كِلَابٍ ، فَإِنْ كَانَ
شَيْخَ صِدْقٍ فَنَسْأَلُهُمْ عَمّا تَقُولُ أَحَقّ هُوَ أَمْ بَاطِلٌ فَإِنْ
صَدّقُوك ، وَصَنَعْت مَا سَأَلْنَاك ، صَدّقْنَاك ، وَعَرَفْنَا بِهِ مَنْزِلَتَك
مِنْ اللّهِ وَأَنّهُ بَعَثَك رَسُولًا - كَمَا تَقُولُ - فَقَالَ لَهُمْ
صَلَوَاتُ اللّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ مَا بِهَذَا بُعِثْت إلَيْكُمْ إنّمَا
جِئْتُكُمْ مِنْ اللّهِ بِمَا بَعَثَنِي بِهِ وَقَدْ بَلّغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْت
بِهِ إلَيْكُمْ فَإِنْ تَقْبَلُوهُ فَهُوَ حَظّكُمْ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ
وَإِنْ تَرُدّوهُ عَلَيّ أَصْبِرُ لِأَمْرِ اللّهِ تَعَالَى ، حَتّى يَحْكُمَ
اللّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ قَالُوا : فَإِذَا لَمْ تَفْعَلْ هَذَا لَنَا ،
فَخُذْ لِنَفْسِك ، سَلْ رَبّك أَنْ يَبْعَثَ مَعَك مَلَكًا يُصَدّقُك بِمَا
تَقُولُ وَيُرَاجِعُنَا عَنْك وَسَلْهُ فَلْيَجْعَلْ لَك جِنَانًا وَقُصُورًا
وَكُنُوزًا مِنْ ذَهَبٍ وَفِضّةٍ يُغْنِيَك بِهَا عَمّا نَرَاك تَبْتَغِي ،
فَإِنّك تَقُومُ بِالْأَسْوَاقِ كَمَا نَقُومُ وَتَلْتَمِسُ الْمَعَاشَ كَمَا
نَلْتَمِسُهُ حَتّى نَعْرِفَ فَضْلَك وَمَنْزِلَتَك مِنْ رَبّك إنْ كُنْت رَسُولًا
كَمَا تَزْعُمُ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَا
أَنَا [ ص 49 ] رَبّهُ هَذَا ، وَمَا بُعِثْت إلَيْكُمْ بِهَذَا ، وَلَكِنّ اللّهَ
بَعَثَنِي بَشِيرًا وَنَذِيرًا - أَوْ كَمَا قَالَ - فَإِنْ تَقْبَلُوا مَا
جِئْتُكُمْ بِهِ فَهُوَ حَظّكُمْ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَإِنْ تَرُدّوهُ
عَلَيّ أَصْبِرْ لِأَمْرِ اللّهِ حَتّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ
قَالُوا : فَأَسْقِطْ السّمَاءَ عَلَيْنَا كِسَفًا كَمَا زَعَمْت أَنّ رَبّك لَوْ
شَاءَ فَعَلَ فَإِنّا لَا نُؤْمِنُ لَك إلّا أَنْ تَفْعَلَ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ذَلِكَ إلَى اللّهِ إنْ شَاءَ أَنْ
يَفْعَلَهُ بِكُمْ فَعَلَ قَالُوا : يَا مُحَمّدُ أَفَمَا عَلِمَ رَبّك أَنّا
سَنَجْلِسُ مَعَك ، وَنَسْأَلُك عَمّا سَأَلْنَاك عَنْهُ وَنَطْلُبُ مِنْك مَا
نَطْلُبُ فَيَتَقَدّمُ إلَيْك فَيُعْلِمُك مَا تُرَاجِعُنَا بِهِ وَيُخْبِرُك مَا
هُوَ صَانِعٌ فِي ذَلِكَ بِنَا ، إذَا لَمْ نَقْبَلْ مِنْك مَا جِئْتنَا بِهِ إنّهُ
قَدْ بَلَغَنَا أَنّك إنّمَا يُعَلّمُك هَذَا رَجُلٌ بِالْيَمَامَةِ يُقَالُ لَهُ
الرّحْمَنُ وَإِنّا وَاَللّهِ لَا نُؤْمِنُ بِالرّحْمَنِ أَبَدًا ، فَقَدْ
أَعْذَرْنَا إلَيْك يَا مُحَمّدُ وَإِنّا وَاَللّهِ لَا نَتْرُكُك وَهِيَ بَنَاتُ
اللّهِ . وَقَالَ قَائِلُهُمْ لَنْ نُؤْمِنَ لَك حَتّى تَأْتِيَنَا بِاَللّهِ
وَبِالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا . فَلَمّا قَالُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَامَ عَنْهُمْ وَقَامَ مَعَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ
أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ
[ ص 50 ] لِعَاتِكَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ - فَقَالَ لَهُ يَا مُحَمّدُ
عَرَضَ عَلَيْك قَوْمُك مَا عَرَضُوا فَلَمْ تَقْبَلْهُ مِنْهُمْ ثُمّ سَأَلُوك
لِأَنْفُسِهِمْ أُمُورًا ، لِيَعْرِفُوا بِهَا مَنْزِلَتَك مِنْ اللّهِ كَمَا تَقُولُ
وَيُصَدّقُوك وَيَتْبَعُوك فَلَمْ تَفْعَلْ ثُمّ سَأَلُوك أَنْ تَأْخُذَ لِنَفْسِك
مَا يَعْرِفُونَ بِهِ فَضْلَك عَلَيْهِمْ وَمَنْزِلَتَك مِنْ اللّهِ فَلَمْ
تَفْعَلْ ثُمّ سَأَلُوك أَنْ تُعَجّلَ لَهُمْ بَعْضَ مَا تُخَوّفَهُمْ بِهِ مِنْ
الْعَذَابِ فَلَمْ تَفْعَلْ - أَوْ كَمَا قَالَ لَهُ - فَوَاَللّهِ لَا أُؤْمِنُ
بِك أَبَدًا حَتّى تَتّخِذَ إلَى السّمَاءِ سُلّمًا ، ثُمّ تَرْقَى فِيهِ وَأَنَا
أَنْظُرُ إلَيْك حَتّى تَأْتِيَهَا ، ثُمّ تَأْتِي مَعَك أَرْبَعَةٌ مِنْ
الْمَلَائِكَةِ يَشْهَدُونَ لَك أَنّك كَمَا تَقُولُ . وَأَيْمُ اللّهِ أَنْ لَوْ
فَعَلْت ذَلِكَ مَا ظَنَنْت أَنّي أُصَدّقُك ، ثُمّ انْصَرَفَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ
- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَانْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى أَهْلِهِ حَزِينًا آسِفًا لِمَا فَاتَهُ مِمّا كَانَ
يَطْمَعُ بِهِ مِنْ قَوْمِهِ حِينَ دَعَوْهُ وَلِمَا رَأَى مِنْ مُبَاعَدَتِهِمْ
إيّاهُ .Sطَلَبُ
الْآيَاتِ
فَصْلٌ
[ ص 47 ] وَذَكَرَ مَا سَأَلَهُ قَوْمُهُ مِنْ الْآيَاتِ وَإِزَالَةِ الْجِبَالِ
عَنْهُمْ وَإِنْزَالِ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِ [ ص 48 ] يَكُونَ إيمَانُهُمْ عَنْ
نَظَرٍ وَفِكْرٍ فِي الْأَدِلّةِ فَيَقَعُ الثّوَابُ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ وَلَوْ
كُشِفَ الْغِطَاءُ وَحَصَلَ لَهُمْ الْعِلْمُ الضّرُورِيّ ، بَطَلَتْ الْحِكْمَةُ
الّتِي مِنْ أَجْلِهَا يَكُونُ الثّوَابُ وَالْعِقَابُ إذْ لَا يُؤْجَرُ الْإِنْسَانُ
عَلَى مَا لَيْسَ مِنْ كَسْبِهِ كَمَا لَا يُؤْجَرُ عَلَى مَا خُلِقَ فِيهِ مِنْ
لَوْنٍ وَشَعْرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَإِنّمَا أَعْطَاهُمْ مِنْ الدّلِيلِ مَا
يَقْتَضِي النّظَرُ فِيهِ الْعِلْمَ الْكَسْبِيّ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلّا
بِفِعْلِ مِنْ أَفْعَالِ الْقَلْبِ وَهُوَ النّظَرُ فِي الدّلِيلِ وَفِي وَجْهِ
دَلَالَةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى صِدْقِ الرّسُولِ وَإِلّا فَقَدْ كَانَ قَادِرًا
سُبْحَانَهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِكَلَامِ يَسْمَعُونَهُ وَيُغْنِيَهُمْ عَنْ
إرْسَالِ الرّسُلِ إلَيْهِمْ وَلَكِنّهُ سُبْحَانَهُ قَسّمَ الْأَمْرَ بَيْنَ
الدّارَيْنِ فَجَعَلَ الْأَمْرَ يَعْلَمُ فِي الدّنْيَا بِنَظَرِ وَاسْتِدْلَالٍ
وَتَفَكّرٍ وَاعْتِبَارٍ لِأَنّهَا دَارُ تَعَبّدٍ وَاخْتِبَارٍ وَجَعَلَ
الْأَمْرَ يُعْلَمُ فِي الْآخِرَةِ بِمُعَايَنَةِ وَاضْطِرَارٍ لَا يُسْتَحَقّ
بِهِ ثَوَابٌ وَلَا جَزَاءٌ وَإِنّمَا يَكُونُ الْجَزَاءُ فِيهَا عَلَى مَا سَبَقَ
فِي الدّارِ الْأُولَى ، حِكْمَةً دَبّرَهَا ، وَقَضِيّةً أَحْكَمَهَا ، وَقَدْ
قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلّا أَنْ
كَذّبَ بِهَا الْأَوّلُونَ } [ الْإِسْرَاءِ 59 ] . يُرِيدُ - فِيمَا قَالَ أَهْلُ
التّأْوِيلِ - إنّ التّكْذِيبَ بِالْآيَاتِ نَحْوَ مَا سَأَلُوهُ مِنْ إزَالَةِ
الْجِبَالِ عَنْهُمْ وَإِنْزَالِ الْمَلَائِكَةِ يُوجِبُ فِي حُكْمِ اللّهِ أَلّا
[ ص 49 ] وَبِآلِ فِرْعَوْنَ ، فَلَوْ أُعْطِيَتْ قُرَيْشٌ مَا سَأَلُوهُ مِنْ
الْآيَاتِ وَجَاءَهُمْ بِمَا اقْتَرَحُوا ثُمّ كَذّبُوا لَمْ يَلْبَثُوا ،
وَلَكِنّ اللّهَ أَكْرَمَ مُحَمّدًا فِي الْأُمّةِ الّتِي أَرْسَلَهُ إلَيْهِمْ
إذْ قَدْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنْ يُكَذّبَ بِهِ مَنْ يُكَذّبُ وَيُصَدّقَ بِهِ مَنْ
يُصَدّقُ وَابْتَعَثَهُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ بَرّ وَفَاجِرٍ أَمّا الْبَرّ
فَرَحْمَتُهُ إيّاهُمْ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَمّا الْفَاجِرُ فَإِنّهُمْ
أَمِنُوا مِنْ الْخَسْفِ وَالْغَرَقِ وَإِرْسَالِ حَاصِبٍ عَلَيْهِمْ مِنْ
السّمَاءِ . كَذَلِكَ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ التّفْسِيرِ فِي قَوْلِهِ { وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [ الْأَنْبِيَاءِ 107 ] مَعَ
أَنّهُمْ لَمْ يَسْأَلُوا مَا سَأَلُوا مِنْ الْآيَاتِ إلّا تَعَنّتًا
وَاسْتِهْزَاءً لَا عَلَى جِهَةِ الِاسْتِرْشَادِ وَدَفْعِ الشّكّ فَقَدْ كَانُوا
رَأَوْا مِنْ دَلَائِلِ النّبُوّةِ مَا فِيهِ شِفَاءٌ لِمَنْ أَنْصَفَ قَالَ
اللّهُ سُبْحَانَهُ { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ
} [ الْعَنْكَبُوتِ 51 ] الْآيَةَ وَفِي هَذَا الْمَعْنَى قِيلَ
لَوْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ آيَاتٌ مُبَيّنَةٌ ... كَانَتْ بَدَاهَتُهُ تُنْبِيكَ
بِالْخَبَرِ
وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الرّوَايَةِ أَنّهُمْ سَأَلُوا
أَنْ يَجْعَلَ لَهُمْ الصّفَا ذَهَبًا ، فَهَمّ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنْ يَدْعُوَ اللّهَ لَهُمْ فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَقَالَ
لَهُمْ مَا شِئْتُمْ إنْ شِئْتُمْ فَعَلْت مَا سَأَلْتُمْ ثُمّ لَا نُلْبِثُكُمْ
إنْ كَذّبْتُمْ بَعْدَ مُعَايَنَةِ الْآيَةِ فَقَالُوا : لَا حَاجَةَ لَنَا بِهَا
.
عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ قَوْلَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي أُمَيّةَ لَهُ وَاسْمُ أَبِي أُمَيّةَ
حُذَيْفَةُ وَاَللّهِ لَا أُومِنُ بِك [ ص 50 ] تَتّخِذَ سُلّمًا إلَى آخِرِ
الْكَلَامِ وَقَدْ أَسْلَمَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ قَبْلَ فَتْحِ
مَكّةَ ، وَسَيَأْتِي ذِكْرُ إسْلَامِهِ .
فَلَمّا
قَامَ عَنْهُمْ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ أَبُو
جَهْلٍ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إنّ مُحَمّدًا قَدْ أَبَى إلّا مَا تَرَوْنَ
مِنْ عَيْبِ دِينِنَا ، وَشَتْمِ آبَائِنَا ، وَتَسْفِيهِ أَحْلَامِنَا ، وَشَتْمِ
آلِهَتِنَا ، وَإِنّي أُعَاهِدُ اللّهَ لَأَجْلِسَن لَهُ غَدًا بِحَجَرِ مَا
أُطِيقُ حَمْلَهُ - أَوْ كَمَا قَالَ - فَإِذَا سَجَدَ فِي صَلَاتِهِ فَضَخْت بِهِ
رَأْسَهُ فَأَسْلِمُونِي عِنْدَ ذَلِكَ أَوْ امْنَعُونِي ، فَلْيَصْنَعْ بَعْدَ
ذَلِكَ بَنُو عَبْدِ مَنَافٍ ، مَا بَدَا لَهُمْ قَالُوا : وَاَللّهِ لَا
نُسْلِمْك لِشَيْءِ أَبَدًا ، فَامْضِ لِمَا تُرِيدُ . فَلَمّا أَصْبَحَ أَبُو
جَهْلٍ ، أَخَذَ حَجَرًا كَمَا وَصَفَ ثُمّ جَلَسَ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَنْتَظِرُهُ وَغَدَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَمَا كَانَ يَغْدُو ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِمَكّةَ وَقِبْلَتُهُ إلَى الشّامِ ، فَكَانَ إذَا صَلّى
صَلّى بَيْنَ الرّكْنِ الْيَمَانِيّ وَالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ، وَجَعَلَ
الْكَعْبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ [ ص 51 ] الشّامِ . فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يُصَلّي وَقَدْ غَدَتْ قُرَيْشٌ ، فَجَلَسُوا فِي
أَنْدِيَتِهِمْ يَنْتَظِرُونَ مَا أَبُو جَهْلٍ فَاعِلٌ . فَلَمّا سَجَدَ رَسُولُ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - احْتَمَلَ أَبُو جَهْلٍ الْحَجَرَ ،
ثُمّ أَقْبَلَ نَحْوَهُ حَتّى إذَا دَنَا مِنْهُ رَجَعَ مُنْهَزِمًا . مُنْتَقَعًا
لَوْنُهُ مَرْعُوبًا . قَدْ يَبِسَتْ يَدَاهُ عَلَى حَجَرِهِ . حَتّى قَذَفَ
الْحَجَرَ مِنْ يَدِهِ . وَقَامَتْ إلَيْهِ رِجَالُ قُرَيْشٍ . فَقَالُوا لَهُ مَا
لَك يَا أَبَا الْحَكَمِ ؟ قَالَ قُمْت إلَيْهِ لِأَفْعَلَ بِهِ مَا قُلْت لَكُمْ
الْبَارِحَةَ فَلَمّا دَنَوْت مِنْهُ عَرَضَ لِي دُونَهُ فَحْلٌ مِنْ الْإِبِلِ
لَا وَاَللّهِ مَا رَأَيْت مِثْلَ هَامَتِهِ وَلَا مِثْلَ قَصْرَتِهِ وَلَا
أَنْيَابِهِ لِفَحْلِ قَطّ . فَهَمّ بِي أَنْ يَأْكُلَنِي . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ
: فَذُكِرَ لِي أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ
ذَلِكَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ ، لَوْ دَنَا لَأَخَذَهُ . فَلَمّا قَالَ
لَهُمْ ذَلِكَ أَبُو جَهْلٍ . قَامَ النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ بْنِ
عَلْقَمَةَ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ . قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ : وَيُقَالُ النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ كَلَدَةَ بْنِ
عَبْدِ مَنَافِ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ . إنّهُ وَاَللّهِ
قَدْ نَزَلَ بِكُمْ أَمْرٌ مَا أَتَيْتُمْ لَهُ بِحِيلَةِ بَعْدُ قَدْ كَانَ
مُحَمّدٌ فِيكُمْ غُلَامًا حَدَثًا ، أَرْضَاكُمْ فِيكُمْ . وَأَصْدَقَكُمْ
حَدِيثًا . وَأَعْظَمَكُمْ أَمَانَةً . حَتّى إذَا رَأَيْتُمْ فِي صُدْغَيْهِ
الشّيْبَ وَجَاءَكُمْ بِمَا جَاءَكُمْ بِهِ . قُلْتُمْ سَاحِرٌ لَا وَاَللّهِ مَا
هُوَ بِسَاحِرِ . لَقَدْ رَأَيْنَا السّحَرَةَ وَنَفْثَهُمْ وَعَقْدَهُمْ
وَقُلْتُمْ كَاهِنٌ . لَا وَاَللّهِ مَا هُوَ بِكَاهِنِ [ ص 52 ] وَسْوَسَتِهِ
وَلَا تَخْلِيطِهِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، فَانْظُرُوا فِي شَأْنِكُمْ فَإِنّهُ
وَاَللّهِ لَقَدْ نَزَلَ بِكُمْ أَمْرٌ عَظِيمٌ .Sهَمّ
أَبِي جَهْلٍ بِإِلْقَاءِ الْحَجَرِ
وَذَكَرَ خَبَرَ أَبِي جَهْلٍ ، وَمَا هَمّ بِهِ مِنْ إلْقَاءِ الْحَجَرِ عَلَى
رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ سَاجِدٌ وَقَدْ رَوَاهُ
النّسَوِيّ بِإِسْنَادِ إلَى أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ أَبُو جَهْلٍ وَذَكَرَ
الْحَدِيثَ إلَى قَوْلِهِ فَنَكَصَ أَبُو جَهْلٍ عَلَى عَقِبَيْهِ فَقَالُوا : مَا
لَك ؟ فَقَالَ إنّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقًا مِنْ نَارٍ وَهَوْلًا
وَأَجْنِحَةً فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَوْ
دَنَا لَاخْتَطَفَتْهُ الْمَلَائِكَةُ عُضْوًا عُضْوًا وَخَرّجَهُ أَيْضًا
مُسْلِمٌ [ ص 51 ] وَذَكَرَ النّسَوِيّ أَيْضًا بِإِسْنَادِهِ إلَى ابْنِ عَبّاسٍ
أَنّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ لَهُ أَلَمْ أَنْهَك ؟ فَوَاَللّهِ مَا بِمَكّةَ نَادٍ
أَعَزّ مِنْ نَادِيّ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : { أَرَأَيْتَ الّذِي يَنْهَى
عَبْدًا } إلَى قَوْلِهِ { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ الزّبَانِيَةَ } [
الْعَلَقِ 17 - 18 ] .
تَفْسِيرُ أَرَأَيْت
قَالَ مُحَمّدُ بْنُ يَزِيدَ فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ { أَرَأَيْتَ
الّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلّى } أَمُصِيبٌ هُوَ أَوْ مُخْطِئٌ ؟ وَكَذَلِكَ
فِي قَوْلِهِ { أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى } [ الْعَلَقِ 11 ] كَأَنّهُ
قَالَ أَلَيْسَ مَنْ يَنْهَاهُ بِضَالّ وَقَوْلِهِ { لَنَسْفَعَنْ بِالنّاصِيَةِ }
[ الْعَلَقِ 15 ] أَيْ لَنَأْخُذَنّ بِهَا إلَى النّارِ وَقِيلَ مَعْنَى السّفْعِ
هَهُنَا : إذْلَالُهُ وَقَهْرُهُ وَالنّادِي وَالنّدِيّ وَالْمُنْتَدَى بِمَعْنَى
وَاحِدٍ وَهُوَ مَجْلِسُ الْقَوْمِ الّذِينَ يَتَنَادَوْنَ إلَيْهِ وَقَالَ أَهْلُ
التّفْسِيرِ فِيهِ أَقْوَالًا مُتَقَارِبَةً قَالَ بَعْضُهُمْ فَلْيَدْعُ حَيّهُ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ عَشِيرَتَهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَجْلِسَهُ وَفِي أَرَأَيْت
مَعْنَى : أَخْبِرْنِي ، وَلِذَلِكَ قَالَ سِيبَوَيْهِ : لَمْ يَجُزْ إلْغَاؤُهَا
، كَمَا تُلْغَى : عَلِمْت إذَا قُلْت : عَلِمْت أَزَيْدٌ عِنْدَك أَمْ عَمْرٌو ،
وَلَا يَجُوزُ هَذَا فِي : أَرَأَيْت ، وَلَا بُدّ مِنْ النّصْبِ إذَا قُلْت :
أَرَأَيْت زَيْدًا ، أَبُو مَنْ هُوَ ؟ قَالَ سِيبَوَيْهِ : لِأَنّ دُخُولَ
مَعْنَى أَخْبِرْنِي فِيهَا لَا يَجْعَلُهَا بِمَنْزِلَةِ أَخْبِرْنِي فِي جَمِيعِ
أَحْوَالِهَا ، قَالَ [ ص 52 ] قَالَ سِيبَوَيْهِ إلّا بَعْدَ الْبَيَانِ وَذَلِكَ
أَنّهَا فِي الْقُرْآنِ مُلْغَاةٌ لِأَنّ الِاسْتِفْهَامَ هُوَ مَطْلُوبُهَا ،
وَعَلَيْهِ وَقَعَتْ فِي قَوْلِهِ { أَرَأَيْتَ إِنْ كَذّبَ وَتَوَلّى أَلَمْ
يَعْلَمْ } [ الْعَلَقِ 13 ] . فَقَوْلُهُ أَلَمْ يَعْلَمْ اسْتِفْهَامٌ
وَعَلَيْهِ وَقَعَتْ أَرَأَيْت ، وَكَذَلِكَ أَرَأَيْت ، وَأَرَأَيْتُكُمْ فِي
الْأَنْعَامِ فَإِنّ الِاسْتِفْهَامَ وَاقِعٌ بَعْدَهَا نَحْوَ { هَلْ يُهْلَكُ
إِلّا الْقَوْمُ الظّالِمُونَ } [ الْأَنْعَامِ 47 ] . وَهَذَا هُوَ الّذِي مَنَعَ
سِيبَوَيْهِ فِي : أَرَأَيْت وَأَرَأَيْتُكَ أَبُو مَنْ أَنْتَ ؟ وَأَمّا
الْبَيَانُ فَاَلّذِي قَالَهُ سِيبَوَيْهِ صَحِيحٌ وَلَكِنْ إذَا وَلّى
الِاسْتِفْهَامَ أَرَأَيْت ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مَفْعُولٌ سِوَى الْجُمْلَةِ
وَأَمّا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الّتِي فِي التّنْزِيلِ فَلَيْسَتْ الْجُمْلَةُ
الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهَا هِيَ مَفْعُولُ أَرَأَيْت ، إنّمَا مَفْعُولُهَا
مَحْذُوفٌ يَدُلّ عَلَيْهِ الشّرْطُ وَلَا بُدّ مِنْ الشّرْطِ بَعْدَهَا فِي
هَذِهِ الصّوَرِ لِأَنّ الْمَعْنَى : أَرَأَيْتُمْ صَنِيعَكُمْ إنْ كَانَ كَذَا ،
وَكَذَا ، كَمَا يَقُولُ الْقَائِلُ أَرَأَيْت إنْ لَقِيت الْعَدُوّ أَتُقَاتِلُهُ
أَمْ لَا ؟ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ أَرَأَيْت رَأْيَك أَوْ صَنِيعَك إنْ لَقِيت
الْعَدُوّ فَحَرْفُ الشّرْطِ وَهُوَ إنْ دَالّ عَلَى ذَلِكَ الْمَحْذُوفِ
وَمُرْتَبِطٌ بِهِ وَالْجُمْلَةُ الْمُسْتَفْهَمُ عَنْهَا كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ
مُنْقَطِعٌ إلّا أَنّ فِيهِ زِيَادَةَ بَيَانٍ لِمَا يُسْتَفْهَمُ عَنْهُ وَلَوْ
زَالَ الشّرْطُ وَوَلِيَهَا الِاسْتِفْهَامُ لَقَبُحَ كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ ،
وَيَحْسُنُ فِي : عَلِمْت ، وَهَلْ عَلِمْت وَهَلْ رَأَيْت ، وَإِنّمَا قُبْحُهُ
مَعَ أَرَأَيْت خَاصّةً وَهِيَ الّتِي دَخَلَهَا مَعْنَى : أَخْبِرْنِي
فَتَدَبّرْهُ .
وَكَانَ
النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ مِنْ شَيَاطِينِ قُرَيْشٍ ، وَمِمّنْ كَانَ يُؤْذِي
رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَيَنْصِبُ لَهُ الْعَدَاوَةَ
وَكَانَ قَدْ قَدِمَ الْحِيرَةَ ، وَتَعَلّمَ بِهَا أَحَادِيثَ مُلُوكِ الْفُرْسِ
، وَأَحَادِيثَ رُسْتُمَ وإسفندياذ ، فَكَانَ إذَا جَلَسَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَجْلِسًا فَذَكّرَ فِيهِ بِاَللّهِ وَحَذّرَ قَوْمَهُ
مَا أَصَابَ مَنْ قَبْلَهُمْ مِنْ الْأُمَمِ مِنْ نِقْمَةِ اللّهِ خَلَفَهُ فِي
مَجْلِسِهِ إذَا قَامَ ثُمّ قَالَ أَنَا وَاَللّهِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ،
أَحْسَنُ حَدِيثًا مِنْهُ فَهَلُمّ إلَيّ فَأَنَا أُحَدّثُكُمْ أَحْسَنَ مِنْ
حَدِيثِهِ ثُمّ يُحَدّثُهُمْ عَنْ مُلُوكِ فَارِسَ وَرُسْتُمَ وإسفندياذ . ثُمّ
يَقُولُ بِمَاذَا مُحَمّدٌ أَحْسَنُ حَدِيثًا مِنّي ؟ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
وَهُوَ الّذِي قَالَ فِيمَا بَلَغَنِي : { سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ
} قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ
- فِيمَا بَلَغَنِي : نَزَلَ فِيهِ [ ص 53 ] عَزّ وَجَلّ { إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ
آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوّلِينَ } [ الْقَلَمِ 15 ] وَكُلّ مَا ذُكِرَ
فِيهِ مِنْ الْأَسَاطِيرِ مِنْ الْقُرْآنِ . فَلَمّا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ النّضْرُ
بْنُ الْحَارِثِ بَعَثُوهُ وَبَعَثُوا مَعَهُ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ إلَى
أَحْبَارِ يَهُودَ بِالْمَدِينَةِ ، وَقَالُوا لَهُمَا : سَلَاهُمْ عَنْ مُحَمّدٍ
وَصِفَا لَهُمْ صِفَتَهُ وَأَخْبِرَاهُمْ بِقَوْلِهِ فَإِنّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ
الْأَوّلِ وَعِنْدَهُمْ عِلْمٌ لَيْسَ عِنْدَنَا مِنْ عِلْمِ الْأَنْبِيَاءِ
فَخَرَجَا حَتّى قَدِمَا الْمَدِينَةَ ، فَسَأَلَا أَحْبَارَ يَهُودَ عَنْ رَسُولِ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَوَصَفَا لَهُمْ أَمْرَهُ .
وَأَخْبَرَاهُمْ بِبَعْضِ قَوْلِهِ . وَقَالَا لَهُمْ إنّكُمْ أَهْلُ التّوْرَاةِ
. وَقَدْ جِئْنَاكُمْ لِتُخْبِرُونَا عَنْ صَاحِبِنَا هَذَا . فَقَالَتْ لَهُمَا
أَحْبَارُ يَهُودَ سَلُوهُ عَنْ ثَلَاثٍ نَأْمُرُكُمْ بِهِنّ . فَإِنْ
أَخْبَرَكُمْ بِهِنّ فَهُوَ نَبِيّ مُرْسَلٌ . وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَالرّجُلُ
مُتَقَوّلٌ . فَرَوْا فِيهِ رَأْيَكُمْ . سَلُوهُ عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي
الدّهْرِ [ ص 54 ] كَانَ أَمْرُهُمْ فَإِنّهُ قَدْ كَانَ لَهُمْ حَدِيثٌ عَجَبٌ
وَسَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوّافٍ قَدْ بَلَغَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا
مَا كَانَ نَبَؤُهُ وَسَلُوهُ عَنْ الرّوحِ مَا هِيَ ؟ فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ
بِذَلِكَ فَاتّبِعُوهُ فَإِنّهُ نَبِيّ . وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَهُوَ رَجُلٌ
مُتَقَوّلٌ . فَاصْنَعُوا فِي أَمْرِهِ مَا بَدَا لَكُمْ . فَأَقْبَلَ النّضْرُ
بْنُ الْحَارِثِ وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطِ بْنِ أَبِي عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ
بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ حَتّى قَدِمَا مَكّةَ عَلَى
قُرَيْشٍ . فَقَالَا : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، قَدْ جِئْنَاكُمْ بِفَصْلِ مَا
بَيْنِكُمْ وَبَيْنَ مُحَمّدٍ . قَدْ أَخْبَرَنَا أَحْبَارُ يَهُودَ أَنْ
نَسْأَلَهُ عَنْ أَشْيَاءَ أَمَرُونَا بِهَا ، فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ عَنْهَا فَهُوَ
نَبِيّ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَالرّجُلُ مُتَقَوّلٌ . فَرَوْا فِيهِ رَأْيَكُمْ
. فَجَاءُوا رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالُوا : يَا
مُحَمّدُ أَخْبِرْنَا عَنْ فِتْيَةٍ ذَهَبُوا فِي الدّهْرِ الْأَوّلِ قَدْ كَانَتْ
لَهُمْ قِصّةٌ عَجَبٌ وَعَنْ رَجُلٍ كَانَ طَوّافًا قَدْ بَلَغَ مَشَارِقَ
الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ، وَأَخْبِرْنَا عَنْ الرّوحِ مَا هِيَ ؟ فَقَالَ لَهُمْ
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أُخْبِرُكُمْ بِمَا سَأَلْتُمْ
عَنْهُ غَدًا وَلَمْ يَسْتَثْنِ فَانْصَرَفُوا عَنْهُ فَمَكَثَ رَسُولُ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيمَا يَذْكُرُونَ - خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً
لَا يُحْدِثُ اللّهُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَحْيًا ، وَلَا يَأْتِيهِ جِبْرِيلُ
حَتّى أَرْجَفَ أَهْلُ مَكّةَ وَقَالُوا : وَعَدَنَا مُحَمّدٌ غَدًا ، وَالْيَوْمُ
خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً . قَدْ أَصْبَحْنَا مِنْهَا لَا يُخْبِرُنَا بِشَيْءِ
مِمّا سَأَلْنَاهُ عَنْهُ وَحَتّى أَحْزَنَ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مُكْثُ الْوَحْيِ عَنْهُ وَشَقّ عَلَيْهِ مَا يَتَكَلّمُ بِهِ
أَهْلُ مَكّةَ ، ثُمّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ مِنْ اللّهِ عَزّ وَجَلّ بِسُورَةِ
أَصْحَابِ الْكَهْفِ ، فِيهَا مُعَاتَبَتُهُ إيّاهُ عَلَى حُزْنِهِ عَلَيْهِمْ
وَخَبَرُ مَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الْفِتْيَةِ وَالرّجُلِ الطّوّافِ
وَالرّوحِ . [ ص 55 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَذُكِرَ لِي أَنّ رَسُولَ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لِجِبْرِيلَ حِينَ جَاءَهُ لَقَدْ
احْتَبَسْت عَنّي يَا جِبْرِيلُ حَتّى سُؤْت طَنّا ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ {
وَمَا نَتَنَزّلُ إِلّا بِأَمْرِ رَبّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا
خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبّكَ نَسِيّا } [ مَرْيَمَ : 64 ] .
فَافْتَتَحَ السّورَةَ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - بِحَمْدِهِ وَذِكْرِ نُبُوّةِ
رَسُولِهِ لِمَا أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ { الْحَمْدُ لِلّهِ
الّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ } [ الْكَهْفِ : 1 - 26 ] يَعْنِي :
مُحَمّدًا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إنّك رَسُولٌ مِنّي : أَيْ تَحْقِيقٌ
لِمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ نُبُوّتِك . { وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قَيّمًا
} أَيْ مُعْتَدِلًا ، لَا اخْتِلَافَ فِيهِ . { لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ
لَدُنْهُ } أَيْ عَاجِلَ عُقُوبَتِهِ فِي الدّنْيَا ، وَعَذَابًا أَلِيمًا فِي
الْآخِرَةِ مِنْ عِنْدِ رَبّك الّذِي بَعَثَك رَسُولًا . { وَيُبَشّرَ
الْمُؤْمِنِينَ الّذِينَ يَعْمَلُونَ الصّالِحَاتِ أَنّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا
مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا } أَيْ دَارُ الْخُلْدِ لَا يَمُوتُونَ فِيهَا الّذِينَ
صَدّقُوك بِمَا جِئْت بِهِ مِمّا كَذّبَك بِهِ غَيْرُهُمْ وَعَمِلُوا بِمَا
أَمَرْتهمْ بِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ . { وَيُنْذِرَ الّذِينَ قَالُوا اتّخَذَ
اللّهُ وَلَدًا } يَعْنِي : قُرَيْشًا فِي قَوْلِهِمْ إنّا نَعْبُدُ
الْمَلَائِكَةَ وَهِيَ بَنَاتُ اللّهِ . { مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا
لِآبَائِهِمْ } الّذِينَ أَعْظَمُوا فِرَاقَهُمْ وَعَيْبِ دِينِهِمْ . { كَبُرَتْ
كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } أَيْ لِقَوْلِهِمْ إنّ الْمَلَائِكَةَ
بَنَاتُ اللّهِ . { إِنْ يَقُولُونَ إِلّا كَذِبًا فَلَعَلّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ }
يَا مُحَمّدٌ { عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا
} أَيْ لِحُزْنِهِ عَلَيْهِمْ حِينَ فَاتَهُ مَا كَانَ يَرْجُو مِنْهُمْ أَيْ لَا
نَفْعَلْ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : { بَاخِعٌ نَفْسَكَ } أَيْ مُهْلِكٌ نَفْسَك ،
فِيمَا حَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ قَالَ ذُو الرّمّةِ
أَلَا أَيّهَذَا الْبَاخِعُ الْوَجْدُ نَفْسَهُ
لِشَيْءِ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ الْمَقَادِرُ
[ ص 56 ] وَبَخَعَةٌ . وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَتَقُولُ
الْعَرَبُ : قَدْ بَخَعْت لَهُ نُصْحِي وَنَفْسِي ، أَيْ جَهَدْت لَهُ . { إِنّا
جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيّهُمْ أَحْسَنُ
عَمَلًا } قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : أَيْ أَيّهُمْ أَتْبَعُ لِأَمْرِي ، وَأَعْمَلُ
بِطَاعَتِي . { وَإِنّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا } أَيْ
الْأَرْضَ وَإِنّ مَا عَلَيْهَا لَفَانٍ وَزَائِلٌ وَإِنّ الْمَرْجِعَ إلَيّ
فَأَجْزِي كُلّا بِعَمَلِهِ فَلَا تَأْسَ وَلَا يَحْزُنْك مَا تَسْمَعُ وَتَرَى
فِيهَا . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الصّعِيدُ : الْأَرْضُ وَجَمْعُهُ صُعُدٌ . قَالَ
ذُو الرّمّةِ يَصِفُ ظَبْيًا صَغِيرًا :
كَأَنّهُ بِالضّحَى تَرْمِي الصّعِيدَ بِهِ
دَبّابَةٌ فِي عِظَامِ الرّأْسِ خُرْطُومٌ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَالصّعِيدُ أَيْضًا : الطّرِيقُ . وَقَدْ
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ إيّاكُمْ وَالْقُعُودُ عَلَى الصّعَدَاتِ يُرِيدُ الطّرُقَ .
وَالْجُرُزُ الْأَرْضُ الّتِي لَا تُنْبِتُ شَيْئًا ، وَجَمْعُهَا : أَجْرَازٌ .
وَيُقَالُ سَنَةٌ جُرُزٌ وَسُنُونَ أَجْرَازٌ وَهِيَ الّتِي لَا يَكُونُ فِيهَا
مَطَرٌ وَتَكُونُ فِيهَا جُدُوبَةٌ وَيُبْسٌ وَشِدّةٌ . قَالَ ذُو الرّمّةِ يَصِفُ
إبِلًا :
طَوَى النّحْزُ وَالْأَجْرَازُ مَا فِي بُطُونِهَا
فَمَا بَقِيَتْ إلّا الضّلُوعُ الْجَرَاشِعُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ .Sالْأَسَاطِيرُ
وَشَيْءٌ عَنْ الْفُرْسِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ حَدِيثَ النّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَمَا نَزَلَ فِيهِ مِنْ قَوْلِ اللّهِ
تَعَالَى : { قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوّلِينَ } [ ص 53 ] وَقِيلَ أَسَاطِيرُ
جَمْعُ أَسْطَارٍ وَأَسْطَارُ جَمْعٍ : سَطَرٍ بِفَتْحِ الطّاءِ وَأَمّا سَطْرٌ
بِسُكُونِ الطّاءِ فَجَمْعُهُ أَسْطُرٌ وَجَمْعُ الْجَمْعِ أَسَاطِرُ بِغَيْرِ
يَاءٍ وَذَكَرَ أَنّ النّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ كَانَ يُحَدّثُ قُرَيْشًا
بِأَحَادِيثَ رُسْتُمَ وإسفندياذ ، وَمَا تَعَلّمَ فِي بِلَادِ الْفُرْسِ مِنْ
أَخْبَارِهِمْ وَذَكَرَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ وَقَدْ
قِيلَ فِيهِ نَزَلَتْ { وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ } [
الْأَنْعَامِ 93 ] . وَأَمّا أَحَادِيثُ رُسْتُمَ فَفِي تَارِيخِ الطّبَرِيّ أَنّ
رُسْتُمَ بْنَ رِيسَانِ كَانَ يُحَارِبُ كَيْ يستاسب بْنِ كَيْ لهراسب ، بَعْدَمَا
قَتَلَ أَبَاهُ لطراسب ابْنِ كَيْ أَجَوّ . وَكَيْ فِي أَوَائِلِ هَذِهِ
الْأَسْمَاءِ عِبَارَةٌ عَنْ الْبَهَاءِ وَيُقَالُ عِبَارَةٌ عَنْ إدْرَاكِ الثّأْرِ
وَيُقَالُ لِهَؤُلَاءِ الْمُلُوكِ الْكِينِيّةُ مِنْ أَجْلِ هَذَا ، وَكَانَ
رُسْتُمُ الّذِي يُقَالُ لَهُ رُسْتُمُ سَيّدُ بَنِي رِيسَانِ مِنْ مُلُوكِ
التّرْكِ ، وَكَانَ كَيْ يستاسب قَدْ غَضِبَ عَلَى ابْنِهِ فَسَجَنَهُ حَسَدًا
لَهُ عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ وَقَائِعِهِ فِي التّرْكِ ، حَتّى صَارَ الذّكْرُ لَهُ
فَعِنْدَهَا ظَهَرَتْ التّرْكُ عَلَى بِلَادِ فَارِسَ ، وَسَبَوْا بِنْتَيْنِ
ليستاسب ، اسْمُ إحْدَاهُمَا : خَمّانَة ، أَوْ نَحْوَ هَذَا ، فَلَمّا رَأَى
يستاسب أَلّا يَدِينَ لَهُ بِقِتَالِهِمْ أَطْلَقَ ابْنَهُ مِنْ السّجْنِ وَهُوَ
إسفندياذ ، وَرَضِيَ عَنْهُ وَوَلّاهُ أَمْرَ الْجُيُوشِ فَنَهَدَ إلَى رُسْتُمَ
وَكَانَتْ بَيْنَهُمَا مَلَاحِمُ يَطُولُ ذِكْرُهَا ، لَكِنّهُ قَتَلَ رُسْتُمَ
وَاسْتَبَاحَ عَسَاكِرَهُ وَدَوّخَ فِي بِلَادِ التّرْكِ ، وَاسْتَخْرَجَ أُخْتَيْهِ
مِنْ أَيْدِيهِمْ ثُمّ مَاتَ إسفندياذ قَبْلَ أَبِيهِ وَكَانَ مُلْكُ أَبِيهِ
نَحْوًا مِنْ مِائَةِ عَامٍ ثُمّ عَهِدَ إلَى بهمن بْنِ إسفندياذ ، فَوَلّاهُ
الْأَمْرَ بَعْدَ مَوْتِهِ وبهمن بِلُغَتِهِمْ الْحَسَنُ النّيّةُ وَدَامَ
مُلْكُهُ نَيّفًا عَلَى مِائَةِ عَامٍ وَكَانَ لَهُ ابْنَانِ سَاسَانِ وَدَارَا ،
وَقَدْ أَمْلَيْنَا فِي أَوّلِ الْكِتَابِ طَرَفًا مِنْ حَدِيثِ سَاسَانِ
وَبَنِيهِ وَهُمْ السّاسَانِيّةُ الّذِينَ قَامَ عَلَيْهِمْ الْإِسْلَامُ
وَرُسْتُمُ آخِرُ مَذْكُورٍ أَيْضًا قَبْلَ هَذَا [ ص 54 ] وَكَانَ قَبْلَ عَهْدِ
سُلَيْمَانَ ، ثُمّ كَانَ رُسْتُمُ وَزِيرًا بَعْدَ كَيْ قباذ لِابْنِهِ كَيْ
قاووس ، وَكَانَتْ الْجِنّ قَدْ سُخّرَتْ لَهُ . يُقَالُ إنّ سُلَيْمَانَ
أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ فَبَلَغَ مُلْكُهُ مِنْ الْعَجَائِبِ مَا لَا يَكَادُ أَنْ
يُصَدّقَهُ ذَوُو الْعُقُولِ لِخُرُوجِهَا عَنْ الْمُعْتَادِ لَكِنّ مُحَمّدَ بْنَ
جَرِيرٍ الطّبَرِيّ ذَكَرَ مِنْهَا أَخْبَارًا عَجِيبَةً . وَذَكَرَ أَنّهُ هَمّ
بِمَا هَمّ بِهِ نمروذ مِنْ الصّعُودِ إلَى السّمَاءِ فَطَرَحَتْهُ الرّيحُ
وَضَعْضَعَتْ أَرْكَانَهُ وَهَدَمَتْ بُنْيَانَهُ ثُمّ ثَابَ إلَيْهِ بَعْضُ
جُنُودِهِ فَصَارَ كَسَائِرِ الْمُلُوكِ يَغْلِبُ تَارَةً وَيُغْلَبُ بِخِلَافِ
مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ وَسَارَ بِجُنُودِهِ إلَى الْيَمَنِ فَنَهَدَ إلَيْهِ
عَمْرُو ذُو الْأَذْعَارِ فَهَزَمَهُ عَمْرٌو ، وَأَخَذَهُ أَسِيرًا ، وَحَبَسَهُ
فِي مَحْبِسٍ حَتّى جَاءَ رُسْتُمُ وَكَانَ صَاحِبَ أَمْرِهِ فَاسْتَنْقَذَهُ مِنْ
عَمْرٍو ، إمّا بِطَوْعِ وَإِمّا بِإِكْرَاهِ وَرَدّهُ إلَى بِلَادِ فَارِسَ .
وَلِابْنِهِ شاوخش مَعَ قراسيات مَلِكِ التّرْكِ خَبَرٌ عَجِيبٌ وَكَانَ رُسْتُمُ
هُوَ الْقَيّمُ عَلَى شاوخش وَالْكَافِلُ لَهُ فِي [ ص 55 ] وَكَانَ آخِرُ أَمْرِ
شاوخش بَعْدُ عَجَائِبَ أَنْ قَتَلَهُ قراسيات ، وَقَامَ ابْنُهُ كَيْ خُسْرُو
يَطْلُبُ بِثَأْرِهِ فَدَارَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التّرْكِ وَقَائِعُ لَمْ
يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا ، وَكَانَ الظّفَرُ لَهُ فَلَمّا ظَفِرُوا رَأَى أَمَلَهُ
فِي أَعْدَائِهِ مَا مَلَأَ عَيْنَهُ قُرّةً وَقَلْبَهُ سُرُورًا زَهِدَ فِي
الدّنْيَا ، وَأَرَادَ السّيَاحَةَ فِي الْأَرْضِ فَتَعَاتّ بِهِ أَبْنَاءُ
فَارِسَ ، وَحَذّرَتْهُ مِنْ شَتَاتِ الشّمْلِ بَعْدَهُ وَشَمَاتَةِ الْعَدُوّ
فَاسْتَخْلَفَ عَلَيْهِمْ كَيْ لهراسب ، بْنِ كَيْ اجو ، بْنِ كَيْ كِينَةَ بْنِ
كَيْ قاووس الْمُتَقَدّمُ ذِكْرُهُ وَلَا أَدْرِي : هَلْ رُسْتُمُ الّذِي قَتَلَهُ
إسفندياذ هُوَ رُسْتُمُ صَاحِبُ كَيْ قاووس ، أَمْ غَيْرُهُ وَالظّاهِرُ أَنّهُ
لَيْسَ بِهِ لِأَنّ مُدّةَ مَا بَيْنَ كَيْ قاووس وَكَيْ يستاسب بَعِيدَةٌ جِدّا ،
وَأَحْسَبُهُ كَمَا قَدّمْنَا أَنّهُ كَانَ مِنْ التّرْكِ ، وَهَذَا كُلّهُ كَانَ
فِي مُدّةِ الْكِينِيّةِ وَعِنْدَ اشْتِغَالِهِمْ بِقِتَالِ التّرْكِ
اسْتَعْمَلُوا بُخْتَنَصّرَ الْبَابِلِيّ عَلَى الْعِرَاقِ ، فَكَانَ مِنْ
أُمُورِهِ مَعَ بَنِي إسْرَائِيلَ و َإِثْخَانِهِ فِيهِمْ وَهَدْمِهِ لِبَيْتِ
الْمَقْدِسِ وَإِحْرَاقِهِ لِلتّوْرَاةِ وَقَتْلِهِ لِأَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ
وَاسْتِرْقَاقِهِ لِنِسَاءِ [ ص 56 ] بِلَادِ الْعَرَبِ حِينَ جَاسَ خِلَالَ دِيَارِهِمْ
مَا هُوَ مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ التّفَاسِيرِ وَمَعْلُومٌ عِنْدَ أَصْحَابِ
التّوَارِيخِ . فَهَذِهِ جُمْلَةُ مُخْتَصَرَةٍ تَشْرَحُ لَك مَا وَقَعَ فِي
كِتَابِ ابْنِ إسْحَاقَ مِنْ ذِكْرِ رُسْتُمَ وإسفندياذ ، وَكَانَتْ الْكِينِيّةُ
قَبْلَ مُدّةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ، أَوّلُهُمْ فِي عَهْدِ أفريدون قَبْلَ
مُوسَى عَلَيْهِ السّلَامُ بِمِئِينَ مِنْ السّنِينَ وَآخِرُهُمْ فِي مُدّةِ
الْإِسْكَنْدَرِ بْنِ قَلِيسٍ وَالْإِسْكَنْدَرُ هُوَ الّذِي سَلَبَ مُلْكَهُمْ
وَقَتَلَ دَارَا بْنَ دَارَا ، وَهُوَ آخِرُهُمْ ثُمّ كَانَتْ الْأَشْغَانِيّةُ
مَعَ مُلُوكِ الطّوَائِفِ أَرْبَعَمِائَةٍ وَثَمَانِينَ عَامًا ، وَقِيلَ أَقَلّ
مِنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ الطّبَرِيّ ، وَقَوْلُ الْمَسْعُودِيّ : خَمْسِمِائَةٍ
وَعَشْرِ سِنِينَ فِي خِلَالِ أَمْرِهِمْ بَعَثَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ، ثُمّ كَانَتْ
السّاسَانِيّةُ نَحْوًا مِنْ ثَلَاثِينَ مُلْكًا حَتّى قَامَ الْإِسْلَامُ فَفَضّ
خِدْمَتَهُمْ . وَخَضّدَ شَوْكَتَهُمْ وَهَدَمَ هَيَاكِلَهُمْ وَأَطْفَأَ
نِيرَانَهُمْ الّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ وَذَلِكَ كُلّهُ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ .
عَنْ سُورَتَيْ الْكَهْفِ وَالْفُرْقَانِ - سَبَبُ نُزُولِ الْكَهْفِ
فَصْلٌ
[ ص 57 ] وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ إرْسَالَ قُرَيْشٍ النّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ
وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ إلَى يَهُودَ وَمَا رَجَعَا بِهِ مِنْ عِنْدِهِمْ
مِنْ الْفَصْلِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَسَأَلُوهُ عَنْ الْأُمُورِ الثّلَاثَةِ الّتِي قَالَتْ الْيَهُودُ : إنْ
أَخْبَرَكُمْ بِهَا فَهُوَ نَبِيّ وَإِلّا فَهُوَ مُتَقَوّلٌ فَقَالَ لَهُمْ
سَأُخْبِرُكُمْ غَدًا ، وَلَمْ يَقُلْ إنْ شَاءَ اللّهُ فَأَبْطَأَ عَنْهُ
الْوَحْيُ فِي قَوْلِ ابْنِ إسْحَاقَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَفِي سِيَرِ
التّيْمِيّ وَمُوسَى بْنِ عُقْبَةَ أَنّ الْوَحْيَ إنّمَا أَبْطَأَ عَنْهُ
ثَلَاثَةَ أَيّامٍ ثُمّ جَاءَ جِبْرِيلُ بِسُورَةِ الْكَهْفِ .
لِمَ قَدّمَ الْحَمْدَ عَلَى الْكِتَابِ ؟
وَذَكَرَ افْتِتَاحَ الرّبّ سُبْحَانَهُ بِحَمْدِ نَفْسِهِ وَذَكَرَ نُبُوّةَ
نَبِيّهِ حَمْدُهُ لِنَفْسِهِ تَعَالَى خَبَرٌ بَاطِنُهُ الْأَمْرُ وَالتّعْلِيمُ
لِعَبْدِهِ كَيْفَ يَحْمَدُهُ إذْ لَوْلَا ذَلِكَ لَاقْتَضَتْ الْحَالُ الْوُقُوفَ
عَنْ تَسْمِيَتِهِ وَالْعِبَارَاتُ عَنْ جَلَالِهِ لِقُصُورِ كُلّ عِبَارَةٍ عَمّا
هُنَالِكَ مِنْ الْجَلَالِ وَأَوْصَافِ الْكَمَالِ وَلَمَا كَانَ الْحَمْدُ
وَاجِبًا عَلَى الْعَبْدِ قُدّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِيَقْتَرِنَ فِي اللّفْظِ
بِالْحَمْدِ الّذِي هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَلِيَسْتَشْعِرَ الْعَبْدُ وُجُوبَ
الْحَمْدِ عَلَيْهِ وَفِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ قَالَ { تَبَارَكَ الّذِي نَزّلَ
الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ } وَبَدَأَ بِذِكْرِ الْفُرْقَانِ الّذِي هُوَ
الْكِتَابُ الْمُبَارَكُ . قَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ { وَهَذَا كِتَابٌ
أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } فَلَمّا افْتَتَحَ السّورَةَ ب " تَبَارَكَ الّذِي
" ، بَدَأَ بِذِكْرِ الْفُرْقَانِ وَهُوَ الْكِتَابُ الْمُبَارَكُ ثُمّ قَالَ
{ عَلَى عَبْدِهِ } فَانْظُرْ إلَى تَقْدِيمِ ذِكْرِ عَبْدِهِ عَلَى الْكِتَابِ
وَتَقْدِيمِ ذِكْرِ الْكِتَابِ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ ، وَمَا فِي
ذَلِكَ مِنْ تَشَاكُلِ اللّفْظِ وَالْتِئَامِ الْكَلَامِ نَرَى الْإِعْجَازَ
ظَاهِرًا ، وَالْحِكْمَةَ بَاهِرَةً وَالْبُرْهَانَ وَاضِحًا ، وَأَنْشَدَ لِذِي
الرّمّةِ . [ ص 58 ]
شَرْحُ شَوَاهِدَ شِعْرِيّةٍ
كَأَنّهُ بِالضّحَى تَرْمِي الصّعِيدَ بِهِ
دَبّابَةٌ فِي عِظَامِ الرّأْسِ خُرْطُومُ
يَصِفُ وَلَدَ الظّبْيَةِ : وَالْخُرْطُومُ : مِنْ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ أَيْ
كَأَنّهُ مِنْ نَشَاطِهِ دَبّتْ الْخَمْرُ فِي رَأْسِهِ . وَأَنْشَدَ لَهُ أَيْضًا
: طَوَى النّحْزُ وَالْأَجْرَازُ . الْبَيْتَ . وَالنّحْزُ النّخْسُ وَالنّحَازُ
دَاءٌ يَأْخُذُ الْإِبِلَ وَالنّحِيزَةُ الْغَرِيزَةُ وَالنّحِيزَةُ نَسِيجَةٌ
كَالْحِزَامِ وَالضّلُوعُ الْجَرَاشِعُ . هُوَ جَمْعُ جُرْشُعٍ . قَالَ صَاحِبُ
الْعَيْنِ . الْجُرْشُعُ الْعَظِيمُ الصّدْرُ فَمَعْنَاهُ إذًا فِي الْبَيْتِ عَلَى
هَذَا : الضّلُوعُ مِنْ الْهُزَالِ قَدْ نَتَأَتْ وَبَرَزَتْ كَالصّدْرِ
الْبَارِزِ .
حَوْلُ
سُورَةِ الْكَهْفِ
[ ص 57 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ اسْتَقْبَلَ قِصّةَ الْخَبَرِ فِيمَا
سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ شَأْنِ الْفِتْيَةِ فَقَالَ { أَمْ حَسِبْتَ أَنّ أَصْحَابَ
الْكَهْفِ وَالرّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا } [ ص 58 ] كَانَ مِنْ
آيَاتِي فِيمَا وَضَعْت عَلَى الْعِبَادِ مِنْ حُجَجِي مَا هُوَ أَعْجَبُ مِنْ
ذَلِكَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَالرّقِيمُ : الْكِتَابُ الّذِي رُقِمَ فِيهِ
بِخَبَرِهِمْ وَجَمْعُهُ رُقُمٌ . قَالَ الْعَجّاجُ وَمُسْتَقَرّ الْمُصْحَفِ
الْمُرَقّمِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ . [ ص 59 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ
قَالَ تَعَالَى : { إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبّنَا
آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا فَضَرَبْنَا
عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ
أَيّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا } ثُمّ قَالَ تَعَالَى : {
نَحْنُ نَقُصّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقّ } أَيْ بِصِدْقِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ
. { إِنّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى وَرَبَطْنَا عَلَى
قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبّنَا رَبّ السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ
نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا } أَيْ لَمْ يُشْرِكُوا
بِي كَمَا أَشْرَكْتُمْ بِي مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ
: وَالشّطَطُ الْغُلُوّ وَمُجَاوَزَةُ الْحَقّ . قَالَ أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ
ثَعْلَبَةَ :
لَا يَنْتَهُونَ وَلَا يَنْهَى ذَوِي شَطَطٍ ... كَالطّعْنِ يَذْهَبُ فِيهِ
الزّيْتُ وَالْفُتُلُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . { هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتّخَذُوا مِنْ
دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيّنٍ } . قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : أَيْ بِحُجّةِ بَالِغَةٍ . [ ص 60 ] { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَى
عَلَى اللّهِ كَذِبًا وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلّا اللّهَ
فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيّئْ
لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا وَتَرَى الشّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ
كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشّمَالِ
وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ } [ ص 61 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : تَزَاوَرُ تَمِيلُ
وَهُوَ مِنْ الزّوَرِ وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ حَجَرٍ
وَإِنّي زَعِيمٌ إنْ رَجَعْت مُمَلّكًا ... بِسَيْرِ تَرَى مِنْهُ الْفُرَانِقَ
أَزْوَرَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَقَالَ أَبُو الزّحْفِ الْكُلَيْبِيّ
يَصِفُ بَلَدًا :
جَأْبُ الْمُنَدّى عَنْ هَوَانَا أَزْوَرُ ... يُنْضِي الْمَطَايَا خِمْسُهُ
الْعَشَنْزَرُ
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ . و تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشّمَالِ
تُجَاوِزُهُمْ وَتَتْرُكُهُمْ عَنْ شِمَالِهَا . قَالَ ذُو الرّمّةِ
إلَى ظُعُنٍ يُقْرِضْنَ أَفْوَازَ مُشْرِفٍ ... شِمَالًا وَعَنْ أَيْمَانِهِنّ
الْفَوَارِسُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَالْفَجْوَةُ السّعَةُ وَجَمْعُهَا :
الْفِجَاءُ قَالَ الشّاعِرُ
أَلْبَسْت قَوْمَك مَخْزَاةً وَمَنْقَصَةً ... حَتّى أُبِيحُوا ، وَخَلّوْا
فَجْوَةَ الدّارِ
{ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ } أَيْ فِي الْحُجّةِ عَلَى مَنْ عَرَفَ ذَلِكَ مِنْ
أُمُورِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِمّنْ أَمَرَ هَؤُلَاءِ بِمَسْأَلَتِك
عَنْهُمْ فِي صِدْقِ نُبُوّتِك بِتَحْقِيقِ الْخَبَرِ عَنْهُمْ . { مَنْ يَهْدِ
اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّا مُرْشِدًا
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ
وَذَاتَ الشّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ } قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ : الْوَصِيدُ الْبَابُ . قَالَ الْعَبْسِيّ ، وَاسْمُهُ عُبَيْدُ بْنُ
وَهْبٍ
بِأَرْضِ فَلَاةٍ لَا يُسَدّ وَصِيدُهَا ... عَلَيّ وَمَعْرُوفِي بِهَا غَيْرُ
مُنْكَرِ
[ ص 62 ] وَصَائِدُ وَوُصُدٌ وَوُصْدَانٌ وَأُصُدٌ وَأُصْدَانٌ .Sالرّقِيمُ
وَأَهْلُ الْكَهْفِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ الرّقِيمَ وَفِيهِ سِوَى مَا قَالَهُ أَقْوَالٌ . رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ
أَنّهُ قَالَ الرّقِيمُ : الْكَلْبُ وَعَنْ كَعْبٍ أَنّهُ قَالَ هُوَ اسْمُ
الْقَرْيَةِ الّتِي خَرَجُوا مِنْهَا ، وَقِيلَ هُوَ اسْمُ الْوَادِي وَقِيلَ هُوَ
صَخْرَةٌ وَيُقَالُ لَوْحٌ كُتِبَ فِيهِ أَسْمَاؤُهُمْ وَدِينُهُمْ وَقِصّتُهُمْ
وَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : كُلّ الْقُرْآنِ أَعْلَمُ إلّا الرّقِيمَ وَالْغِسْلِينَ
وَحَنَانًا وَالْأَوّاهَ وَقَدْ ذُكِرَتْ أَسْمَاؤُهُمْ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي
بَعْضِ أَلْفَاظِهَا وَهِيَ مَلِيخًا ، كسليما ، مرطوش بْنِ أَنَسٍ أريطانس ،
أَيُونُسُ شاطيطوش . وَقِيلَ فِي اسْمِ مَدِينَتِهِمْ أفوس ، وَاخْتُلِفَ فِي
بَقَائِهِمْ إلَى الْآنِ فَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ أَنْكَرَ أَنْ
يَكُونَ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْهُمْ بَلْ صَارُوا تُرَابًا قَبْلَ مَبْعَثِ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الْأَخْبَارِ غَيْرَ
هَذَا ، وَأَنّ الْأَرْضَ لَمْ تَأْكُلْهُمْ وَلَمْ تُغَيّرْهُمْ وَأَنّهُمْ عَلَى
مَقْرُبَةٍ مِنْ القسطنطينية ، فَاَللّهُ أَعْلَمُ . رُوِيَ [ ص 59 ] الْبَيْتَ
إذَا نَزَلَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ . أَلْفَيْت هَذَا الْخَبَرَ فِي كِتَابِ
الْبَدْءِ لِابْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ .
إعْرَابُ أَحْصَى
وَذَكَرَ قَوْلَ اللّهِ تَعَالَى : { لِنَعْلَمَ أَيّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا
لَبِثُوا أَمَدًا } [ الْكَهْفِ : 12 ] قَدْ أَمْلَيْنَا فِي إعْرَابِ هَذِهِ
الْآيَةِ نَحْوًا مِنْ كُرّاسَةٍ وَذَكَرْنَا مَا وَهَمَ فِيهِ الزّجّاجُ مِنْ
إعْرَابِهَا ؛ حَيْثُ جَعَلَ أَحْصَى اسْمًا فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى خَبَرِ
الْمُبْتَدَأِ وَأَمَدًا : تَمْيِيزٌ وَهَذَا لَا يَصِحّ ؛ لِأَنّ التّمْيِيزَ
هُوَ الْفَاعِلُ فِي الْمَعْنَى ، فَإِذَا قُلْت : أَيّهُمْ أَعْلَمُ أَبًا ،
فَالْأَبُ هُوَ الْعَالِمُ وَكَذَلِكَ إذَا قُلْت أَيّهُمْ أَفْرَهُ عَبْدًا ،
فَالْعَبْدُ هُوَ الْفَارِهُ فَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِهِ إذًا أَنْ يَكُونَ
الْأَمَدُ فَاعِلًا بِالْإِحْصَاءِ وَهَذَا مُحَالٌ بَلْ هُوَ مَفْعُولٌ وَأَحْصَى
: فِعْلٌ مَاضٍ وَهُوَ النّاصِبُ لَهُ وَذَكَرْنَا فِي ذَلِكَ الْإِمْلَاءِ أَنّ
أَيّهمْ قَدْ يَجُوزُ فِيهِ النّصْبُ بِمَا قَبْلَهُ إذَا جَعَلْته خَبَرًا ،
وَذَلِكَ عَلَى شُرُوطٍ بَيّنّاهَا هُنَالِكَ لِمَنْ أَرَادَ الْوُقُوفَ عَلَى
حَقِيقَتِهَا ، أَيْ وَمَوَاضِعَهَا ، وَكَشَفْنَا أَسْرَارَهَا .
عَنْ الضّرْبِ وَتَزَاوُرِ الشّمْسِ وَفَائِدَةِ الْقِصّةِ
وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ } أَيْ أَنِمْنَاهُمْ وَإِنّمَا
قِيلَ فِي النّائِمِ ضُرِبَ عَلَى [ ص 60 ] النّائِمَ يَنْتَبِهُ مِنْ جِهَةِ
السّمْعِ وَالضّرْبُ هُنَا مُسْتَعَارٌ مِنْ ضَرَبْت الْقُفْلَ عَلَى الْبَابِ
وَذَكَرَ قَوْلَهُ تَعَالَى : { تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ }
الْآيَةَ . وَقِيلَ فِي تَقْرِضُهُمْ تُحَاذِيهِمْ وَقِيلَ تَتَجَاوَزُهُمْ
شَيْئًا فَشَيْئًا مِنْ الْقَرْضِ وَهُوَ الْقَطْعُ أَيْ تَقْطَعُ مَا هُنَالِكَ
مِنْ الْأَرْضِ وَهَذَا كُلّهُ شَرْحُ اللّفْظِ وَأَمّا فَائِدَةُ الْمَعْنَى ،
فَإِنّهُ بَيّنٌ أَنّهُمْ فِي مَقْنُوَةٍ مِنْ الْأَرْضِ لَا تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ
الشّمْسُ فَتُحْرِقُهُمْ وَتُبْلِي ثِيَابَهُمْ وَيُقَلّبُونَ ذَاتَ الْيَمِينِ
وَذَاتَ الشّمَالِ . لِئَلّا تَأْكُلَهُمْ الْأَرْضُ وَالْفَائِدَةُ الْعُظْمَى
فِي هَذِهِ الصّفَةِ بَيَانُ كَيْفِيّةِ حَالِهِمْ فِي الْكَهْفِ ، وَحَالِ
كَلْبِهِمْ وَأَيْنَ هُوَ مِنْ الْكَهْفِ ، وَأَنّهُ بِالْوَصِيدِ مِنْهُ وَأَنّ
بَابَ الْكَهْفِ إلَى جِهَةِ الشّمَالِ لِلْحِكْمَةِ الّتِي تَقَدّمَتْ وَأَنّ
هَذَا الْبَيَانَ لَا يَكَادُ يَعْرِفُهُ مَنْ رَآهُمْ فَإِنّ الْمُطَلّعَ
عَلَيْهِمْ يُمْلَأُ مِنْهُمْ رُعْبًا ، فَلَا يُمْكِنُهُ تَأَمّلُ هَذِهِ
الدّقَائِقِ مِنْ أَحْوَالِهِمْ وَالنّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ لَمْ يَرَهُمْ قَطّ
، وَلَا سَمِعَ بِهِمْ وَلَا قَرَأَ كِتَابًا فِيهِ صِفَتُهُمْ لِأَنّهُ أُمّيّ
فِي أُمّةٍ أُمَيّةٍ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِبَيَانِ لَا يَأْتِي بِهِ مَنْ وَصَلَ
إلَيْهِمْ حَتّى إنّ كَلْبَهُمْ قَدْ ذُكِرَ وَذُكِرَ مَوْضِعُهُ وَبَسْطُهُ
ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ وَهُمْ فِي الْفَجْوَةِ وَفِي هَذَا كُلّهِ بُرْهَانٌ
عَظِيمٌ عَلَى نُبُوّتِهِ وَدَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى صِدْقِهِ وَأَنّهُ غَيْرُ
مُتَقَوّلٍ كَمَا زَعَمُوا ، فَقِفْ بِقَلْبِك عَلَى مَضْمُونِ هَذِهِ
الْأَوْصَافِ وَالْمُرَادُ بِهَا تُعْصَمْ إنْ شَاءَ اللّهُ مِمّا وَقَعَتْ فِيهِ
الْمُلْحِدَةُ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ كِتَابِ اللّهِ
وَقَوْلِهِمْ أَيّ فَائِدَةٍ فِي أَنْ تَكُونَ الشّمْسُ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ
وَهَكَذَا هُوَ كُلّ بَيْتٍ يَكُونُ فِي مَقْنُوَةٍ أَيْ بَابُهُ لِجِهَةِ
الشّمَالِ فَنَبّهَ أَهْلُ الْمَعَانِي عَلَى الْفَائِدَةِ الْأُولَى
الْمُنْبِئَةِ عَنْ لُطْفِ اللّهِ بِهِمْ حَيْثُ جَعَلَهُمْ فِي مَقْنُوَةٍ
تَزَاوَرُ عَنْهُمْ الشّمْسُ فَلَا تُؤْذِيهِمْ فَقَالَ لِمَنْ اقْتَصَرَ مِنْ
أَهْلِ التّأْوِيلِ عَلَى هَذَا : فَمَا فِي ذِكْرِ الْكَلْبِ وَبَسْطِ
ذِرَاعَيْهِ مِنْ الْفَائِدَةِ وَمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى اللّطْفِ بِهِمْ ؟
فَالْجَوَابُ مَا قَدّمْنَاهُ مِنْ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَتْرُكْ مِنْ
بَيَانِ حَالِهِمْ شَيْئًا ، حَتّى ذَكَرَ حَالَ كَلْبِهِمْ مَعَ أَنّ
تَأَمّلَهُمْ مُتَعَذّرٌ عَلَى مَنْ اطّلَعَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَجْلِ الرّعْبِ
فَكَيْفَ مَنْ لَمْ يَرَهُمْ وَلَا سَمِعَ بِهِمْ لَوْلَا الْوَحْيُ الّذِي
جَاءَهُ مِنْ اللّهِ سُبْحَانَهُ بِالْبَيَانِ الْوَاضِحِ الشّافِي ،
وَالْبُرْهَانِ الْكَافِي ، وَالرّعْبِ الّذِي كَانَ يَلْحَقُ الْمُطَلّعَ
عَلَيْهِمْ قِيلَ كَانَ مِمّا طَالَتْ شُعُورُهُمْ وَأَظْفَارُهُمْ . وَمِنْ
الْآيَاتِ فِي هَذِهِ الْقِصّةِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فِي فَجْوَةٍ [ ص 61 ]
فَضَاءٍ وَمَعَ أَنّهُمْ فِي فَضَاءٍ مِنْهُ فَلَا تُصِيبُهُمْ الشّمْسُ . قَالَ
ابْنُ سَلّامٍ فَهَذِهِ آيَةٌ . قَالَ وَكَانُوا يُقَلّبُونَ فِي السّعَةِ
مَرّتَيْنِ وَمِنْ فَوَائِدِ الْآيَةِ أَنّهُ أَخْرَجَ الْكَلْبَ عَنْ التّقْلِيبِ
فَقَالَ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ وَمَعَ أَنّهُ كَانَ لَا يُقَلّبُ لَمْ تَأْكُلْهُ
الْأَرْضُ لِأَنّ التّقْلِيبَ كَانَ مِنْ فِعْلِ الْمَلَائِكَةِ بِهِمْ
وَالْمَلَائِكَةُ أَوْلِيَاءُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا وَفِي
الْآخِرَةِ وَالْكَلْبُ خَارِجٌ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ . أَلَا تَرَاهُ كَيْفَ
قَالَ بِالْوَصِيدِ أَيْ بِفَنَاءِ الْغَارِ لَا دَاخِلًا مَعَهُمْ لِأَنّ
الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ فَهَذِهِ فَوَائِدُ جُمّةٌ قَدْ
اشْتَمَلَ عَلَيْهَا هَذَا الْكَلَامُ . قَالَ ابْنُ سَلّامٍ وَإِنّمَا كَانُوا
يُقَلّبُونَ فِي الرّقْدَةِ الْأُولَى قَبْلَ أَنْ يُبْعَثُوا .
{
لَوِ اطّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ
رُعْبًا } إلَى قَوْلِهِ { قَالَ الّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ } أَهْلُ
السّلْطَانِ وَالْمُلْكِ مِنْهُمْ { لَنَتّخِذَنّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا } [ ص 62 ]Sالْمُتَنَازِعُونَ
فِي أَمْرِهِمْ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ قَوْلَ اللّهِ سُبْحَانَهُ { قَالَ الّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ
لَنَتّخِذَنّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا } [ الْكَهْفِ : 21 ] وَقَالَ يَعْنِي
أَصْحَابَ السّلْطَانِ فَاسْتَدَلّ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنّهُمْ
كَانُوا مُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ { لَنَتّخِذَنّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا } . وَذَكَرَ
الطّبَرِيّ أَنّ أَهْلَ تِلْكَ الْمَدِينَةِ تَنَازَعُوا قَبْلَ مَبْعَثِهِمْ فِي
الْأَجْسَادِ وَالْأَرْوَاحِ . كَيْفَ تَكُونُ إعَادَتُهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ
فَقَالَ قَوْمٌ تُعَادُ الْأَجْسَادُ كَمَا كَانَتْ بِأَرْوَاحِهَا ، كَمَا
يَقُولُهُ أَهْلُ الْإِسْلَامِ وَخَالَفَهُمْ آخَرُونَ وَقَالُوا : تُبْعَثُ
الْأَرْوَاحُ دُونَ الْأَجْسَادِ كَمَا يَقُولُهُ النّصَارَى ، وَشَرِيَ بَيْنَهُمْ
الشّرّ ، وَاشْتَدّ الْخِلَافُ وَاشْتَدّ عَلَى مَلِكِهِمْ مَا نَزَلَ بِقَوْمِهِ
مِنْ ذَلِكَ فَلَبِسَ الْمُسُوحَ وَافْتَرَشَ الرّمَادَ وَأَقْبَلَ عَلَى
الْبُكَاءِ وَالتّضَرّعِ إلَى اللّهِ أَنْ يُرِيَهُ الْفَصْلَ فِيمَا اخْتَلَفُوا
فِيهِ فَأَحْيَا اللّهُ أَصْحَابَ الْكَهْفِ عِنْدَ ذَلِكَ فَكَانَ مِنْ
حَدِيثِهِمْ مَا عُرِفَ وَشُهِرَ فَقَالَ الْمَلِكُ لِقَوْمِهِ هَذِهِ آيَةٌ
أَظْهَرَهَا اللّهُ لَكُمْ لِتَتّفِقُوا ، وَتَعْلَمُوا أَنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ
كَمَا أَحْيَا هَؤُلَاءِ وَأَعَادَ أَرْوَاحَهُمْ إلَى أَجْسَادِهِمْ فَكَذَلِكَ
يُعِيدُ الْخَلْقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا بَدَأَهُمْ فَرَجَعَ الْكُلّ إلَى
مَا قَالَهُ الْمَلِكُ وَعَلِمُوا أَنّهُ الْحَقّ .
{
سَيَقُولُونَ } يَعْنِي : أَحْبَارَ يَهُودَ الّذِينَ أَمَرُوهُمْ بِالْمَسْأَلَةِ
عَنْهُمْ { ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ
كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ } أَيْ لَا عِلْمَ لَهُمْ { وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ
وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبّي أَعْلَمُ بِعِدّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ
إِلّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلّا مِرَاءً ظَاهِرًا } أَيْ لَا [ ص 63 ]
{ وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا } فَإِنّهُمْ لَا عِلْمَ لَهُمْ
بِهِمْ .Sعَنْ
وَاوِ الثّمَانِيَةِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ قَوْلَ اللّهِ سُبْحَانَهُ { وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ
كَلْبُهُمْ } قَدْ أَفْرَدْنَا لِلْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْوَاوِ الّتِي
يُسَمّيهَا بَعْضُ النّاسِ وَاوَ الثّمَانِيَةِ بَابًا طَوِيلًا ، وَاَلّذِي
يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ أَنْ تَعْلَمَ أَنّ هَذِهِ الْوَاوَ تَدُلّ عَلَى
تَصْدِيقِ الْقَائِلِينَ لِأَنّهَا عَاطِفَةٌ عَلَى كَلَامٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ
نَعَمْ [ ص 63 ] قَائِلًا لَوْ قَالَ إنّ زَيْدًا شَاعِرٌ فَقُلْت لَهُ وَفَقِيهٌ
كُنْت قَدْ صَدّقْته ، كَأَنّك قُلْت : نَعَمْ هُوَ كَذَلِكَ وَفَقِيهٌ أَيْضًا ،
وَفِي الْحَدِيثِ سُئِلَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَيُتَوَضّأُ بِمَا أَفْضَلَتْ الْخَمْرُ فَقَالَ وَبِمَا أَفْضَلَتْ السّبَاعُ .
يُرِيدُ نَعَمْ وَبِمَا أَفْضَلَتْ السّبَاعُ . خَرّجَهُ الدّارَقُطْنِيّ . وَفِي
التّنْزِيلِ { وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ } [ الْبَقَرَةِ 126 ] هُوَ مِنْ هَذَا
الْبَابِ . فَكَذَلِكَ مَا أَخْبَرَهُ عَنْهُمْ مِنْ قَوْلِهِمْ { وَيَقُولُونَ
سَبْعَةٌ } فَقَالَ سُبْحَانَهُ { وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } وَلَيْسَ كَذَلِكَ
سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ وَرَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ لِأَنّهُ فِي مَوْضِعِ النّعْتِ
لِمَا قَبْلَهُ فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { رَجْمًا بِالْغَيْبِ
} وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ فِي آخِرِ الْقِصّةِ .
{
وَلَا تَقُولَنّ لِشَيْءٍ إِنّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلّا أَنْ يَشَاءَ اللّهُ
وَاذْكُرْ رَبّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبّي لِأَقْرَبَ
مِنْ هَذَا رَشَدًا } أَيْ وَلَا تَقُولَن لِشَيْءِ سَأَلُوك عَنْهُ كَمَا قُلْت
فِي هَذَا : إنّي مُخْبِرُكُمْ غَدًا . [ ص 64 ] مَشِيئَةَ اللّهِ { وَاذْكُرْ
رَبّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبّي } لِخَيْرِ مِمّا
سَأَلْتُمُونِي عَنْهُ رَشَدًا ، فَإِنّك لَا تَدْرِي مَا أَنَا صَانِعٌ فِي
ذَلِكَ .Sآيَةُ
الِاسْتِثْنَاءِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ قَوْلَ اللّهِ تَعَالَى : { وَلَا تَقُولَنّ لِشَيْءٍ } وَفَسّرَهُ
فَقَالَ أَيْ اسْتَثْنِ شِيئَةَ اللّهِ . الشّيئَةُ مَصْدَرُ شَاءَ يَشَاءُ كَمَا
أَنّ الْخِيفَةَ مَصْدَرُ خَافَ يَخَافُ وَلَكِنّ هَذَا التّفْسِيرَ وَإِنْ كَانَ
صَحِيحَ الْمَعْنَى ، فَلَفْظُ الْآيَةِ مُشْكِلٌ جِدّا ؛ لِأَنّ قَوْلَهُ { وَلَا
تَقُولَنّ لِشَيْءٍ إِنّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا } [ الْكَهْفِ : 23 ] نَهَى عَنْ
أَنْ يَقُولَ هَذَا الْكَلَامَ وَلَمْ يَنْهَهُ عَنْ أَنْ يَصِلَهُ بِإِلّا أَنْ
يَشَاءَ اللّهُ فَيَكُونُ الْعَبْدُ الْمَنْهِيّ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ مَنْهِيّا
أَيْضًا عَنْ أَنْ يَصِلَهُ بِقَوْلِهِ { إِلّا أَنْ يَشَاءَ اللّهُ } هَذَا
مُحَالٌ فَقَوْلُهُ إذًا : { إِلّا أَنْ يَشَاءَ اللّهُ } اسْتِثْنَاءٌ مِنْ
اللّهِ رَاجِعٌ إلَى أَوّلِ الْكَلَامِ وَهَذَا أَيْضًا إذَا تَأَمّلْته نَقْضٌ
لِعَزِيمَةِ النّهْيِ وَإِبْطَالٌ لِحُكْمِهِ فَإِنّ السّيّدَ إذَا قَالَ
لِعَبْدِهِ لَا تَقُمْ إلّا أَنْ يَشَاءَ اللّهُ أَنْ تَقُومَ فَقَدْ حَلّ
عُقْدَةَ النّهْيِ لِأَنّ مَشِيئَةَ اللّهِ لِلْفِعْلِ لَا تُعْلَمُ إلّا
بِالْفِعْلِ فَلِلْعَبْدِ إذًا أَنْ يَقُومَ وَيَقُولَ قَدْ شَاءَ اللّهُ أَنْ
نَقُومَ فَلَا يَكُونُ لِلنّهْيِ مَعْنًى عَلَى هَذَا ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ رَدّ
حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ إلَى النّهْيِ وَلَا هُوَ مِنْ الْكَلَامِ الّذِي نَهَى
الْعَبْدَ عَنْهُ فَقَدْ تَبَيّنَ إشْكَالُهُ وَالْجَوَابُ أَنّ فِي الْكَلَامِ
حَذْفًا وَإِضْمَارًا تَقْدِيرُهُ وَلَا تَقُولَن : إنّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا
إلّا ذَاكِرًا إلّا أَنْ يَشَاءَ اللّهُ ، أَوْ نَاطِقًا بِأَنْ يَشَاءَ اللّهُ
وَمَعْنَاهُ إلّا ذَاكِرًا شِيئَةَ اللّهِ كَمَا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ ؛ لِأَنّ
الشّيئَةَ مَصْدَرٌ وَأَنْ مَعَ الْفِعْلِ فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ وَإِعْرَابُ
ذَلِكَ الْمَصْدَرِ مَفْعُولٌ بِالْقَوْلِ الْمُضْمَرِ وَالْعَرَبُ تَحْذِفُ
الْقَوْلَ وَتَكْتَفِي بِالْمَقُولِ فَفِي التّنْزِيلِ { فَأَمّا الّذِينَ
اسْوَدّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ } [ آلِ عِمْرَانَ : 106 ] أَيْ يُقَالُ
لَهُمْ أَكَفَرْتُمْ فَحُذِفَ الْقَوْلُ وَبَقِيَ الْكَلَامُ الْمَقُولُ
وَكَذَلِكَ [ ص 64 ] { يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلّ بَابٍ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ
} [ الرّعْدِ 24 ] أَيْ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَهُوَ كَثِيرٌ وَكَذَلِكَ
إذًا قَوْلُهُ إلّا أَنْ يَشَاءَ اللّهُ هِيَ مِنْ كَلَامِ النّاهِي لَهُ
سُبْحَانَهُ ثُمّ أَضْمَرَ الْقَوْلَ وَهُوَ الذّكْرُ الّذِي قَدّمْنَاهُ وَبَقِيَ
الْمَقُولُ وَهُوَ أَنْ يَشَاءَ اللّهُ وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي فِي هَذَا
الْمَقَامِ وَإِنْ كَانَ فِي الْآيَةِ مِنْ الْبَسْطِ وَالتّفْتِيشِ مَا هُوَ
أَكْثَرُ مِنْ هَذَا .
{
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا } أَيْ
سَيَقُولُونَ ذَلِكَ . { قُلِ اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ
السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ
وَلِيّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا } [ ص 65 ] يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ
مِمّا سَأَلُوك عَنْهُ .S{ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ }
فَصْلٌ
وَفْد فَسّرَ قَوْلَهُ تَعَالَى : { وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ } فَقَالَ
مَعْنَاهُ أَيْ سَيَقُولُونَ ذَلِكَ وَهُوَ أَحَدُ التّأْوِيلَاتِ فِيهَا .
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ قَرَأَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ : وَقَالُوا : لَبِثُوا ،
بِزِيَادَةِ قَالُوا . ثُمّ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : قُلْ رَبّي أَعْلَمُ بِمَا
لَبِثُوا ، وَهُوَ وَهْمٌ مِنْ الْمُؤَلّفِ أَوْ غَيْرِهِ وَإِنّمَا التّلَاوَةُ {
قُلِ اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا } وَقَدْ قِيلَ إنّهُ إخْبَارٌ مِنْ اللّهِ
تَعَالَى عَنْ مِقْدَارِ لُبْثِهِمْ وَلَكِنْ لَمّا عَلِمَ اسْتِبْعَادَ قُرَيْشٍ
وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْكُفّارِ لِهَذَا الْمِقْدَارِ وَعَلِمَ أَنّ فِيهِ
تَنَازُعًا بَيْنَ النّاسِ فَمِنْ ثَمّ قَالَ { قُلِ اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا
لَبِثُوا } وَقَوْلِهِ { ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا } أَيْ إنّهَا
ثَلَاثُمِائَةٍ بِحِسَابِ الْعَجَمِ ، وَإِنْ حُسِبَتْ الْأَهِلّةُ فَقَدْ زَادَ
الْعَدَدُ تِسْعًا ، لِأَنّ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ بِحِسَابِ الشّمْسِ تَزِيدُ
تِسْعَ سِنِينَ بِحِسَابِ الْقَمَرِ فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ قَالَ ثَلَاثِمِائَةٍ
سِنِينَ وَلَمْ يَقُلْ سَنَةً وَهُوَ قِيَاسُ الْعَدَدِ فِي الْعَرَبِيّةِ لِأَنّ
الْمِائَةَ تُضَافُ إلَى لَفْظِ الْوَاحِدِ فَالْجَوَابُ أَنّ سِنِينَ فِي
الْآيَةِ بَدَلٌ مِمّا قَبْلَهُ لَيْسَ عَلَى حَدّ الْإِضَافَةِ وَلَا التّمْيِيزِ
وَلِحِكْمَةِ عَظِيمَةٍ عُدِلَ بِاللّفْظِ عَنْ الْإِضَافَةِ إلَى الْبَدَلِ
وَذَلِكَ أَنّهُ لَوْ قَالَ ثَلَاثَمِائَةِ سَنَةٍ لَكَانَ الْكَلَامُ كَأَنّهُ
جَوَابٌ لِطَائِفَةِ وَاحِدَةٍ مِنْ النّاسِ وَالنّاسُ فِيهِمْ طَائِفَتَانِ
طَائِفَةٌ عَرَفُوا طُولَ لُبْثِهِمْ وَلَمْ يَعْلَمُوا كَمّيّةَ السّنِينَ
فَعَرّفَهُمْ أَنّهَا ثَلَاثُمِائَةٍ وَطَائِفَةٌ لَمْ يَعْرِفُوا طُولَ
لُبْثِهِمْ وَلَا شَيْئًا مِنْ خَبَرِهِمْ فَلَمّا قَالَ ثَلَاثَمِائَةِ مُعَرّفًا
لِلْأَوّلِينَ بِالْكَمّيّةِ الّتِي شَكّوا فِيهَا ، مُبَيّنًا لِلْآخَرِينَ أَنّ
هَذِهِ الثّلَاثَمِائَةِ سُنُونَ وَلَيْسَتْ أَيّامًا وَلَا شُهُورًا ،
فَانْتَظَمَ الْبَيَانُ لِلطّائِفَتَيْنِ مِنْ ذِكْرِ الْعَدَدِ وَجَمْعِ
الْمَعْدُودِ وَتَبَيّنَ أَنّهُ بَدَلٌ إذْ الْبَدَلُ يُرَادُ بِهِ تَبْيِينُ مَا
قَبْلَهُ أَلَا تَرَى أَنّ الْيَهُودَ قَدْ كَانُوا عَرَفُوا أَنّ لِأَصْحَابِ
الْكَهْفِ نَبَأً عَجِيبًا ، وَلَمْ يَكُنْ الْعَجَبُ إلّا مِنْ طُولِ لُبْثِهِمْ
غَيْرَ أَنّهُمْ لَمْ يَكُونُوا عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَنّهَا ثَلَاثُمِائَةٍ أَوْ
أَقَلّ ، فَأَخْبَرَ أَنّ تِلْكَ السّنِينَ ثَلَاثُمِائَةٍ ثُمّ لَوْ وَقَفَ
الْكَلَامُ هَهُنَا لَقَالَتْ الْعَرَبُ ، وَمَنْ لَمْ يَسْمَعْ بِخَبَرِهِمْ مَا
هَذِهِ الثّلَاثُمِائَةِ ؟ فَقَالَ كَالْمُبَيّنِ لَهُمْ سِنِينَ وَقَدْ رُوِيَ
مَعْنَى هَذَا التّفْسِيرِ عَنْ الضّحّاكِ ، ذَكَرَهُ النّحّاسُ . [ ص 65 ]
السّنَةُ وَالْعَامُ
فَصْلٌ
وَقَالَ سِنِينَ وَلَمْ يَقُلْ أَعْوَامًا ، وَالسّنَةُ وَالْعَامُ وَإِنْ
اتّسَعَتْ الْعَرَبُ فِيهِمَا ، وَاسْتَعْمَلَتْ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَكَانَ
الْآخَرِ اتّسَاعًا ، وَلَكِنْ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِ الْبَلَاغَةِ وَالْعِلْمِ
بِتَنْزِيلِ الْكَلَامِ فَرْقًا ، فَخُذْهُ أَوّلًا مِنْ الِاشْتِقَاقِ فَإِنّ
السّنَةَ مِنْ سَنَا يَسْنُو إذَا دَارَ حَوْلَ الْبِئْرِ وَالدّابّةُ هِيَ
السّانِيَةُ فَكَذَلِكَ السّنَةُ دَوْرَةٌ مِنْ دَوْرَاتِ الشّمْسِ وَفْد تُسَمّى
السّنَةُ دَارًا ، فَفِي الْخَبَرِ : إنّ بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ أَلْفَ دَارٍ أَيْ
أَلْفَ سَنَةٍ هَذَا أَصْلُ الِاسْمِ وَمِنْ ثَمّ قَالُوا : أَكَلَتْهُمْ السّنَةُ
فَسَمّوْا شِدّةَ الْقَحْطِ سَنَةً قَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ { وَلَقَدْ أَخَذْنَا
آلَ فِرْعَوْنَ بِالسّنِينَ } [ الْأَعْرَافِ 13 ] وَمِنْ ثَمّ قِيلَ أَسْنَتَ
الْقَوْمُ إذَا أَقْحَطُوا ، وَكَأَنّ وَزْنَهُ أَفْعَتُوا ، لَا أَفْعَلُوا ،
كَذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ وَجَعَلَ سِيبَوَيْهِ التّاءَ بَدَلًا مِنْ الْوَاوِ
فَهِيَ عِنْدَهُ أَفْعَلُوا ، لِأَنّ الْجُدُوبَةَ وَالْخِصْبَ مُعْتَبَرٌ
بِالشّتَاءِ وَالصّيْفِ وَحِسَابُ الْعَجَمِ إنّمَا هُوَ بِالسّنِينَ الشّمْسِيّةِ
بِهَا يُؤَرّخُونَ وَأَصْحَابُ الْكَهْفِ مِنْ أُمّةٍ عَجَمِيّةٍ وَالنّصَارَى
يَعْرِفُونَ حَدِيثَهُمْ وَيُؤَرّخُونَ بِهِ فَجَاءَ اللّفْظُ فِي الْقُرْآنِ
بِذِكْرِ السّنِينَ الْمُوَافِقَةِ لِحِسَابِهِمْ وَتَمّمَ الْفَائِدَةَ
بِقَوْلِهِ { وَازْدَادُوا تِسْعًا } لِيُوَافِقَ حِسَابَ الْعَرَبِ ، فَإِنّ
حِسَابَهُمْ بِالشّهُورِ الْقَمَرِيّةِ كَالْمُحَرّمِ وَصَفَرٍ وَنَحْوِهِمَا
وَانْظُرْ بَعْدَ هَذَا إلَى قَوْلِهِ { تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا } [ يُوسُفَ
47 ] الْآيَةِ وَلَمْ يَقُلْ أَعْوَامًا ، نَفْيُهُ شَاهِدٌ لِمَا تَقَدّمَ غَيْرَ
أَنّهُ قَالَ { ثُمّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ } وَلَمْ يَقُلْ سَنَةٌ
عُدُولًا عَنْ اللّفْظِ الْمُشْتَرَكِ فَإِنّ السّنَةَ قَدْ يُعَبّرُ بِهَا عَنْ
الشّدّةِ وَالْأَزْمَةِ كَمَا تَقَدّمَ فَلَوْ قَالَ سَنَةً لَذَهَبَ الْوَهْمُ
إلَيْهَا ؛ لِأَنّ الْعَامَ أَقَلّ أَيّامًا مِنْ السّنَةِ وَإِنّمَا دَلّتْ
الرّؤْيَا عَلَى سَبْعِ سِنِينَ شِدَادٍ وَإِذَا انْقَضَى الْعَدَدُ فَلَيْسَ
بَعْدَ الشّدّةِ إلّا رَخَاءٌ وَلَيْسَ فِي الرّؤْيَا مَا يَدُلّ عَلَى مُدّةِ
ذَلِكَ الرّخَاءِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَقَلّ مِنْ عَامٍ وَالزّيَادَةُ
عَلَى الْعَامِ مَشْكُوكٌ فِيهَا ، لَا تَقْتَضِيهَا الرّؤْيَا ، فَحَكَمَ
بِالْأَقَلّ وَتَرَكَ مَا يَقَعُ فِيهِ الشّكّ مِنْ الزّيَادَةِ عَلَى الْعَامِ
فَهَاتَانِ فَائِدَتَانِ فِي اللّفْظِ بِالْعَامِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ وَأَمّا
قَوْلُهُ { وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } فَإِنّمَا ذَكَرَ السّنِينَ وَهِيَ
أَطْوَلُ مِنْ الْأَعْوَامِ لِأَنّهُ مُخْبِرٌ عَنْ اكْتِهَالِ الْإِنْسَانِ
وَتَمَامِ قُوّتِهِ وَاسْتِوَائِهِ فَلَفْظُ السّنِينَ أَوْلَى بِهَذَا
الْمَوْطِنِ لِأَنّهَا أَكْمَلُ مِنْ الْأَعْوَامِ وَفَائِدَةٌ أُخْرَى : أَنّهُ
خَبَرٌ عَنْ السّنّ وَالسّنّ مُعْتَبَرٌ بِالسّنِينَ لِأَنّ أَصْلَ السّنّ فِي
الْحَيَوَانِ لَا يُعْتَبَرُ إلّا بِالسّنَةِ الشّمْسِيّةِ لِأَنّ النّتَاجَ
وَالْحَمْلَ يَكُونُ بِالرّبِيعِ وَالصّيْفِ حَتّى قِيلَ رِبْعِيّ لِلْبَكِيرِ
وَصَيْفِيّ لِلْمُؤَخّرِ قَالَ الرّاجِزُ
إنّ بَنِيّ صِبْيَةٌ صَيْفِيّونْ ... أَفْلَحَ مَنْ كَانَ لَهُ رِبْعِيّونْ
[ ص 66 ] قِيلَ فِي الْفَصِيلِ وَنَحْوِهِ ابْنُ سَنَةٍ وَابْنُ سَنَتَيْنِ قِيلَ
ذَلِكَ فِي الْآدَمِيّينَ وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ فِي الْمَاشِيَةِ لِمَا قَدّمْنَا
، وَأَمّا قَوْلُهُ { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } فَلِأَنّهُ قَالَ سُبْحَانَهُ {
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنّاسِ وَالْحَجّ } [
الْبَقَرَةِ 189 ] فَالرّضَاعُ مِنْ الْأَحْكَامِ الشّرْعِيّةِ وَقَدْ قَصَرْنَا
فِيهَا عَلَى الْحِسَابِ بِالْأَهِلّةِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ يُحِلّونَهُ عَامًا
وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا وَلَمْ يَقُلْ سَنَةً لِأَنّهُ يَعْنِي شَهْرَ الْمُحَرّمِ
وَرَبِيعَ إلَى آخِرِ الْعَامِ وَلَمْ يَكُونُوا يَحْسِبُونَ بِأَيْلُول وَلَا
بِتِشْرِين وَلَا بينير ، وَهِيَ الشّهُورُ الشّمْسِيّةُ وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ {
فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِائَةَ عَامٍ } إخْبَارٌ مِنْهُ لِمُحَمّدِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأُمّتِهِ وَحِسَابُهُمْ بِالْأَعْوَامِ وَالْأَهِلّةِ كَمَا
وَقّتَ لَهُمْ سُبْحَانَهُ وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فِي قِصّةِ نُوحٍ { فَلَبِثَ
فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلّا خَمْسِينَ عَامًا } [ الْعَنْكَبُوتِ 140 ] قِيلَ
إنّمَا ذَكَرَ أَوّلًا السّنِينَ لِأَنّهُ كَانَ فِي شَدَائِدِ مُدّتِهِ كُلّهَا
إلّا خَمْسِينَ عَامًا مُنْذُ جَاءَهُ الْفَرَجُ وَأَتَاهُ الْغَوْثُ ، وَيَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ اللّهُ - سُبْحَانَهُ - عَلِمَ أَنّ عُمْرَهُ كَانَ أَلْفًا ، إلّا
أَنّ الْخَمْسِينَ مِنْهَا ، كَانَتْ أَعْوَامًا ، فَيَكُونُ عُمُرُهُ أَلْفَ
سَنَةٍ تَنْقُصُ مِنْهَا مَا بَيْنَ السّنِينَ الشّمْسِيّةِ وَالْقَمَرِيّةِ فِي
الْخَمْسِينَ خَاصّةً لِأَنّ خَمْسِينَ عَامًا بِحِسَابِ الْأَهِلّةِ أَقَلّ مِنْ
خَمْسِينَ سَنَةٍ شَمْسِيّةٍ بِنَحْوِ عَامٍ وَنِصْفٍ فَإِنْ كَانَ اللّهُ
سُبْحَانَهُ قَدْ عَلِمَ هَذَا مِنْ عُمُرِهِ فَاللّفْظُ مُوَافِقٌ لِهَذَا
الْمَعْنَى ، وَإِلّا فَفِي الْقَوْلِ الْأَوّلِ مَقْنَعٌ وَاَللّهُ أَعْلَمُ
بِمَا أَرَادَ فَتَأَمّلْ هَذَا ، فَإِنّ الْعِلْمَ بِتَنْزِيلِ الْكَلَامِ
وَوَضْعَ الْأَلْفَاظِ فِي مَوَاضِعِهَا اللّائِقَةِ بِهَا يَفْتَحُ لَك بَابًا
مِنْ الْعِلْمِ بِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَابْنِ هَذَا الْأَصْلَ تَعْرِفُ
الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ
أَلْفَ سَنَةٍ } [ الْمَعَارِجِ 4 ] . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِنّ يَوْمًا
عِنْدَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمّا تَعُدّونَ } [ الْحِجْرِ : 47 ] وَأَنّهُ
كَلَامٌ وَرَدَ فِي مَعْرِضِ التّكْثِيرِ وَالتّفْخِيمِ لَطُولُ ذَلِكَ الْيَوْمِ
وَالسّنَةِ أَطْوَلُ مِنْ الْعَامِ كَمَا تَقَدّمَ فَلَفْظُهَا أَلْيَقُ بِهَذَا
الْمَقَامِ .
