Translate

السبت، 19 فبراير 2022

{تابع}ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/فصل/+المجلد الأول/الجزء الأول/الباب السابع +المجلد الأول/الجزء الأول/فصل: في هل على النافي دليل أو لا؟+/المجلد الأول/الجزء الأول/الباب الثامن/+المجلد الأول/الجزء الأول/الباب التاسع +



ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/فصل
فصل فيمن لم يبلغه الأمر من الشريعة
قال علي بن أحمد : اختلف الناس فيمن لم يبلغه الحكم الوارد من الله تعالى في الشريعة في خاص منها أو في جميعها .
فقالت طائفة : كل أحد مأمور منهي ساعة ورود الأمر والنهي ، إلا أنه معفو عنه غير مؤاخذ بما لم يبلغه من الأمر والنهي .
وقالت طائفة : إن الله تعالى لم يأمر قط بشيء من الدين إلا بعد بلوغ الأمر إلى المأمور ، وكذلك النهي ولا فرق ، وأما قبل انتهاء الأمر أو النهي إليه فإنه غير مأمور ولا منهي .
قال علي بن أحمد : وبهذا نقول لقول الله عز وجل : {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } : {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } .
ولإِخبار رسول الله ﷺ : أنه لا يسمع به يهودي أو نصراني فلم يؤمن به إلا وجبت له النار . حدثنا أحمد بن محمد بن عبدالله الطلمنكي ، ثنا ابن مفرج ، ثنا محمد بن أيوب الرقي ، أنبا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار ، ثنا محمد بن المثنى ، ثنا معاذ بن هشام الدستوائي ، ثنا أبو علي قتادة عن الأسود بن سريع/ عن النبي ﷺ قال : «يُعْرَضُ عَلَى الله تَبَارَكَ وَتَعَالى الأَصَمُّ الَّذِي لا يَسْمَعُ شَيْئاً ، وَالأَحْمَقُ وَالهَرِمُ ، وَرَجُلٌ مَاتَ فِي الفَتْرَةِ ، فَيَقُولُ الأَصَمُّ : رَبّ جَاءَ الإِسلامُ وَمَا أَسْمَعُ شَيْئاً ، وَيَقُولُ الأَحْمَقُ : رَبّ جَاءَ الإِسلامُ وَمَا أَعْقِلُ شَيْئاً ، وَيَقُولُ الَّذِي مَاتَ فِي الفَتْرَةِ : رَبّ مَا أَتَانِي لَكَ مِنْ رَسُولٍ ، فَيَأْخُذُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنّهُ ، فَيُرْسِلُ الله تَعَالى إِلَيْهِمْ : ادْخُلُوا النَّار ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ دَخَلُوها لكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْداً وَسَلاماً» .
وبه إلى قتادة عن الحسن البصري ، عن أبي رافع عن أبي هريرة بمثله وزاد في آخره: «وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْها دَخَلَ النَّارَ» .
فصح كما أوردنا أنه لا نذارة إلا بعد بلوغ الشريعة إلى المنذر ، وأنه لا يُكلف أحد ما ليس في وسعه، وليس في وسع أحد علم الغيب في أن يعرف شريعة قبل أن تبلغ إليه ، فصح يقيناً أن من لم تبلغه الشريعة لم يكلفها .
واحتجت الطائفة الأخرى بقول رسول الله ﷺ : «إِذَا اجْتهَدَ الحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» فسماه ﷺ مخطئاً ولا يكون المخطىء إلا من خالف ما أمر به .
قال أبو محمد : وهذا الخبر لا حجة لهم فيه ، بل هو حجة لنا وبه نقول ، لأنه قد يكون مخطئاً من لا يوافق الحق ، وإن لم يكن مأموراً بالعمل به كإنسان سمى آخر بغير اسمه غير عامد ، فهذا مخطىء ولا أمر يلزمه ها هنا ، وكمن أنشد بيت شعر فوهم فيه ، فهو مخطىء بلا شك ، وهذا المجتهد مخطىء بلا شك إذا حكم بخلاف ما ورد به الحكم من عند الله عز وجل ، وأدخل في الدين ما ليس منه ، وإن كان غير مأمور بالحكم بما لم يبلغه فإنه منهي عن الحكم بما ظن أنه حق ، وهو غير حق ، وأما إذا بلغه فإنه مأمور به وإن نسيه لأنه قد بلغه ولزمه .