[
ص 66 ] وَقَالَ فِيمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الرّجُلِ الطّوّافِ {
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا
إِنّا مَكّنّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ سَبَبًا } [
الْكَهْفِ : 83 ] حَتّى انْتَهَى إلَى آخِرِ قِصّةِ خَبَرِهِ . [ ص 67 ] وَكَانَ
مِنْ خَبَرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ أَنّهُ أُوتِيَ مَا لَمْ يُؤْتَ أَحَدٌ غَيْرُهُ
فَمُدّتْ لَهُ الْأَسْبَابُ حَتّى انْتَهَى مِنْ الْبِلَادِ إلَى مَشَارِقِ
الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا ، لَا يَطَأُ أَرْضًا إلّا سُلّطَ عَلَى أَهْلِهَا ،
حَتّى انْتَهَى مِنْ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ إلَى مَا لَيْسَ وَرَاءَهُ شَيْءٌ
مِنْ الْخَلْقِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي مَنْ يَسُوقُ الْأَحَادِيثَ
عَنْ الْأَعَاجِمِ ، فِيمَا تَوَارَثُوا مِنْ عِلْمِهِ أَنّ ذَا الْقَرْنَيْنِ
كَانَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مِصْرَ ، اسْمُهُ مَرْزُبَانُ بْنُ مَرْذَبَةَ
الْيُونَانِيّ ، مِنْ وَلَدِ يُونَانِ بْنِ يافث بْنِ نُوحٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ
: وَاسْمُهُ الْإِسْكَنْدَرُ وَهُوَ الّذِي بَنَى الإسكندرية ، فَنُسِبَتْ إلَيْهِ
. قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ حَدّثَنِي ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ خَالِدِ بْنِ
مَعْدَانَ الْكُلَاعِيّ وَكَانَ رَجُلًا قَدْ أَدْرَكَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - سُئِلَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ فَقَالَ مَلِكٌ
مَسَحَ الْأَرْضَ مِنْ تَحْتِهَا بِالْأَسْبَابِ [ ص 68 ] وَقَالَ خَالِدٌ سَمِعَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ رَجُلًا يَقُولُ يَا ذَا
الْقَرْنَيْنِ فَقَالَ عُمَرُ اللّهُمّ غَفْرًا ، أَمَا رَضِيتُمْ أَنْ تَسَمّوْا
بِالْأَنْبِيَاءِ حَتّى تَسَمّيْتُمْ بِالْمَلَائِكَةِ ؟ [ ص 69 ] قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : وَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ أَقَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَمْ لَا ؟ فَإِنْ كَانَ قَالَهُ فَالْحَقّ مَا
قَالَ . [ ص 70 ]Sذِكْرُ
قِصّةِ الرّجُلِ الطّوّافِ ذِي الْقَرْنَيْنِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ قِصّةَ الرّجُلِ الطّوّافِ وَالْحَدِيثَ الّذِي جَاءَ فِيهِ عَنْ رَسُولِ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنّهُ كَانَ مَلِكًا مَسَحَ الْأَرْضَ
بِالْأَسْبَابِ وَلَمْ يَشْرَحْ مَعْنَى الْأَسْبَابِ . وَلِأَهْلِ التّفْسِيرِ
فِيهِ أَقْوَالٌ مُتَقَارِبَةٌ قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَآتَيْنَاهُ
مِنْ كُلّ شَيْءٍ سَبَبًا } [ الْكَهْفِ : 84 ] أَيْ عِلْمًا يَتْبَعُهُ وَفِي
قَوْلِهِ تَعَالَى : { فَأَتْبَعَ سَبَبًا } [ الْكَهْفِ : 85 ] أَيْ طَرِيقًا
مُوَصّلَةً وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ السّبَبُ حَبْلٌ
مِنْ نُورٍ كَانَ مَلَكٌ يَمْشِي بِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ [ ص 67 ] وَقَدْ قِيلَ فِي
اسْمِ ذَلِكَ الْمَلِكِ زياقيل ، وَهَذَا يَقْرُبُ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ سَبَبًا
أَيْ طَرِيقًا ، وَيَقْرُبُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِ النّبِيّ "
مَسَحَ الْأَرْضَ بِالْأَسْبَابِ " ، وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهِ بِذِي
الْقَرْنَيْنِ كَمَا اُخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ فَأَصَحّ مَا جَاءَ
فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الطّفَيْلِ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ قَالَ سَأَلَ
ابْنُ الْكَوّاءِ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ ، فَقَالَ أَرَأَيْت ذَا
الْقَرْنَيْنِ أَنَبِيّا كَانَ أَمْ مَلِكًا ؟ لَا نَبِيّا كَانَ وَلَا مَلِكًا ،
وَلَكِنْ كَانَ عَبْدًا صَالِحًا دَعَا قَوْمَهُ إلَى عِبَادَةِ اللّهِ
فَضَرَبُوهُ عَلَى قَرْنَيْ رَأْسِهِ ضَرْبَتَيْنِ وَفِيكُمْ مِثْلُهُ . يَعْنِي :
نَفْسَهُ وَقِيلَ كَانَتْ لَهُ ضَفِيرَتَانِ مِنْ شَعَرٍ وَالْعَرَبُ تُسَمّي
الْخُصْلَةَ مِنْ الشّعَرِ قَرْنًا ، وَقِيلَ إنّهُ رَأَى فِي الْمَنَامِ رُؤْيَا
طَوِيلَةً أَنّهُ أَخَذَ بِقَرْنَيْ الشّمْسِ فَكَانَ التّأْوِيلُ أَنّهُ
الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ وَذَكَرَ هَذَا الْخَبَرَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْقَيْرَوَانِيّ
الْعَابِدُ فِي كِتَابِ الْبُسْتَانِ لَهُ قَالَ وَبِهَذَا سُمّيَ ذَا
الْقَرْنَيْنِ وَأَمّا اسْمُهُ فَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي هَذَا الْكِتَابِ
اسْمُهُ مَرْزَبَى بْنُ مَرْذَبَةَ بِذَالٍ مَفْتُوحَةٍ فِي اسْمِ أَبِيهِ وَزَايٍ
فِي اسْمِهِ وَقِيلَ فِيهِ هَرْمَسَ وَقِيلَ هرديس . وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ فِي
غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ اسْمُهُ الصّعْبُ بْنُ ذِي مَرَاثِدَ وَهُوَ أَوّلُ
التّبَابِعَةِ ، وَهُوَ الّذِي حَكَمَ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي
بِئْرِ السّبْعِ حِينَ حَاكَمَ إلَيْهِ فِيهَا ، وَقِيلَ إنّهُ أفريدون بْنُ
أَثَفَيَانِ الّذِي قَتَلَ الضّحّاكَ ، وَيُرْوَى فِي [ ص 68 ] قَيْسِ بْنِ
سَاعِدَةَ الّتِي خَطَبَهَا بِسُوقِ عُكَاظٍ ، أَنّهُ قَالَ فِيهَا : يَا مَعْشَرَ
إبَادٍ أَيْنَ الصّعْبُ ذُو الْقَرْنَيْنِ مَلِكُ الْخَافِقَيْنِ وَأَذَلّ الثّقَلَيْنِ
وَعَمّرَ أَلْفَيْنِ ثُمّ كَانَ ذَلِكَ كَلَحْظَةِ عَيْنٍ وَأَنْشَدَ ابْنُ
هِشَامٍ لِلْأَعْشَى : وَالصّعْبُ ذُو الْقَرْنَيْنِ أَصْبَحَ ثَاوِيًا
بِالْحِنْوِ فِي جَدَثٍ أُمَيْمٍ مُقِيمِ
وَقَوْلُهُ بِالْحِنْوِ يُرِيدُ حِنْوَ قَرَاقِرَ الّذِي مَاتَ فِيهِ ذُو
الْقَرْنَيْنِ بِالْعِرَاقِ وَقَوْلُ ابْنِ هِشَامٍ فِي السّيرَةِ إنّهُ مِنْ
أَهْلِ مِصْرَ ، إنّهُ الْإِسْكَنْدَرُ الّذِي بَنَى الإسكندرية ، فَعُرِفَتْ بِهِ
قَوْلٌ بَعِيدٌ مِمّا تَقَدّمَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْإِسْكَنْدَرُ سُمّيَ
ذَا الْقَرْنَيْنِ أَيْضًا تَشْبِيهًا لَهُ بِالْأَوّلِ لِأَنّهُ مَلَكَ مَا
بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فِيمَا ذَكَرُوا أَيْضًا ، وَأَذَلّ مُلُوكَ
فَارِسَ ، وَقَتَلَ دَارَا بْنَ دَارَا ، وَأَذَلّ مُلُوكَ الرّومِ وَغَيْرَهُمْ
وَقَالَ الطّبَرِيّ فِي الْإِسْكَنْدَرِ وَهُوَ اسكندروس بْنُ قليقوس ، وَيُقَالُ
فِيهِ ابْنُ قَلِيسٍ وَكَانَتْ أُمّهُ زِنْجِيّةً وَكَانَتْ أُهْدِيَتْ لِدَارَا
أَكْبَرَ أَوْ سَبَاهَا ، فَوَجَدَ مِنْهَا نَكْهَةً اسْتَثْقَلَهَا ، فَعُولِجَتْ
بِبَقْلَةِ يُقَالُ لَهَا : أندروس ، فَحَمَلَتْ مِنْهُ بِدَارَا الْأَصْغَرِ
فَلَمّا وَضَعَتْهُ رَدّهَا ، فَتَزَوّجَهَا وَالِدُ الْإِسْكَنْدَرِ فَحَمَلَتْ
مِنْهُ بالإسكندروس ، فَاسْمُهُ عِنْدَهُمْ مُشْتَقّ مِنْ تِلْكَ الْبَقْلَةِ
الّتِي طَهُرَتْ أُمّهُ بِهَا فِيمَا ذَكَرُوا ، وَذَكَرَ عَنْ الزّبَيْرِ أَنّهُ
قَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ هُوَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الضّحّاكِ بْنِ مَعَدّ [ وَقَالَ
ابْنُ حَبِيبٍ فِي ] الْمُحَبّرِ فِي ذِكْرِ مُلُوكِ الْحِيرَةِ ، قَالَ الصّعْبُ
بْنُ قَرِينِ [ بْنِ الْهُمّالِ ] : هُوَ ذُو الْقَرْنَيْنِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ
يَكُونُوا مُلُوكًا فِي أَوْقَاتٍ شَتّى ، يُسَمّى كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ذَا
الْقَرْنَيْنِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَالْأَوّلُ كَانَ عَلَى عَهْدِ إبْرَاهِيمَ
عَلَيْهِ السّلَامُ وَهُوَ صَاحِبُ الْخَضِرِ حِينَ طَلَبَ عَيْنَ الْحَيَاةِ
فَوَجَدَهَا الْخَضِرُ وَلَمْ يَجِدْهَا ذُو الْقَرْنَيْنِ حَالَتْ بَيْنَهُ
وَبَيْنَهَا الظّلُمَاتُ الّتِي وَقَعَ فِيهَا هُوَ وَأَجْنَادُهُ فِي خَبَرٍ
طَوِيلٍ مَذْكُورٍ فِي بَعْضِ التّفَاسِيرِ مَشْهُورٍ عِنْدَ الْأَخْبَارِيّينَ .
حُكْمُ التّسَمّي بِأَسْمَاءِ النّبِيّينَ
وَأَمّا قَوْلُ عُمَرَ لِرَجُلِ سَمِعَهُ يَقُولُ يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ لَمْ
يَكْفِكُمْ أَنْ تَتَسَمّوْا بِالْأَنْبِيَاءِ حَتّى تَسَمّيْتُمْ
بِالْمَلَائِكَةِ إنْ كَانَ عُمَرُ قَالَهُ بِتَوْقِيفِ مِنْ الرّسُولِ عَلَيْهِ
السّلَامُ فَهُوَ مَلَكٌ لَا يَقُولُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - إلّا الْحَقّ وَإِنْ كَانَ قَالَهُ بِتَأْوِيلِ تَأَوّلَهُ [ فَقَدْ ]
خَالَفَهُ عَلِيّ فِي الْخَبَرِ الْمُتَقَدّمِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ
الْخَبَرَيْنِ أَصَحّ نَقْلًا ، غَيْرَ أَنّ الرّوَايَةَ الْمُتَقَدّمَةَ عَنْ
عَلِيّ يُقَوّيهَا مَا نَقَلَهُ أَهْلُ الْأَخْبَارِ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ
وَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَكَانَ مِنْ مَذْهَبِ عُمَرَ رَحِمَهُ اللّهُ كَرَاهِيَةُ
التّسَمّي بِأَسْمَاءِ [ ص 69 ] الْأَنْبِيَاءِ فَقَدْ أَنْكَرَ عَلَى
الْمُغِيرَةِ تَكْنِيَتُهُ بِأَبِي عِيسَى ، وَأَنْكَرَ عَلَى صُهَيْبٍ
تَكْنِيَتَهُ بِأَبِي يَحْيَى ، فَأَخْبَرَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنّ رَسُولَ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَنّاهُ بِذَلِكَ فَسَكَتَ وَكَانَ
عُمَرُ إنّمَا كَرِهَ مِنْ ذَلِكَ الْإِكْثَارَ وَأَنْ يَظُنّ أَنّ
لِلْمُسْلِمِينَ شَرَفًا فِي الِاسْمِ إذَا سُمّيَ بِاسْمِ نَبِيّ أَوْ أَنّهُ
يَنْفَعُهُ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ فَكَأَنّهُ اسْتَشْعَرَ مِنْ رَعِيّتِهِ هَذَا
الْغَرَضَ أَوْ نَحْوَهُ هُوَ أَعْلَمُ بِمَا كَرِهَ مِنْ ذَلِكَ . وَإِلّا فَقَدْ
سَمّى بِمُحَمّدِ طَائِفَةٌ مِنْ الصّحَابَةِ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيّ
وَطَلْحَةُ وَأَبُو حُذَيْفَةَ وَأَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ وَخَاطِبٌ
وَخَطّابٌ ابْنَا الْحَارِثِ كُلّ هَؤُلَاءِ الْمُحَمّدِينَ كَانُوا يُكَنّونَ
بِأَبِي الْقَاسِمِ إلّا مُحَمّدَ بْنَ خَطّابٍ وَسَمّى أَبُو مُوسَى ابْنًا لَهُ
بِمُوسَى ، فَكَانَ يُكَنّى بِهِ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ سَمّى ابْنَهُ
بِيَحْيَى ، وَعَلِمَ بِهِ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ
وَكَانَ لِطَلْحَةِ عَشَرَةٌ مِنْ الْوَلَدِ كُلّهُمْ يُسَمّى بِاسْمِ نَبِيّ
مِنْهُمْ مُوسَى بْنُ طَلْحَةَ عِيسَى ، وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ وَإِبْرَاهِيمُ
وَمُحَمّدٌ وَكَانَ لِلزّبَيْرِ عَشْرٌ كُلّهُمْ يُسَمّى بِاسْمِ شَهِيدٍ فَقَالَ
لَهُ طَلْحَةُ أَنَا أُسَمّيهِمْ بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنْتَ تُسَمّيهِمْ
بِأَسْمَاءِ الشّهَدَاءِ ، فَقَالَ لَهُ الزّبَيْرُ فَإِنّي أَطْمَعُ أَنْ يَكُونَ
بَنِيّ شُهَدَاءَ وَلَا تَطْمَعْ أَنْتَ أَنْ يَكُونَ بَنُوك أَنْبِيَاءَ ذَكَرَهُ
ابْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ وَسَمّى رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
- ابْنَهُ إبْرَاهِيمَ وَالْآثَارُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ وَفِي السّنَنِ
لِأَبِي دَاوُدَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ
سَمّوا بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ لَا
عَلَى الْوُجُوبِ وَأَمّا التّسَمّي بِمُحَمّدِ فَفِي مُسْنَدِ الْحَارِثِ عَنْ
رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ مَا كَانَ لَهُ
ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ وَلَمْ يُسَمّ أَحَدَهُمْ بِمُحَمّدِ فَقَدْ جَهِلَ
وَفِي الْمُعَيْطِيّ عَنْ مَالِك ٍ أَنّهُ سُئِلَ عَمّنْ اسْمُهُ مُحَمّدٌ
وَيُكَنّى أَبَا الْقَاسِمِ فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا ، فَقِيلَ لَهُ أَكَنّيْت ابْنَك
أَبَا الْقَاسِمِ وَاسْمُهُ مُحَمّدٌ ؟ فَقَالَ مَا كَنّيْته بِهَا وَلَكِنّ
أَهْلَهُ يُكَنّونَهُ بِهَا ، وَلَمْ أَسْمَعْ فِي ذَلِكَ نَهْيًا ، وَلَا أَرَى
بِذَلِكَ بَأْسًا ، وَهَذَا يَدُلّ عَلَى أَنّ مَالِكًا لَمْ يَبْلُغْهُ أَوْ لَمْ
يَصِحّ عِنْدَهُ حَدِيثُ النّهْيِ عَنْ ذَلِكَ وَقَدْ رَوَاهُ أَهْلُ الصّحِيحِ -
فَاَللّهُ أَعْلَمُ - وَلَعَلّهُ بَلَغَهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنّهُ عَلَيْهِ
السّلَامُ - قَالَ " مَا الّذِي أَحَلّ اسْمِي وَحَرّمَ كُنْيَتِي " ؟
وَهَذَا هُوَ النّاسِخُ لِحَدِيثِ النّهْيِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ وَكَانَ ابْنُ
سِيرِينَ يَكْرَهُ لِكُلّ أَحَدٍ أَنْ يَتَكَنّى بِأَبِي الْقَاسِمِ كَانَ اسْمُهُ
مُحَمّدًا ، أَوْ لَمْ يَكُنْ . وَطَائِفَةٌ إنّمَا يَكْرَهُونَهُ لِمَنْ اسْمُهُ
مُحَمّدٌ وَفِي الْمُعَيْطِيّ أَيْضًا [ ص 70 ] وَقَالَ وَمَا عِلْمُهُ بِأَنّهُ
مَهْدِيّ ، وَأَبَاحَ التّسْمِيَةَ بِالْهَادِي ، وَقَالَ لِأَنّ الْهَادِيَ هُوَ
الّذِي يَهْدِي إلَى الطّرِيقِ وَقَدْ قَدّمْنَا كَرَاهِيَةَ مَالِكٍ التّسَمّيَ
بِجِبْرِيلَ . وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ كَرَاهِيَةَ عُمَرَ لِلتّسَمّي
بِأَسْمَاءِ الْمَلَائِكَةِ وَكَرِهَ مَالِكٌ التّسَمّيَ بِيَاسِينَ .
أَسْبَابُ
نُزُولِ بَعْضِ الْآيَاتِ وَعَنْ الرّوحِ
وَقَالَ تَعَالَى فِيمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ مِنْ أَمْرِ الرّوحِ { وَيَسْأَلُونَكَ
عَنِ الرّوحِ قُلِ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ
إِلّا قَلِيلًا } [ الْإِسْرَاءِ 85 ] . [ ص 71 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
وَحُدّثْت عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، أَنّهُ قَالَ لَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - الْمَدِينَةَ ، قَالَتْ أَحْبَارُ يَهُودَ يَا
مُحَمّدُ أَرَأَيْت قَوْلَك : { وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلّا قَلِيلًا }
[ ص 72 ] قَالَ " كُلّا " ، قَالُوا : فَإِنّك تَتْلُو فِيمَا جَاءَك :
أَنّا قَدْ أُوتِينَا التّوْرَاةَ فِيهَا بَيَانُ كُلّ شَيْءٍ . فَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 73 ] إنّهَا فِي عِلْمِ اللّهِ
قَلِيلٌ ،وَعِنْدَكُمْ فِي ذَلِكَ مَا يَكْفِيكُمْ لَوْ أَقَمْتُمُوهُ " .
قَالَ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِيمَا سَأَلُوهُ عَنْهُ [ ص 74 ] {
وَلَوْ أَنّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدّهُ مِنْ
بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللّهِ إِنّ اللّهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ } [ لُقْمَانَ 27 ] أَيْ إنّ التّوْرَاةَ فِي هَذَا مِنْ عِلْمِ اللّهِ
قَلِيلٌ .Sالرّوحُ
وَالنّفْسُ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ سُؤَالَهُمْ عَنْ الرّوحِ وَمَا أَنْزَلَ اللّهُ فِيهِ مِنْ قَوْلِهِ
تَعَالَى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرّوحِ } الْآيَةَ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ
إسْحَاقَ مِنْ غَيْرِ طَرِيقِ الْبَكّائِيّ أَنّهُ قَالَ فِي هَذَا الْخَبَرِ :
فَنَادَاهُمْ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - " هُوَ
جِبْرِيلُ " وَهَذِهِ الرّوَايَةُ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ تَدُلّ عَلَى خِلَافِ
مَا رَوَى غَيْرُهُ أَنّ يَهُودَ قَالَتْ لِقُرَيْشِ اسْأَلُوهُ عَنْ الرّوحِ
فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ بِهِ فَلَيْسَ بِنَبِيّ وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْكُمْ فَهُوَ
نَبِيّ ، وَقَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فِيمَا تَقَدّمَ مِنْ الْحَدِيثِ اسْأَلُوهُ عَنْ
الرّجُلِ الطّوّافِ وَعَنْ الْفِتْيَةِ وَعَنْ الرّوحِ فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ
وَإِلّا فَالرّجُلُ مُتَقَوّلٌ فَسَوّى فِي الْخَبَرِ بَيْنَ الرّوحِ وَغَيْرِهِ
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التّأْوِيلِ فِي الرّوحِ الْمَسْئُولِ عَنْهُ فَقَالَ
بَعْضُهُمْ هُوَ جِبْرِيلُ لِأَنّهُ الرّوحُ الْأَمِينُ وَرُوحُ الْقُدُسِ ،
وَعَلَى هَذَا رِوَايَةُ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لِقُرَيْشِ حِينَ سَأَلُوهُ " هُوَ جِبْرِيلُ
" ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ الرّوحُ خَلْقٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ عَلَى صُوَرِ بَنِي
آدَمَ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ الرّوحُ خَلْقٌ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ وَلَا
تَرَاهُمْ فَهُمْ لِلْمَلَائِكَةِ كَالْمَلَائِكَةِ لِبَنِي آدَمَ وَرُوِيَ عَنْ
عَلِيّ أَنّهُ قَالَ الرّوحُ مَلَكٌ لَهُ مِائَةُ أَلْفِ رَأْسٍ لِكُلّ رَأْسٍ
مِائَةُ أَلْفِ وَجْهٍ فِي كُلّ وَجْهٍ مِائَةُ أَلْفِ فَمٍ فِي كُلّ فَمٍ مِائَةُ
أَلْفِ لِسَانٍ يُسَبّحُ اللّهَ بِلُغَاتِ مُخْتَلِفَةٍ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ
الرّوحُ الّذِي سَأَلَتْ عَنْهُ يَهُودُ هُوَ رُوحُ الْإِنْسَانِ ثُمّ اخْتَلَفَ
أَصْحَابُ هَذَا الْقَوْلِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ لَمْ يُجِبْهُمْ رَسُولُ اللّهِ
- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَنْ سُؤَالِهِمْ لِأَنّهُمْ سَأَلُوهُ
تَعَنّتًا وَاسْتِهْزَاءً فَقَالَ اللّهُ لَهُ قُلْ الرّوحُ مِنْ [ ص 71 ] أَمْرِ
رَبّي ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يُبَيّنَهُ لَهُمْ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ بَلْ قَدْ
أَخْبَرَهُمْ اللّهُ بِهِ وَأَجَابَهُمْ عَمّا سَأَلُوا ؛ لِأَنّهُ قَالَ
لِنَبِيّهِ قُلْ الرّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبّي ، وَأَمْرُ الرّبّ هُوَ الشّرْعُ
وَالْكِتَابُ الّذِي جَاءَ بِهِ فَمَنْ دَخَلَ فِي الشّرْعِ وَتَفَقّهَ فِي
الْكِتَابِ وَالسّنّةِ عَرَفَ الرّوحَ فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ اُدْخُلُوا فِي
الدّينِ تَعْرِفُوا مَا سَأَلْتُمْ فَإِنّهُ مِنْ أَمْرِ رَبّي ، أَيْ مِنْ
الْأَمْرِ الّذِي جِئْت بِهِ مُبَلّغًا عَنْ رَبّي ، وَذَلِكَ أَنّ الرّوحَ لَا
سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ مِنْ جِهَةِ الطّبِيعَةِ وَلَا مِنْ جِهَةِ
الْفَلْسَفَةِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الرّأْيِ وَالْقِيَاسِ وَإِنّمَا يُعْرَفُ مِنْ
جِهَةِ الشّرْعِ فَإِذَا نَظَرْت إلَى مَا فِي الْكِتَابِ وَالسّنّةِ مِنْ
ذِكْرِهِ نَحْوَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { ثُمّ سَوّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ
} [ السّجْدَةِ 9 ] أَيْ مِنْ رُوحِ الْحَيَاةِ وَالْحَيَاةُ مِنْ صِفَاتِ اللّهِ
سُبْحَانَهُ وَالنّفْخُ فِي الْحَقِيقَةِ مُضَافٌ إلَى مَلَكٍ يَنْفُخُ فِيهِ
بِأَمْرِ رَبّهِ وَتَنْظُرُ إلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ الرّسُولُ عَلَيْهِ السّلَامُ
أَنّ الْأَرْوَاحَ جُنُودٌ مُجَنّدَةٌ وَأَنّهَا تَتَعَارَفُ وَتَتَشَامّ فِي
الْهَوَاءِ وَأَنّهَا تُقْبَضُ مِنْ الْأَجْسَادِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَنّهَا
تُسْأَلُ فِي الْقَبْرِ فَتَفْهَمُ السّؤَالَ وَتَسْمَعُ وَتَرَى ، وَتُنَعّمُ
وَتُعَذّبُ وَتَلْتَذّ وَتَأْلَمُ وَهَذِهِ كُلّهَا مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ
فَتَعْرِفُ أَنّهَا أَجْسَامٌ بِهَذِهِ الدّلَائِلِ لَكِنّهَا لَيْسَتْ
كَالْأَجْسَادِ فِي كَثَافَتِهَا وَثِقَلِهَا وَإِظْلَامِهَا ، إذْ الْأَجْسَادُ
خُلِقَتْ مِنْ مَاءٍ وَطِينٍ وَحَمَإِ مَسْنُونٍ فَهُوَ أَصْلُهَا ،
وَالْأَرْوَاحُ خُلِقَتْ مِمّا قَالَ اللّهُ تَعَالَى ، وَهُوَ النّفْخُ
الْمُتَقَدّمُ الْمُضَافُ إلَى الْمَلَكِ . وَالْمَلَائِكَةُ خُلِقَتْ مِنْ نُورٍ
كَمَا جَاءَ فِي الصّحِيحِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَضَافَ النّفْخَ إلَى نَفْسِهِ
فَكَذَلِكَ أَضَافَ قَبْضَ الْأَرْوَاحِ إلَى نَفْسِهِ فَقَالَ { اللّهُ يَتَوَفّى
الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } [ الزّمَرِ 42 ] وَأَضَافَ ذَلِكَ إلَى الْمَلَكِ
أَيْضًا فَقَالَ { قُلْ يَتَوَفّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ } [ السّجْدَةِ 11 ]
وَالْفِعْلُ مُضَافٌ إلَى الْمَلَكِ مَجَازًا ، وَإِلَى الرّبّ حَقِيقَةً فَهُوَ
أَيْضًا جِسْمٌ وَلَكِنّهُ مِنْ جِنْسِ الرّيحِ وَلِذَلِكَ سُمّيَ رُوحًا مِنْ
لَفْظِ الرّيحِ وَنَفْخُ الْمَلَكِ فِي مَعْنَى الرّيحِ غَيْرَ أَنّهُ ضُمّ
أَوّلُهُ لِأَنّهُ نُورَانِيّ ، وَالرّيحُ هَوَاءٌ مُتَحَرّكٌ وَإِذَا كَانَ
الشّرْعُ قَدْ عَرَفْنَا مِنْ مَعَانِي الرّوحِ وَصِفَاتِهِ بِهَذَا الْقَدْرِ
فَقَدْ عَرَفَ مِنْ جِهَةِ أَمْرِهِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ { قُلِ الرّوحُ مِنْ
أَمْرِ رَبّي } وَقَوْلُهُ مِنْ أَمْرِ رَبّي أَيْضًا ، وَلَمْ يَقُلْ مِنْ أَمْرِ
اللّهِ وَلَا مِنْ أَمْرِ رَبّكُمْ يَدُلّ عَلَى خُصُوصٍ وَعَلَى مَا قَدّمْنَاهُ
مِنْ أَنّهُ لَا يَعْلَمُهُ إلّا مَنْ أَخَذَ مَعْنَاهُ مِنْ قَوْلِ اللّهِ
سُبْحَانَهُ وَقَوْلِ رَسُولِهِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللّهِ وَرَسُولِهِ
وَالْيَقِينِ الصّادِقِ وَالْفِقْهِ فِي الدّينِ فَإِنْ كَانَ لَمْ يُخْبِرْ
الْيَهُودَ حِينَ سَأَلُوهُ عَنْهُ فَقَدْ أَحَالَهُمْ عَلَى مَوْضِعِ الْعِلْمِ
بِهِ . [ ص 72 ]
الْفَرْقُ بَيْنَ الرّوحِ وَالنّفْسِ
فَصْلٌ
وَمِمّا يَتّصِلُ بِمَعْنَى الرّوحِ وَحَقِيقَتِهِ أَنْ تَعْرِفَ هَلْ هِيَ
النّفْسُ أَوْ غَيْرُهَا ، وَقَدْ كَثُرَتْ فِي ذَلِكَ الْأَقْوَالُ وَاضْطَرَبَتْ
الْمَذَاهِبُ فَتَعَلّقَ قَوْمٌ بِظَوَاهِرَ مِنْ الْأَحَادِيثِ لَا تُوجِبُ
الْقَطْعَ لِأَنّهَا نَقْلُ آحَادٍ وَأَيْضًا فَإِنّ أَلْفَاظَهَا مُحْتَمِلَةٌ
لِلتّأْوِيلِ وَمَجَازَاتُ الْعُرْفِ وَاتّسَاعَاتُهَا فِي الْكَلَامِ كَثِيرَةٌ
فَمِمّا تَعَلّقُوا بِهِ فِي أَنّ الرّوحَ هِيَ النّفْسُ قَوْلُ بِلَالٍ "
أَخَذَ بِنَفْسِي الّذِي أَخَذَ بِنَفْسِك " مَعَ قَوْلِ النّبِيّ عَلَيْهِ
السّلَامُ " إنّ اللّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَنَا " ، وَقَوْلِهِ - عَزّ
وَجَلّ - اللّهُ يَتَوَفّى الْأَنْفُسَ وَالْمَقْبُوضَةُ هِيَ الْأَرْوَاحُ وَلَمْ
يُفَرّقُوا بَيْنَ الْقَبْضِ وَالتّوَفّي ، وَلَا بَيْنَ الْأَخْذِ فِي قَوْلِ
بِلَالٍ " أَخَذَ بِنَفْسِي الّذِي أَخَذَ بِنَفْسِك " وَبَيْنَ قَوْلِ
النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ " قَبَضَ أَرْوَاحَنَا " ، وَتَنْقِيحُ
الْأَقْوَالِ وَتَرْجِيحُهَا يَطُولُ . وَقَدْ رَوَى أَبُو عُمَرَ فِي التّمْهِيدِ
حَدِيثًا يَدُلّ عَلَى خِلَافِ مَذْهَبِهِ فِي أَنّ النّفْسَ هِيَ الرّوحُ لَكِنْ
عَلّلَهُ فِيهِ أَنّ اللّهَ خَلَقَ آدَمَ وَجَعَلَ فِيهِ نَفْسًا وَرُوحًا ،
فَمِنْ الرّوحِ عَفَافُهُ وَفَهْمُهُ وَحِلْمُهُ وَسَخَاؤُهُ وَوَفَاؤُهُ وَمِنْ
النّفْسِ شَهْوَتُهُ وَطَيْشُهُ وَسَفَهُهُ وَغَضَبُهُ وَنَحْوُ هَذَا ، وَهَذَا
الْحَدِيثُ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ إذَا تُؤُمّلَ صَحّ نَقْلُهُ أَوْ لَمْ يَصِحّ
وَسَبِيلُك أَنْ تَنْظُرَ فِي كِتَابِ اللّهِ أَوّلًا ، لَا إلَى الْأَحَادِيثِ الّتِي
تُنْقَلُ مَرّةً عَلَى اللّفْظِ وَمَرّةً عَلَى الْمَعْنَى ، وَتَخْتَلِفُ فِيهَا
أَلْفَاظُ الْمُحَدّثِينَ فَنَقُولُ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { فَإِذَا سَوّيْتُهُ
وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } وَلَمْ يَقُلْ مِنْ نَفْسِي وَكَذَلِكَ قَالَ {
ثُمّ سَوّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ } [ السّجْدَةِ 9 ] وَلَمْ يَقُلْ مِنْ
نَفْسِهِ وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ هَذَا ، وَلَا خَفَاءَ فِيمَا
بَيْنَهُمَا مِنْ الْفَرْقِ فِي الْكَلَامِ وَذَلِكَ يَدُلّ عَلَى أَنّ
بَيْنَهُمَا فَرْقًا فِي الْمَعْنَى ، وَبِعَكْسِ هَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ {
تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } وَلَمْ يَقُلْ
تَعْلَمُ مَا فِي رُوحِي ، وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي رُوحِك ، وَلَا يَحْسُنُ هَذَا
الْقَوْلُ أَيْضًا أَنْ يَقُولَهُ غَيْرُ عِيسَى ، وَلَوْ كَانَتْ النّفْسُ وَالرّوحُ
اسْمَيْنِ لِمَعْنَى وَاحِدٍ كَاللّيْثِ وَالْأَسَدِ لَصَحّ وُقُوعُ كُلّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مَكَانَ صَاحِبِهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَيَقُولُونَ فِي
أَنْفُسِهِمْ } وَلَا يَحْسُنُ فِي الْكَلَامِ يَقُولُونَ فِي أَرْوَاحِهِمْ
وَقَالَ تَعَالَى : { أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ } وَلَمْ يَقُلْ أَنْ تَقُولَ رُوحٌ [ ص
73 ] كَلَامِ اللّهِ تَعَالَى ؟ وَلَكِنْ بَقِيَتْ دَقِيقَةٌ يُعْرَفُ مَعَهَا
السّرّ وَالْحَقِيقَةُ وَلَا يَكُونُ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ اخْتِلَافٌ مُتَبَايِنٌ
إنْ شَاءَ اللّهُ فَنَقُولُ وَبِاَللّهِ التّوْفِيقُ الرّوحُ مُشْتَقّ مِنْ
الرّيحِ وَهُوَ جِسْمٌ هَوَائِيّ لَطِيفٌ بِهِ تَكُونُ حَيَاةُ الْجَسَدِ عَادَةً
أَجْرَاهَا اللّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنّ الْعَقْلَ يُوجِبُ أَلّا يَكُونَ لِلْجِسْمِ
حَيَاةٌ حَتّى يُنْفَخَ فِيهِ ذَلِكَ الرّوحُ الّذِي هُوَ فِي تَجَاوِيفِ
الْجَسَدِ كَمَا قَالَ ابْنُ فُورَكٍ وَأَبُو الْمَعَالِي وَأَبُو بَكْرٍ
الْمُرَادِيّ ، وَسَبَقَهُمْ إلَى نَحْوٍ مِنْهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيّ ،
وَمَعْنَى كَلَامِهِمْ وَاحِدٌ أَوْ مُتَقَارِبٌ .
الرّوحُ سَبَبُ الْحَيَاةِ
فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ أَنّ الرّوحَ سَبَبُ الْحَيَاةِ عَادَةً أَجْرَاهَا اللّهُ
تَعَالَى ، فَهُوَ كَالْمَاءِ الْجَارِي فِي عُرُوقِ الشّجَرَةِ صُعُدًا ، حَتّى
تَحْيَا بِهِ عَادَةً فَنُسَمّيهِ مَاءً بِاعْتِبَارِ أَوّلِيّتِهِ وَنُسَمّي
أَيْضًا هَذَا رُوحًا بِاعْتِبَارِ أَوّلِيّتِهِ وَاعْتِبَارِ النّفْخَةِ الّتِي
هِيَ رِيحٌ فَمَا دَامَ الْجَنِينُ فِي بَطْنِ أُمّهِ حَيّا ، فَهُوَ ذُو رُوحٍ
فَإِذَا نَشَأَ وَاكْتَسَبَ ذَلِكَ الرّوحُ أَخْلَاقًا وَأَوْصَافًا لَمْ تَكُنْ
فِيهِ وَأَقْبَلَ عَلَى مَصَالِحِ الْجِسْمِ كَلَفًا بِهِ وَعَشِقَ مَصَالِحَ
الْجَسَدِ وَلَذّاتِهِ وَدَفَعَ الْمَضَارّ عَنْهُ سُمّيَ نَفْسًا ، كَمَا
يَكْتَسِبُ الْمَاءُ الصّاعِدُ فِي الشّجَرَةِ مِنْ الشّجَرَةِ أَوْصَافًا لَمْ
تَكُنْ فِيهِ فَالْمَاءُ فِي الْعِنَبَةِ مَثَلًا هُوَ مَاءٌ بِاعْتِبَارِ
الْأَصْلِ وَالْبَدْأَةِ فَفِيهِ مِنْ الْمَاءِ الْمُيُوعَةُ وَالرّطُوبَةُ
وَفِيهِ مِنْ الْعِنَبَةِ الْحَلَاوَةُ وَأَوْصَافٌ أُخَرَ فَتُسَمّيهِ مِصْطَارًا
إنْ شِئْت ، أَوْ خَمْرًا إنْ شِئْت ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمّا أَوْجَبَهُ
الِاكْتِسَابُ لِهَذِهِ الْأَوْصَافِ فَمَنْ قَالَ إنّ النّفْسَ هِيَ الرّوحُ
عَلَى الْإِطْلَاقِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ فَلَمْ يُحْسِنْ الْعِبَارَةَ وَإِنّمَا
فِيهَا مِنْ الرّوحِ الْأَوْصَافُ الّتِي تَقْتَضِيهَا نَفْخَةُ الْمَلَكِ
وَالْمَلَكُ مَوْصُوفٌ بِكُلّ خُلُقٍ كَرِيمٍ وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْحَدِيثِ
فَمِنْ الرّوحِ عَفَافُهُ وَحِلْمُهُ وَوَفَاؤُهُ وَفَهْمُهُ وَمِنْ النّفْسِ
شَهْوَتُهُ وَغَضَبُهُ وَطَيْشُهُ وَذَلِكَ أَنّ الرّوحَ كَمَا قَدّمْنَا مَازِجُ
الْجَسَدِ الّذِي فِيهِ الدّمُ وَيُسَمّى الدّمُ نَفْسًا ، وَهُوَ مَجْرَى
الشّيْطَانِ وَقَدْ حَكَمَتْ الشّرِيعَةُ بِنَجَاسَةِ الدّمِ لِسِرّ لَعَلّهُ أَنْ
يُفْهَمَ مِمّا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ فَمَنْ يَعْرِفُ جَوْهَرَ الْكَلَامِ
وَيُنْزِلُ الْأَلْفَاظَ مَنَازِلَهَا ، لَا يُسَمّي رُوحًا إلّا مَا وَقَعَ بِهِ
الْفَرْقُ بَيْنَ الْجَمَادِ وَالْحَيّ وَاَلّذِي كَانَ سَبَبًا لِلْحَيَاةِ كَمَا
فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ عِنْدَ ذِكْرِ إحْيَاءِ النّطْفَةِ وَنَفْخِ الرّوحِ
فِيهَا ، وَلَا يُقَالُ نَفْخُ النّفْسِ فِيهَا إلّا عِنْدَ الِاتّسَاعِ فِي
الْكَلَامِ وَتَسْمِيَةُ الشّيْءِ بِمَا يَئُولُ إلَيْهِ وَمِنْ هَهُنَا سُمّيَ
جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ : رُوحًا ، وَالْوَحْيُ رُوحًا ، لِأَنّ بِهِ
تَكُونُ حَيَاةُ الْقُلُوبِ قَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا
فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النّاسِ كَمَنْ
مَثَلُهُ فِي الظّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } [ الْأَنْعَامِ 122 ]
وَقَالَ فِي الْكُفّارِ { أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ } [ النّحْلِ 21 ] وَقَالَ
فِي [ ص 74 ] وَقَالَ { إِنّ النّفْسَ لَأَمّارَةٌ بِالسّوءِ } [ يُوسُفَ 53 ]
وَلَمْ يَقُلْ إنّ الرّوحَ لَأَمّارَةٌ لِأَنّ الرّوحَ الّذِي هُوَ سَبَبُ
الْحَيَاةِ لَا يَأْمُرُ بِسُوءِ وَلَا يُسَمّى أَيْضًا نَفْسًا ، كَمَا قَدّمْنَا
حَتّى يَكْتَسِبَ مِنْ الْجَسَدِ الْأَوْصَافَ الْمَذْكُورَةَ وَمَا كَانَ
نَحْوَهَا ، وَالْمَاءُ النّازِلُ مِنْ السّمَاءِ جِنْس وَاحِدٌ فَإِذَا مَازَجَ
أَجْسَادَ الشّجَرِ كَالتّفّاحِ وَالْفِرْسِكِ وَالْحَنْظَلِ وَالْعُشُرِ وَغَيْرِ
ذَلِكَ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهُ كَذَلِكَ الرّوحُ الْبَاطِنَةُ الّتِي هِيَ مِنْ
عِنْدِ اللّهِ هِيَ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَقَدْ أَضَافَهَا إلَى نَفْسِهِ تَشْرِيفًا
لَهَا حِينَ قَالَ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ثُمّ يُخَالِطُ الْأَجْسَادَ
الّتِي خُلِقَتْ مِنْ طِينٍ وَقَدْ كَانَ فِي ذَلِكَ الطّينِ طَيّبٌ وَخَبِيثٌ
فَيَنْزِعُ كُلّ فَرْعٍ إلَى أَصْلِهِ وَيَنْزِعُ ذَلِكَ الْأَصْلُ إلَى مَا
سَبَقَ فِي أُمّ الْكِتَابِ وَإِلَى مَا دَبّرَهُ وَأَحْكَمَهُ الْحَكِيمُ
الْخَبِيرُ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَتَنَافَرُ النّفُوسُ أَوْ تَتَقَارَبُ وَتَتَحَابّ
أَوْ تَتَبَاغَضُ عَلَى حَسَبِ التّشَاكُلِ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَهِيَ مَعْنَى
قَوْلِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - " فَمَا تَعَارَفَ
مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ " . وَقَدْ كَتَبَ
بَعْضُ الْحُكَمَاءِ إلَى صَدِيقٍ لَهُ " إنّ نَفْسِي غَيْرُ مَشْكُورَةٍ
عَلَى الِانْقِيَادِ إلَيْك بِغَيْرِ زِمَامٍ فَإِنّهَا صَادَفَتْ عِنْدَك بَعْضَ
جَوَاهِرِهَا ، وَالشّيْءُ يَتْبَعُ بَعْضُهُ بَعْضًا " .
الْإِنْسَانُ رُوحٌ وَجَسَدٌ
فَصْلٌ
وَقَدْ يُعَبّرُ بِالنّفْسِ عَنْ جُمْلَةِ الْإِنْسَانِ رُوحُهُ وَجَسَدُهُ
فَتَقُولُ عِنْدِي ثَلَاثَةُ أَنْفُسٍ وَلَا تَقُولُ عِنْدِي ثَلَاثَةُ أَرْوَاحٍ
لَا يُعَبّرُ بِالرّوحِ إلّا عَنْ الْمَعْنَى الْمُتَقَدّمِ ذِكْرُهُ وَإِنّمَا
اتّسَعَ فِي النّفْسِ وَعَبّرَ بِهَا عَنْ الْجُمْلَةِ لِغَلَبَةِ أَوْصَافِ
الْجَسَدِ عَلَى الرّوحِ حَتّى صَارَ يُسَمّى نَفْسًا ، وَطَرَأَ هَذَا الِاسْمُ
بِسَبَبِ الْجَسَدِ كَمَا يَطْرَأُ عَلَى الْمَاءِ فِي الشّجَرِ أَسْمَاءٌ عَلَى
حَسَبِ اخْتِلَافِ أَنْوَاعِ الشّجَرِ مِنْ حُلْوٍ وَحَامِضٍ وَمُرّ وَحِرّيفٍ
وَغَيْرِ ذَلِكَ فَتَحَصّلَ مِنْ مَضْمُونِ مَا ذَكَرْنَا أَلّا يُقَالَ فِي
النّفْسِ هِيَ الرّوحُ عَلَى الْإِطْلَاقِ حَتّى تُقَيّدَ بِمَا تَقَدّمَ وَلَا
يُقَالُ فِي الرّوحِ هُوَ النّفْسُ إلّا كَمَا يُقَالُ فِي الْمَنِيّ هُوَ الْإِنْسَانُ
أَوْ كَمَا يُقَالُ لِلْمَاءِ الْمُغَذّي لِلْكَرْمَةِ هُوَ الْخَمْرُ أَوْ
الْخَلّ ، عَلَى مَعْنَى أَنّهُ سَتَنْضَافُ إلَيْهِ أَوْصَافٌ يُسَمّى بِهَا
خَمْرًا أَوْ خَلّا ، فَتَقْيِيدُ الْأَلْفَاظِ هُوَ مَعْنَى الْكَلَامِ
وَتَنْزِيلُ كُلّ لَفْظٍ فِي مَوْضِعِهِ هُوَ مَعْنَى الْبَلَاغَةِ فَافْهَمْهُ .
[ ص 75 ]
النّفْسُ
فَصْلٌ
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَلَمْ يَبْقَ إلّا قَوْلُ بِلَالٍ أَخَذَ بِنَفْسِي الّذِي
أَخَذَ بِنَفْسِك ، فَذَكَرَ النّفْسَ لِأَنّهُ مُعْتَذِرٌ مِنْ تَرْكِ عَمَلٍ
أُمِرَ بِهِ وَالْأَعْمَالُ مُضَافَةٌ إلَى النّفْسِ لِأَنّ الْأَعْمَالَ
جَسَدَانِيّةٌ وَقَوْلُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - " إنّ
اللّهَ قَبَضَ أَرْوَاحَنَا فَذَكَرَ الرّوحَ الّذِي هُوَ الْأَصْلُ لِأَنّهُ
أَنِسَهُمْ مِنْ فَزَعِهِمْ فَأَعْلَمَهُمْ أَنّ خَالِقَ الْأَرْوَاحِ يَقْبِضُهَا
إذَا شَاءَ فَلَا تَنْبَسِطُ انْبِسَاطَهَا فِي الْيَقَظَةِ وَرُوحُ النّائِمِ
وَإِنْ وُصِفَ بِالْقَبْضِ فَلَا يَدُلّ لَفْظُ الْقَبْضِ عَلَى انْتِزَاعِهِ
بِالْكُلّيّةِ . كَمَا لَا يَدُلّ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فِي الظّلّ { ثُمّ
قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا } [ الْفُرْقَانِ : 46 ] عَلَى إعْدَامِ
الظّلّ بِالْكُلّيّةِ وَقَوْلُهُ تَعَالَى : { اللّهُ يَتَوَفّى الْأَنْفُسَ }
فَلَمْ يَقُلْ الْأَرْوَاحَ لِأَنّهُ وَعَظَ الْعِبَادَ الْغَافِلِينَ عَنْهُ
فَأَخْبَرَ أَنّهُ يَتَوَفّى أَنْفُسَهُمْ ثُمّ يُعِيدُهَا حَتّى يَتَوَفّاهَا ،
فَلَا يُعِيدُهَا إلَى الْحَشْرِ لِتَزْدَجِرَ النّفُوسُ بِهَذِهِ الْعِظَةِ عَنْ
سُوءِ أَعْمَالِهَا ؛ إذْ الْآيَةُ مَكّيّةٌ وَالْخِطَابُ لِلْكُفّارِ وَقَدْ
تَنَزّلَتْ الْأَلْفَاظُ مَنَازِلَهَا فِي الْحَدِيثِ وَالْقُرْآنِ وَذَلِكَ
مَعْنَى الْفَصَاحَةِ وَسِرّ الْبَلَاغَةِ . [ ص 75 ]
عَنْ
تَسْيِيرِ الْجِبَالِ وَبَعْثِ الْمَوْتَى
قَالَ وَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِيمَا سَأَلَهُ قَوْمُهُ
لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ تَسْيِيرِ الْجِبَالِ وَتَقْطِيعِ الْأَرْضِ وَبَعْثِ مَنْ
مَضَى مِنْ آبَائِهِمْ مِنْ الْمَوْتَى : { وَلَوْ أَنّ قُرْآنًا سُيّرَتْ بِهِ
الْجِبَالُ أَوْ قُطّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلّهِ
الْأَمْرُ جَمِيعًا } أَيْ لَا أَصْنَعُ مِنْ ذَلِكَ إلّا مَا شِئْت . وَأَنْزَلَ
عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ خُذْ لِنَفْسِك ، مَا سَأَلُوهُ أَنْ يَأْخُذَ لِنَفْسِهِ
أَنْ يَجْعَلَ لَهُ جِنَانًا وَقُصُورًا وَكُنُوزًا ، وَيَبْعَثَ مَعَهُ مَلَكًا
يُصَدّقُهُ بِمَا يَقُولُ وَيَرُدّ عَنْهُ { وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرّسُولِ
يَأْكُلُ الطّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ
فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنّةٌ
يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظّالِمُونَ إِنْ تَتّبِعُونَ إِلّا رَجُلًا مَسْحُورًا
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ
سَبِيلًا تَبَارَكَ الّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ } أَيْ
مِنْ أَنْ تَمْشِيَ فِي الْأَسْوَاقِ وَتَلْتَمِسَ الْمَعَاشَ { جَنّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا } [ الْفُرْقَانِ : 7 - 10
] . وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ
مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلّا إِنّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي
الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ
رَبّكَ بَصِيرًا } [ الْفُرْقَانِ : 20 ] أَيْ جَعَلْت بَعْضَكُمْ لِبَعْضِ
بَلَاءً لِتَصْبِرُوا ، وَلَوْ شِئْت أَنْ أَجْعَلَ الدّنْيَا مَعَ رُسُلِي فَلَا
يُخَالِفُوا لَفَعَلْت . [ ص 76 ] وَأَنْزَلَ اللّهُ عَلَيْهِ فِيمَا قَالَ عَبْدُ
اللّهِ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ : { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ
لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ
فَتُفَجّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا أَوْ تُسْقِطَ السّمَاءَ كَمَا
زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السّمَاءِ وَلَنْ
نُؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ
رَبّي هَلْ كُنْتُ إِلّا بَشَرًا رَسُولًا } [ الْإِسْرَاءِ 90 - 95 ] . قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : الْيَنْبُوعُ مَا نَبَعَ مِنْ الْمَاءِ مِنْ الْأَرْضِ
وَغَيْرِهَا . وَجَمْعُهُ يَنَابِيعُ . قَالَ ابْنُ هَرْمَةَ . وَاسْمُهُ
إبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْفِهْرِيّ .
وَإِذَا هَرَقْت بِكُلّ دَارٍ عِبْرَةً ... نُزِفَ الشّؤُونُ وَدَمْعُك
الْيَنْبُوعُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَالْكِسَفُ الْقِطَعُ مِنْ الْعَذَابِ .
وَوَاحِدَتُهُ كِسْفَةٌ . مِثْلَ سِدْرَةٍ وَسِدَرٍ . وَهِيَ أَيْضًا : وَاحِدَةُ
الْكِسَفِ . وَالْقَبِيلُ يَكُونُ مُقَابَلَةً وَمُعَايَنَةً . وَهُوَ كَقَوْلِهِ
تَعَالَى : { أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا } أَيْ عِيَانًا .
وَأَنْشَدَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ لِأَعْشَى بَنِي قَيْسِ بَنِي ثَعْلَبَةَ
أُصَالِحُكُمْ حَتّى تَبُوؤُوا بِمِثْلِهَا ... كَصَرْخَةِ حُبْلَى يَسّرَتْهَا
قَبِيلُهَا
[ ص 77 ] الْقَابِلَةَ لِأَنّهَا تُقَابِلُهَا ، وَتَقْبَلُ وَلَدَهَا . وَهَذَا
الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَيُقَالُ الْقَبِيلُ جَمْعُهُ قُبُلٌ وَهِيَ
الْجَمَاعَاتُ وَفِي كِتَابِ اللّهِ تَعَالَى : { وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلّ
شَيْءٍ قُبُلًا } [ الْأَنْعَامِ 111 ] . فَقُبُلٌ جَمْعُ قَبِيلٍ مِثْلَ سُبُلٍ
جَمْعُ سَبِيلٍ وَسُرُرٍ جَمْعُ سَرِيرٍ وَقُمُصٍ جَمْعُ قَمِيصٍ . وَالْقَبِيلُ
أَيْضًا : فِي مَثَلٍ مِنْ الْأَمْثَالِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ مَا يَعْرِفُ قَبِيلًا
مِنْ دَبِيرٍ أَيْ لَا يَعْرِفُ مَا أَقْبَلَ مِمّا أَدْبَرَ قَالَ الْكُمَيْتُ
بْنُ زَيْدٍ
تَفَرّقَتْ الْأُمُورُ بِوُجْهَتَيْهِمْ ... فَمَا عَرَفُوا الدّبِيرَ مِنْ
الْقَبِيلِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ وَيُقَالُ إنّمَا أُرِيدَ بِهَذَا :
الْفُتْلُ فَمَا فُتِلَ إلَى الذّرَاعِ فَهُوَ الْقَبِيلُ وَمَا فُتِلَ إلَى
أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ فَهُوَ الدّبِيرُ وَهُوَ مِنْ الْإِقْبَالِ وَالْإِدْبَارِ
الّذِي ذَكَرْت . وَيُقَالُ فُتِلَ الْمِغْزَلُ . فَإِذَا فُتِلَ إلَى الرّكْبَةِ
فَهُوَ الْقَبِيلُ وَإِذَا فُتِلَ إلَى الْوَرِكِ فَهُوَ الدّبِيرُ . وَالْقَبِيلُ
أَيْضًا : قَوْمُ الرّجُلِ . وَالزّخْرُفُ الذّهَبُ . وَالْمُزَخْرَفُ الْمُزَيّنُ
بِالذّهَبِ . قَالَ الْعَجّاجُ
مِنْ طَلَلٍ أَمْسَى تَخَالُ الْمُصْحَفَا ... رُسُومَهُ وَالْمُذْهَبَ
الْمُزَخْرَفَا
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ وَيُقَالُ أَيْضًا لِكُلّ مُزَيّنٍ
مُزَخْرَفٌ . [ ص 76 ]Sابْنُ
هَرْمَةَ
فَصْلٌ
وَاسْتَشْهَدَ ابْنُ هِشَامٍ بِقَوْلِ ابْنِ هَرْمَةَ وَنَسَبُهُ فَقَالَ فِهْرِيّ
: وَإِنّمَا هُوَ خُلْجِيّ ، وَالْخُلْجُ اسْمُهُ قَيْسُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ
فِهْرٍ ، وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَةِ بَنِي قَيْسِ بْنِ الْحَارِثِ الْخُلْجِ ،
فَقِيلَ لِأَنّهُمْ اخْتَلَجُوا مِنْ قُرَيْشٍ وَسُكّانِ مَكّةَ ، وَقِيلَ
لِأَنّهُمْ نَزَلُوا بِمَوْضِعِ فِيهِ خُلْجٌ مِنْ مَاءٍ وَنَسَبُوا إلَيْهِ
وَابْنُ هَرْمَةَ وَاسْمُهُ إبْرَاهِيمُ بْنُ عَلِيّ بْنِ هَرْمَةَ وَهُوَ شَاعِرٌ
مِنْ شُعَرَاءِ الدّوْلَةِ الْعَبّاسِيّةِ وَبَيْتُهُ
وَإِذَا هَرَقْت بِكُلّ دَارٍ عِبْرَةً ... نَزَفَ الشّؤُونُ وَدَمْعُك
الْيَنْبُوعُ
وَالشّؤُونُ مَجَارِي الدّمْعِ وَهِيَ أَطْبَاقُ الرّأْسِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ
لِلرّجُلِ وَثَلَاثَةٌ لِلْمَرْأَةِ كَذَلِكَ ذَكَرُوا عَنْ أَهْلِ التّشْرِيحِ
وَكَذَلِكَ ذَكَرَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ فِي الدّلَائِلِ فَاَللّهُ أَعْلَمُ .
مِنْ شَرْحِ الْآيَاتِ
وَكُلّ مَا شَرَحَ ابْنُ هِشَامٍ مِنْ الْآيَاتِ الّتِي تَلَاهَا ابْنُ إسْحَاقَ ،
فَقَدْ تَقَدّمَ مَا يَحْتَاجُ بَيَانُهُ مِنْهُ وَفِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ
بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنّ الْبَيْتَ يُرَادُ بِهِ الْقَصْرُ
وَالْمَنْزِلُ وَإِنْ كَانَ عَظِيمًا ، فَإِنّهُ يُسَمّى بَيْتًا كَمَا قَدّمْنَا
فِي شَرْحِ بَيْتِ الْقَصَبِ فِي حَدِيثِ خَدِيجَةَ . [ ص 77 ] [ ص 78 ] [ ص 79 ]
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ إنّا قَدْ بَلَغْنَا أَنّك
إنّمَا يُعَلّمُك رَجُلٌ بِالْيَمَامَةِ . يُقَالُ لَهُ الرّحْمَنُ . وَلَنْ
نُؤْمِنَ بِهِ أَبَدًا : { كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ
يَكْفُرُونَ بِالرّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبّي لَا إِلَهَ إِلّا هُوَ عَلَيْهِ
تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ } [ الرّعْدِ 35 ] . وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ فِيمَا
قَالَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ - لَعَنَهُ اللّهُ - وَمَا هُمْ بِهِ {
أَرَأَيْتَ الّذِي يَنْهَى عَبْدًا إِذَا صَلّى أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى
الْهُدَى أَوْ أَمَرَ بِالتّقْوَى أَرَأَيْتَ إِنْ كَذّبَ وَتَوَلّى أَلَمْ
يَعْلَمْ بِأَنّ اللّهَ يَرَى كَلّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ
بِالنّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ سَنَدْعُ
الزّبَانِيَةَ كَلّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } سُورَةِ الْعَلَقِ .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : لَنَسْفَعًا : لَنَجْذِبَنّ وَلَنَأْخُذَنّ . قَالَ
الشّاعِرُ
قَوْمٌ إذَا سَمِعُوا الصّرَاخَ رَأَيْتهمْ ... مِنْ بَيْنِ مُلْجِمٍ مُهْرِهِ
أَوْ سَافِعِ
وَالنّادِي : الْمَجْلِسُ الّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ الْقَوْمُ وَيَقْضُونَ فِيهِ
أُمُورَهُمْ وَفِي كِتَابِ اللّهِ [ ص 78 ] { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ
الْمُنْكَرَ } [ الْعَنْكَبُوتِ 29 ] وَهُوَ النّدِيّ . قَالَ عَبِيدُ بْنُ
الْأَبْرَصِ :
اذْهَبْ إلَيْك فَإِنّي مِنْ بَنِي أَسَدٍ ... أَهْلِ النّدِيّ وَأَهْلِ الْجُرْدِ
وَالنّادِي
وَفِي كِتَابِ اللّهِ تَعَالَى : { وَأَحْسَنُ نَدِيّا } [ مَرْيَمَ : 73 ] .
وَجَمْعُهُ أَنْدِيَةٌ . يَقُولُ فَلْيَدْعُ أَهْلَ نَادِيَهُ . كَمَا قَالَ
تَعَالَى : { وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ } [ يُوسُفَ 82 ] يُرِيدُ أَهْلَ الْقَرْيَةِ
. قَالَ سَلَامَةُ بْنُ جَنْدَلٍ أَحَدُ بَنِي سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ
تَمِيمٍ :
يَوْمَانِ يَوْمُ مَقَامَاتٍ وَأَنْدِيَةٍ ... وَيَوْمُ سَيْرٍ إلَى الْأَعْدَاءِ
تَأْوِيبُ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَقَالَ الْكُمَيْتُ بْنُ زَيْدٍ
لَا مَهَاذِيرَ فِي النّدِيّ مَكَاثِ ... يَرَ وَلَا مُصْمِتِينَ بِالْإِفْحَامِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَيُقَالُ النّادِي : الْجُلَسَاءُ .
وَالزّبَانِيَةُ الْغِلَاظُ الشّدَادُ وَهُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ خَزَنَةُ
النّارِ . وَالزّبَانِيَةُ أَيْضًا فِي الدّنْيَا : أَعْوَانُ الرّجُلِ الّذِينَ
يَخْدُمُونَهُ وَيُعِينُونَهُ وَالْوَاحِدُ زِبْنِيَةٌ . قَالَ ابْنُ الزّبَعْرَى
فِي ذَلِكَ
مَطَاعِيمُ فِي الْمَقْرَى مَطَاعِينُ فِي الْوَغَى ... زَبَانِيَةٌ غُلْبٌ
عِظَامٌ حُلُومُهَا
يَقُولُ شِدَادٌ . وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ . وَقَالَ صَخْرُ بْنُ
عَبْدِ اللّهِ الْهُذَلِيّ ، وَهُوَ صَخْرُ الْغَيّ وَمِنْ كَبِيرٍ نَفَرٌ
زَبَانِيَهْ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَنْزَلَ اللّهُ
تَعَالَى عَلَيْهِ فِيمَا عَرَضُوا عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ { قُلْ مَا
سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلّا عَلَى اللّهِ وَهُوَ
عَلَى كُلّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ سَبَأِ : 47 ] . فَلَمّا جَاءَهُمْ رَسُولُ اللّهِ
- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِمَا عَرَفُوا مِنْ الْحَقّ وَعَرَفُوا
صِدْقَهُ فِيمَا حَدّثَ وَمَوْقِعَ نُبُوّتِهِ فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمِ
الْغُيُوبِ حِينَ سَأَلُوهُ عَمّا سَأَلُوا عَنْهُ حَالَ الْحَسَدُ مِنْهُمْ لَهُ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اتّبَاعِهِ وَتَصْدِيقِهِ فَعَتَوْا عَلَى اللّهِ وَتَرَكُوا
أَمْرَهُ عِيَانًا ، وَلَجّوا فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ الْكُفْرِ فَقَالَ
قَائِلُهُمْ { لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلّكُمْ
تَغْلِبُونَ } أَيْ اجْعَلُوهُ [ ص 79 ] غَلَبَكُمْ . فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ
يَوْمًا - وَهُوَ يَهْزَأُ بِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمَا
جَاءَ بِهِ مِنْ الْحَقّ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ يَزْعُمُ مُحَمّدٌ أَنّ جُنُودَ
اللّهِ الّذِينَ يُعَذّبُونَكُمْ فِي النّارِ وَيَحْبِسُونَكُمْ فِيهَا تِسْعَةَ
عَشَرَ وَأَنْتُمْ أَكْثَرُ النّاسِ عَدَدًا ، وَكَثْرَةً أَفَيَعْجِزُ كُلّ
مِائَةِ رَجُلٍ مَعَكُمْ عَنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ ؟ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى
عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ { وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النّارِ إِلّا
مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدّتَهُمْ إِلّا فِتْنَةً لِلّذِينَ كَفَرُوا } [
الْمُدّثّرِ 31 ] إلَى آخِرِ الْقِصّةِ فَلَمّا قَالَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ
جَعَلُوا إذَا جَهَرَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
بِالْقُرْآنِ وَهُوَ يُصَلّي ، يَتَفَرّقُونَ عَنْهُ وَيَأْبَوْنَ أَنْ
يَسْتَمِعُوا لَهُ فَكَانَ الرّجُلُ مِنْهُمْ إذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَمِعَ مِنْ
رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بَعْضَ مَا يَتْلُو مِنْ
الْقُرْآنِ وَهُوَ يُصَلّي ، اسْتَرَقَ السّمْعَ دُونَهُمْ فَرْقًا مَعَهُمْ
فَإِنْ رَأَى أَنّهُمْ قَدْ عَرَفُوا أَنّهُ يَسْتَمِعُ مِنْهُ ذَهَبَ خَشْيَةَ
أَذَاهُمْ فَلَمْ يَسْتَمِعْ وَإِنْ خَفَضَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - صَوْتَهُ فَظَنّ الّذِي يَسْتَمِعُ أَنّهُمْ لَا
يَسْتَمِعُونَ شَيْئًا مِنْ قِرَاءَتِهِ وَسَمِعَ هُوَ شَيْئًا دُونَهُمْ أَصَاخَ
لَهُ يَسْتَمِعُ مِنْهُ [ ص 80 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي دَاوُدُ بْنُ
الْحُصَيْنِ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ ، أَنّ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ
عَبّاسٍ حَدّثَهُمْ أَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا
حَدّثَهُمْ إنّمَا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ { وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا
تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا } [ الْإِسْرَاءِ 110 ] . مِنْ
أَجْلِ أُولَئِكَ النّفَرِ . يَقُولُ لَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِك فَيَتَفَرّقُوا
عَنْك ، وَلَا تُخَافِتْ بِهَا ، فَلَا يَسْمَعْهَا مَنْ يُحِبّ أَنْ يَسْمَعَهَا
مِمّنْ يَسْتَرِقُ ذَلِكَ دُونَهُمْ لَعَلّهُ يَرْعَوِي إلَى بَعْضِ مَا يَسْمَعُ
فَيَنْتَفِعُ بِهِ .
خَزَنَةُ جَهَنّمَ وَأَبُو الْأَشَدّيْنِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ قَوْلَ أَبِي جَهْلٍ مُسْتَهْزِئًا : يَزْعُمُ مُحَمّدٌ
أَنّ جُنُودَ رَبّهِ الّتِي يُخَوّفُكُمْ بِهَا تِسْعَةَ عَشَرَ وَأَنْتُمْ
النّاسُ إلَى آخِرِ الْقِصّةِ . وَأَهْلُ التّفْسِيرِ يَعْزُونَ هَذِهِ
الْمَقَالَةَ إلَى أَبِي الْأَشَدّيْنِ الْجُمَحِيّ وَاسْمُهُ كَلَدَةُ بْنُ
أُسَيْدِ بْنِ خَلَفٍ وَأَبُو دَهْبَلٍ الشّاعِرُ هُوَ ابْنُ أَخِيهِ وَاسْمُهُ
وَهْبُ بْنُ زَمَعَةَ بْنِ أُسَيْدِ بْنِ خَلَفِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ
جُمَحَ وَكَانَتْ عِنْدَ أَبِي دَهْبَلٍ التّوْأَمَةُ الّتِي يَعْرِفُ بِهَا
صَالِحٌ مَوْلَى التّوْأَمَةِ وَهِيَ أُخْتُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ صَفْوَانَ بْنِ
أُمَيّةَ ، وَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الرّحْمَنِ قُتِلَ يَوْمَ الْجَمَلِ وَأَنّهُ
قَالَ اكْفُونِي مِنْهُمْ اثْنَيْنِ وَأَنَا أَكْفِيكُمْ سَبْعَةَ عَشَرَ
إعْجَابًا مِنْهُ بِنَفْسِهِ وَكَانَ بَلَغَ مِنْ شِدّتِهِ - فِيمَا زَعَمُوا -
أَنّهُ كَانَ يَقِفُ عَلَى جِلْدِ الْبَقَرَةِ وَيُجَاذِبُهُ عَشْرَةٌ لِيَنْتَزِعُوهُ
مِنْ تَحْتِ قَدَمِهِ فَيَتَمَزّقُ الْجِلْدُ وَلَا يَتَزَحْزَحُ عَنْهُ وَقَدْ
دَعَا النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى الْمُصَارَعَةِ وَقَالَ
إنْ صَرَعْتنِي آمَنْت بِك ، فَصَرَعَهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - مِرَارًا ، وَلَمْ يُؤْمِنْ وَقَدْ نَسَبَ ابْنُ إسْحَاقَ خَبَرَ
الْمُصَارَعَةِ إلَى رُكَانَةَ بْنِ عَبْدِ يَزِيدَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ الْمُطّلِبِ
وَسَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ وَأَمّا مَا قَالَ أَهْلُ
التّأْوِيلِ فِي خَزَنَةِ جَهَنّمَ التّسْعَةَ عَشَرَ فَرُوِيَ عَنْ كَعْبٍ أَنّهُ
قَالَ بِيَدِ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَمُودٌ لَهُ شُعْبَتَانِ وَإِنّهُ لَيَدْفَعُ
بِالشّعْبَةِ تِسْعِينَ أَلْفًا [ ص 80 ] فَائِدَةَ عَدَدِهَا وَتَسْمِيَتِهَا ،
وَذَكَرَ الزّبَانِيَةَ وَالْحِكْمَةَ فِي كَوْنِهِمْ عَدَدًا قَلِيلًا مَسْأَلَةً
فِي قَرِيبٍ مِنْ جُزْءٍ فَلْتُنْظَرْ هُنَاكَ .
بَهْتُ الرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ بَشَرًا يُعَلّمُهُ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ قَوْلَ قُرَيْشٍ : إنّمَا يُعَلّمُهُ رَجُلٌ بِالْيَمَامَةِ يُقَالُ لَهُ
الرّحْمَنُ وَإِنّا لَا نُؤْمِنُ بِالرّحْمَنِ فَأَنْزَلَ اللّهُ سُبْحَانَهُ {
وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبّي } كَانَ مُسَيْلِمَةُ بْنُ
حَبِيبٍ الْحَنَفِيّ ، ثُمّ أَحَدُ بَنِي الدّوَلِ قَدْ تَسَمّى : الرّحْمَنَ فِي
الْجَاهِلِيّةِ وَكَانَ مِنْ الْمُعَمّرِينَ ذَكَرَ وَثِيمَةُ بْنُ مُوسَى أَنّ
مُسَيْلِمَةَ تَسَمّى بِالرّحْمَنِ قَبْلَ أَنْ يُولَدَ عَبْدُ اللّهِ أَوْ
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 81 ]
كَبِيرٌ
وَأَنْشَدَ فِي تَفْسِيرِ الزّبَانِيَةِ وَمِنْ كَبِيرٍ نَفَرٌ زَبَانِيَهْ
وَجَدْت فِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ كَبِيرٌ حَيّ مِنْ
هُذَيْلٍ قَالَ الْمُؤَلّفُ وَفِي أَسَدٍ أَيْضًا : كَبِيرُ بْنُ غَنْمِ بْنِ
دُودَانَ بْنِ أَسَدٍ ، وَمِنْ ذُرّيّتِهِ بَنُو جَحْشِ بْنُ رَيّانَ بْنِ
يَعْمُرَ بْنِ صَبْوَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَبِيرٍ وَلَعَلّ الرّاجِزَ أَنْ يَكُونَ
أَرَادَ هَؤُلَاءِ فَإِنّهُمْ أَشْهَرُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ وَبَنُو كَبِيرٍ
أَيْضًا : بَطْنٌ مِنْ بَنِي غَامِدٍ ، وَهُمْ مِنْ الْأَزْدِ ، وَاَلّذِي
تَقَدّمَ ذِكْرُهُ مِنْ هُذَيْلٍ هُوَ كَبِيرُ بْنُ طَابِخَةَ بْنِ لِحْيَانَ بْنِ
سَعْدِ بْنِ هُذَيْلٍ .
أَوّلُ
صَحَابِيّ جَهَرَ بِالْقُرْآنِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ
أَبِيهِ قَالَ كَانَ أَوّلَ مَنْ جَهَرَ بِالْقُرْآنِ بَعْدَ رَسُولِ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِمَكّةَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُ قَالَ اجْتَمَعَ يَوْمًا أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالُوا : وَاَللّهِ مَا سَمِعَتْ قُرَيْشٌ هَذَا
الْقُرْآنَ يُجْهَرُ لَهَا بِهِ قَطّ ، فَمَنْ رَجُلٌ يُسْمِعُهُمُوهُ ؟ فَقَالَ
عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : أَنَا ، قَالُوا : إنّا نَخْشَاهُمْ عَلَيْك ،
إنّمَا نُرِيدُ رَجُلًا لَهُ عَشِيرَةٌ يَمْنَعُونَهُ مِنْ الْقَوْمِ إنْ
أَرَادُوهُ قَالَ دَعُونِي فَإِنّ اللّهَ سَيَمْنَعُنِي . قَالَ فَغَدَا ابْنُ
مَسْعُودٍ حَتّى أَتَى الْمَقَامَ فِي الضّحَى ، وَقُرَيْشٌ فِي أَنْدِيَتِهَا
حَتّى قَامَ عِنْدَ الْمَقَامِ ثُمّ قَرَأَ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
رَافِعًا بِهَا صَوْتَهُ { الرّحْمَنُ عَلّمَ الْقُرْآنَ } قَالَ ثُمّ
اسْتَقْبَلَهَا يَقْرَؤُهَا . قَالَ فَتَأَمّلُوهُ فَجَعَلُوا يَقُولُونَ . مَاذَا
قَالَ ابْنُ أُمّ عَبْدٍ ؟ قَالَ ثُمّ قَالُوا : لِيَتْلُوَ بَعْضَ مَا جَاءَ بِهِ
مُحَمّدٌ فَقَامُوا إلَيْهِ فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَ فِي وَجْهِهِ وَجَعَلَ
يَقْرَأُ حَتّى بَلَغَ مِنْهَا مَا شَاءَ اللّهُ أَنْ يَبْلُغَ . ثُمّ انْصَرَفَ
إلَى أَصْحَابِهِ وَقَدْ أَثّرُوا فِي وَجْهِهِ فَقَالُوا لَهُ هَذَا الّذِي
خَشِينَا عَلَيْك فَقَالَ مَا كَانَ أَعْدَاءُ اللّهِ أَهْوَنَ عَلَيّ مِنْهُمْ
الْآنَ وَلَئِنْ شِئْتُمْ لَأُغَادِيَنهُمْ بِمِثْلِهَا غَدًا ، قَالُوا : لَا ،
حَسْبُك ، قَدْ أَسْمَعْتهمْ مَا يَكْرَهُونَ [ ص 81 ] .
الّذِينَ
اسْتَمَعُوا إلَى قِرَاءَةِ النّبِيّ ( صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ )
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ
الزّهْرِيّ أَنّهُ حُدّثَ أَنّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَأَبَا جَهْلِ بْنَ
هِشَامٍ وَالْأَخْنَسَ بْنَ شَرِيقِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ الثّقَفِيّ حَلِيفَ
بَنِي زُهْرَةَ خَرَجُوا لَيْلَةً لِيَسْتَمِعُوا مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ يُصَلّي مِنْ اللّيْلِ فِي بَيْتِهِ فَأَخَذَ
كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسًا يَسْتَمِعُ فِيهِ وَكُلّ لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِ
صَاحِبِهِ فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ حَتّى إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرّقُوا .
فَجَمَعَهُمْ الطّرِيقُ فَتَلَاوَمُوا ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ لَا
تَعُودُوا ، فَلَوْ رَآكُمْ بَعْضُ سُفَهَائِكُمْ لَأَوْقَعْتُمْ فِي نَفْسِهِ
شَيْئًا ، ثُمّ انْصَرَفُوا ، حَتّى إذَا كَانَتْ اللّيْلَةُ الثّانِيَةُ عَادَ
كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إلَى مَجْلِسِهِ فَبَاتُوا يَسْتَمِعُونَ لَهُ حَتّى إذَا
طَلَعَ الْفَجْرُ تَفَرّقُوا ، فَجَمَعَهُمْ الطّرِيقُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضِ مِثْلَ مَا قَالُوا أَوّلَ مَرّةٍ ثُمّ انْصَرَفُوا حَتّى إذَا كَانَتْ
اللّيْلَةُ الثّالِثَةُ أَخَذَ كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مَجْلِسَهُ فَبَاتُوا
يَسْتَمِعُونَ لَهُ حَتّى إذَا طَلَعَ [ ص 82 ] تَفَرّقُوا ، فَجَمَعَهُمْ
الطّرِيقُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ لَا نَبْرَحُ حَتّى نَتَعَاهَدَ أَلّا
نَعُودَ فَتَعَاهَدُوا عَلَى ذَلِكَ ثُمّ تَفَرّقُوا . فَلَمّا أَصْبَحَ
الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ أَخَذَ عَصَاهُ ثُمّ خَرَجَ حَتّى أَتَى أَبَا سُفْيَانَ
فِي بَيْتِهِ فَقَالَ أَخْبِرْنِي يَا أَبَا حَنْظَلَةَ عَنْ رَأْيِك فِيمَا
سَمِعْت مِنْ مُحَمّدٍ فَقَالَ يَا أَبَا ثَعْلَبَةَ وَاَللّهِ لَقَدْ سَمِعْت
أَشْيَاءَ أَعْرِفُهَا ، وَأَعْرِفُ مَا يُرَادُ بِهَا ، وَسَمِعْت أَشْيَاءَ مَا
عَرَفْت مَعْنَاهَا وَلَا مَا يُرَادُ بِهَا ، قَالَ الْأَخْنَسُ وَأَنَا
وَاَلّذِي حَلَفْت بِهِ . قَالَ ثُمّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ حَتّى أَتَى أَبَا
جَهْلٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ فَقَالَ يَا أَبَا الْحَكَمِ مَا رَأْيَك
فِيمَا سَمِعْت مِنْ مُحَمّدٍ ؟ فَقَالَ مَاذَا سَمِعْت ، تَنَازَعْنَا نَحْنُ
وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ الشّرَفَ أَطْعَمُوا فَأَطْعَمْنَا ، وَحَمَلُوا
فَحَمَلْنَا ، وَأَعْطَوْا فَأَعْطَيْنَا ، حَتّى إذَا تَحَاذَيْنَا عَلَى
الرّكَبِ وَكُنّا كَفَرَسَيْ رِهَانٍ قَالُوا : مِنّا نَبِيّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ
مِنْ السّمَاءِ فَمَتَى نُدْرِكُ مِثْلَ هَذِهِ وَاَللّهِ لَا نُؤْمِنُ بِهِ
أَبَدًا ، وَلَا نُصَدّقُهُ . قَالَ فَقَامَ عَنْهُ الْأَخْنَسُ وَتَرَكَهُ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
- إذَا تَلَا عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ وَدَعَاهُمْ إلَى اللّهِ قَالُوا يَهْزَءُونَ
بِهِ قُلُوبُنَا فِي أَكِنّةٍ مِمّا تَدْعُونَا إلَيْهِ لَا نَفْقُهُ مَا تَقُولُ
{ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ } لَا نَسْمَعُ مَا تَقُولُ { وَمِنْ بَيْنِنَا
وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } قَدْ حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَك فَاعْمَلْ بِمَا أَنْتَ
عَلَيْهِ إنّنَا عَامِلُونَ بِمَا نَحْنُ عَلَيْهِ إنّا لَا نَفْقُهُ عَنْك
شَيْئًا ، فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ {
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الّذِينَ لَا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا } إلَى قَوْلِهِ { وَإِذَا ذَكَرْتَ
رَبّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا } [
الْإِسْرَاءِ 45 - 46 ] أَيْ كَيْفَ فَهِمُوا تَوْحِيدَك رَبّك إنْ كُنْت جَعَلْت
عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنّةً وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ، وَبَيْنَك وَبَيْنَهُمْ
حِجَابًا بِزَعْمِهِمْ أَيْ إنّي لَمْ أَفْعَلْ ذَلِكَ . { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا
يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ
الظّالِمُونَ إِنْ تَتّبِعُونَ إِلّا رَجُلًا مَسْحُورًا } [ الْإِسْرَاءِ 47 ]
أَيْ ذَلِكَ مَا تَوَاصَوْا بِهِ مِنْ تَرْكِ مَا بَعَثْتُك بِهِ إلَيْهِمْ . {
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ
سَبِيلًا } [ الْإِسْرَاءِ 48 ] أَيْ أَخْطَئُوا الْمَثَلَ الّذِي ضَرَبُوا لَك ،
فَلَا يُصِيبُونَ بِهِ هُدًى ، وَلَا يَعْتَدِلُ لَهُمْ فِيهِ قَوْلٌ { وَقَالُوا
أَئِذَا كُنّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا }
أَيْ قَدْ جِئْت تُخْبِرُنَا : أَنّا سَنُبْعَثُ بَعْدَ مَوْتِنَا إذَا كُنّا
عِظَامًا وَرُفَاتًا ، وَذَلِكَ مَا لَا يَكُونُ . { قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ
حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ
يُعِيدُنَا قُلِ الّذِي فَطَرَكُمْ أَوّلَ مَرّةٍ } [ ص 83 ] الْإِسْرَاءِ 49 - 51
] . أَيْ الّذِي خَلَقَكُمْ مِمّا تَعْرِفُونَ فَلَيْسَ خَلْقُكُمْ مِنْ تُرَابٍ
بِأَعَزّ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ
بْنُ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ مُجَاهِدٍ ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُمَا ، قَالَ سَأَلْته عَنْ قَوْلِ اللّهِ تَعَالَى : { أَوْ خَلْقًا مِمّا
يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ } مَا الّذِي أَرَادَ اللّهُ بِهِ ؟ فَقَالَ الْمَوْتَ .Sحَوْلَ
آيَاتٍ مِنْ الْقُرْآنِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ اسْتِمَاعَ أَبِي جَهْلٍ وَأَبِي سُفْيَانَ وَالْأَخْنَسِ إلَى قَوْلِ
أَبِي جَهْلٍ فَلَمّا تَجَاذَيْنَا عَلَى الرّكَبِ . وَقَعَ فِي الْجَمْهَرَةِ
الْجَاذِي : الْمُقْعِي عَلَى قَدَمَيْهِ قَالَ وَرُبّمَا جَعَلُوا الْجَاذِيَ
وَالْجَاثِيَ سَوَاءً . [ ص 82 ] وَذَكَرَ قَوْلَ اللّهِ سُبْحَانَهُ خَبَرًا
عَنْهُمْ { جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
حِجَابًا مَسْتُورًا } [ الْإِسْرَاءِ 45 ] قَالَ بَعْضُهُمْ مَسْتُورٌ بِمَعْنَى
: سَاتِرٌ كَمَا قَالَ { كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّا } أَيْ آتِيًا ، وَالصّحِيحُ
أَنّ مَسْتُورًا هُنَا عَلَى بَابِهِ لِأَنّهُ حِجَابٌ عَلَى الْقَلْبِ فَهُوَ لَا
يُرَى . [ ص 83 ] وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ عَبّاسٍ حِينَ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ {
أَوْ خَلْقًا مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ } فَقَالَ الْمَوْتَ وَهُوَ تَفْسِيرٌ
يَحْتَاجُ إلَى تَفْسِيرٍ وَرَأَيْت لِبَعْضِ الْمُتَأَخّرِينَ فِيهِ قَالَ
أَرَادَ ابْنُ عَبّاسٍ أَنّ الْمَوْتَ سَيَفْنَى كَمَا يَفْنَى كُلّ شَيْءٍ كَمَا
جَاءَ أَنّهُ يُذْبَحُ عَلَى الصّرَاطِ فَكَانَ الْمَعْنَى أَنْ لَوْ كُنْتُمْ
حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا لَأَدْرَكَكُمْ الْفَنَاءُ وَالْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ
الْمَوْتَ الّذِي هُوَ كَبِيرٌ فِي صُدُورِكُمْ فَلَا بُدّ لَكُمْ مِنْ الْفَنَاءِ
- وَاَللّهُ أَعْلَمُ - بِتَأْوِيلِ ذَلِكَ وَقَدْ بَقِيَ فِي نَفْسِي مِنْ
تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ شَيْءٌ حَتّى يُكْمِلَ اللّهُ نِعْمَتَهُ بِفَهْمِهَا
إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى - وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَلّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ
نُفُورًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نُفُورًا : جَمْعُ نَافِرٍ فَيَكُونُ نَصْبًا عَلَى
الْحَالِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مُؤَكّدًا ل " وَلّوْا " .
وَمِمّا أَنْزَلَ اللّهُ فِي اسْتِمَاعِهِمْ { وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ
إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصّمّ } [ يُونُسَ 42 ] أَلَا تَرَى كَيْفَ جَمَعَ
يَسْتَمِعُونَ وَالْحَمْلُ عَلَى اللّفْظِ إذَا قُرّبَ مِنْهُ أَحْسَنُ أَلَا
تَرَى إلَى قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللّهِ }
فَأُفْرِدَ حَمْلًا عَلَى لَفْظِ مَنْ وَقَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ { وَلَا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ } فَجُمِعَ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى ، لِمَا بَعُدَ عَنْ اللّفْظِ
وَهَكَذَا كَانَ الْقِيَاسُ فِي قَوْلِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ وَلَكِنْ
لَمّا كَانُوا جَمَاعَةً وَنَزَلَتْ الْآيَةُ فِيهِمْ بِأَعْيَانِهِمْ صَارَ
الْمَعْنَى : وَمِنْهُمْ نَفَرٌ يَسْتَمِعُونَ يَعْنِي أُولَئِكَ النّفَرَ وَهُمْ
أَبُو جَهْلٍ وَأَبُو سُفْيَانَ وَالْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ ، أَلَا تَرَى كَيْفَ
قَالَ بَعْدُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إلَيْك فَأُفْرِدَ حَمْلًا عَلَى اللّفْظِ
لِارْتِفَاعِ السّبَبِ الْمُتَقَدّمِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
ذِكْرُ
عُدْوَانِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْتَضْعَفِينَ مِمّنْ أَسْلَمَ بِالْأَذَى
وَالْفِتْنَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ إنّهُمْ عَدَوْا عَلَى مَنْ أَسْلَمَ ، وَاتّبَعَ
رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ [ ص 84 ] وَالْجُوعِ
وَالْعَطَشِ وَبِرَمْضَاءِ مَكّةَ إذَا اشْتَدّ الْحَرّ ، مَنْ اسْتَضْعَفُوا
مِنْهُمْ يَفْتِنُونَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يُفْتَنُ مِنْ شِدّةِ
الْبَلَاءِ الّذِي يُصِيبُهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَصْلُبُ لَهُمْ وَيَعْصِمُهُ اللّهُ
مِنْهُمْ .
تَعْذِيبُ بِلَالٍ وَعِتْقُهُ
وَكَانَ بِلَالٌ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا ، لِبَعْضِ بَنِي
جُمَحَ مُوَلّدًا مِنْ مُوَلّدِيهِمْ وَهُوَ بِلَالُ بْنُ رَبَاحٍ ، وَكَانَ اسْمُ
أُمّهِ حَمَامَةُ وَكَانَ صَادِقَ الْإِسْلَامِ طَاهِرَ الْقَلْبِ وَكَانَ
أُمَيّةُ بْنُ خَلَفِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ يُخْرِجُهُ إذَا
حَمِيَتْ الظّهِيرَةُ فَيَطْرَحُهُ عَلَى ظَهْرِهِ فِي بَطْحَاءِ مَكّةَ ، ثُمّ
يَأْمُرُ بِالصّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ فَتُوضَعُ عَلَى صَدْرِهِ ثُمّ يَقُولُ لَهُ
لَا تَزَالُ هَكَذَا حَتّى تَمُوتَ أَوْ تَكْفُرَ بِمُحَمّدِ وَتَعْبُدَ اللّاتِي
وَالْعُزّى ؛ فَيَقُولُ وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْبَلَاءِ أَحَدٌ أَحَدٌ . قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ كَانَ وَرَقَةُ
بْنُ نَوْفَلٍ يَمُرّ بِهِ وَهُوَ يُعَذّبُ بِذَلِكَ وَهُوَ يَقُولُ أَحَدٌ أَحَدٌ
، فَيَقُولُ أَحَدٌ ، أَحَدٌ وَاَللّهِ يَا بِلَالُ ثُمّ يُقْبِلُ عَلَى أُمَيّةَ
بْنِ خَلَفٍ ، وَمَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ بِهِ مِنْ بَنِي جُمَحَ فَيَقُولُ أَحْلِفُ
بِاَللّهِ لَئِنْ قَتَلْتُمُوهُ عَلَى هَذَا لَأَتّخِذَنهُ حَنَانًا ، حَتّى مَرّ
بِهِ أَبُو بَكْرِ الصّدّيقُ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ -
يَوْمًا ، وَهُمْ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ بِهِ وَكَانَتْ دَارُ أَبِي بَكْرٍ فِي بَنِي
جُمَحَ فَقَالَ لِأُمَيّةِ بْنِ خَلَفٍ أَلَا تَتّقِي اللّهَ فِي هَذَا
الْمِسْكِينِ ؟ حَتّى مَتَى ؟ قَالَ أَنْتَ الّذِي أَفْسَدْته ، فَأَنْقِذْهُ
مِمّا تَرَى ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَفْعَلُ عِنْدِي غُلَامٌ أَسْوَدُ أَجْلِدُ
مِنْهُ وَأَقْوَى ، عَلَى دِينِك ، أُعْطِيكَهُ بِهِ قَالَ قَدْ قَبِلْت فَقَالَ
هُوَ لَك . فَأَعْطَاهُ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ غُلَامَهُ
ذَلِكَ وَأَخَذَهُ فَأَعْتَقَهُ . [ ص 85 ]
مِنْ عُتَقَاءِ أَبِي بَكْرٍ
ثُمّ أَعْتَقَ مَعَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ إلَى الْمَدِينَةِ
سِتّ رِقَابٍ بِلَالٌ سَابِعُهُمْ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ ، شَهِدَ بَدْرًا
وَأُحُدًا ، وَقُتِلَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ شَهِيدًا ، وَأُمّ شُمَيْسٍ
وَزِنّيرَةُ ، وَأُصِيبَ بَصَرُهَا حِينَ أَعْتَقَهَا ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ : مَا
أَذْهَبَ بَصَرَهَا إلّا اللّاتِي وَالْعُزّى ؛ فَقَالَتْ كَذَبُوا - وَبَيْتِ
اللّهِ - مَا تَضُرّ اللّاتِي وَالْعُزّى ، وَمَا تَنْفَعَانِ فَرَدّ اللّهُ
بَصَرَهَا . وَأَعْتَقَ النّهْدِيّةَ وَبِنْتَهَا ، وَكَانَتَا لِامْرَأَةِ مِنْ
بَنِي عَبْدِ الدّارِ فَمَرّ بِهِمَا وَقَدْ بَعَثَتْهُمَا سَيّدَتُهُمَا
بِطَحِينِ لَهَا ، وَهِيَ تَقُولُ وَاَللّهِ لَا أُعْتِقُكُمَا أَبَدًا ، فَقَالَ
أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ حِلّا يَا أُمّ فُلَانٍ فَقَالَتْ حِلّ أَنْتَ
أَفْسَدْتهمَا فَأَعْتَقَهُمَا ؛ قَالَ فَبِكَمْ هُمَا ؟ قَالَتْ بِكَذَا وَكَذَا
، قَالَ قَدْ أَخَذْتهمَا وَهُمَا حُرّتَانِ أَرْجِعَا إلَيْهَا طَحِينَهَا ،
قَالَتَا : أوَ نَفْرُغُ مِنْهُ يَا أَبَا بَكْرٍ ثُمّ نَرُدّهُ إلَيْهَا ؟ قَالَ
وَذَلِكَ إنْ شِئْتُمَا . [ ص 86 ] وَمَرّ بِجَارِيَةِ بَنِي مُؤَمّلٍ حَيّ مِنْ
بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ ، وَكَانَتْ مُسْلِمَةً وَعُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ
يُعَذّبُهَا لِتَتْرُكَ الْإِسْلَامَ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ وَهُوَ
يَضْرِبُهَا ، حَتّى إذَا مَلّ قَالَ إنّي أَعْتَذِرُ إلَيْك ، إنّي لَمْ أَتْرُكْ
إلّا مَلَالَةً فَتَقُولُ كَذَلِكَ فَعَلَ اللّهُ بِك ، فَابْتَاعَهَا أَبُو
بَكْرٍ فَأَعْتَقَهَا .
بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَأَبِيهِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي
عَتِيقٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ
قَالَ قَالَ أَبُو قُحَافَةَ لِأَبِي بَكْرٍ يَا بُنَيّ إنّي أَرَاك تَعْتِقُ
رِقَابًا ضِعَافًا ، فَلَوْ أَنّك إذْ فَعَلْت مَا فَعَلْت أَعْتَقْت رِجَالًا
جَلَدًا يَمْنَعُونَك ، وَيَقُومُونَ دُونَك ؟ قَالَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ
اللّهُ عَنْهُ يَا أَبَتْ إنّي إنّمَا أُرِيدُ مَا أُرِيدُ لِلّهِ عَزّ وَجَلّ ،
قَالَ فَيَتَحَدّثُ أَنّهُ مَا نَزَلَ هَؤُلَاءِ الْآيَاتُ إلّا فِيهِ وَفِيمَا
قَالَ لَهُ أَبُوهُ { فَأَمّا مَنْ أَعْطَى وَاتّقَى وَصَدّقَ بِالْحُسْنَى } [
اللّيْلِ 5 ، 6 ] . إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ
نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى }
[ اللّيْلِ 19 - 21 ] .Sالْمُكْرَهُ
عَلَى الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ تَعْذِيبَ مَنْ أَسْلَمَ وَطَرْحَهُمْ فِي الرّمْضَاءِ وَكَانُوا
يُلْبِسُونَهُمْ أَدْرَاعَ الْحَدِيدِ [ ص 84 ] رَحِمَهُ اللّهُ - وَأَنْزَلَ
اللّهُ فِيهِمْ إلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنّ بِالْإِيمَانِ وَنَزَلَ
فِي عَمّارٍ وَأَبِيهِ إلّا أَنْ تَتّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَلَمّا كَانَ
الْإِيمَانُ أَصْلُهُ فِي الْقَلْبِ رَخّصَ لِلْمُؤْمِنِ فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ
أَنْ يَقُولَ بِلِسَانِهِ إذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ [ ص 85 ] قَالَ ابْنُ
مَسْعُودٍ مَا مِنْ كَلِمَةٍ تَدْفَعُ عَنّي سَوْطَيْنِ إلّا قُلْتهَا هَذَا فِي
الْقَوْلِ فَأَمّا الْفِعْلُ فَتَنْقَسِمُ فِيهِ الْحَالُ فَمِنْهُ مَا لَا
خِلَافَ فِي جَوَازِهِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ إذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ الْقَتْلَ
وَإِنْ لَمْ يَخَفْ إلّا مَا دُونَ الْقَتْلِ فَالصّبْرُ لَهُ أَفْضَلُ وَإِنْ
لَمْ يَخَفْ فِي ذَلِكَ إلّا كَسَجْنِ يَوْمٍ أَوْ طَرَفٍ مِنْ الْهَوَانِ خَفِيفٍ
فَلَا تَحِلّ لَهُ الْمَعْصِيَةُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَأَمّا الْإِكْرَاهُ عَلَى
الْقَتْلِ فَلَا خِلَافَ فِي حَظْرِهِ لِأَنّهُ إنّمَا رَخّصَ لَهُ فِيمَا دُونَ
الْقَتْلِ لِيَدْفَعَ بِذَلِكَ قَتْلَ نَفْسٍ مُؤْمِنَةٍ وَهِيَ نَفْسُهُ فَأَمّا
إذَا دَفَعَ عَنْ نَفْسِهِ بِنَفْسِ أُخْرَى ، فَلَا رُخْصَةَ وَاخْتُلِفَ فِي
الْإِكْرَاهِ عَلَى الزّنَى ، فَذُكِرَ عَنْ ابْنِ الْمَاجِشُونِ أَنّهُ قَالَ لَا
رُخْصَةَ فِيهِ لِأَنّهُ لَا يَنْتَشِرُ لَهُ إلّا عَنْ إرَادَةٍ فِي الْقَلْبِ
أَوْ شَهْوَةٍ وَأَفْعَالُ الْقَلْبِ لَا تُبَاحُ مَعَ الْإِكْرَاهِ وَقَالَ
غَيْرُهُ بَلْ يُرَخّصُ فِي ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ الْقَتْلَ لِأَنّ انْبِعَاثَ
الشّهْوَةِ عِنْدَ الْمُمَاسّةِ بِمَنْزِلَةِ انْبِعَاثِ اللّعَابِ عِنْدَ مَضْغِ
الطّعَامِ وَقَدْ يَجُوزُ أَكْلُ الْحَرَامِ إذَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ .
فَصْلٌ
وَاخْتَلَفَ الْأُصُولِيّونَ فِي مَسْأَلَةٍ مِنْ الْإِكْرَاهِ وَهِيَ هَلْ
الْمُكْرَهُ عَلَى الْفِعْلِ مُخَاطَبٌ بِالْفِعْلِ أَمْ لَا ؟ فَقَالَتْ
الْمُعْتَزِلَةُ : لَا يَصِحّ الْأَمْرُ بِالْفِعْلِ مَعَ الْإِكْرَاهِ عَلَيْهِ
وَقَالَتْ الْأَشْعَرِيّةُ ذَلِكَ جَائِزٌ لِأَنّ الْعَزْمَ إنّمَا هُوَ فِعْلُ
الْقَلْبِ وَقَدْ يُتَصَوّرُ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الْحِينِ [ ص 86 ] أَمْرِ اللّهِ
تَعَالَى ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ أَنّهُ يَفْعَلُهُ خَوْفًا مِنْ النّاسِ
وَذَلِكَ إذَا أُكْرِهَ عَلَى فَرْضٍ كَالصّلَاةِ مَثَلًا ، إذَا قِيلَ صَلّ
وَإِلّا قُتِلْت ، وَأَمّا إذَا قِيلَ لَهُ إنْ صَلّيْت قُتِلْت ، فَظَنّ
الْقَاضِي أَنّ الْخِلَافَ بَيْنَنَا ، وَبَيْنَ الْمُعْتَزِلَةِ فِي ذَلِكَ
وَغَلّطَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَقَالُوا : لَا خِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
أَنّهُ مُخَاطَبٌ بِالصّلَاةِ مَأْمُورٌ بِهَا ، وَإِنْ رُخّصَ لَهُ فِي تَرْكِهَا
، فَلَيْسَ التّرْخِيصُ مِمّا يُخْرِجُهُ عَنْ حُكْمِ الْخِطَابِ وَإِنّمَا
يَرْفَعُ عَنْهُ الْإِكْرَاهُ الْمَأْثَمَ وَلَا يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ
مُخَاطَبًا بِهَا ، وَهَذَا الْغَلَطُ الْمَنْسُوبُ إلَى الْقَاضِي فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ لَيْسَ بِقَوْلِ لَهُ وَإِنّمَا حَكَاهُ فِي كِتَابِ التّقْرِيبِ
وَالْإِرْشَادِ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْفُقَهَاءِ . قَالُوا : لَا يُتَصَوّرُ
الْقَصْدُ وَالْإِرَادَةُ لِلْفِعْلِ مَعَ الْإِكْرَاهِ عَلَيْهِ . قَالَ الْقَاضِي
: وَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنّهُ يُتَصَوّرُ انْكِفَافُهُ عَنْهُ مَعَ الْإِكْرَاهِ
فَكَذَلِكَ يُتَصَوّرُ مِنْهُ الْقَصْدُ إلَى الِامْتِثَالِ لَهُ وَبِهِ
يَتَعَلّقُ التّكْلِيفُ فَإِنّمَا غَلِطَ مَنْ نَسَبَ إلَيْهِ مِنْ
الْأُصُولِيّينَ هَذَا الْقَوْلَ الّذِي أَبْطَلَهُ وَبَيّنَ بُطْلَانَهُ
وَإِنّمَا ذَكَرْت مَا قَالُوهُ قَبْلَ أَنْ أَرَى كَلَامَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ
وَأَقِفَ عَلَى حَقِيقَةِ مَذْهَبِهِ وَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْغَلَطِ فِيهَا .
تَعْذِيبُ
عَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ
[ ص 87 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَتْ بَنُو مَخْزُوم ٍ يَخْرُجُونَ
بِعَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَبِأَبِيهِ وَأُمّهِ - وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ إسْلَامٍ
- إذَا حَمِيَتْ الظّهِيرَةُ يُعَذّبُونَهُمْ بِرَمْضَاءِ مَكّةَ ، فَيَمُرّ
بِهِمْ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَيَقُولُ فِيمَا
بَلَغَنِي : صَبْرًا آلَ يَاسِرٍ مَوْعِدُكُمْ الْجَنّةُ فَأَمّا أُمّهُ
فَقَتَلُوهَا ، وَهِيَ تَأْبَى إلّا الْإِسْلَامَ . وَكَانَ أَبُو جَهْلٍ
الْفَاسِقُ الّذِي يُغْرِي بِهِمْ فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، إذَا سَمِعَ
بِالرّجُلِ قَدْ أَسْلَمَ ، لَهُ شَرَفٌ وَمَنَعَةٌ أَنّبَهُ وَأَخْزَاهُ وَقَالَ
تَرَكْت دِينَ أَبِيك وَهُوَ خَيْرٌ مِنْك : لَنُسَفّهَنّ حِلْمَك وَلَنُفَيّلَنّ
رَأْيَك ، وَلَنَضَعَنّ شَرَفَك ، وَإِنْ كَانَ تَاجِرًا ، قَالَ وَاَللّهِ
لَنُكَسّدَنّ تِجَارَتَك ، وَلَنُهْلِكَنّ مَالَك ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا
ضَرَبَهُ وَأَغْرَى بِهِ
فِتْنَةُ الْمُعَذّبِينَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي حَكِيمُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
جُبَيْرٍ ، قَالَ قُلْت لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ : أَكَانَ الْمُشْرِكُونَ
يَبْلُغُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ
الْعَذَابِ مَا [ ص 88 ] قَالَ نَعَمْ وَاَللّهِ إنْ كَانُوا لَيَضْرِبُونَ
أَحَدَهُمْ وَيُجِيعُونَهُ وَيُعَطّشُونَهُ حَتّى مَا يَقْدِرَ أَنْ يَسْتَوِيَ
جَالِسًا مِنْ شِدّةِ الضّرّ الّذِي نَزَلَ بِهِ حَتّى يُعْطِيَهُمْ مَا سَأَلُوهُ
مِنْ الْفِتْنَةِ حَتّى يَقُولُوا لَهُ آللّاتِي وَالْعُزّى إلَهَك مِنْ دُونِ
اللّهِ ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ حَتّى إنّ الْجُعَلَ لَيَمُرّ بِهِمْ فَيَقُولُونَ لَهُ
أَهَذَا الْجُعَلُ إلَهَك مِنْ دُونِ اللّهِ ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ افْتِدَاءً
مِنْهُمْ مِمّا يَبْلُغُونَ مِنْ جَهْدِهِ .
رَفْضُ تَسْلِيمِ الْوَلِيدِ لِتَقْتُلَهُ قُرَيْشٌ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي الزّبَيْرُ بْنُ عُكّاشَةَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ
بْنِ أَبِي أَحْمَدَ أَنّهُ حُدّثَ أَنّ رَجُلًا مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ مَشَوْا
إلَى هِشَامِ بْنِ الْوَلِيدِ حِينَ أَسْلَمَ أَخُوهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ
، وَكَانُوا قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يَأْخُذُوا فِتْيَةً مِنْهُمْ كَانُوا
قَدْ أَسْلَمُوا ، مِنْهُمْ سَلَمَةُ بْنُ هِشَامٍ ، وَعَيّاشُ بْنُ أَبِي
رَبِيعَةَ . قَالَ فَقَالُوا لَهُ - وَخَشُوا شَرّهُمْ إنّا قَدْ أَرَدْنَا أَنْ
نُعَاتِبَ هَؤُلَاءِ الْفِتْيَةَ عَلَى هَذَا الدّينِ الّذِي أَحْدَثُوا ، فَإِنّا
نَأْمَنُ بِذَلِكَ فِي غَيْرِهِمْ . قَالَ هَذَا ، فَعَلَيْكُمْ بِهِ .
فَعَاتِبُوهُ وَإِيّاكُمْ وَنَفْسَهُ . وَأَنْشَأَ يَقُولُ أَلَا لَا يُقْتَلَن
أَخِي عُيَيْشٍ فَيَبْقَى بَيْنَنَا أَبَدًا تَلَاحِي
[ ص 89 ] لَأَقْتُلَن أَشْرَفَكُمْ رَجُلًا . قَالَ فَقَالُوا : اللّهُمّ
الْعَنْهُ . مَنْ يُغَرّرْ بِهَذَا الْخَبِيثِ فَوَاَللّهِ لَوْ أُصِيبَ فِي
أَيْدِينَا لَقُتِلَ أَشْرَفُنَا رَجُلًا . قَالَ فَتَرَكُوهُ وَنَزَعُوا عَنْهُ
قَالَ وَكَانَ ذَلِكَ مِمّا دَفَعَ اللّهُ بِهِ عَنْهُمْ .Sآلُ
يَاسِرٍ
فَصْلٌ
[ ص 87 ] وَذَكَرَ فِيمَنْ عُذّبَ فِي اللّهِ سُمَيّةُ أُمّ عَمّارٍ ، وَقَدْ
ذَكَرْنَا قَتْلَ أَبِي جَهْلٍ لَهَا ، وَهِيَ أَوّلُ شَهِيدٍ فِي الْإِسْلَامِ
وَرُوِيَ أَنّ عَمّارًا قَالَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
لَقَدْ بَلَغَ مِنّا الْعَذَابُ كُلّ مَبْلَغٍ فَقَالَ لَهُ النّبِيّ [ ص 50 ]
صَبْرًا أَبَا الْيَقْظَانِ ثُمّ قَالَ اللّهُمّ لَا تُعَذّبْ أَحَدًا مِنْ آلِ
عَمّارٍ بِالنّار وَسُمَيّةُ أُمّهُ وَهِيَ بِنْتُ خَيّاطٍ كَانَتْ مَوْلَاةً
لِأَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَاسْمُهُ مُهَشّمٌ وَهُوَ عَمّ أَبِي
جَهْلٍ وَغَلِطَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِيهَا ، فَزَعَمَ أَنّ الْأَزْرَقَ مَوْلَى
الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ خَلَفَ عَلَيْهَا بَعْدَ يَاسِرٍ فَوَلَدَتْ لَهُ سَلَمَةَ
بْنَ الْأَزْرَقِ وَقَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالنّسَاءِ إنّمَا سُمَيّةُ أُمّ
سَلَمَةَ بْنِ الْأَزْرَقِ سُمَيّةُ أُخْرَى ، وَهِيَ أُمّ زِيَادِ بْنِ أَبِي
سُفْيَانَ لَا أُمّ عَمّارٍ وَعَمّارٌ وَالْحُوَيْرِثُ وَعَبّودُ بَنُو يَاسِرِ
بْنِ عَامِرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ الْحُصَيْنِ بْنِ
لَوْذَيْنِ وَيُقَالُ الْوَذِيمُ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَامِرِ بْنِ
حَارِثَةَ بْنِ زيام بْنِ عَنْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أُدَدَ بْنِ زَيْدٍ
الْعَنْسِيّ الْمُذْحِجِيّ حَلِيفٌ لِبَنِي مَخْزُومٍ وَمِنْ وَلَدِ عَمّارٍ
عَبْدُ اللّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ
عَبْدِ اللّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَهُوَ الْمَقْتُولُ
بِالْأَنْدَلُسِ قَتَلَهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مُعَاوِيَةَ . [ ص 88 ]
زِنّيرَةُ وَغَيْرُهَا
فَصْلٌ
وَذَكَرَ زِنّيرَةَ الّتِي أَعْتَقَهَا أَبُو بَكْرٍ وَأَوّلُ اسْمِهَا : زَايٌ
مَكْسُورَةٌ بَعْدَهَا نُونٌ مَكْسُورَةٌ مُشَدّدَةٌ عَلَى وَزْنِ فِعّيلَةٍ هكذا
صَحّتْ الرّوَايَةُ فِي الْكِتَابِ وَالزّنّيرَةُ وَاحِدَةُ الزّنَانِيرِ وَهِيَ
الْحَصَا الصّغَارُ قَالَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ فِيهَا :
زَنْبَرَةٌ بِفَتْحِ الزّايِ وَسُكُونِ النّونِ وَبَاءٍ بَعْدَهَا ، وَلَا
تُعْرَفُ زَنْبَرَةٌ فِي النّسَاءِ وَأَمّا فِي الرّجَالِ فَزَنْبَرَةُ بْنُ
زُبَيْرِ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ صَاهِلَةَ بْنِ كَاهِلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ
تَمِيمِ بْنِ سَعْدِ بْنِ هُذَيْلٍ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ ،
وَابْنُهُ خَالِدُ بْنُ زَنْبَرَةَ وَهُوَ الْغَرِقُ قَالَهُ الدّارَقُطْنِيّ .
أُمّ عُمَيْسٍ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ أُمّ عُمَيْسٍ وَكَانَتْ لِبَنِي تَيْمِ بْنِ مُرّةَ أَعْتَقَهَا أَبُو
بَكْرٍ وَذَكَرَ غَيْرُ ابْنِ إسْحَاقَ هَؤُلَاءِ الّذِينَ عُذّبُوا فِي اللّهِ
لِمَا أَعْطَوْا بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا سُئِلُوا مِنْ الْكُفْرِ جَاءَتْ قَبِيلَةُ
كُلّ رَجُلٍ مِنْهُمْ بِأَنْطَاعِ الْأُدُمِ فِيهَا الْمَاءُ فَوَضَعُوهُمْ فِيهَا
، وَأَخَذُوهُمْ بِأَطْرَافِ الْأَنْطَاعِ وَاحْتَمَلُوهُمْ إلّا بِلَالًا . [ ص
89 ]
عَنْ بِلَالٍ
وَقَوْلُ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ : لَئِنْ قَتَلْتُمُوهُ يَعْنِي : بِلَالًا ،
وَهُوَ عَلَى هَذَا الْحَالِ لَأَتّخِذَنهُ حَنَانًا أَيْ لَأَتّخِذَن قَبْرَهُ
مَنْسَكًا وَمُسْتَرْحَمًا . وَالْحَنَانُ : الرّحْمَةُ وَكَانَ بِلَالٌ رَحِمَهُ
اللّهُ يُكَنّى : أَبَا عَبْدِ الْكَرِيمِ وَقِيلَ أَبَا عَبْدِ اللّهِ وَأُخْتُهُ
غُفْرَةُ وَقَدْ تَقَدّمَ فِي أَوّلِ الْكِتَابِ ذِكْرُ عُمَرَ مَوْلَى غُفْرَةَ ،
وَهِيَ هَذِهِ . وَالْغُفْرَةُ الْأُنْثَى مِنْ أَوْلَادِ الْأَرَاوِيّ وَالذّكَرُ
غُفْرٌ .
ذِكْرُ
الْهِجْرَةِ الْأُولَى إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ
[ ص 90 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا رَأَى رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَا يُصِيبُ أَصْحَابَهُ مِنْ الْبَلَاءِ . وَمَا هُوَ فِيهِ
مِنْ الْعَافِيَةِ . بِمَكَانِهِ مِنْ اللّهِ وَمِنْ عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ
وَأَنّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِمّا هُمْ فِيهِ مِنْ الْبَلَاءِ
. قَالَ لَهُمْ لَوْ خَرَجْتُمْ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، فَإِنّ بِهَا مَلِكًا
لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ . وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ حَتّى يَجْعَلَ اللّهُ
لَكُمْ فَرَجًا مِمّا أَنْتُمْ فِيهِ فَخَرَجَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ
أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى أَرْضِ
الْحَبَشَةِ ، مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ وَفِرَارًا إلَى اللّهِ بِدِينِهِمْ .
فَكَانَتْ أَوّلَ هِجْرَةٍ كَانَتْ فِي الْإِسْلَامِ .Sبَابُ
الْهِجْرَةِ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ
[ ص 90 ] نَسَبَ الْحَبَشَةِ فِي أَوّلِ الْكِتَابِ وَأَمّا النّجَاشِيّ فَاسْمٌ
لِكُلّ مَلِكٍ يَلِي الْحَبَشَةَ ، كَمَا أَنّ كِسْرَى اسْمٌ لِمَنْ مَلَكَ
الْفُرْسَ ، وَخَاقَانَ اسْمٌ لِمَلِكِ التّرْكِ كَائِنًا مَنْ كَانَ
وَبَطْلَيْمُوسَ اسْمٌ لِمَنْ مَلَكَ يُونَانَ وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْمَعْنَى
قَبْلُ وَاسْمُ هَذَا النّجَاشِيّ : أَصْحَمَةُ بْنُ أَبْجَرَ وَتَفْسِيرُهُ
عَطِيّةُ .
أَصْحَابُ
الْهِجْرَةِ الْأُولَى إلَى الْحَبَشَةِ
وَكَانَ أَوّلُ مَنْ خَرَجَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِنْ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ
شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ [ ص 91 ] بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَعْبِ
بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ : عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ بْنُ أَبِي
الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ مَعَهُ امْرَأَتُهُ رُقَيّةُ بِنْتُ رَسُولِ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَمِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ
أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ
سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو ، أَحَدُ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ ،
وَلَدَتْ لَهُ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مُحَمّدَ بْنَ أَبِي حُذَيْفَةَ . وَمِنْ
بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ : الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ بْنِ
خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ . وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ : مُصْعَبُ
بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ . وَمِنْ
بَنِي زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ : عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ عَوْفِ
بْنِ عَبْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ وَمِنْ بَنِي مَخْزُومٍ بْنُ يَقَظَةَ
بْنِ مُرّةَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ
اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمّ سَلَمَةَ بِنْتُ
أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ
. وَمِنْ بَنِي جُمَحَ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبٍ عُثْمَانُ بْنُ
مَظْعُونِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ وَمِنْ بَنِي
عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ : عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ ، حَلِيفُ آلِ الْخَطّابِ ، مِنْ
عَنْزِ بْنِ وَائِلٍ مَعَهُ امْرَأَتُهُ [ ص 92 ] لَيْلَى بِنْتِ أَبِي حَثْمَةَ
بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ غَانِمِ بْن عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَوْفِ بْنِ
عُبَيْدِ بْنِ عُوَيْجِ بْنِ عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ . وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ
لُؤَيّ أَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ أَبِي قَيْسِ
بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ ، وَيُقَالُ
بَلْ أَبُو حَاطِبِ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ
بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ . وَيُقَالُ هُوَ أَوّلُ مَنْ قَدِمَهَا .
وَمِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ : سُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ ، وَهُوَ سُهَيْلُ
بْنُ وَهْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ أُهَيْبِ بْنِ ضَبّةَ بْنِ
الْحَارِثِ . فَكَانَ هَؤُلَاءِ الْعَشْرَةُ أَوّلَ مَنْ خَرَجَ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، فِيمَا بَلَغَنِي . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ
: وَكَانَ عَلَيْهِمْ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ ، فِيمَا ذَكَرَ لِي بَعْضُ أَهْلِ
الْعِلْمِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ خَرَجَ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَتَتَابَعَ الْمُسْلِمُونَ حَتّى اجْتَمَعُوا بِأَرْضِ
الْحَبَشَةِ ، فَكَانُوا بِهَا ، مِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ بِأَهْلِهِ مَعَهُ
وَمِنْهُمْ مَنْ خَرَجَ بِنَفْسِهِ لَا أَهْلَ لَهُ مَعَهُ .
الْمُهَاجِرُونَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِيّ أُمَيّةَ
وَمِنْ بَنِي هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرّةَ
بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرٍ : جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبِ
بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ
عُمَيْسِ بْنِ النّعْمَانِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكِ بْنِ قُحَافَةَ بْنِ خَثْعَمَ
، وَلَدَتْ لَهُ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ عَبْدَ اللّهِ بْنَ جَعْفَرٍ ، رَجُلٌ .
وَمِنْ بَنِي أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ عُثْمَانَ بْنَ
عَفّانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ، مَعَهُ
امْرَأَتُهُ رُقَيّةُ ابْنَةُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَعَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ
فَاطِمَةُ بِنْتُ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ مُحَرّثِ بْنِ حَمَلِ بْنِ شِقّ
بْنِ [ ص 93 ] خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ مَعَهُ
امْرَأَتُهُ أُمَيْنَةُ بِنْتُ خَلَفِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عَامِرِ بْنِ بَيَاضَةَ
بْنِ سُبَيْعِ بْنِ جُعْثُمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ مُلَيْحِ بْنِ عَمْرٍو ، مِنْ
خُزَاعَةَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ هُمَيْنَةُ بِنْتُ خَلْفٍ . قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَدَتْ لَهُ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ سَعِيدَ بْنَ خَالِدٍ ،
وَأَمَةَ بِنْتَ خَالِدٍ فَتَزَوّجَ أَمَةَ بَعْدَ ذَلِكَ الزّبَيْرُ بْنُ
الْعَوّامِ ، فَوَلَدَتْ لَهُ عَمْرُو بْنُ الزّبَيْرِ ، وَخَالِدُ بْنُ
الزّبَيْرِ .
الْمُهَاجِرُونَ مِنْ بَنِي أَسَدٍ وَبَنِيّ عَبْدِ شَمْسٍ
وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ : عَبْدُ اللّهِ بْنُ
جَحْشِ بْنِ رِئَابِ بْنِ يَعْمُرَ بْنِ صَبِرَةَ بْنِ مُرّةَ بْنِ كَبِيرِ بْنِ
غَنْمِ بْنِ دُودَانَ بْنِ أَسَدٍ ؛ وَأَخُوهُ عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشٍ ،
مَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمّ حَبِيبَةَ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبِ بْنِ
أُمَيّةَ ، وَقَيْسُ بْنِ عَبْدِ اللّهِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ
، مَعَهُ امْرَأَتُهُ بَرَكَةُ بِنْتُ يَسَارٍ مَوْلَاةُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ
حَرْبِ بْنِ أُمَيّةَ ، وَمُعَيْقِيبُ بْنُ أَبِي فَاطِمَةَ وَهَؤُلَاءِ آلُ
سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ ، سَبْعَةُ نَفَرٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : مُعَيْقِيبٌ
مِنْ دَوْسٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ
مَنَافٍ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ ،
وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ قَيْسٍ حَلِيفُ آلِ
عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، رَجُلَانِ .
الْمُهَاجِرُونَ مِنْ بَنِي نَوْفَلٍ وَبَنِيّ أَسَدٍ
وَمِنْ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ بْنِ جَابِرِ
بْنِ وَهْبِ بْنِ نَسُبّ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَازِنِ بْنِ
مَنْصُورِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ خَصَفَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَيْلَانَ ، حَلِيفٌ
لَهُمْ رَجُلٌ . وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ :
الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ ، وَالْأَسْوَدُ بْنُ
نَوْفَلِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ ، وَيَزِيدُ بْنُ زَمَعَةَ بْنِ الْأَسْوَدِ
بْنِ الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدٍ . وَعَمْرُو بْنُ أُمَيّةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ
أَسَدٍ ، أَرْبَعَةُ نَفَرٍ . [ ص 94 ]
الْمُهَاجِرُونَ مِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ قُصَيّ وَعَبْدِ الدّارِ وَلَدَيْ قُصَيّ
وَمِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ قُصَيّ : طُلَيْبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ وَهْبِ بْنِ أَبِي
كَثِيرِ بْنِ عَبْدِ [ بْنِ قُصَيّ ] رَجُلٌ . وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدّارِ بْنِ
قُصَيّ : مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ
الدّارِ وَسُوَيْطُ بْنُ سَعْدِ بْنِ حَرْمَلَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ عُمَيْلَةَ
بْنِ السّبّاقِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ وَجَهْمُ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَبْدِ شُرَحْبِيلَ
بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ مَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمّ
حَرْمَلَةَ بِنْتُ عَبْدِ الْأَسْوَدِ بْنِ جَذِيمَةَ بْنِ أُقَيْشِ بْنِ عَامِرِ
بْنِ بَيَاضَةَ بْنِ سُبَيْعِ بْنِ جُعْثُمَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ مَلِيحِ بْنِ
عَمْرٍو ، مِنْ خُزَاعَةَ ، وَابْنَاهُ عَمْرُو بْنُ جَهْمٍ وَخُزَيْمَةُ بْنُ
جَهْمٍ وَأَبُو الرّومِ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ
عَبْدِ الدّارِ وَفِرَاسُ بْنُ النّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ بْنِ
عَلْقَمَةَ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ خَمْسَةُ نَفَرٍ .Sوَذَكَرَ
فِي أَوّلِ مَنْ خَرَجَ إلَى الْحَبَشَةِ : عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ وَزَوْجَهُ
رُقَيّةَ بِنْتَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَكَانَ حِينَ
تَزَوّجَهَا يُغَنّيهَا النّسَاءُ
أَحْسَنُ شَخْصَيْنِ رَأَى إنْسَانٌ ... رُقَيّةُ وَبَعْلُهَا عُثْمَانُ
[ ص 91 ] كَانَ يُكَنّى ، وَمَاتَ عَبْدُ اللّهِ وَهُوَ ابْنُ سِتّ سِنِينَ
وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ أَنّ دِيكًا نَقَرَهُ فِي عَيْنِهِ فَتَوَرّمَ وَجْهُهُ
فَمَرِضَ فَمَاتَ . وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ أَرْبَعٍ مِنْ
الْهِجْرَةِ ثُمّ كُنّيَ بَعْدَ ذَلِكَ أَبَا عَمْرٍو ، وَهَذَا هُوَ عَبْدُ
اللّهِ الْأَصْغَرُ . وَعَبْدُ اللّهِ الْأَكْبَرُ هُوَ ابْنُهُ مِنْ فَاخِتَةَ
بِنْتِ غَزْوَانَ وَأَكْبَرُ بَنِيهِ بَعْدَ هَذَيْنِ عَمْرٌو ، وَمِنْ بَنِيهِ
عُمَرُ وَخَالِدٌ وَسَعِيدٌ وَالْوَلِيدُ وَالْمُغِيرَةُ وَعَبْدُ الْمَلِكِ
وَأَبَانُ ، وَفِي السّيرَةِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الرّوَايَةِ أَنّ رُقَيّةَ
كَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ الْبَشَرِ وَأَنّ رِجَالًا مِنْ الْحَبَشَةِ رَأَوْهَا
بِأَرْضِهِمْ فَكَانُوا يُدَرْكِلُونَ إذَا رَأَوْهَا إعْجَابًا مِنْهُمْ
بِحُسْنِهَا ، فَكَانَتْ تَتَأَذّى بِذَلِكَ وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ
لِغُرْبَتِهِمْ أَنْ يَقُولُوا لَهُمْ شَيْئًا ، حَتّى خَرَجَ أُولَئِكَ النّفَرُ
مَعَ النّجَاشِيّ إلَى عَدُوّهِ الّذِي كَانَ ثَارَ عَلَيْهِ فَقُتِلُوا جَمِيعًا
، فَاسْتَرَاحَتْ مِنْهُمْ وَظَهَرَ النّجَاشِيّ عَلَى عَدُوّهِ وَرَوَى
الزّبَيْرُ فِي حَدِيثٍ أَسْنَدَهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - بَعَثَ رَجُلًا بِلُطُفٍ إلَى عُثْمَانَ وَرُقَيّةَ فَاحْتُبِسَ
عَلَيْهِ الرّسُولُ فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ إنْ شِئْت أَخْبَرْتُك مَا
حَبَسَك ، قَالَ نَعَمْ قَالَ وَقَفْت تَنْظُرُ إلَى عُثْمَانَ وَرُقَيّةَ
تَعْجَبُ مِنْ حُسْنِهِمَا وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ تَسْمِيَةَ الْمُهَاجِرِينَ
إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَقَدْ تَقَدّمَ التّعْرِيفُ بِبَعْضِهِمْ وَذَكَرْنَا
سَبَبَ إسْلَامِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ وَأَنّهُ رَأَى نُورًا خَرَجَ
مِنْ زَمْزَمَ أَضَاءَتْ لَهُ مِنْهُ نَخْلُ الْمَدِينَةِ ، حَتّى رَأَوْا
الْبُسْرَ فِيهَا ، فَقَصّ رُؤْيَاهُ فَقِيلَ لَهُ هَذِهِ بِئْرُ بَنِي عَبْدِ
الْمُطّلِبِ ، وَهَذَا النّورُ فِيهِمْ يَكُونُ فَكَانَ سَبَبًا لِبِدَارِهِ
لِلْإِسْلَامِ .
رُؤْيَا سَعْدٍ وَخَالِدٍ وَلَدَيْ الْعَاصِ
[ ص 92 ] كَانَتْ لِأَخِيهِ وَأَنّ عَمْرًا هُوَ الّذِي عَبّرَهَا لَهُ وَهَذَا
هُوَ الصّحِيحُ فِيهَا ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ وَأَمّا أَخُوهُ خَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ
، فَكَانَ يَرَى - قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ - نَفْسَهُ قَدْ أَشْفَى عَلَى نَارٍ
تَأَجّجَ وَكَأَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَدْ أَخَذَ
بِحُجْزَتِهِ يَصْرِفُهُ عَنْهَا ، فَلَمّا اسْتَيْقَظَ عَلِمَ أَنّ نَجَاتَهُ
مِنْ النّارِ عَلَى يَدَيْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
فَلَمّا أَظْهَرَ إيمَانَهُ ضَرَبَهُ أَبُوهُ بِمَقْرَعَةِ حَتّى كَسَرَهَا عَلَى
رَأْسِهِ وَحَلَفَ أَلّا يُنْفِقَ عَلَيْهِ وَأَغْرَى بِهِ إخْوَتَهُ فَطَرَدُوهُ
وَآذَوْهُ [ ص 93 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حَتّى هَاجَرَ إلَى أَرْضِ
الْحَبَشَةِ - كَمَا ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ - وَأَبُوهُ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ
أَبُو أُحَيْحَةَ الّذِي يَقُولُ فِيهِ الْقَائِلُ
أَبُو أُحَيْحَةَ
أَبُو أُحَيْحَةَ مَنْ يَعْتَمّ عِمّتَهُ ... يُضْرَبُ وَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ
وَذَا عَدَدِ
[ ص 94 ] وَكَانَ إذَا اعْتَمّ لَمْ يَعْتَمّ قُرَشِيّ إعْظَامًا لَهُ وَقَدْ
قِيلَ فِي عِمّتِهِ أَيْضًا مَا أَنْشَدَهُ عَمْرُو بْنُ بَحْرٍ الْجَاحِظُ :
وَكَانَ أَبُو أُحَيْحَةَ قَدْ عَلِمْتُمْ ... بِمَكّةَ غَيْرَ مُهْتَضِمٍ ذَمِيمِ
إذَا شَدّ الْعِصَابَةَ ذَاتَ يَوْمٍ ... وَقَامَ إلَى الْمَجَالِسِ وَالْخُصُومِ
لَقَدْ حَرُمَتْ عَلَى مَنْ كَانَ يَمْشِي ... بِمَكّةَ غَيْرَ مُحْتَقِرٍ لَئِيمِ
مَاتَ أُحَيْحَةُ الّذِي كَانَ يُكْنَى بِهِ فِي حَرْبِ الْفِجَارِ ، وَأَسْلَمَ
مِنْ بَنِيهِ أَرْبَعَةٌ أَبَانٌ وَخَالِدٌ [ ص 95 ] سَمّاهُ رَسُولُ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَبْدَ اللّهِ وَمَاتَ أُحَيْحَةُ بْنُ سَعِيدٍ
وَالْعَاصُ بْنُ سَعِيدٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ بَنِيهِ عَلَى الْكُفْرِ قُتِلَ
الْعَاصُ مِنْهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ كَافِرًا .
أَمَةُ بِنْتُ خَالِدٍ وَأَبُوهَا
[ ص 96 ] وَذَكَرَ أَمَةَ بِنْتَ خَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ الّتِي وُلِدَتْ بِأَرْضِ
الْحَبَشَةِ ، قَالَ وَتَزَوّجَهَا الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوّامِ ، وَهِيَ الّتِي
كَسَاهَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهِيَ صَغِيرَةٌ
وَجَعَلَ يَقُولُ سَنّاهْ سَنّاهْ يَا أُمّ خَالِدٍ أَيْ حَسَنٌ حَسَنٌ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ
، وَكَانَتْ قَدْ تَعَلّمَتْ لِسَانَ الْحَبَشَةِ ، لِأَنّهَا وُلِدَتْ
بِأَرْضِهِمْ وَوَلَدَتْ لِلزّبَيْرِ عَمْرًا وَخَالِدًا ، يُقَالُ إنّ أَبَاهَا
خَالِدَ بْنَ سَعِيدٍ أَوّلُ مَنْ كَتَبَ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
مَاتَ بِأَجْنَادِينَ شَهِيدًا ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - قَدْ اسْتَعْمَلَهُ عَلَى صَنْعَاءَ [ ص 97 ] وَالْيَمَنِ ، فَلَمّا
تُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَرَادَ أَبُو بَكْرٍ
أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ فَقَالَ لَا أَعْمَلُ لِأَحَدِ بَعْدَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَبَدًا ، وَيُرْوَى أَنّ أَبَاهُ سَعِيدَ بْنَ
الْعَاصِ مَرِضَ فَقَالَ إنْ رَفَعَنِي اللّهُ مِنْ مَرَضِي لَا يُعْبَدُ إلَهُ
ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ بِمَكّةَ أَبَدًا ، فَقَالَ ابْنُهُ خَالِدٌ اللّهُمّ لَا
تَرْفَعْهُ فَهَلَكَ مَكَانَهُ هَؤُلَاءِ بَنُو سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ
أُمَيّةَ : [ ص 98 ]
عبد شمس
وَعُثْمَانُ هُوَ ابْنُ عَفّانَ بْنُ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ
شَمْسِ ، وَلَا يُخْتَلَفُ فِي عَبْدِ شَمْسٍ أَنّهُ بِالدّالِ وَأَمّا عَبْ
شَمْسِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ ، فَقَالَ فِيهِ أَبُو
عُبَيْدٍ وَالْقُتَبِيّ : عَبْدُ شَمْسٍ كَمَا فِي الْأَوّلِ . وَقَالَ أَكْثَرُ
النّاسِ فِيهِ عَبْ شَمْسٍ ثُمّ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ فَقِيلَ مَعْنَاهُ
عَبْدُ شَمْسٍ ، لَكِنْ أُدْغِمَتْ الدّالُ وَقِيلَ بَلْ [ عَبْ شَمْسٍ و ] عَبْ
الشّمْسِ هُوَ ضَوْءُهَا أَوْ صَفَاؤُهَا ، وَقِيلَ فِي الْمَثَلِ هُوَ أَبْرَدُ
مِنْ عَبْقُرّ أَيْ الْبَرْدِ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ وَهُوَ الْمُبَرّدُ مِنْ عَبْ
قُرّ أَيْ بَيَاضُ قُرّ وَمِنْ حَبْ قُرّ أَيْضًا . وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ
أَعْنِي : عَبْ شَمْسٍ . وَهُوَ مَرْوِيّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ . وَقَالَ مَعْنَاهُ
عَبْءُ شَمْسٍ بِالْهَمْزِ . ثُمّ حُذِفَتْ الْهَمْزَةُ تَسْهِيلًا . وَعَبْءُ
الشّمْسِ . وَعَبْوُهَا مِثْلُهُ .
الْمُهَاجِرُونَ
مِنْ بَنِي زُهْرَةَ وَبَنِيّ هُذَيْلٍ وَبَهْرَاءَ
وَمِنْ بَنِي زُهْرَةَ بْنِ كِلَابِ : عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ
عَوْفِ بْنِ عَبْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ وَعَامِرُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ ،
وَأَبُو وَقّاصٍ مَالِكُ بْنُ أُهَيْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ ،
وَالْمُطّلِبُ بْنُ أَزْهَرَ بْنِ عَبْدِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ
زُهْرَةَ ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ رَمْلَةُ بِنْتُ أَبِي عَوْفِ بْنِ ضُبَيْرَةَ بْنِ
سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ وَلَدَتْ لَهُ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ عَبْدَ
اللّهِ بْنَ الْمُطّلِبِ . وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ مِنْ هُذَيْلٍ : عَبْدُ اللّهِ
بْنُ مَسْعُودِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ شَمْخِ بْنِ مَخْزُومِ بْنِ صَاهِلَةَ بْنِ
كَاهِلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ تَمِيمِ بْنِ سَعْدِ بْنِ هُذَيْلٍ ، وَأَخُوهُ
عُتْبَةُ بْنُ مَسْعُودٍ . [ ص 95 ] بَهْرَاءَ : الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرِو بْنِ
ثَعْلَبَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ ثُمَامَةَ بْنِ مَطْرُودِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ لُؤَيّ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ
الشّرِيدِ بْنِ أَبِي أَهْوَزَ بْنِ أَبِي فَائِشِ بْنِ دُرَيْمِ بْنِ الْقَيْنِ
بْنِ أَهْوَدَ بْنِ بَهْرَاءَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَافِ بْنِ قُضَاعَةَ . قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ هَزْلُ بْنُ فَاسِ بْنِ ذَرّ وَدَهِيرُ بْنُ ثَوْرٍ .
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ يُقَالُ لَهُ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ بْنِ
عَبْدِ يَغُوثَ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ وَذَلِكَ أَنّهُ
تَبَنّاهُ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَحَالَفَهُ سِتّةُ نَفَرٍ .
الْمُهَاجِرُونَ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ وَبَنِيّ مَخْزُومٍ
وَمِنْ بَنِي تَيْمِ بْنِ مُرّةَ الْحَارِثُ بْنُ خَالِدِ بْنِ صَخْرِ بْنِ عَامِرِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمٍ مَعَهُ امْرَأَتُهُ رَيْطَةُ
بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ جَبَلَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ
تَيْمٍ وَلَدَتْ لَهُ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ مُوسَى بْنَ الْحَارِثِ وَعَائِشَةَ
بِنْتَ الْحَارِثِ وَزَيْنَبَ بِنْتَ الْحَارِثِ ، وَفَاطِمَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ
وَعَمْرَو بْنَ عُثْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمٍ ،
رَجُلَانِ .
وَمِنْ بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ
أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ ، وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي
أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ ،
وَلَدَتْ لَهُ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ ، وَاسْمُ
أَبِي سَلَمَةَ عَبْدُ اللّهِ وَاسْمُ أُمّ سَلَمَةَ هِنْدٌ . وَشَمّاسُ بْنُ
عُثْمَانَ بْنِ الشّرِيدِ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ هَرَمِيّ بْنِ عَامِرِ بْنِ
مَخْزُومٍ
مِنْ سِيرَةِ الشّمّاسِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَاسْمُ شَمّاسٍ عُثْمَانُ وَإِنّمَا سُمّيَ شَمّاسًا ؛
لِأَنّ شَمّاسًا مِنْ الشّمّاسَةِ قَدِمَ مَكّةَ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَكَانَ
جَمِيلًا فَعَجِبَ النّاسُ مِنْ جَمَالِهِ فَقَالَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ -
وَكَانَ خَالَ شَمّاسٍ أَنَا آتِيكُمْ بِشَمّاسِ أَحْسَنَ مِنْهُ فَجَاءَ بِابْنِ
أُخْتِهِ عُثْمَانَ بْنِ عُثْمَانَ ، فَسُمّيَ شَمّاسًا . فِيمَا ذَكَرَ ابْنُ
شِهَابٍ وَغَيْرُهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَهَبّارُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ
عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ ،
وَأَخُوهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ سُفْيَانَ ، وَهِشَامُ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ
الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ [ ص 96 ] وَسَلَمَةُ
بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ ،
وَعَيّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ
بْنِ مَخْزُومٍ .
الْمُهَاجِرُونَ مِنْ حُلَفَاءِ بَنِي مَخْزُومٍ وَمِنْ بَنِي جُمَحَ
وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ مُعَتّبُ بْنُ عَوْفِ بْنِ عَامِرِ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ
عَفِيفِ بْنِ كُلَيْبِ بْنِ حَبَشِيّةَ ابْنِ سَلُولَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرٍو ،
مِنْ خُزَاعَةَ ، وَهُوَ الّذِي يُقَالُ لَهُ عَيْهَامَةُ ثَمَانِيَةُ نَفَرٍ .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ حَبَشِيّةُ ابْنُ سَلُولَ وَهُوَ الّذِي يُقَالُ
لَهُ مُعَتّبُ بْنُ حَمْرَاءَ . وَمِنْ بَنِي جُمَحَ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ
بْنِ كَعْبٍ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ
بْنِ جُمَحَ ، وَابْنُهُ السّائِبُ بْنُ عُثْمَانَ وَأَخَوَاهُ قُدَامَةُ بْنُ
مَظْعُونٍ ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ مَظْعُونٍ ، وَحَاطِبُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ
مَعْمَرِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ ، مَعَهُ
امْرَأَتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُجَلّلِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي قَيْسِ
بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ وَابْنَاهُ
مُحَمّدُ بْنُ حَاطِبٍ وَالْحَارِثُ بْنُ حَاطِبٍ ، وَهُمَا لِبِنْتِ الْمُجَلّلِ
وَأَخُوهُ حَطّابُ بْنُ الْحَارِثِ ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ فُكَيْهَةُ بِنْتُ
يَسَارٍ ، وَسُفْيَانُ بْنُ مَعْمَرِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ
بْنِ جُمَحَ مَعَهُ ابْنَاهُ جَابِرُ بْنُ سُفْيَانَ وَجُنَادَةُ بْنُ سُفْيَانَ
وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ حَسَنَةُ وَهِيَ أُمّهُمَا ، وَأَخُوهُمَا مِنْ أُمّهِمَا :
شُرَحْبِيلُ بْنُ حَسَنَةَ أَحَدُ الْغَوْثِ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : شُرَحْبِيلُ
بْنُ عَبْدِ اللّهِ أَحَدُ الْغَوْثِ بْنِ مُرّ ، أَخِي تَمِيمِ بْنِ مُرّ .
الْمُهَاجِرُونَ مِنْ بَنِي سَهْمٍ وَبَنِيّ عَدِيّ وَبَنِيّ عَامِرٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَعُثْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ أُهْبَانَ بْنِ وَهْبِ
بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ وَبَنِيّ
هُذَيْلٍ وَبَهْرَاءَ :، أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا . [ ص 97 ] وَمِنْ بَنِي سَهْمِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبٍ خُنَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ
عَدِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ
بْنِ عَدِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْلٍ ، وَهِشَامُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلِ بْنِ
سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْعَاصُ بْنُ وَائِلِ بْنِ هَاشِمِ
بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ بْنِ
قَيْسِ بْنِ عَدِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ ، وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْحَارِثِ
بْنِ قَيْسِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ ،
وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ
، وَالْحَارِثُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ
، وَمَعْمَرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ ،
وَبِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ ،
وَأَخٌ لَهُ مِنْ أُمّهِ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ يُقَالُ لَهُ سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو ،
وَسَعِيدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ ،
وَالسّائِبُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ ،
وَعُمَيْرُ بْنُ رِئَابِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ مُهَشّمِ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ
وَمَحْمِيّةُ بْنُ الْجَزَاءِ حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَنِي زُبَيْدٍ ، أَرْبَعَةَ
عَشَرَ رَجُلًا . وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ : مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ
بْنِ نَضْلَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ حُرْثَانَ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُبَيْدِ
بْنِ عُوَيْجِ بْنِ عَدِيّ وَعُرْوَةُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ حُرْثَانَ بْنِ
عَوْفِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُوَيْجِ بْنِ عَدِيّ وَعَدِيّ بْنُ نَضْلَةَ بْنِ
عَبْدِ الْعُزّى بْنِ حُرْثَانَ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُوَيْجِ بْنِ
عَدِيّ وَابْنُهُ النّعْمَانُ بْنُ عَدِيّ وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ ، حَلِيفٌ
لِآلِ الْخَطّابِ مِنْ عَنَزِ بْنِ وَائِلٍ ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ لَيْلَى بِنْتُ
أَبِي حَثْمَةَ بْنِ غَانِمٍ خَمْسَةُ نَفَرٍ . وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ
: أَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْمِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ أَبِي قَيْسِ بْنِ
عَبْدِ وُدّ بْنِ نَضْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ مَعَهُ
امْرَأَتُهُ أُمّ كُلْثُومِ بِنْتِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ
عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ وَعَبْدُ اللّهِ
بْنُ مَخْرَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ أَبِي قَيْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ
نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ
عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ
حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ ، وَسَلِيطُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ
وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ وَأَخُوهُ السّكْرَانُ
بْنُ عَمْرٍو ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ
عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ
عَامِرٍ [ ص 98 ] وَمَالِكُ بْنُ زَمْعَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ
عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ مَعَهُ
امْرَأَتُهُ عَمْرَةُ بِنْتُ السّعْدِيّ بْنِ وَقْدَانَ بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ
عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ ، وَحَاطِبُ بْنُ
عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ
حِسْلِ بْنِ عَامِرٍ وَسَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ ، حَلِيفٌ لَهُمْ . ثَمَانِيَةُ
نَفَرٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ مِنْ الْيَمَنِ .
الْمُهَاجِرُونَ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ : أَبُو عُبَيْدَةَ
بْنُ الْجَرّاحِ ، وَهُوَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْجَرّاحِ بْنِ
هِلَالِ بْنِ أُهَيْبِ بْنِ ضَبّةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ ، وَسُهَيْلُ
ابْنُ بَيْضَاءَ وَهُوَ سُهَيْلُ بْنُ وَهْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ
أُهَيْبِ بْنِ ضَبّةَ بْنِ الْحَارِثِ وَلَكِنّ أُمّهُ غَلَبَتْ عَلَى نَسَبِهِ فَهُوَ
يُنْسَبُ إلَيْهَا ، وَهِيَ دَعْدُ بِنْتُ جَحْدَمِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ ظَرِبِ
بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ ، وَكَانَتْ تُدْعَى : بَيْضَاءَ وَعَمْرُو بْنُ
أَبِي سَرْحِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ أُهَيْبِ بْنِ ضَبّةَ بْنِ
الْحَارِثِ وَعِيَاضُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي شَدّادِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ
هِلَالِ بْنِ أُهَيْبِ بْنِ ضَبّةَ بْنِ الْحَارِثِ ، وَيُقَالُ بَلْ رَبِيعَةُ
بْنُ هِلَالِ بْنِ مَالِكِ بْنِ ضَبّةَ بْنِ الْحَارِثِ وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ
بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي شَدّادِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ مَالِكِ بْنِ
ضَبّةَ بْنِ الْحَارِثِ ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ غَنْمِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ
أَبِي شَدّادِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ مَالِكِ بْنِ ضَبّةَ بْنِ
الْحَارِثِ وَسَعْدُ بْنُ عَبْدِ قَيْسِ بْنِ لَقِيطِ بْنِ عَامِرِ بْنِ أُمَيّةَ
بْنِ ظَرِبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ ، وَالْحَارِثُ بْنِ عَبْدِ قَيْسِ بْنِ
لَقِيطِ بْنِ عَامِرِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ ظَرِبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ .
ثَمَانِيَةُ نَفَرٍ . [ ص 99 ]
عَدَدُ الّذِينَ هَاجَرُوا إلَى الْحَبَشَةِ
فَكَانَ جَمِيعُ مَنْ لَحِقَ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَهَاجَرَ إلَيْهَا مِنْ
الْمُسْلِمِينَ سِوَى أَبْنَائِهِمْ الّذِينَ خَرَجُوا بِهِمْ مَعَهُمْ صِغَارًا
وَوُلِدُوا بِهَا ، ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ رَجُلًا ، إنْ كَانَ عَمّارُ بْنُ
يَاسِرٍ فِيهِمْ وَهُوَ يُشَكّ فِيهِ .Sعَمّارٌ
لَمْ يُهَاجِرْ إلَى الْحَبَشَةِ
[ ص 99 ] وَشَكّ ابْنُ إسْحَاقَ فِي عَمّارِ بْنِ يَاسِرٍ : هَلْ هَاجَرَ إلَى
أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، أَمْ لَا . وَالْأَصَحّ عِنْدَ أَهْلِ السّيَرِ
كَالْوَاقِدِيّ وَابْنِ عُقْبَةَ . وَغَيْرِهِمَا أَنّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ .
حَوْلَ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ مَنْ هَاجَرَ إلَى
أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِمْ تَمِيمَ بْنَ الْحَارِثِ .
وَذَكَرَهُ الْوَاقِدِيّ وَغَيْرُهُ . وَالْحَارِثُ بْنُ قَيْسٍ كَانَ أَبُوهُ
مِنْ الْمُسْتَهْزِئِينَ الّذِي أَنْزَلَ اللّهُ فِيهِمْ { إِنّا كَفَيْنَاكَ
الْمُسْتَهْزِئِينَ } [ الْحِجْرِ : 95 ] .
حَوْلَ بَنِي زُهْرَةَ وَطَلِيبِ بْنِ عَبْدٍ
وَذَكَرَ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ مَنْ هَاجَرَ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَهُمْ
سِتّةُ نَفَرٍ وَلَمْ يَذْكُرْ السّابِعَ وَهُوَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ شِهَابٍ جَدّ
مُحَمّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، وَكَانَ
اسْمُهُ عَبْدَ الْجَانّ فَسَمّاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
عَبْدَ اللّهِ مَاتَ بِمَكّةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَأَخُوهُ عَبْدُ اللّهِ
الْأَصْغَرُ شَهِدَ أُحُدًا مَعَ الْمُشْرِكِينَ ثُمّ أَسْلَمَ . وَذَكَرَ
الْمُطّلِبَ بْنَ عَبْدِ عَوْفٍ وَلَمْ يَذْكُرْ أَخَاهُ طَلِيبًا ، وَكِلَاهُمَا
هَاجَرَ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَمَاتَ فِيهَا ، وَهُمَا أَخَوَا أَزْهَرِ
بْنِ عَبْدِ عَوْفٍ .
مِنْ
شِعْرِ الْهِجْرَةِ الْحَبَشِيّةِ
وَكَانَ مِمّا قِيلَ مِنْ الشّعْرِ فِي الْحَبَشَةِ ، أَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ
الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ بْنِ سَعْدِ بْنِ سَهْمٍ ، حِينَ أَمِنُوا
بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَحَمِدُوا جِوَارَ النّجَاشِيّ ، وَعَبَدُوا اللّهَ لَا
يَخَافُونَ عَلَى ذَلِكَ أَحَدًا ، وَقَدْ أَحْسَنَ النّجَاشِيّ جِوَارَهُمْ حِينَ
نَزَلُوا بِهِ قَالَ [ ص 100 ]
يَا رَاكِبًا بَلّغَن عَنّي مُغَلْغَلَةً ... مَنْ كَانَ يَرْجُو بَلَاغَ اللّهِ
وَالدّينِ
كُلّ امْرِئِ مِنْ عِبَادِ اللّهِ مُضْطَهَدٍ ... بِبَطْنِ مَكّةَ مَقْهُورٍ
وَمَفْتُونِ
أَنّا وَجَدْنَا بِلَادَ اللّهِ وَاسِعَةً ... تُنْجِي مِنْ الذّلّ وَالْمَخْزَاةِ
وَالْهُونِ
فَلَا تُقِيمُوا عَلَى ذُلّ الْحَيَاةِ وَخَزَ ... ي فِي الْمَمَاتِ وَعَيْبٍ
غَيْرِ مَأْمُونِ
إنّا تَبِعْنَا رَسُولَ اللّهِ وَاطّرَحُوا ... قَوْلَ النّبِيّ وَعَالُوا فِي
الْمَوَازِينِ
فَاجْعَلْ عَذَابَك بِالْقَوْمِ الّذِينَ بَغَوْا ... وَعَائِذًا بِك أَنْ
يَعْلُوا فَيُطْغُونِي
[ ص 101 ] وَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْحَارِثِ أَيْضًا ، يَذْكُرُ نَفْيَ
قُرَيْشٍ إيّاهُمْ مِنْ بِلَادِهِمْ وَيُعَاتِبُ بَعْضَ قَوْمِهِ فِي ذَلِك : [ ص
102 ]
أَبَتْ كَبِدِي لَا أَكْذِبَنك قِتَالُهُمْ ... عَلَيّ وَتَأْبَاهُ عَلَيّ
أَنَامِلِي
وَكَيْفَ قِتَالِي مَعْشَرًا أَدّبُوكُمْ ... عَلَى الْحَقّ أَنْ لَا تَأْشِبُوهُ
بِبَاطِلِ
نَفَتْهُمْ عِبَادُ الْجِنّ مِنْ حُرّ أَرْضِهِمْ ... فَأَضْحَوْا عَلَى أَمْرٍ
شَدِيدِ الْبَلَابِلِ
فَإِنّ تَكُ كَانَتْ فِي عَدِيّ أَمَانَةٌ ... عَدِيّ بْنِ سَعْدٍ عَنْ تُقًى ،
أَوْ تَوَاصُلِ
فَقَدْ كُنْت أَرْجُو أَنّ ذَلِكَ فِيكُمْ ... بِحَمْدِ الّذِي لَا يُطّبَى
بِالْجَعَائِلِ
وَبَدّلْت شِبْلًا شِبْلَ كُلّ خَبِيثَةٍ ... بِذِي فَجْرٍ مَأْوَى الضّعَافِ
الْأَرَامِلِ
[ ص 103 ]Sمِنْ
شِعْرِ الْهِجْرَةِ الْحَبَشِيّةِ وَمَسَائِلُهُ النّحْوِيّةُ
فَصْلٌ
وَأَنْشَدَ لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحَارِثِ مَا قَالَهُ فِي أَرْضِ الْحَبَشَةِ ،
وَفِيهِ قَوْلُهُ [ ص 100 ]
أَلْحِقْ عَذَابَك بِالْقَوْمِ الّذِينَ طَغَوْا ... وَعَائِذًا بِك أَنْ يَعْلُو
فَيُطْغُونِي
أَنْشَدَهُ سِيبَوَيْهِ فِيمَا يَنْتَصِبُ عَلَى الْفِعْلِ الْمَتْرُوكِ
إظْهَارُهُ وَذَلِكَ لِحِكْمَةِ وَهِيَ أَنّ الْفِعْلَ لَوْ ظَهَرَ لَمْ يَخْلُ
أَنْ يَكُونَ مَاضِيًا أَوْ مُسْتَقْبَلًا ، فَالْمَاضِي يُوهِمُ الِانْقِطَاعَ
وَالْمُتَكَلّمُ إنّمَا يُرِيدُ أَنّهُ فِي مَقَامِ الْعَائِذِ وَفِي حَالِ عَوْذٍ
وَالْفِعْلُ الْمُسْتَقْبَلُ أَيْضًا يُؤْذِنُ بِالِانْتِظَارِ وَفِعْلُ الْحَالِ
مُشْتَرَكٌ مَعَ الْمُسْتَقْبَلِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ يُوهِمُ أَنّهُ
غَيْرُ عَائِذٍ فَكَانَ مَجِيئُهُ بِلَفْظِ الِاسْمِ الْمَنْصُوبِ عَلَى الْحَالِ
أَدَلّ عَلَى مَا يُرِيدُ فَإِنّ عَائِذًا كَقَائِمِ وَقَاعِدٍ وَهُوَ الّذِي
يُسَمّى عِنْدَ الْكُوفِيّينَ الدّائِمُ فَالْقَائِلُ عَائِذًا بِك يَا رَبّ
إنّمَا يُرِيدُ أَنَا فِي حَالِ عِيَاذٍ بِك ، وَالْعَامِلُ فِي هَذِهِ الْحَالِ
تَكَلّمُهُ وَنِدَاؤُهُ أَيْ أَقُولُ قَوْلِي هَذَا عَائِذًا ، وَلَيْسَ
تَقْدِيرُهُ عُذْت وَلَا أَعُوذُ إنّمَا يُرِيدُ أَنْ يَسْمَعَهُ رَبّهُ أَوْ يَرَاهُ
عَائِذًا بِهِ . وَقَوْلُهُ أَنْ يَعْلُو يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَنْ مَعَ مَا
بَعْدَهَا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَفِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عِنْدَ النّحْوِيّينَ أَمّا
النّصْبُ فَعَلَى إضْمَارِ الْفِعْلِ لِأَنّهُ قَالَ عَائِذًا ، فَأَعْلَمَ أَنّهُ
خَائِفٌ فَكَأَنّهُ قَالَ أَخَافُ أَنْ يَعْلُو فَيُطْغُونِي ، وَأَمّا الْخَفْضُ
فَعَلَى إضْمَارِ حَرْفِ الْجَرّ فَكَأَنّهُ قَالَ مِنْ أَنْ يَعْلُو ، وَهُوَ
مَذْهَبُ الْخَلِيلِ وَسِيبَوَيْهِ فِي أَنْ الْمُخَفّفَةِ وَأَنْ الْمُشَدّدَةِ
نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى : { إِنّ هَذِهِ أُمّتُكُمْ أُمّةً وَاحِدَةً } [
الْأَنْبِيَاءِ 92 ] تَقْدِيرُهُ لِأَنّ هَذِهِ وَجَازَ إضْمَارُ حَرْفِ الْجَرّ
فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ وَإِنْ كَانَتْ حُرُوفُ الْجَرّ لَا تُضْمَرُ
لِأَنّهُمَا مَوْصُولَتَانِ بِمَا بَعْدَهُمَا ، فَطَالَ الِاسْمُ بِالصّلَةِ
فَجَازَ حَذْفُ الْجَرّ تَخْفِيفًا . وَلِقَائِلِ أَنْ يَقُولَ هَذِهِ دَعْوَى
ادّعَيْتُمْ أَنّ أَنْ وَمَا بَعْدَهَا اسْمٌ مَخْفُوضٌ وَهُوَ لَا يَظْهَرُ فِيهِ
الْخَفْضُ ثُمّ بَنَيْتُمْ التّعْلِيلَ عَلَى غَيْرِ أَصْلٍ لِأَنّ الْخَفْضَ لَمْ
يَثْبُتْ بَعْدُ فَنَقُولُ إنّمَا عَلِمْنَا أَنّهُ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ
لِوُقُوعِهِ فِي مَوْضِعٍ لَا يَقَعُ فِيهِ إلّا الْمَخْفُوضُ بِحَرْفِ الْجَرّ
نَحْوَ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ
اللّهُ } [ التّوْبَةِ 97 ] وَنَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى : [ ص 101 ] { أَحَقّ أَنْ
تَقُومَ فِيهِ } [ التّوْبَةُ 108 ] وَنَحْوُ قَوْلِهِ { أَنْ تَضِلّ إِحْدَاهُمَا
} [ الْبَقَرَةُ 28 ] . فَقَوْلُهُ تَعَالَى : أَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا ،
مَعْنَاهُ بِأَنْ لَا يَعْلَمُوا ، فَلَوْ كَانَ قَبْلَ أَنْ فَعَلَ لَقُلْنَا :
حُذِفَ حَرْفُ الْجَرّ فَتَعَدّى الْفِعْلُ فَنَصَبَ وَلَكِنْ أَجَدْرُ وَأَحَقّ
اسْمَانِ لَا يَعْمَلَانِ فَمِنْ هَهُنَا عَرَفَ النّحْوِيّونَ أَنّهُ فِي
مَوْضِعِ خَفْضٍ إذْ لَا نَاصِبَ لَهُ وَأَمّا مَا اعْتَلّوا بَهْ مِنْ طُولِ
الِاسْمِ بِالصّلَةِ وَأَنّ ذَلِكَ هُوَ الّذِي سَوّغَ لَهُمْ إضْمَارَ حَرْفِ
الْجَرّ فَتَعْلِيلٌ مَدْخُولٌ يُنْتَقَضُ عَلَيْهِمْ بِالْأَسْمَاءِ
الْمَوْصُولَةِ كَاَلّذِي وَمَنْ وَمَا ، فَإِنّهَا قَدْ طَالَتْ بِالصّلَةِ
وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ إضْمَارُ حَرْفِ الْجَرّ فِيهَا ، لَا تَقُولُ خَرَجْت
مَا عِنْدَك ، وَلَا هَرَبْت الّذِي عِنْدَك أَيْ مَنْ الّذِي عِنْدَك ، وَتَقُولُ
خَرَجْت أَنْ يَرَانِي زَيْدٌ وَفَرَرْت أَنْ يَرَانِي عَمْرٌو ، أَيْ مِنْ أَنْ
يَرَانِي ، وَلِأَنْ يَرَانِي بَدَلٌ عَلَى أَنّ الْعِلّةَ غَيْرُ مَا قَالُوا ، وَهِيَ
أَنّ أَنْ مَعَ الْفِعْلِ لَيْسَ بِاسْمِ مَحْضٍ وَإِنّمَا هُوَ فِي تَأْوِيلِ
اسْمٍ وَالِاسْمُ الْمَحْضُ مَا دَلّ عَلَيْهِ حَرْفُ الْجَرّ فَلَا بُدّ إذًا
مِنْ إظْهَارِ حَرْفِ الْجَرّ إذَا جِئْت بِهِ لِأَنّهُ اسْمٌ قَابِلٌ لِدُخُولِ
الْخَوَافِضِ عَلَيْهِ وَأَمّا أَنّ فَحَرْفٌ مَحْضٌ لَا يَصِحّ دُخُولُ حَرْفِ
جَرّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الْفِعْلِ الْمُتّصِلِ بِهِ فَلَا تَقُولُ هُوَ اسْمٌ
مَخْفُوضٌ إنّمَا هُوَ فِي تَأْوِيلِ اسْمٍ مَخْفُوضٍ فَمِنْ هَهُنَا فَرّقَتْ
الْعَرَبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ فَإِذَا أَدْخَلْت
عَلَيْهِ حَرْفَ الْجَرّ مُظْهَرًا جَازَ لِأَنّهُ فِي تَأْوِيلِ اسْمٍ وَإِذَا
أَضْمَرْت حَرْفَ الْجَرّ جَازَ أَيْضًا الْتِفَاتًا إلَى أَنّ الْحَرْفَ الْجَرّ
لَا يَدْخُلُ عَلَى الْحَرْفِ وَلَا عَلَى الْفِعْلِ فَحَسَنٌ إسْقَاطُهُ مُرَاعَاةً
لِلَفْظِ أَنْ وَلِلْفِعْلِ الْفِعْل ، وَقُلْنَا : هُوَ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ
عَلَى مَعْنَى أَنّ الْكَلَامَ يُؤَوّلُ إلَى الِاسْمِ الْمَخْفُوضِ لَا أَنّهُ
يَظْهَرُ فِيهِ خَفْضٌ أَوْ يُقَدّرُ تَقْدِيرَ الْمَبْنِيّ الّذِي مَنَعَهُ
الْبِنَاءُ مِنْ ظُهُورِ الْخَفْضِ فِيهِ حَتّى يُشْبِهَ أَنْ فَنَقُولُ هُوَ
اسْمٌ مَبْنِيّ عَلَى السّكُونِ ، لَا بَلْ نَقُولُ هِيَ حَرْفٌ وَالْحَرْفُ لَا
يَدْخُلُ عَلَيْهِ حَرْفُ الْجَرّ لَا مُضْمَرًا وَلَا مُظْهَرًا ، وَإِنّمَا هُوَ
تَقْدِيرٌ فِي الْمَعْنَى ، لَا فِي اللّفْظِ فَافْهَمْهُ .
لَا يُضَافُ اسْمٌ إلَى أَنّ الْمَصْدَرِيّةِ
فَصْلٌ وَاعْلَمْ أَنّ [ أَنْ ] الّتِي فِي تَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ لَا يُضَافُ
إلَيْهَا اسْمٌ . تَقُولُ هَذَا مَوْضِعُ أَنْ تَقْعُدَ وَيَوْمُ خُرُوجِك ، وَلَا
تَقُولُ يَوْمُ أَنْ تَخْرُجَ لِأَنّهَا لَيْسَتْ بِاسْمِ كَمَا قَدّمْنَا ،
وَإِنّمَا تُضَافُ إلَى الْأَسْمَاءِ الْمَحْضَةِ لَا إلَى التّأْوِيلِ وَلَا
يُضَافُ إلَيْهَا أَيْضًا اسْمُ الْفَاعِلِ لَا بِمَعْنَى الْمُضِيّ وَلَا
بِمَعْنَى الِاسْتِقْبَالِ وَلَا الْمَصْدَرِ إلّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ نَحْوُ مَخَافَةَ
أَنْ تَقُومَ وَذَلِك إذَا أَرَدْت مَعْنَى الْمَفْعُولِ بِأَنّ وَمَا بَعْدَهَا ،
وَأَمّا عَلَى نَحْوِ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَى الْفَاعِلِ فَلَا يَجُوزُ ذَلِك .
[ ص 102 ] لَائِقًا بِهَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنّي لَمْ أَذْكُرْ الْخَفْضَ
بِإِضْمَارِ حَرْفِ الْجَرّ فِي أَنّ وَإِنّ إلّا مُسَاعَدَةً لِمَنْ تَقَدّمَ
فَعَلَيْهِ بَنَيْت التّعْلِيلَ وَالتّأْصِيلَ وَإِذَا أَبَيْت مِنْ التّقْلِيدِ
فَلَا إضْمَارَ لِحُرُوفِ الْجَرّ فِيهَا ، إنّمَا هُوَ النّصَبُ بِفِعْلِ
مُضْمَرٍ أَوْ مُظْهَرٍ أَمّا قَوْلُهُ تَعَالَى : { أَحَقّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ }
فَإِنّمَا لَمّا قَالَ أَحَقّ عُلِمَ أَنّهُ يُوجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ فِيهِ
وَكَذَلِكَ أَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا ، وَمَعْنَى أَجْدَرَ أَخْلَقُ وَأَقْرَبُ
وَلَمَا ثَبَتَتْ لَهُمْ هَذِهِ الصّفّةُ اقْتَضَى ذَلِكَ أَلّا يَعْلَمُوا ؛
فَصَارَ مَنْصُوبًا فِي الْمَعْنَى ، وَلَوْ جِئْت بِالْمَصْدَرِ الّذِي هُوَ
اسْمٌ مَحْضٌ نَحْوُ الْقِيَامُ وَالْعِلْمُ لَمْ يَصِحّ إضْمَارُ هَذَا الْفِعْلِ
لِأَنّ أَجْدَرَ وَأَحَقّ وَنَحْوَهُمَا اسْمَانِ يُضَافَانِ إلَى مَا بَعْدَهُمَا
، فَلَوْ جِئْت بِالْقِيَامِ بَعْدَ قَوْلِك أَحَقّ فَقُلْت : أَحَقّ قِيَامُك ،
لَانْقَلَبَ الْمَعْنَى . وَلَوْ نَصَبْته بِإِضْمَارِ الْفِعْلِ الّذِي أَضْمَرْت
مَعَ أَنّ لَمْ يَكُنْ دَلِيلٌ عَلَيْهِ لِأَنّ الِاسْمَ يَطْلُبُ الْإِضَافَةَ
فَيُمْنَعُ مِنْ الْإِضْمَارِ وَالنّصَبِ وَإِذَا وَقَعَتْ بَعْدَهُ لَمْ يَطْلُبْ
الْإِضَافَةَ لِمَا قَدّمْنَاهُ مِنْ امْتِنَاعِ إضَافَةِ الْأَسْمَاءِ إلَيْهَا ،
وَإِنّمَا اخْتَرْنَا هَذَا الْمَذْهَب ، وَآثَرْنَاهُ عَلَى مَا تَقَدّمَ مِنْ
إضْمَارِ الْخَافِضِ لِأَنَا قَدْ نَجِدُهَا فِي مَوَاضِعَ مَجْرُورَةٍ وَلَا
يَجُوزُ إضْمَارُ حَرْفِ الْجَرّ كَقَوْلِك : سِرْ إلَى أَنْ تَطْلُعَ الشّمْسُ
وَلَا يَجُوزُ إضْمَارٌ إلَى هَهُنَا ، وَكَذَلِكَ تَقُولُ هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَنْ
تَفْعَلَ كَذَا ، وَلَا يَجُوزُ أَيْضًا إضْمَارُ مِنْ وَلَوْ كَانَ حَرْفُ الْجَرّ
مَعَهَا لِلْعِلّتَيْنِ المتقدمتين لَاطّرَدَ جَوَازُ ذَلِكَ فِيهَا عَلَى
الْإِطْلَاقِ وَإِنّمَا هِيَ أَبَدًا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا حَرْفُ الْجَرّ
ظَاهِرًا مَفْعُولَةً بِفِعْلِ مُضْمَرٍ وَقَدْ تَكُونُ فَاعِلَةً وَلَكِنْ
بِفِعْلِ ظَاهِرٍ نَحْوُ يُعْجِبنِي أَنْ تَقُومَ وَأَمّا خَرَجْت أَنْ أَرَى
زَيْدًا فَعَلَى إضْمَارِ الْإِرَادَةِ وَالْقَصْدِ كَأَنّك أَرَدْت : أَنْ
أَرَاهُ أَوْ أَنْ لَا أَرَاهُ لِأَنّ كُلّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا ، فَقَدْ أَرَادَ
بِهِ أَمْرًا مَا ، لَكِنّك إنْ جَعَلْت مَكَانَهَا الْمَصْدَرَ لَمْ يَجُزْ
الْإِضْمَارُ أَوْ قُبّحَ لِأَنّ الْمَصْدَرَ تَعْمَلُ فِيهِ الْأَفْعَالُ
الظّاهِرَةُ إذَا كَانَتْ مُتَعَدّيَةً وَتَصِلُ إلَيْهِ بِحَرْفِ جَرّ إذَا لَمْ
تَكُنْ مُتَعَدّيَةً وَأَنّ مَعَ الْفِعْلِ لَا تَعْمَلُ فِيهَا الْحَوَاسّ وَلَا
أَفْعَالُ الْجَوَارِحِ الظّاهِرَةِ تَقُولُ رَأَيْت قِيَامَ زَيْدٍ وَلَا تَقُولُ
أَنْ يَقُومَ وَسَمِعْت كَلَامَك ، وَلَا تَقُولُ سَمِعْت أَنْ تَتَكَلّمَ
وَإِنّمَا يَتَعَلّقُ بِهَا ، وَتَعْمَلُ فِيهَا الْأَفْعَالُ الْبَاطِنَةُ نَحْوُ
خِفْت وَاشْتَهَيْت وَكَرِهْت ، وَمَا كَانَ فِي مَعْنَى هَذَا أَوْ قَرِيبًا
مِنْهُ فَإِذَا سَمِعَ الْمُخَاطَبُ أَنّ مَعَ الْفِعْلِ لَمْ يَذْهَبْ وَهْمُهُ
بِحُكْمِ الْعَادَةِ إلّا إلَى هَذِهِ الْمَعَانِي ، فَإِنْ كَانَتْ ظَاهِرَةً
فَذَاكَ وَإِلّا اعْتَقَدْنَا أَنّهَا مُضْمَرَةً وَأَنّ الْفِعْلَ الظّاهِرَ
دَالّ عَلَيْهَا . [ ص 103 ] وَقَعَ قَبْلَهَا فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ
الظّاهِرَةِ وَقَعَ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مُتَعَدّيًا أَوْ وُصِلَ بِحَرْفِ إنْ
كَانَ غَيْرَ مُتَعَدّ وَمُنِعَ مِنْ الْإِضْمَارِ أَنّهُ لَفْظِيّ ،
وَالْإِضْمَارُ مَعْنَوِيّ إلّا فِي بَابِ الْمَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ وَقَدْ
قَدّمْنَا فِيهِ سِرّا بَدِيعًا فِيمَا سَبَقَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ .
وَقَالَ
عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْحَارِثِ أَيْضًا :
وَتِلْكَ قُرَيْشٌ تَجْحَدُ اللّهَ حَقّهُ ... كَمَا جَحَدَتْ عَادٌ وَمَدْيَنُ
وَالْحِجْرُ
فَإِنْ أَنَا لَمْ أَبْرِقْ فَلَا يَسَعَنّنِي ... مِنْ الْأَرْضِ بَرّ ذُو
فَضَاءٍ وَلَا بَحْرُ
بِأَرْضِ بِهَا عَبْدُ الْإِلَهِ مُحَمّدٌ ... أُبَيّنُ مَا فِي النّفْسِ إذْ
بَلَغَ النّقْرُ
فَسُمّيَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ الْحَارِثِ - يَرْحَمُهُ اللّهُ - لَبَيْتِهِ الّذِي
قَالَ الْمُبْرِق .Sفَصْلٌ
وَأَنْشَدَ لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحَارِثِ شِعْرًا فِيهِ كَمَا جَحَدَتْ عَادٌ
وَمَدْيَنُ وَالْحِجْرُ
أَمّا عَادٌ فَقَدْ تَقَدّمَ نَسَبُهَا ، وَأَمّا الْحِجْرُ فَلَيْسَتْ بِأُمّةِ
وَلَكِنّهَا دِيَارُ ثَمُودَ . أَرَادَ أَهْلَ الْحِجْرِ ، وَأَمّا مَدْيَنُ
فَأُمّةُ شُعَيْبٍ ، وَهُمْ بَنُو مَدَيَانِ بْنِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ
وَأُمّهُمْ قُطُورًا بِنْتُ يَقِطَانِ الْكَنْعَانِيّةُ ، وَلَدَتْ لَهُ
ثَمَانِيّةً مِنْ الْوَلَدِ تَنَاسَلَتْ مِنْهُمْ أُمَمٌ وَقَدْ سَمّيْنَاهُمْ فِي
كِتَابِ التّعْرِيفِ وَالْإِعْلَامِ وَفِي أَوّلِ هَذَا الْكِتَابِ . وَفِيهِ
أَيْضًا قَوْلُهُ فَإِنْ أَنَا لَمْ أَبْرِقْ فَلَا يَسَعَنّنِي . الْبَيْتَ قَالَ
وَبِهِ سُمّيَ الْمُبْرِقَ قَالَ الْمُؤَلّفُ وَفِي هَذَا حُجّةٌ عَلَى
الْأَصْمَعِيّ حِينَ مَنَعَ أَنْ يُقَالَ أُرْعِد وَأُبْرِق ، وَذَكَرَ لَهُ
قَوْلَ الْكُمَيْتِ أُرْعِدُ وَأُبْرِقُ يَا يَزِيدُ
فَلَمْ يَرَهُ حُجّةً [ وَقَالَ الْكُمَيْتُ جُرْمقَانِيّ مِنْ أَهْلِ الْمُوصِلِ
] لَيْسَ بِحُجّةِ وَأَلْحَقَهُ بِالْمُحَدّثِينَ لِتَأَخّرِ زَمَانِهِ كَمَا فَعَلَ
بِذِي الرّمّةِ حِينَ احْتَجّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ ذُو زَوْجَةٍ بِالْمِصْرِ أَمْ
ذُو خُصُومَةٍ
فَأَبَى أَنْ يَقُولَ زَوْجَةٌ بِهَاءِ التّأْنِيثِ وَقَالَ طَالَمَا أَكَلَ ذُو
الرّمّةِ الزّيْتَ فِي حَوَانِيتِ الْبَقّالِينَ وَبَيْتُ الْمُبْرِقِ فِي هَذَا حُجّةٌ
بِلَا خِلَافٍ وَقَدْ وُجِدَ أُرْعِدُ وَأُبْرِقُ فِي غَيْرِ هَذَا الْبَيْتِ
مِمّا تَقُومُ بِهِ الْحُجّةُ أَيْضًا ، وَبَيْتُ الْمُبْرِقِ هَذَا يَحْتَمِلُ
وَجْهًا آخَرَ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَبْرَقَ فِي الْأَرْضِ إذَا ذَهَبَ بِهَا
لَا مِنْ أَرْعَدَ وَأَبْرَقَ وَكَذَلِكَ وَجَدْته فِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ
عَلَى هَذَا الْبَيْتِ مَنْسُوبًا لِلْمَصْعَبِ قَالَ الْإِبْرَاقُ الذّهَابُ
وَفِي الْعَيْنِ أَبَرَقَتْ النّاقَةُ بِذَنَبِهَا إذَا ضَرَبَتْ [ ص 104 ] قَالَ
نَهْشَلُ بْنُ دَارِمٍ لِأَخِيهِ سَلِيطٍ - وَقَدْ لَامَهُ عَلَى تَرْكِ
الْكَلَامِ فِي بَعْضِ الْمَوَاطِنِ لَا أُحْسِنُ تَأْنَامَكَ وَلَا تَكْذَابَكَ
تَشُولُ بِلِسَانِك شَوَلَانَ الْبُرُوقِ . وَذَكَرَ فِي الشّعْرِ يَلِينَ مَا فِي
النّفْسِ إذْ بَلَغَ النّقْرُ
وَيُرْوَى : يَلِينَ مَا فِي الصّدْرِ . وَالنّقْرُ الْبَحْثُ عَنْ الشّيْءِ
وَأَكْثَرُ مَا يُقَالُ فِيهِ التّنْقِيرُ وَاسْتَشْهَدَ عَبْدُ اللّهِ
الْمُبْرِقُ فِي غَزْوَةِ الطّائِفِ ، وَكَانَ أَبُوهُ الْحَارِثَ مِنْ
الْمُسْتَهْزِئِينَ وَكَانَ جَدّهُ قَيْسٌ أَعَزّ قُرَيْشٍ فِي زَمَانِهِ يُرْوَى
أَنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ كَانَ يُنَفّزُ ابْنَهُ عَبْدَ اللّهِ وَالِدَ رَسُولِ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ طِفْلٌ فَيَقُولُ
كَأَنّهُ فِي الْعِزّ قَيْسُ بْنُ عَدِيّ ... فِي دَارِ قَيْسٍ النّدِيّ يَنْتَدِي
قَالَهُ الزّبِيرُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ .
وَقَالَ
عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ يُعَاتِبُ أُمَيّةَ بْنَ خَلَفِ بْنِ وَهْبِ بْنِ
حُذَافَةَ بْنِ جُمَحٍ ، وَهُوَ ابْنُ عَمّهِ وَكَانَ يُؤْذِيهِ فِي إسْلَامِهِ
وَكَانَ أُمَيّةُ شَرِيفًا فِي قَوْمِهِ فِي زَمَانِهِ ذَلِكَ
أَتَيْمَ بْنَ عَمْرٍو لِلّذِي جَاءَ بِغْضَةً ... وَمِنْ دُونِهِ الشّرْمَان
وَالْبَرْكُ أَكْتَعُ
أَأَخْرَجْتنِي مِنْ بَطْنِ مَكّةَ آمِنًا ... وَأَسْكَنْتنِي فِي صَرْحِ
بَيْضَاءَ تُقْذَعُ
تَرِيشُ نِبَالًا لَا يُوَاتِيك رِيشُهَا ... وَتِبْرِي نِبَالًا رِيشُهَا لَك
أَجْمَعُ
وَحَارَبْت أَقْوَامًا كِرَامًا أَعِزّةً ... وَأَهْلَكْت أَقْوَامًا بِهِمْ كُنْت
تَفْزَعُ
سَتَعْلَمُ إنْ نَابَتْك يَوْمًا مُلِمّةٌ ... وَأَسْلَمَك الْأَوْبَاشُ مَا كُنْت
تَصْنَعُ
[ ص 107 ] وَتَيْمُ بْنُ عَمْرٍو ، الّذِي يَدْعُو عُثْمَانُ جُمَحٌ كَانَ اسْمُهُ
تَيْمًا .Sحَوْلَ
لَامِ التّعَجّبِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ شِعْرَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ : أَتَيْمَ بْن عَمْرٍو لِلّذِي جَاءَ
بِغْضَةً
أَرَاهُ عَجَبًا لِلّذِي جَاءَ وَالْعَرَبُ تَكْتَفِي بِهَذِهِ اللّامِ فِي
التّعَجّبِ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ لِهَذَا الْعَبْدِ الْحَبَشِيّ جَاءَ
مِنْ أَرْضِهِ وَسَمَائِهِ إلَى الْأَرْضِ الّتِي خُلِقَ مِنْهَا قَالَهُ فِي
عَبْدٍ حَبَشِيّ دُفِنَ بِالْمَدِينَةِ ، وَقَالَ فِي جِنَازَةِ سَعْدِ بْنِ
مُعَاذٍ وَهُوَ وَاقِفٌ عَلَى قَبْرِهِ وَتَقَهْقَرَ ثُمّ قَالَ سُبْحَانَ اللّهِ
لِهَذَا الْعَبْدِ الصّالِحِ ضُمّ عَلَيْهِ الْقَبْرُ ثُمّ فُرِجَ عَنْهُ وَقِيلَ
فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ } أَقْوَالٌ مِنْهَا : أَنّهَا
مُتَعَلّقَةٌ بِمَعْنَى التّعَجّبِ كَأَنّهُ قَالَ اعْجَبُوا لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ
، وَبِغْضَةً نُصِبَ عَلَى التّمْيِيزِ كَأَنّهُ قَالَ يَا عَجَبًا لِمَا جَاءَ
بِهِ مِنْ بِغْضَةٍ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ وَرَوَى
الزّبَيْرُ هَذَا الْبَيْتَ أَتَيْمَ بْنَ عَمْرٍو الّذِي فَارَ ضِغْنُهُ
مِنْ مَعَانِي شِعْرِ ابْنِ مَظْعُونٍ
[ ص 105 ] بَيْطَاءَ تُقْدَعُ بِالطّاءِ وَفَتْحِ الْبَاءِ وَكَسْرِهَا ، وَقَالَ
بِيَطَاءَ اسْمُ سَفِينَةٍ وَتُقْدَعُ بِالدّالِ أَيْ تُدْفَعُ وَزَعَمَ أَنّ
تَيْمَ بْنَ عَمْرٍو وَهُوَ جُمَحٌ سُمّيَ جُمَحًا ؛ لِأَنّ أَخَاهُ سَهْمَ بْنَ
عَمْرٍو - وَكَانَ اسْمُهُ زَيْدًا - سَابَقَهُ إلَى غَايَةٍ فَجَمَحَ عَنْهَا
تَيْمٌ فَسُمّيَ جُمَحًا ، وَوَقَفَ عَلَيْهَا زَيْدٌ فَقِيلَ قَدْ سَهَمَ زَيْدٌ
فَسُمّيَ سَهْمًا . وَقَوْلُهُ وَمِنْ دُونِنَا الشّرْمَان . الشّرْمُ الْبَحْرُ
وَقَالَ الشّرْمَان بِالتّثْنِيَةِ لِأَنّهُ أَرَادَ الْبَحْرَ الْمِلْحَ
وَالْبَحْرَ الْعَذْبَ وَفِي التّنْزِيلِ { مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ } وَالشّرْمُ
مِنْ شَرَمْت الشّيْءَ إذَا خَرَقْته ، وَكَذَلِكَ الْبَحْرُ مِنْ بَحَرْت
الْأَرْضَ إذَا خَرَقْتهَا ، وَمِنْهُ سُمّيَتْ الْبَحِيرَةُ لِخَرْقِ أُذُنِهَا
وَالْبَرْكُ : مَا اطْمَأَنّ مِنْ الْأَرْضِ وَاتّسَعَ وَلَمْ يَكُنْ مُنْتَصِبًا
كَالْجِبَالِ . وَقَوْلُهُ فِي صَرْحِ بَيْضَاءَ . يُرِيدُ مَدِينَةَ الْحَبَشَةِ
، وَأَصْلُ الصّرْحِ الْقَصْرُ يُرِيدُ أَنّهُ سَاكِنٌ عِنْدَ صَرْحِ النّجَاشِيّ
. وَقَوْلُهُ تُقْذَعُ أَيْ تُكْرَهُ كَأَنّهُ مِنْ أَقَذَعْت الشّيْءَ إذَا
صَادَفَتْهُ قَذِعًا وَيُقَالُ أَيْضًا : قَذَعْت الرّجُلَ إذَا رَمَيْته
بِالْفُحْشِ يُرِيدُ أَنّ أَرْضَ الْحَبَشَةِ مَقْذُوعَةٌ وَأَحْسِبُ هَذِهِ
الرّوَايَةَ تَصْحِيفًا ، وَالصّحِيحُ مَا قَدّمْنَاهُ مِنْ قَوْلِ الزّبَيْرِ
وَرِوَايَتِهِ وَأَنّهُ بِيَطَاءَ بِالطّاءِ وَتُقْدَعُ بِالدّالِ . وَقَوْلُهُ
وَأَسْلَمَك الْأَوْبَاشُ يُرِيدُ أَخْلَاطًا مِنْ النّحَاسِ يُقَال : أَوْشَابٌ
وَأَوْبَاشٌ وَالْأَوْبَاشُ أَيْضًا شَجَرٌ مُتَفَرّقٌ وَالْوَبْشُ بَيَاضٌ فِي
أَظْفَارِ الْأَحْدَاثِ .
أَنْسَابٌ
وَذَكَرَ فِيمَنْ هَاجَرَ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مِنْ بَنِي عَدِيّ مَعْمَرُ
بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نَضْلَةَ وَقَالَ فِيهِ عَلِيّ بْنُ الْمَدِينِيّ :
إنّمَا هُوَ مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نَافِعِ بْنِ نَضْلَةَ . وَقَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : نَضْلَةُ بْنُ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ حُرْثَانَ بْنِ عَوْفِ بْن
عُبَيْدٍ وَفِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ قَالَ إنّمَا هُوَ نَضْلَةُ بْنُ
عَوْفِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُوَيْجٍ وَذَكَرَ أَنّهُ قَوْلُ مُصْعَبٍ فِي كِتَابِ
[ ص 106 ] وَذَكَرَ فِي بَنِي عَدِيّ عُرْوَةَ بْنَ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ حُرْثَانَ
كَذَا فِي كِتَابِ الْمُصْعَبِ إلّا أَنّهُ قَالَ عَمْرُو بْنُ أَبِي أُثَاثَةَ
أَوْ عُرْوَةُ بْنُ أَبِي أُثَاثَةَ عَلَى الشّكّ وَذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ فِي
كِتَابِ الِاسْتِيعَابِ فَقَالَ فِيهِ عُرْوَةُ بْنُ أَبِي أُثَاثَةَ وَيُقَالُ
ابْنُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ حُرْثَانَ قَالَ وَأُمّهُ أُمّ عَمْرِو
بْنِ الْعَاصِي ، فَهُوَ أَخُوهُ لِأُمّ . قَالَ الْمُؤَلّفُ وَأُمّهُمَا اسْمُهَا
: لَيْلَى ، وَتَلَقّبَ بِالنّابِغَةِ وَهِيَ مِنْ بَنِي رَبِيعَةَ ثُمّ مِنْ
بَنِي جَلّانَ قَالَ أَبُو عُمَرَ وَيُقَالُ فِيهِ ابْنُ أَبِي أُثَاثَةَ قَالَ
الْمُؤَلّفُ وَقَدْ قَدّمْنَا أَنّ الْمُصْعَبَ الزّبَيْرِيّ شَكّ فِيهِ فَقَالَ
عُرْوَةُ أَوْ عَمْرٌو ، وَأَمّا الزّبَيْرُ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ أَبِي أُثَاثَةَ
وَلَمْ يَشُكّ ثُمّ قَالَ أَبُو عُمَرَ لَمْ يَذْكُرُهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِيمَنْ
هَاجَرَ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَذَكَرَهُ الْوَاقِدِيّ ، وَأَبُو مَعْشَرٍ
وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ ، قَالَ الْمُؤَلّفُ وَهَذَا وَهْمٌ مِنْ أَبِي عُمَرَ -
رَحِمَهُ اللّهُ - فَإِنّ ابْنَ إسْحَاقَ ذَكَرَهُ فِيهِمْ غَيْرَ أَنّهُ نَسَبَهُ
إلَى جَدّهِ عَبْدِ الْعُزّى ، وَأَسْقَطَ اسْمَ أَبِيهِ أَبِي أُثَاثَةَ وَقَالَ
حِينَ ذَكَرَ مَنْ هَاجَرَ مِنْ بَنِي عَدِيّ بَعْدَ مَا عَدّهُمْ خَمْسَةً قَالَ
أَرْبَعَةُ نَفَرٍ وَهُوَ وَهْمٌ مِنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَذَكَرَ فِيهِمْ مَعَ
الْخَمْسَةِ لَيْلَى بِنْتَ أَبِي حَثْمَةَ امْرَأَةَ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ ،
فَهُمْ عَلَى هَذَا سِتّةٌ غَيْرَ أَنّهُ يَحْتَمِلُ أَنّهُ يُرِيدُ أَرْبَعَةَ
نَفَرٍ دُونَ حَلِيفِهِمْ عَامِرٍ وَمَا أَظُنّهُ قَصَدَ هَذَا ؛ لِأَنّ مِنْ
عَادَتِهِ أَنّ يَعُدّ الْحُلَفَاءَ مَعَ الصّمِيمِ لِأَنّ الدّعْوَةَ
تَجْمَعُهُمْ .
أُمّ سَلَمَةَ
وَذَكَرَ أُمّ سَلَمَةَ وَبَعْلَهَا أَبَا سَلَمَةَ تُوُفّيَ عَنْهَا
بِالْمَدِينَةِ ، وَخَلّفَ عَلَيْهَا رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - وَذَكَرَ اسْمَهَا هَذَا ، وَقِيلَ فِي اسْمِهَا : رَمَلَةُ وَأَبُوهَا
أَبُو أُمَيّةَ اسْمُهُ حُذَيْفَةُ يُعْرَفُ بِزَادِ الرّاكِبِ . وَذَكَرَ أَنّهَا
وَلَدَتْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ ، وَكَانَ اسْمُ
زَيْنَبَ بَرّةَ فَسَمّاهَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
زَيْنَبَ كَانَتْ زَيْنَبُ هَذِهِ عِنْدَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ زَمْعَةَ وَكَانَتْ
قَدْ دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُوَ
يَغْتَسِلُ وَهِيَ إذْ ذَاكَ طِفْلَةٌ فَنَضَحَ فِي وَجْهِهَا مِنْ الْمَاءِ
فَلَمْ يَزَلْ مَاءُ الشّبَابِ فِي وَجْهِهَا ، حَتّى عَجَزَتْ وَقَارَبَتْ
الْمِائَةَ وَكَانَتْ مِنْ أَفْقَهِ أَهْلِ زَمَانِهَا ، وَأَدْرَكَتْ [ ص 107 ]
الْحَرّةِ بِالْمَدِينَةِ ، وَقُتِلَ لَهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَدَانِ اسْمُ
أَحَدِهِمَا : كَبِيرٌ وَالْآخَرُ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ زَمْعَةَ
فَكَانَتْ تَبْكِي عَلَى أَحَدِهِمَا : وَلَا تَبْكِي عَلَى الْآخَرِ فَسُئِلَتْ
عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ أَبْكِيهِ لِأَنّهُ جَرّدَ سَيْفَهُ وَقَاتَلَ وَالْآخَرُ
لَا أَبْكِيهِ لِأَنّهُ لَزِمَ بَيْتَهُ وَكَفّ يَدَهُ حَتّى قُتِلَ وَرُوِيَ أَنّ
رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ ابْتَنَى بِأُمّ
سَلَمَةَ دَخَلَ عَلَيْهَا بَيْتَهَا فِي ظُلْمَةٍ فَوَطِئَ عَلَى زَيْنَبَ
فَبَكَتْ فَمَا كَانَ مِنْ اللّيْلَةِ الْأُخْرَى دَخَلَ فِي ظُلْمَةٍ أَيْضًا ،
فَقَالَ اُنْظُرُوا زُنَابَكُمْ أَنْ لَا أَطَأَ عَلَيْهَا ، أَوْ قَالَ أَخّرُوا
ذَكَرَهُ الزّبَيْرُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ تَوْهِينٌ لِرِوَايَةِ مَنْ رَوَى
أَنّهُ كَانَ يَرَى بِاللّيْلِ كَمَا يَرَى بِالنّهَارِ .
النّورُ الّذِي كَانَ عَلَى قَبْرِ النّجَاشِيّ
فَصْلٌ وَذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ كُنّا نَتَحَدّثُ أَنّهُ لَا يَزَالُ يَرَى
عَلَى قَبْرِ النّجَاشِيّ نُورٌ وَقَدْ خَرّجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ
سَلَمَةَ بْنِ الْفَضْلِ ، وَعَنْ ابْنِ إسْحَاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ
عَائِشَةَ وَأَوْرَدَهُ فِي بَابِ . : النّورُ يُرَى عِنْدَ الشّهِيدِ وَلَيْسَ
فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَلَا غَيْرِهِ مَا يَدُلّ عَلَى أَنّ النّجَاشِيّ مَاتَ
شَهِيدًا ، وَأَحْسَبُهُ أَرَادَ أَنْ يَشْهَدَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَا وَقَعَ فِي
كُتُبِ التّارِيخِ مِنْ أَنّ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ رَبِيعَةَ أَخَا سَلْمَانَ
بْنِ رَبِيعَةَ الّذِي يُقَالُ لَهُ ذُو النّورِ وَكَانَ عَلَى بَابِ الْأَبْوَابِ
فَقَتَلَهُ التّرْكُ زَمَانَ عُمَرَ فَهُوَ لَا يَزَالُ يُرَى عَلَى قَبْرِهِ
نُورٌ وَبِعَضُدِ هَذَا حَدِيثُ النّجَاشِيّ ، يَقُولُ فَإِذَا كَانَ النّجَاشِيّ
- وَلَيْسَ بِشَهِيدِ - يُرَى عِنْدَهُ نُورٌ فَالشّهِيدُ أَحْرَى بِذَلِكَ
لِقَوْلِ اللّهِ سُبْحَانَهُ { وَالشّهَدَاءُ عِنْدَ رَبّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ
وَنُورُهُمْ } [ الْحَدِيدُ 19 ] .
إرْسَالُ
قُرَيْشٍ إلَى الْحَبَشَةِ فِي طَلَبِ الْمُهَاجِرِينَ إلَيْهَا
[ ص 108 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنّ أَصْحَابَ رَسُولِ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَدْ أَمِنُوا ، وَاطْمَأَنّوا
بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَأَنّهُمْ قَدْ أَصَابُوا بِهَا دَارًا وَقَرَارًا ،
ائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ أَنْ يَبْعَثُوا فِيهِمْ مِنْهُمْ رَجُلَيْنِ مِنْ
قُرَيْشٍ جَلْدَيْنِ إلَى النّجَاشِيّ ، فَيَرُدّهُمْ عَلَيْهِمْ لِيَفْتِنُوهُمْ
فِي دِينِهِمْ وَيُخْرِجُوهُمْ مِنْ دَارِهِمْ الّتِي اطْمَأَنّوا بِهَا
وَأَمِنُوا فِيهَا ، فَبَعَثُوا عَبْدَ اللّهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ ، وَعَمْرَو
بْنَ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ ، وَجَمَعُوا لَهُمَا هَدَايَا لِلنّجَاشِيّ
وَلِبَطَارِقَتِهِ ثُمّ بَعَثُوهُمَا إلَيْهِ فِيهِمْ . فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ -
حِينَ رَأَى ذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِمْ وَمَا بَعَثُوهُمَا فِيهِ - أَبْيَاتًا
لِلنّجَاشِيّ يَحُضّهُ عَلَى حُسْنِ جِوَارِهِمْ وَالدّفْعِ عَنْهُمْ
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ فِي النّأْيِ جَعْفَرٌ ... وَعَمْرٌو وَأَعْدَاءُ
الْعَدُوّ الْأَقَارِبُ
وَهَلْ نَالَتْ أَفْعَالُ النّجَاشِيّ جَعْفَرًا ... وَأَصْحَابَهُ أَوْ عَاقَ
ذَلِكَ شَاغِبٌ
تَعَلّمْ - أَبَيْت اللّعْنَ - أَنّك مَاجِدٌ ... كَرِيمٌ فَلَا يَشْقَى لَدَيْك
الْمُجَانِبُ
تَعَلّمْ بِأَنّ اللّهَ زَادَك بَسْطَةً ... وَأَسْبَابَ خَيْرٍ كُلّهَا بِك
لَازِبُ
وَأَنّك فَيْضٌ ذُو سِجَالٍ غَزِيرَةٍ ... يَنَالُ الْأَعَادِي نَفْعَهَا
وَالْأَقَارِبُ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ مُسْلِمٍ الزّهْرِيّ عَنْ أَبِي
بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيّ عَنْ
أُمّ سَلَمَةَ بِنْتِ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ زَوْجِ رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَتْ لَمّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ ،
جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ النّجَاشِيّ ، أَمِنّا عَلَى دِينِنَا ،
وَعَبَدْنَا اللّهَ تَعَالَى ، لَا نُؤْذَى ، وَلَا نَسْمَعُ شَيْئًا نَكْرَهُهُ
فَلَمّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا ، ائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ أَنْ يَبْعَثُوا إلَى
النّجَاشِيّ فِينَا رَجُلَيْنِ مِنْهُمْ جَلْدَيْنِ وَأَنْ يُهْدُوا لِلنّجَاشِيّ
هَدَايَا مِمّا يُسْتَطْرَفُ مِنْ مَتَاعِ مَكّةَ ، وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا
يَأْتِيهِ مِنْهَا الْأَدَمُ فَجَمَعُوا لَهُ أَدَمًا كَثِيرًا ، وَلَمْ
يَتْرُكُوا مِنْ بِطَارِقَتِهِ بِطْرِيقًا إلّا أَهْدَوْا لَهُ هَدِيّةً ثُمّ
بَعَثُوا بِذَلِكَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ ، وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ
، وَأَمّرُوهُمَا بِأَمْرِهِمْ وَقَالُوا لَهُمَا : ادْفَعَا إلَى كُلّ بِطَرِيقِ
هَدِيّتَهُ قَبْلَ أَنْ تُكَلّمَا النّجَاشِيّ فِيهِمْ ثُمّ قَدّمَا إلَى
النّجَاشِيّ هَدَايَاهُ ثُمّ سَلَاهُ أَنْ يُسَلّمَهُمْ إلَيْكُمَا قَبْلَ أَنْ
يُكَلّمَهُمْ . قَالَتْ فَخَرَجَا حَتّى قَدِمَا عَلَى النّجَاشِيّ ، وَنَحْنُ
عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ عِنْدَ خَيْرِ جَارٍ [ ص 110 ] بِطَارِقَتِهِ بِطَرِيقِ
إلّا دَفَعَا إلَيْهِ هَدِيّتَهُ قَبْلَ أَنْ يُكَلّمَا النّجَاشِيّ ، وَقَالَا
لِكُلّ بِطْرِيقٍ مِنْهُمْ إنّهُ قَدْ ضَوَى إلَى بَلَدِ الْمَلِكِ مِنّا
غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكُمْ
وَجَاءُوا بِدِينِ مُبْتَدَعٍ لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتُمْ وَقَدْ
بَعَثْنَا إلَى الْمَلِكِ فِيهِمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ لِيَرُدّهُمْ إلَيْهِمْ
فَإِذَا كَلّمْنَا الْمَلِكَ فِيهِمْ فَأَشِيرُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يُسَلّمَهُمْ
إلَيْنَا ، وَلَا يُكَلّمُهُمْ فَإِنّ قَوْمَهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْنًا ،
وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ فَقَالُوا لَهُمَا : نَعَمْ . ثُمّ إنّهُمَا
قَدِمَا هَدَايَاهُمَا إلَى النّجَاشِيّ فَقَبِلَهَا مِنْهُمَا ، ثُمّ كَلّمَاهُ
فَقَالَا لَهُ أَيّهَا الْمَلِكُ إنّهُ قَدْ ضَوَى إلَى بَلَدِك مِنّا غِلْمَانٌ
سُفَهَاءُ فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِك ، وَجَاءُوا
بِدِينِ ابْتَدَعُوهُ لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ وَقَدْ بَعَثْنَا إلَيْك
فِيهِمْ أَشْرَافَ قَوْمِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَعْمَامِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ
لِتَرُدّهُمْ إلَيْهِمْ فَهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا ، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا
عَلَيْهِمْ وَعَاتَبُوهُمْ فِيهِ . قَالَتْ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَبْغَضَ إلَى
عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مِنْ أَنْ يَسْمَعَ
كَلَامَهُمْ النّجَاشِيّ . قَالَتْ فَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ صَدَقَا
أَيّهَا الْمَلِكُ قَوْمَهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا ، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا
عَلَيْهِمْ فَأَسْلِمْهُمْ إلَيْهِمَا ، فَلْيَرُدّهُمْ إلَى بِلَادِهِمْ
وَقَوْمِهِمْ . قَالَتْ فَغَضِبَ النّجَاشِيّ ، ثُمّ قَالَ لَاهَا اللّهِ إذْن لَا
أُسْلِمَهُمْ إلَيْهِمَا ، وَلَا يَكَادُ قَوْمٌ جَاوَرُونِي ، وَنَزَلُوا
بِلَادِي ، وَاخْتَارُونِي عَلَى مَنْ سِوَايَ حَتّى أَدْعُوهُمْ فَأَسْأَلَهُمْ
عَمّا يَقُولُ [ ص 111 ] هَذَانِ فِي أَمْرِهِمْ فَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولَانِ
أَسْلَمْتهمْ إلَيْهِمَا ، وَرَدَدْتهمْ إلَى قَوْمِهِمْ وَإِنْ كَانُوا عَلَى
غَيْرِ ذَلِكَ مَنَعْتهمْ مِنْهُمَا ، وَأَحْسَنْت جِوَارَهُمْ مَا جَاوَرُونِي .Sإرْسَالُ
قُرَيْشٍ إلَى النّجَاشِيّ فِي أَمْرِ أَصْحَابِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ
[ ص 108 ] ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ أَنّهُمْ أَرْسَلُوا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ ،
وَعَبْدَ اللّهِ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأَهْدَوْا مَعَهُمَا
هَدَايَا إلَى النّجَاشِيّ . وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ هَذَا كَانَ
اسْمُهُ بَحِيرًا ، فَسَمّاهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
حِينَ أَسْلَمَ : عَبْدَ اللّهِ وَأَبُوهُ أَبُو رَبِيعَةَ ذُو الرّمْحَيْنِ
وَفِيهِ يَقُولُ ابْنُ الزّبَعْرَى :
بَحِيرًا بْنَ ذِي الرّمْحَيْنِ قَرّبَ مَجْلِسِي ... وَرَاحَ عَلَيْنَا فَضْلُهُ
وَهُوَ عَاتِمُ
[ ص 109 ] وَاسْمُ أَبِي رَبِيعَةَ : عَمْرٌو ، وَقِيلَ حُذَيْفَةُ وَأُمّ عَبْدِ
اللّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ : أَسَمَاءُ بِنْتُ مُحَرّبَةَ التّمِيمِيّةُ وَهِيَ
أُمّ أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ هَذَا هُوَ
وَالِدُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الشّاعِرُ وَوَالِدُ
الْحَارِثِ أَمِيرُ الْبَصْرَةِ الْمَعْرُوفُ بِالْقُبَاعِ وَكَانَ فِي أَيّامِ
عُمَرَ وَالِيًا عَلَى الْجُنْدِ وَفِي أَيّامِ عُثْمَانَ فَلَمّا سَمِعَ بِحَصْرِ
عُثْمَانَ جَاءَ لِيَنْصُرَهُ فَسَقَطَ عَنْ دَابّتِهِ فَمَاتَ .
عُمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ
فَصْلٌ وَكَانَ مَعَهُمَا فِي ذَلِكَ السّفَرِ عُمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ
الْمُغِيرَةِ الّذِي تَقَدّمَ ذِكْرُهُ حِينَ قَالَتْ قُرَيْشٌ لِأَبِي طَالِبٍ
خُذْ عُمَارَةَ بَدَلًا مِنْ مُحَمّدٍ وَادْفَعْ إلَيْنَا مُحَمّدًا نَقْتُلْهُ
وَكَانَ عُمَارَةُ مِنْ أَجْمَلِ النّاسِ فَذَكَرَ أَصْحَابُ الْأَخْبَارِ
أَنّهُمْ أَرْسَلُوهُ مَعَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِي إلَى النّجَاشِيّ ، وَلَمْ
يَذْكُرْهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ ، وَذَكَرَ حَدِيثَهُ مَعَ
عَمْرٍو فِي رِوَايَةِ يُونُسَ وَلَكِنْ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْقِصّةِ
الْمَذْكُورَةِ هَاهُنَا ، وَلَعَلّ إرْسَالَهُمْ إيّاهُ مَعَ عَمْرٍو ، كَانَ فِي
الْمَرّةِ الْأُخْرَى الّتِي سَيَأْتِي ذِكْرُهَا فِي السّيرَةِ عِنْدَ حَدِيثِ
إسْلَامِ عَمْرٍو ، وَمِمّنْ ذَكَرَ قِصّةَ عُمَارَةَ بِطُولِهَا أَبُو الْفَرَجِ
الْأَصْبَهَانِيّ ، وَذَكَرَ أَنّ عَمْرًا سَافَرَ بِامْرَأَتِهِ فَلَمّا رَكِبُوا
الْبَحْرَ وَكَانَ عُمَارَةُ قَدْ هَوِيَ امْرَأَةَ عَمْرٍو وَهَوِيته ، فَعَزَمَا
عَلَى دَفْعِ عَمْرٍو ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ عُمَارَةَ عَلَى غَيْرِ قَصْدٍ
فَدَفَعَ عَمْرًا ، فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ فَسَبّحَ عَمْرٌو ، وَنَادَى أَصْحَابَ
السّفِينَةِ فَأَخَذُوهُ وَرَفَعُوهُ إلَى السّفِينَةِ [ ص 110 ] فَأَضْمَرَهَا
عَمْرٌو فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لِعُمَارَةَ بَلْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ -
فِيمَا ذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ - قَبّلِي ابْنَ عَمّك عُمَارَةَ لِتَطِيبَ
بِذَلِكَ نَفْسُهُ فَلَمّا أَتَيَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ مَكَرَ بِهِ عَمْرٌو ،
وَقَالَ إنّي قَدْ كَتَبْت إلَى بَنِي سَهْمٍ لِيَبْرَؤُوا مِنْ دَمِي لَك ،
فَاكْتُبْ أَنْتَ لِبَنِي مَخْزُومٍ لِيَبْرَؤُوا مِنْ دَمِك لِي ، حَتّى تَعْلَمَ
قُرَيْشٌ أَنّا قَدْ تَصَافَيْنَا ، فَلَمّا كَتَبَ عُمَارَةُ إلَى بَنِي
مَخْزُومٍ وَتَبَرّءُوا مِنْ دَمِهِ لِبَنِي سَهْمٍ قَالَ شَيْخٌ مِنْ قُرَيْشٍ :
قُتِلَ عُمَارَةُ - وَاَللّهِ - وَعَلِمَ أَنّهُ مَكْرٌ مِنْ عَمْرٍو ، ثُمّ
أَخَذَ عَمْرٌو يُحَرّضُ عُمَارَةَ عَلَى التّعَرّضِ لِامْرَأَةِ النّجَاشِيّ ،
وَقَالَ لَهُ أَنْتَ امْرِئِ جَمِيلٌ وَهُنّ النّسَاءُ يُحْبِبْنَ الْجَمَالَ مِنْ
الرّجَالِ فَلَعَلّهَا أَنْ تَشْفَعَ لَنَا عِنْدَ الْمَلِكِ فِي قَضَاءِ
حَاجَتِنَا ؛ فَفَعَلَ عُمَارَةُ فَلَمّا رَأَى عَمْرٌو ذَلِكَ وَتَكَرّرَ
عُمَارَةُ عَلَى امْرَأَةِ الْمَلِكِ وَرَأَى إنَابَتَهَا إلَيْهِ أَتَى الْمَلِكَ
مُنْتَصِحًا ، وَجَاءَهُ بِأَمَارَةِ عَرَفَهَا الْمَلِكُ قَدْ كَانَ عُمَارَةُ
أَطْلَعَ عَمْرًا عَلَيْهَا ، فَأَدْرَكَتْهُ غَيْرَةُ الْمَلِكِ وَقَالَ لَوْلَا
أَنّهُ جَارِي لَقَتَلْته ، وَلَكِنْ سَأَفْعَلُ بِهِ مَا هُوَ شَرّ مِنْ
الْقَتْلِ فَدَعَا بِالسّوَاحِرِ فَأَمَرَهُنّ أَنْ يَسْحَرْنَهُ فَنَفَخْنَ فِي
إحْلِيلِهِ نَفْخَةً طَارَ مِنْهَا هَائِمًا عَلَى وَجْهِهِ حَتّى لَحِقَ
بِالْوُحُوشِ فِي الْجِبَالِ وَكَانَ يَرَى آدَمِيّا فَيَفِرّ مِنْهُ وَكَانَ
ذَلِكَ آخِرَ الْعَهْدِ بِهِ إلَى زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ ، فَجَاءَ ابْنُ
عَمّهِ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ إلَى عُمَرَ وَاسْتَأْذَنَهُ فِي
الْمَسِيرِ إلَيْهِ لَعَلّهُ يَجِدُهُ فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ فَسَارَ [ ص 111 ] أَرْضِ
الْحَبَشَةِ ، فَأَكْثَرَ النّشْدَةَ عَنْهُ وَالْفَحْصَ عَنْ أَمْرِهِ حَتّى
أُخْبِرَ أَنّهُ - بِحَيْلِ يَرِدُ مَعَ الْوُحُوشِ إذَا وَرَدَتْ وَيَصْدُرُ
مَعَهَا إذَا صَدَرَتْ فَسَارَ إلَيْهِ حَتّى كَمَنَ لَهُ فِي الطّرِيقِ إلَى
الْمَاءِ فَإِذَا هُوَ قَدْ غَطّاهُ شَعَرُهُ وَطَالَتْ أَظْفَارُهُ وَتَمَزّقَتْ
عَلَيْهِ ثِيَابُهُ حَتّى كَأَنّهُ شَيْطَانٌ فَقَبَضَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللّهِ
وَجَعَلَ يُذَكّرُهُ بِالرّحِمِ وَيَسْتَعْطِفُهُ وَهُوَ يَنْتَفِضُ مِنْهُ
وَيَقُولُ أَرْسِلْنِي يَا بَحِيرُ أَرْسِلْنِي يَا بَحِيرُ وَأَبَى عَبْدُ اللّهِ
أَنْ يُرْسِلَهُ حَتّى مَاتَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ خَبَرٌ مَشْهُورٌ اخْتَصَرَهُ
بَعْضُ مَنْ أَلَفّ فِي السّيَرِ وَطَوّلَهُ أَبُو الْفَرَجِ وَأَوْرَدْته عَلَى
مَعْنَى كَلَامِهِ مُتَحَرّيًا لِبَعْضِ أَلْفَاظِهِ .
حِوَارٌ
بَيْنَ النّجَاشِيّ وَبَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ
قَالَتْ ثُمّ أَرْسَلَ إلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - فَدَعَاهُمْ فَلَمّا جَاءَهُمْ رَسُولُهُ اجْتَمَعُوا ، ثُمّ قَالَ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ مَا تَقُولُونَ لِلرّجُلِ إذَا جِئْتُمُوهُ ؟ قَالُوا : نَقُولُ
وَاَللّهِ مَا عَلِمْنَا ، وَمَا أَمَرَنَا بِهِ نَبِيّنَا صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ فَلَمّا جَاءُوا ، وَقَدْ دَعَا
النّجَاشِيّ أَسَاقِفَتَهُ فَنَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ حَوْلَهُ سَأَلَهُمْ فَقَالَ
لَهُمْ مَا هَذَا الدّينُ الّذِي قَدْ فَارَقْتُمْ فِيهِ قَوْمَكُمْ وَلَمْ
تَدْخُلُوا فِي دِينِي ، وَلَا فِي دِينِ أَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الْمِلَلِ قَالَتْ
فَكَانَ الّذِي كَلّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، فَقَالَ لَهُ أَيّهَا
الْمَلِكُ كُنّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ
الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ
وَيَأْكُلُ الْقَوِيّ مِنّا الضّعِيفَ فَكُنّا عَلَى ذَلِكَ حَتّى بَعَثَ اللّهُ
إلَيْنَا رَسُولًا مِنّا ، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ
وَعَفَافَهُ فَدَعَانَا إلَى اللّهِ لِنُوَحّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا
كُنّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ
وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرّحِمِ
وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفّ عَنْ [ ص 112 ] وَنَهَانَا عَنْ الْفَوَاحِشِ
وَقَوْلِ الزّورِ وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَقُذُفِ الْمُحْصَنَاتِ وَأَمَرَنَا
أَنْ نَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ - لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا - وَأَمَرَنَا
بِالصّلَاةِ وَالزّكَاةِ وَالصّيَامِ قَالَتْ فَعَدّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ
الْإِسْلَامِ - فَصَدّقْنَاهُ وَآمَنّا بِهِ وَاتّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ
مِنْ اللّهِ فَعَبَدْنَا اللّهَ وَحْدَهُ فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا ،
وَحَرّمْنَا مَا حَرّمَ عَلَيْنَا ، وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلّ لَنَا ، فَعَدَا
عَلَيْنَا قَوْمُنَا ، فَعَذّبُونَا ، وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا ، لِيَرُدّونَا
إلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ عَنْ عِبَادَةِ اللّهِ تَعَالَى ، وَأَنْ نَسْتَحِلّ
مَا كُنّا نَسْتَحِلّ مِنْ الْخَبَائِثِ فَلَمّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا
وَضَيّقُوا عَلَيْنَا ، [ ص 113 ] وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا ،
خَرَجْنَا إلَى بِلَادِك وَاخْتَرْنَاك عَلَى مَنْ سِوَاك ، وَرَغِبْنَا فِي
جِوَارِك ، وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمْ عِنْدَك أَيّهَا الْمَلِكُ . قَالَتْ
فَقَالَ لَهُ النّجَاشِيّ : هَلْ مَعَك مِمّا جَاءَ بِهِ عَنْ اللّهِ مِنْ شَيْءٍ
؟ قَالَتْ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ نَعَمْ فَقَالَ النّجَاشِيّ : فَاقْرَأْهُ عَلَيّ
قَالَتْ فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا مِنْ { كهيعص } قَالَتْ فَبَكَى وَاَللّهِ
النّجَاشِيّ ، حَتّى اخْضَلّتْ لِحْيَتُهُ وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتّى
أَخْضَلُوا مَصَاحِفَهُمْ حِينَ سَمِعُوا مَا تَلَا عَلَيْهِمْ ثُمّ قَالَ
النّجَاشِيّ : إنّ هَذَا وَاَلّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ
وَاحِدَةٍ انْطَلِقَا ، فَلَا وَاَللّهِ لَا أُسْلِمَهُمْ إلَيْكُمَا ، وَلَا
يَكَادُونَ .Sعَنْ
حَدِيثِ أَصْحَابِ الْهِجْرَةِ مَعَ النّجَاشِيّ
فَصْلٌ وَذَكَرَ حَدِيثَ أَصْحَابِ الْهِجْرَةِ مَعَ النّجَاشِيّ ، وَقَالَ لَهُ
جَعْفَرٌ إلَى آخِرِ الْقِصّةِ وَلَيْسَ فِيهَا إشْكَالٌ وَفِيهِ مِنْ الْفِقْهِ
الْخُرُوجُ عَنْ الْوَطَنِ وَإِنْ كَانَ الْوَطَنُ مَكّةَ عَلَى فَضْلِهَا ، إذَا
كَانَ الْخُرُوج فِرَارًا بِالدّينِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَى إسْلَامٍ فَإِنّ
الْحَبَشَةَ كَانُوا نَصَارَى يَعْبُدُونَ [ ص 112 ] الْمَسِيحَ وَلَا يَقُولُونَ
هُوَ عَبْدُ اللّهِ وَقَدْ تَبَيّنَ ذَلِكَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَسُمّوا
بِهَذِهِ مُهَاجِرِينَ وَهُمْ أَصْحَابُ الْهِجْرَتَيْنِ الّذِينَ أَثْنَى اللّهُ
عَلَيْهِمْ بِالسّبْقِ فَقَالَ { وَالسّابِقُونَ الْأَوّلُونَ } وَجَاءَ فِي
التّفْسِيرِ أَنّهُمْ الّذِينَ صَلّوْا الْقِبْلَتَيْنِ وَهَاجَرُوا
الْهِجْرَتَيْنِ وَقَدْ قِيلَ أَيْضًا : هُمْ الّذِينَ شَهِدُوا بَيْعَةَ الرّضْوَانِ
، فَانْظُرْ كَيْفَ أَثْنَى اللّهُ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الْهِجْرَةِ وَهُمْ قَدْ
خَرَجُوا مِنْ بَيْتِ اللّهِ الْحَرَامِ إلَى دَارِ كُفْرٍ لَمّا كَانَ فِعْلُهُمْ
ذَلِكَ احْتِيَاطًا عَلَى دِينِهِمْ وَرَجَاءَ أَنْ يُخَلّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
عِبَادَةِ رَبّهِمْ يَذْكُرُونَهُ آمِنِينَ مُطْمَئِنّينَ وَهَذَا حُكْمٌ
مُسْتَمِرّ مَتَى غَلَبَ الْمُنْكَرُ فِي بَلَدٍ وَأُوذِيَ عَلَى الْحَقّ مُؤْمِنٌ
وَرَأَى الْبَاطِلَ قَاصِرًا لِلْحَقّ وَرَجَا أَنْ يَكُونَ فِي بَلَدٍ آخَرَ -
أَيّ بَلَدٍ كَانَ - يُخَلّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ دِينِهِ وَيُظْهِرُ فِيهِ
عِبَادَةَ رَبّهِ فَإِنّ الْخُرُوجَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَتْمٌ عَلَى
الْمُؤْمِنِ وَهَذِهِ الْهِجْرَةُ الّتِي لَا تَنْقَطِعُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
{ وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلّوا فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ
} [ الْبَقَرَةُ 115 ] . فَصْلٌ وَلَيْسَ فِي بَاقِي حَدِيثِهِمْ شَيْءٌ يُشْرَحُ
قَدْ شَرَحَ ابْنُ هِشَامٍ الشّيُومَ وَهُمْ الْآمِنُونَ فَيَحْتَمِلُ أَنْ
تَكُونَ لَفْظَةً حَبَشِيّةً غَيْرَ مُشْتَقّةٍ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَهَا
أَصْلٌ فِي الْعَرَبِيّةِ وَأَنْ تَكُونَ مِنْ شِمْت السّيْفَ إذَا أَغْمَدْته ،
لِأَنّ الْآمِنَ مُغْمَدٌ عَنْهُ السّيْفُ أَوْ لِأَنّهُ مَصُونٌ فِي صِوَانٍ
وَحِرْزٍ كَالسّيْفِ فِي غِمْدِهِ . وَقَوْلُهُ ضَوَى إلَيْك فِتْيَةٌ أَيْ
أَوَوْا إلَيْك ، وَلَاذُوا بِك ، وَأَمّا ضَوِيَ بِكَسْرِ الْوَاوِ فَهُوَ مِنْ
الضّوَى مَقْصُورٌ وَهُوَ الْهُزَالُ وَقَالَ الشّاعِرُ
فَتًى لَمْ تَلِدْهُ بِنْتُ عَمّ قَرِيبَةٌ ... فَيَضْوَى ، وَقَدْ يَضْوَى
رَدِيدُ الْغَرَائِبِ
وَمِنْهُ الْحَدِيثُ اغْتَرَبُوا لَا تَضْوُوا ، يَقُولُ إنّ تَزْوِيجَ
الْقَرَائِبِ يُورِثُ الضّوَى فِي الْوَلَدِ وَالضّعْفَ فِي الْقَلْبِ قَالَ
الرّاجِزُ
إنّ بِلَالًا لَمْ تَشِنْهُ أُمّهُ ... لَمْ يَتَنَاسَبْ خَالُهُ وَعَمّهُ
إضَافَةُ الْعَيْنِ إلَى اللّهِ
[ ص 113 ] أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا ، أَيْ أَبْصَرُ بِهِمْ أَيْ عَيْنُهُمْ
وَإِبْصَارُهُمْ فَوْقَ عَيْنِ غَيْرِهِمْ فِي أَمْرِهِمْ فَالْعَيْنُ هَاهُنَا
بِمَعْنَى الرّؤْيَةِ وَالْإِبْصَارِ لَا بِمَعْنَى الْعَيْنِ الّتِي هِيَ
الْجَارِحَةُ وَمَا سُمّيَتْ الْجَارِحَةُ عَيْنًا إلّا مَجَازًا ، لِأَنّهَا
مَوْضِعُ الْعِيَانِ وَقَدْ قَالُوا : عَانَهُ يُعِينُهُ عَيْنًا إذَا رَآهُ
وَإِنْ كَانَ الْأَشْهُرُ فِي هَذَا أَنْ يُقَالَ عَايَنَهُ مُعَايَنَةً
وَالْأَشْهَرُ فِي عَنِتَ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ
وَإِنّمَا أَوْرَدْنَا هَذَا الْكَلَامَ لِتَعْلَمَ أَنّ الْعَيْنَ فِي أَصْلِ
وَضْعِ اللّغَةِ صِفّةٌ لَا جَارِحَةٌ وَأَنّهَا إذَا أُضِيفَتْ إلَى الْبَارِي
سُبْحَانَهُ فَإِنّهَا حَقِيقَةٌ نَحْوَ قَوْلِ أُمّ سَلَمَةَ لَعَائِشَةَ
بِعَيْنِ اللّهِ مَهْوَاك ، وَعَلَى رَسُولِ اللّهِ تَرُدّينَ ؟ وَفِي التّنْزِيلِ
{ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } وَقَدْ أَمْلَيْنَا فِي الْمَسَائِلِ
الْمُفْرَدَاتِ مَسْأَلَةً فِي هَذَا الْمَعْنَى ، وَفِيهَا الرّدّ عَلَى مَنْ
أَجَازَ التّثْنِيَةَ فِي الْعَيْنِ مَعَ إضَافَتِهَا إلَى اللّهِ تَعَالَى ،
وَقَاسَهَا عَلَى الْيَدَيْنِ وَفِيهَا الرّدّ عَلَى مَنْ احْتَجّ بِقَوْلِ النّبِيّ
عَلَيْهِ السّلَامُ إنّ رَبّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ وَأَوْرَدْنَا فِي ذَلِكَ مَا
فِيهِ شِفَاءٌ وَأَتْبَعْنَاهُ بِمَعَانٍ بَدِيعَةٍ فِي مَعْنَى عَوَرِ الدّجّالُ
فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ .
قَالَتْ
فَلَمّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ : وَاَللّهِ
لَآتِيَنّهُ غَدًا عَنْهُمْ بِمَا اسْتَأْصَلَ بِهِ خَضْرَاءَهُمْ . قَالَتْ
فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ - وَكَانَ أَتْقَى الرّجُلَيْنِ
فِينَا : لَا نَفْعَلُ فَإِنّ لَهُمْ أَرْحَامًا ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ
خَالَفُونَا . قَالَ وَاَللّهِ لَأُخْبِرَنّهُ أَنّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنّ عِيسَى
ابْنَ مَرْيَمَ عَبْدٌ قَالَتْ ثُمّ غَدَا عَلَيْهِ مِنْ الْغَدِ فَقَالَ لَهُ
أَيّهَا الْمَلِكُ إنّهُمْ يَقُولُونَ [ ص 114 ] ابْنِ مَرْيَمَ قَوْلًا عَظِيمًا
، فَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ فَسَلْهُمْ عَمّا يَقُولُونَ فِيهِ . قَالَتْ فَأَرْسَلَ
إلَيْهِمْ لِيَسْأَلَهُمْ عَنْهُ . قَالَتْ وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَا مِثْلُهَا قَطّ
. فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ ثُمّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ مَاذَا تَقُولُونَ فِي
عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ إذَا سَأَلَكُمْ عَنْهُ ؟ قَالُوا : نَقُولُ - وَاَللّهِ -
[ فِيهِ ] مَا قَالَ اللّهُ وَمَا جَاءَنَا بِهِ نَبِيّنَا ، كَائِنًا فِي ذَلِكَ
مَا هُوَ كَائِنٌ . قَالَتْ فَلَمّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالَ لَهُمْ مَاذَا
تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ؟ قَالَتْ فَقَالَ [ لَهُ ] جَعْفَرُ بْنُ
أَبِي طَالِبٍ : نَقُولُ فِيهِ الّذِي جَاءَنَا بِهِ نَبِيّنَا صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ هُوَ عَبْدُ اللّهِ وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ
أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ . قَالَتْ فَضَرَبَ النّجَاشِيّ
بِيَدِهِ إلَى الْأَرْضِ فَأَخَذَ مِنْهَا عُودًا ، ثُمّ قَالَ وَاَللّهِ مَا
عَدَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مَا قُلْت هَذَا الْعُودَ قَالَتْ فَتَنَاخَرَتْ
بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ حِينَ قَالَ مَا قَالَ فَقَالَ وَإِنْ نَخَرْتُمْ
وَاَللّهِ اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ شُيُومٌ بِأَرْضِي - وَالشّيُومُ الْآمِنُونَ - مَنْ
سَبّكُمْ غَرِمَ ثُمّ قَالَ مَنْ سَبّكُمْ غَرِمَ ثُمّ قَالَ مَنْ سَبّكُمْ غَرِمَ
مَا أُحِبّ أَنّ لِي دَبْرًا مِنْ ذَهَبٍ وَأَنّي آذَيْت رَجُلًا مِنْكُمْ - قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ دَبْرِي مِنْ ذَهَبٍ . وَيُقَالُ فَأَنْتُمْ سُيُومٌ
وَالدّبْرُ - بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ : الْجَبَلُ - رَدّوا عَلَيْهِمَا
هَدَايَاهُمَا ، فَلَا حَاجَةَ لِي بِهَا ، فَوَاَللّهِ مَا أَخَذَ اللّهُ مِنّي
الرّشْوَةَ حِينَ رَدّ عَلَيّ مُلْكِي ، فَآخُذَ الرّشْوَةَ فِيهِ وَمَا أَطَاعَ
النّاسُ فِي فَأُطِيعُهُمْ فِيهِ . قَالَتْ فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ مَقْبُوحِينَ
مَرْدُودًا عَلَيْهِمَا مَا جَاءَا بِهِ وَأَقَمْنَا عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ مَعَ
خَيْرِ جَارٍSمَعْنَى
أَنّ عِيسَى كَلِمَةُ اللّهِ وَرُوحُهُ
وَقَوْلُ جَعْفَرٍ فِي عِيسَى : هُوَ رُوحُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ وَمَعْنَى :
كَلِمَتِهِ أَيْ قَالَ لَهُ كَمَا قَالَ لِآدَمَ حِينَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمّ
قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَلَمْ يَقُلْ فَكَانَ لِئَلّا يُتَوَهّمَ وُقُوعُ [ ص
114 ] حَالِ الْقَوْلِ وَتَوَجّهَ الْفِعْلُ بِيَسِيرِ عَلَى الْقَوْلِ لَا
يُمْكِنُ مُسْتَقْدِمٌ وَلَا مُسْتَأْخِرٌ فَهَذَا مَعْنَى الْكَلِمَةِ وَأَمّا
رُوحُ اللّهِ فَلِأَنّهُ نَفْخَةُ رُوحِ الْقُدُسِ فِي جَيْبِ الطّاهِرَةِ
الْمُقَدّسَةِ وَالْقُدُسُ : الطّهَارَةُ مِنْ كُلّ مَا يَشِينُ أَوْ يَعِيبُ أَوْ
تُقَذّرُهُ نَفْسٌ أَوْ يَكْرَهُهُ شَرْعٌ وَجِبْرِيلُ رُوحُ الْقُدُسِ ، لِأَنّهُ
رُوحٌ لَمْ يُخْلَقْ مِنْ مِنّي ، وَلَا صَدَرَ عَنْ شَهْوَةٍ فَهُوَ مُضَافٌ إلَى
اللّهِ سُبْحَانَهُ إضَافَةَ تَشْرِيفٍ وَتَكْرِيمٍ لِأَنّهُ صَادِرٌ عَنْ
الْحَضْرَةِ الْمُقَدّسَةِ وَعِيسَى عَلَيْهِ السّلَامُ صَادِرٌ عَنْهُ فَهُوَ
رُوحُ اللّهِ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى ؛ إذْ النّفْخُ قَدْ يُسَمّى : رُوحًا
أَيْضًا ، كَمَا قَالَ غَيْلَانُ [ بْنُ عُقْبَةَ ذُو الرّمّةِ ] يَصِفُ النّارَ
فَقُلْت لَهُ ارْفَعْهَا إلَيْك ، وَأَحْيِهَا ... بِرُوحِك ، وَاقْدُرْهَا لَهَا
قِيتَةً بَدَرَا
وَأَضِفْ هَذَا الْكَلَامَ فِي رُوحِ الْقُدُسِ ، وَفِي تَسْمِيَةِ النّفْخِ
رُوحًا إلَى مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ فِي حَقِيقَةِ الرّوحِ وَشَرْحِ مَعْنَاهُ
فَإِنّهُ تَكْمِلَةٌ لَهُ .
الْمُهَاجِرُونَ
وَانْتِصَارُ النّجَاشِيّ
[ ص 115 ] قَالَتْ فَوَاَللّهِ إنّا لَعَلَى ذَلِكَ إذْ نَزَلَ بِهِ رَجُلٌ مِنْ
الْحَبَشَةِ يُنَازِعُهُ فِي مُلْكِهِ . قَالَتْ فَوَاَللّهِ مَا عَلِمْتنَا
حَزِنّا حُزْنًا قَطّ كَانَتْ أَشَدّ عَلَيْنَا مِنْ حُزْنٍ حَزَنّاهُ عِنْدَ
ذَلِكَ تَخَوّفًا أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ الرّجُلُ عَلَى النّجَاشِيّ ، فَيَأْتِي
رَجُلٌ لَا يَعْرِفُ مِنْ حَقّنَا مَا كَانَ النّجَاشِيّ يَعْرِفُ مِنْهُ قَالَتْ
وَسَارَ إلَيْهِ النّجَاشِيّ ، وَبَيْنَهُمَا عَرْضُ النّيلِ ، قَالَتْ فَقَالَ
أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلَهُ وَسَلّمَ مِنْ
رَجُلٍ يَخْرَجُ حَتّى يَحْضُرَ وَقِيعَةَ الْقَوْمِ ثُمّ يَأْتِينَا بِالْخَبَرِ
؟ قَالَتْ فَقَالَ الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوَامّ : أَنَا ، قَالُوا : فَأَنْتَ -
وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِ الْقَوْمِ سِنّا - قَالَتْ فَنَفَخُوا لَهُ قِرْبَةً
فَجَعَلَهَا فِي صَدْرِهِ ثُمّ سَبّحَ عَلَيْهَا حَتّى خَرَجَ إلَى نَاحِيَةِ
النّيلِ الّتِي بِهَا مُلْتَقَى الْقَوْمِ ثُمّ انْطَلَقَ حَتّى حَضَرَهُمْ
قَالَتْ فَدَعَوْنَا اللّهَ تَعَالَى لِلنّجَاشِيّ بِالظّهُورِ عَلَى عَدُوّهِ
وَالتّمْكِينِ لَهُ فِي بِلَادِهِ قَالَتْ فَوَاَللّهِ إنّا لَعَلَى ذَلِكَ
مُتَوَقّعُونَ لِمَا هُوَ كَائِنٌ إذْ طَلَعَ الزّبَيْرُ وَهُوَ يَسْعَى ،
فَلَمَعَ بِثَوْبِهِ وَهُوَ يَقُولُ أَلَا أَبْشِرُوا ، فَقَدْ ظَفِرَ النّجَاشِيّ
، وَأَهْلَكَ اللّهُ عَدُوّهُ وَمُكّنَ لَهُ فِي بِلَادِهِ . قَالَتْ فَوَاَللّهِ
مَا عَلِمْتنَا فَرِحْنَا فَرْحَةً قَطّ مِثْلَهَا . قَالَتْ وَرَجَعَ النّجَاشِيّ
، وَقَدْ أَهْلَكَ اللّهُ عَدُوّهُ وَمُكّنَ لَهُ فِي بِلَادِهِ وَاسْتَوْثَقَ
عَلَيْهِ أَمْرُ الْحَبَشَةِ ، فَكُنّا عِنْدَهُ فِي خَيْرِ مَنْزِلٍ حَتّى
قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ بِمَكّةَ
قِصّةُ تَمْلِكْ النّجَاشِيّ عَلَى الْحَبَشَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : قَالَ الزّهْرِيّ : فَحَدّثْت عُرْوَةَ بْنَ الزّبَيْرِ
حَدِيثَ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ عَنْ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجِ النّبِيّ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَقَالَ هَلْ تَدْرِي مَا قَوْلُهُ مَا أَخَذَ
اللّهُ مِنّي الرّشْوَةَ حِينَ رَدّ عَلَيّ مُلْكِي ، فَآخُذَ الرّشْوَةَ فِيهِ
وَمَا أَطَاعَ النّاسَ فِيّ فَأُطِيعُ النّاسَ فِيهِ ؟ قَالَ قُلْت : لَا ، قَالَ
فَإِنّ عَائِشَةَ أُمّ الْمُؤْمِنِينَ حَدّثَتْنِي أَنّ أَبَاهُ كَانَ مَلَكَ قَوْمَهُ
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ إلّا النّجَاشِيّ ، وَكَانَ لِلنّجَاشِيّ عَمّ ، لَهُ
مِنْ صُلْبِهِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا ، وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ مَمْلَكَةِ
الْحَبَشَةِ ، فَقَالَتْ الْحَبَشَةُ بَيْنَهَا : لَوْ أَنّا قَتَلْنَا أَبَا
النّجَاشِيّ ، وَمَلَكْنَا أَخَاهُ فَإِنّهُ لَا وَلَدَ لَهُ غَيْرُ هَذَا
الْغُلَامِ وَإِنّ لِأَخِيهِ مِنْ صُلْبِهِ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا ،
فَتَوَارَثُوا مُلْكَهُ مِنْ بَعْدِهِ بَقِيَتْ الْحَبَشَةُ بَعْدَهُ دَهْرًا ،
فَغَدَوْا عَلَى أَبِي النّجَاشِيّ فَقَتَلُوهُ وَمَلَكُوا أَخَاهُ فَمَكَثُوا
عَلَى ذَلِكَ حِينًا [ ص 116 ] وَنَشَأَ النّجَاشِيّ مَعَ عَمّهِ - وَكَانَ
لَبِيبًا حَازِمًا مِنْ الرّجَالِ - فَغَلَبَ عَلَى أَمْرِ عَمّهِ وَنَزَلَ مِنْهُ
بِكُلّ مَنْزِلَةٍ فَلَمّا رَأَتْ الْحَبَشَةُ مَكَانَهُ مِنْهُ قَالَتْ بَيْنَهَا
: وَاَللّهِ لَقَدْ غَلَبَ هَذَا الْفَتَى عَلَى أَمْرِ عَمّهِ وَإِنّا
لَنَتَخَوّفَ أَنْ يُمَلّكَهُ عَلَيْنَا ، وَإِنْ مَلّكَهُ عَلَيْنَا
لَيَقْتُلَنّا أَجْمَعِينَ لَقَدْ عَرَفَ أَنَا نَحْنُ قَتَلْنَا أَبَاهُ .
فَمَشَوْا إلَى عَمّهِ فَقَالُوا : إمّا أَنْ تَقْتُلَ هَذَا الْفَتَى ، وَإِمّا
أَنْ تُخْرِجَهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا ، فَإِنّا قَدْ خِفْنَاهُ عَلَى
أَنْفُسِنَا ، قَالَ وَيْلَكُمْ قَتَلْت أَبَاهُ بِالْأَمْسِ وَأَقْتُلُهُ
الْيَوْمَ بَلْ أُخْرِجُهُ مِنْ بِلَادِكُمْ . قَالَتْ فَخَرَجُوا بِهِ إلَى
السّوقِ فَبَاعُوهُ إلَى رَجُلٍ مِنْ التّجّارِ بِسِتّمِائَةِ دِرْهَمٍ فَقَذَفَهُ
فِي سَفِينَةٍ فَانْطَلَقَ بِهِ حَتّى إذَا كَانَ الْعَشِيّ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ
هَاجَتْ سَحَابَةٌ مِنْ سَحَائِبِ الْخَرِيفِ فَخَرَجَ عَمّهُ يَسْتَمْطِرُ
تَحْتَهَا ، فَأَصَابَتْهُ صَاعِقَةٌ فَقَتَلَتْهُ . قَالَتْ فَفَزِعَتْ
الْحَبَشَةُ إلَى وَلَدِهِ فَإِذَا هُوَ مُحْمِقٌ لَيْسَ فِي وَلَدِهِ خَيْرٌ
فَمَرِجَ عَلَى الْحَبَشَةِ أَمْرُهُمْ . فَلَمّا ضَاقَ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ فِيهِ
مِنْ ذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ تَعْلَمُوا وَاَللّهِ أَنّ مَلَكَكُمْ
الّذِي لَا يُقِيمُ أَمْرَكُمْ غَيْرُهُ الّذِي بِعْتُمْ غَدْوَةً فَإِنْ كَانَ
لَكُمْ بِأَمْرِ الْحَبَشَةِ حَاجَةٌ فَأَدْرِكُوهُ الْآنَ . قَالَتْ فَخَرَجُوا
فِي طَلَبِهِ وَطَلَبِ الرّجُلِ الّذِي بَاعُوهُ مِنْهُ حَتّى أَدْرَكُوهُ
فَأَخَذُوهُ مِنْهُ ثُمّ جَاءُوا بِهِ فَعَقَدُوا عَلَيْهِ التّاجَ وَأَقْعَدُوهُ
عَلَى سَرِيرِ الْمُلْكِ فَمَلّكُوهُ . فَجَاءَهُمْ التّاجِرُ الّذِي كَانُوا
بَاعُوهُ مِنْهُ فَقَالَ إمّا أَنْ تُعْطُونِي مَالِي ، وَإِمّا أَنْ أُكَلّمهُ
فِي ذَلِكَ ؟ قَالُوا : لَا نُعْطِيك شَيْئًا ، قَالَ إذَنْ وَاَللّهِ أُكَلّمُهُ
قَالُوا : فَدُونَك وَإِيّاهُ . قَالَتْ فَجَاءَهُ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ
فَقَالَ أَيّهَا الْمَلِكُ ابْتَعْت غُلَامًا مِنْ قَوْمٍ بِالسّوقِ بِسِتّمِائَةِ
دِرْهَمٍ فَأَسْلَمُوا إلَيّ غُلَامِي ، وَأَخَذُوا دَرَاهِمِي ، حَتّى إذَا سِرْت
بِغُلَامِي ، أَدْرَكُونِي ، فَأَخَذُوا [ ص 116 ] غُلَامِي ، وَمَنَعُونِي
دَرَاهِمِي . قَالَتْ فَقَالَ لَهُمْ النّجَاشِيّ : لِتُعْطُنّهُ دَرَاهِمَهُ أَوْ
لَيَضَعَنّ غُلَامُهُ يَدَهُ فِي يَدِهِ فَلْيَذْهَبْ بِهِ حَيْثُ شَاءَ قَالُوا :
بَلْ نُعْطِيهِ دَرَاهِمَهُ . قَالَتْ فَلِذَلِكَ يَقُولُ مَا أَخَذَ اللّهُ مِنّي
رِشْوَةً حِينَ رَدّ عَلَيّ مُلْكِي ، فَآخُذَ الرّشْوَةَ فِيهِ وَمَا أَطَاعَ
النّاسَ فِيّ فَأُطِيعُ النّاسَ فِيهِ . قُلْت : وَكَانَ ذَلِكَ أَوّلَ مَا خُبِرَ
مِنْ صَلَابَتِهِ فِي دِينِهِ وَعَدْلِهِ فِي حُكْمِهِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
وَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ ، عَنْ
عَائِشَةَ قَالَتْ لَمّا مَاتَ النّجَاشِيّ ، كَانَ يَتَحَدّثُ أَنّهُ لَا يَزَالُ
يُرَى عَلَى قَبْرِهِ نُورٌSالنّجَاشِيّ
أَصْحَمَةُ
[ ص 115 ] وَذَكَرَ حَدِيثَ عَائِشَةَ عَنْ النّجَاشِيّ حِينَ رَدّ اللّهُ
عَلَيْهِ مُلْكَهُ وَأَنّ قَوْمَهُ كَانُوا بَاعُوهُ فَلَمّا مَرِجَ أَمْرُ
الْحَبَشَةِ ، أَخَذُوهُ مِنْ سَيّدِهِ وَاسْتَرَدّوهُ . وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ
يَدُلّ عَلَى أَنّهُمْ أَخَذُوهُ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ بِلَادَهُ
لِقَوْلِهِ خَرَجُوا فِي طَلَبِهِ فَأَدْرَكُوهُ وَقَدْ بُيّنَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ
[ ص 116 ] كَانَ مِنْ الْعَرَبِ وَأَنّهُ اسْتَعْبَدَهُ طَوِيلًا ، وَهُوَ الّذِي
يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ فَلَمّا مَرِجَ عَلَى الْحَبَشَةِ أَمْرُهُمْ وَضَاقَ
عَلَيْهِمْ مَا هُمْ فِيهِ وَهَذَا يَدُلّ عَلَى طُولِ الْمُدّةِ فِي مَغِيبِهِ
عَنْهُمْ وَقَدْ رُوِيَ أَنّ وَقْعَةَ بَدْرٍ حِينَ انْتَهَى خَبَرُهَا إلَى
النّجَاشِيّ عَلِمَ بِهَا قَبْلَ مَنْ عِنْدَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَأَرْسَلَ
إلَيْهِمْ فَلَمّا دَخَلُوا عَلَيْهِ إذَا هُوَ قَدْ لَبِسَ مَسْحًا ، وَقَعَدَ
عَلَى التّرَابِ وَالرّمَادِ فَقَالُوا لَهُ مَا هَذَا أَيّهَا الْمَلِكُ ؟
فَقَالَ إنّا نَجِدُ فِي الْإِنْجِيلِ أَنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ إذَا أَحْدَثَ
بِعَبْدِهِ وَجَبَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يُحْدِثَ لِلّهِ تَوَاضُعًا ، وَإِنّ
اللّهَ قَدْ أَحْدَثَ إلَيْنَا وَإِلَيْكُمْ نِعْمَةً عَظِيمَةً وَهِيَ أَنّ
النّبِيّ مُحَمّدًا - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بَلَغَنِي أَنّهُ الْتَقَى
هُوَ وَأَعْدَاؤُهُ بِوَادٍ يُقَالُ لَهُ بَدْرٌ كَثِيرُ الْأَرَاكِ ، كُنْت
أَرْعَى فِيهِ الْغَنَمَ عَلَى سَيّدِي ، وَهُوَ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ وَأَنّ
اللّهَ قَدْ هَزَمَ أَعْدَاءَهُ فِيهِ وَنَصَرَ دِينَهُ فَدَلّ هَذَا الْخَبَرُ
عَلَى طُولِ مُكْثِهِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ ، فَمِنْ هُنَا - وَاَللّهُ أَعْلَمُ
- تَعْلَمُ مِنْ لِسَانِ الْعَرَبِ مَا فَهِمَ بِهِ سُورَةَ مَرْيَمَ حِينَ
تُلِيَتْ عَلَيْهِ حَتّى بَكَى ، وَأَخْضَلَ لِحْيَتَهُ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنّهُ
قَالَ إنّا نَجِدُ فِي الْإِنْجِيلِ أَنّ اللّعْنَةَ تَقَعُ فِي الْأَرْضِ إذَا
كَانَتْ إمَارَةُ الصّبْيَانِ
مَنْ فَقِهَ حَدِيثَ الْهِجْرَةِ إلَى الْحَبَشَةِ
[ ص 117 ] الْحَبَشَةِ مِنْ الْفِقْهِ أَنّ جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ
لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَيْفَ نُصَلّي فِي
السّفِينَةِ إذَا رَكِبْنَا فِي الْبَحْرِ ؟ فَقَالَ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ " صَلّ قَائِمًا إلّا أَنْ تَخَافَ الْغَرَقَ خَرّجَهُ
الدّارَقُطْنِيّ ، وَلَكِنْ فِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ وَفِي مُسْنَدِ ابْنِ أَبِي
شَيْبَةَ : وَصَلّى أَنَسٍ فِي السّفِينَةِ جَالِسًا . وَذَكَرَ الْبُخَارِيّ عَنْ
الْحَسَنِ يُصَلّي قَائِمًا إلّا أَنْ يَضُرّ بِأَهْلِهَا .
إسْلَامُ
النّجَاشِيّ وَالصّلَاةُ عَلَيْهِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمّدٍ ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ
اجْتَمَعَتْ الْحَبَشَةُ ، فَقَالُوا لِلنّجَاشِيّ إنّك قَدْ فَارَقْت دِينَنَا ،
وَخَرَجُوا عَلَيْهِ قَالَ فَأَرْسِلْ إلَى جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ [ ص 118 ]
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا ، وَكُونُوا كَمَا أَنْتُمْ فَإِنْ هُزِمْت فَامْضُوا
حَتّى تَلْحَقُوا بِحَيْثُ شِئْتُمْ وَإِنْ ظُفِرَتْ فَاثْبُتُوا . ثُمّ عَمِدَ
إلَى كِتَابٍ فَكَتَبَ فِيهِ هُوَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّ
مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَيَشْهَدُ أَنّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ ، ثُمّ جَعَلَهُ فِي
قَبَائِهِ عِنْدَ الْمَنْكِبِ الْأَيْمَنِ وَخَرَجَ إلَى الْحَبَشَةِ ، وَصَفّوا
لَهُ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ الْحَبَشَةِ ، أَلَسْت أَحَقّ النّاسِ بِكُمْ ؟ قَالُوا
: بَلَى ، قَالَ فَكَيْفَ رَأَيْتُمْ سِيرَتِي فِيكُمْ ؟ قَالُوا : خَيْرُ سِيرَةٍ
قَالَ فَمَا لَكُمْ ؟ قَالُوا : فَارَقَتْ دِينَنَا ، وَزَعَمَتْ أَنّ عِيسَى
عَبْدٌ قَالَ فَمَا تَقُولُونَ أَنْتُمْ فِي عِيسَى ؟ قَالُوا : نَقُولُ هُوَ
ابْنُ اللّهِ فَقَالَ النّجَاشِيّ ، وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ عَلَى
قَبَائِهِ هُوَ يَشْهَدُ أَنّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ لَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا
شَيْئًا ، [ ص 119 ] فَرَضُوا وَانْصَرَفُوا ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَمّا مَاتَ النّجَاشِيّ صَلّى عَلَيْهِ وَاسْتَغْفَرَ
لَهُSحَوْلَ
كِتَابِ النّجَاشِيّ وَالصّلَاةِ عَلَيْهِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ الْكِتَابُ الّذِي كَتَبَهُ النّجَاشِيّ ، وَجَعَلَهُ بَيْنَ
صَدْرِهِ وَقَبَائِهِ وَقَالَ لِلْقَوْمِ أَشْهَدُ أَنّ عِيسَى لَمْ يَزِدْ عَلَى
هَذَا ، وَفِيهِ مِنْ الْفِقْهِ أَنّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُكَذّبَ
كَذِبًا صُرَاحًا ، وَلَا أَنْ يُعْطِيَ بِلِسَانِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ أُكْرِهَ
مَا أَمْكَنَهُ الْحِيلَةُ وَفِي الْمَعَارِيضِ مَنْدُوحَةٌ عَنْ الْكَذِبِ
وَكَذَلِكَ قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي قَوْلِ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ لَيْسَ
بِالْكَاذِبِ مَنْ أَصْلَحَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَقَالَ خَيْرًا رَوَتْهُ أُمّ
كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ . قَالُوا : مَعْنَاهُ أَنْ يُعَرّضَ وَلَا [ ص 118 ]
وَذَكَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - صَلّى عَلَى
النّجَاشِيّ ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُ وَكَانَ مَوْتُ النّجَاشِيّ فِي رَجَبٍ مِنْ
سَنَةِ تِسْعٍ وَنَعَاهُ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى
النّاسِ فِي الْيَوْمِ الّذِي مَاتَ فِيهِ وَصَلّى عَلَيْهِ بِالْبَقِيعِ ، رُفِعَ
إلَيْهِ سَرِيرُهُ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ حَتّى رَآهُ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ
فَصَلّى عَلَيْهِ وَتَكَلّمَ الْمُنَافِقُونَ فَقَالُوا : أَيُصَلّي عَلَى هَذَا
الْعِلْجِ ؟ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : وَإِنّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ
يُؤْمِنُ بِاَللّهِ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إلَيْهِمْ [ آلُ
عِمْرَانَ : 199 ] . وَمِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ أَبَا
نيزر مَوْلَى عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، كَانَ ابْنًا لِلنّجَاشِيّ نَفْسِهِ
وَأَنّ عِلّيّا وَجَدَهُ عِنْدَ تَاجِرٍ بِمَكّةَ فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ
وَأَعْتَقَهُ مُكَافَأَةً لِمَا صَنَعَ أَبُوهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ . وَذَكَرَ
أَنّ الْحَبَشَةَ مَرِجَ عَلَيْهَا أَمْرُهَا بَعْدَ النّجَاشِيّ ، وَأَنّهُمْ
أَرْسَلُوا وَفْدًا مِنْهُمْ إلَى أَبِي نيزر ، وَهُوَ مَعَ عَلِيّ لِيُمَلّكُوهُ
وَيُتَوّجُوهُ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ فَأَبَى وَقَالَ مَا كُنْت لِأَطْلُبَ
الْمُلْكَ بَعْدَ أَنْ مَنّ اللّهُ عَلَيّ بِالْإِسْلَامِ قَالَ وَكَانَ أَبُو
نيزر مِنْ أَطْوَلِ النّاسِ قَامَةً [ ص 119 ] قَالَ وَلَمْ يَكُنْ لَوْنُهُ
كَأَلْوَانِ الْحَبَشَةِ ، وَلَكِنْ إذَا رَأَيْته قُلْت : هَذَا رَجُلٌ مِنْ
الْعَرَبِ
ذِكْرُ
إسْلَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
[ ص 120 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَلَمّا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ ،
وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ عَلَى قُرَيْشٍ ، وَلَمْ يُدْرِكُوا مَا
طَلَبُوا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
وَرَدّهُمَا النّجَاشِيّ بِمَا يَكْرَهُونَهُ وَأَسْلَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ -
وَكَانَ رَجُلًا ذَا شَكِيمَةٍ لَا يُرَامُ مَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ - امْتَنَعَ بِهِ
أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبِحَمْزَةِ حَتّى
عَازُوا قُرَيْشًا ، وَكَانَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ مَا كُنّا
نَقْدِرُ عَلَى أَنْ نُصَلّيَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ ، حَتّى أَسْلَمَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطّابِ ، فَلَمّا أَسْلَمَ قَاتَلَ قُرَيْشًا ، حَتّى صَلّى عِنْدَ
الْكَعْبَةِ ، وَصَلّيْنَا مَعَهُ وَكَانَ إسْلَامُ عُمَرَ بَعْدَ خُرُوجِ مَنْ
خَرَجَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إلَى
الْحَبَشَةِ . قَالَ الْبَكّائِيّ قَالَ حَدّثَنِي مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ عَنْ
سَعْدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ ، قَالَ قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : إنّ
إسْلَامَ عُمَرَ كَانَ فَتْحًا ، وَإِنّ هِجْرَتَهُ كَانَتْ نَصْرًا ، وَإِنّ
إمَارَتَهُ كَانَتْ رَحْمَةً وَلَقَدْ كُنّا مَا نُصَلّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ حَتّى
أَسْلَمَ عُمَرُ فَلَمّا أَسْلَمَ ، قَاتَلَ قُرَيْشًا حَتّى صَلّى عِنْدَ
الْكَعْبَةِ ، وَصَلّيْنَا مَعَهُ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي عَبْدُ
الرّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عِيَاشِ بْنِ أَبِي [ ص 121 ]
رَبِيعَةَ ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ
رَبِيعَةَ ، عَنْ أُمّهِ أُمّ عَبْدِ اللّهِ بِنْتِ أَبِي حَثْمَةَ ، قَالَتْ
وَاَللّهِ إنّا لَنَتَرَحّلُ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، وَقَدْ ذَهَبَ عَامِرٌ فِي
بَعْضِ حَاجَاتِنَا ، إذْ أَقْبَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ ، حَتّى وَقَفَ عَلَيّ
وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ - قَالَتْ وَكُنّا نَلْقَى مِنْهُ الْبَلَاءَ أَذًى لَنَا ،
وَشِدّةً عَلَيْنَا - قَالَتْ فَقَالَ إنّهُ لَلِانْطِلَاقُ يَا أُمّ عَبْدِ
اللّهِ . قَالَتْ فَقُلْت : نَعَمْ وَاَللّهِ لَنَخْرُجَنّ فِي أَرْضِ اللّهِ
آذَيْتُمُونَا وَقَهَرْتُمُونَا ، حَتّى يَجْعَلَ اللّهُ مَخْرَجًا . قَالَتْ
فَقَالَ صَحِبَكُمْ اللّهُ وَرَأَيْت لَهُ رِقّةً لَمْ أَكُنْ أَرَاهَا ، ثُمّ
انْصَرَفَ وَقَدْ أَحْزَنَهُ - فِيمَا أَرَى - خُرُوجُنَا . قَالَتْ فَجَاءَ
عَامِرٌ بِحَاجَتِهِ تِلْكَ فَقَالَتْ لَهُ يَا أَبَا عَبْدِ اللّهِ لَوْ رَأَيْت
عُمَرَ آنِفًا وَرِقّتَهُ وَحُزْنَهُ عَلَيْنَا قَالَ أَطَمِعْت فِي إسْلَامِهِ ؟
قَالَتْ قُلْت : نَعَمْ قَالَ فَلَا يُسْلِمُ الّذِي رَأَيْت ، حَتّى يُسْلِمَ
حِمَارُ الْخَطّابِ قَالَتْ يَأْسًا مِنْهُ لِمَا كَانَ يَرَى مِنْ غِلْظَتِهِ
وَقَسْوَتِهِ عَنْ الْإِسْلَامِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ إسْلَامُ عُمَرَ
فِيمَا بَلَغَنِي أَنّ أُخْته فَاطِمَةَ بِنْتَ الْخَطّابِ ، وَكَانَتْ عِنْدَ
سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ ، وَكَانَتْ قَدْ أَسْلَمَتْ
وَأَسْلَمَ بَعْلُهَا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ ، وَهُمَا مُسْتَخْفِيَانِ
بِإِسْلَامِهِمَا مِنْ عُمَرَ وَكَانَ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ النّحَامُ مِنْ
مَكّةَ ، رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْب ٍ قَدْ أَسْلَمَ ،
وَكَانَ أَيْضًا يَسْتَخْفِي بِإِسْلَامِهِ فَرَقًا مِنْ قَوْمه ، وَكَانَ خَبّابُ
بْنُ الْأَرَتّ يَخْتَلِفُ إلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ الْخَطّابِ يُقْرِئُهَا
الْقُرْآنَ فَخَرَجَ عُمَرُ يَوْمًا مُتَوَشّحًا سَيْفَهُ يُرِيدُ رَسُولَ اللّهِ
- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَرَهْطًا مِنْ أَصْحَابِهِ قَدْ ذَكَرُوا
لَهُ أَنّهُمْ قَدْ اجْتَمَعُوا فِي بَيْتٍ عِنْدَ الصّفَا ، وَهُمْ قَرِيبٌ مِنْ
أَرْبَعِينَ مَا بَيْنَ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ وَمَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَمّهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَأَبُو بَكْرِ
بْنُ أَبِي قُحَافَةَ الصّدّيقُ وَعَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، فِي رِجَالٍ مِنْ
الْمُسْلِمِينَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ مِمّنْ كَانَ أَقَامَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَكّةَ وَلَمْ يَخْرُجْ فِيمَنْ خَرَجَ إلَى
أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، فَلَقِيَهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ فَقَالَ لَهُ أَيْنَ
تُرِيدُ يَا عُمَرُ ؟ فَقَالَ أُرِيدُ مُحَمّدًا هَذَا الصّابِئَ الّذِي فَرّقَ
أَمْرَ قُرَيْشٍ ، وَسَفّهُ أَحْلَامَهَا ، وَعَابَ دِينَهَا ، وَسَبّ آلِهَتَهَا
، فَأَقْتُلُهُ فَقَالَ لَهُ نُعَيْمٌ وَاَللّهِ لَقَدْ غُرّتُك نَفْسُك مِنْ
نَفْسِك يَا عُمَرُ أَتَرَى بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ تَارِكِيك تَمْشِي عَلَى
الْأَرْضِ وَقَدْ قَتَلْت مُحَمّدًا أَفَلَا تَرْجِعُ إلَى أَهْلِ بَيْتِك
فَتُقِيمُ أَمْرَهُمْ ؟ قَالَ وَأَيّ أَهْلِ بَيْتِي ؟ قَالَ خَتَنُك وَابْنُ
عَمّك سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو ، وَأُخْتُك : فَاطِمَةُ بِنْتُ
الْخَطّابِ ، فَقَدْ وَاَللّهِ أَسْلَمَا ، وَتَابَعَا مُحَمّدًا عَلَى دِينِهِ
فَعَلَيْك بِهِمَا ، قَالَ فَرَجَعَ عُمَرُ عَامِدًا إلَى أُخْتِهِ وَخَتَنِهِ
وَعِنْدَهُمَا خَبّابُ بْنُ الْأَرَتّ مَعَهُ صَحِيفَةٌ فِيهَا : " طَه
" يُقْرِئُهُمَا إيّاهَا ، فَلَمّا سَمِعُوا حِسّ عُمَرَ تَغَيّبَ خَبّابٌ
فِي مُخْدَعٍ لَهُمْ - أَوْ فِي بَعْضِ الْبَيْتِ [ ص 122 ] فَاطِمَةُ بِنْتُ
الْخَطّابِ الصّحِيفَةَ فَجَعَلَتْهَا تَحْتَ فَخِذِهَا ، وَقَدْ سَمِعَ عُمَرُ
حِينَ دَنَا إلَى الْبَيْتِ قِرَاءَةَ خَبّابٍ عَلَيْهِمَا ، فَلَمّا دَخَلَ قَالَ
مَا هَذِهِ الْهَيْنَمَةُ الّتِي سَمِعْت . قَالَا لَهُ مَا سَمِعْت شَيْئًا ،
قَالَ بَلَى وَاَللّهِ لَقَدْ أُخْبِرْت أَنّكُمَا تَابَعْتُمَا مُحَمّدًا عَلَى
دِينِهِ وَبَطَشَ بِخَتَنِهِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ ، فَقَامَتْ إلَيْهِ أُخْتُهُ
فَاطِمَةُ بِنْتُ الْخَطّابِ لِتَكُفّهُ عَنْ زَوْجِهَا ، فَضَرَبَهَا فَشَجّهَا ،
فَلَمّا فَعَلَ ذَلِكَ قَالَتْ لَهُ أُخْتُهُ وَخَتَنُهُ نَعَمْ قَدْ أَسْلَمْنَا
، وَآمَنّا بِاَللّهِ وَرَسُولِهِ فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَك : فَلَمّا رَأَى عُمَرُ
مَا بِأُخْتِهِ مِنْ الدّمِ نَدِمَ عَلَى مَا صَنَعَ فَارْعَوَى ، وَقَالَ
لِأُخْتِهِ أَعْطِينِي هَذِهِ الصّحِيفَةَ الّتِي سَمِعَتْكُمْ تَقْرَءُونَ آنِفًا
أَنْظُرْ مَا هَذَا الّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمّدٌ وَكَانَ عُمَرُ كَاتِبًا ، فَلَمّا
قَالَ ذَلِكَ قَالَتْ لَهُ أُخْتُهُ إنّا نَخْشَاك عَلَيْهَا ، قَالَ لَا تَخَافِي
، وَحَلَفَ لَهَا بِآلِهَتِهِ لَيَرُدّنّهَا إذَا قَرَأَهَا إلَيْهَا ، فَلَمّا
قَالَ ذَلِكَ طَمِعَتْ فِي إسْلَامِهِ فَقَالَتْ لَهُ يَا أَخِي ، إنّك نَجَسٌ عَلَى
شِرْكِك ، وَإِنّهُ لَا يَمَسّهَا إلّا الطّاهِرُ فَقَامَ عُمَرُ فَاغْتَسَلَ
فَأَعْطَتْهُ الصّحِيفَةَ وَفِيهَا : " طَه " فَقَرَأَهَا ، فَلَمّا
قَرَأَ مِنْهَا صَدْرًا ، قَالَ مَا أَحْسَنَ هَذَا الْكَلَامَ [ ص 123 ]
وَأَكْرَمَهُ فَلَمّا سَمِعَ ذَلِكَ خَبّابٌ خَرَجَ إلَيْهِ فَقَالَ لَهُ يَا
عُمَرُ وَاَللّهِ إنّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللّهُ قَدْ خَصّك بِدَعْوَةِ
نَبِيّهِ فَإِنّي سَمِعْته أَمْسِ وَهُوَ يَقُولُ اللّهُمّ أَيّدْ الْإِسْلَامَ
بِأَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ أَوْ بِعُمَرِ بْنِ الْخَطّابِ فَاَللّهَ اللّهَ
يَا عُمَرُ فَقَالَ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ عُمَرُ فَدُلّنِي يَا خَبّابُ عَلَى
مُحَمّدٍ حَتّى آتِيَهُ فَأَسْلَمَ فَقَالَ لَهُ خَبّابٌ هُوَ فِي بَيْتٍ عِنْدَ
الصّفَا ، مَعَهُ فِيهِ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَأَخَذَ عُمَرُ سَيْفَهُ
فَتَوَشّحَهُ ثُمّ عَمِدَ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
وَأَصْحَابِهِ فَضَرَبَ عَلَيْهِمْ الْبَابَ فَلَمّا سَمِعُوا صَوْتَهُ قَامَ
رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
فَنَظَرَ مِنْ خَلَلِ الْبَابِ فَرَآهُ مُتَوَشّحًا السّيْفَ فَرَجَعَ إلَى
رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 124 ] فَقَالَ يَا رَسُولَ
اللّهِ هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ مُتَوَشّحًا السّيْفَ فَقَالَ حَمْزَةُ بْنُ
عَبْدِ الْمُطّلِبِ : فَأَذِنَ لَهُ فَإِنْ كَانَ جَاءَ يُرِيدُ خَيْرًا بَذَلْنَاهُ
لَهُ وَإِنْ كَانَ جَاءَ يُرِيدُ شَرّا قَتَلْنَاهُ بِسَيْفِهِ فَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - " ائْذَنْ لَهُ " ، فَأَذِنَ
لَهُ الرّجُلُ وَنَهَضَ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
- حَتّى لَقِيَهُ فِي الْحُجْرَةِ فَأَخَذَ حُجْزَتَهُ أَوْ بِمَجْمَعِ رِدَائِهِ
ثُمّ جَبَذَهُ بِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً وَقَالَ " مَا جَاءَ بِك يَا بْنَ
الْخَطّابِ ؟ فَوَاَللّهِ مَا أَرَى أَنْ تَنْتَهِيَ حَتّى يُنْزِلَ اللّهُ بِك
قَارِعَةً " ، فَقَالَ عُمَرُ يَا رَسُولَ اللّهِ جِئْتُك لِأُومِنَ
بِاَللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِمَا جَاءَ مِنْ عِنْد اللّهِ قَالَ فَكَبّرَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ تَكْبِيرَةً عَرَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ مِنْ
أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّ عُمَرَ قَدْ
أَسْلَمَ . فَتَفَرّقَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
- مِنْ مَكَانِهِمْ وَقَدْ عُزّوا فِي أَنْفُسِهِمْ حِينَ أَسْلَمَ عُمَرُ مَعَ
إسْلَامِ حَمْزَةَ وَعَرَفُوا أَنّهُمَا سَيَمْنَعَانِ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَيَنْتَصِفُونَ بِهِمَا مِنْ عَدُوّهِمْ فَهَذَا
حَدِيثُ الرّوَاةِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَنْ إسْلَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ
حِينَ أَسْلَمَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي
نَجِيحٍ الْمَكّيّ عَنْ أَصْحَابِهِ عَطَاءٍ وَمُجَاهَدٍ ، أَوْ عَمّنْ رَوَى
ذَلِكَ أَنّ إسْلَامَ عُمَرَ فِيمَا تَحَدّثُوا بِهِ عَنْهُ أَنّهُ كَانَ يَقُولُ
كُنْت لِلْإِسْلَامِ مُبَاعِدًا ، وَكُنْت صَاحِبَ خَمْرٍ فِي الْجَاهِلِيّةِ
أُحِبّهَا وَأُسَرّ بِهَا ، وَكَانَ لَنَا مَجْلِسٌ [ ص 125 ] قُرَيْشٍ
بِالْحَزْوَرَةِ عِنْدَ دُورِ آلِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ بْنِ عِمْرَانَ
الْمَخْزُومِيّ ، قَالَ فَخَرَجْت لَيْلَةً أُرِيدُ جُلَسَائِي أُولَئِكَ فِي
مَجْلِسِهِمْ ذَلِكَ قَالَ فَجِئْتهمْ فَلَمْ أَجِدْ فِيهِ مِنْهُمْ أَحَدًا .
قَالَ فَقُلْت : لَوْ أَنّي جِئْت فُلَانًا الْخَمّارَ وَكَانَ بِمَكّةَ يَبِيعُ
الْخَمْرَ لَعَلّي أَجِدُ عِنْدَهُ خَمْرًا فَأَشْرَبَ مِنْهَا . قَالَ فَخَرَجْت
فَجِئْته فَلَمْ أَجِدْهُ . قَالَ فَقُلْت : فَلَوْ أَنّي جِئْت الْكَعْبَةَ ،
فَطُفْت بِهَا سَبْعًا أَوْ سَبْعَيْنِ . قَالَ فَجِئْت الْمَسْجِدَ أُرِيدُ أَنْ
أَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ فَإِذَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
قَائِمٌ يُصَلّي ، وَكَانَ إذَا صَلّى اسْتَقْبَلَ الشّامَ ، وَجَعَلَ الْكَعْبَةَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشّامِ ، وَكَانَ مُصَلّاهُ بَيْنَ الرّكْنَيْنِ الرّكْنِ
الْأَسْوَدِ وَالرّكْنِ الْيَمَانِيّ . قَالَ فَقُلْت حِينَ رَأَيْته : وَاَللّهِ
لَوْ أَنّي اسْتَمَعْت لِمُحَمّدِ اللّيْلَةَ حَتّى أَسْمَعَ مَا يَقُولُ قَالَ
فَقُلْت : لَئِنْ دَنَوْت مِنْهُ أَسْتَمِعُ مِنْهُ لَأَرْوُ عَنْهُ فَجِئْت مِنْ
قِبَلِ الْحَجَرِ ، فَدَخَلْت تَحْتَ ثِيَابِهَا ، فَجَعَلَتْ أَمْشِي رُوَيْدًا ،
وَرَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَائِمٌ يُصَلّي يَقْرَأُ
الْقُرْآنَ حَتّى قُمْت فِي قِبْلَتِهِ مُسْتَقْبِلَهُ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ
إلّا ثِيَابُ الْكَعْبَةِ . قَالَ فَلَمّا سَمِعْت الْقُرْآنَ رَقّ لَهُ قَلْبِي ،
فَبَكَيْت وَدَخَلَنِي الْإِسْلَامُ [ ص 126 ] مَكَانِي ذَلِكَ حَتّى قَضَى
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - صَلَاتَهُ ثُمّ انْصَرَفَ
وَكَانَ إذَا انْصَرَفَ خَرَجَ عَلَى دَارِ ابْنِ أَبِي حُسَيْنٍ ، وَكَانَتْ
طَرِيقُهُ حَتّى يَجْزَعَ الْمَسْعَى ، ثُمّ يَسْلُكُ بَيْنَ دَارِ عَبّاسِ بْنِ
الْمُطّلِبِ ، وَبَيْنَ دَارِ بْنِ أَزْهَرَ بْنِ عَبْدِ عَوْفٍ الزّهْرِيّ ، ثُمّ
عَلَى دَارِ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ ، حَتّى يَدْخُلَ بَيْتَهُ وَكَانَ
مَسْكَنُهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي الدّارِ الرّقْطَاءِ الّتِي
كَانَتْ بِيَدَيْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ . قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ فَتَبِعْته حَتّى إذَا دَخَلَ بَيْنَ دَارِ عَبّاسٍ وَدَارِ ابْنِ أَزْهَرَ
، أَدْرَكْته ، فَلَمّا سَمِعَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
حِسّي عَرَفَنِي ، فَظَنّ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
أَنّي إنّمَا تَبِعْته لِأُوذِيَهُ فَنَهَمَنِي ، ثُمّ قَالَ " مَا جَاءَ بِك
يَا بْنَ الْخَطّابِ هَذِهِ السّاعَةَ " ؟ قَالَ قُلْت : جِئْت لِأُومِنَ
بِاَللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ قَالَ فَحَمِدَ اللّهَ
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - ثُمّ قَالَ " قَدْ هَدَاك
اللّهُ يَا عُمَرُ " ، ثُمّ مَسَحَ صَدْرِي ، وَدَعَا لِي بِالثّبَاتِ ثُمّ
انْصَرَفْت عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَدَخَلَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْتَهُ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَاَللّهُ
أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَSإسْلَامُ
عُمَرَ وَحَدِيثُ خَبّابٍ
[ ص 120 ] ذَكَرَهُ إلَى آخِرِهِ وَلَيْسَ فِيهِ إشْكَالٌ وَكَانَ إسْلَامُ عُمَرَ
وَالْمُسْلِمُونَ إذْ ذَاكَ بَضْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ رَجُلًا ، وَإِحْدَى عَشَرَةَ
امْرَأَةً . [ ص 121 ] خَبّابًا وَهُوَ ابْنُ الْأَرَتّ كَانَ يُقْرِئُ فَاطِمَةَ
بِنْتَ الْخَطّابِ الْقُرْآنَ وَخَبّابٌ تَمِيمِيّ [ ص 122 ] أَنْمَارٍ بِنْتِ
سِبَاعٍ الْخُزَاعِيّ وَكَانَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْهِ سِبَاءٌ فَاشْتَرَتْهُ
وَأَعْتَقَتْهُ فَوَلَاؤُهُ لَهَا ، وَكَانَ أَبُوهَا لِعَوْفِ بْنِ عَبْدِ عَوْفِ
بْنِ عَبْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ فَهُوَ زُهْرِيّ بِالْحِلْفِ وَهُوَ
ابْنُ الْأَرَتّ بْنُ جَنْدَلَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ
سَعْدِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ بْنِ تَمِيمٍ ، كَانَ قَيْنًا يَعْمَلُ السّيُوفَ فِي
الْجَاهِلِيّةِ وَقَدْ قِيلَ إنّ أُمّهُ كَانَتْ أُمّ سِبَاعٍ الْخُزَاعِيّة ،
وَلَمْ يَلْحَقْهُ سِبَاءٌ وَلَكِنّهُ انْتَمَى إلَى حُلَفَاءِ أُمّهِ بَنِي زُهْرَةَ
يُكَنّى : أَبَا عَبْدِ اللّهِ وَقِيلَ أَبَا يَحْيَى ، وَقِيلَ أَبَا مُحَمّدٍ
مَاتَ بِالْكُوفَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ بَعْدَمَا شَهِدَ مَعَ عَلِيّ
صِفّينَ وَالنّهْرَوَان ، وَقِيلَ بَلْ مَاتَ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَلَاثِينَ . ذَكَرَ
أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ سَأَلَهُ عَمّا لَقِيَ فِي ذَاتِ اللّهِ فَكَشَفَ
ظَهْرَهُ فَقَالَ عُمَرُ مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ فَقَالَ يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ لَقَدْ أُوقِدَتْ لِي نَارٌ فَمَا أَطَفْأَهَا إلّا شَحْمِي .
تَطْهِيرُ عُمَرَ لِيَمَسّ الْقُرْآنَ
فَصْلٌ وَفِيهِ ذَكَرَ تَطْهِيرَ عُمَرَ لِيَمَسّ الْقُرْآنَ وَقَوْلُ أُخْتِهِ {
لَا يَمَسّهُ إِلّا الْمُطَهّرُونَ } وَالْمُطَهّرُونَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُمْ
الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمُوَطّأِ وَاحْتَجّ بِالْآيَةِ
الْأُخْرَى الّتِي فِي سُورَةِ عَبَسَ وَلَكِنّهُمْ وَإِنْ كَانُوا الْمَلَائِكَةَ
فَفِي وَصْفِهِمْ بِالطّهَارَةِ مَقْرُونًا بِذِكْرِ الْمَسّ مَا يَقْتَضِي أَلّا
يَمَسّهُ إلّا طَاهِرٌ اقْتِدَاءً بِالْمَلَائِكَةِ الْمُطَهّرِينَ فَقَدْ
تَعَلّقَ الْحُكْمُ بِصِفّةِ التّطْهِيرِ وَلَكِنّهُ حُكْمٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ
وَلَيْسَ مَحْمُولًا عَلَى الْفَرْضِ وَكَذَلِكَ مَا كَتَبَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَأَلّا يَمَسّ
الْقُرْآنَ إلّا طَاهِرٌ لَيْسَ عَلَى الْفَرْضِ وَإِنْ كَانَ الْفَرْضُ فِيهِ [ ص
123 ] أَبْيَنَ مِنْهُ فِي الْآيَةِ لِأَنّهُ جَاءَ بِلَفْظِ النّهْيِ عَنْ مَسّهِ
عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ وَلَكِنْ فِي كِتَابِهِ إلَى هِرَقْلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ {
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ } [ آل عِمْرَانَ : 64 ] دَلِيلٌ
عَلَى مَا قُلْنَاهُ وَقَدْ ذَهَبَ دَاوُدَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَطَائِفَةٌ مِمّنْ
سَلَفَ مِنْهُمْ الْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ وَحَمّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ إلَى
إبَاحَةِ مَسّ الْمُصْحَفِ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ وَاحْتَجّوا بِمَا ذَكَرْنَا
مِنْ كِتَابِهِ إلَى هِرَقْلَ ، وَقَالُوا : حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ مُرْسَلٌ
فَلَمْ يَرْوِهِ حُجّةٌ وَالدّارَقُطْنِيّ قَدْ أَسْنَدَهُ مِنْ طُرُقٍ حِسَانٍ
أَفْوَاهًا : رِوَايَةُ أَبِي دَاوُدَ الطّيَالِسِيّ عَنْ الزّهْرِيّ عَنْ أَبِي
بَكْرِ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّهِ
وَمِمّا يُقَوّي أَنّ الْمُطَهّرِينَ فِي الْآيَةِ هُمْ الْمَلَائِكَةُ أَنّهُ
لَمْ يَقُلْ الْمُتَطَهّرُونَ وَإِنّمَا قَالَ الْمُطَهّرُونَ وَفَرْقٌ مَا بَيْنَ
الْمُتَطَهّرِ وَالْمُطَهّرِ أَنّ الْمُتَطَهّرَ مِنْ فِعْلِ الطّهُورِ وَأَدْخَلَ
نَفْسَهُ فِيهِ كَالْمُتَفَقّهِ مَنْ يُدْخِلُ نَفْسَهُ فِي الْفِقْهِ وَكَذَلِكَ
الْمُتَفَعّلُ فِي أَكْثَرِ الْكَلَامِ وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ : وَقَيْسُ
عَيْلَانَ وَمَنْ تَقَيّسَا
فَالْآدَمِيّونَ مُتَطَهّرُونَ إذَا تَطَهّرُوا ، وَالْمَلَائِكَةُ مُطَهّرُونَ
خِلْقَةً وَالْآدَمِيّاتُ إذَا تَطَهّرْنَ مُتَطَهّرَاتٌ وَفِي التّنْزِيلِ {
فَإِذَا تَطَهّرْنَ فَأْتُوهُنّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ } [ الْبَقَرَةُ
222 ] وَالْحُورُ الْعِينِ مُطَهّرَاتٌ وَفِي التّنْزِيلِ { لَهُمْ فِيهَا
أَزْوَاجٌ مُطَهّرَةٌ } [ النّسَاءُ 57 ] وَهَذَا فَرْقٌ بَيّنٌ وَقُوّةٌ
لِتَأْوِيلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللّهُ وَالْقَوْلُ عِنْدِي فِي الرّسُولِ عَلَيْهِ
السّلَامُ أَنّهُ مُتَطَهّرٌ وَمُطَهّرٌ أَمّا مُتَطَهّرٌ فَلِأَنّهُ بَشَرٌ
آدَمِي يَغْتَسِلُ مِنْ الْجَنَابَةِ وَيَتَوَضّأُ مِنْ الْحَدَثِ وَأَمّا
مُطَهّرٌ فَلِأَنّهُ قَدْ غَسَلَ بَاطِنَهُ وَشُقّ عَنْ قَلْبِهِ وَمُلِئَ
حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَهُوَ مُطَهّرٌ وَمُتَطَهّرٌ وَاضْمُمْ هَذَا الْفَصْلَ
إلَى مَا تَقَدّمَ فِي ذِكْرِ مَوْلِدِهِ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى ، فَإِنّهُ
تَكْمِلَةٌ وَالْحَمْدُ لِلّهِ [ ص 124 ] ابْنِ الْقَاسِمِ : إنّ الْكَافِرَ إذَا
تَطَهّرَ قَبْلَ أَنْ يُظْهِرَ إسْلَامَهُ وَيَشْهَدَ الشّهَادَتَيْنِ أَنّهُ
مُجْزِئٌ لَهُ وَقَدْ عَابَ قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ هَذَا كَثِيرٌ مِنْ
الْفُقَهَاءِ وَكَذَلِكَ فِي خَبَرِ إسْلَامِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ عَلَى يَدَيْ
مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ ، وَقَدْ سَأَلَهُ كَيْفَ يَصْنَعُ مَنْ يُرِيدُ الدّخُولَ
فِي هَذَا الدّينِ فَقَالَ يَتَطَهّرُ ثُمّ يَشْهَدُ بِشَهَادَةِ الْحَقّ فَفَعَلَ
ذَلِكَ هُوَ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَحَدِيثُ إسْلَامِ عُمَرَ وَإِنْ كَانَ
مِنْ أَحَادِيثِ السّيَرِ فَقَدْ خَرّجَهُ الدّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنِهِ غَيْرَ
أَنّهُ خَرّجَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَنَسٍ أَنّ أُخْتَ عُمَرَ قَالَتْ لَهُ إنّك
رِجْسٌ وَلَا يَمَسّهُ إلّا الْمُطَهّرُونَ فَقُمْ فَاغْتَسِلْ أَوْ تَوَضّأْ
فَقَامَ فَتَوَضّأَ ثُمّ أَخَذَ الصّحِيفَةَ وَفِيهَا سُورَةُ طَه ، فَفِي هَذِهِ
الرّوَايَةِ أَنّهُ كَانَ وُضُوءًا ، وَلَمْ يَكُنْ اغْتِسَالًا ، وَفِي رِوَايَةِ
يُونُسَ أَنّ عُمَرَ حِين قَرَأَ فِي الصّحِيفَةِ سُورَةَ طَه انْتَهَى مِنْهَا
إلَى قَوْلِهِ { لِتُجْزَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى } [ طَه : 15 ] فَقَالَ مَا
أَطْيَبَ هَذَا الْكَلَامَ وَأَحْسَنَهُ وَذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ بِطُولِهِ
وَفِيهِ أَنّ الصّحِيفَةَ كَانَ فِيهَا مَعَ سُورَةِ طَه : { إِذَا الشّمْسُ
كُوّرَتْ } وَأَنّ عُمَرَ انْتَهَى فِي قِرَاءَتِهَا إلَى قَوْلِهِ { عَلِمَتْ
نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ }
زِيَادَةٌ فِي إسْلَامِ عُمَرَ
[ ص 125 ] وَذَكَرَ ابْنُ سُنْجُر زِيَادَةً فِي إسْلَامِ عُمَرَ قَالَ حَدّثْنَا
أَبُو الْمُغِيرَةِ قَالَ نا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو ، قَالَ حَدّثَنِي شُرَيْح
بْنُ عُبَيْدٍ ، قَالَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ : خَرَجْت أُتَعَرّضُ رَسُولَ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَبْلَ أَنْ أُسْلِمَ ، فَوَجَدْته
قَدْ سَبَقَنِي إلَى الْمَسْجِدِ فَقُمْت خَلْفَهُ فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ
الْحَاقّةِ فَجَعَلْت أَتَعَجّبُ مِنْ تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ قَالَ قُلْت : هَذَا
وَاَللّهِ شَاعِرٌ كَمَا قَالَتْ قُرَيْشٌ ، فَقَرَأَ { إِنّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ
كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ } قَالَ قُلْت :
كَاهِنٌ عَلِمَ مَا فِي نَفْسِي ، فَقَالَ { وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا
تَذَكّرُونَ } إلَى آخِرِ السّورَةِ قَالَ فَوَقَعَ الْإِسْلَامُ فِي قَلْبِي كُلّ
مَوْقِعٍ وَقَالَ عُمَرُ حِينَ أَسْلَمَ :
الْحَمْدُ لِلّهِ ذِي الْمَنّ الّذِي وَجَبَتْ ... لَهُ عَلَيْنَا أَيَادٍ مَا
لَهَا غِيَرُ
وَقَدْ بَدَأْنَا فَكَذّبْنَا ، فَقَالَ لَنَا ... صَدَقَ الْحَدِيثَ نَبِيّ
عِنْدَهُ الْخَبَرُ
وَقَدْ ظَلَمْت ابْنَةَ الْخَطّابِ ثُمّ هَدَى ... رَبّي عَشِيّةً قَالُوا : قَدْ
صَبَا عُمَرُ
وَقَدْ نَدِمْت عَلَى مَا كَانَ مِنْ زَلَلٍ ... بِظُلْمِهَا حِينَ تُتْلَى
عِنْدَهَا السّوَرُ
لَمّا دَعَتْ رَبّهَا ذَا الْعَرْشِ جَاهِدَةً ... وَالدّمْعُ مِنْ عَيْنِهَا
عَجْلَانُ يَبْتَدِرُ
أَيْقَنْت أَنّ الّذِي تَدْعُوهُ خَالِقُهَا ... فَكَادَ تَسْبِقُنِي مِنْ
عِبْرَةٍ دِرَرُ
فَقُلْت : أَشْهَدُ أَنّ اللّهَ خَالِقُنَا ... وَأَنّ أَحْمَدَ فِينَا الْيَوْمَ
مُشْتَهِرُ
نَبِيّ صِدْقٍ أَتَى بَالِق مِنْ ثِقَةٍ ... وَافَى الْأَمَانَةَ مَا فِي عُودِهِ
خَوَرُ
[ ص 126 ] ابْنِ إسْحَاقَ . وَذَكَرَ الْبَزّارُ فِي إسْلَامِ عُمَرَ أَنّهُ قَالَ
فَلَمّا أَخَذْت الصّحِيفَةَ فَإِذَا فِيهَا : بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ
فَجَعَلْت أُفَكّرُ مِنْ أَيّ شَيْءٍ اُشْتُقّ ثُمّ قَرَأْت فِيهَا : { سَبّحَ
لِلّهِ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } أَوّلُ
الْحَدِيدِ . وَجَعَلْت أَقْرَأُ وَأُفَكّرُ حَتّى بَلَغْت : { آمِنُوا بِاللّهِ
وَرَسُولِهِ } [ الْحَدِيدُ 7 ] . فَقُلْت : أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَه إلّا اللّهُ ،
وَأَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللّهِ . مِنْ تَفْسِيرِ حَدِيثِ إسْلَامِ عُمَرَ فَصْلٌ
وَفِي حَدِيثِ إسْلَامِ عُمَرَ قَالَ مَا هَذِهِ الْهَيْنَمَةُ وَالْهَيْنَمَةُ
كَلَامٌ لَا يُفْهَمُ وَاسْمُ الْفَاعِلِ مَعَهُ مُهَيْنِمٌ كَأَنّهُ بِتَصْغِيرِ
وَلَيْسَ بِتَصْغِيرِ وَمِثْلُهُ الْمُبَيْطِرُ وَالْمُهَيْمِنُ وَالْمُبَيْقِرُ
بِالْقَافِ وَهُوَ الْمُهَاجِرُ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ وَالْمُسَيْطِرُ وَلَوْ
صَغّرْت وَاحِدًا مِنْ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لَحَذَفْت الْيَاءَ الزّائِدَةَ كَمَا
تَحْذِفُ الْأَلِفَ مِنْ مُفَاعِل ، وَتُلْحِقُ يَاءَ التّصْغِيرِ فِي مَوْضِعِهَا
، فَيَعُودُ اللّفْظُ إلَى مَا كَانَ فَيُقَالُ فِي تَصْغِيرِ مُهَيْنِمٍ
وَمُبَيْطِرٍ مُهَيْنِمٌ وَمُبَيْطِرٌ فَإِنْ قِيلَ فَهَلّا قُلْتُمْ إنّهُ لَا
يُصَغّرُ إذْ لَا يُعْقَلُ تَصْغِيرٌ عَلَى لَفْظِ التّكْبِيرِ وَإِلّا فَمَا الْفَرْقُ
؟ فَالْجَوَابُ أَنّهُ قَدْ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي مَوَاضِعَ مِنْهَا
: الْجَمْعُ فَإِنّك تَجْمَعُ مُبَيْطِرًا : مُبَاطِر بِحَذْفِ الْيَاءِ وَإِذَا
كَانَ مُصَغّرًا لَا يُجْمَعُ إلّا بِالْوَاوِ وَالنّونِ فَتَقُولُ مُبَيْطِرُونَ
وَذَلِك أَنّ التّصْغِيرَ لَا يُكْسَرُ لِأَنّ تَكْسِيرَهُ يُؤَدّي إلَى حَذْفِ
الْيَاءِ فِي الْخُمَاسِيّ لِأَنّهَا زَائِدَةٌ كَالْأَلِفِ فَيَذْهَبُ مَعْنَى
التّصْغِيرِ وَأَمّا الثّلَاثِيّ الْمُصَغّرُ [ ص 127 ] تَحْرِيكِ يَاءِ
التّصْغِيرِ أَوْ هَمْزِهَا ، وَذَلِك أَنْ يُقَالَ فِي فُلَيْسٍ فَلَائِسُ
فَيَذْهَبُ أَيْضًا مَعْنَى التّصْغِيرِ لِتَصْغِيرِ لَفْظِ الْيَاءِ الّتِي هِيَ
دَالّةٌ عَلَيْهِ وَلَوْ بَنَيْت اسْمَ فَاعِلٍ مِنْ بِيَأْسِ لَقُلْت فِيهِ
مُبَيْئِسٌ وَلَوْ سُهّلَتْ الْهَمْزَةُ حَرّكْت الْيَاءَ فَقُلْت فِيهِ مُبَيّيسٌ
وَتَقُولُ فِي تَصْغِيرِهِ إذَا صَغّرْته : مُبَيّسٌ بِالْإِدْغَامِ كَمَا تَقُولُ
[ فِي ] أَبَوْس : أَبِيس ، وَلَا تُنْقَلُ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ إلَى الْيَاءِ
إذَا سُهّلَتْ كَمَا تَنْقُلُهَا فِي اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ بِيَأْسِ وَنَحْوِهِ
إذَا سُهّلَتْ الْهَمْزَةُ وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مِنْ التّصْغِيرِ بَدِيعَةٌ
يَقُومُ عَلَى تَصْحِيحِهَا الْبُرْهَانُ .
حَوْلَ النّهِيمِ وَهَكَذَا
فَصْلٌ وَفِي حَدِيثِ إسْلَامِ عُمَرَ فَنَهَمَهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَيْ زَجَرَهُ وَالنّهِيمُ زَجْرُ الْأَسَدِ وَالنّهَامِيّ
الْحَدّادُ وَالنّهَامُ طَائِرٌ وَفِيهِ قَوْلُ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ قَالَ
هَكَذَا [ خَلّوا ] عَنْ الرّجُلِ وَهِيَ كَلِمَةٌ مَعْنَاهَا : الْأَمْرُ
بِالتّنَحّي ، فَلَيْسَ يَعْمَلُ فِيهَا مَا قَبْلَهَا ، كَمَا يَعْمَلُ إذَا
قُلْت : اجْلِسْ هَكَذَا ، أَيْ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ وَإِنْ كَانَ لَا بُدّ مِنْ
عَامِلٍ فِيهَا إذَا جَعَلْتهَا لِلْأَمْرِ لِأَنّهَا كَافُ التّشْبِيهِ دَخَلَتْ
عَلَى ذَا ، وَهَا : تَنْبِيهٌ فَيُقَدّرُ الْعَامِلُ إذًا مُضْمَرًا ، كَأَنّك
قُلْت : ارْجِعُوا هَكَذَا ، وَتَأَخّرُوا هَكَذَا ، وَاسْتُغْنِيَ بِقَوْلِك :
هَكَذَا عَنْ الْفِعْلِ كَمَا اُسْتُغْنِيَ بِرُوَيْدًا عَنْ اُرْفُقْ .
[
ص 127 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ
عُمَرَ ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ لَمّا أَسْلَمَ أَبِي عُمَرُ قَالَ أَيّ
قُرَيْشٍ أَنْقَلُ لِلْحَدِيثِ ؟ فَقِيلَ لَهُ جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ الْجُمَحِيّ
. قَالَ فَغَدَا عَلَيْهِ قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ : فَعَدَوْت أَتّبِعُ
أَثَرَهُ وَأَنْظُرُ مَا يَفْعَلُ وَأَنَا غُلَامٌ أَعْقِلُ كُلّ مَا رَأَيْت ،
حَتّى جَاءَهُ فَقَالَ لَهُ أَعَلِمْت يَا جَمِيلُ أَنّي قَدْ أَسْلَمْت :
وَدَخَلْت فِي دِينِ مُحَمّدٍ ؟ قَالَ فَوَاَللّهِ مَا رَاجَعَهُ حَتّى قَامَ
يَجُرّ رِدَاءَهُ وَاتّبَعَهُ عُمَرُ وَاتّبَعْت أَبِي ، حَتّى إذَا قَامَ عَلَى
بَابِ الْمَسْجِدِ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، وَهُمْ فِي
أَنْدِيَتِهِمْ حَوْلَ [ ص 128 ] بَابِ الْكَعْبَةِ ، أَلَا إنّ عُمَرَ بْنَ
الْخَطّابِ قَدْ صَبَأَ قَالَ يَقُولُ عُمَرُ مِنْ خَلْفِهِ كَذَبَ وَلَكِنّي قَدْ
أَسْلَمْت ، وَشَهِدْت أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ . وَثَارُوا إلَيْهِ فَمَا بَرِحَ يُقَاتِلُهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ
حَتّى قَامَتْ الشّمْسُ عَلَى رُءُوسِهِمْ . قَالَ وَطَلَحَ فَقَعَدَ وَقَامُوا
عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ افْعَلُوا مَا بَدَا لَكُمْ فَأَحْلِفُ بِاَللّهِ
أَنْ لَوْ قَدْ كُنّا ثَلَثَمِائَةِ رَجُلٍ لَتَرَكْنَاهَا لَكُمْ أَوْ
لَتَرَكْتُمُوهَا لَنَا ، قَالَ فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إذْ أَقْبَلَ
شَيْخٌ مِنْ قُرَيْشٍ ، عَلَيْهِ حُلّةٌ حَبِرَةٌ وَقَمِيصٌ مُوَشّى ، حَتّى
وَقَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ مَا شَأْنُكُمْ ؟ قَالُوا : صَبَأَ عُمَرُ فَقَالَ
فَمُهُ رَجُلٌ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَمْرًا ، فَمَاذَا تُرِيدُونَ ؟ أَتَرَوْنَ
بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ يُسَلّمُونَ لَكُمْ صَاحِبَهُمْ هَكَذَا ؟ خَلّوا عَنْ
الرّجُلِ . قَالَ فَوَاَللّهِ لَكَأَنّمَا كَانُوا ثَوْبًا كَشَطّ عَنْهُ . قَالَ
فَقُلْت لِأَبِي بَعْدَ أَنْ هَاجِرَ إلَى الْمَدِينَةِ : يَا أَبَتْ مَنْ
الرّجُلُ الّذِي زَجَرَ الْقَوْمَ عَنْك بِمَكّةَ يَوْمَ أَسْلَمْت ، وَهُمْ
يُقَاتِلُونَك ؟ فَقَالَ ذَلِكَ أَيْ بُنَيّ الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ السّهْمِيّ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّهُ قَالَ يَا أَبَتْ
مَنْ الرّجُلُ الّذِي زَجَرَ الْقَوْمَ عَنْك يَوْمَ أَسْلَمْت ، وَهُمْ
يُقَاتِلُونَك ، جَزَاهُ اللّهُ خَيْرًا ؟ قَالَ يَا بُنَيّ ذَاكَ الْعَاصِ بْنُ
وَائِلٍ لَا جَزَاهُ اللّهُ خَيْرًا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ
الرّحْمَنِ بْنُ الْحَارِثِ عَنْ بَعْضِ آلِ عُمَرَ أَوْ بَعْضِ أَهْلِهِ قَالَ
قَالَ عُمَرُ لَمّا أَسْلَمْت تِلْكَ اللّيْلَةَ تَذَكّرْت أَيّ أَهْلِ مَكّةَ
أَشَدّ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَدَاوَةً حَتّى آتِيَهُ
فَأَخْبَرَهُ أَنّي قَدْ أَسْلَمْت ، قَالَ قُلْت : أَبُو جَهْلٍ - وَكَانَ عُمَرُ
لِخَتْمَةَ بِنْتِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ - قَالَ فَأَقْبَلْت حِينَ أَصْبَحْت
، حَتّى ضَرَبْت عَلَيْهِ بَابَهُ . قَالَ فَخَرَجَ إلَيّ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ
مَرْحَبًا وَأَهْلًا يَا بْنَ أُخْتِي ، مَا جَاءَ بِك ؟ جِئْت لِأُخْبِرَك أَنّي
قَدْ آمَنْت بِاَللّهِ وَبِرَسُولِهِ مُحَمّدٍ وَصَدّقْت بِمَا جَاءَ بِهِ قَالَ
فَضَرَبَ الْبَابَ فِي وَجْهِي ، وَقَالَ قَبّحَك اللّهُ وَقَبّحَ مَا جِئْت بِهِSجَمِيلُ
بْنُ مَعْمَرٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ قَوْلَ عُمَرَ لِجَمِيلِ بْنِ مَعْمَرٍ الْجُمَحِيّ إنّي قَدْ
أَسْلَمْت ، وَبَايَعْت مُحَمّدًا ، فَصَرَخَ جَمِيلٌ بِأَعْلَى صَوْتِهِ أَلَا
إنّ عُمَرَ قَدْ صَبَأَ . جَمِيلٌ هَذَا هُوَ الّذِي كَانَ يُقَالُ لَهُ ذُو
الْقَلْبَيْنِ وَفِيهِ نَزَلَتْ فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ { مَا جَعَلَ اللّهُ
لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } [ الْأَحْزَابُ : 4 ] ، وَفِيهِ قِيلَ
وَكَيْفَ ثَوَائِي بِالْمَدِينَةِ بَعْدَمَا ... قَضَى وَطَرًا مِنْهَا جَمِيلُ
بْنُ مَعْمَرٍ
[ ص 128 ] عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي مَنْزِلِهِ وَاسْتَأْذَنَ عُمَرَ
فَسَمِعَهُ وَهُوَ يَتَغَنّى ، وَيُنْشِدُ بالركبانية ، وَهُوَ غِنَاءٌ يُحْدَى
بِهِ الرّكّابُ فَلَمّا دَخَلَ عُمَرُ قَالَ لَهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ إنّا إذَا
خَلَوْنَا ، قُلْنَا مَا يَقُولُ النّاسُ فِي بُيُوتِهِمْ وَقَلَبَ الْمُبَرّدُ
هَذَا الْحَدِيثَ وَجَعَلَ الْمُنْشِدُ عُمَرَ وَالْمُسْتَأْذَنَ عَبْدَ
الرّحْمَنِ وَرَوَاهُ الزّبَيْرُ كَمَا تَقَدّمَ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهَذَا الشّأْنِ
.
خَبَرُ
الصّحِيفَةِ
[ ص 129 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا رَأَتْ قُرَيْشٌ أَنّ أَصْحَابَ رَسُولِ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ نَزَلُوا بَلَدًا أَصَابُوا بِهِ
أَمْنًا وَقَرَارًا ، وَأَنّ النّجَاشِيّ قَدْ مَنَعَ مَنْ لَجَأَ إلَيْهِ
مِنْهُمْ وَأَنّ عُمَرَ قَدْ أَسْلَمَ ، فَكَانَ هُوَ وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ
الْمُطّلِبِ مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
وَأَصْحَابُهُ وَجَعَلَ الْإِسْلَامَ يَفْشُو فِي الْقَبَائِلِ اجْتَمَعُوا
وَائْتَمَرُوا أَنْ يَكْتُبُوا كِتَابًا يَتَعَاقَدُونَ فِيهِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ
، وَبَنِيّ الْمُطّلِبِ ، عَلَى أَنْ لَا يَنْكِحُوا إلَيْهِمْ وَلَا
يَنْكِحُوهُمْ وَلَا يَبِيعُوهُمْ شَيْئًا ، وَلَا يَبْتَاعُوا مِنْهُمْ فَلَمّا
اجْتَمَعُوا لِذَلِكَ كَتَبُوهُ فِي صَحِيفَةٍ ثُمّ تَعَاهَدُوا وَتَوَاثَقُوا
عَلَى ذَلِكَ ثُمّ عَلّقُوا الصّحِيفَةَ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ تَوْكِيدًا عَلَى
أَنْفُسِهِمْ وَكَانَ كَاتِبُ الصّحِيفَةِ مَنْصُورَ بْنَ عِكْرِمَةَ بْنِ عَامِرِ
بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ - قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ : وَيُقَالُ النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ - فَدَعَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَشَلُ بَعْضِ أَصَابِعِهِ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ
: فَلَمّا فَعَلَتْ ذَلِكَ قُرَيْشٌ انْحَازَتْ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطّلِبِ
إلَى أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، فَدَخَلُوا مَعَهُ فِي شِعْبِهِ
وَاجْتَمَعُوا إلَيْهِ وَخَرَجَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ : أَبُو لَهَبٍ عَبْدُ
الْعُزّى بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، إلَى قُرَيْشٍ ، فَظَاهَرَهُمْ .
مَوْقِفُ أَبِي لَهَبٍ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ أَنّ أَبَا
لَهَبٍ لَقِيَ هِنْدَ بِنْتَ عُتْبَةَ بْنِ [ ص 130 ] ، حِينَ فَارَقَ قَوْمَهُ
وَظَاهَرَ عَلَيْهِمْ قُرَيْشًا ، فَقَالَ يَا بِنْتَ عُتْبَةَ هَلْ نَصَرْت
اللّاتَ وَالْعُزّى ، وَفَارَقْت مَنْ فَارَقَهُمَا وَظَاهَرَ عَلَيْهِمَا ؟
قَالَتْ نَعَمْ فَجَزَاك اللّهُ خَيْرًا يَا أَبَا عُتْبَةَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ
: وَحُدّثْت أَنّهُ كَانَ يَقُولُ فِي بَعْضِ مَا يَقُولُ يَعْدُنِي مُحَمّدٌ
أَشْيَاءَ لَا أَرَاهَا ، يَزْعُمُ أَنّهَا كَائِنَةً بَعْدَ الْمَوْتِ فَمَاذَا
وُضِعَ فِي يَدَيْ بَعْدَ ذَلِكَ ثُمّ يَنْفُخُ فِي يَدْيِهِ وَيَقُولُ تَبّا
لَكُمَا ، مَا أَرَى فِيكُمَا شَيْئًا مِمّا يَقُولُ مُحَمّدٌ فَأَنْزَلَ اللّهُ
تَعَالَى فِيهِ { تَبّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبّ } قَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
تَبّتْ خَسِرَتْ . وَالتّبَابُ الْخُسْرَانُ . قَالَ حَبِيبُ بْنُ خَدِرَةَ
الْخَارِجِيّ : أَحَدُ بَنِي هِلَالِ بْنِ عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ يَا طَيّبُ
إنّا فِي مَعْشَرٍ ذَهَبَتْ مَسْعَاتُهُمْ فِي التّبَارِ وَالتّبَبِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُSحَدِيثُ
الصّحِيفَةِ الّتِي كَتَبَتْهَا قُرَيْشٌ
[ ص 129 ] ذَكَرَ فِيهِ قَوْلَ أَبِي لَهَبٍ لِيَدَيْهِ تَبّا لَكُمَا ، لَا أَرَى
فِيكُمَا شَيْئًا مِمّا يَقُولُ مُحَمّدٌ فَأَنْزَلَ اللّهُ [ ص 130 ] { تَبّتْ
يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبّ } هَذَا الّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ يُشْبِهُ أَنْ
يَكُونَ سَبَبًا لِذِكْرِ اللّهِ سُبْحَانَهُ يَدَيْهِ حَيْثُ يَقُولُ { تَبّتْ
يَدَا أَبِي لَهَبٍ } وَأَمّا قَوْلُهُ وَتَبّ تَفْسِيرُهُ مَا جَاءَ فِي
الصّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ ،
قَالَ لَمّا أَنَزَلَ اللّهُ تَعَالَى : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ
} [ الشّعَرَاءُ 214 ] خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
حَتّى أَتَى الصّفَا ، فَصَعِدَ عَلَيْهِ فَهَتَفَ " يَا صُبَاحَاه " ،
فَلَمّا اجْتَمَعُوا إلَيْهِ قَالَ " أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنّ
خَيْلًا تَخْرُجُ مِنْ سَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ أَكُنْتُمْ مُصَدّقِيّ " ؟ قَالُوا
: مَا جَرّبْنَا عَلَيْك كَذِبًا . قَالَ " فَإِنّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ
يَدَيْ عَذَابٌ شَدِيدٌ . فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ تَبّا لَك أَلِهَذَا جَمَعْتنَا ؟
فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : { تَبّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبّ } هَكَذَا
قَرَأَ مُجَاهِدٌ وَالْأَعْمَشُ ، وَهِيَ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - قِرَاءَةٌ
مَأْخُوذَةٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ لِأَنّ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ
أَلْفَاظًا كَثِيرَةً تُعِينُ عَلَى التّفْسِيرِ قَالَ مُجَاهِدٌ : لَوْ كُنْت
قَرَأْت قِرَاءَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ قَبْل أَنْ أَسْأَلَ ابْنَ عَبّاسٍ ، مَا
احْتَجْت أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْ كَثِيرٍ مِمّا سَأَلْته ، وَكَذَلِكَ زِيَادَةٌ
قَدْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فُسّرَتْ أَنّهُ خَبَرٌ مِنْ اللّهِ تَعَالَى ، وَأَنّ
الْكَلَامَ لَيْسَ عَلَى جِهَةِ الدّعَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { قَاتَلَهُمُ
اللّهُ أَنّى يُؤْفَكُونَ } [ التّوْبَةُ 35 ] ، أَيْ إنّهُمْ أَهْلٌ أَنْ يُقَالَ
لَهُمْ هَذَا ، فَتَبّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ لَيْسَ مِنْ بَابِ قَاتَلَهُمْ اللّهُ
وَلَكِنّهُ خَبَرٌ مَحْضٌ بِأَنّ قَدْ خَسِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَالْيَدَانِ
آلَةُ الْكَسْبِ وَأَهْلُهُ وَمَالُهُ مِمّا كَسَبَ فَقَوْلُهُ { تَبّتْ يَدَا
أَبِي لَهَبٍ } تَفْسِيرُهُ قَوْلُهُ { مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ }
وَوَلَدُ الرّجُلِ مِنْ كَسْبِهِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَيْ خَسِرَتْ
يَدَاهُ هَذَا الّذِي كَسَبْت ، وَقَوْلُهُ وَتَبّ تَفْسِيرُهُ . { سَيَصْلَى نَارًا
ذَاتَ لَهَبٍ } أَيْ قَدْ خَسِرَ [ ص 131 ] أَبِي لَهَبٍ تَبّا لَكُمَا ، مَا
أَرَى فِيكُمَا شَيْئًا ، يَعْنِي : يَدَيْهِ سَبَبُ لِنُزُولِ تَبّتْ يَدَا كَمَا
تَقَدّمَ . وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ تَبّا لَك يَا مُحَمّدُ سَبَبٌ
لِنُزُولِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَبْ فَالْكَلِمَتَانِ فِي التّنْزِيلِ
مَبْنِيّتَانِ عَلَى السّبَبَيْنِ وَالْآيَتَانِ بَعْدَهُمَا تَفْسِير
لِلسّبَبَيْنِ . تَبَابِ يَدَيْهِ وَتَبَابُهُ هُوَ فِي نَفْسِهِ وَالتّبَبُ عَلَى
وَزْنِ التّلَفِ لِأَنّهُ فِي مَعْنَاهُ وَالتّبَابُ كَالْهَلَاكِ وَالْخَسَارِ
وَزْنًا وَمَعْنًى ، وَلِذَلِكَ قِيلَ فِيهِ تَبَبٌ وَتَبَابٌ .
شِعْرُ
أَبِي طَالِبٍ
[ ص 131 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا اجْتَمَعَتْ عَلَى ذَلِكَ قُرَيْشٌ ،
وَصَنَعُوا فِيهِ الّذِي صَنَعُوا ، قَالَ أَبُو طَالِبٍ [ ص 132 ] [ ص 133 ]
أَلَا أَبْلِغَا عَنّي عَلَى ذَاتِ بَيْنَنَا ... لُؤَيّا وَخُصّا مِنْ لُؤَيّ
بَنِي كَعْبٍ
أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنّا وَجَدْنَا مُحَمّدًا ... نَبِيّا كَمُوسَى خُطّ فِي
أَوّلِ الْكُتُبِ
وَأَنّ عَلَيْهِ فِي الْعِبَادِ مَحَبّةً ... وَلَا خَيْرَ مِمّنْ خَصّهُ اللّهُ
بِالْحُبّ
وَأَنّ الّذِي أَلْصَقْتُمْ مِنْ كِتَابِكُمْ ... لَكُمْ كَائِنٌ نَحِسًا
كَرَاغِيَةِ السّقْبِ
أَفِيقُوا أَفِيقُوا ، قَبْلَ أَنْ يُحْفَرَ الثّرَى ... وَيُصْبِحُ مَنْ لَمْ
يَجْنِ ذَنْبًا كَذِي الذّنْبِ
وَلَا تَتْبَعُوا أَمْرَ الْوُشَاةِ وَتَقْطَعُوا ... أَوَاصِرَنَا بَعْدَ
الْمَوَدّةِ وَالْقُرْبِ
وَتَسْتَجْلِبُوا حَرْبًا عَوَانًا ، وَرُبّمَا ... أَمُرّ عَلَى مَنْ ذَاقَهُ
جَلَبُ الْحَرْبِ
فَلَسْنَا - وَرَبّ الْبَيْتِ - نُسْلِمُ أَحَمْدًا ... لَعَزّاءَ مِنْ عَضّ
الزّمَانِ وَلَا كَرْبِ
وَلَمّا تَبِنْ مِنّا ، وَمِنْكُمْ سَوَالِفُ ... وَأَيْدٍ أُتِرّتْ
بِالّقُسَاسِيّةِ الشّهُبِ
بِمَعْتَرَكٍ ضَيْقٍ تَرَى كَسْرَ الْقَنَا ... بِهِ وَالنّسُورَ الطّخْمَ
يَعْكُفْنَ كَالشّرْبِ
كَأَنّ مُجَالَ الْخَيْلِ فِي حُجُرَاتِهِ ... وَمَعْمَعَةَ الْأَبْطَالِ
مَعْرَكَةٌ الْحَرْبِ
أَلَيْسَ أَبُونَا هَاشِمٌ شَدّ أُزْرَهُ ... وَأَوْصَى بَنِيهِ بِالطّعَانِ
وَبِالضّرْبِ
وَلَسْنَا نَمَلّ الْحَرْبَ حَتّى تَمَلّنَا ... وَلَا نَشْتَكِي مَا قَدْ يَنُوبُ
مِنْ النّكْبِ
وَلَكِنّنَا أَهْلُ الْحَفَائِظِ وَالنّهَى ... إذَا طَارَ أَرْوَاحُ الْكُمَاةِ
مِنْ الرّعْبِ
[ ص 134 ] أَرَادَ صِلَتَهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ .
مِنْ جَهَالَةِ أَبِي جَهْلٍ
وَقَدْ كَانَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ - فِيمَا يَذْكُرُونَ - لَقِيَ حَكِيمَ
بْنَ حِزَامِ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ ، مَعَهُ غُلَامٌ يَحْمِلُ قَمْحًا
يُرِيدُ بِهِ عَمّتَهُ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ ، وَهِيَ عِنْدَ رَسُولِ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَمَعَهُ فِي الشّعْبِ ، فَتَعَلّقَ
بِهِ وَقَالَ أَتَذْهَبُ بِالطّعَامِ إلَى بَنِي هَاشِمٍ ؟ وَاَللّهِ لَا تَبْرَحْ
أَنْتَ وَطَعَامَك ، حَتّى أَفْضَحَك بِمَكّةَ . فَجَاءَهُ أَبُو الْبَخْتَرِيّ
بْنُ هَاشِمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ [ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى ] ، فَقَالَ مَا
لَك وَلَهُ ؟ فَقَالَ يَحْمِلُ الطّعَامَ إلَى بَنِي هَاشِمٍ فَقَالَ أَبُو
الْبَخْتَرِيّ طَعَامٌ كَانَ لِعَمّتِهِ عِنْدَهُ بَعَثْت إلَيْهِ [ فِيهِ ] ،
أَفَتَمْنَعُهُ أَنْ يَأْتِيَهَا بِطَعَامِهَا ؟ خَلّ سَبِيلَ الرّجُلِ فَأَبَى
أَبُو جَهْلٍ حَتّى نَالَ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ فَأَخَذَ أَبُو
الْبَخْتَرِيّ لَحْيَ بَعِيرٍ فَضَرَبَهُ بِهِ فَشَجّهُ وَوَطِئَهُ وَطْأً
شَدِيدًا ، وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ قَرِيبٌ يَرَى ذَلِكَ وَهُمْ
يَكْرَهُونَ أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - وَأَصْحَابَهُ فَيَشْمَتُوا بِهِمْ وَرَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَلَى ذَلِكَ يَدْعُو قَوْمَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا وَسِرّا
وَجِهَارًا ، مُنَادِيًا بِأَمْرِ اللّهِ لَا يَتّقِي فِيهِ أَحَدًا مِنْ النّاسِ
.Sمِنْ
تَفْسِيرِ شِعْرِ أَبِي طَالِبٍ
فَصْلٌ ذِكْرُ شِعْرِ أَبِي طَالِب : أَلَا أَبْلِغَا عَنّي عَلَى ذَاتِ بَيْنِنَا
قَالَ قَاسِمُ بْنُ ثَابِتٍ ذَاتِ بَيْنَنَا ، وَذَاتِ يَدِهِ وَمَا كَانَ
نَحْوُهُ صِفَةٌ لِمَحْذُوفِ مُؤَنّثٌ كَأَنّهُ يُرِيدُ الْحَالَ الّتِي هِيَ
ذَاتُ بَيْنِهِمْ كَمَا قَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ { وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ
} [ الْأَنْفَالُ 1 ] فَكَذَلِكَ إذَا قُلْت : ذَاتِ يَدِهِ . يُرِيدُ أَمْوَالَهُ
أَوْ مُكْتَسَبَاتِهِ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ أَرْعَاهُ عَلَى زَوْجٍ فِي
ذَاتِ يَدِهِ وَكَذَلِكَ إذَا قُلْت : لَقِيته ذَاتَ يَوْمٍ أَيْ لِقَاءَةً أَوْ
مَرّةً ذَاتَ يَوْمٍ فَمَا حُذِفَ الْمَوْصُوفُ وَبَقِيَتْ الصّفّةُ صَارَتْ
كَالْحَالِ لَا تَتَمَكّنُ وَلَا تُرْفَعُ فِي بَابِ مَا لَمْ يُسَمّ فَاعِلُهُ
كَمَا تُرْفَعُ الظّرُوفُ الْمُتَمَكّنَةُ وَإِنّمَا هُوَ كَقَوْلِك : سَيْرٌ
عَلَيْهِ شَدِيدًا وَطَوِيلًا ، وَقَوْلُ الْخَثْعَمِيّ - وَاسْمُهُ أَنَسُ بْنُ
مَالِكٍ [ مَدَرك ] : عَزَمْت عَلَى إقَامَةِ ذَاتَ صَبَاحٍ لَيْسَ هُوَ عِنْدِي
مِنْ هَذَا الْبَابِ وَإِنْ كَانَ سِيبَوَيْهِ قَدْ جَعَلَهَا لُغَةً لِخَثْعَمٍ
وَلَكِنّهُ عَلَى مَعْنَى إقَامَةِ يَوْمٍ وَكُلّ يَوْمٍ هُوَ ذُو صَبَاحٍ كَمَا
تَقُولُ مَا كَلّمَنِي ذُو شَفَةٍ أَيْ مُتَكَلّمٌ وَمَا مَرَرْت بِذِي نَفْسٍ [ ص
132 ] قَيْلَةَ بِنْتِ مَخْرَمَةَ ، وَهُوَ حَدِيثٌ طَوِيلٌ وَقَعَ فِي مُسْنَدِ
ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ : أَنّ أُخْتَهَا قَالَتْ لِبَعْلِهَا : إنّ أُخْتِي تُرِيدُ
الْمَسِيرَ مَعَ زَوْجِهَا حُرَيْثِ بْنِ حَسّانَ ذَا صَبَاحٍ بَيْنَ سَمْعِ
الْأَرْضِ وَبَصَرِهَا ، فَهَذَا يَكُونُ مِنْ بَابِ ذَاتِ مَرّةٍ وَذَاتِ يَوْمٍ
غَيْرَ أَنّهُ وَرَدَ مُذَكّرًا ؛ لِأَنّهُ تَشْتَغِلُ تَاءُ التّأْنِيثِ مَعَ
الصّادِ وَتَوَالِي الْحَرَكَاتِ فَحَذَفُوهَا ، فَقَالُوا : لَقِيته ذَا صَبَاحٍ
وَهَذَا لَا يَتَمَكّنُ كَمَا لَا يَتَمَكّنُ ذَاتُ يَوْمٍ وَذَاتُ حِينٍ وَلَا
يُضَافُ إلَيْهِ مَصْدَرٌ وَلَا غَيْرُهُ . وَقَوْلُ الْخَثْعَمِيّ عَزَمْت عَلَى
إقَامَةِ ذِي صَبَاحٍ قَدْ أَضَافَ إلَيْهِ فَكَيْفَ يُضِيفُ إلَيْهِ ثُمّ
يَنْصِبُهُ أَوْ كَيْفَ يُضَارِعُ الْحَالَ مَعَ إضَافَةِ الْمَصْدَرِ إلَيْهِ ؟
فَكَذَلِكَ خَفْضُهُ وَأَخْرَجَهُ عَنْ نَظَائِرِهِ إلّا أَنْ يَكُونَ سِيبَوَيْهِ
سَمِعَ خَثْعَمَ يَقُولُونَ سِرْت فِي ذَاتِ يَوْمٍ أَوْ سِيَر عَلَيْهِ ذَاتُ
يَوْمٍ بِرَفْعِ التّاءِ فَحِينَئِذٍ يَسُوغُ لَهُ أَنْ يَقُولَ لُغَةُ خَثْعَمَ ،
وَأَمّا الْبَيْتُ الّذِي تَقَدّمَ فَالشّاهِدُ لَهُ فِيهِ وَمَا أَظُنّ خَثْعَمَ
، وَلَا أَحَدًا مِنْ الْعَرَبِ يُجِيزُ التّمَكّنَ فِي نَحْوِ هَذَا ،
وَإِخْرَاجِهِ عَنْ النّصْبِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . لَا الّتِي لِلتّبْرِئَةِ
فَصْلٌ وَفِيهِ وَلَا خَيْرَ مِمّنْ خَصّهُ اللّهُ بِالْحُبّ
وَهُوَ مُشْكِلٌ جِدّا لِأَنّ لَا فِي بَابِ التّبْرِئَةِ لَا تَنْصِبُ مِثْلَ
هَذَا إلّا مُنَوّنًا تَقُولُ لَا خَيْرًا مِنْ زَيْدٍ فِي الدّارِ وَلَا شَرّا
مِنْ فُلَانٍ وَإِنّمَا تَنْصِبُ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ إذَا كَانَ الِاسْمُ غَيْرَ مَوْصُولٍ
بِمَا بَعْدَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ } [
يُوسُفُ 92 ] . لِأَنّ عَلَيْكُمْ لَيْسَ مِنْ صِلَةِ التّثْرِيبِ لِأَنّهُ فِي
مَوْضِعِ الْخَبَرِ ، وَأَشْبَهَ مَا يُقَالُ فِي بَيْتِ أَبِي طَالِبٍ أَنّ
خَيْرًا مُخَفّفٌ مِنْ خَيْرِ كَهَيْنِ وَمَيْت [ مِنْ هَيّنٍ وَمَيّتٍ ] وَفِي
التّنْزِيلِ { خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } [ الرّحْمَنُ 70 ] هُوَ مُخَفّفٌ مِنْ
خَيْرَاتٍ . عَوْدٌ إلَى شَرْحِ شِعْرِ أَبِي طَالِبٍ وَقَوْلُهُ مِمّنْ . مَنْ
مُتَعَلّقَةٌ بِمَحْذُوفِ كَأَنّهُ قَالَ لَا خَيْرَ أَخْيَرُ مِمّنْ خَصّهُ
اللّهُ وَخَيْرٌ وَأَخْيَرُ لَفْظَانِ مِنْ جَنْسٍ وَاحِدٍ فَحَسُنَ الْحَذْفُ
اسْتِثْقَالًا لِتَكْرَارِ اللّفْظِ كَمَا حَسُنَ { وَلَكِنّ الْبِرّ مَنْ آمَنَ
بِاللّهِ } [ الْبَقَرَةُ 177 ] . و { الْحَجّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } [ الْبَقَرَةُ
197 ] لِمَا فِي تَكْرَارِ الْكَلِمَةِ مَرّتَيْنِ مِنْ الثّقَلِ عَلَى اللّسَانِ
وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا قَوْلُ اللّهِ تَعَالَى : { وَلَوْ يُعَجّلُ اللّهُ
لِلنّاسِ الشّرّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ } [ يُونُسُ 11 ] أَيْ لَوْ
عَجّلَهُ لَهُمْ إذَا اسْتَعْجَلُوا بِهِ اسْتِعْجَالًا مِثْلَ اسْتِعْجَالِهِمْ
بِالْخَيْرِ فَحَسُنَ هَذَا الْكَلَامُ لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنْ ثِقَلِ
التّكْرَارِ وَإِذَا حَذَفُوا حَرْفًا وَاحِدًا لِهَذِهِ الْعِلّةِ كَقَوْلِهِمْ
بَلّحَرث بَنُونَ فُلَانٍ وَظَلِلْت وَأُحِشّتْ فَأَحْرَى أَنْ يَحْذِفُوا
كَلِمَةَ مِنْ [ ص 133 ] يَكُونَ حَذْفُ التّنْوِينِ مُرَاعَاةً لِأَصْلِ
الْكَلِمَةِ لِأَنّ خَيْرًا مِنْ زَيْدٍ إنّمَا مَعْنَاهُ أَخْيَرُ مِنْ زَيْدٍ
وَكَذَلِكَ شَرّ مِنْ فُلَانٍ إنّمَا أَصْلُهُ أَشَرّ عَلَى وَزْنِ أَفْعَلَ
وَحُذِفَتْ الْهَمْزَةُ تَخْفِيفًا ، وَأَفْعَلُ لَا يَنْصَرِفُ فَإِذَا
انْحَذَفَتْ الْهَمْزَةُ انْصَرَفَ وَنُوّنَ فَإِذَا تَوَهّمْتهَا غَيْرَ
سَاقِطَةٍ الْتِفَاتًا إلَى أَصْلِ الْكَلِمَةِ لَمْ يَبْعُدْ حَذْفُ التّنْوِينِ
عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَعَ مَا يُقَوّيهِ مِنْ ضَرُورَةِ الشّعْرِ . وَقَوْلُهُ
بِالّقُسَاسِيّةِ الشّهُبِ يَعْنِي : السّيُوفَ نَسَبَهَا إلَى قُسَاس ، وَهُوَ
مَعْدِنٌ حَدِيدٌ لِبَنِي أَسَدٍ ، وَقِيلَ اسْمٌ لِلْجَبَلِ الّذِي فِيهِ
الْمَعْدِنُ قَالَ الرّاجِزُ يَصِفُ فَأْسًا :
أَحْضِرْ مِنْ مَعْدِنِ ذِي قُسَاس ... كَأَنّهُ فِي الْحَيْدِ ذِي الْأَضْرَاسِ
يُرْمَى بِهِ فِي الْبَلَدِ الدّهَاسِ
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي الْقُسَاسِيّة : لَا أَدْرِي إلَى أَيّ شَيْءٍ نُسِبَ
وَاَلّذِي ذَكَرْنَاهُ قَالَهُ الْمُبَرّدُ وَقَوْلُهُ ذِي قُسَاس كَمَا حَكَى ،
ذُو زَيْدٍ أَيْ صَاحِبُ هَذَا الِاسْمِ وَفِي أَقْيَالِ حِمْيَرَ : ذُو كَلَاعٍ
وَذُو عَمْرٍو ، أُضِيفَ الْمُسَمّى إلَى اسْمِهِ كَمَا قَالُوا : زَيْدُ بَطّةَ
أَضَافُوهُ إلَى لَقَبِهِ . وَذُكِرَ فِيهِ النّسُورِ الطّخْمَة ، قِيلَ هِيَ
السّودُ الرّءُوسُ قَالَهُ صَاحِبُ الْعَيْنِ وَقَالَ أَيْضًا : الطّخْمَة سَوَادٌ
فِي مُقَدّمِ الْأَنْفِ . وَقَوْلُهُ كَرَاغِيَةِ السّقْبِ يُرِيدُ وَلَد
النّاقَةِ الّتِي عُقْرُهَا قُدَار ، فَرَغَا وَلَدُهَا ، فَصَاحَ بِرُغَائِهِ
كُلّ شَيْءٍ لَهُ صَوْتٌ فَهَلَكَتْ ثَمُودُ عِنْدَ ذَلِكَ فَضَرَبَتْ الْعَرَبُ
ذَلِكَ مَثَلًا فِي كُلّ هَلَكَةٍ . كَمَا قَالَ عَلْقَمَةُ [ بْنُ عَبْدَةَ ] :
رَغَا فَوْقَهُمْ سَقْبُ السّمَاءِ فَدَاحِصٌ ... بِشِكّتِهِ لَمْ يُسْتَلَبْ
وَسَلِيبُ
[ ص 134 ] وَقَالَ آخَرُ
لَعَمْرِي لَقَدْ لَاقَتْ سُلَيْمٌ وَعَامِرٌ ... عَلَى جَانِبِ الثّرْثَارِ
رَاغِيَةَ الْبِكْرِ
مَا
لَقِيَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ قَوْمِهِ
فَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ حِينَ مَنَعَهُ اللّهُ مِنْهَا ، وَقَامَ عَمّهُ وَقَوْمُهُ
مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِيّ الْمُطّلِبِ دُونَهُ وَحَالُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ
مَا أَرَادُوا مِنْ الْبَطْشِ بِهِ يَهْمِزُونَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ
وَيُخَاصِمُونَهُ وَجَعَلَ الْقُرْآنَ يَنْزِلُ فِي قُرَيْشٍ بِأَحْدَاثِهِمْ
وَفِيمَنْ نُصّبَ لِعَدَاوَتِهِ مِنْهُمْ وَمِنْهُمْ مَنْ سُمّيَ لَنَا
أَبُو لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ
[ ص 135 ] نَزَلَ فِيهِ الْقُرْآنُ فِي عَامّةِ مَنْ ذَكَرَ اللّهُ مِنْ
الْكُفّارِ فَكَانَ مِمّنْ سُمّيَ لَنَا مِنْ قُرَيْشٍ مِمّنْ نَزَلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ عَمّهُ أَبُو لَهَبِ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَامْرَأَتُهُ أُمّ
جَمِيلٍ بِنْتُ حَرْبِ بْنِ أُمَيّةَ حَمّالَةَ الْحَطْبِ وَإِنّمَا سَمّاهَا
اللّهُ تَعَالَى حَمَالَةَ الْحَطْبِ ؟ لِأَنّهَا كَانَتْ - فِيمَا بَلَغَنِي -
تَحْمِلُ الشّوْكَ فَتَطْرَحُهُ عَلَى طَرِيقِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حَيْثُ يَمُرّ ، فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِمَا :
تَبّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ
سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا
حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْجِيدُ الْعُنُقُ . قَالَ أَعْشَى
بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ
يَوْمَ تُبْدِي لَنَا قَتِيلَةٌ عَنْ جيـ ... وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ
لَهُ . وَجَمْعُهُ أَجْيَادٌ . وَالْمَسَدُ شَجَرٌ يُدَقّ كَمَا يُدَقّ الْكَتّانُ
فَتُفْتَلُ مِنْهُ حِبَالٌ . قَالَ النّابِغَةُ الذّبْيَانِيّ - وَاسْمُهُ زِيَادُ
بْنُ عَمْرِو بْنِ مُعَاوِيَةَ
مَقْذُوفَةٍ بِدَخِيسِ النّحْضِ بَازِلُهَا ... لَهُ صَرِيفٌ صَرِيفَ الْقَعْوِ
بِالْمَسَدِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ وَوَاحِدَتُهُ مَسَدَةٌ [ ص 136 ] [ ص 137 ]
[ ص 138 ] [ ص 139 ]Sذِكْرُ
أُمّ جَمِيلٍ وَالْمَسَدِ وَعَذَابِهَا
[ ص 135 ] وَذَكَرَ أُمّ جَمِيلٍ بِنْتَ حَرْبٍ عَمّةَ مُعَاوِيَةَ وَذَكَرَ
أَنّهَا كَانَتْ تَحْمِلُ الشّوْكَ وَتَطْرَحُهُ فِي طَرِيقِ رَسُولِ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَأَنْزَلَ اللّهُ فِيهَا : { وَامْرَأَتُهُ
حَمّالَةَ الْحَطَبِ } قَالَ الْمُؤَلّفُ فَلَمّا كَنّى عَنْ ذَلِكَ الشّوْكِ
بِالْحَطَبِ وَالْحَطَبُ لَا يَكُونُ إلّا فِي حَبْلٍ مِنْ ثُمّ جَعَلَ الْحَبْلَ
فِي عُنُقِهَا ، لِيُقَابِلَ الْجَزَاءُ الْفِعْلَ . وَقَوْلُهُ مِنْ مَسَدٍ هُوَ
مِنْ مَسَدْت الْحَبْلَ إذَا أَحَكَمْت فَتْلَهُ إلّا أَنّهُ قَالَ مِنْ مَسَدٍ
وَلَمْ يَقُلْ حَبْلُ مَسَدٍ وَلَا مَمْسُودٍ لِمَعْنَى لَطِيفٍ ذَكَرَهُ بَعْضُ
أَهْلِ التّفْسِيرِ قَالَ الْمَسَدُ يُعَبّر بِهِ فِي الْعُرْفِ عَنْ حَبْلِ
الدّلْوِ وَقَدْ رُوِيَ أَنّهُ يُصْنَعُ بِهَا فِي النّارِ مَا يُصْنَعُ
بِالدّلْوِ تُرْفَعُ بِالْمَسَدِ فِي عُنُقِهَا إلَى شَفِيرِ جَهَنّمَ ثُمّ
يُرْمَى بِهَا إلَى قَعْرِهَا هَكَذَا أَبَدًا ، وَقَوْلُهُمْ أَنّ الْمَسَدَ هُوَ
حَبْلُ الدّلْوِ فِي الْعُرْفِ صَحِيحٌ فَإِنّا لَمْ نَجِدْهُ فِي كَلَامِ
الْعَرَبِ إلّا كَذَلِكَ كَقَوْلِ [ النّابِغَةِ ] الذّبْيَانِي : لَهُ صَرِيفٌ
صَرِيفَ الْقَعْوِ بِالْمَسَدِ
[ ص 136 ] وَقَالَ الْآخَرُ وَهُوَ يَسْتَقِي عَلَى إبِلِهِ
يَا مَسَدَ الْخُوصِ تَعَوّذْ مِنّي ... إنْ تَكُ لَدْنًا لَيّنًا فَإِنّي
مَا شِئْت مِنْ أَشْمَطَ مَقْسَئِنّ
وَقَالَ آخَرُ
يَا رَبّ عَبْسٍ لَا تُبَارِكْ فِي أَحَدْ ... فِي قَائِمٍ مِنْهُمْ وَلَا فِيمَنْ
قَعَدْ
غَيْرَ الْأُولَى شِدّوا بِأَطْرَافِ الْمَسَدْ أَيْ اسْتَقَوْا ، وَقَالَ آخَرُ
وَهُوَ يَسْتَقِي :
وَمَسَدٍ أُمِرّ مِنْ أَيَانِقِ ... لَيْسَ بِأَنْيَابِ وَلَا حَقَائِقِ
يُرِيدُ جَمْعَ أَيْنُقٍ وَأَيْنُقٌ جَمْعُ نَاقَةٍ مَقْلُوبٌ وَأَصْلُهُ أَنْوُقٌ
فَقُلِبَ وَأُبْدِلَتْ الْوَاوُ يَاءً لِأَنّهَا قَدْ أُبْدِلَتْ يَاءً
لِلْكِسْرَةِ إذَا قَالُوا : نِيَاقٌ وَقَلَبُوهُ فِرَارًا مِنْ اجْتِمَاعِ
هَمْزَتَيْنِ لَوْ قَالُوا : أَنْوُقٌ عَلَى الْأَصْلِ يُرِيدُ أَنّ الْمَسَدَ
مِنْ جُلُودِهَا . وَفِي الْحَدِيثِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - قَالَ فِي الْمَدِينَةِ : قَدْ حَرّمْتهَا إلّا لِعُصْفُورِ قَتَبٍ
أَوْ مَسَدٍ مَحَالَةُ وَالْمَحَالَةُ الْبَكَرَةُ . وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنّهُ
حَرّمَهَا بَرِيدًا فِي بَرِيدٍ إلّا الْمِنْجَدَةَ أَوْ مَسَدَ وَالْمِنْجَدَةُ
عَصَا الرّاعِي . وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي النّبَاتِ كُلّ مَسَدٍ رِشَاءٌ
وَأَنْشَدَ
وَبَكْرَةً وَمِحْوَرًا صَرّارَا ... وَمَسَدًا مِنْ أَبَقٍ مُغَارَا
وَالْأَبَقُ الْقِنّبُ وَالزّبْرُ الْكَتّانُ وَأَنْشَدَ أَيْضًا :
أَنَزَعُهَا تَمَطّيًا وَمَثّا ... بِالْمَسَدِ الْمَثْلُوثِ أَوْ يَرْمِثَا
فَقَدْ بَانَ لَك بِهَذَا أَنّ الْمَسَدَ حَبْلُ الْبِئْرِ وَقَدْ جَاءَ فِي
صِفَةِ جَهَنّمَ - أَعَاذَنَا اللّهُ مِنْهَا - أَنّهَا كَطَيّ الْبِئْرِ لَهَا
قَرْنَانِ وَالْقَرْنَانِ مِنْ الْبِئْرِ كَالدّعَامَتَيْنِ لِلْبَكَرَةِ فَقَدْ
بَانَ لَك بِهَذَا كُلّهِ مَا ذَكَرَهُ أَهْلُ التّفْسِيرِ مِنْ صِفَةِ عَذَابِهَا
أَعَاذَنَا اللّهُ مِنْ عَذَابِهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ وَبِهَذَا تُنَاسِبُ
الْكَلَامَ وَكَثُرَتْ مَعَانِيهِ وَتَنَزّهَ عَنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ حَشْوٌ أَوْ
لَغْوٌ - تَعَالَى اللّهُ مَنْزِلُهُ فَإِنّهُ كِتَابٌ عَزِيزٌ . [ ص 137 ]
مُجَاهِدٍ : إنّهَا السّلْسِلَةُ الّتِي ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا لَا يَنْفِي
مَا تَقَدّمَ إذْ يَجُوزُ أَنْ يَرْبِقَ فِي تِلْكَ السّلْسِلَةِ أُمّ جَمِيلٍ
وَغَيْرَهَا ، فَقَدْ قَالَ أَبُو الدّرْدَاءِ لِامْرَأَتِهِ يَا أُمّ الدّرْدَاءِ
إنّ لِلّهِ سِلْسِلَةٌ تَغْلِي بِهَا مَرَاجِلُ جَهَنّمَ مُنْذُ خَلَقَ اللّهُ
النّارَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَقَدْ نَجَاك مِنْ نِصْفِهَا بِالْإِيمَانِ بِاَللّهِ
فَاجْتَهِدِي فِي النّجَاةِ مِنْ النّصْفِ الْآخَرِ بِالْحَضّ عَلَى طَعَامِ
الْمِسْكِينِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ : إنّهَا كَانَتْ تَمْشِي بِالنّمَائِمِ
لَا يَنْفِي حَمْلَهَا الشّوْكَ وَهُوَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ سَائِغٌ أَيْضًا ،
فَقَدْ قَالَ ابْنُ الْأَسْلَتِ لِقُرَيْشِ حِينَ اخْتَلَفُو ا :
وَنُبّئْتُكُمْ شَرْجَيْنِ كُلّ قَبِيلَةٍ ... لَهَا زُمّلٌ مِنْ بَيْنِ مُذْكٍ
وَحَاطِبٍ
فَالْمُذَكّي الّذِي يُذَكّي نَارَ الْعَدَاوَةِ وَالْحَاطِبُ الّذِي يَنُمّ
وَيُغْرِي كَالْمُحْتَطَبِ النّارَ وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى ، وَكَأَنّهُ
مُنْتَزَعٌ مِنْهُ قَوْلُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لَا
يَدْخُلُ الْجَنّةَ قَتّاتٌ وَالْقَتّاتُ هُوَ الّذِي يَجْمَعُ الْقَتّ وَهُوَ مَا
يُوقَدُ بِهِ النّارُ مِنْ حَشِيشٍ وَحَطَبٍ صِغَارٍ . عَنْ الْجِيدِ وَالْعُنُقِ
وَقَوْلُهُ فِي جِيدِهَا ، وَلَمْ يَقُلْ فِي عُنُقِهَا ، وَالْمَعْرُوفُ أَنْ
يُذْكَرَ الْعُنُقَ إذَا ذُكِرَ الْغُلّ ، أَوْ الصّفْعُ كَمَا قَالَ تَعَالَى :
إنّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا [ يس : 8 ] وَيُذْكَرُ الْجِيدُ إذَا
ذُكِرَ الْحُلِيّ أَوْ الْحُسْنُ فَإِنّمَا حَسُنَ هَهُنَا ذِكْرُ الْجِيدِ فِي
حُكْمِ الْبَلَاغَةِ لِأَنّهَا امْرَأَةٌ وَالنّسَاءُ تُحَلّي أَجِيَادَهُنّ
وَأُمّ جَمِيلٍ لَا حُلِيّ لَهَا فِي الْآخِرَةِ إلّا الْحَبْلُ الْمَجْعُولُ فِي
عُنُقِهَا ، فَلَمّا أُقِيمَ لَهَا ذَلِكَ مَقَامَ الْحُلِيّ ذُكِرَ الْجِيدَ
مَعَهُ فَتَأَمّلْهُ فَإِنّهُ مَعْنًى لَطِيفٌ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ الْأَعْشَى
: يَوْم تُبْدِي لَنَا قُتَيْلَة عَنْ جِيدٍ
وَلَمْ يَقُلْ عَنْ عُنُقٍ يَقُولُ الْآخَرُ وَأَحْسَنُ مِنْ عُقَدِ الْمَلِيحَةِ
جِيدُهَا
و قَالَهُ لَكَانَ غَثّا مِنْ الْكَلَامِ فَإِنّمَا يَحْسُنُ ذِكْرُ الْجِيدِ
حَيْثُ قُلْنَا ، [ ص 138 ] { فَبَشّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آلُ عِمْرَانَ :
21 ] أَيْ لَا بُشْرَى لَهُمْ إلّا ذَلِكَ وَقَوْلُ الشّاعِرِ [ عَمْرُو بْنُ
مَعْدِي كَرِبَ ] :
[ وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْت لَهَا بِخَيْلِ ] ... تَحِيّةُ بَيْنِهِمْ كَرْبٌ وَجِيعُ
أَ يْ لَا تَحِيّةَ لَهُمْ . كَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ
أَيْ لَيْسَ ثُمّ جِيدٌ يُحَلّى ، إنّمَا هُوَ حَبْلُ الْمَسَدِ وَانْظُرْ كَيْفَ
قَالَ وَامْرَأَتُهُ وَلَمْ يَقُلْ وَزَوْجُهُ لِأَنّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجِ لَهُ
فِي الْآخِرَةِ وَلِأَنّ التّزْوِيجَ حِلْيَةٌ شَرْعِيّةٌ وَهُوَ مِنْ أَمْرِ
الدّينِ يُجَرّدُهَا مِنْ هَذِهِ الصّفّةِ كَمَا جَرّدَ مِنْهَا امْرَأَةَ نُوحٍ
وَامْرَأَةَ لُوطٍ ، فَلَمْ يَقُلْ زَوْجَ نُوحٍ وَقَدْ قَالَ لِآدَمَ { اسْكُنْ
أَنْتَ وَزَوْجُكَ } [ الْبَقَرَةُ 35 ] وَقَالَ لِنَبِيّهِ عَلَيْهِ السّلَامُ {
قُلْ لِأَزْوَاجِكَ } وَقَالَ وَأَزْوَاجُهُ أُمّهَاتُهُمْ إلّا أَنْ يَكُونَ
مُسَاقَ الْكَلَامِ فِي ذِكْرِ الْوِلَادَةِ وَالْحَمْلِ وَنَحْوُ ذَلِكَ
فَيَكُونُ حِينَئِذٍ لَفْظُ الْمَرْأَةِ لَائِقًا بِذَلِكَ الْمَوْطِنِ كَقَوْلِهِ
تَعَالَى : { وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا } [ مَرْيَمُ : 5 - 8 ] ، {
فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرّةٍ } [ الذّارِيَاتُ 29 ] لِأَنّ الصّفَةَ
الّتِي هِيَ الْأُنُوثَةُ هِيَ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْحَمْلِ وَالْوَضْعِ لَا مِنْ
حَيْثُ كَانَ زَوْجًا . غُلُوّ فِي الْوَصْفِ بِالْحُسْنِ فَصْلٌ وَأَنْشَدَ
شَاهِدًا عَلَى الْجِيدِ قَوْلَ الْأَعْشَى :
يَوْمَ تُبْدِي لَنَا قُتَيْلَة عَنْ ... جِيدِ أَسِيلٍ تَزْيِنُهُ الْأَطْوَاقُ
وَقَوْلُهُ تَزْيِنُهُ أَيْ تَزِيدُهُ حَسَنًا ، وَهَذَا مِنْ الْقَصْدِ فِي
الْكَلَامِ وَقَدْ أَبَى الْمُوَلّدُونَ إلّا الْغُلُوّ فِي هَذَا الْمَعْنَى ،
وَأَنْ يَغْلِبُوهُ فَقَالَ فِي الْحَمَاسَةِ حُسَيْنُ بْنُ مُطَيْرٍ [
الْأَسَدِيّ ] :
مُبَلّلَةُ الْأَطْرَافِ زَانَتْ عُقُودُهَا ... بِأَحْسَنَ مِمّا زِينَتُهَا
عُقُودُهَا
وَقَالَ خَالِدٌ الْقَسْرِيّ لِعُمَرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَنْ تَكُنْ
الْخِلَافَةُ زِينَتُهُ فَأَنْتَ زِينَتُهَا ، وَمَنْ تَكُنْ شَرّفْته ، فَأَنْتَ
شَرّفْتهَا ، وَأَنْتَ كَمَا قَالَ [ مَالِكُ ابْنُ أَسَمَاءَ ] :
وَتَزِيدِينَ أَطْيَبَ الطّيبِ طِيبًا ... إنّ تَمَسّيهِ أَيْنَ مِثْلُك أَيْنَا
وَإِذَا الدّرّ زَانٍ حُسْنَ وُجُوهٍ ... كَانَ لِلدّرّ حَسَنُ وَجْهِك زَيْنَا
[ ص 139 ] فَقَالَ عُمَرُ إنّ صَاحِبَكُمْ أَعْطَى مَقُولًا ، وَلَمْ يُعْطِ
مَعْقُولًا ، قَالَ الْمُؤَلّفُ وَإِنّمَا لَمْ يَحْسُنْ هَذَا مِنْ خَالِدٍ لَمّا
قَصَدَ بِهِ التّمَلّقَ . وَإِلّا فَقَدْ صَدَرَ مِثْلُ هَذَا الْمَعْنَى عَنْ
الصّدّيقِ فَحَسُنَ لِمَا عَضّدَهُ مِنْ التّحْقِيقِ وَالتّحَرّي لِلْحَقّ
وَالْبَعْدِ عَنْ الْمَلَقِ وَالْخِلَابَةِ وَذَلِكَ حِينَ عَهِدَ إلَى عُمَرَ
بِالْخِلَافَةِ وَدَفَعَ إلَيْهِ عَهْدَهُ مَخْتُومًا ، وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَا
فِيهِ فَلَمّا عَرَفَ مَا فِيهِ رَجَعَ إلَيْهِ حَزِينًا كَهَيْئَةِ الثّكْلَى :
يَقُولُ حَمّلْتنِي عِبْئًا أَلّا أَضْطَلِعُ بِهِ وَأَوْرَدْتنِي مَوْرِدًا لَا
أَدْرِي : كَيْفَ الصّدْرُ عَنْهُ فَقَالَ لَهُ الصّدّيقُ مَا آثَرْتُك بِهَا ،
وَلَكِنّي آثَرْتهَا بِك ، وَمَا قَصَدْت مُسَاءَتَك ، وَلَكِنْ رَجَوْت إدْخَالَ
السّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِك ، وَمِنْ هَاهُنَا أَخَذَ الْحُطَيْئَة
قَوْلُهُ
مَا آثَرُوك بِهَا إذْ قَدّمُوك لَهَا ... لَكِنْ لِأَنْفُسِهِمْ كَانَتْ بِهَا
الْإِثْرُ
وَقَدْ سَبَكَ هَذَا الْمَعْنَى فِي النّسِيبِ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبّاسٍ
الرّومِيّ ، فَقَالَ
وَأَحْسَنُ مِنْ عِقْدِ الْمَلِيحَةِ جِيدُهَا ... وَأَحْسَنُ مِنْ سِرْبَالِهَا
الْمُتَجَرّدُ
وَمِمّا هُوَ دُونَ الْغُلُوّ وَفَوْقَ التّقْصِيرِ قَوْلُ الرّضِيّ
حَلْيُهُ جِيدُهُ لَا مَا يُقَلّدُهُ ... وَكُحْلُهُ مَا بِعَيْنَيْهِ مِنْ
الْكُحْلِ
وَنَحْوٌ مِنْهُ مَا أَنْشَدَهُ الثّعَالِبِيّ :
وَمَا الْحَلْيُ إلّا حِيلَةٌ مِنْ نَقِيصَةٍ ... يُتَمّمُ مِنْ حُسْنٍ إذَا الْحُسْنُ
قَصّرَا
فَأَمّا إذَا كَانَ الْجَمَالُ مُوَفّرًا ... فَحَسْبُك لَمْ يَحْتَجْ إلَى أَنْ
يُزَوّرَا
وَسَمِعْت الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرٍ مُحَمّدَ بْنَ الْعَرَبِيّ يَقُولُ حَجّ أَبُو
الْفَضْلِ الْجَوْهَرِيّ الزّاهِدُ ذَاتَ مَرّةٍ فَلَمّا أَشْرَفَ عَلَى الْكَعْبَةِ
، وَرَأَى مَا عَلَيْهَا مِنْ الدّيبَاجِ تَمَثّلَ وَقَالَ
مَا عَلّقَ الْحُلِيّ عَلَى صَدْرِهَا ... إلّا لِمَا يُخْشَى مِنْ الْعَيْنِ
تَقُولُ وَالدّرّ عَلَى نَحْرِهَا ... مَنْ عَلّقَ الشّيْن عَلَى الزّيْنِ
وَبَيْتُ الْأَعْشَى الْمُتَقَدّمُ بَعْدَهُ
وَشَتِيتٍ كَالْأُقْحُوَانِ جَلّاهُ ... الطّلّ فِيهِ عُذُوبَةٌ وَاتّسَاقُ
وَأَثِيثٍ جَثْلِ النّبَاتِ تَرْوِي ... ه لَعُوبٌ غَرِيرَةٌ مِفْتَاقُ
حُرّةٌ طِفْلَةُ الْأَنَامِلِ كَالدّمْ ... لَا عَانِسٌ وَلَا مِهْزَاقُ
[
ص 140 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَذَكَرَ لِي : أَنّ أُمّ جَمِيلٍ حَمَالَةَ
الْحَطَبِ حِينَ سَمِعَتْ مَا نَزَلَ فِيهَا ، وَفِي زَوْجِهَا مِنْ الْقُرْآنِ
أَتَتْ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي
الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ ، وَفِي يَدِهَا
فِهْرٌ مِنْ حِجَارَةٍ فَلَمّا وَقَفَتْ عَلَيْهِمَا أَخَذَ اللّهُ بِبَصَرِهَا
عَنْ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَلَا تَرَى إلّا أَبَا
بَكْرٍ فَقَالَتْ يَا أَبَا بَكْرٍ أَيْنَ صَاحِبُك ، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنّهُ
يَهْجُونِي ؟ وَاَللّهِ لَوْ وَجَدْته لَضَرَبْت بِهَذَا الْفِهْرِ فَاهُ أَمَا
وَاَللّهِ إنّي لَشَاعِرَةٌ ثُمّ قَالَتْ
مُذَمّمًا عَصَيْنَا ... وَأَمْرَهُ أَبَيْنَا
وَدِينَهُ قَلَيْنَا
ثُمّ انْصَرَفْت ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ يَا رَسُولَ اللّهِ أَمَا تَرَاهَا
رَأَتْك ؟ فَقَالَ مَا رَأَتْنِي ، لَقَدْ أَخَذَ اللّهُ بِبَصَرِهَا عَنّي قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : قَوْلُهَا : " وَدِينَهُ قَلَيْنَا " عَنْ غَيْرِ ابْنِ
إسْحَاقَ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَتْ قُرَيْشٌ إنّمَا تُسَمّي رَسُولَ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مُذَمّمًا ، ثُمّ يَسُبّونَهُ فَكَانَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ أَلَا تَعْجَبُونَ لِمَا
يَصْرِفُ اللّهُ عَنّي مِنْ أَذَى قُرَيْشٍ ، يَسُبّونَ وَيَهْجُونَ مُذَمّمًا ،
وَأَنَا مُحَمّدٌSالْفِهْرُ
[ ص 140 ] وَذَكَرَ قَوْلَ أُمّ جَمِيلٍ لِأَبِي بَكْرٍ لَوْ وَجَدْت صَاحِبَك
لَشَدَخْت رَأْسَهُ بِهَذَا الْفِهْرِ . الْمَعْرُوفُ فِي الْفِهْرِ التّأْنِيثُ
وَتَصْغِيرُهُ فُهَيْرَةُ وَوَقَعَ هَاهُنَا مُذّكّرًا . حَوْلَ قَوْلِهِمْ
مُذَمّمٌ وَحَدِيثُ خَبّابٍ وَذَكَرَ قَوْلَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
أَلَا تَرَوْنَ إلَى مَا يَدْفَعُ اللّهُ عَنّي مِنْ أَذَى قُرَيْشٍ ، يَشْتُمُونَ
وَيَهْجُونَ مُذَمّمًا وَأَنَا مُحَمّدٌ " ؟ وَأَدْخَلَ النّسَوِيّ هَذَا
الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ الطّلَاقِ فِي بَابِ " مَنْ طَلّقَ بِكَلَامِ لَا
يُشْبِهُ الطّلَاقَ فَإِنّهُ غَيْرُ لَازِمٍ " وَهُوَ فِقْهٌ حَسَنٌ لِقَوْلِ
النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَلَا تَرَوْنَ إلَى مَا يَدْفَعُ
اللّهُ عَنّي فَجَعَلَ أَذَاهُمْ مَصْرُوفًا عَنْهُ لِمَا سَبّوا مُذَمّمًا ،
وَمُذَمّمًا لَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا لَهُ فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لَهَا :
كُلِي وَاشْرَبِي ، وَأَرَادَ بِهِ الطّلَاقَ لَمْ يَلْزَمْهُ وَكَانَ مَصْرُوفًا
عَنْهُ لِأَنّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ لَا يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ عَبّارَةً عَنْ
الطّلَاقِ .
إيذَاءُ
أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ لِلرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
[ ص 141 ] وَأُمَيّةُ بْنُ خَلَفِ بْنِ وَهْبِ بْنِ جُذَافَةَ بْنِ جُمَحٍ كَانَ
إذَا رَأَى رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ هَمَزَهُ وَلَمَزَهُ
فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِ { وَيْلٌ لِكُلّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الّذِي
جَمَعَ مَالًا وَعَدّدَهُ يَحْسَبُ أَنّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلّا لَيُنْبَذَنّ
فِي الْحُطَمَةِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللّهِ الْمُوقَدَةُ
الّتِي تَطّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ إِنّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ
مُمَدّدَةٍ } . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْهُمَزَةُ الّذِي يَشْتِمُ الرّجُلَ
عَلَانِيَةً وَيَكْسِرُ عَيْنَيْهِ عَلَيْهِ وَيَغْمِزُ بِهِ . قَالَ حَسّانُ بْنُ
ثَابِتٍ :
هَمَزْتُك فَاخْتَضَعْت لِذُلّ نَفْسٍ ... بِقَافِيَةِ تَأَجّجُ كَالشّوَاظِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَجَمْعُهُ هَمَزَاتٌ . وَاللّمَزَةُ
الّذِي يَعِيبُ النّاسَ سِرّا وَيُؤْذِيهِمْ . قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ :
فِي ظِلّ عَصْرِي بَاطِلِي وَلَمْزِي
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ وَجَمْعُهُ لَمَزَاتٌ . إيذَاءُ الْعَاصِ
لِلرّسُولِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَالْعَاصِ
بْنُ وَائِلٍ السّهْمِيّ ، كَانَ خَبّابُ بْنُ الْأَرَتّ ، صَاحِبَ رَسُولِ اللّهِ
- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَيْنًا بِمَكّةَ يَعْمَلُ السّيُوفَ وَكَانَ
قَدْ بَاعَ مِنْ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ سُيُوفًا عَمِلَهَا لَهُ حَتّى كَانَ لَهُ
عَلَيْهِ مَالٌ فَجَاءَهُ يَتَقَاضَاهُ فَقَالَ لَهُ يَا خَبّابُ أَلَيْسَ
يَزْعُمُ مُحَمّدٌ صَاحِبُكُمْ هَذَا الّذِي أَنْتَ عَلَى دِينِهِ أَنّ فِي
الْجَنّةِ مَا ابْتَغَى أَهْلُهَا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضّةٍ أَوْ ثِيَابٍ أَوْ
خَدَمٍ ؟ قَالَ خَبّابٌ بَلَى . قَالَ فَأَنْظِرْنِي إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَا
خَبّابُ حَتّى أَرْجِعَ إلَى تِلْكَ الدّارِ فَأَقْضِيك هُنَالِكَ حَقّك ،
فَوَاَللّهِ لَا تَكُونُ أَنْتَ وَصَاحِبُك يَا خَبّابُ آثَرَ عِنْدَ اللّهِ مِنّي
، وَلَا أَعْظَمَ حَظّ فِي ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِ {
أَفَرَأَيْتَ الّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنّ مَالًا وَوَلَدًا
أَطّلَعَ الْغَيْبَ } إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ
وَيَأْتِينَا فَرْدًا } [ هِيَ وَمَا قَبْلَهَا مِنْ سُورَةِ مَرْيَمَ : 77 - 80 ]S[ ص 141 ] وَذَكَرَ
حَدِيثَ خَبّابٍ مَعَ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ وَمَا أَنَزَلَ اللّهُ فِيهِ مِنْ
قَوْلِهِ { أَفَرَأَيْتَ الّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا } وَقَدْ تَقَدّمَ الْكَلَامُ
عَلَى : أَرَأَيْت ، وَأَنّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَلِيَهَا الِاسْتِفْهَامُ كَمَا
يَلِي : عَلِمْت وَنَحْوَهَا ، وَهِيَ هَاهُنَا : عَامِلَةٌ فِي الّذِي كَفَرَ
وَقَدْ قَدّمْنَا مِنْ الْقَوْلِ فِيهَا مَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ هَاهُنَا ،
فَلْيُنْظَرْ فِي سُورَةِ اقْرَأْ وَحَدِيثِ نُزُولِهَا
إيذَاءُ
أَبِي جَهْلٍ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
[ ص 142 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيمَا بَلَغَنِي - فَقَالَ لَهُ
وَاَللّهِ يَا مُحَمّدُ لَتَتْرُكَنّ سَبّ آلِهَتِنَا ، أَوْ لَنَسُبّنّ إلَهَك
الّذِي تَعْبُدُ . فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِ { وَلَا تَسُبّوا الّذِينَ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَيَسُبّوا اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } [
الْأَنْعَامُ 108 ] فَذَكَرَ لِي أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ كَفّ عَنْ سَبّ آلِهَتِهِمْ وَجَعَلَ يَدْعُوهُمْ إلَى اللّهِ .Sسَدّ
الذّرَائِعِ
[ ص 142 ] وَذَكَرَ قَوْلَ أَبِي جَهْلٍ لَتَكُفّنّ عَنْ سَبّ آلِهَتِنَا أَوْ
لَنَسُبّنّ إلَهَك ، فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى { وَلَا تَسُبّوا الّذِينَ
يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَيَسُبّوا اللّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ } [
الْأَنْعَامُ 108 ] الْآيَةَ . وَهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ عِنْدَ الْمَالِكِيّة ِ فِي
إثْبَاتِ الذّرَائِعِ وَمُرَاعَاتِهَا فِي الْبُيُوعِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ
وَذَلِكَ أَنّ سَبّ آلِهَتِهِمْ كَانَ مِنْ الدّينِ فَلَمّا كَانَ سَبَبًا إلَى
سَبّهِمْ الْبَارِيَ - سُبْحَانَهُ - نَهَى عَنْ سَبّ آلِهَتِهِمْ فَكَذَلِكَ مَا
يَخَافُ مِنْهُ الذّرِيعَةَ إلَى الرّبَا ، يَنْبَغِي الزّجْرُ عَنْهُ وَمِنْ
الذّرَائِعِ مَا يَقْرُبُ مِنْ الْحَرَامِ وَمِنْهَا مَا يَبْعُدُ فَتَقَعُ
الرّخْصَةُ وَالتّشْدِيدُ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ وَلَمْ يَجْعَلْ الشّافِعِيّ
الذّرِيعَةَ إلَى الْحَرَامِ أَصْلًا ، وَلَا كَرِهَ شَيْئًا مِنْ الْبُيُوعِ
الّتِي تُتّقَى فِيهَا الذّرِيعَةُ إلَى الرّبَا ، وَقَالَ تُهْمَةُ الْمُسْلِمِ
وَسُوءُ الظّنّ بِهِ حَرَامٌ وَمِنْ حُجّتِهِمْ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ :
إنّمَا الرّبَا عَلَى مَنْ قَصَدَ الرّبَا ، وَقَوْلُ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ
إنّمَا الْأَعْمَالُ بِالنّيّاتِ ، وَإِنّمَا لِكُلّ امْرِئِ مَا نَوَى فِيهِ
أَيْضًا مُتَعَلّقٌ لَهُمْ وَقَالُوا : وَنَهْيُهُ تَعَالَى عَنْ سَبّ آلِهَتِهِمْ
لِئَلّا يُسَبّ اللّهُ تَعَالَى لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ لِأَنّهُ لَا تُهْمَةَ
فِيهِ لِمُؤْمِنِ وَلَا تَضْيِيقَ عَلَيْهِ وَكَمَا تُتّقَى الذّرِيعَةُ إلَى
تَحْلِيلِ مَا حَرّمَ اللّهُ فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُتّقَى تَحْرِيمُ مَا
أَحَلّ اللّهُ فَكِلَا الطّرَفَيْنِ ذَمِيمٌ وَأَحَلّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرّمَ
الرّبَا ، وَالرّبَا مَعْلُومٌ فَمَا لَيْسَ مِنْ الرّبَا فَهُوَ مِنْ الْبَيْعِ
وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلطّائِفَتَيْنِ وَالِاحْتِجَاجُ
لِلْفَرِيقَيْنِ يَتّسِعُ مِجَالُهُ وَيَصُدّنَا عَنْ مَقْصُودِنَا مِنْ
الْكِتَابِ .
إيذَاءُ
النّضْرِ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَالنّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَلْقَمَةَ بْنِ كَلَدَةَ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ
بْنِ عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ ، [ ص 143 ] كَانَ إذَا جَلَسَ رَسُولُ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَجْلِسًا ، فَدَعَا فِيهِ إلَى اللّهِ تَعَالَى ،
وَتَلَا فِيهِ الْقُرْآنَ وَحَذّرَ قُرَيْشًا مَا أَصَابَ الْأُمَمَ الْخَالِيَةَ
خَلْفُهُ فِي مَجْلِسِهِ إذَا قَامَ فَحَدّثَهُمْ عَنْ رُسْتُم السّدِيدِ وَعَنْ
إسفنديار ، وَمُلُوكِ فَارِسَ ، ثُمّ يَقُولُ وَاَللّهِ يَا مُحَمّدُ بِأَحْسَنَ
حَدِيثًا مِنّي ، وَمَا حَدِيثُهُ إلّا أَسَاطِيرُ الْأَوّلِينَ اكْتَتَبَهَا
كَمَا اكْتَتَبَتْهَا . فَأَنْزَلَ اللّهُ فِيهِ { وَقَالُوا أَسَاطِيرُ
الْأَوّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ
أَنْزَلَهُ الّذِي يَعْلَمُ السّرّ فِي السّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنّهُ كَانَ
غَفُورًا رَحِيمًا } [ الْفُرْقَانُ : 5 ، 6 ] . وَنَزَلَ فِيهِ { إِذَا تُتْلَى
عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوّلِينَ } وَنَزَلَ فِيهِ { وَيْلٌ
لِكُلّ أَفّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمّ يُصِرّ
مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [
الْجَاثِيَةُ 7 ، 8 ] . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْأَفّاكُ الْكَذّابُ . وَفِي
كِتَابِ اللّهِ تَعَالَى : { أَلَا إِنّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ
اللّهُ وَإِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ الصّافّاتُ 151 ، 152 ] . وَقَالَ رُؤْبَةُ
لِامْرِئِ أَفّكَ قَوْلًا إفْكًا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَجَلَسَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَوْمًا - فِيمَا بَلَغَنِي - مَعَ
الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فِي الْمَسْجِدِ فَجَاءَ النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ
حَتّى جَلَسَ مَعَهُمْ فِي الْمَجْلِسِ وَفِي الْمَجْلِسِ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ
قُرَيْشٍ ، فَتَكَلّمَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . فَعَرَضَ
لَهُ النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ فَكَلّمَهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - حَتّى أَفْحَمَهُ ثُمّ تَلَا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ { إِنّكُمْ وَمَا
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللّهِ حَصَبُ جَهَنّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ
كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلّ فِيهَا خَالِدُونَ لَهُمْ فِيهَا
زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ } [ الْأَنْبِيَاءُ 98 - 100 ] . [ ص 144 ]
ابْنُ هِشَامٍ : حَصَبُ جَهَنّمَ كُلّ مَا أُوقِدَتْ بِهِ . قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ
الْهُذَلِيّ وَاسْمُهُ خُوَيْلِدُ بْنُ خَالِدٍ
فَأَطْفِئْ وَلَا تُوقِدْ وَلَا تَكُ مُحْصِبًا ... لِنَارِ الْعُدَاةِ أَنْ تَطِيرَ
شَكَاتُهَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ . وَيُرْوَى : وَلَا تَكُ مِحْضَأ . قَالَ
الشّاعِرُ
حَضَأْت لَهُ نَارِي فَأَبْصَرَ ضَوْأَهَا ... وَمَا كَانَ لَوْلَا حَضَأْةُ
النّارَ يَهْتَدِيSعَنْ
النّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَرُسْتُم
فَصْلٌ حَدِيثُ النّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَقَالَ فِي نَسَبَهُ كَلَدَةُ بْنُ
عَلْقَمَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ النّسّابِ [ ص 143 ] حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ أَبِي
بَحْرٍ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ وَحَدِيثُ النّضْرِ أَنّهُ تَعَلّمَ أَخْبَارَ
رُسْتُم وإسفندياز ، وَكَانَ يَقُولُ اكْتَتَبْتهَا كَمَا اكْتَتَبَهَا مُحَمّدٌ
وَوَقَعَ فِي الْأَصْلِ اكْتَتَبَهَا كَمَا اكْتَتَبَهَا مُحَمّدٌ وَفِي
الرّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ اكْتَتَبْتهَا كَمَا اكْتَتَبَهَا ،
وَرُسْتُم الشّيْد بِالْفَارِسِيّةِ مَعْنَاهُ ذُو الضّيَاءِ وَالْيَاءُ فِي الشّيْد
وَالْأَلِفُ سَوَاءٌ وَمِنْهُ " أرفخشاذ " وَقَدْ تَقَدّمَ شَرْحُهُ
وَمِنْهُ " جَمّ شَاذّ " ، وَهُوَ مِنْ أَوّلِ مُلُوكِ " الْأَرْضِ
" وَهُوَ الّذِي قَتَلَهُ الضّحّاكُ " بيوراسب " ، ثُمّ عَاشَ إلَى
مُدّةِ " أفريذون وَأَبِيهِ جَمّ " ، وَبَيْنَ " أفريذون "
وَبَيْنَ " جَمّ " تِسْعَة آبَاءٍ وَقَالَ لَهُ حِينَ قَتَلَهُ مَا
قَتَلْتُك بِجَمّ وَمَا أَنْتَ لَهُ بِكُفْءِ وَلَكِنْ قَتَلْتُك بِثَوْرِ كَانَ
فِي دَارِهِ وَقَدْ تَقَدّمَ طَرَفٌ مِنْ أَخْبَارِ رُسْتُم وإسفندياز فِي
الْجُزْءِ قَبْلَ هَذَا .
ابْنُ
الزّبَعْرَى وَالْأَخْنَسِ وَمَا قِيلَ فِيهِمَا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ قَامَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الزّبَعْرَى السّهْمِيّ حَتّى جَلَسَ
فَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَعْرَى :
وَاَللّهِ مَا قَامَ النّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ لَابْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ آنِفًا
وَمَا قَعَدَ وَقَدْ زَعَمَ مُحَمّدٌ أَنّا وَمَا نَعْبُدُ مِنْ آلِهَتِنَا هَذِهِ
حَصَبُ جَهَنّمَ فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الزّبَعْرَى : أَمَا وَاَللّهِ لَوْ
وَجَدْته لَخَصَمْته ، فَسَلُوا مُحَمّدًا : أَكُلّ مَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ
اللّهِ فِي جَهَنّمَ مَعَ مَنْ عَبَدَهُ ؟ فَنَحْنُ نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ
وَالْيَهُودَ تَعْبُدُ عُزَيْرًا وَالنّصَارَى تَعْبُدُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
عَلَيْهِمَا السّلَامُ فَعَجِبَ الْوَلِيدُ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ فِي الْمَجْلِسِ
مِنْ قَوْلِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَعْرَى ، وَرَأَوْا أَنّهُ قَدْ احْتَجّ
وَخَاصَمَ . فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
مِنْ قَوْلِ ابْنِ الزّبَعْرَى فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ كُلّ مَنْ أَحَبّ أَنْ يَعْبُدَ مِنْ دُونِ اللّهِ فَهُوَ مَعَ مَنْ
عَبَدَهُ إنّهُمْ إنّمَا يَعْبُدُونَ الشّيَاطِينَ وَمَنْ أَمَرَتْهُمْ
بِعِبَادَتِهِ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ { إِنّ الّذِينَ
سَبَقَتْ لَهُمْ مِنّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لَا يَسْمَعُونَ
حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ } [ الْأَنْبِيَاءُ 101 ، 102 ]
: أَيْ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ، وَعُزَيْرًا ، وَمَنْ عَبَدُوا مِنْ الْأَحْبَارِ
وَالرّهْبَانِ الّذِينَ مَضَوْا عَلَى طَاعَةِ اللّهِ فَاِتّخَذَهُمْ مَنْ
يَعْبُدُهُمْ مِنْ أَهْلِ الضّلَالَةِ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللّهِ . [ ص 145 ]
وَنَزَلَ فِيمَا يَذْكُرُونَ أَنّهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ وَأَنّهَا
بَنَاتُ اللّهِ { وَقَالُوا اتّخَذَ الرّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ
مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [
الْأَنْبِيَاءُ 26 ، 27 ] . إلَى قَوْلِهِ { وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّي إِلَهٌ
مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ } [
الْأَنْبِيَاءُ 29 ] . وَنَزَلَ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ أَمْرِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
أَنّهُ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللّهِ وَعَجِبَ الْوَلِيدُ وَمَنْ حَضَرَهُ مِنْ
حُجّتِهِ وَخُصُومَتِهِ { وَلَمّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ
مِنْهُ يَصِدّونَ } [ الزّخْرُفُ 57 ] . أَيْ يَصِدّونَ عَنْ أَمْرِك بِذَلِكَ
مِنْ قَوْلِهِمْ . ثُمّ ذَكَرَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فَقَالَ [ ص 146 ] { إِنْ
هُوَ إِلّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي
إِسْرَائِيلَ وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ
يَخْلُفُونَ وَإِنّهُ لَعِلْمٌ لِلسّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنّ بِهَا وَاتّبِعُونِ
هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ } [ الزّخْرُفُ 59 - 61 ] أَيْ مَا وُضِعَتْ عَلَى
يَدَيْهِ مِنْ الْآيَاتِ مِنْ إحْيَاءِ الْمَوْتَى ، وَإِبْرَاءِ الْأَسْقَامِ
فَكَفَى بِهِ دَلِيلًا عَلَى عِلْمِ السّاعَةِ يَقُولُ { فَلَا تَمْتَرُنّ بِهَا
وَاتّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ }Sحَدِيثُ
ابْنِ الزّبَعْرَى وَعُزَيْرٍ
[ ص 144 ] وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ الزّبَعْرَى ، وَقَوْلُهُ إنّا نَعْبُدُ
الْمَلَائِكَةَ وَأَنّ النّصَارَى تَعْبُدُ الْمَسِيحَ إلَى آخِرِ كَلَامِهِ وَمَا
أَنَزَلَ اللّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : { إِنّ الّذِينَ سَبَقَتْ
لَهُمْ مِنّا الْحُسْنَى } الْآيَةَ قَالَ الْمُؤَلّفُ وَلَوْ تَأَمّلَ ابْنُ
الزّبَعْرَى وَغَيْرُهُ مِنْ كُفّارِ قُرَيْشٍ الْآيَةَ لَرَأَى اعْتِرَاضَهُ
غَيْرَ لَازِمٍ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنّهُ خِطَابٌ مُتَوَجّهٌ عَلَى
الْخُصُوصِ لِقُرَيْشِ وَعَبَدَةِ الْأَصْنَامِ وَقَوْلُهُ إنّا نَعْبُدُ
الْمَلَائِكَةَ حَيْدَةً وَإِنّمَا وَقَعَ الْكَلَامُ وَالْمُحَاجّةُ فِي اللّاتِي
وَالْعُزّى وَهُبَلَ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَصْنَامِهِمْ . [ ص 145 ] وَالثّانِي :
أَنّ لَفْظَ التّلَاوَةِ { إِنّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ } وَلَمْ يَقُلْ وَمَنْ
تَعْبُدُونَ فَكَيْفَ يَلْزَمُ اعْتِرَاضُهُ بِالْمَسِيحِ وَعُزَيْرٍ
وَالْمَلَائِكَةِ وَهُمْ يَعْقِلُونَ وَالْأَصْنَامُ لَا تَعْقِلُ وَمِنْ ثُمّ جَاءَتْ
الْآيَةُ بِلَفْظِ مَا الْوَاقِعَةِ عَلَى مَا لَا يَعْقِلُ وَإِنّمَا تَقَعُ مَا
عَلَى مَا يَعْقِلُ وَتُعْلَمُ بِقَرِينَةِ مِنْ التّعْظِيمِ وَالْإِبْهَامِ
وَلَعَلّنَا نَشْرَحُهَا وَنُبَيّنُهَا فِيمَا بَعْدُ إنّ قُدّرَ لَنَا ذَلِكَ
وَسَبَبُ عِبَادَةِ النّصَارَى لِلْمَسِيحِ مَعْرُوفٌ وَأَمّا عِبَادَةُ
الْيَهُودِ عُزَيْرًا ، وَقَوْلُهُمْ فِيهِ إنّهُ ابْنُ اللّهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى عَنْ قَوْلِهِمْ وَسَبَبُهُ فِيمَا ذَكَرَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ
الْكَشّيّ أَنّ التّوْرَاةَ لَمّا احْتَرَقَتْ أَيّامَ بُخْتَ نَصّرَ وَذَهَبَ
بِذَهَابِهَا دِينُ الْيَهُودِ ، فَلَمّا ثَابَ إلَيْهِمْ أَمْرُهُمْ وَجُدُوا
لِفَقْدِهَا أَعْظَمَ الْكَرْبِ فَبَيْنَمَا عُزَيْرٌ يَبْكِي لِفَقْدِ
التّوْرَاةِ ، إذْ مَرّ بِامْرَأَةِ جَاثِمَةٍ عَلَى قَبْرٍ قَدْ نَشَرَتْ
شَعْرَهَا ، فَقَالَ لَهَا عُزَيْرٌ مَنْ أَنْتِ ؟ قَالَتْ أَنَا إيلْيَا أُمّ
الْقُرَى أَبْكِي عَلَى وَلَدِي ، وَأَنْتَ تَبْكِي عَلَى كِتَابِك ، وَقَالَتْ
لَهُ إذَا كَانَ غَدًا ، فَأْتِ هَذَا الْمَكَانَ فَلَمّا أَنْ جَاءَ مِنْ الْغَدِ
لِلسّاعَةِ الّتِي وَعَدَتْهُ إذَا هُوَ بِإِنْسَانِ خَارِجٍ مِنْ الْأَرْضِ فِي
يَدِهِ كَهَيْئَةِ الْقَارُورَةِ فِيهَا نُورٌ فَقَالَ لَهُ افْتَحْ فَاك ،
فَأَلْقَاهَا فِي جَوْفِهِ فَكَتَبَ عُزَيْرٌ التّوْرَاةَ - كَمَا أَنَزَلَهَا
اللّهُ ثُمّ قُدّرَ عَلَى التّوْرَاةِ بَعْدَمَا كَانَتْ دُفِنَتْ أَنْ ظَهَرَتْ
فَعُرِضَتْ التّوْرَاةُ ، وَمَا كَانَ عُزَيْرٌ كَتَبَ فَوَجَدُوهُ سَوَاءَ
فَمِنْهَا قَالُوا : إنّهُ وَلَدُ اللّهِ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ .
حَصَبُ جَهَنّمَ
[ ص 146 ] { أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا } وَيُرْوَى : حَضَبُ جَهَنّمَ
بِضَادِ مُعْجَمَةٍ فِي شَوَاذّ الْقِرَاءَاتِ وَهُوَ مِنْ حَضَبَتْ النّارُ
بِمَنْزِلَةِ حَضَأْتهَا ، يُقَالُ أَرّثْتهَا وَأَثْقَبِتهَا وَحَشَشْتهَا
وَأَذْكَيْتهَا وَفَسّرَ ابْنُ إسْحَاقَ قَوْلَهُ يَصُدّونِ وَمَنْ قَرَأَ
يَصِدّونَ فَمَعْنَاهُ يَعْجَبُونَ .
وَالْأَخْنَسُ
بْنُ شَرِيقِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ الثّقَفِيّ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ وَكَانَ
مِنْ أَشْرَافِ الْقَوْمِ وَمِمّنْ يُسْتَمَعُ مِنْهُ فَكَانَ يُصِيبُ مِنْ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَيَرُدّ عَلَيْهِ فَأَنْزَلَ
اللّهُ تَعَالَى فِيهِ { وَلَا تُطِعْ كُلّ حَلّافٍ مَهِينٍ هَمّازٍ مَشّاءٍ
بِنَمِيمٍ } [ الْقَلَمُ 10 ، 11 ] . إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { زَنِيمٍ } وَلَمْ
يَقُلْ زَنِيمٌ لِعَيْبِ فِي نَسَبِهِ لِأَنّ اللّهَ لَا يَعِيبُ أَحَدًا بِنَسَبِ
وَلَكِنّهُ حَقّقَ بِذَلِكَ نَعْتَهُ لِيُعْرَفَ . وَالزّنِيمُ الْعَدِيدُ
لِلْقَوْمِ وَقَدْ قَالَ الْخَطِيمِ التّمِيمِيّ فِي الْجَاهِلِيّةِ
زَنِيمٌ تَدَاعَاهُ الرّجَالُ زِيَادَةً ... كَمَا زِيدَ فِي عَرْضِ الْأَدِيمِ
الْأَكَارِعُ
مَا قِيلَ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأُبَيّ بْنِ خَلَفٍ وَعُقْبَةَ بْنِ
أَبِي مُعَيْطٍ
[ ص 147 ] وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ، قَالَ أَيُنَزّلُ عَلَى مُحَمّدٍ
وَأُتْرَكُ وَأَنَا كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسَيّدُهَا ، وَيُتْرَكُ أَبُو مَسْعُودٍ
عَمْرُو بْنُ عُمَيْرٍ الثّقَفِيّ سَيّدُ ثَقِيفٍ ، وَنَحْنُ عَظِيمَا
الْقَرْيَتَيْنِ ؟ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِ فِيمَا بَلَغَنِي : {
وَقَالُوا لَوْلَا نُزّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ
عَظِيمٍ } [ الزّخْرُفُ 30 ] . إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { مِمّا يَجْمَعُونَ }
وَأُبَيّ بْنُ خَلَفِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحٍ وَعُقْبَةُ بْنُ
أَبِي مُعَيْطٍ ، وَكَانَا مُتَصَافِيَيْنِ حَسَنًا مَا بَيْنَهُمَا . فَكَانَ
عُقْبَةُ قَدْ جَلَسَ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
وَسَمِعَ مِنْهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ أُبَيّا ، فَأَتَى عُقْبَةُ فَقَالَ أَلَمْ
يَبْلُغْنِي أَنّك جَالَسْت مُحَمّدًا ، وَسَمِعْت مِنْهُ ثُمّ قَالَ وَجْهِي مِنْ
وَجْهِك حَرَامٌ أَنْ أُكَلّمَك - وَاسْتَغْلَظَ مِنْ الْيَمِينِ - إنْ أَنْتَ
جَلَسْت إلَيْهِ أَوْ سَمِعْت مِنْهُ أَوْ لَمْ تَأْتِهِ فَتَتْفُلَ فِي وَجْهِهِ
. فَفَعَلَ مِنْ ذَلِكَ عَدُوّ اللّهِ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ لَعَنَهُ
اللّهُ . فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِمَا : { وَيَوْمَ يَعَضّ الظّالِمُ
عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتّخَذْتُ مَعَ الرّسُولِ سَبِيلًا } إلَى
قَوْلِهِ تَعَالَى : { لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا } [ الْفُرْقَانُ : 27 - 29 ] .
وَمَشَى أُبَيّ بْنُ خَلَفٍ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
- بِعَظْمِ بَالٍ قَدْ ارْفَتّ فَقَالَ يَا مُحَمّدُ أَنْتَ تَزْعُمُ أَنْ
يُبْعَثَ هَذَا بَعْدَ مَا أَرِمَ ثُمّ فَتّهُ بِيَدِهِ ثُمّ نَفَخَهُ فِي الرّيحِ
نَحْوَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ
- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - نَعَمْ أَنَا أَقُولُ ذَلِكَ ، يَبْعَثُهُ
اللّهُ وَإِيّاكَ بَعْدَمَا تَكُونَانِ هَكَذَا ، ثُمّ يُدْخِلُك اللّهُ النّارَ .
فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِ { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ
قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الّذِي أَنْشَأَهَا
أَوّلَ مَرّةٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشّجَرِ
الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ } [ يس : 79 ، 80 ] .Sمَا
نَزَلَ فِي الْأَخْنَسِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ مَا أَنَزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ -
وَاسْمُهُ أُبَيّ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : { عُتُلّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ }
وَقَدْ قِيلَ نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَقَدْ قِيلَ فِي
الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ الزّهْرِيّ ، وَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : نَزَلَتْ
فِي رَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ لَهُ زَنَمَتَانِ كَزَنَمَتَيْ الشّاةِ رَوَاهُ
الْبُخَارِيّ بِإِسْنَادِهِ عَنْهُ . وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنّهُ قَالَ
الزّنِيمُ الّذِي لَهُ زَنَمَتَانِ مِنْ الْبَشَرِ يُعْرَفُ بِهَا ، كَمَا
تُعْرَفُ الشّاةُ بِزَنَمَتِهَا ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَيْضًا مِثْلُ مَا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ أَنّ الزّنِيمَ الْمُلْصَقُ بِالْقَوْمِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ
قَالَ ذَلِكَ ابْنُ الْأَزْرَقِ الْحَرُورِيّ وَقَالَ أَمَا سَمِعْت قَوْلَ
حَسّانَ زَنِيمٌ تَدَاعَاهُ الرّجَالُ الْبَيْتَ وَقَدْ أَنْشَدَ ابْنُ هِشَامٍ
هَذَا الْبَيْتَ مُسْتَشْهِدًا بِهِ وَنَسَبَهُ لِلْخَطِيمِ التّمِيمِيّ ،
وَالْأَعْرَف أَنّهُ لِحَسّانَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ ، وَأَمّا الْعُتُلّ فَهُوَ
الْغَلِيظُ الْجَافِي مِنْ [ ص 147 ] { خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ
الْجَحِيمِ } [ الدّخَانُ 47 ] . وَقَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ أَنَا أُنَبّئُكُمْ
بِأَهْلِ النّارِ كُلّ عُتُلّ جَوّاظٍ مُسْتَكْبِرٍ جَمّاعٍ مَنّاعٍ
مَا
قِيلَ فِي حَقّ الّذِينَ اعْتَرَضُوا الرّسُولَ فِي الطّوَافِ
[ ص 148 ] وَاعْتَرَضَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ
يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ - فِيمَا بَلَغَنِي - الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطّلِبِ بْنِ
أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ، وَأُمَيّةُ بْنُ
خَلَفٍ ، وَالْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ السّهْمِيّ ، وَكَانُوا ذَوِي أَسْنَانٍ فِي
قَوْمِهِمْ فَقَالُوا : يَا مُحَمّدُ هَلُمّ فَلْنَعْبُدْ مَا تَعْبُدُ ،
وَتَعْبُدُ مَا نَعْبُدُ فَنَشْتَرِكَ نَحْنُ وَأَنْتَ فِي الْأَمْرِ فَإِنْ كَانَ
الّذِي تَعْبُدُ خَيْرًا مِمّا نَعْبُدُ كُنّا قَدْ أَخَذْنَا بِحَظّنَا مِنْهُ
وَإِنْ كَانَ مَا نَعْبُدُ خَيْرٌ مِمّا تَعْبُدُ كُنْت قَدْ أَخَذْت بِحَظّك
مِنْهُ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِمْ { قُلْ يَا أَيّهَا الْكَافِرُونَ لَا
أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا
عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ
وَلِيَ دِينِ } [ الْكَافِرُونَ 1 - 6 ] . [ ص 149 ]S{ قُلْ يَا أَيّهَا
الْكَافِرُونَ }
فَصْلٌ وَذَكَرَ قَوْلَهُمْ الّذِي أَنَزَلَ اللّهُ فِيهِ { قُلْ يَا أَيّهَا
الْكَافِرُونَ } إلَى آخِرِهَا فَقَالَ [ ص 148 ] { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ
} أَيْ فِي الْحَالِ { وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ } أَيْ فِي
الْمُسْتَقْبَلِ وَكَذَلِكَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ فَإِنْ قِيلَ
كَيْفَ يَقُولُ لَهُمْ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَهُمْ قَدْ
قَالُوا : هَلُمّ فَلْنَعْبُدْ رَبّك ، وَتَعْبُدُ رَبّنَا ، كَيْفَ نَفَى
عَنْهُمْ مَا أَرَادُوا وَعَزَمُوا عَلَيْهِ ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ
أَحَدُهُمَا : أَنّهُ عَلِمَ أَنّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ فَأَخْبَرَ بِمَا عَلِمَ .
الثّانِي : أَنّهُمْ لَوْ عَبَدُوهُ عَلَى الْوَجْهِ الّذِي قَالُوهُ مَا كَانَتْ
عِبَادَةً وَلَا يُسَمّى عَابِدًا لِلّهِ مَنْ عَبَدَهُ سَنَةً وَعَبَدَ غَيْرَهُ
أُخْرَى ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ قَالَ { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ }
وَلَمْ يَقُلْ مَنْ أَعْبُدُ وَقَدْ قَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيّةِ إنّ مَا تَقَعُ
عَلَى مَا لَا يَعْقِلُ فَكَيْفَ عَبّرَ بِهَا عَنْ الْبَارِي تَعَالَى ؟
فَالْجَوَابُ أَنّا قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا قَبْلُ أَنّ مَا قَدْ تَقَعُ عَلَى مَنْ
يَعْقِلُ بِقَرِينَةِ فَهَذَا أَوَانُ ذِكْرِهَا ، وَتِلْكَ الْقَرِينَةُ
الْإِبْهَامُ وَالْمُبَالَغَةُ فِي التّعْظِيمِ وَالتّفْخِيمِ وَهِيَ فِي مَعْنَى
الْإِبْهَامِ لِأَنّ مَنْ جَلّتْ عَظَمَتُهُ حَتّى خَرَجَتْ عَنْ الْحَصْرِ ،
وَعَجَزَتْ الْأَفْهَامُ عَنْ كُنْهُ ذَاتِهِ وَجَبَ أَنْ يُقَالَ فِيهِ هُوَ مَا
هُوَ كَقَوْلِ الْعَرَبِ : سُبْحَانَ مَا سَبّحَ الرّعْدُ بِحَمْدِهِ وَمِنْهُ
قَوْلُهُ { وَالسّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا } فَلَيْسَ كَوْنُهُ عَالِمًا مِمّا
يُوجِبُ لَهُ مِنْ التّعْظِيمِ مَا يُوجِبُ لَهُ أَنّهُ بَنَى السّمَوَاتِ وَدَحَا
الْأَرْضَ فَكَانَ الْمَعْنَى : إنّ شَيْئًا بَنَاهَا لَعَظِيمٌ أَوْ مَا
أَعْظَمَهُ مِنْ شَيْءٍ فَلَفْظُ مَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يُؤْذِنُ بِالتّعَجّبِ
مِنْ عَظَمَتِهِ كَائِنًا مَا كَانَ هَذَا الْفَاعِلُ لِهَذَا ، فَمَا أَعْظَمَهُ
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قِصّةِ آدَم : { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ
لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ } وَلَمْ يَقُلْ لِمَنْ خَلَقْت ، وَهُوَ يَعْقِلُ لِأَنّ
السّجُودَ لَمْ يَجِبْ لَهُ مِنْ حَيْثُ كَانَ يَعْقِلُ وَلَا مِنْ حَيْثُ كَانَ
لَا يَعْقِلُ وَلَكِنْ مِنْ حَيْثُ أُمِرُوا بِالسّجُودِ لَهُ فَكَائِنًا مَا
كَانَ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ مَا أُمِرُوا بِهِ فَمِنْ
هَاهُنَا حَسُنَتْ مَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا مِنْ جِهَةِ التّعْظِيمِ لَهُ
وَلَكِنْ مِنْ جِهَةِ مَا يَقْتَضِيهِ الْأَمْرُ مِنْ السّجُودِ لَهُ فَكَائِنًا مَنْ
كَانَ وَأَمّا قَوْلُهُ تَعَالَى : { لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } فَوَاقِعَةٌ
عَلَى مَا لَا يَعْقِلُ لِأَنّهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ وَقَوْلُهُ {
وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } اقْتَضَاهَا الْإِبْهَامُ وَتَعْظِيمُ
الْمَعْبُودِ مَعَ أَنّ الْحِسّ مِنْهُمْ مَانِعٌ لَهُمْ أَنْ يَعْبُدُوا
مَعْبُودَهُ كَائِنًا مَا كَانَ فَحَسُنَتْ مَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِهَذِهِ
الْوُجُوهِ فَبِهَذِهِ الْقَرَائِنِ يَحْسُنُ وُقُوعُ مَا عَلَى أُولِي الْعِلْمِ
وَبَقِيَتْ نُكْتَةٌ بَدِيعَةٌ يَتَعَيّنُ التّنْبِيهُ عَلَيْهَا ، وَهُوَ
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ } بِلَفْظِ الْمَاضِي ،
ثُمّ قَالَ { وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ } بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ فِي
الْآيَتَيْنِ جَمِيعًا ، إذَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ قَالَ مَا أَعْبُدُ وَلَمْ
يَقُلْ مَا عَبَدْت ، وَالنّكْتَةُ فِي ذَلِكَ أَنّ مَا لِمَا فِيهَا مِنْ
الْإِبْهَامِ - وَإِنْ كَانَتْ خَبَرِيّةً - تُعْطِي مَعْنَى الشّرْطِ فَكَأَنّهُ
قَالَ مَهْمَا عَبَدْتُمْ شَيْئًا ، فَإِنّي لَا أَعْبُدُهُ وَالشّرْطُ يُحَوّلُ
الْمُسْتَقْبِلَ إلَى لَفْظِ الْمَاضِي ، تَقُولُ إذَا قَامَ زَيْدٌ غَدًا فَعَلْت
كَذَا ، [ ص 149 ] خَرَجَ زَيْدٌ غَدًا خَرَجْت ، فَمَا : فِيهَا رَائِحَةُ
الشّرْطِ مِنْ أَجْلِ إبْهَامِهَا ؛ فَلِذَلِكَ جَاءَ الْفِعْلُ بَعْدَهَا
بِلَفْظِ الْمَاضِي ، وَلَا يَدْخُلُ الشّرْطُ عَلَى فِعْلِ الْحَالِ وَلِذَلِكَ
قَالَ فِي أَوّلِ السّورَةِ مَا تَعْبُدُونَ لِأَنّهُ حَالٌ لِأَنّ رَائِحَةَ
الشّرْطِ مَعْدُومَةٌ فِيهَا مَعَ الْحَالِ وَكَذَلِكَ رَائِحَةُ الشّرْطِ
مَعْدُومَةٌ فِي قَوْلِهِ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لِأَنّهُ - عَلَيْهِ السّلَامُ
- يَسْتَحِيلُ أَنْ يَتَحَوّلَ عَنْ عِبَادَةِ رَبّهِ لِأَنّهُ مَعْصُومٌ فَلَمْ
يَسْتَقِمْ تَقْدِيرُهُ بِمَهْمَا ، كَمَا اسْتَقَامَ ذَلِكَ فِي حَقّهِمْ
لِأَنّهُمْ فِي قَبْضَةِ الشّيْطَانِ يَقُودُهُمْ بِأَهْوَائِهِمْ فَجَائِزٌ أَنْ
يَعْبُدُوا الْيَوْمَ شَيْئًا ، وَيَعْبُدُوا غَدًا غَيْرَهُ وَلَكِنْ مَهْمَا
عَبَدُوا شَيْئًا ، فَالرّسُولُ عَلَيْهِ السّلَامُ لَا يَعْبُدُهُ فَلِذَلِكَ
قَالَ وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ فِي الْحَالِ وَفِي الْمَآلِ لِمَا
عَلِمَ مِنْ عِصْمَةِ اللّهِ لَهُ وَلِمَا عَلِمَ اللّهُ مِنْ ثَبَاتِهِ عَلَى
تَوْحِيدِهِ فَلَا مَدْخَلَ لِمَعْنَى الشّرْطِ فِي حَقّهِ عَلَيْهِ السّلَامُ
وَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ الشّرْطُ فِي الْكَلَامِ بَقِيَ الْفِعْلُ الْمُسْتَقْبَلُ
عَلَى لَفْظِهِ كَمَا تَرَاهُ وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى :
{ كَيْفَ نُكَلّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّا } اضْطَرَبُوا فِي
إعْرَابِهَا وَتَقْدِيرُهَا لَمّا كَانَتْ مَنْ بِمَعْنَى الّذِي ، وَجَاءَ
بَكَانِ عَلَى لَفْظِ الْمَاضِي ، وَفَهِمَهَا الزّجّاجُ فَأَشَارَ إلَى أَنّ مَنْ
فِيهَا طَرَفٌ مِنْ مَعْنَى الشّرْطِ وَلِذَلِكَ جَاءَتْ كَانَ بِلَفْظِ الْمَاضِي
بَعْدَهُ فَصَارَ مَعْنَى الْكَلَامِ مَنْ يَكُنْ صَبِيّا ، فَكَيْفَ يُكَلّمُ ؟
لَمّا أَشَارَتْ إلَى الصّبِيّ أَنْ كَلّمُوهُ وَلَوْ قَالُوا : كَيْفَ نُكَلّمُ
مَنْ هُوَ فِي الْمَهْدِ الْآنَ لَكَانَ الْإِنْكَارُ وَالتّعَجّبُ مَخْصُوصًا
بِهِ فَلَمّا قَالُوا : كَيْفَ نُكَلّمُ مَنْ كَانَ صَارَ الْكَلَامُ أَبْلَغَ فِي
الِاحْتِجَاجِ لِلْعُمُومِ الدّاخِلِ فِيهِ . إلَى هَذَا الْغَرَضِ أَشَارَ أَبُو
إسْحَاقَ وَهُوَ الّذِي أَرَادَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا لَفْظَهُ فَلَيْسَ
الْمَقْصُودُ الْعِبَارَاتِ وَإِنّمَا الْمَقْصُودُ تَصْحِيحُ الْمَعَانِي
الْمُتَلَقّاةِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالْإِشَارَاتِ .
مَا
قِيلَ فِي حَقّ أَبِي جَهْلٍ
وَأَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ - لَمّا ذَكَرَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ شَجَرَةَ
الزّقّومِ تَخْوِيفًا بِهَا لَهُمْ قَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، هَلْ تَدْرُونَ
مَا شَجَرَةُ الزّقّومِ الّتِي يُخَوّفُكُمْ بِهَا مُحَمّدٌ ؟ قَالُوا : لَا ،
قَالَ عَجْوَةُ يَثْرِبَ بِالزّبْدِ وَاَللّهِ لَئِنْ اسْتَمْكَنّا مِنْهَا
لَنتَزَقّمنّها تَزَقّمًا . فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِ [ ص 150 ] { إِنّ
شَجَرَةَ الزّقّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ
كَغَلْيِ الْحَمِيمِ } [ الْجَاثِيَةُ 44 - 46 ] . أَيْ لَيْسَ كَمَا يَقُولُ .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : الْمُهْلُ كُلّ شَيْءٍ أَذَبْته ، مِنْ نُحَاسٍ أَوْ
رَصَاصٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فِيمَا أَخْبَرَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ .
وَبَلَغَنَا عَنْ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ أَنّهُ قَالَ كَانَ عَبْدُ
اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَالِيًا لِعُمَرِ بْنِ الْخَطّابِ عَلَى بَيْتِ مَالِ
الْكُوفَةِ ، وَأَنّهُ أَمَرَ يَوْمًا بِفِضّةِ فَأُذِيبَتْ فَجُعِلَتْ تُلَوّنُ
أَلْوَانًا ، فَقَالَ هَلْ بِالْبَابِ مِنْ أَحَدٍ ؟ قَالُوا : نَعَمْ قَالَ
فَأَدْخَلُوهُمْ فَأُدْخِلُوا فَقَالَ إنّ أَدْنَى مَا أَنْتُمْ رَاءُونَ شَبَهًا
بِالْمُهْلِ لِهَذَا وَقَالَ الشّاعِرُ
يَسْقِيهِ رَبّي حَمِيمَ الْمُهْلِ يَجْرَعُهُ ... يَشْوِي الْوُجُوهَ فَهُوَ فِي
بَطْنِهِ صَهْر
وَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الزّبَيْرِ الْأَسَدِيّ
فَمَنْ عَاشَ مِنْهُمْ عَاشَ عَبْدًا وَإِنْ يَمُتْ ... فَفِي النّارِ يُسْقَى
مُهْلَهَا وَصَدِيدَهَا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَيُقَالُ إنّ الْمُهْلَ صَدِيدُ
الْجَسَدِ . بَلَغَنَا أَنّ أَبَا بَكْرٍ الصّدّيقَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ -
لَمّا حَضَرَ أَمَرَ بِثَوْبَيْنِ لَبِيسَيْنِ يُغْسَلَانِ فَيُكَفّنُ فِيهِمَا ،
فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ قَدْ أَغْنَاك اللّهُ يَا أَبَتْ عَنْهُمَا ، فَاشْتَرِ
كَفَنًا ، فَقَالَ إنّمَا هِيَ سَاعَةٌ حَتّى يَصِيرَ إلَى الْمُهْلِ قَالَ
الشّاعِرُ
شَابَ بِالْمَاءِ مِنْهُ مُهْلًا كَرِيهًا ... ثُمّ عَلّ الْمَنُونُ بَعْدَ
النّهَالِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِ { وَالشّجَرَةَ
الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلّا طُغْيَانًا
كَبِيرًا } [ الْإِسْرَاءُ 60 ]Sالزّقّومُ
فَصْلٌ وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي جَهْلٍ حِينَ ذَكَرَ شَجَرَةَ الزّقّومِ يُقَالُ
إنّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ لَمْ تَكُنْ مِنْ لُغَةِ قُرَيْشٍ ، وَأَنّ رَجُلًا أَخْبَرَهُ
أَنّ أَهْلَ يَثْرِبَ : يَقُولُونَ تَزَقّمْتُ إذَا أَكَلْت التّمْرَ بِالزّبْدِ [
ص 150 ] فَجَعَلَ بِجَهْلِهِ اسْمَ الزّقّومِ مِنْ ذَلِكَ اسْتِهْزَاءً وَقِيلَ
إنّ هَذَا الِاسْمَ أَصْلًا فِي لُغَةِ الْيَمَنِ ، وَأَنّ الزّقّومَ عِنْدَهُمْ
كُلّ مَا يُتَقَيّأُ مِنْهُ . وَذَكَرَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي النّبَاتِ أَنّ
شَجَرَةً بِالْيَمَنِ يُقَالُ لَهَا : الزّقّومُ لَا وَرَقَ لَهَا وَفُرُوعُهَا
أَشْبَهُ شَيْءٍ بِرُءُوسِ الْحَيّاتِ فَهِيَ كَرِيهَةُ الْمَنْظَرِ وَفِي
تَفْسِيرِ ابْنِ سَلّامٍ وَالْمَاوَرْدِيّ أَنّ شَجَرَةَ الزّقّومِ فِي الْبَابِ
السّادِسِ مِنْ جَهَنّمَ أَعَاذَنَا اللّهُ مِنْهَا ، وَأَنّ أَهْلَ النّارِ
يَنْحَدِرُونَ إلَيْهَا . قَالَ ابْنُ سَلّامٍ وَهِيَ تَحْيَا بِاللّهَبِ كَمَا
تَحْيَا شَجَرَةُ الدّنْيَا بِالْمَطَرِ . وَقَوْلُهُ { الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ
} أَيْ الْمَلْعُونُ آكُلّهَا ، وَقِيلَ بَلْ هُوَ وَصْفٌ لَهَا كَمَا يُقَالُ
يَوْمٌ مَلْعُونٌ أَيْ مَشْئُومٌ .
قِصّةُ
ابْنِ أُمّ مَكْتُومٍ
[ ص 151 ] وَوَقْفُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
يُكَلّمُهُ وَقَدْ طَمِعَ فِي إسْلَامِهِ فَبَيْنَا هُوَ فِي ذَلِكَ إذْ مَرّ بِهِ
ابْنُ أُمّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى ، فَكَلّمَ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَجَعَلَ يَسْتَقْرِئُهُ الْقُرْآنَ فَشَقّ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى رَسُولِ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حَتّى أَضْجَرَهُ وَذَلِكَ أَنّهُ
شَغَلَهُ عَمّا كَانَ فِيهِ مِنْ أَمْرِ الْوَلِيدِ وَمَا طَمِعَ فِيهِ مِنْ
إسْلَامِهِ فَلَمّا أَكْثَرَ عَلَيْهِ انْصَرَفَ عَنْهُ عَابِسًا ، وَتَرَكَهُ
فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِ { عَبَسَ وَتَوَلّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى }
إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { فِي صُحُفٍ مُكَرّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهّرَةٍ } أَيْ
إنّمَا بَعَثْتُك بَشِيرًا وَنَذِيرًا ، لَمْ أَخُصّ بِك أَحَدًا دُونَ أَحَدٍ ،
فَلَا تَمْنَعْهُ مِمّنْ ابْتَغَاهُ وَلَا تَتَصَدّيَنّ بِهِ لِمَنْ لَا يُرِيدُهُ
. [ ص 152 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : ابْنُ أُمّ مَكْتُومٍ ، أَحَدُ بَنِي عَامِرِ
بْنِ لُؤَيّ ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللّهِ وَيُقَالُ عَمْرٌوSحَدِيثُ
ابْنِ أُمّ مَكْتُومٍ
فَصْلٌ
[ ص 151 ] وَذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ أُمّ مَكْتُومٍ ، وَذَكَرَ اسْمَهُ وَنَسَبَهُ .
وَأُمّ مَكْتُومٍ اسْمُهَا : عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَنْكَثَةَ بْنِ
عَامِرِ بْنِ مَخْزُومٍ . وَذَكَرَ الرّجُلَ الّذِي كَانَ شَغَلَ رَسُولَ اللّهِ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَنّهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ، وَقَدْ
قِيلَ كَانَ أُمَيّةَ بْنَ خَلَفٍ ، وَفِي حَدِيثِ الْمُوَطّأِ : عَظِيمٌ مِنْ
عُظَمَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَلَمْ يُسَمّهِ وَفِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { أَنْ
جَاءَهُ الْأَعْمَى } مِنْ الْفِقْهِ أَنْ لَا غِيبَةَ فِي ذِكْرِ الْإِنْسَانِ بِمَا
ظَهَرَ فِي خِلْقَتِهِ مِنْ عَمًى أَوْ عَرَجٍ إلّا أَنْ يَقْصِدَ بِهِ
الِازْدِرَاءَ فَيَلْحَقُ الْمَأْثَمُ بِهِ لِأَنّهُ مِنْ أَفْعَالِ الْجَاهِلِينَ
قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { أَتَتّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ
أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } [ الْبَقَرَةُ 67 ] . وَفِي ذِكْرِهِ إيّاهُ
بِالْعَمَى مِنْ الْحِكْمَةِ وَالْإِشَارَةِ اللّطِيفَةِ التّنْبِيهُ عَلَى
مَوْضِعِ الْعَتَبِ لِأَنّهُ قَالَ { أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى } فَذَكَرَ
الْمَجِيءَ مَعَ الْعَمَى ، وَذَلِكَ يُنْبِئُ عَنْ تَجَشّمِ كُلْفَةٍ وَمَنْ
تَجَشّمَ الْقَصْدَ إلَيْك عَلَى ضَعْفِهِ فَحَقّك الْإِقْبَالُ عَلَيْهِ لَا
الْإِعْرَاضُ عَنْهُ فَإِذَا كَانَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
مَعْتُوبًا عَلَى تَوَلّيهِ عَنْ الْأَعْمَى ، فَغَيْرُهُ أَحَقّ بِالْعَتَبِ مَعَ
أَنّهُ لَمْ يَكُنْ آمَنَ بَعْدُ أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ { وَمَا يُدْرِيكَ
لَعَلّهُ يَزّكّى } الْآيَةَ وَلَوْ كَانَ قَدْ صَحّ إيمَانُهُ وَعُلِمَ ذَلِكَ
مِنْهُ لَمْ يَعْرِضْ عَنْهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
وَلَوْ أَعَرَضَ لَكَانَ الْعَتَبُ أَشَدّ وَاَللّهُ أَعْلَمُ وَكَذَلِكَ لَمْ
يَكُنْ لِيُخْبِرَ عَنْهُ وَيُسَمّيهِ بِالِاسْمِ الْمُشْتَقّ مِنْ الْعَمَى ،
دُونَ الِاسْمِ الْمُشْتَقّ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ لَوْ كَانَ دَخَلَ
فِي الْإِيمَانِ قَبْلَ ذَلِكَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ وَإِنّمَا دَخَلَ فِيهِ بَعْدَ
نُزُولِ الْآيَةِ وَيَدُلّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ لِلنّبِيّ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - اسْتَدِنّنِي يَا مُحَمّدُ وَلَمْ يَقُلْ اسْتَدِنّنِي يَا
رَسُولَ اللّهِ مَعَ أَنّ ظَاهِرَ الْكَلَامِ يَدُلّ عَلَى أَنّ الْهَاءَ فِي
لَعَلّهُ يَزّكّى عَائِدَةٌ عَلَى الْأَعْمَى ، لَا عَلَى الْكَافِرِ لِأَنّهُ
لَمْ يَتَقَدّمْ لَهُ [ ص 152 ] ذَكَرَ بَعْدُ وَلَعَلّ تُعْطِي التّرَجّي
وَالِانْتِظَارَ وَلَوْ كَانَ إيمَانُهُ قَدْ تَقَدّمَ قَبْلَ هَذَا لَخَرَجَ عَنْ
حَدّ التّرَجّي وَالِانْتِظَارِ لِلتّزَكّي ، وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
الْعَائِدُونَ
مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ
[ ص 153 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَبَلَغَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ الّذِينَ خَرَجُوا إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ ، إسْلَامُ أَهْلِ
مَكّةَ ، فَأَقْبَلُوا لَمّا بَلَغَهُمْ مِنْ ذَلِكَ حَتّى إذَا دَنَوْا مِنْ
مَكّةَ ، بَلَغَهُمْ أَنّ مَا كَانُوا تَحَدّثُوا بِهِ مِنْ إسْلَامِ أَهْلِ
مَكّةَ كَانَ بَاطِلًا ، فَلَمْ يَدْخُلْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إلّا بِجِوَارِ أَوْ
مُسْتَخْفِيًا . فَكَانَ مِمّنْ قَدِمَ عَلَيْهِ مَكّةَ مِنْهُمْ فَأَقَامَ بِهَا حَتّى
هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ ، فَشَهِدَ مَعَهُ بَدْرًا ، وَمَنْ حُبِسَ عَنْهُ
حَتّى فَاتَهُ بَدْرٌ وَغَيْرُهُ وَمَنْ مَاتَ بِمَكّةَ . مِنْهُمْ مِنْ بَنِي
عَبْدِ شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ : عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ بْنِ
أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ رُقْيَةُ
بِنْتُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأَبُو حُذَيْفَةَ
بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ، امْرَأَتُهُ سَهْلَةُ بِنْتُ
سُهَيْلٍ . وَمِنْ حَلْفَائِهِمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ [ ص 154
] وَمِنْ بَنِي نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ : عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ ، حَلِيفٌ
لَهُمْ مِنْ قَيْسِ عَيْلَانَ . وَمِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ
قُصَيّ : الزّبَيْرُ بْنُ الْعَوَامّ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدٍ . وَمِنْ بَنِي
عَبْدِ الدّارِ بْنِ قُصَيّ : مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ
مَنَافٍ وَسُوَيْبِطُ بْنُ سَعْدِ بْنِ حَرْمَلَةَ . وَمِنْ بَنِي عَبْدِ بْنِ
قُصَيّ : طُلَيْبُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ وَهْبِ بْنِ أَبِي كَبِيرِ بْنِ عَبْدٍ .
وَمِنْ بَنِي زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ : عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ
عَوْفِ بْنِ عَبْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو
، حَلِيفٌ لَهُمْ وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ ، حَلِيفٌ لَهُمْ . وَمِنْ بَنِي
مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ : أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ
بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ مَخْزُومٍ ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمّ
سَلَمَةَ بِنْت أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَشِمَاسُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ
الشّرِيدِ بْنِ سُوَيْد بْنِ هَرَمِيّ بْنِ عَامِرِ بْنِ مَخْزُومٍ وَسَلَمَةُ
بْنُ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ حَبَسَهُ عَمّهُ بِمَكّةَ فَلَمْ يَقْدَمْ إلّا
بَعْدَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ ، وَعَيّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ
الْمُغِيرَةِ هَاجَرَ مَعَهُ إلَى الْمَدِينَةِ ، وَلَحِقَ بِهِ أَخَوَاهُ
لِأُمّهِ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ ، فَرَجَعَا بِهِ
إلَى مَكّةَ ، فَحَبَسَاهُ بِهَا حَتّى مَضَى بَدْرٌ وَأُحُدٌ وَالْخَنْدَقُ .
وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ ، يَشُكّ فِيهِ أَكَانَ خَرَجَ إلَى
الْحَبَشَةِ أَمْ لَا ؟ وَمُعَتّبُ بْنُ عَوْفِ بْنِ عَامِرِ مِنْ خُزَاعَةَ .
وَمِنْ بَنِي جُمَحٍ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْص بْنِ كَعْبٍ : عُثْمَانُ بْنُ
مَظْعُونِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحٍ وَابْنُهُ
السّائِبُ بْنُ عُثْمَانَ وَقَدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ ، وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ مَظْعُونٍ
[ ص 155 ] بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْص بْنِ كَعْب ٍ خُنَيْسُ بْنُ
حُذَافَةَ بْنِ قَيْسِ بْنِ عَدِيّ ، وَهِشَامُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ ،
حُبِسَ بِمَكّةَ بَعْدَ هِجْرَةِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
- إلَى الْمَدِينَةِ ، حَتّى قَدِمَ بَعْدَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ .
وَمِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ : عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ ، حَلِيفٌ لَهُمْ
مَعَهُ امْرَأَتُهُ لَيْلَى بِنْتُ أَبِي حَثْمَةَ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ غَانِمٍ .
وَمِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ : عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَخْرَمَةَ بْنِ عَبْدِ
الْعُزّى بْنِ أَبِي قَيْسٍ : وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو ،
وَكَانَ حُبِسَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ
هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ ، حَتّى كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ فَانْحَازَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ
إلَى رَسُولِ اللّهِ فَشَهِدَ مَعَهُ بَدْرًا ، وَأَبُو سَبْرَةَ بْنُ أَبِي رُهْم
بْنِ عَبْدِ الْعُزّى ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ أُمّ كُلْثُومٍ بِنْتُ سُهَيْلِ بْنِ
عَمْرٍو ، وَالسّكْرَانُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ ، مَعَهُ امْرَأَتُهُ
سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ بْنِ قَيْسٍ ، مَاتَ بِمَكّةَ قَبْلَ هِجْرَةِ رَسُولِ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى الْمَدِينَةِ ، فَخَلّفَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَلَى امْرَأَتِهِ سَوْدَةَ بِنْتَ
زَمْعَةَ . وَمِنْ حُلَفَائِهِمْ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ . وَمِنْ بَنِي الْحَارِثِ
بْنِ فِهْرٍ : أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ ، وَهُوَ عَامِرُ بْنُ عَبْدِ
اللّهِ بْنِ الْجَرّاحِ وَعَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي
شَدّادٍ ، وَسُهَيْلُ ابْنُ بَيْضَاءَ . وَهُوَ سُهَيْلُ بْنُ وَهْبِ بْنِ
رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالٍ ، وَعَمْرُو بْنُ أَبِي سَرْحِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ
هِلَالٍ " كُنْيَتُهُ أَبُو سَعْدٍ كَمَا فِي الْإِصَابَةِ " .
فَجَمِيعُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْهِ مَكّةَ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ
ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا ، فَكَانَ مَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ بِجِوَارِ فِيمَنْ
سُمّيَ لَنَا : عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونِ بْنِ حَبِيبٍ الْجُمَحِيّ دَخَلَ
بِجِوَارِ مِنْ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ
الْأَسَدِ بْنِ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ ، دَخَلَ
بِجِوَارِ مِنْ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ ، وَكَانَ خَالَهُ . وَأُمّ
أَبِي سَلَمَةَ بَرّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطّلِبِSقِصّةُ
الْغَرَانِيقِ وَإِسْلَامُ مَكّةَ
[ ص 153 ] وَذَكَرَ مَا بَلَغَ أَهْلَ الْحَبَشَةِ مِنْ إسْلَامِ أَهْلِ مَكّةَ ،
وَكَانَ بَاطِلًا ، وَسَبَبُهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - قَرَأَ سُورَةَ النّجْمِ فَأَلْقَى الشّيْطَانُ فِي أَمْنِيّتَهُ أَيْ
فِي تِلَاوَتِهِ عِنْدَ ذِكْرِ اللّاتِي وَالْعُزّى ، وَإِنّهُمْ لَهُمْ
الْغَرَانِقَة الْعُلَى ، وَإِنّ شَفَاعَتَهُمْ لَتُرْتَجَى ، فَطَارَ ذَلِكَ
بِمَكّةَ فَسُرّ الْمُشْرِكُونَ وَقَالُوا : قَدْ ذَكَرَ آلِهَتَنَا بِخَيْرِ
فَسَجَدَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي آخِرِهَا ،
وَسَجَدَ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُسْلِمُونَ ثُمّ أَنَزَلَ اللّهُ تَعَالَى : {
فَيَنْسَخُ اللّهُ مَا يُلْقِي الشّيْطَانُ } الْآيَةَ فَمِنْ هَاهُنَا [ ص 154 ]
أَرْضِ الْحَبَشَةِ أَنّ قُرَيْشًا قَدْ أَسْلَمُوا ، ذَكَرَهُ مُوسَى بْنُ
عُقْبَةَ وَابْنُ إسْحَاقَ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ الْبَكّائِيّ وَأَهْلُ
الْأُصُولِ يَدْفَعُونَ هَذَا الْحَدِيثَ بِالْحُجّةِ وَمَنْ صَحّحَهُ قَالَ فِيهِ
أَقْوَالًا ، مِنْهَا : أَنّ الشّيْطَانَ قَالَ ذَلِكَ وَأَشَاعَهُ . وَالرّسُولُ
- عَلَيْهِ السّلَامُ - لَمْ يَنْطِقْ بِهِ وَهَذَا جَيّدٌ لَوْلَا أَنّ فِي
حَدِيثِهِمْ أَنّ جِبْرِيل قَالَ لِمُحَمّدِ مَا أَتَيْتُك بِهَذَا ، وَمِنْهَا :
أَنّ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَهَا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ
وَعَنَى بِهَا الْمَلَائِكَةَ إنّ شَفَاعَتَهُمْ لَتُرْتَجَى . وَمِنْهَا : أَنّ
النّبِيّ - عَلَيْهِ السّلَامُ - قَالَهُ حَاكِيًا عَنْ الْكَفَرَةِ وَأَنّهُمْ
يَقُولُونَ ذَلِكَ فَقَالَهَا مُتَعَجّبًا مِنْ كُفْرِهِمْ وَالْحَدِيثُ عَلَى مَا
خَيّلْت غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِصِحّتِهِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ . [ ص 155 ] أَجْلِ
ذَلِكَ الْخَبَرِ ، وَذَكَرَ فِيهِمْ طُلَيْبًا ، وَقَالَ فِي نَسَبِهِ ابْنُ
أَبِي كَبِيرِ بْنِ عَبْدِ بْنِ قُصَيّ ، وَزِيَادَةُ أَبِي كَبِيرٍ فِي هَذَا
الْمَوْضِعِ لَا يُوَافِقُ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ وَجَدْت فِي حَاشِيَةِ كِتَابِ
الشّيْخِ التّنْبِيهِ عَلَى هَذَا وَذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ وَنَسَبَهُ كَمَا
نَسَبَهُ ابْنُ إسْحَاقَ بِزِيَادَةِ أَبِي كَبِيرٍ وَكَانَ بَدْرِيّا فِي إحْدَى
الرّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَكَذَلِكَ قَالَ الْوَاقِدِيّ وَابْنُ
عُقْبَةَ وَمَاتَ بِأَجْنَادَيْنِ شَهِيدًا لَا عَقِبَ لَهُ .
قِصّةُ
ابْنِ مَظْعُونٍ مَعَ الْوَلِيدِ
[ ص 156 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَمّا عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ ، فَإِنّ
صَالِحَ بْنَ إبْرَاهِيمَ بْنِ الأعلام" > عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ
حَدّثَنِي عَمّنْ حَدّثَهُ عَنْ عُثْمَانَ قَالَ لَمّا رَأَى عُثْمَانُ بْنُ
مَظْعُونٍ مَا فِيهِ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
مِنْ الْبَلَاءِ وَهُوَ يَغْدُو وَيَرُوحُ فِي أَمَانٍ مِنْ الْوَلِيدِ بْنِ
الْمُغِيرَةِ ، قَالَ وَاَللّهِ إنّ غُدُوّي وَرَوَاحِي آمِنًا بِجِوَارِ رَجُلٍ
مِنْ أَهْلِ الشّرْكِ - وَأَصْحَابِي ، وَأَهْلُ دِينِي يَلْقَوْنَ مِنْ
الْبَلَاءِ وَالْأَذَى فِي اللّهِ مَا لَا يُصِيبُنِي - لَنَقْصٌ كَبِيرٌ فِي
نَفْسِي ، فَمَشَى إلَى الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا
الأعلام" > عَبْدِ شَمْسٍ ، وَفَتْ ذِمّتُك ، قَدْ رَدَدْت إلَيْك
جِوَارَك ، فَقَالَ لَهُ لَمْ يَا بْنَ أَخِي ؟ لَعَلّهُ آذَاكَ أَحَدٌ مِنْ
قَوْمِي ، قَالَ لَا ، وَلَكِنّي أَرْضَى بِجِوَارِ اللّهِ وَلَا أُرِيدُ أَنْ
أَسْتَجِيرَ بِغَيْرِهِ ؟ قَالَ فَانْطَلِقْ إلَى الْمَسْجِدِ فَارْدُدْ عَلَيّ
جِوَارِي عَلَانِيَةً كَمَا أَجَرْتُك عَلَانِيَةً . قَالَ فَانْطَلَقَا فَخَرَجَا
حَتّى أَتَيَا الْمَسْجِدَ فَقَالَ الْوَلِيدُ هَذَا عُثْمَانُ قَدْ جَاءَ يَرُدّ
عَلَيّ جِوَارِي ، قَالَ صَدَقَ قَدْ وَجَدْته وَفِيّا كَرِيمَ الْجِوَارِ
وَلَكِنّي قَدْ أَحْبَبْت أَنْ لَا أَسْتَجِيرَ بِغَيْرِ اللّهِ فَقَدْ رَدَدْت
عَلَيْهِ جِوَارَهُ انْصَرَفَ عُثْمَانُ وَلَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ مَالِكِ
بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ فِي مَجْلِسٍ مِنْ قُرَيْشٍ يَنْشُدُهُمْ فَجَلَسَ
مَعَهُمْ عُثْمَانُ فَقَالَ لَبِيدٌ أَلَا كُلّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللّهَ بَاطِلُ [
ص 157 ] قَالَ عُثْمَانُ صَدَقْت ، قَالَ وَكُلّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ
قَالَ عُثْمَانُ كَذَبْت ، نَعِيمُ الْجَنّةِ لَا يَزُولُ . قَالَ لَبِيدُ بْنُ
رَبِيعَةَ : يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، وَاَللّهِ مَا كَانَ يُؤْذَى جَلِيسُكُمْ
فَمَتَى حَدَثَ هَذَا فِيكُمْ ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ : إنّ هَذَا
سَفِيهٌ فِي سُفَهَاءَ مَعَهُ قَدْ فَارَقُوا دِينَنَا ، فَلَا تَجِدَنّ فِي
نَفْسِك مِنْ قَوْلِهِ فَرَدّ عَلَيْهِ عُثْمَانُ حَتّى شَرِيَ أَمْرُهُمَا ،
فَقَامَ إلَيْهِ ذَلِكَ الرّجُلُ فَلَطَمَ عَيْنَهُ فَخَضّرَهَا ، وَالْوَلِيدُ
بْنُ الْمُغِيرَةِ قَرِيبٌ يَرَى مَا بَلَغَ مِنْ عُثْمَانَ فَقَالَ أَمَا
وَاَللّهِ يَا بْنَ أَخِي إنْ كَانَتْ عَيْنُك عَمّا أَصَابَهَا لَغَنِيّةً لَقَدْ
كُنْت فِي ذِمّةٍ مَنِيعَةٍ . قَالَ يَقُولُ عُثْمَانُ بَلْ وَاَللّهِ إنّ عَيْنِي
الصّحِيحَةَ لَفَقِيرَةٌ إلَى مِثْلِ مَا أَصَابَ أُخْتَهَا فِي اللّهِ وَإِنّي لَفِي
جِوَارِ مَنْ هُوَ أَعَزّ مِنْك وَأَقْدَرُ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ ، فَقَالَ
لَهُ الْوَلِيدُ هَلُمّ يَا بْنَ أَخِي ، إنْ شِئْت فَعُدْ إلَى جِوَارِك ،
فَقَالَ لَاSتَأْوِيلُ
كُلّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللّهَ بَاطِلُ [ ص 156 ] فَصْلٌ وَذَكَرَ قَوْلَ لَبِيدٍ :
أَلَا كُلّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللّهَ بَاطِلُ وَقِصّةُ ابْنِ مَظْعُونٍ إلَى
آخِرِهَا ، وَلَيْسَ فِيهَا مَا يَشْكُلُ غَيْرَ سُؤَالٍ وَاحِدٍ وَهُوَ قَوْلُ
رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - " أَصْدَقُ كَلِمَةٍ
قَالَهَا الشّاعِرُ " قَوْلُ لَبِيدٍ أَلَا كُلّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللّهَ
بَاطِلُ فَصَدّقَهُ فِي هَذَا الْقَوْلِ وَهُوَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - يَقُولُ
فِي مُنَاجَاتِهِ " أَنْتَ الْحَقّ ، وَقَوْلُك الْحَقّ ، وَوَعْدُك الْحَقّ
، وَالْجَنّةُ حَقّ ، وَالنّارُ حَقّ ، وَلِقَاؤُك حَقّ " . فَكَيْفَ يَجْتَمِعُ
هَذَا مَعَ قَوْلِهِ أَلَا كُلّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللّهَ بَاطِلُ [ ص 157 ] أَنْ
يُرِيدَ بِقَوْلِهِ مَا خَلَا اللّهَ مَا عَدَاهُ وَعَدَا رَحْمَتِهِ الّتِي
وَعَدَ بِهَا مَنْ رَحِمَهُ وَالنّارُ وَمَا تَوَعّدَ بِهِ مَنْ عِقَابِهِ وَمَا
سِوَى هَذَا فَبَاطِلٌ أَيْ مُضْمَحِلّ وَالْجَوَابُ الثّانِي : أَنّ الْجَنّةَ
وَالنّارَ وَإِنْ كَانَتَا حَقّا ، فَإِنّ الزّوَالَ عَلَيْهِمَا جَائِزٌ
لِذَاتِهِمَا ، وَإِنّمَا يَبْقَيَانِ بِإِبْقَاءِ اللّهِ لَهُمَا ، وَأَنّهُ
يَخْلُقُ الدّوَامَ لِأَهْلِهِمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلَ الدّوَامَ
وَالْبَقَاءَ مَعْنًى زَائِدًا عَلَى الذّاتِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَشْعَرِيّ
وَإِنّمَا الْحَقّ عَلَى الْحَقِيقَةِ مَنْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الزّوَالُ وَهُوَ
الْقَدِيمُ الّذِي انْعِدَامُهُ مُحَالٌ وَلِذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ
أَنْتَ الْحَقّ بِالْأَلِفِ وَاللّامّ أَيْ الْمُسْتَحِقّ لِهَذَا الِاسْمِ عَلَى
الْحَقِيقَةِ وَقَوْلُك الْحَقّ ؛ لِأَنّ قَوْلَهُ قَدِيمٌ وَلَيْسَ بِمَخْلُوقِ
فَيَبِيدُ وَوَعْدُك الْحَقّ كَذَلِكَ لِأَنّ وَعْدَهُ كَلَامُهُ هَذَا مُقْتَضَى
الْأَلِفِ وَاللّامّ ثُمّ قَالَ وَالْجَنّةُ حَقّ ، وَالنّارُ حَقّ بِغَيْرِ
أَلِفٍ وَلَامٍ وَلِقَاؤُك حَقّ كَذَلِكَ لِأَنّ هَذِهِ أُمُورٌ مُحْدَثَاتٌ
وَالْمُحْدَثُ لَا يَجِبُ لَهُ الْبَقَاءُ مِنْ جِهَةِ ذَاتِهِ وَإِنّمَا
عَلِمْنَا بَقَاءَهَا مِنْ جِهَةِ الْخَبَرِ الصّادِقِ الّذِي لَا يَجُوزُ
عَلَيْهِ الْخُلْفُ لَا مِنْ جِهَةِ اسْتِحَالَةِ الْبَقَاءِ عَلَيْهَا ، كَمَا
يَسْتَحِيلُ عَلَى الْقَدِيمِ - سُبْحَانَهُ - الّذِي هُوَ الْحَقّ ، وَمَا خَلَاه
بَاطِلٌ فَإِمّا جَوْهَرٌ وَإِمّا عَرَضٌ وَلَيْسَ فِي الْأَعْرَاضِ إلّا مَا
يَجِبُ لَهُ الْفَنَاءُ وَلَا فِي الْجَوْهَرِ إلّا مَا يَجُوزُ عَلَيْهِ
الْفَنَاءُ وَالْبُطُولُ وَإِنْ بَقِيَ وَلَمْ يَبْطُلْ فَجَائِزٌ أَنْ يَبْطُلَ .
وَأَمّا الْحَقّ - سُبْحَانَهُ - فَلَيْسَ مِنْ الْجَوَاهِرِ وَالْأَعْرَاضِ
فَاسْتَحَالَ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ لَهُمَا ، أَوْ يَجُوزُ عَلَيْهِمَا
أَبُو
سَلَمَة فِي جِوَارِ أَبِي طَالِبٍ
[ ص 158 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَأَمّا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ ،
فَحَدّثَنِي أَبِي إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ
عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ أَنّهُ حَدّثَهُ أَنّ أَبَا سَلَمَةَ لَمّا اسْتَجَارَ
بِأَبِي طَالِبٍ مَشَى إلَيْهِ رِجَالٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ ، فَقَالُوا : يَا
أَبَا طَالِبٍ لَقَدْ مَنَعْت مِنّا ابْنَ أَخِيك مُحَمّدًا ، فَمَا لَك
وَلِصَاحِبِنَا تَمْنَعُهُ مِنّا ؟ قَالَ إنّهُ اسْتَجَارَ بِي ، وَهُوَ ابْنُ
أُخْتِي ، وَإِنْ أَنَا لَمْ أَمْنَعْ ابْنَ أُخْتِي لَمْ أَمْنَعْ ابْنَ أَخِي ،
فَقَامَ أَبُو لَهَبٍ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، وَاَللّهِ لَقَدْ
أَكَثُرْتُمْ عَلَى هَذَا الشّيْخِ مَا تَزَالُونَ تَتَوَاثَبُونَ عَلَيْهِ فِي
جِوَارِهِ مِنْ بَيْنِ قَوْمِهِ وَاَللّهِ لَتَنْتَهُنّ عَنْهُ أَوْ لَنَقُومَنّ
مَعَهُ فِي كُلّ مَا قَامَ فِيهِ حَتّى يَبْلُغَ مَا أَرَادَ . قَالَ فَقَالُوا :
بَلْ نَنْصَرِفُ عَمّا تَكْرَهُ يَا أَبَا عُتْبَةَ وَكَانَ لَهُمْ وَلِيّا
وَنَاصِرًا عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَأَبْقَوْا
عَلَى ذَلِكَ فَطَمِعَ فِيهِ أَبُو طَالِبٍ حِينَ سَمِعَهُ يَقُولُ مَا يَقُولُ
وَرَجَا أَنْ يَقُومَ مَعَهُ فِي شَأْنِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ يُحَرّضُ أَبَا لَهَبٍ عَلَى نُصْرَتِهِ وَنُصْرَةِ
رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَإِنّ امْرِئِ أَبُو عُتَيْبَةَ عَمّهُ ... لَفِي رَوْضَةٍ مَا إنْ يُسَامَ
الْمَظَالِمَا
أَقُولُ لَهُ - وَأَيْنَ مِنْهُ نَصِيحَتِي ... أَبَا مُعَتّبٍ ثَبّتْ سَوَادَك
قَائِمَا
فَلَا تَقْبَلَنّ الدّهْرَ مَا عِشْت خُطّةً ... تَسُبّ بِهَا ، إمّا هَبَطْت
الْمُوَاسِمَا
وَوَلّ سَبِيلَ الْعَجْزِ غَيْرَك مِنْهُمْ ... فَإِنّك لَمْ تُخْلَقْ عَلَى
الْعَجْزِ لَازِمَا
وَحَارِبِ فَإِنّ الْحَرْبَ نِصْفُ وَمَا تَرَى ... أَخَا الْحَرْبِ يُعْطَى
الْخَسْفَ حَتّى يُسَالِمَا
وَكَيْفَ وَلَمْ يَجْنُوا عَلَيْك عَظِيمَةً ... وَلَمْ يَخْذُلُوك غَانِمًا ،
أَوْ مُغَارِمَا
جَزَى اللّهُ عَنّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا ... وَتَيْمًا وَمَخْزُومًا
عُقُوقًا وَمَأْثَمَا
بِتَفْرِيقِهِمْ مِنْ بَعْدِ وُدّ وَأُلْفَةٍ ... جَمَاعَتَنَا ، كَيْمَا يَنَالُوا
الْمَحَارِمَا
كَذَبْتُمْ وَبَيْتُ اللّهِ نُبْزَى مُحَمّدًا ... وَلَمّا تَرَوْا يَوْمًا لَدَى
الشّعْبِ قَائِمَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : نُبْزَى : نُسْلَبُ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَبَقِيَ
مِنْهَا بَيْتٌ تَرَكْنَاهُ .
أَبُو
بَكْرٍ يَرُدّ جِوَارَ ابْنِ الدّغُنّةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ - رَضِيَ اللّهُ
عَنْهُ - كَمَا حَدّثَنِي : [ ص 159 ] الزّهْرِيّ ، عَنْ عُرْوَة ، عَنْ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللّهُ عَنْهُمَا ، حِينَ ضَاقَتْ عَلَيْهِ مَكّةُ ، وَأَصَابَهُ فِيهَا
الْأَذَى ، وَرَأَى مِنْ تَظَاهُرِ قُرَيْشٍ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَأَصْحَابِهِ مَا رَأَى ، اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي الْهِجْرَةِ فَأَذِنَ لَهُ فَخَرَجَ أَبُو
بَكْرٍ مُهَاجِرًا ، حَتّى إذَا سَارَ مِنْ مَكّةَ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ
لَقِيَهُ ابْنُ الدّغُنّةِ أَخُو بَنِي الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ
كِنَانَةَ وَهُوَ يَوْمئِذٍ سَيّدُ الْأَحَابِيشِ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
وَالْأَحَابِيشُ : بَنُو الْحَارِثِ بْنُ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ وَالْهُونُ
بْنُ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ وَبَنُو الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ . قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : تَحَالَفُوا جَمِيعًا ، فَسُمّوا الْأَحَابِيشَ لِلْحِلْفِ .
وَيُقَالُ ابْنُ الدغينة . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي الزّهْرِيّ ، عَنْ
عُرْوَةَ عَن عَائِشَة َ قَالَتْ فَقَالَ ابْنُ الدّغُنّةِ أَيْنَ يَا أَبَا
بَكْرٍ ؟ قَالَ أَخْرَجَنِي قَوْمِي وَآذَوْنِي ، وَضَيّقُوا عَلَيّ قَالَ وَلِمَ
؟ فَوَاَللّهِ إنّك لَتُزَيّنَ الْعَشِيرَةَ وَتُعِينُ عَلَى النّوَائِبِ
وَتَفْعَلُ الْمَعْرُوفَ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ ارْجِعْ وَأَنْتَ فِي جِوَارِي ،
فَرَجَعَ مَعَهُ حَتّى إذَا دَخَلَ مَكّةَ ، قَامَ ابْنُ الدّغُنّةِ فَقَالَ يَا
مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إنّي قَدْ أَجَرْت ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ فَلَا يَعْرِضَنّ
لَهُ أَحَدٌ إلّا بِخَيْرِ . قَالَتْ فَكُفّوا عَنْهُ . قَالَتْ وَكَانَ لِأَبِي
بَكْرٍ مَسْجِدٌ عِنْدَ بَابِ دَارِهِ فِي بَنِي جُمَحٍ فَكَانَ يُصَلّي فِيهِ
وَكَانَ رَجُلًا رَقِيقًا ، إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ اسْتَبْكَى . قَالَتْ فَيَقِفُ
عَلَيْهِ الصّبْيَانُ وَالْعَبِيدُ وَالنّسَاءُ يَعْجَبُونَ لِمَا يَرَوْنَ مِنْ
هَيْئَتِهِ . قَالَتْ فَمَشَى رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ إلَى ابْنِ الدّغُنّةِ
فَقَالُوا لَهُ يَا بْنَ الدّغُنّةِ إنّك لَمْ تُجِرْ هَذَا الرّجُلَ لَيُؤْذِينَا
إنّهُ رَجُلٌ إذَا صَلّى ، وَقَرَأَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمّدٌ يَرِقّ وَيَبْكِي ،
وَكَانَتْ لَهُ هَيْئَةٌ وَنَحْوٌ فَنَحْنُ نَتَخَوّفُ عَلَى صِبْيَانِنَا
وَنِسَائِنَا وَضَعَفَتَنَا أَنْ يَفْتِنّهُمْ فَأْتِهِ فَمُرْهُ أَنْ يَدْخُلَ
بَيْتَهُ فَلْيَصْنَعْ فِيهِ مَا شَاءَ . قَالَتْ فَمَشَى ابْنُ الدّغُنّةِ
إلَيْهِ فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا بَكْرٍ إنّي لَمْ أُجِرْك لِتُؤْذِي قَوْمَك ، إنّهُمْ
قَدْ كَرِهُوا مَكَانك الّذِي أَنْتَ فِيهِ وَتَأَذّوْا بِذَلِكَ مِنْك ،
فَادْخُلْ بَيْتَك ، فَاصْنَعْ فِيهِ مَا أَحْبَبْت ، قَالَ أَوْ أَرُدّ عَلَيْك
جِوَارَك وَأَرْضَى بِجِوَارِ [ ص 160 ] قَالَ فَارْدُدْ عَلَيّ جِوَارِي ، قَالَ
قَدْ رَدَدْته عَلَيْك . قَالَتْ فَقَامَ ابْنُ الدّغُنّةِ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ
قُرَيْشٍ ، إنّ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ قَدْ رَدّ عَلَيّ جِوَارِي ، فَشَأْنُكُمْ
بِصَاحِبِكُمْ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ
الْقَاسِمِ ، عَنْ أَبِيهِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمّدٍ قَالَ لَقِيَهُ سَفِيهٌ مِنْ
سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ ، وَهُوَ عَامِدٌ إلَى الْكَعْبَةَ ، فَحَثَا عَلَى رَأْسِهِ
تُرَابًا . قَالَ فَمَرّ بِأَبِي بَكْرٍ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ ، أَوْ
الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ . قَالَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ أَلّا تَرَى إلَى مَا يَصْنَعُ
هَذَا السّفِيهُ ؟ قَالَ أَنْتَ فَعَلْت ذَلِكَ بِنَفْسِك . قَالَ وَهُوَ يَقُولُ
أَيْ رَبّ مَا أَحْلَمَك أَيْ رَبّ مَا أَحْلَمَك أَيْ رَبّ مَا أَحْلَمَك .Sذَكَرَ
حَدِيثَ أَبِي بَكْرٍ مَعَ ابْنِ الدّغُنّةِ
[ ص 158 ] الْأَحَابِيشِ ، وَقَدْ سَمّاهُمْ ابْنُ إسْحَاقَ ، وَهُمْ بَنُو
الْحَارِثِ وَبَنُو الْهُونِ مِنْ كِنَانَةَ وَبَنُو الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ
[ ص 159 ] تَحَبّشُوا ، أَيْ تَجَمّوْا ، فَسُمّوا الْأَحَابِيشَ . قِيلَ إنّهُمْ
تَحَالَفُوا عِنْدَ جُبَيْلٍ يُقَالُ لَهُ حُبْشِيّ ، فَاشْتُقّ لَهُمْ مِنْهُ
هَذَا الِاسْمُ . وَقَوْلُهُ لِأَبِي بَكْرٍ إنّك لِتَكْسِبَ الْمَعْدُومَ يُقَالُ
كَسَبْتِ الرّجُلَ مَالًا ، فَتَعُدّيهِ إلَى مَفْعُولَيْنِ . هَذَا قَوْلُ
الْأَصْمَعِيّ ، وَحَكَى غَيْرُهُ أَكَسَبْته مَالًا ، فَمَعْنَى تَكْسِبُ
الْمَعْدُومَ أَيْ يَكْسِبُ غَيْرَك مَا هُوَ مَعْدُومٌ عِنْدَهُ وَالدّغُنّةُ
اسْمُ امْرَأَةٍ عُرِفَ بِهَا الرّجُلُ وَالدّغْنُ الْغَيْمُ يَبْقَى بَعْدَ
الْمَطَرِ
حَدِيثُ
نَقْضِ الصّحِيفَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَبَنُو هَاشِمٍ ، وَبَنُو الْمُطّلِبِ فِي مَنْزِلِهِمْ
الّذِي تَعَاقَدَتْ فِيهِ قُرَيْشٌ عَلَيْهِمْ فِي الصّحِيفَةِ الّتِي كَتَبُوهَا
، ثُمّ إنّهُ قَامَ فِي نَقْضِ تِلْكَ الصّحِيفَةِ الّتِي تَكَاتَبَتْ فِيهَا
قُرَيْشٌ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِيّ الْمُطّلِبِ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ ، وَلَمْ
يَبْلُ فِيهَا أَحَدٌ أَحْسَنَ مِنْ بَلَاءِ هِشَامِ بْنِ عَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ
بْنِ الْحَارِثِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ نَصْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ حِسْلِ بْنِ عَامِرِ
بْنِ لُؤَيّ ، وَذَلِكَ أَنّهُ كَانَ ابْنَ أَخِي نَضْلَةَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ
عَبْدِ مَنَافِ لِأُمّهِ فَكَانَ هِشَامٌ لِبَنِي هَاشِمٍ وَاصِلًا ، وَكَانَ ذَا
شَرَفٍ فِي قَوْمِهِ فَكَانَ - فِيمَا بَلَغَنِي - يَأْتِي بِالْبَعِيرِ وَبَنُو
هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطّلِبِ [ ص 161 ] الشّعْبِ لَيْلًا ، قَدْ أَوْقَرَهُ
طَعَامًا ، حَتّى إذَا أَقْبَلَ بِهِ فَمَ الشّعْبِ ، خَلَعَ خِطَامَهُ مِنْ
رَأْسِهِ ثُمّ ضَرَبَ عَلَى جَنْبِهِ فَيَدْخُلُ الشّعْبَ عَلَيْهِمْ ثُمّ يَأْتِي
بِهِ قَدْ أَوْقَرَهُ بَزّا ، فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ . قَالَ ابْنُ
إسْحَاقَ : ثُمّ إنّهُ مَشَى إلَى زُهَيْرِ بْنِ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ
بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرِ بْنِ مَخْزُومٍ - وَكَانَتْ أُمّهُ عَاتِكَةَ
بِنْتَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ - فَقَالَ يَا زُهَيْرُ أَقَدْ رَضِيت أَنْ تَأْكُلَ
الطّعَامَ وَتَلْبَسَ الثّيَابَ وَتَنْكِحَ النّسَاءَ وَأَخْوَالُك حَيْثُ قَدْ
عَلِمْت ، لَا يُبَاعُونَ وَلَا يُبْتَاعُ مِنْهُمْ وَلَا يَنْكِحُونَ وَلَا
يُنْكَحُ إلَيْهِمْ ؟ أَمَا إنّي أَحْلِفُ بِاَللّهِ أَنْ لَوْ كَانُوا أَخْوَالَ
أَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ ثُمّ دَعَوْته إلَى مَا دَعَاك إلَيْهِ مِنْهُمْ مَا
أَجَابَك إلَيْهِ أَبَدًا ، قَالَ وَيْحَك يَا هِشَامُ فَمَاذَا أَصْنَعُ ؟ إنّمَا
أَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ وَاَللّهِ لَوْ كَانَ مَعِي رَجُلٌ آخَرُ لَقُمْت فِي
نَقْضِهَا حَتّى أَنْقُضَهَا ، قَالَ قَدْ وَجَدْت رَجُلًا قَالَ فَمَنْ هُوَ ؟
قَالَ أَنَا ، قَالَ لَهُ زُهَيْرٌ أَبْغِنَا رَجُلًا ثَالِثًا . فَذَهَبَ إلَى
الْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيّ ، فَقَالَ لَهُ يَا مُطْعِمُ أَقَدْ رَضِيت أَنْ يَهْلِكَ
بَطْنَانِ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ ، وَأَنْتَ شَاهِدٌ عَلَى ذَلِكَ مُوَافِقٌ
لِقُرَيْشِ فِيهِ أَمَا وَاَللّهِ لَئِنْ أَمْكَنْتُمُوهُمْ مِنْ هَذِهِ
لَتَجِدَنّهُمْ إلَيْهَا مِنْكُمْ سِرَاعًا ، قَالَ وَيْحَك فَمَاذَا أَصْنَعُ ؟
إنّمَا أَنَا رَجُلٌ وَاحِدٌ قَالَ قَدْ وَجَدْت ثَانِيًا ، قَالَ مَنْ هُوَ ؟
قَالَ أَنَا ، قَالَ أَبْغِنَا ثَالِثًا ، قَالَ قَدْ فَعَلْت ، قَالَ مَنْ هُوَ ؟
قَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ ، قَالَ أَبْغِنَا رَابِعًا [ ص 162 ]
فَذَهَبَ إلَى أَبِي الْبَخْتَرِيّ بْنِ هِشَامٍ فَقَالَ لَهُ نَحْوًا مِمّا قَالَ
لِمُطْعِمِ بْنِ عَدِيّ فَقَالَ وَهَلْ مِنْ أَحَدٍ يُعِينُ عَلَى هَذَا ؟ قَالَ
نَعَمْ قَالَ مَنْ هُوَ ؟ قَالَ زُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ ، وَالْمُطْعِمُ
بْنُ عَدِيّ ، وَأَنَا مَعَك ، قَالَ أَبْغِنَا خَامِسًا . فَذَهَبَ إلَى زَمْعَةَ
بْنِ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدٍ ، فَكَلّمَهُ وَذَكَرَ لَهُ
قَرَابَتَهُمْ وَحَقّهُمْ فَقَالَ لَهُ وَهَلْ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الّذِي
تَدْعُونِي إلَيْهِ مِنْ أَحَدٍ ؟ قَالَ نَعَمْ ثُمّ سَمّى لَهُ الْقَوْمَ .
فَاتّعَدُوا خَطْمَ الْحَجُونِ لَيْلًا بِأَعْلَى مَكّةَ ، فَاجْتَمَعُوا
هُنَالِكَ فَأَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَتَعَاقَدُوا عَلَى الْقِيَامِ فِي
الصّحِيفَةِ حَتّى يَنْقُضُوهَا ، وَقَالَ زُهَيْرٌ أَنَا أَبْدَؤُكُمْ فَأَكُونُ
أَوّلَ مَنْ يَتَكَلّمَ . فَلَمّا أَصْبَحُوا غَدَوْا إلَى أَنْدِيَتِهِمْ وَغَدَا
زُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ عَلَيْهِ حُلّةٌ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا ، ثُمّ
أَقْبَلَ عَلَى النّاسِ فَقَالَ يَأْهَلَ مَكّةَ ، أَنَأْكُلُ الطّعَامَ
وَنَلْبَسُ الثّيَابَ وَبَنُو هَاشِمٍ هَلْكَى لَا يُبَاعُ وَلَا يُبْتَاعُ
مِنْهُمْ وَاَللّهِ لَا أَقْعُدُ حَتّى تُشَقّ هَذِهِ الصّحِيفَةُ الْقَاطِعَةُ
الظّالِمَةُ . قَالَ أَبُو جَهْلٍ - وَكَانَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ : كَذَبْت
وَاَللّهِ لَا تُشَقّ ، قَالَ زَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ : أَنْتَ وَاَللّهِ أَكْذَبَ
مَا رَضِينَا كِتَابَهَا حَيْثُ كَتَبْت ، قَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيّ صَدَقَ
زَمْعَةُ لَا نَرْضَى مَا كُتِبَ فِيهَا ، وَلَا نُقِرّ بِهِ قَالَ الْمُطْعِمُ
بْنُ عَدِيّ : صَدَقْتُمَا ، وَكَذَبَ مَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ نَبْرَأُ إلَى
اللّهِ مِنْهَا ، وَمِمّا كُتِبَ فِيهَا ، قَالَ هِشَامُ بْنُ عَمْرٍو نَحْوًا
مِنْ ذَلِكَ . فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ هَذَا أَمْرٌ قُضِيَ بِلَيْلِ تُشُووِرَ فِيهِ
بِغَيْرِ هَذَا الْمَكَانِ وَأَبُو طَالِبٍ جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ ،
فَقَامَ الْمُطْعِمُ إلَى الصّحِيفَةِ لِيَشُقّهَا ، فَوَجَدَ الْأَرَضَةَ قَدْ
أَكَلَتْهَا ، إلّا : " بِاسْمِك اللّهُمّ " . وَكَانَ كَاتِبُ
الصّحِيفَةِ مَنْصُورَ بْنَ عِكْرِمَةَ . فَشَلَتْ يَدُهُ فِيمَا يَزْعُمُونَ .
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لِأَبِي طَالِبٍ يَا عَمّ إنّ رَبّي
اللّهُ قَدْ سَلّطَ الْأَرَضَةَ عَلَى صَحِيفَةِ قُرَيْشٍ ، فَلَمْ تَدَعْ فِيهَا
اسْمًا هُوَ لِلّهِ إلّا أَثْبَتَتْهُ فِيهَا ، وَنَفَتْ مِنْهُ الظّلْمَ
وَالْقَطِيعَةَ وَالْبُهْتَانَ " ، فَقَالَ أَرَبّك أَخْبَرَك بِهَذَا ؟
قَالَ " نَعَمْ " ، قَالَ [ ص 163 ] أَحَدٌ ، ثُمّ خَرَجَ إلَى قُرَيْشٍ
، فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ ، إنّ ابْنَ أَخِي أَخْبَرَنِي بِكَذَا وَكَذَا ،
فَهَلُمّ صَحِيفَتَكُمْ فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ ابْنُ أَخِي ، فَانْتَهُوا عَنْ
قَطِيعَتِنَا ، وَانْزِلُوا عَمّا فِيهَا ، وَإِنْ يَكُنْ كَاذِبًا دَفَعْت
إلَيْكُمْ ابْنَ أَخِي ، فَقَالَ الْقَوْمُ رَضِينَا ، فَتَعَاقَدُوا عَلَى ذَلِكَ
ثُمّ نَظَرُوا ، فَإِذَا هِيَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فَزَادَهُمْ ذَلِكَ شَرّا فَعِنْدَ ذَلِكَ صَنَعَ الرّهْطَ مِنْ قُرَيْشٍ
فِي نَقْضِ الصّحِيفَةِ مَا صَنَعُوا .Sعَنْ
الشّعْبِ وَنَقْضِ الصّحِيفَةِ
فَصْلٌ
[ ص 160 ] وَذَكَرَ نَقْضَ الصّحِيفَةِ وَقِيَامَ هِشَامٍ فِيهَا وَنَسَبَهُ
فَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْحَارِثِ بْنُ حَبِيبٍ وَفِي الْحَاشِيَةِ عَنْ أَبِي
الْوَلِيدِ إنّمَا هُوَ هِشَامُ بْنُ عَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ ،
وَهَكَذَا وَقَعَ نَسَبُهُ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَكَانَ
أَبُوهُ عَمْرٌو أَخَا نَضْلَةَ بْنِ هَاشِمٍ لِأُمّهِ . وَذَكَرَ أَنّهُ كَانَ
يَأْتِي بِالْبَعِيرِ قَدْ أَوْقَرَهُ بَزّا بِالزّايِ الْمُعْجَمَةِ وَفِي غَيْرِ
نُسْخَةِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ بُرّا ، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ بُرّا أَوْ بُرّا
عَلَى الشّكّ مِنْ الرّاوِي . وَذَكَرَ أَنّ مَنْصُورَ بْنَ عِكْرِمَةَ كَانَ
كَاتِبَ الصّحِيفَةِ فَشُلّتْ يَدُهُ وَلِلْنّسَابِ مِنْ قُرَيْشٍ فِي كَاتِبِ
الصّحِيفَةِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا : أَنّ كَاتِبَ الصّحِيفَةِ هُوَ بَغِيضُ بْنُ
عَامِرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدّارِ ، وَالْقَوْلُ
الثّانِي : أَنّهُ مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ شُرَحْبِيلَ بْنِ هَاشِمٍ مِنْ بَنِي
عَبْدِ الدّارِ أَيْضًا ، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَلَمْ يَذْكُرْ
الزّبَيْرُ فِي كَاتِبِ الصّحِيفَةِ غَيْرَ هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ
وَالزّبَيْرِيّون أَعْلَمُ بِأَنْسَابِ قَوْمِهِمْ [ ص 161 ] وَذَكَرَ مَا أَصَابَ
الْمُؤْمِنِينَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي
الشّعْبِ مِنْ ضِيقِ الْحِصَارِ لَا يُبَايَعُونَ وَلَا يُنَاكَحُونَ وَفِي
الصّحِيحِ أَنّهُمْ جَهِدُوا حَتّى كَانُوا يَأْكُلُونَ الْخَبَطَ وَوَرَقَ
السّمَرِ حَتّى إنّ أَحَدَهُمْ لَيَضَعُ كَمَا تَضَعُ الشّاةُ وَكَانَ فِيهِمْ
سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ . رُوِيَ أَنّهُ قَالَ لَقَدْ جُعْت ، حَتّى إنّي
وَطِئْت ذَاتَ لَيْلَةٍ عَلَى شَيْءٍ رَطْبٍ فَوَضَعْته فِي فَمِي وَبَلَعْته ،
وَمَا أَدْرِي مَا هُوَ إلَى الْآنَ وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ أَنّ سَعْدًا قَالَ
خَرَجْت ذَاتَ لَيْلَةٍ لِأَبُولَ فَسَمِعْت قَعْقَعَةً تَحْتَ الْبَوْلِ فَإِذَا
قِطْعَةٌ مِنْ جِلْدِ بَعِيرٍ يَابِسَةٍ فَأَخَذْتهَا وَغَسَلْتهَا ، ثُمّ
أَحْرَقْتهَا ثُمّ رَضَضْتهَا ، وَسَفِفْتهَا بِالْمَاءِ فَقَوِيت بِهَا ثَلَاثًا
وَكَانُوا إذَا قَدِمَتْ الْعِيرُ مَكّةَ يَأْتِي أَحَدُهُمْ السّوقَ لِيَشْتَرِيَ
شَيْئًا مِنْ الطّعَامِ لِعِيَالِهِ فَيَقُومُ أَبُو لَهَبٍ عَدُوّ اللّهِ
فَيَقُولُ يَا مَعْشَرَ التّجّارِ غَالُوا عَلَى أَصْحَابِ مُحَمّدٍ حَتّى لَا
يُدْرِكُوا مَعَكُمْ شَيْئًا ، فَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا لِي وَوَفَاءُ ذِمّتِي ،
فَأَنَا ضَامِنٌ أَنْ لَا خَسَارَ عَلَيْكُمْ فَيَزِيدُونَ عَلَيْهِمْ فِي
السّلْعَةِ قِيمَتُهَا أَضْعَافًا ، حَتّى يَرْجِعَ إلَى أَطْفَالِهِ وَهُمْ
يَتَضَاغَوْنَ مِنْ الْجَوْعِ وَلَيْسَ فِي يَدَيْهِ شَيْءٌ يُطْعِمُهُمْ بِهِ
وَيَغْدُو التّجّارُ عَلَى أَبِي لَهَبٍ ، فَيُرْبِحُهُمْ فِيمَا اشْتَرَوْا مِنْ
الطّعَامِ وَاللّبَاسِ حَتّى جَهِدَ الْمُؤْمِنُونَ وَمَنْ مَعَهُمْ جَوْعًا
وَعُرْيًا ، وَهَذِهِ إحْدَى الشّدَائِدِ الثّلَاثِ الّتِي دَلّ عَلَيْهَا
تَأْوِيلُ الْغَطّات الثّلَاثِ الّتِي غَطّهُ جِبْرِيلُ حِينَ قَالَ [ ص 162 ]
اقْرَأْ قَالَ مَا أَنَا بِقَارِئِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَانَ فِي الْيَقَظَةِ
وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ لَهُ فِي مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ تَأْوِيلٌ وَإِيمَاءٌ وَقَدْ
تَقَدّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَى هَذَا قَبْلُ وَإِلَى آخِرِ حَدِيثِ الصّحِيفَةِ
لَيْسَ فِيهَا مَا يَشْكُلُ .
قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : فَلَمّا مُزّقَتْ الصّحِيفَةُ وَبَطَلَ مَا فِيهَا . قَالَ أَبُو
طَالِبٍ ، فِيمَا كَانَ مِنْ أَمْرِ أُولَئِكَ النّفَرِ الّذِينَ قَامُوا فِي
نَقْضِهَا يَمْدَحُهُمْ [ ص 164 ] [ ص 165 ] [ ص 166 ]
أَلّا هَلْ أَتَى بَحْرِيّنَا صَنِعُ رَبّنَا ... عَلَى نَأْيِهِمْ وَاَللّهُ
بِالنّاسِ أَرْوَدُ
فَيُخْبِرُهُمْ أَنّ الصّحِيفَةَ مُزّقَتْ ... وَأَنّ كُلّ مَا لَمْ يَرْضَهُ
اللّهُ مُفْسَدُ
تَرَاوَحَهَا إفْكٌ وَسِحْرٌ مُجَمّعٌ ... وَلَمْ يُلْفَ سِحْرُ آخِرَ الدّهْرِ
يَصْعَدُ
تَدَاعَى لَهَا مَنْ لَيْسَ فِيهَا بِقَرْقَرِ ... فَطَائِرُهَا فِي رَأْسِهَا
يَتَرَدّدُ
وَكَانَتْ كِفَاءً رُقْعَة بِأَثِيمَةِ ... لِيُقْطَعَ مِنْهَا سَاعِدٌ وَمُقَلّدُ
وَيَظْعَنُ أَهْلُ الْمُكَتّيْنِ فَيَهْرُبُوا ... فَرَائِصُهُمْ مِنْ خَشْيَةِ
الشّرّ تُرْعَدُ
وَيُتْرَكُ حَرّاثٌ يُقَلّبُ أَمْرُهُ ... أَيُتْهِمُ فِيهِمْ عِنْدَ ذَاكَ
وَيُنْجِدُ
وَتَصْعَدُ بَيْنَ الْأَخْشَبَيْنِ كَتِيبَةٌ ... لَهَا حُدُجٌ سَهْمٌ وَقَوْسٌ
وَمِرْهَدُ
فَمَنْ يَنْشَ مِنْ حُضّارِ مَكّةَ عِزّهُ ... فَعِزّتُنَا فِي بَطْنِ مَكّةَ
أَتَلْدُ
نَشَأْنَا بِهَا ، وَالنّاسُ فِيهَا قَلَائِلُ ... فَلَمْ نَنْفَكِكْ نَزْدَادُ
خَيْرًا وَنَحْمَدُ
وَنُطْعِمُ حَتّى يَتْرُكَ النّاسُ فَضْلَهُمْ ... إذَا جُعِلَتْ أَيْدِي
الْمُفِيضِينَ تَرْعَدُ
جَزَى اللّهُ رَهْطًا بِالْحَجُونِ تُبَايِعُوا ... عَلَى مَلَأٍ يَهْدِي لِحَزْمِ
وَيُرْشِدُ
قُعُودًا لَدَى خَطْمِ الْحَجُونِ كَأَنّهُمْ ... مَقَاوِلَةٌ بَلْ هُمْ أَعَزّ
وَأَمْجَدُ
أَعَانَ عَلَيْهَا كُلّ صَقْرٍ كَأَنّهُ ... إذَا مَا مَشَى فِي رَفْرَفِ الدّرْعِ
أَحْرَدُ
جَرِيّ عَلَى جُلّى الْخُطُوبِ كَأَنّهُ ... شِهَابٌ بِكَفّيْ قَابِسٍ يَتَوَقّدُ
مِنْ الْأَكْرَمِينَ مِنْ لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ ... إذَا سِيمَ خَسْفًا وَجْهُهُ
يَتَرَبّدُ
طَوِيلُ النّجَادِ خَارِجٌ نِصْفُ سَاقِهِ ... عَلَى وَجْهِهِ يُسْقَى الْغَمَامُ
وَيَسْعَدُ
عَظِيمُ الرّمَادِ سَيّدٌ وَابْنُ سَيّدٍ ... يَحُضّ عَلَى مَقْرَى الضّيُوفِ
وَيَحْشِدُ
وَيُبْنَى لِأَبْنَاءِ الْعَشِيرَةِ صَالِحًا ... إذَا نَحْنُ طُفْنَا فِي
الْبِلَادِ وَيَمْهَدُ
أَلَطّ بِهَذَا الصّلْحِ كُلّ مُبَرّأٍ ... عَظِيمُ اللّوَاءِ أَمْرُهُ ثَمّ
يُحْمَدُ
قَضَوْا مَا قَضَوْا فِي لَيْلِهِمْ ثُمّ أَصْبَحُوا ... عَلَى مَهْلٍ وَسَائِرُ
النّاسِ رُقّدُ
هُمْ رَجَعُوا سَهْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ رَاضِيًا ... وَسُرّ أَبُو بَكْرٍ بِهَا
وَمُحَمّدُ
مَتَى شُرّكَ الْأَقْوَامُ فِي جُلّ أَمْرِنَا ... وَكُنّا قَدِيمًا قَبْلَهَا
نُتَوَدّدُ
وَكُنّا قَدِيمًا لَا نُقِرّ ظُلَامَةً ... وَنُدْرِكُ مَا شِئْنَا ، وَلَا
نَتَشَدّدُ
فَيَا لَقُصَيّ هَلْ لَكُمْ فِي نَفُوسِكُمْ ... وَهَلْ لَكُمْ فِيمَا يَجِيءُ
بِهِ غَدٌ
فَإِنّي وَإِيّاكُمْ كَمَا قَالَ قَائِلٌ ... لَدَيْك الْبَيَانُ لَوْ تَكَلّمْت
أَسْوَدُSشَرْحُ
دَالِيَةَ أَبِي طَالِبٍ
[ ص 163 ] أَبِي طَالِبٍ : أَلَا قَدْ أَتَى بَحْرِيّنَا ، يَعْنِي الّذِينَ
بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ ، نَسَبَهُمْ إلَى الْبَحْرِ لِرُكُوبِهِمْ إيّاهُ وَهَكَذَا
وَجْهُ النّسَبِ إلَيْهِ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ إذَا نَشَأَتْ بَحْرِيّةٌ
وَزَعَمَ ابْنُ سِيدَهْ فِي كِتَابِ الْمُحْكَمِ لَهُ أَنّ الْعَرَبَ تَنْسِبُ
إلَى الْبَحْرِ بَحْرَانِيّ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ وَأَنّهُ مِنْ شَوَاذّ النّسَبِ
وَنُسِبَ هَذَا الْقَوْلُ إلَى سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلِ ، وَلَمْ يَقُلْهُ
سِيبَوَيْهِ قَطّ ، وَإِنّمَا قَالَ فِي شَوَاذّ النّسَب : تَقُولُ فِي بَهْرَاءَ
: بَهْرَانِيّ وَفِي صَنْعَاءَ : صَنْعَانِيّ كَمَا تَقُولُ بَحْرَانِيّ فِي
النّسَبِ إلَى الْبَحْرَيْنِ الّتِي هِيَ مَدِينَةٌ وَعَلَى هَذَا تَلَقّاهُ
جَمِيعُ النّحَاةِ وَتَأَوّلُوهُ مِنْ كَلَامِ سِيبَوَيْهِ ، وَإِنّمَا شُبّهَ
عَلَى ابْنِ سِيدَهْ لِقَوْلِ الْخَلِيلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَعْنِي
مَسْأَلَةَ النّسَبِ إلَى الْبَحْرَيْنِ ، كَأَنّهُمْ بَنَوْا الْبَحْرَ عَلَى
بَحْرَانِ ، وَإِنّمَا أَرَادَ لَفْظَ الْبَحْرَيْنِ أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ فِي كِتَابِ
الْعَيْنِ تَقُولُ بَحْرَانِيّ فِي النّسَبِ إلَى الْبَحْرَيْنِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ
النّسَبَ إلَى الْبَحْرِ أَصْلًا لِلْعِلْمِ بِهِ وَأَنّهُ عَلَى الْقِيَاسِ جَارٍ
وَفِي الْغَرِيبِ الْمُصَنّفِ عَنْ الْيَزِيدِيّ أَنّهُ قَالَ إنّمَا قَالُوا :
بَحْرَانِيّ فِي النّسَبِ إلَى الْبَحْرَيْنِ ، وَلَمْ يَقُولُوا : بَحْرِيّ
لِيُفَرّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النّسَبِ إلَى الْبَحْرِ وَمَا زَالَ ابْنُ
سِيدَهْ يَعْثِرُ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَغَيْرِهِ [ عَثَرَاتٌ ] يَدْمِي مِنْهَا
الْأَظَلّ ، وَيَدْحَضُ دَحَضَاتٍ تُخْرِجُهُ إلَى سَبِيلِ مَنْ ضَلّ أَلَا
تَرَاهُ قَالَ فِي هَذَا الْبَابِ وَذَكَرَ بُحَيْرَةَ طَبَرِيّةَ ، فَقَالَ هِيَ
مِنْ أَعْلَامِ خُرُوجِ الدّجّالِ وَأَنّ مَاءَهَا يَيْبَسُ عِنْدَ خُرُوجِهِ
وَالْحَدِيثُ إنّمَا جَاءَ فِي غَيْرِ زُغَرٍ ، وَإِنّمَا ذَكَرْت بُحَيْرَةَ
طَبَرِيّةَ فِي حَدِيثِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَأَنّهُمْ يَشْرَبُونَ مَاءَهَا ،
وَقَالَ فِي الْجِمَارِ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ [ إنّمَا ] هِيَ الّتِي
تُرْمَى بِعَرَفَةَ ، وَهَذِهِ هَفْوَةٌ لَا تُقَالُ وَعَثْرَةُ [ لَا ] لَعًا
لَهَا وَكَمْ لَهُ مِنْ هَذَا إذَا تَكَلّمَ فِي النّسَبِ وَغَيْرِهِ وَمِنْ
النّسَبِ إلَى الْبَحْرِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لِأَسْمَاءِ بِنْتِ عُمَيْسٍ
[ ص 164 ] أَرْضِ الْحَبَشَةِ : الْبَحْرِيّةُ الْحَبَشِيّةُ فَهَذَا مِثْلُ
قَوْلِ أَبِي طَالِبٍ : أَلَا هَلْ أَتَى بَحْرِيّنَا . وَقَوْلُهُ وَاَللّهُ
بِالنّاسِ أَرْوَدُ أَيْ أَرْفَقُ وَمِنْهُ رُوَيْدك ، أَيْ رِفْقًا جَاءَ
بِلَفْظِ التّصْغِيرِ لِأَنّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ تَقْلِيلًا أَيْ اُرْفُقْ
قَلِيلًا ، وَلَيْسَ لَهُ مُكَبّرٌ مِنْ لَفْظِهِ لِأَنّ الْمَصْدَرَ إرْوَادًا ،
إلّا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ تَصْغِيرِ التّرْخِيمِ وَهُوَ أَنْ تُصَغّرَ
الِاسْمُ الّذِي فِيهِ الزّوَائِدُ فَتَحْذِفُهَا فِي التّصْغِيرِ فَتَقُولُ فِي
أَسْوَدَ سُوَيْد ، وَفِي مِثْلِ إرْوَادٍ رُوَيْدٌ . وَقَوْلُهُ مَنْ لَيْسَ
فِيهَا بِقَرْقَرِ أَيْ لَيْسَ بِذَلِيلِ لِأَنّ الْقَرْقَرَ : الْأَرْضُ
الْمَوْطُوءَةُ الّتِي لَا تَمْنَعُ سَالِكَهَا ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدُ بِهِ
لَيْسَ بِذِي هَزْلٍ لِأَنّ الْقَرْقَرَةَ : الضّحِكُ . وَقَوْلُهُ وَطَائِرُهَا
فِي رَأْسِهَا يَتَرَدّدُ . أَيْ حَظّهَا مِنْ الشّؤْمِ وَالشّرّ وَفِي التّنْزِيلِ
{ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ } [ الْإِسْرَاءُ 13 ] ، وَقَوْلُهُ لَهَا
حُدُجٌ سَهْمٌ وَقَوْسٌ وَمِرْهَدُ وَجَدْت فِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ مِمّا
كَتَبَهُ عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ الْكِنَانِيّ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ لَعَلّهُ
حُدُجٌ بِضَمّ الْحَاءِ وَالدّالِ جَمْعُ حِدْجٍ عَلَى مَا حَكَى الْفَارِسِيّ ،
وَأَنْشَدَ شَاهِدًا عَلَيْهِ عَنْ ثَعْلَبٍ :
قُمْنَا فَآنَسْنَا الْحُمُولَ وَالْحُدُجْ
وَنَظِيرُهُ سِتْرُ وَسُتُرٌ ذَكَرَ ذَلِكَ عَنْهُ ابْنُ سِيدَهْ فِي مُحْكَمِهِ
فَيَكُونُ الْمَعْنَى : إنّ الّذِي يَقُومُ لَهَا مَقَامَ الْحُدُجِ سَهْمٌ
وَقَوْسٌ وَمِرْهَدُ . إلَى هُنَا انْتَهَى مَا فِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ .
قَالَ الْمُؤَلّفُ وَفِي الْعَيْنِ الْحَدَجُ حَسَكُ الْقُطْبِ [ مَا دَامَ
رَطْبًا ] فَيَكُونُ الْحَدَجُ فِي الْبَيْتِ مُسْتَعَارًا مِنْ هَذَا ، أَيْ
لَهَا حَسَكٌ ثُمّ فَسّرَهُ فَقَالَ سَهْمٌ وَقَوْسٌ وَمِرْهَدُ هَكَذَا فِي
الْأَصْلِ بِالرّاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَقْلُوبًا مِنْ
مَرْهَدٍ مَفْعَل مِنْ رَهَدَ الثّوْبَ إذَا مَزّقَهُ وَيَعْنِي [ ص 165 ] يَكُونَ
غَيْرَ مَقْلُوبٍ وَيَكُونُ مِنْ الرّهِيدِ وَهُوَ النّاعِمُ أَيْ يُنَعّمُ
صَاحِبُهُ بِالظّفَرِ أَوْ يُنَعّمُ هُوَ بِالرّيّ مِنْ الدّمِ وَفِي بَعْضِ
النّسَخِ مَزَهد بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالزّاي ، فَإِنْ صَحّتْ الرّوَايَةُ بِهِ
فَمَعْنَاهُ مَزَهد فِي الْحَيَاةِ وَحِرْصٌ عَلَى الْمَمَاتِ وَاَللّهُ أَعْلَمُ
. وَقَوْلُهُ فِيهَا : إذَا جُعِلَتْ أَيْدِي الْمُفِيضِينَ تَرْعَدُ . يَعْنِي :
أَيْدِي الْمُفِيضِينَ بِالْقِدَاحِ فِي الْمَيْسَرِ وَكَانَ لَا يُفِيضُ مَعَهُمْ
فِي الْمَيْسَرِ إلّا سَخِيّ ، وَيُسَمّونَ مَنْ لَا يَدْخُلُ مَعَهُمْ فِي ذَلِكَ
الْبَرَمُ . وَقَالَتْ امْرَأَةٌ لِبَعْلِهَا - وَكَانَ بَرَمًا بَخِيلًا ،
وَرَأَتْهُ يُقْرِنُ بَضْعَتَيْنِ فِي الْأَكْلِ أَبَرَمًا قُرُونًا وَيُسَمّونَهُ
أَيْضًا : الْحَصُورَ يُرِيدُ أَبُو طَالِبٍ إنّهُمْ يُطْعِمُونَ إذَا بَخِلَ النّاسُ
. وَالْمَيْسَرُ هِيَ الْجَزُورُ الّتِي تُقْسَمُ يُقَالُ يَسَرْت إذَا قَسَمْت ،
هَكَذَا فَسّرَهُ الْقُتَبِيّ وَأَنْشَدَ
أَقُولُ لَهُمْ بِالشّعْبِ إذْ يَيْسِرُونَنِي ... أَلَمْ يَيْأَسُوا أَنّي ابْنُ
فَارِسِ زَهْدَمِ
قَالَ يَيْسِرُونَنِي أَيْ يَقْتَسِمُونَ مَالِي ، وَيُرْوَى : يَأْسِرُونَنِي
مِنْ الْأَسْرِ . وَقَوْلُهُ رَفْرَفُ الدّرْعُ أَحْرَدُ . رَفْرَفُ الدّرْعِ
فُضُولُهَا ، وَقِيلَ فِي مَعْنَى : رَفْرَفٍ خُضْرٍ فُضُولُ الْفُرُشِ
وَالْبُسُطِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ ، وَعَنْ عَلِيّ أَنّهَا : الْمَرَافِقُ
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ : الرّفَارِفُ رِيَاضُ الْجَنّةِ وَالْأَحْرَدُ
الّذِي فِي مَشْيِهِ تَثَاقُلٌ وَهُوَ مِنْ الْحَرَدِ وَهُوَ عَيْبٌ فِي الرّجُلِ
. [ ص 166 ]
هُمْ رَجَعُوا سَهْلَ ابْنَ بَيْضَاءَ رَاضِيًا
سَهْلٌ هَذَا هُوَ ابْنُ وَهْبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ هِلَالِ بْنِ ضَبّةَ بْنِ
الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ ، يُعْرَفُ بِابْنِ الْبَيْضَاءِ وَهِيَ أُمّهُ وَاسْمُهَا
: دَعْدُ بِنْتُ جَحْدَمِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ ضَرِبِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ
، وَهُمْ ثَلَاثَةُ إخْوَةٍ سَهْلٌ وَسُهَيْلٌ وَصَفْوَانُ بَنُو الْبَيْضَاءِ .
وَقَوْله :
وَإِنّي وَإِيّاهُمْ كَمَا قَالَ قَائِلٌ ... لَدَيْك الْبَيَانُ لَوْ تَكَلّمَتْ
أَسْوَدُ
أَسْوَدُ اسْمُ جَبَلٍ كَانَ قَدْ قُتِلَ فِيهِ قَتِيلٌ فَلَمْ يُعْرَفْ قَاتِلُهُ
فَقَالَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فَذَهَبَتْ مَثَلًا .
وَقَالَ
حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَبْكِي الْمُطْعِمَ بْنَ عَدِيّ حِينَ مَاتَ وَيَذْكُرُ
قِيَامَهُ فِي نَقْضِ الصّحِيفَةِ [ ص 167 ]
أَيَا عَيْنُ فَابْكِي سَيّدَ الْقَوْمِ وَاسْفَحِي ... بِدَمْعِ وَإِنْ
أَنْزَفْتِهِ فَاسْكُبِي الدّمَا
وَبَكّي عَظِيمَ الْمَشْعَرَيْنِ كِلَيْهِمَا ... عَلَى النّاسِ مَعْرُوفًا لَهُ
مَا تَكَلّمَا
فَلَوْ كَانَ مَجْدٌ يُخْلَدُ الدّهْرَ وَاحِدًا ... مِنْ النّاسِ أَبْقَى
مَجْدُهُ الْيَوْمَ مُطْعِمًا
أَجَرْت رَسُولَ اللّهِ مِنْهُمْ ... فَأَصْبَحُوا عَبِيدَك ، مَا لَبّى مُهِلّ
وَأَحْرَمَا
فَلَوْ سُئِلَتْ عَنْهُ مَعَدّ بِأَسْرِهَا ... وَقَحْطَانُ أَوْ بَاقِي بَقِيّةِ
جُرْهُمَا
لَقَالُوا : هُوَ الْمُوفَى بِخَفْرَةِ جَارِهِ ... وَذِمّتِهِ يَوْمًا إذَا مَا
تَذَمّمَا
فَمَا تَطْلُعُ الشّمْسُ الْمُنِيرَةُ فَوْقَهُمْ ... عَلَى مِثْلِهِ فِيهِمْ
أَعَزّ وَأَعْظَمَا
وَآبَى إذَا يَأْبَى وَأَلْيَنَ شِيمَةً ... وَأَنْوَمَ عَنْ جَارٍ إذَا اللّيْلُ
أَظْلَمَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : قَوْلُهُ " كِلَيْهِمَا " عَنْ غَيْرِ ابْنِ
إسْحَاقَ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَأَمّا قَوْلُهُ " أَجَرْت رَسُولَ اللّهِ
مِنْهُمْ " ، فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
لَمّا انْصَرَفَ عَنْ أَهْلِ الطّائِفِ ، وَلَمْ يُجِيبُوهُ إلَى مَا دَعَاهُمْ
إلَيْهِ مِنْ تَصْدِيقِهِ وَنُصْرَتِهِ صَارَ إلَى [ ص 168 ] حِرَاءٍ ، ثُمّ
بَعَثَ إلَى الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ ، لِيُجِيرَهُ فَقَالَ أَنَا حَلِيفٌ
وَالْحَلِيفُ لَا يُجِيرُ ، فَبَعَثَ إلَى سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو ، فَقَالَ إنّ
بَنِي عَامِرٍ لَا تُجِيرُ عَلَى بَنِي كَعْب ٍ . فَبَعَثَ إلَى الْمُطْعِمِ بْنِ
عَدِيّ ، فَأَجَابَهُ إلَى ذَلِكَ ثُمّ تَسَلّحَ الْمُطْعِمُ وَأَهْلُ بَيْتِهِ
وَخَرَجُوا حَتّى أَتَوْا الْمَسْجِدَ ، ثُمّ بَعَثَ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنْ اُدْخُلْ فَدَخَلَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَطَافَ بِالْبَيْتِ ، وَصَلّى عِنْدَهُ ثُمّ انْصَرَفَ إلَى مَنْزِلِهِ
فَذَلِكَ الّذِي يَعْنِي حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَالَ
حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا : يَمْدَحُ هِشَامَ بْنَ عَمْرٍو لِقِيَامِهِ فِي
الصّحِيفَةِ
هَلْ يُوفِيَنّ بَنُو أُمَيّةَ ذِمّةً ... عَقْدًا كَمَا أَوْفَى جِوَارُ هِشَامِ
مِنْ مَعْشَرٍ لَا يَغْدِرُونَ بِجَارِهِمْ ... لِلْحَارِثِ بْنِ حُبَيّبِ بْنِ
سُخَامِ
وَإِذَا بَنُو حِسْلٍ أَجَارُوا ذِمّةً ... أَوْفَوْا وَأَدّوْا جَارَهُمْ
بِسِلَامِ
وَكَانَ هِشَامٌ أَخَا سُخَامٍ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ شُحَام .Sقَوْلُ
حَسّانَ فِي مُطْعِمٍ وَهِشَامِ بْنِ عَمْرٍو
فَصْلٌ
وَذَكَرَ قَوْلَ حَسّانَ فِي مُطْعِمِ بْنِ عَدِيّ ، وَيَذْكُرُ جِوَارَهُ
لِلنّبِيّ - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَذَلِكَ حِينَ رَجَعَ مِنْ الطّائِفِ ،
وَقِيَامُهُ فِي أَمْرِ الصّحِيفَةِ
فَلَوْ كَانَ مَجْدٌ يُخْلِدُ الدّهْرَ وَاحِدًا ... مِنْ النّاسِ أَبْقَى
مَجْدُهُ الْيَوْمَ مُطْعِمًا
[ ص 167 ] أَقْبَحِ الضّرُورَةِ لِأَنّهُ قَدّمَ الْفَاعِلَ وَهُوَ مُضَافٌ إلَى
ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ فَصَارَ فِي الضّرُورَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ جَزَى رَبّهُ عَنّي
عَدِيّ بْنَ حَاتِمٍ
غَيْرَ أَنّهُ فِي هَذَا الْبَيْتِ أَشْبَهُ قَلِيلًا لِتَقَدّمِ ذِكْرِ مُطْعِمٍ
، فَكَأَنّهُ قَالَ أَبَقِيَ مَجْدُ هَذَا الْمَذْكُورِ الْمُتَقَدّمِ ذِكْرُهُ
مُطْعِمًا . وَوَضَعَ الظّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ كَمَا لَوْ قُلْت : إنّ
زَيْدًا ضَرَبْت جَارِيَتَهُ زَيْدًا ، أَيْ ضَرَبْت جَارِيَتَهُ إيّاهُ وَلَا
بَأْسَ بِمِثْلِ هَذَا ، وَلَا سِيّمَا إذَا قَصَدْت قَصْدَ التّعْظِيمِ
وَتَفْخِيمَ ذِكْرِ الْمَمْدُوحِ كَمَا قَالَ الشّاعِرُ
وَمَا لِي أَنْ أَكُونَ أَعِيبُ يَحْيَى ... وَيَحْيَى طَاهِرُ الْأَثْوَابِ بَرّ
وَيَجُوزُ نَصْبُهُ عِنْدِي عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ وَبَكّي عَظِيمَ
الْمَشْعَرَيْنِ وَيَكُونُ الْمَفْعُولُ مِنْ قَوْلِهِ أَبْقَى مَجْدُهُ
مَحْذُوفًا ، فَكَأَنّهُ قَالَ أَبْقَاهُ مَجْدُهُ أَبَدًا ، وَالْمَفْعُولُ لَا
قُبْحَ فِي حَذْفِهِ إذَا دَلّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ كَمَا فِي هَذَا الْبَيْتِ .
وَذَكَرَ قَوْلَ حَسّانَ فِي هِشَامِ بْنِ عَمْرٍو ، وَقَالَ فِيهِ لِلْحَارِثِ
بْنِ حُبَيّبِ بْنِ سُخَامٍ وَقَدْ تَقَدّمَ نَسَبُهُ وَهُوَ حُبَيْبٌ
بِالتّخْفِيفِ تَصْغِيرُ حِبّ وَجَعَلَهُ حَسّانُ تَصْغِيرَ حَبِيبٍ فَشَدّدَهُ
وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الضّرُورَةِ إذْ لَا يَسُوغُ أَنْ يُقَالَ فِي فُلَيْسٍ
فُلَيّسٍ وَلَا فِي كُلَيْبٍ كُلَيّبٍ فِي شِعْرٍ وَلَا غَيْرِهِ وَلَكِنْ لَمّا
كَانَ الْحِبّ وَالْحَبِيبُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ جَعَلَ أَحَدُهُمَا مَكَانَ
الْآخَرِ وَهُوَ حَسَنٌ فِي الشّعْرِ وَسَائِغٌ فِي الْكَلَامِ وَهِشَامُ بْنُ
عَمْرٍو هَذَا أَسْلَمُ ، وَهُوَ مَعْدُودٌ فِي الْمُؤَلّفَةِ قُلُوبُهُمْ
وَكَانُوا أَرْبَعِينَ رَجُلًا فِيمَا ذَكَرُوا . [ ص 168 ] اسْمُ أُمّه ،
وَأَكْثَرُ أَهْلِ النّسَبِ يَقُولُونَ فِيهِ شُحَام بِشِينِ مُعْجَمَةٍ
وَأَلْفَيْت فِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ أَنّ أَبَا عُبَيْدَةَ النّسّابَة
وَعَوَانَةَ يَقُولُونَ فِيهِ سُحَامٌ بِسِينِ وَحَاءٍ مُهْمَلَتَيْنِ وَاَلّذِي
فِي الْأَصْلِ مِنْ قَوْلِ ابْنِ هِشَامٍ : سُخَامٌ بِسِينِ مُهْمَلَةٍ وَخَاءٍ
مُعْجَمَةٍ وَلَفْظُ شخام مِنْ شَخِمَ الطّعَامُ وَخَشَمَ إذَا تَغَيّرَتْ
رَائِحَتُهُ قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ
إسْلَامُ
الطّفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الدّوْسِيّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
- عَلَى مَا يَرَى مِنْ قَوْمِهِ يَبْذُلُ لَهُمْ النّصِيحَةَ وَيَدْعُوهُمْ إلَى
النّجَاةِ مِمّا هُمْ فِيهِ . وَجَعَلَتْ قُرَيْشٌ ، حِينَ مَنَعَهُ اللّهُ
مِنْهُمْ يُحَذّرُونَهُ النّاسَ وَمَنْ قَدِمَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْعَرَبِ [ ص 169
] وَكَان الطّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدّوْسِيّ يُحَدّثُ أَنّهُ قَدِمَ مَكّةَ -
وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِهَا - فَمَشَى إلَيْهِ رِجَالٌ
مِنْ قُرَيْشٍ - وَكَانَ الطّفَيْلُ رَجُلًا شَرِيفًا شَاعِرًا لَبِيبًا -
فَقَالُوا لَهُ يَا طُفَيْلُ إنّك قَدِمْت بِلَادَنَا ، وَهَذَا الرّجُلُ الّذِي
بَيْنَ أَظْهُرِنَا قَدْ أَعْضَلَ بِنَا ، وَقَدْ فَرّقَ جَمَاعَتَنَا ، وَشَتّتْ
أَمْرَنَا ، وَإِنّمَا قَوْلُهُ كَالسّحْرِ يُفَرّقُ بَيْنَ الرّجُلِ وَبَيْنَ
أَبِيهِ وَبَيْنَ الرّجُلِ وَبَيْنَ أَخِيهِ وَبَيْنَ الرّجُلِ وَبَيْنَ
زَوْجَتِهِ وَإِنّا نَخْشَى عَلَيْك وَعَلَى قَوْمِك مَا قَدْ دَخَلَ عَلَيْنَا ،
فَلَا تُكَلّمَنّهُ وَلَا تَسْمَعَنّ مِنْهُ شَيْئًا . قَالَ فَوَاَللّهِ مَا
زَالُوا بِي حَتّى أَجْمَعْت أَنْ لَا أَسْمَعَ مِنْهُ شَيْئًا ، وَلَا أُكَلّمَهُ
حَتّى حَشَوْت فِي أُذُنِي حِينَ غَدَوْت إلَى الْمَسْجِدِ كُرْسُفًا فَرَقًا مِنْ
أَنْ يَبْلُغَنِي شَيْءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَأَنَا لَا أُرِيدُ أَنْ أَسْمَعَهُ .
قَالَ فَغَدَوْت إلَى الْمَسْجِدِ ، فَإِذَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَائِمٌ يُصَلّي عِنْدَ الْكَعْبَةِ . قَالَ فَقُمْت مِنْهُ
قَرِيبًا ، فَأَبَى اللّهُ إلّا أَنْ يُسْمِعَنِي بَعْضَ قَوْلِهِ . قَالَ
فَسَمِعْت كَلَامًا حَسَنًا . قَالَ فَقُلْت فِي نَفْسِي : وَاثُكْلَ أُمّي
وَاَللّهِ إنّي لَرَجُلٌ لَبِيبٌ شَاعِرٌ مَا يَخْفَى عَلَيّ الْحَسَنُ مِنْ
الْقَبِيحِ فَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَسْمَعَ مِنْ هَذَا الرّجُلِ مَا يَقُولُ
فَإِنْ كَانَ الّذِي يَأْتِي بِهِ حَسَنًا قِبْلَتَهُ وَإِنْ كَانَ قَبِيحًا
تَرَكْته . قَالَ فَمَكَثْت حَتّى انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى بَيْتِهِ فَاتّبَعْته ، حَتّى إذَا دَخَلَ بَيْتَهُ
دَخَلْت عَلَيْهِ فَقُلْت : يَا مُحَمّدُ إنّ قَوْمَك قَالُوا لِي كَذَا وَكَذَا -
لِلّذِي قَالُوا - فَوَاَللّهِ مَا بَرِحُوا يُخَوّفُونَنِي أَمْرَك حَتّى سَدّدْت
أُذُنِي بِكُرْسُفِ لِئَلّا أَسْمَعَ قَوْلَك ، ثُمّ أَبَى اللّهُ إلّا أَنْ
يُسْمِعَنِي قَوْلَك ، فَسَمِعْته قَوْلًا حَسَنًا ، فَاعْرُضْ عَلَيّ أَمْرَك .
قَالَ فَعَرَضَ عَلَيّ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
الْإِسْلَامَ وَتَلَا عَلَيّ الْقُرْآنَ فَلَا وَاَللّهِ مَا سَمِعْت قَوْلًا قَطّ
أَحْسَنَ مِنْهُ وَلَا أَمْرًا أَعَدْلَ مِنْهُ قَالَ فَأَسْلَمْت ، وَشَهِدْت
شَهَادَةَ الْحَقّ وَقُلْت : يَا نَبِيّ اللّهِ إنّي امْرِئِ مُطَاعٌ فِي قَوْمِي
، وَأَنَا رَاجِعٌ إلَيْهِمْ وَدَاعِيهمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَادْعُ اللّهَ أَنْ
يَجْعَلَ لِي آيَةً تَكُونُ لِي عَوْنًا عَلَيْهِمْ فِيمَا أَدْعُوهُمْ إلَيْهِ
فَقَالَ اللّهُمّ اجْعَلْ لَهُ آيَةً . قَالَ فَخَرَجْت إلَى قَوْمِي ، حَتّى إذَا
كُنْت بِثَنِيّةِ تَطْلُعُنِي عَلَى الْحَاضِرِ وَقَعَ نُورٌ بَيْنَ عَيْنَيْ
مِثْلَ الْمِصْبَاحِ فَقُلْت : اللّهُمّ فِي غَيْرِ وَجْهِي ، إنّي أَخْشَى ، أَنْ
يَظُنّوا أَنّهَا مُثْلَةٌ وَقَعَتْ فِي وَجْهِي لِفِرَاقِ دِينِهِمْ . قَالَ
فَتَحَوّلَ فَوَقَعَ فِي رَأْسِ سَوْطِي . قَالَ فَجَعَلَ الْحَاضِرُ
يَتَرَاءَوْنَ ذَلِكَ النّورَ فِي سَوْطِي كَالْقِنْدِيلِ الْمُعَلّقِ وَأَنَا
أَهْبِطُ إلَيْهِمْ مِنْ الثّنِيّةِ ، قَالَ حَتّى جِئْتهمْ فَأَصْبَحْت فِيهِمْ [
ص 170 ]
إسْلَامُ وَالِدِ الطّفَيْلِ وَزَوْجَتِهِ
قَالَ فَلَمّا نَزَلَتْ أَتَانِي أَبِي ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا ، قَالَ
فَقُلْت : إلَيْك عَنّي يَا أَبَتْ فَلَسْت مَعَك ، وَلَسْت مِنّي ، قَالَ وَلِمَ
يَا بُنَيّ ؟ قَالَ قُلْت : أَسْلَمْت ، وَتَابَعْت دِينَ مُحَمّدٍ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ أَيْ بُنَيّ فَدِينِي دِينُك ، قَالَ فَقُلْت :
فَاذْهَبْ فَاغْتَسِلْ وَطَهّرْ ثِيَابَك ، ثُمّ تَعَالَ حَتّى أُعَلّمَك مَا
عُلّمْت . قَالَ فَذَهَبَ فَاغْتَسَلَ وَطَهّرَ ثِيَابَهُ . قَالَ ثُمّ جَاءَ فَعَرَضْت
عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَ . قَالَ ثُمّ أَتَتْنِي صَاحِبَتِي ، فَقُلْت :
إلَيْك عَنّي ، فَلَسْت مِنْك وَلَسْت مِنّي ، قَالَتْ لِمَ ؟ بِأَبِي أَنْتَ
وَأُمّي ، قَالَ قُلْت : قَدْ فَرّقَ بَيْنِي وَبَيْنَك الْإِسْلَامُ وَتَابَعْت
دِينَ مُحَمّدٍ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَتْ فَدِينِي دِينُك ،
قَالَ قُلْت : فَاذْهَبِي إلَى حِنَا ذِي الشّرَى - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ :
وَيُقَالُ حِمَى ذِي الشّرَى - فَتَطَهّرِي مِنْهُ . ذُو الشّرَى صَنَمًا لِدَوْسِ
، وَكَانَ الْحِمَى حِمًى حَمَوْهُ لَهُ بِهِ وَشَلّ مِنْ مَاءٍ يَهْبِطُ مِنْ
جَبَلٍ . قَالَ قَالَتْ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي ، أَتَخْشَى عَلَى الصّبِيّةِ مِنْ
ذِي الشّرَى شَيْئًا ، قَالَ قُلْت : لَا ، أَنَا ضَامِنٌ لِذَلِكَ فَذَهَبَتْ
فَاغْتَسَلَتْ ثُمّ جَاءَتْ فَعَرَضْت عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَتْ . ثُمّ
دَعَوْت دَوْسًا إلَى الْإِسْلَامِ فَأَبْطَئُوا عَلَيّ ثُمّ جِئْت رَسُولَ اللّهِ
- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِمَكّةَ ، فَقُلْت لَهُ يَا نَبِيّ اللّهِ
أَنّهُ قَدْ غَلَبَنِي عَلَى دَوْسٍ الزّنَا ، فَادْعُ اللّهَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ
اللّهُمّ اهْدِ دَوْسًا ، ارْجِعْ إلَى قَوْمِك فَادْعُهُمْ وَارْفُقْ بِهِمْ
قَالَ فَلَمْ أَزَلْ بِأَرْضِ دَوْسٍ أَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ حَتّى هَاجَرَ
رَسُولُ اللّه ِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى الْمَدِينَةِ ، وَمَضَى
بَدْرٌ وَأُحُدٌ وَالْخَنْدَقُ ، ثُمّ قَدِمْت عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِمَنْ أَسْلَمَ مَعِي مِنْ قَوْمِي ، وَرَسُولُ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِخَيْبَرِ حَتّى نَزَلْت الْمَدِينَةَ
بِسَبْعِينَ أَوْ ثَمَانِينَ بَيْتًا مِنْ دَوْسٍ ، ثُمّ لَحِقْنَا بِرَسُولِ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِخَيْبَرِ فَأَسْهَمَ لَنَا مَعَ
الْمُسْلِمِينَ [ ص 171 ] صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حَتّى إذَا فَتَحَ
اللّهُ عَلَيْهِ مَكّةَ ، قَالَ قُلْت : يَا رَسُولَ اللّهِ ابْعَثْنِي إلَى ذِي
الْكَفّيْنِ صَنَمِ عَمْرِو بْنِ حُمَمَةَ حَتّى أُحَرّقْهُ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ
: فَخَرَجَ إلَيْهِ فَجَعَلَ طُفَيْلٌ يُوقِدُ عَلَيْهِ النّارَ وَيَقُولُ
يَا ذَا الْكَفّيْنِ لَسْت مِنْ عُبّادِكَا ... مِيلَادُنَا أَقْدَمُ مِنْ
مِيلَادِكَا
إنّي حَشَوْت النّارَ فِي فُؤَادِكَا
قَالَ ثُمّ رَجَعَ إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
فَكَانَ مَعَهُ بِالْمَدِينَةِ ، حَتّى قَبَضَ اللّهُ رَسُولَهُ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَلَمّا ارْتَدّتْ الْعَرَبُ ، خَرَجَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ
فَسَارَ مَعَهُمْ حَتّى فَرَغُوا مِنْ طُلَيْحَةَ ، وَمِنْ أَرْضِ نَجْدٍ كُلّهَا
. ثُمّ سَارَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ إلَى الْيَمَامَةِ - وَمَعَهُ ابْنُهُ عَمْرُو
بْنُ الطّفَيْلِ - فَرَأَى رُؤْيَا وَهُوَ مُتَوَجّهٌ إلَى الْيَمَامَةِ ، فَقَالَ
لِأَصْحَابِهِ إنّي قَدْ رَأَيْت رُؤْيَا ، فَاعْبُرُوهَا لِي ، رَأَيْت أَنّ
رَأْسِي حُلِقَ وَأَنّهُ خَرَجَ مِنْ فَمِي طَائِرٌ وَأَنّهُ لَقِيَتْنِي
امْرَأَةٌ فَأَدْخَلَتْنِي فِي فَرْجِهَا ، وَأَرَى ابْنِي يَطْلُبُنِي طَلَبًا
حَثِيثًا ، ثُمّ رَأَيْته حُبِسَ عَنّي ، قَالُوا : خَيْرًا . قَالَ أَمّا أَنَا
وَاَللّهِ فَقَدْ أَوّلْتهَا ، قَالُوا : مَاذَا ؟ قَالَ أَمّا حَلْقُ رَأْسِي
فَوَضْعُهُ وَأَمّا الطّائِرُ الّذِي خَرَجَ مِنْ فَمِي فَرُوحِيّ وَأَمّا
الْمَرْأَةُ الّتِي أَدَخَلَتْنِي فَرْجَهَا ، فَالْأَرْضُ تُحْفَرُ لِي ،
فَأَغِيبُ فِيهَا ، أَمّا طَلَبُ ابْنِي إيّايَ ثُمّ حَبْسُهُ عَنّي ، فَإِنّي
أَرَاهُ سَيَجْهَدُ أَنْ يُصِيبَهُ مَا أَصَابَنِي ، فَقُتِلَ رَحِمَهُ اللّهُ
شَهِيدًا بِالْيَمَامَةِ ، وَجُرِحَ ابْنُهُ جِرَاحَةً شَدِيدَةً ثُمّ اسْتَبَلّ
مِنْهَا ، ثُمّ قُتِلَ عَامَ الْيَرْمُوكِ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ
شَهِيدًاSحَوْلَ
حَدِيثِ طُفَيْلٍ الدّوْسِيّ وَذِي الْكَفّيْنِ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ حَدِيثَ طُفَيْلِ بْنِ عَمْرٍو الدّوْسِيّ ، وَهُوَ طُفَيْلُ بْنُ
عَمْرِو بْنِ طَرِيفِ بْنِ الْعَاصِي بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ سُلَيْمِ بْنِ جَهْمِ
بْنِ دَوْسٍ إلَى آخِرِهِ وَلَيْسَ فِيهِ إشْكَالٌ إلّا قَوْلُهُ [ ص 169 ] ذِي
الشّرَى ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هُوَ حُمّى ، وَهُوَ مَوْضِعُ حَمْوِهِ
لِصَنَمِهِمْ ذِي الشّرَى ، فَإِنْ صَحّتْ رِوَايَةُ ابْنِ إسْحَاقَ ، فَالنّونُ
قَدْ تُبَدّلُ مِنْ الْمِيمِ كَمَا قَالُوا : حُلّانُ وَحُلّامُ لِلْجَدْيِ
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ حَنَوْت الْعُودَ وَمِنْ مَحْنِيّةِ الْوَادِي ،
وَهُوَ مَا انْحَنَى مِنْهُ . [ ص 170 ] يَا ذَا الْكَفَيْنِ لَسْت مِنْ
عُبّادِكَا أَرَادَ الْكَفّيْنِ بِالتّشْدِيدِ فَخَفّفَ لِلضّرُورَةِ غَيْرَ أَنّ فِي
نُسْخَةِ الشّيْخِ أَنّ الصّنَمَ كَانَ يُسَمّى : ذَا الْكَفَيْنِ وَخَفّفَ
الْفَاءَ بِخَطّهِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُشَدّدَةً فَدَلّ أَنّهُ عِنْدَهُ
مُخَفّفٌ فِي غَيْرِ الشّعْرِ فَإِنْ صَحّ هَذَا فَهُوَ مَحْذُوفُ اللّامِ
كَأَنّهُ تَثْنِيَةُ كَفْءٍ مِنْ كَفَأْت الْإِنَاءَ أَوْ إذَا كُفِئَ بِمَعْنَى
كَفْءٍ ؟ ثُمّ سُهّلَتْ الْهَمْزَةُ وَأُلْقِيَتْ حَرَكَتُهَا عَلَى الْفَاءِ
كَمَا يُقَالُ الْخَبْءُ وَالْخَبُ وَفِي الْحَدِيثِ أَنّ أَهْلَ الْحَاضِرِ مِنْ
دَوْسٍ كَانُوا يَتَرَاءَوْنَهُ فِي الثّنِيّةِ ، وَفِي سَوْطِهِ كَالْقِنْدِيلِ
الْمُعَلّقِ وَذَكَرَهُ الْمُبَرّدُ فَقَالَ فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ جَعَلُوا
يَنْظُرُونَ [ ص 171 ] وَرَوَى ، أَبُو الزّنَادِ عَنْ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ قَالَ لَمّا قَالَ طُفَيْلٌ لِلنّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - إنّ دَوْسًا غَلَبَ عَلَيْهَا الزّنَى وَالرّبَا ، فَادْعُ اللّهَ
عَلَيْهِمْ قُلْنَا : هَلَكَتْ دَوْسٌ ، حَتّى قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - اللّهُمّ اهْدِ دَوْسًا
مِنْ
قِصّةِ أَعْشَى بْنِ قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثَنِي خَلّادُ بْنُ قُرّةَ بْنِ خَالِدٍ الدّوْسِيّ
وَغَيْرُهُ مِنْ مَشَايِخِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ
أَعْشَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عُكَابَةَ بْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيّ
بْنِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ ، بْنِ قَاسِطِ بْنِ هِنْبِ بْنِ أَفَصَى بْنِ دُعْمِيّ
بْنِ جَدِيلَةَ بْنِ أَسَدِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نِزَارٍ ] [ ص 172 ] خَرَجَ إلَى
رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يُرِيدُ الْإِسْلَامَ فَقَالَ
يَمْدَحُ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 173 ] [ ص 174 ]
أَلَمْ تَغْتَمِضْ عَيْنَاك لَيْلَةَ أَرْمَدَا ... وَبِتّ كَمَا بَاتَ السّلِيمُ
مُسَهّدَا
وَمَا ذَاكَ مِنْ عِشْقِ النّسَاءِ وَإِنّمَا ... تَنَاسَيْت قَبْلَ الْيَوْمِ
خُلّةَ مُهَدّدَا
وَلَكِنْ أَرَى الدّهْرَ الّذِي هُوَ خَائِنٌ ... إذَا أَصْلَحَتْ كَفّايَ عَادَ ،
فَأَفْسَدَا
كُهُولًا وَشُبّانًا فَقَدْت وَثَرْوَةً ... فَلِلّهِ هَذَا الدّهْرُ كَيْدَ
تَرَدّدَا
وَمَا زِلْت أَبْغِي الْمَالَ مُذْ أَنَا يَافِعٌ ... وَلَيَدًا وَكَهْلًا حِينَ
شِبْت وَأَمْرَدَا
وَأَبْتَذِلُ الْعِيسَ الْمَرَاقِيلَ تَعْتَلِي ... مَسَافَةَ مَا بَيْنَ
النّجَيْرِ فَصَرْخَدَا
أَلَا أَيّهَذَا السّائِلِي أَيْنَ يَمّمَتْ ... فَإِنّ لَهَا فِي أَهْلِ يَثْرِبَ
مَوْعِدًا
فَإِنْ تَسْأَلِي عَنّي ، فَيَا رُبّ سَائِلٍ ... حَفِيّ عَنْ الْأَعْشَى بِهِ
حَيْثُ أَصْعَدَا
أَجَدّتْ بِرِجْلَيْهَا النّجَاءَ وَرَاجَعَتْ ... يَدَاهَا خِنَافًا لَيّنًا
غَيْرَ أَحْرَدَا
وَفِيهَا - إذَا مَا هَجّرَتْ - عَجْرَفِيّةٌ ... إذَا خِلْت حِرْبَاءَ
الظّهِيرَةِ أَصْيَدَا
وَآلَيْت لَا آوِي لَهَا مِنْ كَلَالَةٍ ... وَلَا مِنْ حَفًى حَتّى تَلَاقِي
مُحَمّدًا
مَتَى مَا تُنَاخَى عِنْدَ بَابِ ابْنِ هَاشِمٍ ... تُرَاحِي ، وَتَلْقَيْ مِنْ
فَوَاضِلِهِ نَدَى
نَبِيّا يَرَى مَا لَا تَرَوْنَ وَذِكْرُهُ ... أَغَارَ لَعَمْرِي فِي الْبِلَادِ
وَأَنْجَدَا
لَهُ صَدَقَاتٌ مَا تُغِبّ وَنَائِلٌ ... وَلَيْسَ عَطَاءُ الْيَوْمِ مَانِعَهُ
غَدَا
أَجَدّك لَمْ تَسْمَعْ وَصَاةَ مُحَمّدٍ ... نَبِيّ الْإِلَهِ حَيْثُ أَوْصَى ،
وَأَشْهَدَا
إذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادِ مِنْ التّقَى ... وَلَاقَيْت بَعْدَ الْمَوْتِ
مَنْ قَدْ تَزَوّدَا
نَدِمَتْ عَلَى أَنْ لَا تَكُونَ كَمِثْلِهِ ... فَتُرْصِدُ لِلْأَمْرِ الّذِي كَانَ
أَرْصَدَا
فَإِيّاكَ وَالْمَيْتَاتُ لَا تَقْرَبَنّهَا ... وَلَا تَأْخُذَنْ سَهْمًا
حَدِيدًا ، لَتُفْصِدَا
وَذَا النّصُبَ الْمَنْصُوبَ لَا تَنْسُكَنّهُ ... وَلَا تَعْبُدْ الْأَوْثَانَ
وَاَللّهَ فَاعْبُدَا
وَلَا تَقْرَبَنّ حُرّةً كَانَ سِرّهَا ... عَلَيْك حَرَامًا فَانْحَكَنْ أَوْ
تَأَبّدَا
وَذَا الرّحِمِ الْقُرْبَى فَلَا تَقْطَعَنّهُ ... لِعَاقِبَةِ وَلَا الْأَسِيرَ
الْمُقَيّدَا
وَسَبّحْ عَلَى حِينِ الْعَشِيّاتِ وَالضّحَى ... وَلَا تَحْمَدْ الشّيْطَانَ
وَاَللّهَ فَاحْمَدَا
وَلَا تَسْخَرَا مِنْ بَائِسٍ ذِي ضَرَارَةٍ ... وَلَا تَحْسِبَنّ الْمَالَ
لِلْمَرْءِ مُخْلِدَا
مُصِيرُ الْأَعْشَى
[ ص 176 ] كَانَ بِمَكّةَ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا ، اعْتَرَضَهُ بَعْضُ
الْمُشْرِكِينَ مِنْ قُرَيْشٍ ، فَسَأَلَهُ عَنْ أَمْرِهِ فَأَخْبَرَهُ أَنّهُ
جَاءَ يُرِيدُ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِيُسْلِمَ
فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا بَصِيرٍ ، إنّهُ يُحَرّمُ الزّنَا ، فَقَالَ الْأَعْشَى :
وَاَللّهِ إنّ ذَلِكَ لَأَمْرٌ مَا لِي فِيهِ مِنْ أَرَبٍ فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا
بَصِيرٍ ، فَإِنّهُ يُحَرّمُ الْخَمْرَ فَقَالَ الْأَعْشَى : أَمّا هَذِهِ
فَوَاَللّهِ إنّ فِي النّفْسِ مِنْهَا لَعُلَالَاتٍ وَلَكِنّي مُنْصَرِفٌ
فَأَتَرَوّى مِنْهَا عَامِي هَذَا ، ثُمّ آتِيهِ فَأُسْلِمُ . فَانْصَرَفَ فَمَاتَ
فِي عَامِهِ ذَلِكَ وَلَمْ يَعُدْ إلَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ .Sالْأَعْشَى
وَدَالِيّتُهُ وَحَمْزَةُ وَالشّرَفُ
فَصْلٌ
وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ حَدِيثَ الْأَعْشَى وَقَصِيدَتَهُ إلَى آخِرِهَا ، فَلَمّا
كَانَ قَرِيبًا مِنْ مَكّةَ لَقِيَهُ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ إلَى أَيْنَ
يَا أَبَا بِصَيْرِ ؟ الْحَدِيثَ وَذَكَرَ تَحْرِيمَهُ الْخَمْرَ وَتَحْرِيمَهُ [
ص 172 ] وَقَوْلُ الْأَعْشَى : أَمّا الْخَمْر فَفِي النّاسِ مِنْهَا عُلَالَاتٌ
وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ هِشَامٍ : كَانَ الْقَائِلُ لِلْأَعْشَى هَذِهِ الْمَقَالَةُ
أَبُو جُهّلَ . قَالَهَا فِي دَارِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ ، وَكَانَ نَازِلًا
عِنْدَهُ قَالَ الْمُؤَلّفُ وَهَذِهِ غَفْلَةٌ مِنْ ابْنِ هِشَامٍ ، وَمَنْ قَالَ
بِقَوْلِهِ فَإِنّ النّاسَ مُجْمِعُونَ عَلَى أَنّ الْخَمْرَ لَمْ يَنْزِلْ
تَحْرِيمُهَا إلّا بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ أَنْ مَضَتْ بَدْرٌ وَأُحُدٌ ،
وَحُرّمَتْ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَهِيَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ وَفِي
الصّحِيحَيْنِ مِنْ ذَلِكَ قِصّةُ حَمْزَةَ حِينَ شَرِبَهَا وَغَنّتْهُ
الْقَيْنَتَانِ أَلَا يَا حَمْزَ لِلشّرُفِ النّوَاءِ فَبَقَرَ خَوَاصِرَ
الشّارِفَيْنِ وَاجْتَنَبَ أَسْنِمَتَهَا . وَقَوْلُهُ لِلنّبِيّ عَلَيْهِ
السّلَامُ هَلْ أَنْتُمْ إلّا عَبِيدٌ لِآبَائِي ، وَهُوَ ثَمِلٌ . الْحَدِيثُ
بِطُولِهِ . فَإِنْ صَحّ خَبَرُ الْأَعْشَى ، وَمَا ذُكِرَ لَهُ فِي الْخَمْرِ
فَلَمْ يَكُنْ هَذَا بِمَكّةَ ، وَإِنّمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ ، وَيَكُونُ
الْقَائِلُ لَهُ أَمَا عَلِمْت أَنّهُ يُحَرّمُ الْخَمْرَ مِنْ الْمُنَافِقِينَ
أَوْ مِنْ الْيَهُودِ ، فَاَللّهُ أَعْلَمُ . وَفِي الْقَصِيدَةِ مَا يَدُلّ عَلَى
هَذَا قَوْلِهِ فَإِنّ لَهَا فِي أَهْلِ يَثْرِبَ مَوْعِدًا ، وَقَدْ أَلْفَيْت
لِلْقَالِي رِوَايَةً عَنْ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ لَقِيَ
الْأَعْشَى عَامِرَ بْنَ الطّفَيْلِ فِي بِلَادِ قَيْسٍ ، وَهُوَ مُقْبِلٌ إلَى
رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَذَكَرَ لَهُ أَنّهُ يُحَرّمُ
الْخَمْرَ فَرَجَعَ فَهَذَا أَوْلَى بِالصّوَابِ وَقَوْلُ الْأَعْشَى : أَتَرَوّى
مِنْهَا هَذَا الْعَامَ ثُمّ أَعُودُ فَأَسْلَمَ لَا يُخْرِجُهُ عَنْ الْكُفْرِ
بِإِجْمَاعِ قَالَ الْإِسْفَرَايِينِي فِي عَقِيدَتِهِ إذَا قَالَ الْمُؤْمِنُ
سَأُكَفّرُ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَد ، فَهُوَ كَافِرٌ لِحِينِهِ بِإِجْمَاعِ وَإِذَا
قَالَ الْكَافِرُ سَأُومِنُ غَدًا ، أَوْ بَعْدُ فَهُوَ عَلَى كُفْرِهِ لَا
يُخْرِجُهُ عَنْ حُكْمِ الْكُفْرِ إلّا إيمَانَهُ إذَا آمَنَ وَلَا خِلَافَ فِي
هَذَا وَاَللّهُ الْمُسْتَعَانُ . وَقَوْلُهُ أَلَمْ تَغْتَمِضْ عَيْنَاك لَيْلَةَ
أَرْمَدَا
لَمْ يَنْصِبْ لَيْلَةً عَلَى الظّرْفِ لِأَنّ ذَلِكَ يُفْسِدُ مَعْنَى الْبَيْتِ
وَلَكِنْ أَرَادَ الْمَصْدَرَ فَحَذَفَهُ وَالْمَعْنَى : اغْتِمَاضُ لَيْلَةَ
أَرْمَدَ فَحَذَفَ الْمُضَافَ إلَى اللّيْلَةِ وَأَقَامَهَا مَقَامَهُ فَصَارَ
إعْرَابُهَا كَإِعْرَابِهِ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْبَيْتُ لَيْلُك بِالْكَافِ
وَمَعْنَاهُ غَمْضُ أَرْمَدَ وَقِيلَ بَلْ أَرْمَدُ عَلَى هَذِهِ الرّوَايَةِ مِنْ
صِفّةِ اللّيْلِ أَيْ حَالٌ مِنْهُ عَلَى الْمَجَازِ كَمَا تَقُولُ لَيْلُك
سَاهِرٌ . وَقَوْلُهُ تَنَاسَيْت قَبْلَ الْيَوْمِ خُلّةَ مُهَدّدَا
[ ص 173 ] كَانَ أَوّلُهَا مِيمًا أَوْ هَمْزَةً فَحَمَلَهَا عَلَى الزّيَادَةِ
إلّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى أَنّهَا أَصْلِيّةٌ وَالدّلِيلُ عَلَى هَذِهِ
الْكَلِمَةِ ظُهُورُ التّضْعِيفِ فِي الدّالِ إذْ لَوْ كَانَتْ الْمِيمُ زَائِدَةً
لَمَا ظَهَرَ التّضْعِيفُ وَلَقُلْت فِيهِ مَهَدّ كَمَا تَقُولُ مَرَدّ وَمَكَرّ
وَمَفَرّ فِي كُلّ مَا وَزْنُهُ مَفْعَل مِنْ الْمُضَاعَفِ وَإِنّمَا الدّالُ فِي
مُهَدّدٌ ضُوعِفَتْ لِيَلْحَقَ بِبِنَاءِ جَعْفَرٍ . وَقَوْلُهُ إذَا خِلْت
حِرْبَاءُ الظّهِيرَةِ أَصْيَدَا
وَالْأَصْيَدُ الْمَائِلُ الْعُنُقِ وَلَمّا كَانَتْ الْحِرْبَاءُ تَدُورُ
بِوَجْهِهَا مَعَ الشّمْسِ كَيْفَمَا دَارَتْ كَانَتْ فِي وَسَطِ السّمَاءِ فِي
أَوّلِ الزّوَالِ كَالْأَصِيدِ وَذَلِكَ أَحَرّ مَا تَكُونُ الرّمْضَاءُ . يَصِفُ
نَاقَتَهُ بِالنّشَاطِ وَقُوّةِ الْمَشْيِ فِي ذَلِكَ الْوَقْت . وَقَوْلُهُ
خِنَافًا لَيّنًا . فِي الْعَيْن : خَنِفَتْ النّاقَةُ تَخْنِفُ بِيَدَيْهَا فِي
السّيْرِ إذَا مَالَتْ بِهِمَا نَشَاطًا ، وَنَاقَةٌ خَنُوفٌ قَالَ الرّاجِزُ
إنّ الشّوَاءَ وَالنّسِيلَ وَالرّغُفْ ... وَالْقَيْنَةَ الْحَسْنَاءَ وَالْكَأْسَ
الْأُنُفْ
لِلظّاعِنِينَ الْخَيْلَ وَالْخَيْلُ خُلُفٌ
وَقَوْله : لَيّنًا غَيْرَ أَحْرَدَا ، أَيْ تَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ حَرَدٍ
فِي يَدَيْهَا ، أَيْ اعْوِجَاجٌ وَالنّجَيْرُ وَصَرْخَدُ بَلَدَانِ وَأَهْلُ
النّجَيْرِ أَوّلُ مَنْ ارْتَدّ فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ بَعْدَ أَهْلِ دَبّا
وَكَانَ أَهْل دُبّا قَدْ [ ص 174 ] أُسَيْدٍ وَحَاصَرَ أَهْلَ النّجَيْرِ زِيَادُ
بْنُ لَبِيدٍ بِأَمْرِ أَبِي بَكْرٍ ، حَتّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ . وَأَمّا
صَرْخَدُ فَبَلَدٌ طَيّبُ الْأَعْنَابِ وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ الْخَمْرُ
الصّرْخَدِيّةُ . وَفِي الْأَمَالِي : وَلَذّ كَطَعْمِ الصّرْخَدِيّ تَرَكْته .
وَقَوْلُهُ وَآلَيْت لَا آوِي لَهَا مِنْ كَلَالَةٍ
وَلَا مِنْ وَجَى ، أَيْ لَا أَرْقِ لَهَا ، يُقَالُ آوَيْت لِلضّعِيفِ إيّة
وَمَأْوِيَة إذَا رَقّتْ لَهُ كَبِدُك . وَقَوْلُهُ أَغَارَ لَعَمْرِي فِي
الْبِلَادِ وَأَنْجَدَا
الْمَعْرُوفُ فِي اللّغَةِ غَارَ وَأَنْجَدَ وَقَدْ أَنْشَدُوا هَذَا الْبَيْتَ
لَعَمْرِي غَارَ فِي الْبِلَادِ وَأَنْجَدَا
. وَالْغَوْرُ : مَا انْخَفَضَ مِنْ الْأَرْضِ وَالنّجْدُ مَا ارْتَفَعَ مِنْهَا ،
وَإِنّمَا تَرَكُوا الْقِيَاسَ فِي الْغَوْرِ ، وَلَمْ يَأْتِ عَلَى أَفْعَلَ إلّا
قَلِيلًا ، وَكَانَ قِيَاسُهُ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ أَنْجَدَ وَأَتْهَمَ لِأَنّهُ
مِنْ أُمّ الْغَوْرِ ، فَقَدْ هَبَطَ وَنَزَلَ فَصَارَ مِنْ بَابِ غَارَ الْمَاءُ
وَنَحْوُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَدْت : أَشْرَفَ عَلَى الْغَوْرِ ، قُلْت : أَغَارَ
وَلَا يَكُونُ خَارِجًا عَنْ الْقِيَاسِ . وَقَوْلُهُ وَلَيْسَ عَطَاءُ الْيَوْمِ
مَانِعَهُ غَدًا
مَعْنَاهُ عَلَى رَفْعِ الْعَطَاءِ وَنَصْبِ مَانِعٍ أَيْ لَيْسَ الْعَطَاءُ
الّذِي يُعْطِيهِ الْيَوْمَ مَانِعًا لَهُ غَدًا مِنْ أَنْ يُعْطِيَهُ فَالْهَاءُ
عَائِدَةٌ عَلَى الْمَمْدُوحِ فَلَوْ كَانَتْ عَائِدَةً عَلَى الْعَطَاءِ لَقَالَ
وَلَيْسَ عَطَاءُ الْيَوْمِ مَانِعَهُ هُوَ بِإِبْرَازِ الضّمِيرِ الْفَاعِلِ
لِأَنّ الصّفَةَ إذَا جَرَتْ عَلَى غَيْرِ مَنْ هِيَ لَهُ بَرَزَ الضّمِيرُ
الْمُسْتَتِرُ بِخِلَافِ الْفِعْلِ وَذَلِكَ لِسِرّ بَيّنّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا
الْمَوْضِعِ لَمْ يَذْكُرْهُ النّاسُ وَلَوْ نُصِبَ الْعَطَاءُ لَجَازَ عَلَى
إضْمَارِ الْفِعْلِ الْمَتْرُوكِ إظْهَارُهُ لِأَنّهُ مِنْ بَابِ اشْتِغَالِ
الْفِعْلِ عَنْ الْمَفْعُولِ بِضَمِيرِهِ وَيَكُونُ اسْمُ لَيْسَ عَلَى هَذَا
مُضْمَرًا فِيهَا عَائِدًا عَلَى النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ . [ ص
175 ] فَانْكَحَنْ أَوْ تَأَبّدَا . يُرِيدُ أَوْ تَرَهّبَ لِأَنّ الرّاهِبَ
أَبَدًا عَزَبٌ فَقِيلَ لَهُ مُتَأَبّدًا اُشْتُقّ مِنْ لَفْظِ الْأَبَدِ .
وَقَوْلُهُ فَاَللّهَ فَاعْبُدَا ، وَقَفَ عَلَى النّونِ الْخَفِيفَةِ بِالْأَلِفِ
وَكَذَلِكَ فَانْكَحَنْ أَوْ تَأَبّدَا ، وَلِذَلِكَ كَتَبْت فِي الْخَطّ بِأَلْفِ
لِأَنّ الْوُقْفَ عَلَيْهَا بِالْأَلِفِ وَقَدْ قِيلَ فِي مِثْلِ هَذَا : إنّهُ
لَمْ يَرُدّ النّونَ الْخَفِيفَةَ وَإِنّمَا خَاطَبَ الْوَاحِد بِخِطَابِ
الِاثْنَيْنِ وَزَعَمُوا أَنّهُ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ، وَأَنْشَدُوا
فِي ذَلِكَ
فَإِنْ تَزْجُرَانِي يَا ابْنَ عَفّانَ أَزْدَجِرُ ... وَإِنْ تَدَعَانِي أَحْمِ
عِرْضًا مُمَنّعًا
وَأَنْشَدُوا أَيْضًا فِي هَذَا الْمَعْنَى :
وَقُلْت لِصَاحِبِي : لَا تَحْبِسَانَا ... بِنَزْعِ أُصُولِهَا وَاجْتَثّ شِيحَا
وَلَا يُمْكِنُ إرَادَةُ النّونِ الْخَفِيفَةِ فِي هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ
لِأَنّهَا لَا تَكُونُ أَلِفًا ، إلّا فِي الْوَقْفِ وَهَذَا الْفِعْلُ قَدْ اتّصَلَ
بِهِ الضّمِيرُ فَلَا يَصِحّ اعْتِقَادُ الْوُقْفِ عَلَيْهِ دُونَ الضّمِيرِ
وَحُكِيَ أَنّ الْحَجّاجِ قَالَ يَا حَرَسِي اضْرِبَا عُنُقَهُ وَقَدْ يُمْكِنُ
فِيهِ حَمْلُ الْوَصْلِ عَلَى الْوَقْفِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدُ اضْرِبْ أَنْتَ
وَصَاحِبُك : وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { أَلْقِيَا فِي جَهَنّمَ }
إنّ الْخِطَابَ لِمَالِكِ وَحْدَهُ حَمْلًا عَلَى هَذَا الْبَابِ وَقِيلَ بَلْ
هُوَ رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : { سَائِقٌ وَشَهِيدٌ } وَفِي الْقَصِيدَةِ
زِيَادَةٌ لَمْ تَقَعْ فِي رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ وَهِيَ قَوْلُهُ فِي وَصْفِ
النّاقَةِ
فَأَمّا إذَا مَا أَدْلَجَتْ فَتَرَى لَهَا ... رَقِيبَيْنِ نَجْمًا لَا يَغِيبُ
وَفَرْقَدَا
[ ص 176 ] وَقَعَ هَذَا الْبَيْتُ بَعْدَ قَوْلِهِ لَيّنًا غَيْرَ أَحْرَدَا .
وَقَوْلُهُ فِي صِفّةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَغَارَ لَعَمْرِي
فِي الْبِلَادِ وَأَنْجَدَا
وَبَعْدَهُ
بِهِ أَنْقَذَ اللّهُ الْأَنَامَ مِنْ الْعَمَى ... وَمَا كَانَ فِيهِمْ مَنْ
يَرِيعُ إلَى هُدَى
ذِلّةُ
أَبِي جَهْلٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ كَانَ عَدُوّ اللّهِ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ
مَعَ عَدَاوَتِهِ لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَبُغْضُهُ
إيّاهُ وَشِدّتُهُ عَلَيْهِ يُذِلّهُ اللّهُ لَهُ إذَا رَآهُ .
أَبُو جَهْلٍ وَالْإِرَاشِيّ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : حَدّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي
سُفْيَانَ الثّقَفِيّ وَكَانَ وَاعِيَةً قَالَ قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ إرَاشَ - قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ : وَيُقَالُ إرَاشَةُ - بِإِبِلِ لَهُ مَكّةَ ، فَابْتَاعَهَا
مِنْهُ أَبُو جَهْلٍ فَمَطَلَهُ بِأَثْمَانِهَا . فَأَقْبَلَ الْإِرَاشِيّ حَتّى
وَقَفَ عَلَى نَادٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، وَرَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ جَالِسٌ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ مَنْ
رَجُلٌ يُؤَدّينِي عَلَى أَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ فَإِنّي رَجُلٌ غَرِيبٌ
ابْنُ سَبِيلٍ وَقَدْ غَلَبَنِي عَلَى حَقّي ؟ : فَقَالَ لَهُ أَهْلُ ذَلِكَ
الْمَجْلِسِ أَتَرَى ذَلِكَ الرّجُلَ الْجَالِسَ - لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُمْ يَهْزَءُونَ بِهِ لِمَا يَعْلَمُونَ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ أَبِي جَهْلٍ مِنْ الْعَدَاوَةِ - اذْهَبْ إلَيْهِ فَإِنّهُ يُؤَدّيك عَلَيْهِ
[ ص 177 ] فَأَقْبَلَ الْإِرَاشِيّ حَتّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ يَا عَبْدَ اللّهِ إنّ أَبَا الْحَكَمِ بْنَ
هِشَامٍ قَدْ غَلَبَنِي عَلَى حَقّ لِي قِبَلَهُ وَأَنَا غَرِيبٌ ابْنُ سَبِيلٍ
وَقَدْ سَأَلْت هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ عَنْ رَجُلٍ يُؤَدّينِي عَلَيْهِ يَأْخُذُ لِي
حَقّي مِنْهُ فَأَشَارُوا لِي إلَيْك ، فَخُذْ لِي حَقّي مِنْهُ يَرْحَمْك اللّهُ
، قَالَ انْطَلِقْ إلَيْهِ وَقَامَ مَعَهُ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - فَلَمّا رَأَوْهُ قَامَ مَعَهُ قَالُوا لِرَجُلِ مِمّنْ مَعَهُمْ
اتّبِعْهُ فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُ . قَالَ وَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حَتّى جَاءَهُ فَضَرَبَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَقَالَ مَنْ
هَذَا ؟ قَالَ مُحَمّدٌ فَاخْرُجْ إلَيّ فَخَرَجَ إلَيْهِ وَمَا فِي وَجْهِهِ مِنْ
رَائِحَةٍ قَدْ انْتَقَعَ لَوْنُهُ فَقَالَ أَعْطِ هَذَا الرّجُلَ حَقّهُ قَالَ
نَعَمْ لَا تَبْرَحْ حَتّى أُعْطِيَهُ الّذِي لَهُ قَالَ فَدَخَلَ فَخَرَجَ
إلَيْهِ بِحَقّهِ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ . قَالَ ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَقَالَ لِلْإِرَاشِيّ الْحَقْ بِشَأْنِك ،
فَأَقْبَلَ الْإِرَاشِيّ حَتّى وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ الْمَجْلِسِ فَقَالَ جَزَاهُ
اللّهُ خَيْرًا ، فَقَدْ وَاَللّهِ أَخَذَ لِي حَقّي . قَالَ وَجَاءَ الرّجُلُ
الّذِي بَعَثُوا مَعَهُ فَقَالُوا : وَيْحَك مَاذَا رَأَيْت ؟ قَالَ عَجَبًا مِنْ
الْعَجَبِ وَاَللّهِ مَا هُوَ إلّا أَنْ ضَرَبَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَخَرَجَ إلَيْهِ
وَمَا مَعَهُ رُوحُهُ فَقَالَ لَهُ أَعْطِ هَذَا حَقّهُ فَقَالَ نَعَمْ لَا
تَبْرَحْ حَتّى أُخْرِجَ إلَيْهِ حَقّهُ فَدَخَلَ فَخَرَجَ إلَيْهِ بِحَقّهِ
فَأَعْطَاهُ إيّاهُ . قَالَ ثُمّ لَمْ يَلْبَثْ أَبُو جَهْلٍ أَنْ جَاءَ فَقَالُوا
لَهُ وَيْلَك مَا لَك ؟ وَاَللّهِ مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَنَعْت قَطّ قَالَ
وَيْحَكُمْ وَاَللّهِ مَا هُوَ إلّا أَنْ ضَرَبَ عَلَيّ بَابِي ، وَسَمِعْت
صَوْتَهُ فَمُلِئْت رُعْبًا ، ثُمّ خَرَجْت إلَيْهِ وَإِنّ فَوْقَ رَأْسِهِ
لَفَحْلًا مِنْ الْإِبِلِ مَا رَأَيْت مِثْلَ هَامَتِهِ وَلَا قَصَرَتِهِ وَلَا
أَنْيَابِهِ لِفَحْلِ قَطّ ، وَاَللّهِ لَوْ أَبَيْت لَأَكَلَنِيSحَدِيثُ
الْإِرَاشِيّ
فَصْلٌ وَذَكَرَ حَدِيثَ الْإِرَاشِيّ الّذِي قَدِمَ مَكّةَ ، وَاسْتَعْدَى عَلَى
أَبِي جَهْلٍ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : هُوَ مِنْ إرَاشَ وَهُوَ ابْنُ الْغَوْثِ
أَوْ ابْنُ عَمْرِو ، بْنِ الْغَوْثِ بْنِ نَبْت بْنِ [ ص 177 ] مَالِكِ بْنِ
زَيْدِ بْنِ كَهْلَانَ بْنِ سَبَأٍ ، وَهُوَ وَالِدُ أَنْمَارٍ الّذِي وَلَدَ
بَحِيلَةَ وَخَثْعَمَ . وَإِرَاشَةَ الّذِي ذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ : بَطْنٌ مِنْ
خَثْعَمَ ، وَإِرَاشَةُ مَذْكُورَةٌ فِي الْعَمَالِيقِ فِي نَسَبِ فِرْعَوْنَ
صَاحِبِ مِصْرَ ، وَفِي بَلِيّ أَيْضًا بَنُو إرَاشَةَ وَقَوْلُهُ مِنْ [ رَجُلٍ ]
يُؤَدّينِي عَلَى أَبِي الْحَكَمِ أَيْ يُعِينُنِي عَلَى أَخْذِ حَقّي مَعَهُ
وَهُوَ مِنْ الْأَدَاةِ الّتِي تُوَصّلُ الْإِنْسَانَ إلَى مَا يُرِيدُ كَأَدَاةِ
الْحَرْبِ وَأَدَاةِ الصّانِعِ فَالْحَاكِمُ يُؤَدّي الْخَصْمَ أَيْ يُوَصّلُهُ
إلَى مَطْلَبِهِ وَقَدْ قِيلَ إنّ الْهَمْزَةَ بَدَلٌ مِنْ عَيْنٍ وَيُؤَدّي
وَبَعْدِي بِمَعْنَى وَاحِدٍ أَيْ يُزِيلُ الْعُدْوَانَ وَالْعَدَاءَ وَهُوَ
الظّلْمُ كَمَا تَقُولُ هُوَ يُشْكِيك أَيْ يُزِيلُ شَكْوَاك ، وَفِي حَدِيثِ
خَبّابٍ شَكَوْنَا إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حَرّ
الرّمْضَاءِ فَلَمْ يُشْكِنَا مَعْنَاهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَمْ يَرْفَعْ
شَكَوَانَا وَلَمْ يُزِلْهَا . وَقَوْلُهُ فَخَرَجَ إلَيْهِ وَمَا فِي وَجْهِهِ
رَائِحَةٌ أَيْ بَقِيّةُ رُوحٍ فَكَانَ مَعْنَاهُ رُوحٌ بَاقِيَةٌ فَلِذَلِكَ
جَاءَ بِهِ عَلَى وَزْنِ فَاعِلِهِ وَالدّلِيلُ عَلَى أَنّهُ أَرَادَ مَعْنَى
الرّوحِ وَإِنْ جَاءَ بِهِ عَلَى بِنَاءِ فَاعِلَة قَوْلُ الْإِرَاشِيّ فِي آخِرِ
الْحَدِيثِ خَرَجَ إلَيّ وَمَا عِنْدَهُ رُوحُهُ .
رُكَانَةُ
وَمُصَارَعَتُهُ
[ ص 178 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي أَبِي إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ ،
قَالَ كَانَ رُكَانَةُ بْنُ عَبْدِ يَزِيدَ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ
بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ أَشَدّ قُرَيْشٍ ، فَخَلَا يَوْمًا بِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِي بَعْضِ شِعَابِ مَكّةَ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَا رُكَانَةُ أَلَا تَتّقِي اللّهَ ،
وَتَقْبَلُ مَا أَدْعُوك إلَيْهِ ؟ قَالَ إنّي لَوْ أَعْلَمُ أَنّ الّذِي تَقُولُ
حَقّ لَاتّبَعْتُك ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
أَفَرَأَيْت إنْ صَرَعْتُك ، أَتَعْلَمُ أَنّ مَا أَقُولُ حَقّ ؟ قَالَ نَعَمْ
قَالَ فَقُمْ حَتّى أُصَارِعَك . قَالَ فَقَامَ إلَيْهِ رُكَانَةُ يُصَارِعُهُ
فَلَمّا بَطَشَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
أَضْجَعَهُ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا ، ثُمّ قَالَ عُدْ يَا
مُحَمّدُ فَعَادَ فَصَرَعَهُ فَقَالَ يَا مُحَمّدُ وَاَللّهِ إنّ هَذَا لَلْعَجَبُ
أَتَصْرَعُنِي فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَأَعْجَبُ
مِنْ ذَلِكَ إنْ شِئْت أَنْ أُرِيكَهُ إنْ اتّقَيْت اللّهَ وَاتّبَعْت أَمْرِي ،
قَالَ مَا هُوَ ؟ قَالَ أَدْعُو لَك هَذِهِ الشّجَرَةَ الّتِي تَرَى فَتَأْتِينِي
، قَالَ اُدْعُهَا ، فَدَعَاهَا ، فَأَقْبَلَتْ حَتّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ
رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ فَقَالَ لَهَا :
ارْجِعِي إلَى مَكَانِك . قَالَ فَرَجَعَتْ إلَى مَكَانِهَا قَالَ فَذَهَبَ
رُكَانَةُ إلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ سَاحِرُوا
بِصَاحِبِكُمْ أَهْلَ الْأَرْضِ فَوَاَللّهِ مَا رَأَيْت أَسْحَرَ مِنْهُ قَطّ ،
ثُمّ أَخْبَرَهُمْ بِاَلّذِي رَأَى ، وَاَلّذِي صَنَعَ [ ص 179 ]Sمُصَارَعَةُ
رُكَانَةَ
[ ص 178 ] عَبْدِ الْمُطّلِبِ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ وَتُوُفّيَ فِي خِلَافَةِ
مُعَاوِيَةَ وَهُوَ الّذِي طَلّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتّةَ فَسَأَلَهُ رَسُولُ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَنْ نِيّتِهِ فَقَالَ إنّمَا أَرَدْت
وَاحِدَةً فَرَدّهَا عَلَيْهِ وَمِنْ حَدِيثِهِ عَنْ النّبِيّ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهُ قَالَ إنّ لِكُلّ دِينٍ خُلُقًا ، وَخُلُقُ هَذَا
الدّينِ الْحِيَاءُ وَلِابْنِهِ يَزِيدَ بْنِ رُكَانَةَ صُحْبَةٌ أَيْضًا ،
وَيُرْوَى عَنْ يَزِدْ بْنِ رُكَانَةَ ابْنِهِ عَلِيّ ، وَكَانَ عَلِيّ قَدْ
أَعْطَى مِنْ الْأَيْدِ وَالْقُوّةِ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ ، نَزَعَ فِي ذَلِكَ
إلَى جَدّ رُكَانَةَ وَلَهُ فِي ذَلِكَ أَخْبَارٌ ذَكَرَهَا الْفَاكِهِيّ ،
مِنْهَا : خَبَرُهُ مَعَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وَكَانَ يَزِيدُ بْنُ
مُعَاوِيَةَ مِنْ أَشَدّ الْعَرَبِ ، فَصَارَعَهُ يَوْمًا ، فَصَرَعَهُ عَلِيّ
صَرْعَةً لَمْ يُسْمَعْ بِمِثْلِهَا ، ثُمّ حَمَلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى فَرَسٍ
جَمُوحٍ لَا يَطْلِقُ فَعَلِمَ عَلِيّ مَا يُرَادُ بِهِ فَلَمّا جَمَحَ بِهِ
الْفَرَسُ ضَمّ عَلَيْهِ فَخِذَيْهِ ضَمّةً نَفَقَ مِنْهَا الْفَرَسُ ، وَذُكِرَ
عَنْهُ أَيْضًا أَنّهُ تَأَبّطَ رِجْلَيْنِ أَيّدَيْنِ ثُمّ جَرَى بِهِمَا ،
وَهُمَا تَحْتَ إبْطَيْهِ حَتّى صَاحَا : الْمَوْتَ الْمَوْتَ فَأَطْلَقَهُمَا .
قُدُومُ
وَفْدِ النّصَارَى مِنْ الْحَبَشَةِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : ثُمّ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - وَهُوَ بِمَكّةَ - عِشْرُونَ رَجُلًا ، أَوْ قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ مِنْ
النّصَارَى ، حِينَ بَلَغَهُمْ خَبَرُهُ مِنْ الْحَبَشَةِ ، فَوَجَدُوهُ فِي
الْمَسْجِدِ فَجَلَسُوا إلَيْهِ وَكَلّمُوهُ وَسَأَلُوهُ وَرِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ
فِي أَنْدِيَتِهِمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ ، فَلَمّا فَرَغُوا مِنْ مَسْأَلَةِ
رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَمّا أَرَادُوا ، دَعَاهُمْ
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى اللّهِ - عَزّ وَجَلّ -
وَتَلَا عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ فَلَمّا سَمِعُوا الْقُرْآنَ فَاضَتْ أَعْيُنُهُمْ
مِنْ الدّمْعِ ثُمّ اسْتَجَابُوا لِلّهِ وَآمَنُوا بِهِ وَصَدّقُوهُ وَعَرَفُوا
مِنْهُ مَا كَانَ يُوصَفُ لَهُمْ فِي كِتَابِهِمْ مِنْ أَمْرِهِ . فَلَمّا قَامُوا
عَنْهُ اعْتَرَضَهُمْ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ ،
فَقَالُوا لَهُمْ خَيّبَكُمْ اللّهُ مِنْ رَكْبٍ بَعَثَكُمْ مَنْ وَرَاءَكُمْ مِنْ
أَهْلِ دِينِكُمْ تَرْتَادُونَ لَهُمْ لِتَأْتُوهُمْ بِخَبَرِ الرّجُلِ فَلَمْ
تَطْمَئِنّ مَجَالِسُكُمْ عِنْدَهُ حَتّى فَارَقْتُمْ دِينَكُمْ وَصَدّقْتُمُوهُ
بِمَالِ مَا نَعْلَمُ رَكْبًا أَحْمَقَ مِنْكُمْ أَوْ كَمَا قَالُوا ، فَقَالُوا
لَهُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نُجَاهِلُكُمْ لَنَا مَا نَحْنُ عَلَيْهِ وَلَكُمْ
مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ لَمْ نَأْلُ أَنْفُسَنَا خَيْرًا . وَيُقَالُ إنّ النّفَرَ
مِنْ النّصَارَى مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ ، فَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيْ ذَلِكَ كَانَ .
فَيُقَالُ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - فِيهِمْ نَزَلَتْ هَؤُلَاءِ الْآيَات : {
الّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا
يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنّا بِهِ إِنّهُ الْحَقّ مِنْ رَبّنَا إِنّا كُنّا
مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } إلَى قَوْلِهِ { لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ
أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ } [ الْقَصَصُ 52 -
55 ] . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ سَأَلْت ابْنَ شِهَابٍ الزّهْرِيّ عَنْ
هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ فِيمَنْ أُنْزِلْنَ فَقَالَ لِي : مَا سُمِعَ عَنْ
عَلْمَائِنَا أَنّهُنّ أُنْزِلْنَ فِي النّجَاشِيّ وَأَصْحَابِهِ وَالْآيَةُ مِنْ
سُورَةِ الْمَائِدَةِ [ ص 180 ] { ذَلِكَ بِأَنّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبَانًا
وَأَنّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ } إلَى قَوْله : { فَاكْتُبْنَا مَعَ الشّاهِدِينَ
} [ الْمَائِدَةُ 82 ، 83 ] . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إذَا جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ فَجَلَسَ إلَيْهِ
الْمُسْتَضْعَفُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ خَبّابٌ وَعَمّارٌ وَأَبُو فُكَيْهَةُ
يَسَارٌ مَوْلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ مُحَرّثٍ ، وصهيب ، وَأَشْبَاهُهُمْ
مِنْ الْمُسْلِمِينَ هَزِئَتْ بِهِمْ قُرَيْشٌ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ
هَؤُلَاءِ أَصْحَابُهُ كَمَا تَرَوْنَ أَهَؤُلَاءِ مَنّ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ
بَيْنِنَا بِالْهُدَى وَالْحَقّ لَوْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمّدٌ خَيْرًا مَا
سَبَقَنَا هَؤُلَاءِ إلَيْهِ وَمَا خَصّهُمْ اللّهُ بِهِ دُونَنَا . فَأَنْزَلَ
اللّهُ تَعَالَى فِيهِمْ { وَلَا تَطْرُدِ الّذِينَ يَدْعُونَ رَبّهُمْ
بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ
شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ
مِنَ الظّالِمِينَ وَكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ
مَنّ اللّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ
وَإِذَا جَاءَكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ
كَتَبَ رَبّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرّحْمَةَ أَنّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا
بِجَهَالَةٍ ثُمّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [
الْأَنْعَامُ 52 - 54 ] .Sوَفْدُ
نَصَارَى الْحَبَشَةِ
[ ص 179 ] وَذَكَرَ قُدُومَ وَفْدِ النّصَارَى مِنْ الْحَبَشَةِ وَإِيمَانَهُمْ
وَمَا أَنَزَلَ اللّهُ فِيهِمْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى : { الّذِينَ قَالُوا إِنّا
نَصَارَى } وَلَمْ يَقُلْ مِنْ النّصَارَى ، وَلَا سَمّاهُمْ هُوَ سُبْحَانَهُ
بِهَذَا الِاسْمِ وَإِنّمَا حَكَى قَوْلَهُمْ الّذِي قَالُوهُ حِينَ عَرَفُوا
بِأَنْفُسِهِمْ ثُمّ شَهِدَ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَذَكَرَ أَنّهُ أَثَابَهُمْ
الْجَنّةَ وَإِذَا كَانُوا هَكَذَا فَلَيْسُوا بِنَصَارَى ، هُمْ مِنْ أُمّةِ
مُحَمّدٍ - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَإِنّمَا عُرِفَ النّصَارَى بِهَذَا الِاسْمِ
لِأَنّ مَبْدَأَ دِينِهِمْ كَانَ مِنْ نَاصِرَةَ قَرْيَةٍ بِالشّامِ فَاشْتُقّ
اسْمُهُمْ مِنْهُمْ كَمَا اُشْتُقّ اسْمُ الْيَهُودِ مِنْ يَهُودَ بْنِ يَعْقُوبَ
ثُمّ لَا يُقَالُ لِمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ يَهُودِيّ اسْمُ الْإِسْلَامِ أَوْلَى
بِهِمْ جَمِيعًا مِنْ ذَلِكَ النّسَبِ .
وَكَانَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيمَا بَلَغَنِي - كَثِيرًا مَا
يَجْلِسُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ إلَى مَبِيعَةِ غُلَامٍ نَصْرَانِيّ يُقَالُ لَهُ
جَبْرٌ عَبْدٌ لِبَنِي الْحَضْرَمِيّ فَكَانُوا يَقُولُونَ وَاَللّهِ مَا يَعْلَمُ
مُحَمّدًا كَثِيرًا مِمّا يَأْتِي بِهِ إلّا جَبْرٌ النّصْرَانِيّ ، غُلَامُ بَنِي
الْحَضْرَمِيّ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ { وَلَقَدْ
نَعْلَمُ أَنّهُمْ يَقُولُونَ إِنّمَا يُعَلّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الّذِي
يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيّ مُبِينٌ } [ النّحْلُ
103 ] . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : يُلْحِدُونَ إلَيْهِ يَمِيلُونَ وَالْإِلْحَادُ
الْمَيْلُ عَنْ الْحَقّ [ ص 181 ] قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ :
إذَا تَبِعَ الضّحّاكَ كُلّ مُلْحِدٍ
[ وَنَحْنُ ضَرّابُونَ هَامَ الْعُنّدِ ]
ابْنُ هِشَامٍ : يَعْنِي الضّحّاكَ الْخَارِجِيّ ، وَهَذَا الْبَيْتُ فِي
أُرْجُوزَةٍ لَهُ .Sعَنْ
غُلَامِ الْمَبِيعَةِ وَصُهَيْبٍ وَأَبِي فُكَيْهَةَ
[ ص 180 ] ذَكَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - كَانَ
يَجْلِسُ إلَى مَبِيعَةِ غُلَامِ . الْمَبِيعَةِ مَفْعَلَة مِثْلَ الْمَعِيشَةِ
وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُلَة بِضَمّ الْعَيْنِ - وَهُوَ قَوْلُ
الْأَخْفَشِ وَأَمّا قَوْلُهُمْ سِلْعَةٌ مَبِيعَةٌ فَمَفْعُولَةٌ حُذِفَتْ
الْوَاوُ مِنْهَا فِي قَوْلِ سِيبَوَيْهِ حِينَ سَكّنُوا الْيَاءَ اسْتِثْقَالًا
لِلضّمّةِ وَفِي قَوْلِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَخْفَشِ إنّ الْيَاءَ بَدَلٌ مِنْ
الْوَاوِ الزّائِدَةِ فِي مَبْيُوعَة ، وَوَزْنُهَا عِنْدَهُ مَقُولَةٌ بِحَذْفِ
الْعَيْنِ وَلِلْكَلَامِ عَلَى هَذَيْنِ الْمَذْهَبَيْنِ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا .
وَذَكَرَ صُهَيْبًا وَأَبَا فُكَيْهَةَ وَسَنَذْكُرُ اسْمَ أَبِي فُكَيْهَةَ
وَالتّعْرِيفُ بِهِ فِيمَا بَعْدُ لِأَنّهُ بَدْرِيّ ، وَكَذَلِكَ صُهَيْبُ بْنُ
سِنَانٍ ، وَنَقْتَصِرُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ عَلَى ذِكْرِ اسْمِهِ وَهُوَ
يَسَارٌ مَوْلَى عَبْدِ الدّارِ .
سَبَبُ
نُزُولِ سُورَةِ الْكَوْثَرِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ السّهْمِيّ - فِيمَا بَلَغَنِي
- إذَا ذَكَرَ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ دَعُوهُ
فَإِنّمَا هُوَ رَجُلٌ أَبْتَرُ لَا عَقِبَ لَهُ لَوْ مَاتَ لَانْقَطَعَ ذِكْرُهُ
وَاسْتَرَحْتُمْ مِنْهُ فَأَنْزَلَ اللّهُ فِي ذَلِكَ { إِنّا أَعْطَيْنَاكَ
الْكَوْثَرَ } مَا هُوَ خَيْرٌ لَك مِنْ الدّنْيَا وَمَا فِيهَا وَالْكَوْثَرُ :
الْعَظِيمُ [ ص 182 ] [ ص 183 ]Sالْأَبْتَرُ
وَالْكَوْثَرُ
[ ص 181 ] وَذَكَرَ قَوْلَ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ إنّ مُحَمّدًا أَبْتَرُ إذَا
مَاتَ انْقَطَعَ ذِكْرُهُ وَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيهِ قَوْلَهُ مِنْ سُورَةِ
الْكَوْثَرِ عَلَى قَوْلِ ابْنِ إسْحَاقَ ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسّرِينَ . وَقِيلَ
إنّ أَبَا جَهْلٍ هُوَ الّذِي قَالَ ذَلِكَ . وَقَدْ قِيلَ كَعْبُ بْنُ
الْأَشْرَفِ وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْأَخِيرِ أَنْ تَكُونَ سُورَةُ
الْكَوْثَرِ مَدَنِيّةً وَقَدْ رَوَى يُونُسُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللّهِ
الْجُعْفِيّ عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَلِيّ ، قَالَ كَانَ
الْقَاسِمُ ابْنُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَدْ بَلَغَ
أَنْ يَرْكَبَ الدّابّةَ وَيَسِيرَ عَلَى النّجِيبَةِ فَلَمّا قَبَضَهُ اللّهُ
قَالَ الْعَاصِي : أَصْبَحَ مُحَمّدٌ أَبْتَرُ مِنْ ابْنِهِ فَأَنْزَلَ اللّهُ
عَلَى نَبِيّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ { إِنّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ
} عِوَضًا يَا مُحَمّدُ مِنْ مُصِيبَتِك بِالْقَاسِمِ { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ
إِنّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ } وَلَمْ يَقُلْ إنّ شَانِئَك أَبْتَرُ
يَتَضَمّنُ اخْتِصَاصَهُ بِهَذَا الْوَصْفِ لِأَنّ هُوَ فِي مِثْلِ هَذَا
الْمَوْضِعِ تُعْطِي الِاخْتِصَاصَ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ إنّ زَيْدًا
فَاسِقٌ فَلَا يَكُونُ مَخْصُوصًا بِهَذَا الْوَصْفِ دُونَ غَيْرِهِ فَإِذَا قُلْت
: إنّ زَيْدًا هُوَ الْفَاسِقُ فَمَعْنَاهُ هُوَ الْفَاسِقُ الّذِي زَعَمَتْ
فَدَلّ عَلَى أَنّ بِالْحَضْرَةِ مَنْ يَزْعُمُ غَيْرَ ذَلِكَ وَهَكَذَا قَالَ
الْجُرْجَانِيّ وَغَيْرُهُ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنّ هُوَ تُعْطِي
الِاخْتِصَاصَ وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ { وَأَنّهُ هُوَ
أَغْنَى وَأَقْنَى } لَمّا كَانَ الْعِبَادُ يُتَوَهّمُونَ أَنّ غَيْرَ اللّهِ
قَدْ يُغْنِي ، قَالَ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ، أَيْ لَا غَيْرُهُ وَكَذَلِكَ
قَوْلُهُ تَعَالَى : { وَأَنّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } إذْ كَانُوا قَدْ
يَتَوَهّمُونَ فِي الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ مَا تَوَهّمَ النّمْرُودُ حِينَ
قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ أَيْ أَنَا أَقْتُلُ مَنْ شِئْت ، وَأَسْتَحْيِي
مَنْ شِئْت ، فَقَالَ عَزّ وَجَلّ { وَأَنّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } أَيْ لَا
غَيْرُهُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى [ ص 182 ] { وَأَنّهُ هُوَ رَبّ الشّعْرَى
} أَيْ هُوَ الرّبّ لَا غَيْرُهُ إذْ كَانُوا قَدْ اتّخَذُوا أَرْبَابًا مِنْ
دُونِهِ مِنْهَا : الشّعْرَى ، فَلَمّا قَالَ وَإِنّهُ خَلَقَ الزّوْجَيْنِ
وَأَنّهُ أَهْلَكَ عَادًا اسْتَغْنَى الْكَلَامُ عَنْ هُوَ الّتِي تُعْطِي مَعْنَى
الِاخْتِصَاصِ لِأَنّهُ فِعْلٌ لَمْ يَدَعْهُ أَحَدٌ ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا ،
فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ { إِنّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ } أَيْ لَا أَنْتَ .
وَالْأَبْتَرُ الّذِي لَا عَقِبَ لَهُ يَتْبَعُهُ فَعَدَمُهُ كَالْبَتْرِ الّذِي
هُوَ عَدَمُ الذّنْبِ فَإِذَا مَا قُلْت هَذَا ، وَنَظَرْت إلَى الْعَاصِي ،
وَكَانَ ذَا وَلَدٍ وَعَقِبٍ وَوَلَدُهُ عَمْرٌو وَهِشَامٌ ابْنَا الْعَاصِي بْنِ
وَائِلٍ فَكَيْفَ يَثْبُتُ لَهُ الْبَتْرُ وَانْقِطَاعُ الْوَلَدِ وَهُوَ ذُو
وَلَدٍ وَنَسْلٍ وَنَفْيُهُ عَنْ نَبِيّهِ وَهُوَ يَقُولُ { مَا كَانَ مُحَمّدٌ
أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } [ الْأَحْزَابُ : 40 ] الْآيَة . فَالْجَوَابُ
أَنّ الْعَاصِيَ - وَإِنْ كَانَ ذَا وَلَدٍ - فَقَدْ انْقَطَعَتْ الْعِصْمَةُ
بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَلَيْسُوا بِأَتْبَاعِ لَهُ لِأَنّ الْإِسْلَامَ قَدْ
حَجَزَهُمْ عَنْهُ فَلَا يَرِثُهُمْ وَلَا يَرِثُونَهُ وَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ
مُحَمّدٍ عَلَيْهِ السّلَامُ ، وَأَزْوَاجُهُ أُمّهَاتُهُمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ .
كَمَا قَرَأَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ : " وَأَزْوَاجُهُ أُمّهَاتُهُمْ وَهُوَ
أَبٌ لَهُمْ وَالنّبِيّ أَوْلَى بِهِمْ " كَمَا قَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ
فَهُمْ وَجَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ أَتْبَاعُ النّبِيّ فِي الدّنْيَا ،
وَأَتْبَاعُهُ فِي الْآخِرَةِ إلَى حَوْضِهِ وَهَذَا مَعْنَى الْكَوْثَرِ ، وَهُوَ
مَوْجُودٌ فِي الدّنْيَا لِكَثْرَةِ أَتْبَاعِهِ فِيهَا ، لِيُغَذّيَ
أَرْوَاحَهُمْ بِمَا فِيهِ حَيَاتُهُمْ مِنْ الْعِلْمِ وَكَثْرَةِ أَتْبَاعِهِ فِي
الْآخِرَةِ لِيَسْقِيَهُمْ مِنْ حَوْضِهِ مَا فِيهِ الْحَيَاةُ الْبَاقِيَةُ
وَعَدُوّ اللّهِ الْعَاصِي عَلَى هَذَا هُوَ الْأَبْتَرُ عَلَى الْحَقِيقَةِ إذْ
قَدْ انْقَطَعَ ذَنَبُهُ وَأَتْبَاعُهُ وَصَارُوا تَبَعًا لِمُحَمّدِ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَلِذَلِكَ قُوبِلَ تَعْيِيرُهُ لِلنّبِيّ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بِالْبَتْرِ بِمَا هُوَ ضِدّهُ مِنْ الْكَوْثَرِ ؛
فَإِنّ الْكَثْرَةَ تُضَادّ مَعْنَى الْقِلّةِ وَلَوْ قَالَ فِي جَوَابِ اللّعِينِ
إنّا أَعْطَيْنَاك الْحَوْضَ الّذِي مِنْ صِفَتِهِ كَذَا وَكَذَا لَمْ يَكُنْ
رَدّا عَلَيْهِ وَلَا مُشَاكِلًا لِجَوَابِهِ وَلَكِنْ جَاءَ بِاسْمِ يَتَضَمّنُ الْخَيْرَ
الْكَثِيرَ وَالْعَدَدَ الْجَمّ الْغَفِيرَ الْمُضَادّ لِمَعْنَى الْبَتْرِ وَأَنّ
ذَلِكَ فِي الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِسَبَبِ الْحَوْضِ الْمَوْرُودِ الّذِي
أَعْطَاهُ فَلَا يَخْتَصّ لَفْظُ الْكَوْثَرِ بِالْحَوْضِ بَلْ يَجْمَعُ هَذَا
الْمَعْنَى كُلّهُ وَيَشْتَمِلُ عَلَيْهِ وَلِذَلِكَ كَانَتْ آنِيَتُهُ كَعَدَدِ
النّجُومِ وَيُقَال : هَذِهِ الصّفَةُ فِي الدّنْيَا : عُلَمَاءُ الْأُمّةِ مِنْ
أَصْحَابِهِ وَمِنْ بَعْدِهِمْ فَقَدْ قَالَ أَصْحَابِي كَالنّجُومِ وَهُمْ
يَرْوُونَ الْعِلْمَ عَنْهُ وَيُؤَدّونَهُ إلَى مَنْ بَعْدَهُمْ كَمَا تَرْتَوِي
الْآنِيّةُ فِي الْحَوْضِ وَتَسْقِي الْوَارِدَةُ عَلَيْهِ تَقُولُ رَوَيْت
الْمَاءَ أَيْ اسْتَقَيْته كَمَا تَقُولُ رَوَيْت الْعِلْمَ وَكِلَاهُمَا فِيهِ
حَيَاةٌ وَمِنْهُ قِيلَ لِمَنْ رَوَى عِلْمًا أَوْ شِعْرًا : رَاوِيَةً تَشْبِيهًا
بِالْمَزَادَةِ أَوْ الدّابّةِ [ ص 183 ] عَلّامَةٍ وَنَسّابَةٍ وَفِي حَدِيثِ
أَبِي بَرْزَةَ فِي صِفَةِ الْحَوْضِ أَنّهَا تَنْزُو فِي أَكُفّ الْمُؤْمِنِينَ
يَعْنِي الْآنِيّةَ وَحَصْبَاءُ الْحَوْضِ اللّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتِ
وَيُقَابِلُهُمَا فِي الدّنْيَا الْحِكَمُ الْمَأْثُورَةُ عَنْهُ أَلّا تَرَى أَنّ
اللّؤْلُؤَ فِي عِلْمِ التّعْبِيرِ حِكَمٌ وَفَوَائِدُ عِلْمٍ وَفِي صِفَةِ
الْحَوْضِ لَهُ الْمِسْكُ أَيْ حَمْأَتُهُ وَيُقَابِلُهُ فِي الدّنْيَا : طِيبُ
الثّنَاءِ عَلَى الْعُلَمَاءِ وَأَتْبَاعِ النّبِيّ الْأَتْقِيَاءِ كَمَا أَنّ
الْمِسْكَ فِي عِلْمِ التّعْبِيرِ ثَنَاءٌ حَسَنٌ وَعِلْمٌ التّعْبِيرِ مِنْ
عِلْمِ النّبُوءَةِ مُقْتَبَسٌ . وَذَكَرَ فِي صِفَةِ الْحَوْضِ الطّيْرَ الّتِي
تَرُدّهُ كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ وَيُقَابِلُهُ مِنْ صِفَةِ الْعِلْمِ فِي
الدّنْيَا وُرُودُ الطّالِبِينَ مِنْ كُلّ صُقْعٍ وَقُطْرٍ عَلَى حَضْرَةِ
الْعِلْمِ وَانْتِيَابِهِمْ إيّاهَا فِي زَمَنِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - وَبَعْدَهُ فَتَأَمّلْ صِفَةَ الْكَوْثَرِ مَعْقُولَةٌ فِي الدّنْيَا ،
مَحْسُوسَةٌ فِي الْآخِرَةِ مُدْرَكَةٌ بِالْعِيَانِ - هُنَالِكَ يُبَيّنُ لَك
إعْجَازَ التّنْزِيلِ وَمُطَابَقَةَ السّورَةِ - لِسَبَبِ - نُزُولِهَا ،
وَلِذَلِكَ قَالَ فُضَيْل : { فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } أَيْ تَوَاضَعْ لِمَنْ
أَعْطَاك الْكَوْثَرَ بِالصّلَاةِ لَهُ فَإِنّ الْكَثْرَةَ فِي الدّنْيَا
تَقْتَضِي فِي أَكْثَرِ الْخَلْقِ الْكِبْرَ وَتَحْدُو إلَى الْفَخْرِ والمحيرية ،
فَلِذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ السّلَامُ طَأْطَأَ رَأْسَهُ عَام الْفَتْحِ حِينَ
رَأَى كَثْرَةَ أَتْبَاعِهِ وَهُوَ عَلَى الرّاحِلَةِ حَتّى أَلْصَقَ عُثْنُونَهُ
بِالرّحْلِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ رَبّهِ وَكَذَلِكَ أَمَرَهُ بِالنّحْرِ شُكْرًا
لَهُ وَرَفَعَ الْيَدَيْنِ إلَى النّحْرِ فِي الصّلَاةِ عِنْدَ اسْتِقْبَالِ
الْقِبْلَةِ الّتِي عِنْدَهَا يَنْحَرُ وَإِلَيْهَا يَهْدِي مَعْنَاهُ الْجَمْعُ
بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ . النّحْرُ الْمَأْمُورُ بِهِ يَوْمَ الْأَضْحَى ،
وَالْإِشَارَةُ إلَيْهِ فِي الصّلَاةِ بِرَفْعِ الْيَدَيْنِ إلَى النّحْرِ كَمَا
أَنّ الْقِبْلَةَ مَحْجُوجَةٌ مُصَلّى إلَيْهَا ، فَكَذَلِكَ يَنْحَرُ عِنْدَهَا ،
وَيُشَارُ إلَى النّحْرِ عِنْدَ اسْتِقْبَالِهَا ، وَإِلَى هَذَا الْتَفَتَ
عَلَيْهِ السّلَامُ حِينَ قَالَ مَنْ صَلّى صَلَاتَنَا ، وَاسْتَقْبَلَ
قِبْلَتَنَا ، وَنَسَكَ نُسُكَنَا فَهُوَ مُسْلِمٌ وَقَدْ قَالَ اللّهُ
سُبْحَانَهُ { قُلْ إِنّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبّ
الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوّلُ
الْمُسْلِمِينَ } [ الْأَنْعَامُ 162 ، 163 ] فَقَرَنَ بَيْنَ الصّلَاةِ إلَى
الْكَعْبَةِ ، وَالنّسُكِ إلَيْهَا ، كَمَا قَرَنَ بَيْنَهُمَا حِينَ قَالَ {
فَصَلّ لِرَبّكَ وَانْحَرْ } وَذَكَرَ فِي صِفَةِ الْحَوْضِ كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ
وَأَيْلَةَ وَقَدْ جَاءَ فِيهِ أَيْضًا فِي الصّحِيحِ كَمَا بَيْنَ جَرْبَاءَ
وَأَذْرُحَ وَبَيْنَهُمَا مَسَافَةٌ بَعِيدَةٌ وَفِي الصّحِيحِ أَيْضًا فِي
صِفَتِهِ كَمَا بَيْنَ عَدَنِ أَبْيَنَ إلَى عَمّانَ وَقَدْ تَقَدّمَ ذِكْرُ
أَبْيَنَ وَأَنّهُ ابْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَيْمَنَ بْنِ حِمْيَرَ ، وَأَنّ عَدَنَ
سُمّيَتْ بِرَجُلِ مِنْ حَمِيرَ عَدَنَ بِهَا ، أَيْ أَقَامَ وَتَقَدّمَ أَيْضًا
مَا قَالَهُ الطّبَرِيّ أَنّ عَدَنَ وَأَبْيَنَ هُمَا ابْنَا عَدْنَانَ أَخَوَا
مَعَدّ وَأَمّا عَمّانَ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ فَهِيَ بِالشّامِ
قُرْبُ دِمَشْقَ ، سُمّيَتْ بِعَمّانَ بْنِ لُوطِ بْنِ هَارَانَ كَانَ سَكَنَهَا -
فِيمَا ذَكَرُوا - وَأَمّا عُمَانُ [ ص 184 ] الْكُوفَةِ وَمَكّةَ ، وَكَمَا
بَيْنَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْكَعْبَةِ ، وَهَذِهِ كُلّهَا رِوَايَاتٌ مُتَقَارِبَةُ
الْمَعَانِي ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَسَافَاتُ بَعْضُهَا أَبْعَدُ مِنْ بَعْضٍ
فَكَذَلِكَ الْحَوْضُ أَيْضًا لَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ وَزَوَايَا وَأَرْكَانٌ
فَيَكُونُ اخْتِلَافُ هَذِهِ الْمَسَافَاتِ الّتِي فِي الْحَدِيث عَلَى حَسَبِ
ذَلِكَ جَعَلَنَا اللّهُ مِنْ الْوَارِدِينَ عَلَيْهِ وَلَا أَظْمَأَ أَكْبَادَنَا
فِي الْآخِرَةِ إلَيْهِ . وَمِمّا جَاءَ فِي مَعْنَى الْكَوْثَرِ مَا رَوَاهُ
ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ - قَالَتْ الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي الْجَنّةِ
لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ إصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ إلّا سَمِعَ خَرِيرَ ذَلِكَ
النّهَرِ وَقَعَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي السّيرَةِ مِنْ رِوَايَةِ يُونُسَ وَرَوَاهُ
الدّارَقُطْنِيّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ عَنْ الشّعْبِيّ عَنْ
مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
- إنّ اللّهَ أَعْطَانِي نَهَرًا يُقَالُ لَهُ الْكَوْثَرُ لَا يَشَاءُ أَحَدٌ
مِنْ أُمّتِي أَنْ يَسْمَعَ خَرِيرَ ذَلِكَ الْكَوْثَرِ إلّا سَمِعَهُ فَقُلْت :
يَا رَسُولَ اللّهِ وَكَيْفَ ذَلِكَ ؟ قَالَ أَدْخِلِي أُصْبُعَيْك فِي أُذُنَيْك
وَشِدّي ، فَاَلّذِي تَسْمَعِينَ فِيهِمَا مِنْ خَرِيرِ الْكَوْثَرِ . وَرَوَى
الدّارَقُطْنِيّ مِنْ طَرِيقِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ لِعَلِيّ وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنّك
لَذَائِدٌ عَنْ حَوْضِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَذُودُ عَنْهُ كُفّارَ الْأُمَمِ
كَمَا تُذَادُ الْإِبِلُ الضّالّةُ عَنْ الْمَاءِ بِعَصَا مِنْ عَوْسَجٍ إلّا أَنّ
هَذَا الْحَدِيثَ يَرْوِيهِ حَرَامُ بْن عُثْمَانَ عَنْ ابْنَيْ جَابِرٍ وَقَدْ
سُئِلَ مَالِكٌ عَنْهُ فَقَالَ لَيْسَ بِثِقَةِ وَأَغْلَظَ فِيهِ الشّافِعِيّ
الْقَوْلَ وَأَمّا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي
فَقَدْ قِيلَ فِي مَعْنَاهُ أَقْوَالٌ وَيُفَسّرُهُ عِنْدِي الْحَدِيثُ الْآخَرُ
وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ إنّي لَأَنْظُرُ
إلَى حَوْضِي الْآنَ مِنْ مَقَامِي هَذَا فَتَأَمّلْهُ .
الْكَوْثَرُ
فِي الشّعْرِ
[ ص 184 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : قَالَ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ الْكِلَابِيّ
وَصَاحِبُ مَلْحُوبٍ فُجِعْنَا بِيَوْمِهِ وَعِنْدَ الرّدَاعِ بَيْتُ آخِرِ
كَوْثَرِ
[ ص 185 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ .
وَصَاحِبُ مَلْحُوبٍ : عَوْفُ بْنُ الْأَحْوَصِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ مَاتَ
بِمَلْحُوبِ . وَقَوْله : عِنْدَ الرّدَاعِ بَيْتُ آخِرِ كَوْثَرِ يَعْنِي شُرَيْح
بْنَ الْأَحْوَصِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ مَاتَ بِالرّدَاعِ . وَكَوْثَرُ
أَرَادَ الْكَثِيرَ وَلَفْظُهُ مُشْتَقّ مِنْ لَفْظِ الْكَثِيرِ . قَالَ
الْكُمَيْت بْنُ زَيْدٍ يَمْدَحُ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ :
وَأَنْتَ كَثِيرٌ يَا بْنَ مَرْوَانَ طَيّبٌ وَكَانَ أَبُوك ابْنُ الْعَقَائِلِ
كَوْثَرَ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . وَقَالَ أُمَيّةُ بْنُ أَبِي عَائِذٍ
الْهُذَلِيّ يَصِفُ حِمَارَ وَحْشٍ يُحَامِي الْحَقِيقَ إذَا مَا احْتَدَمْن
وَحَمْحَمْنَ فِي كَوْثَرٍ كَالْجِلَالِ
يَعْنِي بِالْكَوْثَرِ الْغُبَارَ الْكَثِيرَ شَبّهَهُ لِكَثْرَتِهِ عَلَيْهِ
بِالْجِلَالِ . وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
حَدّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَمْرٍو - قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : هُوَ جَعْفَرُ بْنُ
عَمْرِو بْنِ أُمَيّةَ الضّمْرِيّ - عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُسْلِمٍ أَخِي
مُحَمّدِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ،
قَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَقِيلَ لَهُ يَا
رَسُولَ اللّهِ مَا الْكَوْثَرُ الّذِي أَعْطَاك اللّهُ ؟ قَالَ " نَهَرٌ
كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ إلَى أَيْلَةَ ، آنِيَتُهُ كَعَدَدِ نُجُومِ السّمَاءِ
تَرِدُهُ طُيُورٌ لَهَا كَأَعْنَاقِ الْإِبِلِ . قَالَ يَقُولُ عُمَرُ بْنُ
الْخَطّابِ : إنّهَا يَا رَسُولَ اللّهِ لَنَاعِمَةٌ قَالَ " آكِلُهَا
أَنْعَمُ مِنْهَا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَقَدْ سَمِعْت فِي هَذَا الْحَدِيثِ
أَوْ غَيْرِهِ أَنّهُ قَالَ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مَنْ شَرِبَ
مِنْهُ لَا يَظْمَأُ أَبَدًاSاسْتِشْهَادُ
ابْنِ هِشَامٍ عَلَى مَعْنَى الْكَوْثَرِ
وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ فِي الِاسْتِشْهَادِ عَلَى مَعْنَى الْكَوْثَرِ قَوْلَ
لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ : وَصَاحِبُ مَلْحُوبٍ فُجِعْنَا بِيَوْمِهِ وَعِنْدَ
الرّدَاعِ بَيْتُ آخِرِ كَوْثَرِ
وَبِالْفَوْرَةِ الْحَرّابِ ذُو الْفَضْلِ عَامِرٌ فَنِعْمَ ضِيَاءُ الطّارِقِ
الْمُتَنَوّر
[ ص 185 ] لَبِيدٍ وَسَنَذْكُرُ لِمَ سُمّيَ مُلَاعِبَ الْأَسِنَةِ إذَا جَاءَ
ذِكْرُهُ إنْ شَاءَ اللّهُ تَعَالَى . وَصَاحِبُ مَلْحُوبٍ : عَوْفُ بْنُ
الْأَحْوَصِ وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ . وَاَلّذِي عِنْدَ الرّدَاعِ :
شُرَيْح بْنُ الْأَحْوَصِ فِي قَوْله ، وَقَالَ غَيْرُهُ هُوَ حِبّانُ بْنُ
عُتْبَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ كِلَابٍ . وَالرّدَاعُ : مِنْ أَرْضِ
الْيَمَامَةِ . وَمَلْحُوبٌ : مَفْعُولٌ مِنْ لَحَبْت الْعُودَ إذَا قَشّرْته ،
فَكَأَنّ هَذَا الْمَوْضِعَ سُمّيَ مَلْحُوبًا ، لِأَنّهُ لَا أَكَمٌ فِيهِ وَلَا
شَجَرٌ .
نُزُولُ
{ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ }
[ ص 186 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَدَعَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - قَوْمَهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَكَلّمَهُمْ فَأَبْلَغَ إلَيْهِمْ فَقَالَ
لَهُ زَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ ، وَالنّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ وَالْأَسْوَدُ بْنُ
عَبْدِ يَغُوثَ ، وَأُبَيّ بْنُ خَلَفٍ ، وَالْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ لَوْ جُعِلَ
مَعَك يَا مُحَمّدُ مَلَكٌ يُحَدّثُ عَنْك النّاسَ وَيَرَى مَعَك فَأَنْزَلَ
اللّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلُهُ { وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ
مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمّ لَا يُنْظَرُونَ
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا
يَلْبِسُونَ } [ الْأَنْعَامُ 8 ، 9 ] .
نُزُولُ وَلَقَدْ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلِ مِنْ قَبْلِك
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَمَرّ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
فِيمَا بَلَغَنِي - بِالْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَأُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ ،
وَبِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ فَغَمَزُوهُ وَهَمَزُوهُ وَاسْتَهْزَءُوا بِهِ
فَغَاظَهُ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ
{ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالّذِينَ سَخِرُوا
مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ الْأَنْبِيَاءُ 41 ]Sذَكَرَ
حَدِيثَ الْمُسْتَهْزِئِينَ
[ ص 186 ] { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ } [ الْأَنْبِيَاءُ 41 ]
الْآيَةَ . فَقَالَ فِيهَا : اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلِ ثُمّ قَالَ فَحَاقَ
بِاَلّذِينَ سَخِرُوا مَعَهُمْ وَلَمْ يَقُلْ اسْتَهْزَءُوا ، ثُمّ قَالَ مَا
كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ وَلَمْ يَقُلْ يَسْخَرُونَ . وَلَا بُدّ فِي
حِكْمَةٍ فِي هَذَا مِنْ جِهَةِ الْبَلَاغَة وَتَنْزِيلِ الْكَلَامِ مَنَازِلَهُ
فَقَوْلُهُ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلِ أَيْ أُسْمِعُوا مِنْ الْكَلَامِ الّذِي يُسَمّى
اسْتِهْزَاءً مَا سَاءَهُمْ تَأْنِيسًا لَهُ لِيَتَأَسّى بِمَنْ قَبْلَهُ مِنْ
الرّسُلِ وَإِنّمَا سُمّيَ اسْتِهْزَاءً إذَا كَانَ مَسْمُوعًا ، وَهُوَ مِنْ
فِعْلِ الْجَاهِلِينَ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { أَتَتّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ
أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } [ الْبَقَرَةُ 67 ] . وَأَمّا
السّخْرُ وَالسّخْرَى ، فَقَدْ يَكُونُ فِي النّفْسِ غَيْرُ مَسْمُوعٍ وَلِذَلِكَ
تَقُولُ سَخِرْت مِنْهُ كَمَا تَقُولُ عَجِبْت مِنْهُ إلّا أَنّ الْعُجْبَ لَا
يَخْتَصّ بِالْمَعْنَى الْمَذْمُومِ كَمَا يَخْتَصّ السّخْرُ وَفِي التّنْزِيلِ
خَبَرًا عَنْ نُوحٍ { إِنْ تَسْخَرُوا مِنّا فَإِنّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا
تَسْخَرُونَ } [ هُودٌ : 28 ] وَلَمْ يَقُلْ نَسْتَهْزِئُ بِكَمْ كَمَا تَسْتَهْزِئُونَ
لِأَنّ الِاسْتِهْزَاءَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ الْأَنْبِيَاءِ إنّمَا هُوَ مِنْ
فِعْلِ الْجَاهِلِينَ كَمَا قَدّمْنَا مِنْ قَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السّلَامُ
فَالنّبِيّ يَسْخَرُ أَيْ يَعْجَبُ مِنْ كُفْرِ مَنْ يَسْخَرُ بِهِ وَمَنْ سُخْرِ
عُقُولِهِمْ فَإِنْ قُلْت : فَقَدْ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { اللّهُ يَسْتَهْزِئُ
بِهِمْ } قُلْنَا : الْعَرَبُ تُسَمّي الْجَزَاءَ عَلَى الْفِعْلِ بِاسْمِ
الْفِعْلِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { نَسُوا اللّهَ فَنَسِيَهُمْ } وَهُوَ مَجَازٌ
حَسَنٌ وَأَمّا [ ص 187 ] كُنّا بِصَدَدِهِ فَهُوَ الْمُسَمّى اسْتِهْزَاءُ
حَقِيقَةٍ وَلَا يَرْضَى بِهِ إلّا جَهُولٌ . ثُمّ قَالَ سُبْحَانَهُ { فَحَاقَ
بِالّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أَيْ حَاقَ
بِهِمْ مِنْ الْوَعِيدِ الْمُبَلّغِ لَهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الرّسُلِ مَا كَانُوا
يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ فَنَزَلَتْ كُلّ كَلِمَةٍ مَنْزِلَهَا ،
وَلَمْ يَحْسُنْ فِي حُكْمِ الْبَلَاغَةِ وَضْعُ وَاحِدَةٍ مَكَانَ الْأُخْرَى .
وَذَكَرَ أَيْضًا قَوْله سُبْحَانَهُ { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ
رَجُلًا } أَيْ لَوْ جَعَلْنَا الرّسُولَ إلَيْهِمْ مِنْ الْمَلَائِكَةِ لَمْ
يَكُنْ إلّا عَلَى صُورَةِ رَجُلٍ وَلَدَخَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ اللّبْسِ فِيهِ مَا
دَخَلَ فِي أَمْرِ مُحَمّدٍ وَقَوْلُهُ لَبِسْنَا يَدُلّ عَلَى أَنّ الْأَمْرَ
كُلّهُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ فَهُوَ يُعْمِي مَنْ شَاءَ عَنْ الْحَقّ وَيَفْتَحُ
بَصِيرَةَ مَنْ شَاءَ وَقَوْلُهُ مَا يَلْبَسُونَ مَعْنَاهُ يَلْبَسُونَ عَلَى
غَيْرِهِمْ لِأَنّ أَكْثَرَهُمْ قَدْ عَرَفُوا أَنّهُ الْحَقّ ، وَلَكِنْ جَحَدُوا
بِهَا ، وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ فَجَعَلُوا ، يَلْبَسُونَ أَيْ يَلْبَسُ
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَيَلْبَسُونَ عَلَى أَهْلِيهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ أَيْ
يَخْلِطُونَ عَلَيْهِمْ بِالْبَاطِلِ تَقُولُ الْعَرَبُ : لَبِسْت عَلَيْهِمْ
الْأَمْرَ أَلْبِسُهُ أَيْ سَتَرْته وَخَلَطْته ، وَمِنْ لُبْسِ الثّيَابِ لَبِسْت
أَلْبَسُ لِأَنّهُ فِي مَعْنَى كَسِيت ، وَفِي مُقَابَلَةِ عَرِيت ، فَجَاءَ عَلَى
وَزْنِهِ وَالْآخَرُ فِي مَعْنَى : خَلَطْت أَوْ سَتَرْت ، فَجَاءَ عَلَى وَزْنِهِ
.
ذِكْرُ
الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ
[ ص 187 ] قَالَ ابْنُ هِشَامٍ : حَدّثْنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ
الْبَكّائِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ الْمُطّلِبِيّ قَالَ ثُمّ أُسْرِيَ
بِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى ، وَهُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ مِنْ إيلِيَاءَ ، وَقَدْ
فَشَا الْإِسْلَامُ بِمَكّةَ فِي قُرَيْشٍ ، وَفِي الْقَبَائِلِ كُلّهَا . قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ : كَانَ مِنْ الْحَدِيثِ فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ مَسْرَاهُ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، وَأَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيّ وَعَائِشَةَ زَوْجِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
وَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ ، وَالْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ
الْبَصَرِيّ ، وَابْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ ، وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ
الْعِلْمِ [ ص 188 ] وَأُمّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ ، مَا اجْتَمَعَ فِي
هَذَا الْحَدِيثِ كُلّ يُحَدّثُ عَنْهُ بَعْضُ مَا ذُكِرَ مِنْ أَمْرِهِ حِين
أُسْرِيَ بِهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَكَانَ فِي مَسْرَاهُ وَمَا
ذُكِرَ عَنْهُ بَلَاءٌ وَتَمْحِيصٌ وَأَمْرٌ مِنْ أَمْرِ اللّهِ فِي قُدْرَتِهِ
وَسُلْطَانِهِ فِيهِ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ وَثَبَاتٌ
لِمَنْ آمَنَ وَصَدّقَ وَكَانَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى
يَقِينٍ فَأُسْرِيَ بِهِ كَيْفَ شَاءَ لِيُرِيَهُ مِنْ آيَاتِهِ مَا أَرَادَ حَتّى
عَايَنَ مَا عَايَنَ مِنْ أَمْرِهِ وَسُلْطَانِهِ الْعَظِيمِ وَقُدْرَتِهِ الّتِي
يَصْنَعُ بِهَا مَا يُرِيدُ .
رَاوِيَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ
فَكَانَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْعُودٍ - فِيمَا بَلَغَنِي عَنْهُ - يَقُولُ أُتِيَ
رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْبُرَاقِ - وَهِيَ الدّابّةُ
الّتِي كَانَتْ تُحْمَلُ عَلَيْهَا الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ تَضَعُ حَافِرَهَا فِي
مُنْتَهَى طَرَفِهَا - فَحُمِلَ عَلَيْهَا ، ثُمّ خَرَجَ بِهِ صَاحِبُهُ يَرَى
الْآيَاتِ فِيمَا بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ حَتّى انْتَهَى إلَى بَيْتِ
الْمَقْدِسِ ، فَوَجَدَ فِيهِ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ وَمُوسَى وَعِيسَى فِي
نَفَرٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ قَدْ جَمَعُوا لَهُ فَصَلّى بِهِمْ . ثُمّ أُتِيَ
بِثَلَاثَةِ آنِيّةٍ إنَاءٍ فِيهِ لَبَنٌ [ ص 189 ] قَالَ . فَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " فَسَمِعْت قَائِلًا يَقُولُ حِينَ
عُرِضَتْ عَلَيّ إنْ أَخَذَ الْمَاءَ غَرِقَ وَغَرِقَتْ أُمّتُهُ وَإِنْ أَخَذَ
الْخَمْرَ غَوَى ، وَغَوَتْ أُمّتُهُ وَإِنْ أَخَذَ اللّبَن هُدِيَ وَهُدِيَتْ
أُمّتُهُ . قَالَ فَأَخَذْت إنَاءَ اللّبَنِ فَشَرِبْت مِنْهُ فَقَالَ لِي
جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ : هُدِيت وَهُدِيَتْ أُمّتُك يَا مُحَمّدُ
حَدِيثُ الْحَسَنِ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحُدّثْت عَنْ الْحَسَنِ أَنّهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنًا أَنَا نَائِمٌ فِي الْحِجْرِ ، إذْ
جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَهَمَزَنِي بِقَدَمِهِ فَجَلَسْت فَلَمْ أَرَ شَيْئًا ،
فَعُدْت إلَى مَضْجَعِي ، فَجَاءَنِي الثّانِيَةَ فَهَمَزَنِي بِقَدَمِهِ
فَجَلَسْت فَلَمْ أَرَ شَيْئًا ، فَعُدْت إلَى مَضْجَعِي ، فَجَاءَنِي الثّالِثَةَ
فَهَمَزَنِي بِقَدَمِهِ فَجَلَسْت ، فَأَخَذَ بِعَضُدِي ، فَقُمْت مَعَهُ فَخَرَجَ
إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ فَإِذَا دَابّةٌ أَبْيَض ، بَيْنَ الْبَغْلِ - وَالْحِمَار
- فِي فَخِذَيْهِ جَنَاحَانِ يَحْفِرُ بِهِمَا رِجْلَيْهِ يَضَعُ يَدَهُ فِي
مُنْتَهَى طَرَفِهِ فَحَمَلَنِي عَلَيْهِ ثُمّ خَرَجَ مَعِي لَا يَفُوتُنِي وَلَا
أَفُوتُهُ
حَدِيثُ قَتَادَةَ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ ، وَحُدّثْت عَنْ قَتَادَةَ أَنّهُ قَالَ حُدّثْت أَنّ
رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ لَمّا دَنَوْت مِنْهُ
لِأَرْكَبَهُ شَمَسَ فَوَضَعَ جِبْرِيلُ يَدَهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ ثُمّ قَالَ
أَلَا تَسْتَحِي يَا بُرَاقُ مِمّا تَصْنَعُ فَوَاَللّهِ مَا رَكِبَك عَبْدٌ
لِلّهِ قَبْلَ مُحَمّدٍ أَكْرَمُ عَلَى اللّهِ مِنْهُ . قَالَ فَاسْتَحْيَا حَتّى
ارْفَضّ عَرَقًا ، ثُمّ قَرّ حَتّى رَكِبْتهSشَرْحُ
مَا فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مِنْ الْمُشْكِلِ اتّفَقَتْ الرّوَاةُ عَلَى
تَسْمِيَتِهِ إسْرَاءً وَلَمْ يُسَمّهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ سُرًى ، وَإِنْ كَانَ
أَهْلُ اللّغَةِ قَدْ قَالُوا : سَرَى وَأَسْرَى بِمَعْنَى وَاحِدٍ فَدَلّ عَلَى
أَنّ أَهْلَ اللّغَةِ لَمْ يُحَقّقُوا الْعَبّارَةَ وَذَلِكَ أَنّ الْقُرّاءَ لَمْ
يَخْتَلِفُوا فِي التّلَاوَةِ مِنْ قَوْلِهِ { سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَى
بِعَبْدِهِ } وَلَمْ يَقُلْ سَرَى ، [ ص 188 ] وَقَالَ { وَاللّيْلِ إِذَا يَسْرِ
} وَلَمْ يَقُلْ يَسْرِي ، فَدَلّ عَلَى أَنّ السّرَى مِنْ سَرَيْت إذَا سِرْت
لَيْلًا ، وَهِيَ مُؤَنّثَةٌ تَقُولُ طَالَتْ سُرَاك اللّيْلَةَ وَالْإِسْرَاءُ
مُتَعَدّ فِي الْمَعْنَى ، وَلَكِنْ حُذِفَ مَفْعُولُهُ كَثِيرًا حَتّى ظَنّ
أَهْلُ اللّغَةِ أَنّهُمَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ لَمّا رَأَوْهُمَا غَيْرَ
مُتَعَدّيَيْنِ إلَى مَفْعُولٍ فِي اللّفْظِ وَإِنّمَا أَسْرَى بِعَبْدِهِ أَيْ
جَعَلَ الْبُرَاق يَسْرِي ، كَمَا تَقُولُ أَمَضَيْته ، أَيْ جَعَلْته يَمْضِي ،
لَكِنْ كَثُرَ حَذْفُ الْمَفْعُولِ لَقُوّةِ الدّلَالَةِ عَلَيْهِ أَوْ
لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ ذِكْرِهِ إذْ الْمَقْصُودُ بِالْخَبَرِ ذِكْرُ مُحَمّدٍ لَا
ذِكْرُ الدّابّةِ الّتِي سَارَتْ بِهِ وَجَازَ فِي قِصّةِ لُوطٍ عَلَيْهِ
السّلَامُ . أَنْ يُقَالَ لَهُ فَأَسْرِ بِأَهْلِك : أَيْ فَاسْرِ بِهِمْ وَأَنْ
يَقْرَأَ فَأَسْرِ بِأَهْلِك بِالْقِطْعِ أَيْ فَأَسْرِ بِهِمْ مَا يَتَحَمّلُونَ
عَلَيْهِ مِنْ دَابّةٍ أَوْ نَحْوِهَا ، وَلَمْ يُتَصَوّرْ ذَلِكَ فِي السّرَى
بِالنّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ سَرَى
بِعَبْدِهِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ فَلِذَلِكَ لَمْ تَأْتِ التّلَاوَةُ إلّا
بِوَجْهِ وَاحِدٍ فِي هَذِهِ الْقِصّةِ فَتَدَبّرْهُ . وَكَذَلِكَ تَسَامَحَ
النّحْوِيّونَ أَيْضًا فِي الْبَاءِ وَالْهَمْزَةِ وَجَعَلُوهُمَا بِمَعْنَى
وَاحِدٍ فِي حُكْمِ التّعْدِيَةِ وَلَوْ كَانَ مَا قَالُوهُ أَصْلًا لَجَازَ فِي :
أَمْرَضْته أَنْ تَقُولَ مَرِضْت بِهِ وَفِي أَسْقَمْته : أَنْ تَقُولَ سَقِمْت
بِهِ وَفِي أَعْمَيْته أَنْ تَقُولَ عَمِيت بِهِ قِيَاسًا عَلَيّ أَذْهَبْته
وَأَذْهَبْت بِهِ وَيَأْبَى اللّهُ ذَلِكَ وَالْعَالِمُونَ فَإِنّمَا الْبَاءُ
تُعْطِي مَعَ التّعْدِيَةِ طَرَفًا مِنْ الْمُشَارَكَةِ فِي الْفِعْلِ وَلَا
تُعْطِيهِ الْهَمْزَةَ فَإِذَا قُلْت : أَقْعَدْته ، فَمَعْنَاهُ جَعَلْته يَقْعُدُ
وَلَكِنّك شَارَكْته فِي الْقُعُودِ فَجَذَبْته بِيَدِك إلَى الْأَرْضِ أَوْ
نَحْوِ ذَلِكَ فَلَا بُدّ مِنْ طَرَفٍ مِنْ الْمُشَارَكَةِ إذَا قَعَدْت بِهِ
وَدَخَلْت بِهِ وَذَهَبْت بِهِ بِخِلَافِ أَدْخَلْته وَأَذْهَبْته . [ ص 189 ]
قَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ { ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ } { لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ
وَأَبْصَارِهِمْ } وَيَتَعَالَى - سُبْحَانَهُ - عَنْ أَنْ يُوصَفَ بِالذّهَابِ
وَيُضَافُ إلَيْهِ طَرَفٌ مِنْهُ وَإِنّمَا مَعْنَاهُ أَذَهَبَ نُورَهُمْ
وَسَمْعَهُمْ . قُلْنَا : فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا : أَنّ النّورَ وَالسّمْعَ
وَالْبَصَرَ كَانَ بِيَدِهِ سُبْحَانَهُ وَقَدْ قَالَ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهَذَا
مِنْ الْخَيْرِ الّذِي بِيَدِهِ وَإِذَا كَانَ بِيَدِهِ فَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ
ذَهَبَ بِهِ عَلَى الْمَعْنَى الّذِي يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ
كَائِنًا مَا كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى ، فَعَلَيْهِ يَنْبَنِي ذَلِكَ الْمَعْنَى
الْآخَرُ الّذِي فِي قَوْلِهِ { ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ } مَجَازًا كَانَ أَوْ
حَقِيقَةً أَلَا تَرَى أَنّهُ لَمّا ذَكَرَ الرّجْسَ كَيْفَ قَالَ { لِيُذْهِبَ
عَنْكُمُ الرّجْسَ } [ الْأَحْزَابُ : 33 ] . وَلَمْ يَقُلْ يُذْهِبُ بِهِ
وَكَذَلِكَ قَالَ { وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشّيْطَانِ } [ ص 190 ] حُسْنَ
الْأَدَبِ مَعَهُ حَتّى لَا يُضَافُ إلَى الْقُدّوسِ سُبْحَانَهُ - لَفْظًا
وَمَعْنًى شَيْءٌ مِنْ الْأَرْجَاسِ وَإِنْ كَانَتْ خَلْقًا لَهُ وَمِلْكًا فَلَا
يُقَالُ هِيَ بِيَدِهِ عَلَى الْخُصُوصِ تَحْسِينًا لِلْعِبَارَةِ وَتَنْزِيهًا
لَهُ وَفِي مِثْلِ النّورِ وَالسّمْعِ وَالْبَصَرِ يَحْسُنُ أَنْ يُقَالَ هِيَ
بِيَدِهِ فَحَسُنَ عَلَى هَذَا أَنْ يُقَال : ذَهَبَ بِهِ وَأَمّا أَسْرَى بِعَبْدِهِ
فَإِنّ دُخُولَ الْبَاءِ فِيهِ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَإِنّهُ فِعْلٌ
يَتَعَدّى إلَى مَفْعُولٍ وَذَلِكَ الْمَفْعُولُ الْمُسَرّى هُوَ الّذِي سَرَى
بِالْعَبْدِ فَشَارَكَهُ بِالسّرَى ، كَمَا قَدّمْنَا فِي قَعَدْت بِهِ أَنّهُ
يُعْطَى الْمُشَارَكَةُ فِي الْفِعْلِ أَوْ فِي طَرَفٍ مِنْهُ فَتَأَمّلْهُ .
مِنْ
حَدِيثِ الْحَسَنِ
قَالَ الْحَسَنُ فِي حَدِيثِهِ فَمَضَى رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَمَضَى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ مَعَهُ حَتّى انْتَهَى بِهِ إلَى
بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، فَوَجَدَ فِيهِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى فِي نَفَرٍ
مِنْ الْأَنْبِيَاءِ [ ص 190 ] فَأَمّهُمْ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - فَصَلّى بِهِمْ ثُمّ أُتِيَ بِإِنَاءَيْنِ فِي أَحَدِهِمَا : خَمْرٌ
وَفِي الْآخَرِ لَبَنٌ . قَالَ فَأَخَذَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إنَاءَ اللّبَنِ فَشَرِبَ مِنْهُ وَتَرَكَ إنَاءَ الْخَمْرِ . قَالَ
فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ هُدِيت لِلْفِطْرَةِ وَهُدِيَتْ أُمّتُك يَا مُحَمّدُ
وَحُرّمَتْ عَلَيْكُمْ الْخَمْرُ ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى مَكّةَ ، فَلَمّا أَصْبَحَ غَدًا عَلَى قُرَيْشٍ ،
فَأَخْبَرَهُمْ الْخَبَرَ . فَقَالَ أَكْثَرُ النّاسِ هَذَا وَاَللّهِ الْأَمْرُ
الْبَيّنُ وَاَللّهِ إنّ الْعِيرَ لَتُطْرَدُ شَهْرًا مِنْ مَكّةَ إلَى الشّامِ
مُدْبِرَةً وَشَهْرًا مُقْبِلَةً أَفَيَذْهَبُ ذَلِكَ مُحَمّدٌ فِي لَيْلَةٍ
وَاحِدَةٍ وَيَرْجِعُ إلَى مَكّةَ قَالَ فَارْتَدّ كَثِيرٌ مِمّنْ كَانَ أَسْلَمَ
، وَذَهَبَ النّاسُ إلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالُوا لَهُ هَلْ لَك يَا أَبَا بَكْرٍ
فِي صَاحِبِك ، يَزْعُمُ أَنّهُ قَدْ جَاءَ هَذِهِ اللّيْلَةَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ
، وَصَلّى فِيهِ وَرَجَعَ إلَى مَكّةَ . قَالَ فَقَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ
إنّكُمْ تَكْذِبُونَ عَلَيْهِ فَقَالُوا : بَلَى ، هَا هُوَ ذَاكَ فِي الْمَسْجِدِ
يُحَدّثُ بِهِ النّاسَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَاَللّهِ لَئِنْ كَانَ قَالَهُ لَقَدْ
صَدَقَ فَمَا يُعْجِبُكُمْ مِنْ ذَلِكَ ؟ فَوَاَللّهِ إنّهُ لَيُخْبِرُنِي أَنّ
الْخَبَرَ لَيَأْتِيهِ مِنْ السّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ فِي سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ
أَوْ نَهَارٍ فَأُصَدّقُهُ فَهَذَا أَبْعَدُ مِمّا تَعْجَبُونَ مِنْهُ ثُمّ
أَقْبَلَ حَتّى انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
فَقَالَ يَا نَبِيّ اللّهِ . أَحَدّثْت هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ أَنّك أَتَيْت
الْمَقْدِسَ هَذِهِ اللّيْلَةَ ؟ قَالَ " نَعَمْ " ، قَالَ يَا نَبِيّ
اللّهِ فَصِفْهُ لِي ، فَإِنّي قَدْ جِئْته - قَالَ الْحَسَنُ فَقَالَ رَسُولُ
اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ " فَرُفِعَ لِي حَتّى نَظَرْت إلَيْهِ
" - فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَصِفُهُ
لِأَبِي بَكْرٍ وَيَقُولُ أَبُو بَكْرٍ صَدَقْت ، أَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللّهِ
كَلَمّا وَصَفَ لَهُ مِنْهُ شَيْئًا ، قَالَ صَدَقْت ، أَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ
اللّهِ حَتّى انْتَهَى ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
لِأَبِي بَكْرٍ وَأَنْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ الصّدّيقُ ، فَيَوْمئِذٍ سَمّاهُ
الصّدّيقَ قَالَ الْحَسَنُ وَأَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى فِيمَنْ ارْتَدّ عَنْ
إسْلَامِهِ لِذَلِكَ { وَمَا جَعَلْنَا الرّؤْيَا الّتِي أَرَيْنَاكَ إِلّا
فِتْنَةً لِلنّاسِ وَالشّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوّفُهُمْ
فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلّا طُغْيَانًا كَبِيرًا } [ الْإِسْرَاءُ 60 ] . فَهَذَا
حَدِيثُ الْحَسَنِ عَنْ مَسْرَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ .
وَمَا دَخَلَ فِيهِ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةَ
الْإِسْرَاءُ رُؤْيَا
[ ص 191 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي بَعْضُ آلِ أَبِي بَكْرٍ : أَنّ
عَائِشَةَ زَوْجَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَتْ تَقُولُ مَا
فُقِدَ جَسَدُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَلَكِنّ اللّهَ
أَسْرَى بِرُوحِهِ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ
بْن الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ أَنّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ ، كَانَ
إذَا سُئِلَ عَنْ مَسْرَى رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
قَالَ كَانَتْ رُؤْيَا مِنْ اللّهِ تَعَالَى صَادِقَةً فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ
مِنْ قَوْلِهِمَا ، لِقَوْلِ الْحَسَنِ إنّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ
قَوْلُ اللّهِ تُبَارَك وَتَعَالَى : { وَمَا جَعَلْنَا الرّؤْيَا الّتِي
أَرَيْنَاكَ إِلّا فِتْنَةً لِلنّاسِ } [ الْإِسْرَاءُ 60 ] . وَلِقَوْلِ اللّهِ [
ص 192 ] الْخَبَرِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ إذْ قَالَ لَابْنِهِ { يَا
بُنَيّ إِنّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنّي أَذْبَحُكَ } [ الصّافّاتُ 102 ] . ثُمّ
مَضَى عَلَى ذَلِكَ . فَعَرَفْت أَنّ الْوَحْيَ مِنْ اللّهِ يَأْتِي
الْأَنْبِيَاءَ أَيْقَاظًا وَنِيَامًا . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَكَانَ رَسُولُ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيمَا بَلَغَنِي - يَقُولُ تَنَامُ
عَيْنَايَ وَقَلْبِي يَقْظَانُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ قَدْ جَاءَهُ
وَعَايَنَ فِيهِ مَا عَايَنَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ عَلَى أَيّ حَالَيْهِ كَانَ
نَائِمًا ، أَوْ يَقْظَانَ كُلّ ذَلِكَ حَقّ وَصِدْقٌ [ ص 193 ] [ ص 194 ] [ ص 195
] [ ص 196 ]Sأَكَانَ
الْإِسْرَاءُ يَقَظَةً أَمْ مَنَامًا
[ ص 191 ] كَانَ الْإِسْرَاءُ فِي يَقَظَةٍ بِجَسَدِهِ أَوْ كَانَ فِي نُوُمِهِ
بِرُوحِهِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ { اللّهُ يَتَوَفّى الْأَنْفُسَ حِينَ
مَوْتِهَا وَالّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } [ الزّمَرُ 43 ] وَقَدْ ذَكَرَ
ابْنُ إسْحَاقَ عَنْ عَائِشَةَ وَمُعَاوِيَةَ أَنّهَا كَانَتْ رُؤْيَا حَقّ ،
وَأَنّ عَائِشَةَ قَالَتْ لَمْ تَفْقِدْ بَدَنَهُ وَإِنّمَا عُرِجَ بِرُوحِهِ
تِلْكَ اللّيْلَةَ وَيَحْتَجّ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ {
وَمَا جَعَلْنَا الرّؤْيَا الّتِي أَرَيْنَاكَ إِلّا فِتْنَةً لِلنّاسِ } [
الْإِسْرَاءُ 60 ] . وَلَمْ يَقُلْ الرّؤْيَةَ وَإِنّمَا يُسَمّى رُؤْيَا مَا
كَانَ فِي النّوُمِ فِي عُرْفِ اللّغَةِ وَيَحْتَجّونَ أَيْضًا بِحَدِيثِ
الْبُخَارِيّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللّهِ
- صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ أَنّهُ جَاءَهُ
ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إلَيْهِ وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ ، فَقَالَ أَوّلُهُمْ أَيّهُمْ هُوَ ؟ فَقَالَ أَوْسَطُهُمْ هُوَ هَذَا
، وَهُوَ خَيْرُهُمْ فَقَالَ آخِرُهُمْ خُذُوا خَيْرَهُمْ فَكَانَ تِلْكَ
اللّيْلَةَ فَلَمْ يَرَهُمْ حَتّى أَتَوْهُ لَيْلَةً أُخْرَى ، فِيمَا يَرَى
قَلْبُهُ وَتَنَامُ عَيْنُهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ
عَلَيْهِمْ السّلَامُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ وَلَا تَنَامُ قُلُوبُهُمْ فَلَمْ
يُكَلّمُوهُ حَتّى احْتَمَلُوهُ فَوَضَعُوهُ عِنْدَ بِئْرِ زَمْزَمَ ، فَتَوَلّاهُ
مِنْهُمْ جِبْرِيلُ . الْحَدِيثُ بِطُولِهِ وَقَالَ فِي آخِرِهِ وَاسْتَيْقَظَ
وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَهَذَا نَصّ لَا إشْكَالَ فِيهِ أَنّهَا
كَانَتْ رُؤْيَا صَادِقَةً وَقَالَ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الثّانِي : قَدْ تَكُونُ
الرّؤْيَا بِمَعْنَى الرّؤْيَةِ فِي الْيَقَظَةِ وَأَنْشَدُوا لِلرّاعِي يَصِفُ
صَائِدًا : وَكَبّرَ لِلرّؤْيَا ، وَهَشّ فُؤَادُهُ وَبَشّرَ قَلْبًا كَانَ جَمّا
بَلَابِلُهُ
قَالُوا : وَفِي الْآيَةِ بَيَانُ أَنّهَا كَانَتْ فِي الْيَقَظَةِ لِأَنّهُ قَالَ
{ وَمَا جَعَلْنَا الرّؤْيَا الّتِي أَرَيْنَاكَ إِلّا فِتْنَةً لِلنّاسِ } وَلَوْ
كَانَتْ رُؤْيَا نَوْمٍ مَا افْتَتَنَ بِهَا النّاسُ حَتّى ارْتَدّ كَثِيرٌ مِمّنْ
أَسْلَمَ ، وَقَالَ [ ص 192 ] بَيْت الْمَقْدِسِ ، وَرَجَعَ إلَى مَكّةَ
لَيْلَتَهُ وَالْعِيرُ تَطْرُدُ إلَيْهَا شَهْرًا مُقْبِلَةً وَشَهْرًا مُدْبِرَةً
وَلَوْ كَانَتْ رُؤْيَا نَوْمٍ لَمْ يَسْتَبْعِدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ هَذَا ،
فَمَعْلُومٌ أَنّ النّائِمَ قَدْ يَرَى نَفْسَهُ فِي السّمَاءِ وَفِي الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ فَلَا يُسْتَبْعَدُ مِنْهُ ذَلِكَ وَاحْتَجّ هَؤُلَاءِ أَيْضًا
بِشُرْبِهِ الْمَاءَ مِنْ الْإِنَاءِ الّذِي كَانَ مُغَطّى عِنْدَ الْقَوْمِ
وَوَجَدُوهُ حِينَ أَصْبَحَ لَا مَاء فِيهِ وَبِإِرْشَادِهِ لِلّذِينَ نَدّ
بَعِيرُهُمْ حِين أَنْفَرَهُمْ حِسّ الدّابّةِ وَهُوَ الْبُرَاقُ حَتّى دَلّهُمْ
عَلَيْهِ فَأَخْبَرَ أَهْلَ مَكّةَ بِأَمَارَةِ ذَلِكَ حَتّى ذَلِكَ
الْغِرَارَتَيْنِ السّوْدَاء وَالْبَرْقَاءِ كَمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ وَفِي
رِوَايَةِ يُونُسَ أَنّهُ وَعَدَ قُرَيْشًا بِقُدُومِ الْعِيرِ الّتِي
أَرْشَدَهُمْ إلَى الْبَعِيرِ وَشَرِبَ إنَاءَهُمْ وَأَنّهُمْ سَيَقْدُمُونَ
وَيُخْبَرُونَ بِذَلِكَ فَقَالُوا : يَا مُحَمّدُ مَتَى يَقْدُمُونَ ؟ فَقَالَ
" يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ " ، فَلَمّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ وَلَمْ يَقْدُمُوا
، حَتّى كَرَبَتْ الشّمْسُ أَنْ تَغْرُبَ فَدَعَا اللّهَ فَحَبَسَ الشّمْسَ حَتّى
قَدِمُوا كَمَا وَصَفَ قَالَ وَلَمْ يَحْبِسْ الشّمْسَ إلّا لَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ
وَلِيُوشَعَ بْنِ نُونٍ وَهَذَا كُلّهُ لَا يَكُونُ إلّا يَقَظَةً وَذَهَبَتْ
طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ مِنْهُمْ شَيْخُنَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ [ بْنُ
الْعَرَبِيّ ] رَحِمَهُ اللّهُ إلَى تَصْدِيقِ الْمَقَالَتَيْنِ وَتَصْحِيحِ
الْحَدِيثَيْنِ وَأَنّ الْإِسْرَاءَ كَانَ مَرّتَيْنِ إحْدَاهُمَا : كَانَ فِي
نُوُمِهِ وَتَوْطِئَةً لَهُ وَتَيْسِيرًا عَلَيْهِ كَمَا كَانَ بَدْءُ نُبُوّتِهِ
الرّؤْيَا الصّادِقَةُ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ أَمْرُ النّبُوّةِ فَإِنّهُ عَظِيمٌ
تَضْعُفُ عَنْهُ الْقُوَى الْبَشَرِيّةُ وَكَذَلِكَ الْإِسْرَاءُ سَهّلَهُ عَلِيّه
بِالرّؤْيَا ، لِأَنّ هَوْلَهُ عَظِيمٌ فَجَاءَهُ فِي الْيَقَظَةِ عَلَى
تَوْطِئَةٍ وَتَقْدِمَةٍ رِفْقًا مِنْ اللّهِ بِعَبْدِهِ وَتَسْهِيلًا عَلَيْهِ
وَرَأَيْت الْمُهَلّبَ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيّ قَدْ حَكَى هَذَا الْقَوْلَ عَنْ
طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَأَنّهُمْ قَالُوا : كَانَ الْإِسْرَاءُ مَرّتَيْنِ
مَرّةً فِي نُوُمِهِ وَمَرّةً فِي يَقَظَتِهِ بِبَدَنِهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - قَالَ الْمُؤَلّفُ وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الّذِي يَصِحّ ، وَبِهِ
تَتّفِقُ مَعَانِي الْأَخْبَارِ أَلَا تَرَى أَنّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ
الّذِي قَدّمْنَا ذِكْرَهُ أَتَاهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إلَيْهِ
وَمَعْلُومٌ أَنّ الْإِسْرَاءَ كَانَ بَعْدَ النّبُوّةِ وَحَيْنَ فُرِضَتْ
الصّلَاةُ كَمَا قَدّمْنَا فِي الْجُزْءِ قَبْلَ هَذَا ، وَقِيلَ كَانَ قَبْلَ
الْهِجْرَةِ بِعَامِ وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْحَدِيثِ فَارْتَدّ كَثِيرٌ مِمّنْ كَانَ
قَدْ أَسْلَمَ ، وَرُوَاةُ الْحَدِيثَيْنِ حُفّاظٌ فَلَا يَسْتَقِيمُ [ ص 193 ]
يَكُونَ الْإِسْرَاءُ مَرّتَيْنِ وَكَذَلِكَ ذُكِرَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنّهُ
لَقِيَ إبْرَاهِيمَ فِي السّمَاءِ السّادِسَةِ وَمُوسَى فِي السّابِعَةِ وَفِي
أَكْثَرِ الرّوَايَاتِ الصّحِيحَةِ أَنّهُ رَأَى إبْرَاهِيمَ عِنْدَ الْبَيْتِ
الْمَعْمُورِ فِي السّمَاءِ السّابِعَةِ وَلَقِيَ مُوسَى فِي السّادِسَةِ وَفِي
رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ أُتِيَ بِثَلَاثَةِ آنِيّةٍ أَحَدُهَا مَاءٌ فَقَالَ
قَائِلٌ إنْ أَخَذَ الْمَاءَ غَرِقَ وَغَرِقَتْ أُمّتُهُ وَفِي إحْدَى رِوَايَاتِ
الْبُخَارِيّ فِي الْجَامِعِ الصّحِيحِ أَنّهُ أُتِيَ بِإِنَاءِ فِيهِ عَسَلٌ
وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَاءَ وَالرّوَاةُ أَثَبَاتٌ وَلَا سَبِيلَ إلَى تَكْذِيبِ
بَعْضِهِمْ وَلَا تَوْهِينِهِمْ فَدَلّ عَلَى صِحّةِ الْقَوْلِ بِأَنّهُ كَانَ
مَرّتَيْنِ وَعَادَ الِاخْتِلَافُ إلَى أَنّهُ كَانَ كُلّهُ حَقّا ، وَلَكِنْ فِي
حَالَتَيْنِ وَوَقْتَيْنِ مَعَ مَا يَشْهَدُ لَهُ مِنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ فَإِنّ
اللّهَ سُبْحَانَهُ يَقُولُ { ثُمّ دَنَا فَتَدَلّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ
أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى } ثُمّ قَالَ { مَا كَذَبَ
الْفُؤَادُ مَا رَأَى } [ النّجْمُ 8 - 11 ] فَهَذَا نَحْوُ مَا وَقَعَ فِي
حَدِيثِ أَنَسٍ مِنْ قَوْلِهِ فِيمَا يَرَاهُ قَلْبُهُ وَعَيْنُهُ نَائِمَةٌ
وَالْفُؤَادُ هُوَ الْقَلْبُ ثُمّ قَالَ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَمْ
يَقُلْ مَا قَدْ رَأَى ، فَدَلّ عَلَى أَنّ ثَمّ رُؤْيَةٌ أُخْرَى بَعْدَ هَذِهِ
ثُمّ قَالَ { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى } أَيْ فِي نَزْلَةٍ نَزَلَهَا
جِبْرِيلُ إلَيْهِ مَرّةً فَرَآهُ فِي صُورَتِهِ الّتِي هُوَ عَلَيْهَا { عِنْدَ سِدْرَةِ
الْمُنْتَهَى عِنْدَهَا جَنّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السّدْرَةَ مَا يَغْشَى }
قَالَ يَغْشَاهَا فِرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ وَفِي رِوَايَةٍ يَنْتَثِرُ مِنْهَا
الْيَاقُوتُ وَثَمَرُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ ثُمّ قَالَ { مَا زَاغَ الْبَصَرُ
} وَلَمْ يَقُلْ الْفُؤَادُ كَمَا قَالَ فِي الّتِي قَبْلَ هَذِهِ فَدَلّ عَلَى
أَنّهَا رُؤْيَةُ عَيْنٍ وَبَصَرٍ فِي النّزْلَةِ الْأُخْرَى ، ثُمّ قَالَ {
لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبّهِ الْكُبْرَى } وَإِذَا كَانَتْ رُؤْيَةَ عَيْنٍ
فَهِيَ مِنْ الْآيَاتِ الْكُبْرَى ، وَمِنْ أَعْظَمِ الْبَرَاهِينِ وَالْعِبَرِ ،
وَصَارَتْ الرّؤْيَا الْأُولَى بِالْإِضَافَةِ إلَى الْأُخْرَى لَيْسَتْ مِنْ
الْكِبْرِ لِأَنّ مَا يَرَاهُ الْعَبْدُ فِي مَنَامِهِ دُونَ مَا يَرَاهُ فِي
يَقَظَتِهِ لَا مَحَالَةَ وَكَذَلِكَ قَالَ فِي أَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ إنّهُ
رَأَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى نَهَرَيْنِ ظَاهِرَيْنِ وَنَهَرَيْنِ
بَاطِنِينَ وَأَخْبَرَهُ جِبْرِيل أَنّ الظّاهِرَيْنِ النّيلُ وَالْفُرَاتُ ،
وَذَكَرَ فِي حَدِيثِ أَنَس أَنّهُ رَأَى هَذَيْنِ النّهَرَيْنِ فِي السّمَاءِ
الدّنْيَا ، وَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ هُمَا النّيلُ وَالْفُرَاتُ ، أَصُلْهُمَا
وَعُنْصُرُهُمَا ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رَأَى فِي حَالِ الْيَقَظَةِ
مَنْبَعَهُمَا ، وَرَأَى فِي الْمَرّةِ الْأُولَى النّهَرَيْنِ دُونَ أَنْ يَرَى
أَصْلَهُمَا وَاَللّهُ أَعْلَمُ . فَقَدْ جَاءَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى :
{ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّاهُ فِي الْأَرْضِ } [
الْمُؤْمِنُونَ 18 ] أَنّهُمَا النّيلُ وَالْفُرَاتُ أُنْزِلَا مِنْ الْجَنّة مِنْ
أَسْفَلِ دَرَجَةٍ مِنْهَا عَلَى جُنَاح جِبْرِيل ، فَأُودَعهُمَا بُطُون الْجِبَالَ
ثُمّ إنّ اللّهَ سُبْحَانَهُ سَيَرْفَعُهُمَا ، وَيَذْهَبُ بِهِمَا عِنْدَ رَفْعِ
الْقُرْآنِ وَذَهَابِ الْإِيمَانِ فَلَا يَبْقَى عَلَى الْأَرْض خَيْر ، وَذَلِكَ
قَوْله تَعَالَى : { وَإِنّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } [ ص 194 ]
ذَكَرَهُ النّحَاسُ فِي الْمَعَانِي بِأَتَمّ مِنْ هَذَا فَاخْتَصَرَهُ وَوَقَعَ
فِي كِتَابِ الْمُعَلّمِ لِلْمَازَرِيّ قَوْلٌ رَابِعٌ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ
الْأَقْوَالِ قَالَ كَانَ الْإِسْرَاءُ بِجَسَدِهِ فِي الْيَقَظَةِ إلَى بَيْتِ
الْمَقْدِسِ ، فَكَانَتْ رُؤْيَا عَيْنٍ ثُمّ أُسْرِيَ بِرُوحِهِ إلَى فَوْقِ
سَبْعِ سَمَوَاتٍ وَلِذَلِكَ شَنّعَ الْكُفّارُ قَوْلَهُ وَأَتَيْت بَيْتَ
الْمَقْدِسِ فِي لَيْلَتِي هَذِهِ وَلَمْ يُشَنّعُوا قَوْلَهُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ
.
شِمَاسُ الْبُرَاقِ
فَصْلٌ وَمِمّا يُسْأَلُ عَنْهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ شِمَاسُ الْبُرَاقِ حِينَ
رَكِبَهُ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ
أَمَا تَسْتَحْيِي يَا بُرَاقُ فَمَا رَكِبَك عَبْدٌ لِلّهِ قَبْلَ مُحَمّدٍ هُوَ
أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنْهُ فَقَدْ قِيلَ فِي نُفْرَتِهِ مَا قَالَهُ ابْنُ بَطّالٍ
فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصّحِيحِ قَالَ كَانَ ذَلِكَ لِبُعْدِ عَهْدِ الْبُرَاقِ
بِالْأَنْبِيَاءِ وَطُولِ الْفَتْرَةِ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمّدٍ عَلَيْهِمَا
السّلَامُ وَرَوَى غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ سَبَبًا آخَرَ قَالَ فِي رِوَايَتِهِ فِي
حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ قَالَ جِبْرِيلُ لِمُحَمّدِ عَلَيْهِ السّلَامُ حِينَ شَمَسَ
بِهِ الْبُرَاقُ لَعَلّك يَا مُحَمّدُ مَسِسْت الصّفْرَاءَ الْيَوْمَ فَأَخْبَرَهُ
النّبِيّ - صَلّى اللّه عَلَيْهِ وَسَلّمَ - أَنّهُ مَا مَسّهَا إلّا أَنّهُ مَرّ
بِهَا ، فَقَالَ تَبّا لِمَنْ يَعْبُدَك مِنْ دُونِ اللّهِ وَمَا مَسّهَا إلّا
لِذَلِكَ وَذَكَرَ هَذِهِ الرّوَايَةَ أَبُو سَعِيدٍ النّيْسَابُورِيّ فِي شَرَفِ
الْمُصْطَفَى ، فَاَللّهُ أَعْلَمُ وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ الصّفْرَاءِ فِي مُسْنَدِ
الْبَزّارِ ، وَأَنّهَا كَانَتْ صَنَمًا بَعْضُهُ مِنْ ذَهَبٍ فَكَسُرّهَا رَسُولُ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - يَوْمَ الْفَتْحِ وَفِي الْحَدِيثِ
الّذِي خَرّجَهُ التّرْمِذِيّ مِنْ طَرِيقِ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيّ أَنّهُ -
عَلَيْهِ السّلَامُ - حِينَ انْتَهَى إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، قَالَ جِبْرِيلُ
بِإِصْبَعِهِ إلَى الصّخْرَةِ فَخَرَقَهَا فَشَدّ بِهَا الْبُرَاقَ وَصَلّى ،
وَأَنّ حُذَيْفَةَ أَنْكَرَ هَذِهِ الرّوَايَةَ وَقَالَ لَمْ يَفِرّ مِنْهُ وَقَدْ
سَخّرَهُ لَهُ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ وَفِي هَذَا مِنْ الْفِقْهِ عَلَى
رِوَايَةِ بُرَيْدَةَ التّنْبِيه عَلَى الْأَخْذِ بِالْحَزْمِ مَعَ صِحّة
التّوَكّل ، وَأَنّ الْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ كَمَا - رُوِيَ عَنْ وَهْب بْن
مُنَبّهٍ - لَا يَمْنَعُ الْحَازِمُ مِنْ تُوقِي الْمَهَالِك . قَالَ وَهْب :
وَجَدَتْهُ فِي سَبْعِينَ كِتَابًا مِنْ كُتُبِ اللّهِ الْقَدِيمَةِ [ ص 195 ]
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَيّدْهَا وَتَوَكّلْ فَإِيمَانُهُ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِأَنّهُ قَدْ سُخّرَ لَهُ كَإِيمَانِهِ بِقَدَرِ اللّهِ
وَعِلْمِهِ بِأَنّهُ سَبَقَ فِي عِلْمِ الْكِتَابِ مَا سَبَقَ وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ
يَتَزَوّدُ فِي أَسْفَارِهِ وَيَعُدّ السّلَاحَ فِي حُرُوبِهِ حَتّى لَقَدْ
ظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ . وَرَبْطُهُ لِلْبُرَاقِ فِي
حَلْقَةِ الْبَابِ مِنْ هَذَا الْفَنّ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَقَدْ رَوَاهُ
غَيْرُ بُرَيْدَةَ وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ مِنْ
طَرِيقِ أَنَسٍ وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ وَغَيْرِهِمَا أَعْنِي رَبْطَهُ
لِلْبُرَاقِ فِي الْحَلْقَةِ الّتِي كَانَتْ تَرْبُطُهُ فِيهَا الْأَنْبِيَاءُ
غَيْرَ أَنّ الْحَدِيثَ يَرْوِيهِ دَاوُدُ بْنُ الْمُحَبّرِ وَهُوَ ضَعِيفٌ .
مَعْنَى قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ مَنْ مَعَك
مَعْنَى قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ مَنْ مَعَك وَمِمّا يُسْأَلُ عَنْهُ قَوْلُ
الْمَلَائِكَةِ فِي كُلّ سَمَاءٍ لِجِبْرِيلَ مَنْ مَعَك ، فَيَقُولُ مُحَمّدٌ
فَيَقُولُونَ أَوَقَدْ بُعِثَ إلَيْهِ فَيَقُولُ نَعَمْ هَكَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ
فِي الصّحَاحِ ، وَمَعْنَى سُؤَالِهِمْ عَنْ الْبَعْثِ إلَيْهِ فِيمَا قَالَ
بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَيْ قَدْ بُعِثَ إلَيْهِ إلَى السّمَاءِ كَمَا قَدْ
وَجَدُوا فِي الْعِلْمِ أَنّهُ سَيُعْرَجُ بِهِ وَلَوْ أَرَادُوا بَعْثَهُ إلَى
الْخَلْقِ لَقَالُوا : أَوَقَدْ بُعِثَ وَلَمْ يَقُولُوا إلَيْهِ مَعَ أَنّهُ
يَبْعُدُ أَنْ يَخْفَى عَنْ الْمَلَائِكَةِ بَعْثُهُ إلَى الْخَلْقِ فَلَا
يَعْلَمُونَ بِهِ إلَى لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ . وَفِي الْحَدِيثِ الّذِي تَقَدّمَ
فِي هَذَا الْكِتَابِ بَيَانٌ أَيْضًا حِينَ ذَكَرَ تَسْبِيحَ مَلَائِكَةِ
السّمَاءِ السّابِعَةِ ثُمّ تَسْبِيحُ مَلَائِكَةِ كُلّ سَمَاءٍ ثُمّ يَسْأَلُ
بَعْضُهُمْ بَعْضًا : مِمّ سَبّحْتُمْ حَتّى يَنْتَهِي السّؤَالُ إلَى مَلَائِكَةِ
السّمَاءِ السّابِعَةِ فَيَقُولُونَ قَضَى رَبّنَا فِي خَلْفِهِ كَذَا ، ثُمّ
يَنْتَهِي الْخَبَرُ إلَى سَمَاءِ الدّنْيَا - الْحَدِيثُ بِطُولِهِ وَفِي هَذَا
مَا يَدُلّ عَلَى أَنّ الْمَلَائِكَةَ قَدْ عَلِمَتْ بِنُبُوّةِ مُحَمّدٍ - صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ نُبّئَ وَإِنّمَا قَالَتْ أَوَقَدْ بُعِثَ
إلَيْهِ أَيْ قَدْ بُعِثَ إلَيْهِ بِالْبُرَاقِ كَمَا تَقَدّمَ عَلَى أَنّ فِي
حَدِيثِ أَنَسٍ أَنّ مَلَائِكَةَ سَمَاءِ الدّنْيَا قَالَتْ لِجِبْرِيلَ أَوَقَدْ
بُعِثَ كَمَا وَقَعَ فِي السّيرَةِ وَلَيْسَ فِي أَوّلِ الْحَدِيثِ إلَيْهِ هَذَا
إنّمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الرّؤْيَا الّتِي رَآهَا بِقَلْبِهِ كَمَا قَدّمْنَا ،
وَأَنّ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إلَيْهِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ
وَفِي هَذَا قُوّةٌ لِمَا تَقَدّمَ مِنْ أَنّ الْإِسْرَاءَ كَانَ رُؤْيَا ، ثُمّ
كَانَ رُؤْيَةً وَلِذَلِكَ لَمْ نَجِدْ فِي رِوَايَةٍ مِنْ الرّوَايَاتِ أَنّ الْمَلَائِكَةَ
قَالُوا : أَوَقَدْ بُعِثَ إلَيْهِ إلّا فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ فَاَللّهُ أَعْلَمُ
.
بَابُ الْحَفَظَةِ
[ ص 196 ] وَذَكَرَ بَابَ الْحَفَظَةِ وَأَنّ عَلَيْهِ مَلَكًا يُقَالُ لَهُ
إسْمَاعِيلُ وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُهُ فِي مُسْنَدِ الْحَارِثِ وَفِيهِ أَنّ تَحْتَ
يَدِهِ سَبْعُونَ أَلْفِ مَلَكٍ تَحْتَ يَدِ كُلّ مَلَكٍ سَبْعُونَ أَلْفِ مَلَكٍ
هَكَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ فِي رِوَايَةِ الْحَارِثِ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ
إسْحَاقَ : اثْنَا عَشَرَ أَلْفِ مَلَكٍ هَكَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ وَفِي مُسْنَدِ
الْحَارِثِ أَيْضًا . وَذَكَرَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى ، فَقَالَ لَوْ غُطّيَتْ
بِوَرَقَةِ مِنْ وَرَقِهَا هَذِهِ الْأُمّةُ لَغَطّتْهُمْ وَفِي صِفَتِهَا مِنْ
رِوَايَةِ الْجَمِيعِ فَإِذَا ثَمَرُهَا كَقِلَالِ هَجَرَ ، وَفِي حَدِيثِ
الْقِلّتَيْنِ مِنْ كِتَابِ الطّهَارَةِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْج : إذَا
كَانَ الْمَاءُ قِلّتَيْنِ مِنْ قِلَالِ هَجَرَ لَمْ يَحْمِلْ الْخَبَثَ قَالُوا :
وَالْقِلّتَانِ مِنْهَا تِسْعَانِ خَمْسمِائَةِ رِطْلٍ قَالَ التّرْمِذِيّ :
وَذَلِكَ نَحْوٌ مِنْ خَمْسِ قِرَبٍ وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ سَلّامٍ قَالَ عَنْ
بَعْضِ السّلَفِ إنّهَا سُمّيَتْ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى ، لِأَنّ رُوحَ
الْمُؤْمِنِ يَنْتَهِي بِهِ إلَيْهَا ، فَتُصَلّي عَلَيْهِ هُنَالِكَ
الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرّبُونَ . قَالَ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ عِلّيّينَ . آدَم فِي
سَمَاءِ الدّنْيَا وَالْأَسْوِدَةُ الّتِي رَآهَا فَصْلٌ وَفِيهِ أَنّهُ رَأَى
آدَم فِي سَمَاءِ الدّنْيَا ، وَعَنْ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَنْ شِمَالِهِ
أَسْوِدَةٌ وَأَنّ جِبْرِيلَ أَعْلَمَهُ أَنّ الْأَسْوِدَةَ الّتِي عَنْ يَمِينِهِ
هُمْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ : تُعْرَضُ عَلَيْهِ
أَرْوَاحُ ذُرّيّتِهِ فَإِذَا نَظَرَ إلَى الّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ وَقَدْ
سُئِلَ عَنْ هَذَا ، فَقِيلَ كَيْفَ رَأَى عَنْ يَمِينِهِ أَرْوَاحَ أَصْحَابِ
الْيَمِينِ وَلَمْ يَكُنْ إذْ ذَاكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ إلّا نَفَرٌ
قَلِيلٌ وَلَعَلّهُ لَمْ يَكُنْ مَاتَ تِلْكَ اللّيْلَةَ مِنْهُمْ أَحَدٌ ،
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْضِي أَنّهُمْ كَانُوا جَمَاعَةً . فَالْجَوَابُ أَنْ
يُقَالَ إنْ كَانَ الْإِسْرَاءُ رُؤْيَا بِقَلْبِهِ فَتَأْوِيلُهَا أَنّ ذَلِكَ
سَيَكُونُ وَإِنْ كَانَتْ رُؤْيَا عَيْنٍ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ وَغَيْرُهُ
بِمَعْنَاهُ أَنّ ذَلِكَ أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ رَآهَا هُنَالِكَ لِأَنّ اللّهَ
تَعَالَى يَتَوَفّى الْخَلْقَ فِي مَنَامِهِمْ كَمَا قَالَ فِي التّنْزِيلِ {
اللّهُ يَتَوَفّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } [ الزّمَرُ 43 ] فَصَعِدَ
بِالْأَرْوَاحِ إلَى هُنَالِكَ فَرَآهَا ثُمّ أُعِيدَتْ إلَى أَجْسَادِهَا .
وَجَوَابٌ آخَرُ وَهُوَ أَنّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ الّذِينَ ذَكَرَهُمْ اللّهُ
تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُدّثّرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : [ ص 197 ] { إِلّا
أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ } [ 39 : 45
] . قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ : هُمْ الْأَطْفَالُ الّذِينَ مَاتُوا صِغَارًا ،
وَلِذَلِكَ سَأَلُوا الْمُجْرِمِينَ { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } لِأَنّهُمْ
مَاتُوا قَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِكُفْرِ الْكَافِرِينَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي
الصّحِيحِ أَنّ أَطْفَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي كِفَالَةِ
إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ وَأَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - قَالَ لِجِبْرِيلَ حِينَ رَآهُمْ فِي الرّوْضَةِ مَعَ إبْرَاهِيمَ مَنْ
هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ فَقَالَ أَوْلَادُ الْمُؤْمِنِينَ الّذِينَ يَمُوتُونَ
صِغَارًا ، فَقَالَ لَهُ وَأَوْلَادُ الْكَافِرِينَ قَالَ وَأَوْلَادُ
الْكَافِرِين خَرّجَهُ الْبُخَارِيّ فِي الْحَدِيثِ الطّوِيلِ مِنْ كِتَابِ
الْجَنَائِزِ وَخَرّجَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَقَالَ فِيهِ أَوْلَادُ النّاسِ
فَهُوَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوّلِ نَصّ ، وَفِي الثّانِي عُمُومٌ وَقَدْ رُوِيَ فِي
أَطْفَالِ الْكَافِرِينَ أَنّهُمْ خَدَمٌ لِأَهْلِ الْجَنّةِ فَعَلَى هَذَا لَا
يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الّذِي رَآهُ عَنْ يَمِينِ آدَم مِنْ نَسَمِ ذُرّيّتِهِ
أَرْوَاحُ هَؤُلَاءِ وَفِي هَذَا مَا يَدْفَعُ تَشْعِيبَ هَذَا السّؤَالِ
وَالِاعْتِرَاضِ مِنْهُ .
مِنْ حُكْمِ الْمَاءِ
فَصْلٌ وَفِيهِ شُرْبُهُ مِنْ إنَاءِ الْقَوْمِ وَهُوَ مُغَطّى ، وَالْمَاءُ
وَإِنْ كَانَ لَا يُمْلَكُ وَالنّاسُ شُرَكَاءُ فِيهِ وَفِي النّارِ وَالْكَلَأِ
كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ لَكِنْ الْمُسْتَقَى إذَا أَحْرَزَهُ فِي وِعَائِهِ
فَقَدْ مَلَكَهُ فَكَيْفَ اسْتَبَاحَ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
شُرْبَهُ وَهُوَ مِلْكٌ لِغَيْرِهِ وَأَمْلَاكُ الْكُفّارِ لَمْ تَكُنْ أُبِيحَتْ
يَوْمئِذٍ وَلَا دِمَاؤُهُمْ . فَالْجَوَابُ أَنّ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيّةِ
كَانَ فِي عُرْفِ الْعَادَةِ عِنْدَهُمْ إبَاحَةُ الرّسُلِ لَابْنِ السّبِيلِ
فَضْلًا عَنْ الْمَاءِ وَكَانُوا يَعْهَدُونَ بِذَلِكَ إلَى رِعَائِهِمْ
وَيَشْتَرِطُونَهُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ عَقْدِ إجَارَتِهِمْ أَلّا يَمْنَعُوا
الرّسُلَ وَهُوَ اللّبَنُ مِنْ أَحَدٍ مَرّ بِهِمْ وَلِلْحُكْمِ فِي الْعُرْفِ فِي
الشّرِيعَةِ أُصُولٌ تَشْهَدُ لَهُ وَقَدْ تَرْجَمَ الْبُخَارِيّ عَلَيْهِ فِي
كِتَابِ الْبُيُوعِ وَخَرّجَ حَدِيثَ هِنْدَ بِنْتِ عُتْبَةَ ، وَفِيهِ خُذِي مَا
يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوف
الصّفّاتُ
الّتِي وَصَفَ بِهَا النّبِيّ بَعْضَ الرّسُلِ
[ ص 197 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَزَعَمَ الزّهْرِيّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيّبِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَصَفَ [ ص
198 ] وَمُوسَى وَعِيسَى حِينَ رَآهُمْ فِي تِلْكَ اللّيْلَةِ فَقَالَ أَمّا
إبْرَاهِيمُ فَلَمْ أَرَ رَجُلًا أَشْبَهَ بِصَاحِبِكُمْ وَلَا صَاحِبُكُمْ
أَشْبَهَ بِهِ مِنْهُ وَأَمّا مُوسَى فَرَجُلٌ آدَم طَوِيلٌ ضَرْبٌ جَعْدٌ أَفَتَى
كَأَنّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ وَأَمّا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ، فَرَجُلٌ
أَحْمَرُ بَيْنَ الْقَصِيرِ وَالطّوِيلِ سَبْطُ الشّعْرِ كَثِيرُ خِيلَانِ
الْوَجْهِ كَأَنّهُ خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ تَخَالُ رَأْسُهُ يَقْطُرُ مَاءً
وَلَيْسَ بِهِ مَاءٌ أَشَبَهُ رِجَالِكُمْ بِهِ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثّقَفِيّSعَنْ
دُخُولِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَصِفَةُ الْأَنْبِيَاءِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ فِيهِ أَنّهُ دَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ ، وَوَجَدَ فِيهِ نَفَرًا
مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَصَلّى بِهِمْ وَفِي [ ص 198 ] أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ صَلّى
بِهِمْ وَقَالَ مَا زَالَ مِنْ ظَهْرِ الْبُرَاقِ حَتّى رَأَى الْجَنّةَ وَالنّارَ
وَمَا وَعَدَهُ اللّهُ تَعَالَى ، ثُمّ عَادَ إلَى الْأَرْضِ وَزِيَادَةُ
الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ وَرِوَايَةُ مَنْ أَثْبَتَ مُقَدّمَةٌ عَلَى رِوَايَةِ مَنْ
نَفَى ، وَذَكَرَ فِيهِ صِفَةَ الْأَنْبِيَاءِ وَقَالَ فِي عِيسَى : كَأَنّ
رَأْسَهُ يَقْطُرُ مَاءً وَلَيْسَ بِهِ مَاءٌ وَكَأَنّهُ خَرَجَ مِنْ دِيمَاس
وَالدّيمَاسُ الْحَمّامُ وَأَصْلُهُ دِمَاسٌ وَيُجْمَعُ عَلَى دَمَامِيسَ وَقَدْ
قِيلَ فِي جَمْعِهِ دَيَامِيسُ وَمِثْلُهُ قِيرَاطٌ وَدِينَارٌ وَدِيبَاجٌ
الْأَصْلُ فِيهَا كُلّهَا : التّضْعِيفُ ثُمّ قُلِبَ الْحَرْفُ الْمُدْغَمُ يَاءً
فَلَمّا جَمَعُوا وَصَغّرُوا ، رَدّوهُ إلَى أَصْلِهِ فَقَالُوا : قَرَارِيطُ
وَدَنَانِيرُ [ وَقُرَيْرِيطٌ وَدُنَيْنِيرٌ ] ، غَيْرَ أَنّهُمْ لَمْ يَقُولُوا :
دَنَانِيرُ وَلَا قَيَارِيط ، كَمَا قَالُوا : دَيَامِيسُ وَقَالُوا : دَبَابِيجُ
وَدَبَابِيجُ وَأَصْلُ الدّمْسِ التّغْطِيَةُ وَمِنْهُ لَيْلٌ دَامِسٌ وَفِي
هَذِهِ الصّفّةِ مِنْ صِفَاتِ عِيسَى عَلَيْهِ السّلَامُ إشَارَةٌ إلَى الرّيّ
وَالْخِصْبِ الّذِي يَكُونُ فِي أَيّامِهِ إذْ أُهْبِطَ إلَى الْأَرْضِ وَاَللّهُ
أَعْلَمُ . وَذَكَرَ فِي صِفَةِ مُوسَى أَنّهُ آدَم طُوَالٌ وَلِوَصْفِهِ إيّاهُ
بِالْأَدْمَةِ أَصْلٌ فِي كِتَابِ اللّهِ تَعَالَى ، قَالَهُ الطّبَرِيّ عِنْدَ
تَفْسِيرِ قَوْلِهِ { تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } قَالَ فِي خُرُوجِ
يَدِهِ بَيْضَاءَ آيَةٌ فِي أَنْ خَرَجَتْ بَيْضَاءَ مُخَالِفًا لَوْنُهَا
لِسَائِرِ لَوْنِ جَسَدِهِ وَذَلِكَ دَلِيلٌ بَيْنَ عَلَى الْأَدْمَةِ الّتِي هِيَ
خِلَافُ الْبَيَاضِ . وَذَكَرَ إبْرَاهِيمَ فَقَالَ لَمْ أَرَ رَجُلًا أَشَبَهَ
بِصَاحِبِكُمْ وَلَا صَاحِبُكُمْ أَشَبَهَ بِهِ مِنْه يَعْنِي : نَفْسَهُ وَفِي
آخِرِ هَذَا الْكَلَامِ إشْكَالٌ مِنْ أَجْلِ أَنْ أَشَبَهَ مَنْصُوبٌ فِي
الْمَوْضِعَيْنِ وَلَكِنْ إذَا فَهِمْت مَعْنَاهُ عَرَفْت إعْرَابَهُ وَمَعْنَاهُ
لَمْ أَرَ رَجُلًا أَشَبَهَ بِصَاحِبِكُمْ وَلَا صَاحِبُكُمْ بِهِ مِنْهُ ثُمّ
كَرّرَ أَشَبَهَ تَوْكِيدًا فَصَارَتْ لَغْوًا كَالْمُقْحَمِ وَصَاحِبُكُمْ
مَعْطُوفٌ عَلَى الضّمِيرِ الّذِي فِي أَشَبَهَ الْأَوّلِ الّذِي هُوَ نَعْتٌ
لِرَجُلِ وَحَسُنَ الْعَطْفُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يُؤَكّدْ بِهُوَ كَمَا حَسُنَ
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : [ ص 199 ] { مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا } مِنْ
أَجْلِ الْفَصْلِ بِلَا النّافِيَةِ وَلَوْ أُسْقِطَ مِنْ الْكَلَامِ أَشَبَهَ
الثّانِي ، لَكَانَ حَسَنًا جِدّا ، وَلَوْ أَخّرَ صَاحِبُكُمْ فَقَالَ وَلَا
أَشَبَهَ بِهِ صَاحِبُكُمْ مِنْهُ لَجَازَ وَيَكُونُ فَاعِلًا بِأَشْبَهَ
الثّانِيَةِ وَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ مَا رَأَيْت رَجُلًا أَحْسَنَ فِي
عَيْنِهِ الْكُحْلُ مِنْ زَيْدٍ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ عَذْرَاءُ لَمْ تَفْتَرِعْهَا
أَيْدِي النّحَاةِ بَعْدُ وَلَمْ يَشْفِ مِنْهَا مُتَقَدّمٌ مِنْهُمْ وَلَا مُتَأَخّرٌ
مَنْ رَأَيْنَا كَلَامَهُ فِيهَا وَقَدْ أَمْلَيْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ
فِيهَا تَحْقِيقًا شَافِيًا .
قَالَ
ابْنُ هِشَامٍ [ ص 199 ] وَكَانَتْ صِفَةُ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - فِيمَا - ذَكَرَ عُمَرُ مَوْلَى غُفْرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ
مُحَمّدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، قَالَ كَانَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ
عَلَيْهِ السّلَامُ إذَا نَعَتَ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
- قَالَ لَمْ يَكُنْ بِالطّوِيلِ الْمُمّغِطِ ، وَلَا الْقَصِيرِ الْمُتَرَدّدِ
وَكَانَ رَبْعَةً مِنْ الْقَوْمِ ، وَلَمْ يَكُنْ بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ وَلَا
السّبْطِ كَانَ جَعْدًا رَجُلًا ، وَلَمْ يَكُنْ بِالْمُطَهّمِ وَلَا
الْمُكَلْثَمِ وَكَانَ أَبْيَضَ مُشْرَبًا ، أَدْعَجَ الْعَيْنَيْنِ أَهْدَبَ
الْأَشْفَارِ جَلِيلَ الْمُشَاشِ الْكَتَدِ دَقِيقَ الْمَسْرُبَةِ أَجْرَدَ شَثْنَ
الْكَفّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ إذَا مَشَى تَقَلّعَ ، كَأَنّمَا يَمْشِي فِي صَبَبٍ
وَإِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ مَعًا ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النّبُوّةِ وَهُوَ
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَاتَمُ النّبِيّينَ أَجْوَدَ النّاسِ كَفّا ،
وَأَجْرَأَ النّاسِ صَدْرًا ، وَأَصْدَقَ النّاسِ لَهْجَةً وَأَوْفَى النّاسِ
ذِمّةً وَأَلْيَنَهُمْ عَرِيكَةً وَأَكْرَمَهُمْ عِشْرَةً مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً
هَابَهُ وَمَنْ خَالَطَهُ أَحَبّهُ يَقُولُ نَاعَتْهُ لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلَا
بَعْدَهُ مِثْلَهُ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَSصِفَةُ
النّبِيّ فَصْلٌ وَذَكَرَ فِي صِفَةِ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
مِمّا نَعَتَهُ بِهِ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - فَقَالَ
لَمْ يَكُنْ بِالطّوِيلِ الْمُمّغِطِ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَفِي غَيْرِ
هَذِهِ الرّوَايَةِ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَذَكَرَ الْأَوْصَافَ إلَى
آخِرِهَا وَقَدْ شَرَحَهَا أَبُو عُبَيْدٍ ، فَقَالَ عَنْ الْأَصْمَعِيّ ،
وَالْكِسَائِيّ وَأَبِي عَمْرٍو وَغَيْرِ وَاحِدٍ قَوْلُهُ لَيْسَ بِالطّوِيلِ
الْمُمّعِطِ أَيْ لَيْسَ بِالْبَائِنِ الطّوِيلِ وَلَا الْقَصِيرِ الْمُتَرَدّدِ
يَعْنِي : الّذِي تَرَدّدَ خَلْقُهُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ وَهُوَ مُجْتَمَعٌ
لَيْسَ بِسَبْطِ الْخَلْقِ يَقُولُ فَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ وَلَكِنْ رَبْعَةٌ
بَيْنَ الرّجُلَيْنِ وَهَكَذَا صِفَتُهُ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَفِي
حَدِيثٍ آخَرَ ضَرَبَ اللّحْمُ بَيْنَ الرّجُلَيْنِ . وَقَوْلُهُ لَيْسَ
بِالْمُطَهّمِ قَالَ الْأَصْمَعِيّ : هُوَ التّامّ كُلّ شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى
حِدَتِهِ فَهُوَ بَارِعُ الْجَمَالِ وَقَالَ غَيْرُ الْأَصْمَعِيّ الْمُكَلْثَمُ
الْمُدَوّرُ الْوَجْهُ يَقُولُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَكِنّهُ مَسْنُونٌ وَقَوْله :
مُشْرَبٌ يَعْنِي الّذِي أُشْرِبَ حُمْرَةً وَالْأَدْعَجُ الْعَيْنُ الشّدِيدُ
سَوَادِ الْعَيْنِ قَالَ الْأَصْمَعِيّ : الدّعْجَةُ هِيَ السّوَادُ وَالْجَلِيلُ
الْمُشَاشُ : الْعَظِيمُ الْعِظَامِ مِثْلَ الرّكْبَتَيْنِ وَالْمِرْفَقَيْنِ
وَالْمَنْكِبَيْنِ وَقَوْلُهُ الْكَتَدُ هُوَ الْكَاهِلُ وَمَا يَلِيهِ مِنْ
جَسَدِهِ وَقَوْلُهُ شَثْنُ الْكَفّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ يَعْنِي : أَنّهُمَا [ ص
200 ] وَقَوْلُهُ لَيْسَ بِالسّبْطِ وَلَا الْجَعْدِ الْقَطَطِ فَالْقَطَطُ
الشّدِيدُ الْجُعُودَةُ مِثْلُ شُعُورِ الْحَبَشَةِ ، وَوَقَعَ فِي غَرِيبِ
الْحَدِيثِ لِأَبِي عُبَيْدٍ التّامّ كُلّ شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى حِدَتِهِ . يَقُول
: لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَكِنّهُ بَارِعُ الْجَمَالِ فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ أَعْنِي :
لَيْسَ كَذَلِكَ مُخِلّةً بِالشّرْحِ وَقَدْ وَجَدْته فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ
أَبِي عُبَيْدٍ بِإِسْقَاطِ يَقُولُ كَذَلِكَ وَلَكِنْ عَلَى نَصّ ذَكَرْنَاهُ
آنِفًا . [ ص 201 ]
رُؤْيَةُ النّبِيّ رَبّهُ
فَصْلٌ وَقَدْ تَكَلّمَ الْعُلَمَاءُ فِي رُؤْيَةِ النّبِيّ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ لِرَبّهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فَرَوَى مَسْرُوقٌ عَنْ عَائِشَةَ
أَنّهَا أَنْكَرَتْ أَنْ يَكُونَ رَآهُ وَقَالَتْ مَنْ زَعَمَ أَنّ مُحَمّدًا
رَأَى رَبّهُ ، فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللّهِ الْفِرْيَةَ وَاحْتَجّتْ بِقَوْلِهِ
سُبْحَانَهُ { لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ } [
الْأَنْعَامَ 103 ] وَفِي مُصَنّفِ التّرْمِذِي ّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ وَكَعْبِ
الْأَحْبَارِ أَنّهُ رَآهُ قَالَ كَعْبٌ إنّ اللّهَ قَسّمَ رُؤْيَتَهُ وَكَلَامَهُ
بَيْنَ مُوسَى وَمُحَمّدٍ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي ذَرّ قُلْت : يَا
رَسُولَ اللّهِ هَلْ رَأَيْت رَبّك ؟ قَالَ رَأَيْت نُورًا ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ
مِنْ كِتَابِ مُسْلِمٍ أَنّهُ قَالَ نُورًا أَنّى أَرَاهُ وَلَيْسَ فِي هَذَا
الْحَدِيثِ بَيَانٌ شَافٍ أَنّهُ رَآهُ وَحُكِيَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ
الْأَشْعَرِيّ أَنّهُ قَالَ رَآهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ وَفِي تَفْسِيرِ النّقّاشِ
عَنْ ابْنِ حَنْبَلٍ أَنّهُ سُئِلَ هَلْ رَأَى مُحَمّدٌ رَبّهُ فَقَالَ رَآهُ
رَآهُ رَآهُ حَتّى انْقَطَعَ صَوْتُهُ وَفِي تَفْسِيرِ عَبْدِ الرّزّاقِ عَنْ
مَعْمَرٍ عَنْ الزّهْرِيّ وَذَكَرَ إنْكَارَ عَائِشَةَ أَنّهُ رَآهُ فَقَالَ
الزّهْرِيّ : لَيْسَتْ عَائِشَةُ أَعْلَمَ عِنْدَنَا مِنْ ابْنِ عَبّاسٍ ، وَفِي
تَفْسِيرِ ابْنِ سَلَامٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنّهُ كَانَ إذْ ذُكِرَ إنْكَارُ
عَائِشَةَ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - رَأَى
رَبّهُ يَشْتَدّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَقَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ كَقَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ رَآهُ ؟ رَوَى يُونُسُ عَنْ ابْنِ
إسْحَاقَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ سَأَلَ مَرْوَانُ أَبَا هُرَيْرَةَ هَلْ
رَأَى مُحَمّدٌ رَبّهُ ؟ قَالَ نَعَمْ وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ أَنّ ابْنَ عُمَرَ
أَرْسَلَ إلَى ابْنِ عَبّاسٍ يَسْأَلُهُ هَلْ رَأَى مُحَمّدٌ رَبّهُ ؟ فَقَالَ
نَعَمْ رَآهُ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَكَيْفَ رَآهُ فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ كَلَامًا
كَرِهْت أَنْ أُورِدَهُ بِلَفْظِهِ لِمَا يُوهِمُ مِنْ التّشْبِيهِ وَلَوْ صَحّ
لَكَانَ لَهُ تَأْوِيلٌ وَاَللّهُ أَعْلَمُ وَالتّحْصِيلُ مِنْ هَذِهِ
الْأَقْوَالِ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - أَنّهُ رَآهُ لَا عَلَى أَكْمَلِ مَا تَكُونُ
الرّؤْيَةُ عَلَى نَحْوِ مَا يَرَاهُ فِي حَظِيرَةِ الْقُدْسِ عِنْدَ الْكَرَامَةِ
الْعُظْمَى وَالنّعِيمِ الْأَكْبَرِ وَلَكِنْ دُونَ ذَلِكَ وَإِلَى هَذَا يُومِي
قَوْلُهُ رَأَيْت نُورًا وَنُورًا أَنّى أَرَاهُ فِي الرّؤْيَةِ الْأُخْرَى
وَاَللّهُ أَعْلَمُ . [ ص 202 ] وَأَمّا الدّنُوّ وَالتّدَلّي فَهُمَا خَبَرٌ عَنْ
النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَنْ بَعْضِ الْمُفَسّرِينَ وَقِيلَ
إنّ الّذِي تَدَلّى هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ تَدَلّى إلَى مُحَمّدٍ
حَتّى دَنَا مِنْهُ وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ أَيْضًا ، وَفِي الْجَامِعِ
الصّحِيحِ فِي إحْدَى الرّوَايَاتِ مِنْهُ فَتَدَلّى الْجَبّارُ وَهَذَا مَعَ
صِحّةِ نَقْلِهِ لَا يَكَادُ أَحَدٌ مِنْ الْمُفَسّرِينَ يَذْكُرُهُ
لِاسْتِحَالَةِ ظَاهِرِهِ أَوْ لِلْغَفْلَةِ عَنْ مَوْضِعِهِ وَلَا اسْتِحَالَةَ
فِيهِ لِأَنّ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ إنْ كَانَ رُؤْيَا رَآهَا بِقَلْبِهِ
وَعَيْنُهُ نَائِمَةٌ - كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ فَلَا إشْكَالَ فِيمَا يَرَاهُ
فِي نَوْمِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ فَقَدْ رَآهُ فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ وَوَضَعَ
كَفّهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ حَتّى وَجَدَ بَرْدَهَا بَيْنَ ثَدْيَيْهِ رَوَاهُ
التّرْمِذِيّ مِنْ طَرِيقِ مُعَاذٍ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ وَلَمّا كَانَتْ هَذِهِ
رُؤْيَا لَمْ يُنْكِرْهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا اسْتَبْشَعَهَا ،
وَقَدْ بَيّنّا آنِفًا أَنّ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ كَانَ رُؤْيَا ثُمّ كَانَ
يَقَظَةً فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ فَتَدَلّى الْجَبّارُ فِي الْمَرّةِ الّتِي كَانَ
فِيهَا غَيْرَ نَائِمٍ وَكَانَ الْإِسْرَاءُ بِجَسَدِهِ فَيُقَالُ فِيهِ مِنْ
التّأْوِيلِ مَا يُقَالُ فِي قَوْلِهِ يَنْزِلُ رَبّنَا كُلّ لَيْلَةٍ إلَى
سَمَاءِ الدّنْيَا فَلَيْسَ بِأَبْعَدَ مِنْهُ فِي بَابِ التّأْوِيلِ فَلَا نَكَارَةَ
فِيهِ كَانَ فِي نَوْمٍ أَوْ يَقَظَةٍ وَقَدْ أَشَرْنَا إلَى تَمَامِ هَذَا
الْمَعْنَى فِي شَرْحِ مَا تَضَمّنَهُ لَفْظُ الْقَوْسَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ قَابَ
قَوْسَيْنِ فِي جُزْءٍ أَمْلَيْنَاهُ فِي شَرْحِ سُبْحَانَ اللّهِ وَبِحَمْدِهِ
تَضَمّنَ لَطَائِفَ مِنْ مَعْنَى التّقْدِيسِ وَالتّسْبِيحِ فَلْيُنْظَرْ هُنَاكَ
وَأَمْلَيْنَا أَيْضًا فِي مَعْنَى رُؤْيَةِ الرّبّ سُبْحَانَهُ فِي الْمَنَامِ
وَفِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ مَسْأَلَةً لِقِنَاعِ الْحَقِيقَةِ فِي ذَلِكَ
كَاشِفَةً فَمَنْ أَرَادَ فَهْمَ الرّؤْيَةِ وَالرّؤْيَا فَلْيَنْظُرْهَا
هُنَالِكَ وَيُقَوّي مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَعْنَى إضَافَةِ التّدَلّي إلَى الرّبّ
سُبْحَانَهُ كَمَا فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيّ مَا رَوَاهُ ابْنُ سُنْجُرَ مُسْنَدًا
إلَى شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ ، قَالَ لَمّا صَعِدَ النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - إلَى السّمَاءِ فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ، فَلَمّا أَحَسّ
جِبْرِيلُ بِدُنُوّ الرّبّ خَرّ سَاجِدًا ، فَلَمْ يَزَلْ يُسَبّحُ سُبْحَانَ رَبّ
الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ حَتّى قَضَى اللّهُ
إلَى عَبْدِهِ مَا قَضَى ، قَالَ ثُمّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَرَأَيْته فِي خَلْقِهِ
الّذِي خُلِقَ عَلَيْهِ مَنْظُومًا أَجْنِحَتُهُ بِالزّبَرْجَدِ وَاللّؤْلُؤِ
وَالْيَاقُوتِ فَخُيّلَ إلَيّ أَنّ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ قَدْ سَدّ الْأُفُقَيْنِ
وَكُنْت لَا أَرَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ إلّا عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ وَكُنْت
أَكْثَرَ مَا أَرَاهُ عَلَى صُورَةِ دِحْيَةَ بْنِ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيّ وَكَانَ
أَحْيَانًا لَا يَرَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ إلّا كَمَا يَرَى الرّجُلُ صَاحِبَهُ مِنْ
وَرَاءِ الْغِرْبَالِ . [ ص 203 ]
لِقَاؤُهُ لِلنّبِيّينَ
فَصْلٌ وَمِمّا سُئِلَ عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ وَتَكَلّمَ فِيهِ
لِقَاؤُهُ لِآدَمَ فِي السّمَاءِ الدّنْيَا ، وَلِإِبْرَاهِيمَ فِي السّمَاءِ
السّابِعَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ الّذِينَ لَقِيَهُمْ فِي غَيْرِ
هَاتَيْنِ السّمَاءَيْنِ وَالْحِكْمَةُ فِي اخْتِصَاصِ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ
بِالسّمَاءِ الّتِي رَآهُ فِيهَا ، وَسُؤَالٌ آخَرُ فِي اخْتِصَاصِ هَؤُلَاءِ
الْأَنْبِيَاءِ بِاللّقَاءِ دُونَ غَيْرِهِمْ وَإِنْ كَانَ رَأَى الْأَنْبِيَاءَ
كُلّهُمْ فَمَا الْحِكْمَةُ فِي اخْتِصَاصِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ بِالذّكْرِ ؟
وَقَدْ تَكَلّمَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بَطّالٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيّ عَلَى
هَذَا السّؤَالِ فَلَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا ، وَمَغْزَى كَلَامِهِ الّذِي أَشَارَ
إلَيْهِ أَنّ الْأَنْبِيَاءَ لَمّا عَلِمُوا بِقُدُومِهِ عَلَيْهِمْ ابْتَدَرُوا
إلَى لِقَائِهِ ابْتِدَارَ أَهْلِ الْغَائِبِ لِلْغَائِبِ الْقَادِمِ فَمِنْهُمْ
مَنْ أَسْرَعَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْطَأَ . إلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ فَلَمْ
يَزِدْ عَلَيْهِ وَاَلّذِي أَقُولُ فِي هَذَا : إنّ مَأْخَذَ فَهْمِهِ مِنْ عِلْمِ
التّعْبِيرِ فَإِنّهُ مِنْ عِلْمِ [ ص 204 ] حَالَ ذَلِكَ النّبِيّ مِنْ شِدّةٍ
أَوْ رَخَاءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الّتِي أُخْبِرَ بِهَا عَنْ
الْأَنْبِيَاءِ فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ. وَحَدِيثُ الْإِسْرَاءِ كَانَ
بِمَكّةَ وَهِيَ حَرَمُ اللّهِ وَأَمْنُهُ وَقُطّانُهَا جِيرَانُ اللّهِ لِأَنّ
فِيهَا بَيْتَهُ فَأَوّلُ مَا رَأَى عَلَيْهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ آدَمُ الّذِي
كَانَ فِي أَمْنِ اللّهِ وَجِوَارِهِ فَأَخْرَجَهُ عَدُوّهُ إبْلِيسُ مِنْهَا ،
وَهَذِهِ الْقِصّةُ تُشْبِهُهَا الْحَالَةُ الْأُولَى مِنْ أَحْوَالِ النّبِيّ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حِينَ أَخْرَجَهُ أَعْدَاؤُهُ مِنْ حَرَمِ
اللّهِ وَجِوَارِ بَيْتِهِ فَكَرَبَهُ ذَلِكَ وَغَمّهُ . وَأَشْبَهَتْ قِصّتُهُ
فِي هَذَا قِصّةَ آدَمَ مَعَ أَنّ آدَمَ تُعْرَضُ عَلَيْهِ أَرْوَاحُ ذُرّيّتِهِ
الْبَرّ وَالْفَاجِرِ مِنْهُمْ فَكَانَ فِي السّمَاءِ الدّنْيَا بِحَيْثُ يَرَى
الْفَرِيقَيْنِ لِأَنّ أَرْوَاحَ أَهْلِ الشّقَاءِ لَا تَلِجُ فِي السّمَاءِ وَلَا
تُفَتّحُ لَهُمْ أَبْوَابُهَا كَمَا قَالَ اللّهُ تَعَالَى ، ثُمّ رَأَى فِي
الثّانِيَةِ عِيسَى وَيَحْيَى وَهُمَا الْمُمْتَحَنَانِ بِالْيَهُودِ أَمَا عِيسَى
فَكَذّبَتْهُ الْيَهُودُ وَآذَتْهُ وَهَمّوا بِقَتْلِهِ فَرَفَعَهُ اللّهُ وَأَمّا
يَحْيَى فَقَتَلُوهُ وَرَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - بَعْدَ
انْتِقَالِهِ إلَى الْمَدِينَةِ صَارَ إلَى حَالَةٍ ثَانِيَةٍ مِنْ الِامْتِحَانِ
وَكَانَتْ مِحْنَتُهُ فِيهَا بِالْيَهُودِ آذَوْهُ وَظَاهَرُوا عَلَيْهِ وَهَمّوا
بِإِلْقَاءِ الصّخْرَةِ عَلَيْهِ لِيَقْتُلُوهُ فَنَجّاهُ اللّهُ تَعَالَى كَمَا
نَجّى عِيسَى مِنْهُمْ ثُمّ سَمّوهُ فِي الشّاةِ فَلَمْ تَزَلْ تِلْكَ الْأَكْلَةُ
تُعَاوِدُهُ حَتّى قَطَعَتْ أَبْهَرَهُ كَمَا قَالَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَهَكَذَا
فَعَلُوا بِابْنَيْ الْخَالَةِ عِيسَى وَيَحْيَى ، لِأَنّ أُمّ يَحْيَى أَشْيَاعُ
بِنْتُ عِمْرَانَ أُخْتُ مَرْيَمَ ، أُمّهُمَا : حَنّةُ وَأَمّا لِقَاؤُهُ
لِيُوسُفَ فِي السّمَاءِ الثّالِثَةِ فَإِنّهُ يُؤْذِنُ بِحَالَةِ ثَالِثَةٍ
تُشْبِهُ حَالَ يُوسُفَ ، وَذَلِك بِأَنّ يُوسُفَ ظَفِرَ بِإِخْوَتِهِ بَعْدَمَا
أَخْرَجُوهُ مِنْ بَيْنِ ظَهْرَانَيْهِمْ فَصَفَحَ عَنْهُمْ وَقَالَ { لَا
تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ } الْآيَةَ وَكَذَلِك نَبِيّنَا - عَلَيْهِ السّلَامُ - أَسَرَ
يَوْمَ بَدْرٍ جُمْلَةً مِنْ أَقَارِبِهِ الّذِينَ أَخْرَجُوهُ فِيهِمْ عَمّهُ
الْعَبّاسُ وَابْنُ عَمّهِ عَقِيلٌ فَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ وَمِنْهُمْ مَنْ
قَبِلَ فِدَاءَهُ ثُمّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ عَامَ الْفَتْحِ
فَجَمَعَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ أَقُولُ مَا قَالَ أَخِي يُوسُفُ { لَا تَثْرِيبَ
عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ } ثُمّ لِقَاؤُهُ لِإِدْرِيسَ فِي السّمَاءِ الرّابِعَةِ
وَهُوَ الْمَكَانُ الّذِي سَمّاهُ اللّهُ مَكَانًا عَلِيّا ، وَإِدْرِيسُ أَوّلُ
مَنْ آتَاهُ اللّهُ الْخَطّ بِالْقَلَمِ فَكَانَ ذَلِكَ مُؤْذِنًا بِحَالَةِ
رَابِعَةٍ وَهِيَ عُلُوّ شَأْنِهِ - عَلَيْهِ السّلَامُ - حَتّى أَخَافَ
الْمُلُوكَ وَكَتَبَ إلَيْهِمْ يَدْعُوهُمْ إلَى طَاعَتِهِ حَتّى قَالَ أَبُو
سُفْيَانَ وَهُوَ عِنْدَ مَلِكِ الرّومِ ، حِين جَاءَهُ كِتَابٌ لِلنّبِيّ -
عَلَيْهِ السّلَامُ - وَرَأَى [ ص 205 ] هِرَقْلَ : لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ
أَبِي كَبْشَةَ ، حَتّى أَصْبَحَ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ وَكُتِبَ
عَنْهُ بِالْقَلَمِ إلَى جَمِيعِ مُلُوكِ الْأَرْضِ فَمِنْهُمْ مَنْ اتّبَعَهُ
عَلَى دِينِهِ كَالنّجَاشِيّ وَمَلِكِ عُمَانَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ هَادَنَهُ
وَأَهْدَى إلَيْهِ وَأَتْحَفَهُ كَهِرَقْلَ وَالْمُقَوْقَسِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ
تَعَصّى عَلَيْهِ فَأَظْهَرَهُ اللّهُ عَلَيْهِ فَهَذَا مَقَامٌ عَلِيّ ، وَخَطّ
بِالْقَلَمِ كَنَحْوِ مَا أُوتِيَ إدْرِيسُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - وَلِقَاؤُهُ
فِي السّمَاءِ الْخَامِسَةِ لِهَارُونَ الْمُحَبّبِ فِي قَوْمِهِ يُؤْذِنُ بِحُبّ
قُرَيْشٍ ، وَجَمِيعِ الْعَرَبِ لَهُ بَعْدَ بُغْضِهِمْ فِيهِ وَلِقَاؤُهُ فِي
السّمَاءِ السّادِسَةِ لِمُوسَى يُؤْذِنُ بِحَالَةِ تُشْبِهُ حَالَةَ مُوسَى حِينَ
أَمَرَ بِغَزْوِ الشّامِ فَظَهَرَ عَلَى الْجَبَابِرَةِ الّذِينَ كَانُوا فِيهَا ،
وَأَدْخَلَ بَنِي إسْرَائِيلَ الْبَلَدَ الّذِي خَرَجُوا مِنْهُ بَعْدَ إهْلَاكِ
عَدُوّهِمْ وَكَذَلِك غَزَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
تَبُوكَ مِنْ أَرْضِ الشّامِ ، وَظَهَرَ عَلَى صَاحِبِ دَوْمَةَ حَتّى صَالَحَهُ
عَلَى الْجِزْيَةِ بَعْد أَنْ أُتِيَ بِهِ أَسِيرًا ، وَافْتَتَحَ مَكّةَ ،
وَدَخَلَ أَصْحَابُهُ الْبَلَدَ الّذِي خَرَجُوا مِنْهُ ثُمّ لِقَاؤُهُ فِي
السّمَاءِ السّابِعَةِ لِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السّلَامُ - لِحِكْمَتَيْنِ
إحْدَاهُمَا : أَنّهُ رَآهُ عِنْدَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ
إلَيْهِ وَالْبَيْتُ الْمَعْمُورُ حِيَالَ مَكّةَ ، وَإِلَيْهِ تَحُجّ
الْمَلَائِكَةُ كَمَا أَنّ إبْرَاهِيمَ هُوَ الّذِي بَنَى الْكَعْبَةَ ، وَأَذّنَ
فِي النّاسِ بِالْحَجّ إلَيْهَا وَالْحِكْمَةُ الثّانِيَةُ أَنّ آخِرَ أَحْوَالِ
النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حَجّهُ إلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ ،
وَحَجّ مَعَهُ نَحْوٌ مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَرُؤْيَةُ
إبْرَاهِيمَ عِنْدَ أَهْلِ التّأْوِيلِ تُؤْذِنُ بِالْحَجّ لِأَنّهُ الدّاعِي
إلَيْهِ وَالرّافِعُ لِقَوَاعِدِ الْكَعْبَةِ الْمَحْجُوبَةِ فَقَدْ انْتَظَمَ فِي
هَذَا الْكَلَامِ الْجَوَابُ عَنْ السّؤَالَيْنِ الْمُتَقَدّمَيْنِ أَحَدُهُمَا :
السّؤَالُ عَنْ تَخْصِيصِ هَؤُلَاءِ بِالذّكْرِ وَالْآخَرُ السّؤَالُ عَنْ تَخْصِيصِهِمْ
بِهَذِهِ الْأَمَاكِنِ مِنْ السّمَاءِ الدّنْيَا إلَى السّابِعَةِ وَكَانَ
الْحَزْمُ تَرْكَ التّكَلّفِ لِتَأْوِيلِ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصّ عَنْ
السّلَفِ وَلَكِنْ عَارَضَ هَذَا الْغَرَضُ مَا يَجِبُ مِنْ التّفْكِيرِ فِي
حِكْمَةِ اللّهِ وَالتّدَبّرِ لِآيَاتِ اللّهِ وَقَوْلُ اللّهِ تَعَالَى : { إِنّ
فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ } وَقَدْ رُوِيَ أَنّ " تَفَكّرَ
سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَة " مَا لَمْ يَكُنْ النّظَرُ
وَالتّفْكِيرُ مُجَرّدًا مِنْ مُلَاحَظَةِ الْكِتَابِ وَالسّنّةِ وَمُقْتَضَى
كَلَامِ الْعَرَبِ ، فَعِنْدَ [ ص 206 ] عَصَمَنَا اللّهُ - تَعَالَى - مِنْ
ذَلِكَ وَجَعَلَنَا مِنْ الْمُمْتَثِلِينَ لِأَمْرِهِ حَيْثُ يَقُولُ {
فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } وَلْيَدّبّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكّرَ
أُولُو الْأَلْبَابِ وَلَوْلَا إسْرَاعُ النّاسِ إلَى إنْكَارِ مَا جَهِلُوهُ
وَغِلَظُ الطّبَاعِ عَنْ فَهْمِ كَثِيرٍ مِنْ الْحِكْمَةِ لَأَبْدَيْنَا مِنْ سِرّ
هَذَا السّؤَالِ وَكَشَفْنَا عَنْ الْحِكْمَةِ فِي هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ
الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ أَكْثَرَ مِمّا كَشَفْنَا .
الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ
فَصْلٌ وَذَكَرَ الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ ، وَأَنّهُ يَدْخُلُهُ كُلّ يَوْمٍ
سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ رَوَى ابْنُ سُنْجُرَ عَنْ عَلِيّ - رَحِمَهُ اللّهُ -
قَالَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ بَيْتٌ فِي السّمَاءِ السّابِعَةِ يُقَالُ لَهُ
الضّرَاحُ وَاسْمُ السّمَاءِ السّابِعَةِ عَرِيبَا رَوَى أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ
بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ إلَى وَهْبِ بْنِ مُنَبّهٍ قَالَ مَنْ قَرَأَ الْبَقَرَةَ
وَآلَ عِمْرَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَانَ لَهُ نُورٌ يَمْلَأُ مَا بَيْنَ
عَرِيبَاءَ وَجَرِيبَاءَ وَجَرِيبَا ، وَهِيَ الْأَرْضُ السّابِعَةُ وَذَكَرَ عَنْ
عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ قَالَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ يَدْخُلُهُ
كُلّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ دِحْيَةٍ عِنْدَ كُلّ دِحْيَةٍ سَبْعُونَ أَلْفَ
مَلَكٍ رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو التّيّاحِ [ يَزِيدُ الضّبَعِيّ ] قَالَ أَبُو
سَلَمَةَ قُلْت مَا الدّحْيَةُ ؟ قَالَ الرّئِيسُ وَرَوَى ابْنُ سُنْجُرَ أَيْضًا
مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - قَالَ فِي السّمَاءِ السّابِعَةِ بَيْتٌ يُقَالُ لَهُ الْمَعْمُورُ بِحِيَالِ
مَكّةَ ، وَفِي السّمَاءِ السّابِعَةِ نَهَرٌ يُقَالُ لَهُ الْحَيَوَانُ
يَدْخُلُهُ جِبْرِيلُ كُلّ يَوْمٍ فَيَنْغَمِسُ فِيهِ انْغِمَاسَةً ثُمّ يَخْرُجُ
فَيَنْتَفِضُ انْتِفَاضَةً يَخِرّ عَنْهُ سَبْعُونَ أَلْفَ قَطْرَةٍ يَخْلُقُ
اللّهُ مِنْ كُلّ قَطْرَةٍ مَلَكًا وَيُؤْمَرُونَ أَنْ يَأْتُوا الْبَيْتَ
الْمَعْمُورَ وَيُصَلّوا فِيهِ فَيَفْعَلُونَ ثُمّ يَخْرُجُونَ فَلَا يَعُودُونَ
إلَيْهِ أَبَدًا ، [ وَ ] يُوَلّى عَلَيْهِمْ أَحَدُهُمْ يُؤْمَرُ أَنْ يَقِفَ
بِهِمْ مِنْ السّمَاءِ مَوْقِفًا يُسَبّحُونَ اللّهَ [ فِيهِ ] إلَى أَنْ تَقُومَ
السّاعَةُ " .
حَدِيثُ
أُمّ هَانِئٍ عَنْ الْإِسْرَاءِ
[ ص 200 ] قَالَ مُحَمّدُ بْنُ إسْحَاقَ وَكَانَ - فِيمَا بَلَغَنِي - عَنْ أُمّ
هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - وَاسْمُهَا : هِنْدٌ - فِي
مَسْرَى رَسُولِ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنّهَا كَانَتْ تَقُولُ
مَا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلّا وَهُوَ
فِي بَيْتِي ، نَائِمٌ عِنْدِي تِلْكَ اللّيْلَةَ فِي بَيْتِي ، فَصَلّى
الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ ثُمّ نَامَ وَنِمْنَا ، فَلَمّا كَانَ قُبَيْلَ الْفَجْرِ
أَهَبّنَا رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَلَمّا صَلّى
الصّبْحَ وَصَلّيْنَا مَعَهُ قَالَ " يَا أُمّ هَانِئٍ لَقَدْ صَلّيْت
مَعَكُمْ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ كَمَا رَأَيْت بِهَذَا الْوَادِي ، ثُمّ جِئْت
بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَصَلّيْت فِيهِ ثُمّ قَدْ صَلّيْت صَلَاةَ الْغَدَاةِ
مَعَكُمْ الْآنَ كَمَا تَرَيْنَ " ، ثُمّ قَامَ لِيَخْرُجَ فَأَخَذْت
بِطَرَفِ رِدَائِهِ فَتَكَشّفَ عَنْ بَطْنِهِ كَأَنّهُ قِبْطِيّةٌ مَطْوِيّةٌ
فَقُلْت لَهُ يَا نَبِيّ اللّهِ لَا تُحَدّثُ بِهَذَا النّاسَ فَيُكَذّبُوك
وَيُؤْذُوك ، قَالَ " وَاَللّهِ لَأُحدّثُنّهموه " . قَالَتْ فَقُلْت
لِجَارِيَةِ لِي حَبَشِيّةٍ وَيْحَك اتّبِعِي رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - حَتّى تَسْمَعِي مَا يَقُولُ النّاسُ وَمَا يَقُولُونَ لَهُ .
فَلَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى النّاسِ
أَخْبَرَهُمْ فَعَجِبُوا وَقَالُوا : مَا آيَةُ ذَلِكَ يَا مُحَمّدُ ؟ فَإِنّا
لَمْ نَسْمَعْ بِمِثْلِ هَذَا قَطّ ، قَالَ " آيَةُ ذَلِكَ أَنّي مَرَرْت
بِعِيرِ بَنِي فُلَانٍ بِوَادِي كَذَا وَكَذَا ، فَأَنْفَرَهُمْ حِسّ الدّابّةِ
فَنَدّ لَهُمْ بَعِيرٌ فَدَلَلْتهمْ عَلَيْهِ وَأَنَا مُوَجّهٌ إلَى الشّامِ .
ثُمّ أَقْبَلْت حَتّى إذَا كُنْت بِضَجَنَانَ مَرَرْت بِعِيرِ بَنِي فُلَانٍ
فَوَجَدْت الْقَوْمَ نِيَامًا ، وَلَهُمْ إنَاءٌ فِيهِ مَاءٌ قَدْ غَطّوْا عَلَيْهِ
بِشَيْءِ فَكَشَفْت غِطَاءَهُ وَشَرِبْت مَا فِيهِ ثُمّ غَطّيْت عَلَيْهِ كَمَا
كَانَ وَآيَةُ ذَلِكَ أَنّ عِيرَهُمْ الْآنَ تَصُوبُ مِنْ الْبَيْضَاءِ ، ثَنِيّةُ
التّنْعِيمِ يَقْدَمُهَا جَمْلٌ أَوْرَقُ عَلَيْهِ غِرَارَتَانِ إحْدَاهُمَا
سَوْدَاءُ وَالْأُخْرَى بَرْقَاءُ " . قَالَتْ فَابْتَدَرَ الْقَوْمُ
الثّنِيّةَ ، فَلَمْ يَلْقَهُمْ أَوّلُ مِنْ الْجَمَلِ كَمَا وُصِفَ لَهُمْ
وَسَأَلُوهُمْ عَنْ الْإِنَاءِ فَأَخْبَرُوهُمْ أَنّهُمْ وَضَعُوهُ مَمْلُوءًا
مَاءً ثُمّ غَطّوْهُ وَأَنّهُمْ هَبّوا فَوَجَدُوهُ مُغَطّى كَمَا غَطّوْهُ وَلَمْ
يَجِدُوا فِيهِ مَاءً . وَسَأَلُوا الْآخَرِينَ وَهُمْ بِمَكّةَ فَقَالُوا :
صَدَقَ وَاَللّهِ لَقَدْ أُنْفِرْنَا فِي الْوَادِي الّذِي ذَكَرَهُ وَنَدّ لَنَا
بَعِيرٌ فَسَمِعْنَا صَوْتَ رَجُلٍ يَدْعُونَا إلَيْهِ حَتّى أَخَذْنَاهُ .
فَقُلْت لِجِبْرِيلَ يَا جِبْرِيلُ مُرْهُ فَلْيَرُدّهَا إلَى مَكَانِهَا . قَالَ
فَأَمَرَهُ فَقَالَ لَهَا : اُخْبِي ، فَرَجَعَتْ إلَى مَكَانِهَا الّذِي خَرَجَتْ
مِنْهُ . فَمَا شَبّهْت رُجُوعَهَا إلّا وُقُوعِ الظّلّ . حَتّى إذَا دَخَلَتْ
مِنْ حَيْثُ خَرَجَتْ رَدّ عَلَيْهَا غِطَاءَهَا [ ص 201 ] قَالَ أَبُو سَعِيدٍ
الْخُدْرِيّ فِي حَدِيثِهِ إنّ رَسُولَ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
قَالَ " لَمّا دَخَلْت السّمَاءَ الدّنْيَا ، رَأَيْت بِهَا رَجُلًا جَالِسًا
تُعْرَضُ عَلَيْهِ أَرْوَاحُ بَنِي آدَمَ فَيَقُولُ لِبَعْضِهَا ، إذَا عُرِضَتْ
عَلَيْهِ خَيْرًا وَيُسَرّ بِهِ وَيَقُولُ رُوحٌ طَيّبَةٌ خَرَجَتْ مِنْ جَسَدٍ
طَيّبٍ وَيَقُولُ لِبَعْضِهَا إذَا عُرِضَتْ عَلَيْهِ أُفّ وَيَعْبِسُ بِوَجْهِهِ
وَيَقُولُ رُوحٌ خَبِيثَةٌ خَرَجَتْ مِنْ جَسَدٍ خَبِيثٍ . قَالَ قُلْت : مَنْ هَذَا
يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ هَذَا أَبُوك آدَمُ ، تُعْرَضُ عَلَيْهِ أَرْوَاحُ
ذُرّيّتِهِ فَإِذَا مَرّتْ بَهْ رُوحُ الْمُؤْمِنِ مِنْهُمْ سُرّ بِهَا : وَقَالَ
رُوحٌ طَيّبَةٌ خَرَجَتْ مِنْ جَسَدٍ طَيّبٍ . وَإِذَا مَرّتْ بِهِ رُوحُ
الْكَافِرِ مِنْهُمْ أَفّفَ مِنْهَا ، وَكَرِهَهَا ، وَسَاءَ ذَلِكَ وَقَالَ رُوحٌ
خَبِيثَةٌ خَرَجَتْ مِنْ جَسَدٍ خَبِيثٍ [ ص 202 ] قَالَ ثُمّ رَأَيْت رِجَالًا
لَهُمْ مَشَافِرُ كَمَشَافِرِ الْإِبِلِ فِي أَيْدِيهِمْ قِطَعٌ مِنْ نَارٍ
كَالْأَفْهَارِ يَقْذِفُونَهَا فِي أَفْوَاهِهِمْ فَتَخْرُجُ مِنْ أَدْبَارِهِمْ .
فَقُلْت : مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ أَكَلَةُ أَمْوَالِ
الْيَتَامَى ظُلْمًا [ ص 203 ] قَالَ ثُمّ رَأَيْت رِجَالًا لَهُمْ بُطُونٌ لَمْ
أَرَ مِثْلَهَا قَطّ بِسَبِيلِ آلِ فِرْعَوْنَ ، يَمُرّونَ عَلَيْهِمْ كَالْإِبِلِ
الْمَهْيُومَةِ حِينَ يُعْرَضُونَ عَلَى النّارِ يَطَئُونَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ
عَلَى أَنْ يَتَحَوّلُوا مِنْ مَكَانِهِمْ ذَلِكَ . قَالَ قُلْت : مَنْ هَؤُلَاءِ
يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ أَكَلَةُ الرّبَا . قَالَ ثُمّ رَأَيْت رِجَالًا
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ لَحْمٌ ثَمِينٌ طَيّبٌ إلَى جَنْبِهِ لَحْمٌ غَثّ مُنْتِنٌ
يَأْكُلُونَ مِنْ الْغَثّ الْمُنْتِنِ وَيَتْرُكُونَ السّمِينَ الطّيّبَ . قَالَ
قُلْت : مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ الّذِينَ يَتْرُكُونَ مَا
أَحَلّ اللّهُ لَهُمْ مِنْ النّسَاءِ وَيَذْهَبُونَ إلَى مَا حَرّمَ اللّهُ
عَلَيْهِمْ مِنْهُنّ . قَالَ ثُمّ رَأَيْت نِسَاءً مُعَلّقَاتٍ بِثُدِيّهِنّ
فَقُلْت : مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ هَؤُلَاءِ اللّاتِي أَدْخَلْنَ
عَلَى الرّجَالِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَوْلَادِهِمْ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : وَحَدّثَنِي
جَعْفَرُ بْنُ عَمْرٍو ، عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمّدٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَالَ " اشْتَدّ غَضَبُ اللّهِ عَلَى
امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ مِنْهُمْ فَأَكَلَ حَرَائِبَهُمْ
وَاطّلَعَ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ " . عَوْدٌ إلَى حَدِيثِ الْخُدْرِيّ ثُمّ
رَجَعَ إلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ " ثُمّ أَصْعَدَنِي
إلَى السّمَاءِ الثّانِيَةِ ، فَإِذَا فِيهَا ابْنَا الْخَالَةِ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ ، وَيَحْيَى بْنُ زَكَرِيّا ، قَالَ ثُمّ أَصْعَدَنِي إلَى السّمَاءِ
الثّالِثَةِ فَإِذَا فِيهَا رَجُلٌ صُورَتُهُ كَصُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ
الْبَدْرِ قَالَ قُلْت : مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ هَذَا أَخُوك يُوسُفُ
بْنُ يَعْقُوبَ . قَالَ ثُمّ أَصْعَدَنِي [ ص 204 ] الرّابِعَةِ فَإِذَا فِيهَا
رَجُلٌ فَسَأَلْته : مَنْ هُوَ ؟ قَالَ هَذَا إدْرِيسُ - قَالَ يَقُولُ رَسُولُ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - { وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيّا } -
قَالَ ثُمّ أَصْعَدَنِي إلَى السّمَاءِ الْخَامِسَةِ فَإِذَا فِيهَا كَهْلٌ
أَبْيَضُ الرّأْسِ وَاللّحْيَةِ عَظِيمُ الْعُثْلُونِ لَمْ أَرَ كَهْلًا أَجْمَلَ
مِنْهُ قَالَ قُلْت : مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ هَذَا الْمُحَبّبُ فِي
قَوْمِهِ هَارُونُ بْنُ عِمْرَانَ ، قَالَ ثُمّ أَصْعَدَنِي إلَى السّمَاءِ
السّادِسَةِ فَإِذَا فِيهَا رَجُلٌ آدَمُ طَوِيلٌ أَقْنَى كَأَنّهُ مِنْ رِجَالِ
شَنُوءَةَ فَقُلْت لَهُ مَنْ هَذَا يَا [ ص 205 ] قَالَ هَذَا أَخُوك مُوسَى بْنُ
عِمْرَانَ . ثُمّ أَصْعَدَنِي إلَى السّمَاءِ السّابِعَةِ فَإِذَا فِيهَا كَهْلٌ
جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيّ إلَى بَابِ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ، يَدْخُلُهُ كُلّ
يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَا يَرْجِعُونَ فِيهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
لَمْ أَرَ رَجُلًا أَشْبَهَ بِصَاحِبِكُمْ وَلَا صَاحِبَكُمْ أَشْبَهَ بِهِ مِنْهُ
[ ص 206 ] قَالَ قُلْت : مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ ؟ قَالَ هَذَا أَبُوك
إبْرَاهِيمُ . قَالَ ثُمّ دَخَلَ بِي الْجَنّةَ فَرَأَيْت فِيهَا جَارِيَةً
لَعْسَاءَ فَسَأَلْتهَا : لِمَنْ أَنْتِ ؟ وَقَدْ أَعْجَبَتْنِي حِينَ رَأَيْتهَا
، فَقَالَتْ لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ فَبَشّرَ بِهَا رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ " [ ص 207 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ :
وَمِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ - عَنْ
النّبِيّ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيمَا بَلَغَنِي : أَنّ جِبْرِيلَ
لَمْ يَصْعَدْ بِهِ إلَى سَمَاءٍ مِنْ السّمَوَاتِ إلّا قَالُوا لَهُ حِينَ
يَسْتَأْذِنُ فِي دُخُولِهَا : مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ ؟ فَيَقُولُ مُحَمّدٌ
فَيَقُولُونَ أوَ قَدْ بُعِثَ ؟ [ ص 208 ] حَيّاهُ اللّهُ مِنْ أَخ وَصَاحِبٍ
حَتّى انْتَهَى بِهِ إلَى السّمَاءِ السّابِعَةِ ثُمّ انْتَهَى بِهِ إلَى رَبّهِ
فَفَرَضَ عَلَيْهِ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلّ يَوْمٍ
قَالَ
[ ص 209 ] قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ [ ص 210 ]
فَأَقْبَلْت رَاجِعًا ، فَلَمّا مَرَرْت بِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَنِعْمَ
الصّاحِبُ كَانَ لَكُمْ سَأَلَنِي كَمْ فُرِضَ عَلَيْك مِنْ الصّلَاةِ ؟ فَقُلْت
خَمْسِينَ صَلَاةً كُلّ يَوْمٍ فَقَالَ إنّ الصّلَاةَ ثَقِيلَةٌ وَإِنّ أُمّتَك
ضَعِيفَةٌ فَارْجِعْ إلَى رَبّك ، فَاسْأَلْهُ أَنْ يُخَفّفَ عَنْك وَعَنْ أُمّتِك
. فَرَجَعْت فَسَأَلْت رَبّي أَنْ يُخَفّفَ عَنّي ، وَعَنْ أُمّتِي ، فَوَضَعَ
عَنّي عَشْرًا . ثُمّ انْصَرَفْت فَمَرَرْت عَلَى مُوسَى فَقَالَ لِي مِثْلَ
ذَلِكَ فَرَجَعْت فَسَأَلْت رَبّي ، فَوَضَعَ عَنّي عَشْرًا . ثُمّ انْصَرَفْت ،
فَمَرَرْت عَلَى مُوسَى ، فَقَالَ لِي مِثْلَ ذَلِكَ فَرَجَعْت فَسَأَلْته
فَوَضَعَ [ ص 211 ] قَالَ فَارْجِعْ فَاسْأَلْ حَتّى انْتَهَيْت إلَى أَنْ وُضِعَ
ذَلِكَ عَنّي ، إلّا خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ . ثُمّ رَجَعْت
إلَى [ ص 212 ] مُوسَى ، فَقَالَ لِي مِثْلَ ذَلِكَ فَقُلْت : قَدْ رَاجَعْت رَبّي
وَسَأَلْته ، حَتّى اسْتَحْيَيْت مِنْهُ فَمَا أَنَا بِفَاعِلِ " ، رَوَاهُ
الْبَيْهَقِيّ فِي كِتَابِ دَلَائِلِ النّبُوّةِ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي
حَاتِمٍ [ ص 213 ] فَمَنْ أَدّاهُنّ مِنْكُمْ إيمَانًا بِهِنّ وَاحْتِسَابًا
لَهُنّ كَانَ لَهُ أَجْرُ خَمْسِينَ صَلَاةً مَكْتُوبَةً . رَوَاهُ . وَفِي
الْحَدِيثِ غَرَابَةٌ وَنَكَارَةٌSفَرْضُ
الصّلَاةِ
فَصْلٌ وَأَمّا فَرْضُ الصّلَاةِ عَلَيْهِ هُنَالِكَ فَفِيهِ التّنْبِيهُ عَلَى
فَضْلِهَا ، حَيْثُ لَمْ تُفْرَضْ إلّا فِي الْحَضْرَةِ الْمُقَدّسَةِ وَلِذَلِكَ
كَانَتْ الطّهَارَةُ مِنْ شَأْنِهَا ، وَمِنْ شَرَائِطِ أَدَائِهَا ،
وَالتّنْبِيهِ عَلَى أَنّهَا مُنَاجَاةُ الرّبّ وَأَنّ الرّبّ تَعَالَى مُقْبِلٌ
بِوَجْهِهِ عَلَى الْمُصَلّي يُنَاجِيهِ يَقُولُ حَمِدَنِي عَبْدِي ، [ ص 207 ]
زَمْزَمَ كَمَا يَتَطَهّرُ الْمُصَلّي لِلصّلَاةِ وَأُخْرِجَ عَنْ الدّنْيَا
بِجِسْمِهِ كَمَا يَخْرُجُ الْمُصَلّي عَنْ الدّنْيَا بِقَلْبِهِ وَيَحْرُمُ
عَلَيْهِ كُلّ شَيْءٍ إلّا مُنَاجَاةُ رَبّهِ وَتَوَجّهُهُ إلَى قِبْلَتِهِ فِي
ذَلِكَ الْحِينِ وَهُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ ، وَرُفِعَ إلَى السّمَاءِ كَمَا
يَرْفَعُ الْمُصَلّي يَدَيْهِ إلَى جِهَةِ السّمَاءِ إشَارَةً إلَى الْقِبْلَةِ
الْعُلْيَا فَهِيَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ ، وَإِلَى جِهَةِ عَرْشِ مَنْ
يُنَاجِيهِ وَيُصَلّي لَهُ سُبْحَانَهُ .
فَرْضُ الصّلَوَاتِ خَمْسِينَ
فَصْلٌ وَأَمّا فَرْضُ الصّلَوَاتِ خَمْسِينَ ثُمّ حَطّ مِنْهَا عَشْرًا بَعْدَ
عَشْرٍ إلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ . وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا أَنّهَا حُطّتْ خَمْسًا
بَعْدَ خَمْسٍ وَقَدْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرّوَايَتَيْنِ لِدُخُولِ
الْخَمْسِ فِي الْعَشْرِ فَقَدْ تُكُلّمَ فِي هَذَا النّقْصِ مِنْ الْفَرِيضَةِ
أَهُوَ نَسْخٌ أَمْ لَا ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فَقَالَ قَوْمٌ هُوَ مِنْ بَابِ نَسْخِ
الْعِبَادَةِ قَبْلَ الْعَمَلِ بِهَا ، وَأَنْكَرَ أَبُو جَعْفَرٍ النّحّاسُ هَذَا
الْقَوْلَ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا الْبِنَاءُ عَلَى أَصْلِهِ وَمَذْهَبِهِ
فِي أَنّ الْعِبَادَةَ لَا يَجُوزُ نَسْخُهَا قَبْلَ الْعَمَلِ بِهَا ، لِأَنّ
ذَلِكَ عِنْدَهُ مِنْ الْبَدَاءِ وَالْبَدَاءُ مُحَالٌ عَلَى اللّهِ سُبْحَانَهُ .
الثّانِي : أَنّ الْعِبَادَةَ إنْ جَازَ نَسْخُهَا قَبْلَ الْعَمَلِ بِهَا عِنْدَ
مَنْ يَرَى ذَلِكَ فَلَيْسَ يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ نَسْخُهَا قَبْلَ هُبُوطِهَا
إلَى الْأَرْضِ وَوُصُولِهَا إلَى الْمُخَاطَبِينَ قَالَ وَإِنّمَا ادّعَى
النّسْخَ فِي هَذِهِ الصّلَوَاتِ الْمَوْضُوعَةِ عَنْ مُحَمّدٍ وَأُمّتِهِ
الْقَاشَانِيّ ، لِيُصَحّحَ بِذَلِكَ مَذْهَبَهُ فِي أَنّ الْبَيَانَ لَا
يَتَأَخّرُ ثُمّ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ إنّمَا هِيَ شَفَاعَةٌ شَفَعَهَا رَسُولُ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - لِأُمّتِهِ وَمُرَاجَعَةٌ رَاجَعَهَا
رَبّهُ لِيُخَفّفَ عَنْ أُمّتِهِ وَلَا يُسَمّى مِثْلُ هَذَا نَسْخًا . قَالَ
الْمُؤَلّفُ أَمّا مَذْهَبُهُ فِي أَنّ الْعِبَادَةَ لَا تُنْسَخُ قَبْلَ
الْعَمَلِ بِهَا ، وَأَنّ ذَلِكَ بَدَاءٌ فَلَيْسَ بِصَحِيحِ لِأَنّ حَقِيقَةَ
الْبَدَاءِ أَنْ يَبْدُوَ لِلْآمِرِ رَأْيٌ يَتَبَيّنُ لَهُ الصّوَابُ فِيهِ
بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ تَبَيّنَهُ وَهَذَا مُحَالٌ فِي حَقّ مَنْ يَعْلَمُ
الْأَشْيَاءَ بِعِلْمِ قَدِيمٍ وَلَيْسَ النّسْخُ مِنْ هَذَا فِي شَيْءٍ إنّمَا
النّسْخُ تَبْدِيلُ حُكْمٍ بِحُكْمِ وَالْكُلّ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ وَمُقْتَضَى
حِكْمَتِهِ كَنَسْخِهِ الْمَرَضَ بِالصّحّةِ وَالصّحّةِ بِالْمَرَضِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ وَأَيْضًا بِأَنّ الْعَبْدَ الْمَأْمُورَ يَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ تَوَجّهِ
الْأَمْرِ إلَيْهِ [ ص 208 ] كَانَ وَاجِبًا فَإِنْ نُسِخَ الْحُكْمُ قَبْلَ
الْفِعْلِ فَقَدْ حَصَلَتْ فَائِدَتَانِ الْعَزْمُ وَاعْتِقَادُ الْوُجُوبِ .
وَعَلِمَ اللّهُ ذَلِكَ مِنْهُ فَصَحّ امْتِحَانُهُ لَهُ وَاخْتِبَارُهُ إيّاهُ
وَأَوْقَعَ الْجَزَاءَ عَلَى حَسَبِ مَا عَلِمَ مِنْ نِيّتِهِ وَإِنّمَا الّذِي
لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْأَمْرِ قَبْلَ نُزُولِهِ وَقَبْلَ عِلْمِ الْمُخَاطَبِ بِهِ
وَاَلّذِي ذَكَرَ النّحّاسُ مِنْ نَسْخِ الْعِبَادَةِ بَعْدَ الْعَمَلِ بِهَا ،
فَلَيْسَ هُوَ حَقِيقَةَ النّسْخِ لِأَنّ الْعِبَادَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا قَدْ مَضَتْ
وَإِنّمَا جَاءَ الْخِطَابُ بِالنّهْيِ عَنْ عَمَلِهَا لَا عَنْهَا ، وَقَوْلُنَا
فِي الْخَمْسِ وَالْأَرْبَعِينَ صَلَاةً الْمَوْضُوعَةِ عَنْ مُحَمّدٍ وَأُمّتِهِ
أَحَدُ وَجْهَيْنِ إمّا أَنْ يَكُونَ نُسِخَ مَا وَجَبَ عَلَى النّبِيّ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ أَدَائِهَا وَرُفِعَ عَنْهُ اسْتِمْرَارُ الْعَزْمِ
وَاعْتِقَادُ الْوُجُوبِ وَهَذَا قَدْ قَدّمْنَا أَنّهُ نَسْخٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ
وَنُسِخَ عَنْهُ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ مِنْ التّبْلِيغِ فَقَدْ كَانَ فِي كُلّ
مَرّةٍ عَازِمًا عَلَى تَبْلِيغِ مَا أُمِرَ بِهِ وَقَوْلُ أَبِي جَعْفَرٍ إنّمَا
كَانَ شَافِعًا وَمُرَاجِعًا يَنْفِي النّسْخَ فَإِنّ النّسْخَ قَدْ يَكُونُ عَنْ
سَبَبٍ مَعْلُومٍ فَشَفَاعَتُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لِأُمّتِهِ كَانَتْ سَبَبًا
لِلنّسْخِ لَا مُبْطِلَةً لِحَقِيقَتِهِ وَلَكِنّ الْمَنْسُوخَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ
حُكْمِ التّبْلِيغِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ قَبْلَ النّسْخِ وَحُكْمِ الصّلَوَاتِ
الْخَمْسِ فِي خَاصّتِهِ وَأَمّا أُمّتُهُ فَلَمْ يُنْسَخْ عَنْهُمْ حُكْمٌ إذْ
لَا يُتَصَوّرُ نَسْخُ الْحُكْمِ قَبْلَ بُلُوغِهِ إلَى الْمَأْمُورِ كَمَا
قَدّمْنَا ، وَهَذَا كُلّهُ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي الْحَدِيثِ . وَالْوَجْهُ
الثّانِي أَنْ يَكُونَ هَذَا خَبَرًا لَا تَعَبّدًا ، وَإِذَا كَانَ خَبَرًا لَمْ
يَدْخُلْهُ النّسْخُ وَمَعْنَى الْخَبَرِ أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ أَخْبَرَهُ
رَبّهُ أَنّ عَلَى أُمّتِهِ خَمْسِينَ صَلَاةً وَمَعْنَاهُ أَنّهَا خَمْسُونَ فِي
اللّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَكَذَلِك قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ
خَمْسُونَ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا فَتَأَوّلَهُ رَسُولُ اللّهِ -
صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَلَى أَنّهَا خَمْسُونَ بِالْفِعْلِ فَلَمْ
يَزَلْ يُرَاجِعُ رَبّهُ حَتّى بَيّنَ لَهُ أَنّهَا خَمْسُونَ فِي الثّوَابِ لَا
بِالْعَمَلِ . فَإِنْ قِيلَ فَمَا مَعْنَى نَقْضِهَا عَشْرًا بَعْدَ عَشْرٍ ؟
قُلْنَا : لَيْسَ كُلّ الْخَلْقِ يَحْضُرُ قَلْبُهُ فِي الصّلَاةِ مِنْ أَوّلِهَا
إلَى آخِرِهَا ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنّهُ يُكْتَبُ لَهُ مِنْهَا مَا
حَضَرَ قَلْبُهُ فِيهَا ، وَأَنّ الْعَبْدَ يُصَلّي الصّلَاةَ فَيُكْتَبُ لَهُ
نِصْفُهَا رُبُعُهَا حَتّى انْتَهَى إلَى عُشْرِهَا ، وَوَقَفَ فَهِيَ خَمْسٌ فِي
حَقّ مَنْ كُتِبَ لَهُ عُشْرُهَا ، وَعَشْرٌ فِي حَقّ مَنْ كُتِبَ لَهُ أَكْثَرُ
مِنْ ذَلِكَ وَخَمْسُونَ فِي حَقّ مَنْ كَمُلَتْ صَلَاتُهُ وَأَدّاهَا بِمَا
يَلْزَمُهُ مِنْ تَمَامِ خُشُوعِهَا وَكَمَالِ سُجُودِهَا وَرُكُوعِهَا .
أَوْصَافٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ
فَصْلٌ وَذَكَرَ أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لَمْ يَلْقَهُ مَلَكٌ مِنْ
الْمَلَائِكَةِ إلّا ضَاحِكًا مُسْتَبْشِرًا إلّا مَالِكًا خَازِنَ جَهَنّمَ
وَذَلِكَ أَنّهُ لَمْ يَضْحَكْ لِأَحَدِ قَبْلَهُ وَلَا هُوَ ضَاحِكٌ لِأَحَدِ
وَمِصْدَاقُ هَذَا فِي [ ص 209 ] قَالَ اللّهُ سُبْحَانَهُ { عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ
غِلَاظٌ شِدَادٌ } [ التّحْرِيمَ 60 ] وَهُمْ مُوكَلُونَ بِغَضَبِ اللّهِ تَعَالَى
فَالْغَضَبُ لَا يُزَايِلُهُمْ أَبَدًا ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُعَارَضَةٌ
لِلْحَدِيثِ الّذِي فِي صِفَةِ مِيكَائِيلَ أَنّهُ مَا ضَحِكَ مُنْذُ خَلَقَ
اللّهُ جَهَنّمَ وَكَذَلِكَ يُعَارِضُهُ مَا خَرّجَ الدّارَقُطْنِيّ أَنّ رَسُولَ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - تَبَسّمَ فِي الصّلَاةِ فَلَمّا
انْصَرَفَ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ " رَأَيْت مِيكَائِيلَ رَاجِعًا مِنْ
طَلَبِ الْقَوْمِ عَلَى جَنَاحَيْهِ الْغُبَارُ فَضَحِكَ إلَيّ فَتَبَسّمْت إلَيْه
" وَإِذَا صَحّ الْحَدِيثَانِ فَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا : أَنْ يَكُونَ
لَمْ يَضْحَكْ مُنْذُ خَلَقَ اللّهُ النّارَ إلَى هَذِهِ الْمُدّةِ الّتِي ضَحِكَ
فِيهَا لِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فَيَكُونُ الْحَدِيثُ
عَامّا يُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ أَوْ يَكُونُ الْحَدِيثُ الْأَوّلُ حَدّثَ بِهِ
رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - قَبْلَ هَذَا الْحَدِيثِ
الْأَخِيرِ ثُمّ حَدّثَ بَعْدُ بِمَا حَدّثَ بِهِ مِنْ ضَحِكِهِ إلَيْهِ وَاَللّهُ
أَعْلَمُ وَلَمْ يَرَ مَالِكًا عَلَى الصّورَةِ الّتِي يَرَاهُ عَلَيْهَا
الْمُعَذّبُونَ فِي الْآخِرَةِ وَلَوْ رَآهُ عَلَى تِلْكَ الصّورَةِ مَا
اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ .
أَكَلَةُ الرّبَا فِي رُؤْيَا الْمِعْرَاجِ
وَذَكَرَ أَكَلَةَ الرّبَا وَأَنّهُمْ بِسَبِيلِ آلِ فِرْعَوْنَ يَمُرّونَ
عَلَيْهِمْ كَالْإِبِلِ الْمَهْيُومَةِ وَهِيَ الْعِطَاشُ وَالْهُيَامُ شِدّةُ
الْعَطَشِ وَكَانَ قِيَاسُ هَذَا الْوَصْفِ أَلّا يُقَالَ فِيهِ مَهْيُومَةٌ كَمَا
لَا يُقَالُ مَعْطُوشَةٌ إنّمَا يُقَالُ هَائِمٌ وَهَيْمَانُ وَقَدْ يُقَالُ هَيُومٌ
وَيُجْمَعُ عَلَى هِيمٍ وَوَزْنُهُ فُعْلٌ بِالضّمّ لَكِنْ كُسِرَ مِنْ أَجْلِ
الْيَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ } [ الْوَاقِعَةَ
55 ] وَلَكِنْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مَهْيُومَةٌ كَأَنّهُ شَيْءٌ فُعِلَ بِهَا
كَالْمَحْمُومَةِ وَالْمَجْنُونَةِ وَكَالْمَنْهُومِ وَهُوَ الّذِي لَا يَشْبَعُ
وَكَانَ قِيَاسُ الْيَاءِ أَنْ تَعْتَلّ فَيُقَالَ مَهِيمَةٌ كَمَا يُقَالُ
مَبِيعَةٌ فِي مَعْنَى مَبْيُوعَةٍ وَلَكِنْ صَحّتْ الْيَاءُ لِأَنّهَا فِي
مَعْنَى الْهَيُومَةِ كَمَا صَحّتْ الْوَاوُ فِي عُورٍ لِأَنّهُ فِي مَعْنَى
أَعْوَرَ كَمَا صَحّتْ فِي اجْتَوَرُوا لِأَنّهُ فِي مَعْنَى : تَجَاوَرُوا ،
وَإِنّمَا رَآهُمْ مُنْتَفِخَةً بُطُونُهُمْ لِأَنّ الْعُقُوبَةَ مُشَاكِلَةٌ
لِلذّنْبِ فَآكِلُ الرّبَا يَرْبُو بَطْنُهُ كَمَا أَرَادَ أَنْ يَرْبُوَ مَالُهُ
بِأَكْلِ مَا حُرّمَ عَلَيْهِ فَمُحِقَتْ الْبَرَكَةُ مِنْ مَالِهِ وَجُعِلَتْ
نَفْخًا فِي بَطْنِهِ حَتّى يَقُومَ كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ
الشّيْطَانُ مِنْ الْمَسّ وَإِنّمَا جُعِلُوا بِطَرِيقِ آلِ فِرْعَوْنَ يَمُرّونَ
عَلَيْهِمْ غُدُوّا وَعَشِيّا لِأَنّ آلَ فِرْعَوْنَ هُمْ أَشَدّ النّاسِ عَذَابًا
يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ { أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدّ
الْعَذَابِ } [ غَافِرَ 46 ] . فَخُصّوا بِسَبِيلِهِمْ لِيُعْلَمَ أَنّ الّذِينَ
هُمْ أَشَدّ النّاسِ عَذَابًا يَطَئُونَهُمْ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ
الْكُفّارِ وَهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْقِيَامَ [ ص 210 ] فَيَكُونَ خَيْرًا
لَهُمْ وَبَيْنَ أَنْ يَعُودُوا وَيُصِرّوا ، فَيُدْخِلَهُمْ النّارَ وَهَذِهِ
صِفَةُ مَنْ هُوَ فِي طَرِيقِ النّارِ قَالَ اللّهُ تَعَالَى : { فَمَنْ جَاءَهُ
مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ } [
الْبَقَرَةَ 275 ] . إلَى آخِرِ الْآيَةِ وَفِي بَعْضِ الْمُسْنَدَاتِ أَنّهُ
رَأَى بُطُونَهُمْ كَالْبُيُوتِ يَعْنِي : أَكَلَةَ الرّبَا ، وَفِيهَا حَيّاتٌ
تُرَى خَارِجَ الْبُطُونِ . فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الْأَحْوَالُ الّتِي وَصَفَهَا
عَنْ أَكَلَةِ الرّبَا إنْ كَانَتْ عِبَارَةً عَنْ حَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ قَالَ
فِرْعَوْنُ فِي الْآخِرَةِ قَدْ أُدْخِلُوا أَشَدّ الْعَذَابِ وَإِنّمَا
يُعْرَضُونَ عَلَى النّارِ غُدُوّا وَعَشِيّا فِي الْبَرْزَخِ وَإِنْ كَانَتْ
هَذِهِ الْحَالُ الّتِي رَآهُمْ عَلَيْهَا فِي الْبَرْزَخِ فَأَيّ بُطُونٍ لَهُمْ
وَقَدْ صَارُوا عِظَامًا وَرُفَاتًا ، وَمُزّقُوا كُلّ مُمَزّقٍ فَالْجَوَابُ
أَنّهُ إنّمَا رَآهُمْ فِي الْبَرْزَخِ لِأَنّهُ حَدِيثٌ عَمّا رَأَى ، وَهَذِهِ
الْحَالُ هِيَ حَالُ أَرْوَاحِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ وَفِيهَا تَصْحِيحٌ لِمَنْ
قَالَ الْأَرْوَاحُ أَجْسَادٌ لَطِيفَةٌ قَابِلَةٌ لِلنّعِيمِ وَالْعَذَابِ
فَيَخْلُقُ اللّهُ فِي تِلْكَ الْأَرْوَاحِ مِنْ الْآلَامِ مَا يَجِدُهُ مَنْ
انْتَفَخَ بَطْنُهُ حَتّى وُطِئَ بِالْأَقْدَامِ وَلَا يَسْتَطِيعُ مِنْ قِيَامٍ
وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّهُمْ أَشَدّ عَذَابًا مِنْ آلِ
فِرْعَوْنَ ، وَلَكِنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّهُمْ يَطَؤُهُمْ آلُ فِرْعَوْنَ
وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْكُفّارِ الّذِينَ لَمْ يَأْكُلُوا الرّبَا مَا دَامُوا فِي
الْبَرْزَخِ إلَى أَنْ يَقُومُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا يَقُومُ الّذِي
يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنْ الْمَسّ ثُمّ يُنَادِي مُنَادِي اللّهِ {
أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدّ الْعَذَابِ } [ غَافِرَ 46 ] وَكَذَلِكَ مَا
رَأَى مِنْ النّسَاءِ الْمُعَلّقَاتِ بِثُدِيّهِنّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَأَى
أَرْوَاحَهُنّ وَقَدْ خُلِقَ فِيهَا مِنْ الْآلَامِ مَا يَجِدُهُ مَنْ هَذِهِ
حَالُهُ وَيَحْتَمِلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مُثّلَتْ لَهُ حَالُهُنّ فِي
الْآخِرَةِ وَذَكَرَ الّذِينَ يَدْعُونَ مَا أَحَلّ اللّهُ مِنْ نِسَائِهِمْ
وَيَأْتُونَ مَا حُرّمَ عَلَيْهِمْ وَهَذَا نَصّ عَلَى تَحْرِيمِ إتْيَانِ
النّسَاءِ فِي أَعْجَازِهِنّ وَقَدْ قَامَ الدّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهِ مِنْ
الْكِتَابِ وَالسّنّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَوَاضِعَ الّتِي
يَقُومُ مِنْهَا التّحْرِيمُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ كِتَابِ اللّهِ
وَمِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَذَكَرْنَا
مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ هُوَ الْكُفْرُ وَقَوْلُ
ابْنِ عُمَرَ هُوَ اللّوطِيّةُ الصّغْرَى وَأَمّا الْإِجْمَاعُ فَإِنّ الْمَرْأَةَ
تُرَدّ بِدَاءِ الْفَرْجِ وَلَوْ جَازَ وَطْؤُهَا فِي الْمَسْلَكِ الْآخَرِ مَا
أَجْمَعُوا عَلَى رَدّهَا بِدَاءِ الْفَرْجِ وَقَدْ مَهّدْنَا الْأَدِلّةَ عَلَى
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُفْرَدَةً فِي غَيْرِ هَذَا الْإِمْلَاءِ بِمَا فِيهِ
شِفَاءٌ وَالْحَمْدُ لِلّهِ . الْوَلَدُ لِغَيْرِ رِشْدَةٍ وَقَوْلُهُ فَأَكَلَ
حَرَائِبَهُمْ الْحَرِيبَةُ الْمَالُ وَهُوَ مِنْ الْحَرْبِ وَهُوَ السّلَبُ
يُرِيدُ أَنّ الْوَلَدَ إذَا كَانَ لِغَيْرِ رِشْدَةٍ نُسِبَ إلَى الّذِي وُلِدَ
عَلَى فِرَاشِهِ فَيَأْكُلُ مِنْ مَالِهِ صَغِيرًا ، وَيَنْظُرُ إلَى بَنَاتِهِ [
ص 211 ] أَخَوَاتِهِ وَلَسْنَ بِعَمّاتِ لَهُ وَإِلَى أُمّهِ وَلَيْسَتْ بِجَدّةِ
لَهُ وَهَذَا فَسَادٌ كَبِيرٌ وَإِنّمَا قُدّمَ ذِكْرُ الْأَكْلِ مِنْ حَرِيبَتِهِ
وَمَالِهِ قَبْلَ الِاطّلَاعِ عَلَى عَوْرَاتِهِ وَإِنْ كَانَ الِاطّلَاعُ عَلَى
الْعَوْرَاتِ أَشْنَعَ لِأَنّ نَفَقَتَهُ عَلَيْهِ أَوّلُ مِنْ حَالِ صِغَرِهِ
ثُمّ قَدْ يَبْلُغُ حَدّ الِاطّلَاعِ عَلَى عَوْرَاتِهِ أَوْ لَا يَبْلُغُ
وَأَيْضًا فَإِنّ الْأُمّ أَرْضَعَتْهُ بِلِبَانِهَا ، وَلَمْ تَدْفَعْهُ إلَى
مُرْضِعَةٍ كَانَ الزّوْجُ أَبًا لَهُ مِنْ الرّضَاعَةِ وَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ
الِابْنِ مِنْ الرّضَاعَةِ وَفِي ذَلِكَ نُقْصَانٌ مِنْ الشّنَاعَةِ فَإِنْ بَلَغَ
الصّبِيّ ، وَتَابَتْ الْأُمّ ، وَأَعْلَمَتْهُ أَنّهُ لِغَيْرِ رِشْدَةٍ
لِيَسْتَعِفّ عَنْ مِيرَاثِهِمْ وَيَكُفّ عَنْ الِاطّلَاعِ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ
أَوْ عَلِمَ ذَلِكَ بِقَرِينَةِ حَالٍ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ شَرّ
الثّلَاثَةِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ فِي ابْنِ الزّنَا ، وَقَدْ تُؤُوّلَ
حَدِيثُ شَرّ الثّلَاثَةِ عَلَى وُجُوهٍ هَذَا أَقْرَبُهَا إلَى الصّوَابِ
لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ أَكَلَ حَرَائِبَهُمْ وَاطّلَعَ عَلَى
عَوْرَاتِهِمْ وَمَنْ فَعَلَ هَذَا عَنْ عَمْدٍ وَقَصْدٍ فَهُوَ شَرّ النّاسِ
وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَأَكْلُهُ وَاطّلَاعُهُ شَرّ عَمَلٍ وَأَبَوَاهُ حِينَ
زَنَيَا فَارَقَا ذَلِكَ الْعَمَلَ الْخَبِيثَ لِحِينِهِمَا وَالِابْنُ فِي عَمَلٍ
خَبِيثٍ مِنْ مَنْشَئِهِ إلَى وَفَاتِهِ فَعَمَلُهُ شَرّ عَمَلٍ .
حُكْمُ الْحَاكِمِ لَا يُحِلّ الْحَرَامَ
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ الْفِقْهِ أَيْضًا أَنّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يُحِلّ
حَرَامًا ، وَذَلِكَ أَنّ الْوَلَدَ فِي حُكْمِ الشّرِيعَةِ لِلْفِرَاشِ إلّا أَنْ
يُنْفَى بِاللّعَانِ فَإِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِهَذَا ، وَعَلِمَ الْوَلَدُ
عِنْدَ بُلُوغِهِ خِلَافَ مَا حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ لَمْ يَحِلّ لَهُ بِهَذَا
الْحُكْمِ مَا حَرّمَ اللّهُ عَلَيْهِ مِنْ أَكْلِ الْحَرَائِبِ وَالِاطّلَاعِ
عَلَى الْعَوْرَاتِ وَفِي هَذَا رَدّ لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ قَوْلِهِ
إنّ حُكْمَ الْحَاكِمِ قَدْ يُحِلّ مَا يَعْلَمُ أَنّهُ حَرَامٌ مِثْلُ أَنْ
يَشْهَدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنّهُ طَلّقَ وَهُمَا يَعْلَمَانِ أَنّهُ لَمْ
يُطَلّقْ فَيَقْبَلَ الْقَاضِي شَهَادَتَهُمَا فَيُطَلّقَ الْمَرْأَةَ عَلَى
الرّجُلِ فَإِذَا بَانَتْ مِنْهُ كَانَ لِأَحَدِ الشّاهِدَيْنِ أَنْ يَنْكِحَهَا
مَعَ عِلْمِهِ بِأَنّهُ قَدْ شَهِدَ زُورًا ، لَمْ يَقُلْ أَبُو حَنِيفَةَ بِهَذَا
الْقَوْلِ فِي الْأَمْوَالِ لِقَوْلِ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ " إنّمَا
أَنَا بَشَرٌ وَإِنّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيّ وَلَعَلّ أَحَدَكُمْ أَنْ يَكُونَ
أَلْحَنَ بِحُجّتِهِ مِنْ صَاحِبِهِ فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ
فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءِ مِنْ حَقّ أَخِيهِ فَلَا يَأْخُذْهُ فَإِنّمَا
أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النّارِ " فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ الّذِي
تَقَدّمَ رَدّ لِمَذْهَبِهِ وَلَا حُجّةَ لَهُ فِي أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ
بِالْأَمْوَالِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنّ الْقِيَاسَ أَصْلٌ مِنْ
أُصُولِهِ وَقِيَاسُ الْمَسْأَلَتَيْنِ وَاحِدٌ الثّانِي : أَنّهُ قَالَ مِنْ حَقّ
أَخِيهِ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ مَالِ أَخِيهِ وَهَذَا لَفْظٌ يَعُمّ الْحُقُوقَ
كُلّهَا قَالَ الْمُؤَلّفُ وَعِنْدِي أَنّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللّهُ إنّمَا
بَنَى [ ص 212 ] أَصْلِهِ فِي طَلَاقِ الْمُكْرَهِ فَإِنّهُ عِنْدَهُ لَازِمٌ
فَإِذَا أُكْرِهَ الرّجُلُ عَلَى الطّلَاقِ وَقُلْنَا يَلْزَمُ الطّلَاقُ لَهُ
فَقَدْ حُرّمَتْ الْمَرْأَةُ عَلَيْهِ وَإِذَا حُرّمَتْ عَلَيْهِ جَازَ أَنْ
يَنْكِحَهَا مَنْ شَاءَ فَالْإِثْمُ إنّمَا تَعَلّقَ فِي هَذَا الْمَذْهَبِ
بِالشّهَادَةِ دُونَ النّكَاحِ وَقَدْ خَالَفَهُ فُقَهَاءُ الْحِجَازِ فِي طَلَاقِ
الْمُكْرَهِ وَقَوْلُهُمْ يُعَضّدُهُ الْأَثَرُ وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ
يُعَضّدُهُ النّظَرُ وَالْخَوْضُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَصُدّنَا عَمّا نَحْنُ
بِسَبِيلِهِ . مَكَانُ إدْرِيسَ فَصْلٌ وَذِكْرُهُ لِإِدْرِيسَ فِي السّمَاءِ
الرّابِعَةِ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى : { وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيّا } [
مَرْيَمَ : 57 ] ، مَعَ أَنّهُ قَدْ رَأَى مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ فِي مَكَانٍ
أَعْلَى مِنْ مَكَانِ إدْرِيسَ فَذَلِكَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ لِمَا ذُكِرَ عَنْ
كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنّ إدْرِيسَ خُصّ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ رُفِعَ
قَبْلَ وَفَاتِهِ إلَى السّمَاءِ الرّابِعَةِ وَرَفَعَهُ مَلَكٌ كَانَ صَدِيقًا
لَهُ وَهُوَ الْمَلَكُ الْمُوَكّلُ بِالشّمْسِ فِيمَا ذُكِرَ وَكَانَ إدْرِيسُ
سَأَلَهُ أَنْ يُرِيَهُ الْجَنّةَ فَأَذِنَ لَهُ اللّهُ فِي ذَلِكَ فَلَمّا كَانَ
فِي السّمَاءِ الرّابِعَةِ رَآهُ هُنَالِكَ مَلَكُ الْمَوْتِ فَعَجِبَ وَقَالَ
أُمِرْت أَنْ أَقْبِضَ رُوحَ أَدَرِيسَ السّاعَةَ فِي السّمَاءِ الرّابِعَةِ فَقَبَضَهُ
هُنَالِكَ فَرَفْعُهُ حَيّا إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ الْعَلِيّ خَاصّ لَهُ دُونَ
الْأَنْبِيَاءِ .
قَوْلُ الْأَنْبِيَاءِ فِي كُلّ سَمَاءٍ
فَصْلٌ وَذَكَرَ مِنْ قَوْلِ الْأَنْبِيَاءِ لَهُ فِي كُلّ سَمَاءٍ مَرْحَبًا
بِالْأَخِ الصّالِحِ وَقَوْلِ آدَمَ لِإِبْرَاهِيمَ بِالِابْنِ الصّالِحِ وَقَدْ
ذَكَرْنَا فِي أَوّلِ هَذَا الْكِتَابِ حُجّةً لِمَنْ قَالَ إنّ إدْرِيسَ لَيْسَ
بِجَدّ لِنُوحِ وَلَا هُوَ مِنْ آبَاءِ رَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ - لِأَنّهُ قَالَ مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصّالِحِ وَلَمْ يَقُلْ
بِالِابْنِ الصّالِحِ .
خَرَافَةُ طَلَبِ مُوسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ أُمّةِ أَحْمَدَ
وَأَمّا اعْتِنَاءُ مُوسَى - عَلَيْهِ السّلَامُ - بِهَذِهِ الْأُمّةِ
وَإِلْحَاحُهُ عَلَى نَبِيّهَا أَنْ يَشْفَعَ لَهَا ، وَيَسْأَلَ التّخْفِيفَ
عَنْهَا ، فَلِقَوْلِهِ - وَاَللّهُ أَعْلَمُ - حِينَ قُضِيَ إلَيْهِ الْأَمْرُ
بِجَانِبِ الْغَرْبِيّ وَرَأَى صِفَاتِ أُمّةِ مُحَمّدٍ عَلَيْهِ السّلَامُ فِي
الْأَلْوَاحِ وَجَعَلَ يَقُولُ إنّي أَجِدُ فِي الْأَلْوَاحِ أُمّةً صِفَتُهُمْ
كَذَا ، اللّهُمّ [ ص 213 ] أُمّتِي ، فَيُقَالُ لَهُ تِلْكَ أُمّةُ أَحْمَدَ
وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ فَكَانَ إشْفَاقُهُ عَلَيْهِمْ وَاعْتِنَاؤُهُ
بِأَمْرِهِمْ كَمَا يُعْتِنِي بِالْقَوْمِ مَنْ هُوَ مَعَهُمْ لِقَوْلِهِ اللّهُمّ
اجْعَلْنِي مِنْهُمْ وَاَللّهُ أَعْلَمُ .
بَعْضُ مَا رَأَى
وَمِمّا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مِمّا لَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ إسْحَاقَ فِي
مُسْنَدِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ أَنّهُ - عَلَيْهِ السّلَامُ - نَادَاهُ
مُنَادٍ وَهُوَ عَلَى ظَهْرِ الْبُرَاقِ يَا مُحَمّدُ فَلَمْ يَعْرُجْ عَلَيْهِ
ثُمّ نَادَاهُ آخَرُ يَا مُحَمّدُ يَا مُحَمّدُ ثَلَاثًا ، فَلَمْ يَعْرُجْ
عَلَيْهِ ثُمّ لَقِيَتْهُ امْرَأَةٌ عَلَيْهَا مِنْ كُلّ زِينَةٍ نَاشِرَةٌ
يَدَيْهَا ، تَقُولُ يَا مُحَمّدُ يَا مُحَمّدُ حَتّى تَغَشّتْهُ فَلَمْ يَعْرُجْ
عَلَيْهَا ، ثُمّ سَأَلَ جِبْرِيلَ عَمّا رَأَى ، فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ أَمَا الْمُنَادِي
الْأَوّلُ فَدَاعِي الْيَهُودِ لَوْ أَجَبْته لَتَهَوّدَتْ أُمّتُك ، وَأَمّا
الْآخَرُ فَدَاعِي النّصَارَى ، وَلَوْ أَجَبْته لَتَنَصّرَتْ أُمّتُك ، وَأَمّا
الْمَرْأَةُ الّتِي كَانَ عَلَيْهَا مِنْ كُلّ زِينَةٍ فَإِنّهَا الدّنْيَا لَوْ
أَجَبْتهَا لَآثَرْت الدّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ
كِفَايَةُ
اللّهِ أَمْرَ الْمُسْتَهْزِئِينَ
[ ص 214 ] قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ : فَأَقَامَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - عَلَى أَمْرِ اللّهِ تَعَالَى صَابِرًا مُحْتَسِبًا ،
مُؤَدّيًا إلَى قَوْمِهِ النّصِيحَةَ عَلَى مَا يَلْقَى مِنْهُمْ مِنْ التّكْذِيبِ
وَالْأَذَى وَالِاسْتِهْزَاءِ . وَكَانَ عُظَمَاءُ الْمُسْتَهْزِئِينَ - كَمَا
حَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ خَمْسَةَ نَفَرٍ
مِنْ قَوْمِهِمْ وَكَانُوا ذَوِي أَسْنَانٍ وَشَرَفٍ فِي قَوْمِهِمْ . مِنْ بَنِي
أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابٍ : الْأَسْوَدُ بْنُ
الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدٍ أَبُو زَمْعَةَ ، وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ - فِيمَا بَلَغَنِي - قَدْ دَعَا عَلَيْهِ لِمَا كَانَ يَبْلُغُهُ
مِنْ أَذَاهُ وَاسْتِهْزَائِهِ بِهِ فَقَالَ اللّهُمّ أَعْمِ بَصَرَهُ
وَأَثْكِلْهُ وَلَدَهُ وَمِنْ بَنِي زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ : الْأَسْوَدُ بْنُ
عَبْدِ يَغُوثَ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ . وَمِنْ بَنِي
مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ : الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنُ عَبْدِ
اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ . وَمِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
هُصَيْصِ بْنِ كَعْبٍ : الْعَاصِ بْنُ وَائِلِ بْنِ هِشَامٍ . قَالَ ابْنُ هِشَامٍ
: الْعَاصِ بْنُ وَائِلِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَهْمٍ [ ص 215 ] بَنِي
خُزَاعَةَ : الْحَارِثُ ابْنُ الطّلَاطِلَةِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ
عَبْدِ عَمْرِو بْنِ لُؤَيّ بْنِ مِلْكَانَ . فَلَمّا تَمَادَوْا مِنْ الشّرّ
وَأَكْثَرُوا بِرَسُولِ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ -
الِاسْتِهْزَاءَ أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ
وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ إِنّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الّذِينَ
يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [ الْحِجْرَ : 93 -
95 ] . قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ ، عَنْ عُرْوَةَ
بْنِ الزّبَيْرِ ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنّ جِبْرِيلَ أَتَى رَسُولَ
اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - وَهُمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ فَقَامَ
وَقَامَ رَسُولُ اللّهِ - صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ - إلَى جَنْبِهِ فَمَرّ
بِهِ الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطّلِبِ فَرَمَى فِي وَجْهِهِ بِوَرَقَةِ خَضْرَاءَ
فَعَمِيَ وَمَرّ بِهِ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ ، فَأَشَارَ إلَى بَطْنِهِ
فَاسْتَسْقَى فَمَاتَ مِنْهُ حَبَنًا . وَمَرّ بِهِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ فَأَشَارَ
إلَى أَثَرِ جُرْحٍ بِأَسْفَلَ كَعْبِ رِجْلِهِ كَانَ أَصَابَهُ قَبْلَ ذَلِكَ
بِسِنِينَ وَهُوَ يَجُرّ سَبَلَهُ وَذَلِكَ أَنّهُ مَرّ بِرَجُلِ مِنْ خُزَاعَةَ ،
وَهُوَ يَرِيشُ نَبْلًا لَهُ فَتَعَلّقَ سَهْمٌ مِنْ نَبْلِهِ بِإِزَارِهِ
فَخَدَشَ مِنْ رِجْلِهِ ذَلِكَ الْخَدْشَ وَلَيْسَ بِشَيْءِ ، فَانْتَقَضَ بِهِ
فَقَتَلَهُ . وَمَرّ بِهِ الْعَاصِ بْنُ [ ص 216 ] وَخَرَجَ عَلَى حِمَارٍ لَهُ
يُرِيدُ الطّائِفَ ، فَرَبَضَ بِهِ عَلَى شُبَارِقَةٍ فَدَخَلَتْ فِي أَخْمَصِ
رِجْلِهِ شَوْكَةٌ فَقَتَلَتْهُ وَمَرّ بِهِ الْحَارِثُ ابْنُ الطّلَاطِلَةِ
فَأَشَارَ إلَى رَأْسِهِ فَامْتَخَضَ قَيْحًا فَقَتَلَهُ .Sعَنْ
الْمُسْتَهْزِئِينَ وَمِلْكَانَ
فَصْلٌ
[ ص 214 ] وَذَكَرَ حَدِيثَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الّذِينَ أَنْزَلَ اللّهُ فِيهِمْ
{ إِنّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ } [ ص 215 ] الْحِجْرَ : 95 ] وَذَكَرَ
فِيهِمْ الْحَارِثَ ابْنَ الطّلَاطِلَةِ وَالطّلَاطِلَةُ أُمّهُ قَالَ أَبُو
الْوَلِيدِ الْوَقَشِيّ ، وَالطّلَاطِلَةُ فِي اللّغَةِ الدّاهِيَةُ قَالَ أَبُو
عُبَيْدٍ : كُلّ دَاءٍ عُضَالٍ فَهُوَ طُلَاطِلَةٌ وَذُكِرَ فِي نَسَبِهِ عَبْدُ
عَمْرٍو بْنُ مِلْكَانَ بِالضّبْطَيْنِ جَمِيعًا ، وَفِي حَاشِيَةِ كِتَابِ
الشّيْخِ الْحَافِظِ أَبِي بَحْرٍ قَالَ قَدْ تَقَدّمَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ حَبِيبٍ
النّحْوِيّ أَنّ النّاسَ لَيْسَ فِيهِمْ مَلَكَانُ بِفَتْحِ الْمِيمِ إلّا
مَلَكَانُ بْنُ جَرْمِ بْنِ زَبّانَ بْنِ حُلْوَانِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافّ بْنِ
قُضَاعَةَ ، وَمَلَكَانُ بْنُ عَبّادِ بْنِ عِيَاضِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ السّكُونِ
بْنِ أَشْرَسَ وَإِخْوَةُ عَدِيّ هُمْ - تُجِيبُ عُرِفُوا بِأُمّهِمْ تُجِيبَ
بِنْتِ دُهْمِ بْنِ ثَوْبَانَ ، وَهُمْ مِنْ كِنْدَةَ ، وَكُلّ مَنْ فِي النّاسِ
وَغَيْرِهِمَا مِلْكَانُ مَكْسُورُ الْمِيمِ سَاكِنُ اللّامِ وَقَالَ مَشَايِخُ
خُزَاعَةَ : فِي خُزَاعَةَ مَلَكَانُ بِفَتْحِ الْمِيمِ قَالَ الْقَاضِي : يَعْنِي
ابْنَ حَبِيبٍ مَلَكَانُ بْنُ أَفْصَى بْنِ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَمْرِو
بْنِ عَامِرٍ ، وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ حَبِيبٍ كَاَلّذِي يَخْرُجُ مِنْ عِبَارَتِهِ
أَنّ الّذِي فِي خُزَاعَةَ إنّمَا هُوَ مِلْكَانُ بْنُ أَفْصَى مِثْلُ مِلْكَانَ
بْنِ عَدِيّ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ مِنْ الرّبَابِ الّذِينَ مِنْهُمْ ذُو الرّمّةِ
الشّاعِرُ وَمِثْلُ مِلْكَانَ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ مِنْ الرّبَابِ أَيْضًا رَهْطُ
سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ الثّوْرِيّ . وَذَكَرَ فِي الْمُسْتَهْزِئِينَ الْأَسْوَدَ
بْنَ عَبْدِ يَغُوثَ الزّهْرِيّ رَوَى أَنّهُ لَمّا أَنْزَلَ اللّهُ تَعَالَى : {
إِنّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ } [ الْحِجْرَ : 95 ] نَزَلَ جِبْرِيلُ
عَلَيْهِ السّلَامُ فَحَنَا ظَهْرَ الْأَسْوَدِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلّى
اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَالِي خَالِي ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ خَلّ عَنْك ،
ثُمّ حَنَاهُ حَتّى قَتَلَهُ ذَكَرَهُ الدّارَقُطْنِيّ .
=
=