فإن قال قائل : لو كان ما قلتم لكان الدين لازماً لبعض الناس لا لكلهم .
قلنا وبالله التوفيق : ليس كذلك بل الدين لازم للجن والإِنس إذا بلغهم ، نعم ولكل من لم يخلق بعد إذا خُلق وبلغه وبلغ حد التكليف لا قبل ذلك ، وأنتم لا تخالفوننا في الشريعة أنها لا تلزم من لم يخلق قبل أن يخلق ، ولا من لم يبلغ قبل أن يبلغ .
فإن قالوا : فكيف حال من لم يبلغه الأمر ، أهو مأمور بما هو عليه من خلاف ما أمره الله تعالى به مما لم يبلغه ، ولا سبيل إلى قسم ثالث ؟
فإن قلتم : هو مأمور بما أمره الله تعالى به ، وإن لم يبلغه فهو قولنا ؛ وإن قلتم : هو غير مأمور بما أمره الله تعالى به ، أو أنه مأمور بما هو عليه من خلاف ما أمر الله تعالى به كان ذلك شغباً بشيعاً .
قلنا وبالله التوفيق : لسنا نقول بواحد من هذين الجوابين لكنا نقول : هو غير مأمور في ذلك بشيء أصلاً حتى يبلغه ، وحاله في ذلك كحال من لم يبلغ حد التكليف حتى يبلغ .
فإن قالوا : فكيف حكمه إن خالف ما يرى أنه الحق عامداً فوافق بذلك ما أمر الله تعالى به .
قلنا لهم : هذا السؤال لازم لكم ولنا .
فأما نحن فنقول وبالله التوفيق : إنه ليس في ذلك مطيعاً ولا عاصياً ، لكنه مستسهل لمخافة الحق ، هام بترك الحق ، إلا أنه لم يفعل ذلك بعد . هذه صفته على الحقيقة إلا أنه لم يخالف بفعله ذلك حقًّا ولا واقع باطلاً .
قال أبو محمد : أهل هذه الصفة ينقسمون ثلاثة أقسام :
فقسم شهدوا ورود الأمر من الله تعالى ثم نسخ ولم يشهدوا الناسخ ، وليس أحد من هؤلاء موجوداً بعد موت رسول الله ﷺ ، لأن النسخ بطل بعد موته ﷺ واستقرت الشرائع .
وقسم ثان : علموا المنسوخ ولم يبلغهم الناسخ ، أو بلغهم المجمل ولم يبلغهم المخصص .
وقسم ثالث : بلغهم الناسخ والمنسوخ والمجمل والخاص ثم نسوا الخاص والناسخ ، أو تأولوا فيهما تأويلاً قاصدين إلى الحق .
فإما من كان في عصر رسول الله ﷺ فبلغه المنسوخ ولم يبلغه الناسخ ، فهؤلاء خاصة لا يسقط عنهم الأمر بالمنسوخ حتى يبلغ إليهم الناسخ ، لأنه قد لزمهم الذي بلغهم بيقين لا شك فيه ، ولا يسقط اليقين إلا بيقين .
برهان هذا : أنه قد صح وثبت عند جميع أهل العلم أن المسلمين كانوا بأرض الحبشة ، وبأقصى جزيرة العرب ، فنزل الأمر من الله تعالى على رسوله ﷺ ما لم يكن فيه قبل ذلك أمر كالصوم والزكاة ، وتحريم بعض ما لم يكن حراماً كالحق ، وإمساك المشركات وغير ذلك . فلا شك في أنه لم يأثم أحد منهم بتماديه على ما لم يعلم نزول الحكم فيه .
وكذلك كان ينزل الأمر مما تقدم فيه حكم بخلاف هذا النازل كتحويل القبلة عن بيت المقدس وغير ذلك ، فلا شك أيضاً في أنهم لم يأثموا ببقائهم على العمل بالمنسوخ ، بل كان فرضاً عليهم الصلاة كما أمروا وعرفوا حتى يبلغهم نسخه هذا ما لا يختلف فيه اثنان فصح قولنا ، والحمد لله يقيناً لا مجال للشك فيه .
وهكذا بقي أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أزيد من عشرة أعوام مقرين لليهود والنصارى والمجوس بجزيرة العرب ، إذ لم يبلغهما نهي النبي ﷺ عن إقرارهم فيها ، فلم يختلف أحد في أنهما لم يعصيا بذلك ، بل فعلا ما أمرا به .
ولو قال قائل : إن هذا إجماع صحيح متيقن لما بعد عن الصدق ، لأنه لم ينكر ذلك عليهما أحد من الصحابة ، وليس منهم أحد خفي عليه إقرارهما لهم قبل بلوغ النهي إليهما ، وبالله تعالى التوفيق .
فإن قيل : فهلا قلتم إنه سقط عنهم استقبال بيت المقدس ، ولم يؤمروا باستقبال الكعبة بقول الله تعالى : {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } .
قلنا : لا لما قد ذكرنا من أن الحكم لا يلزم حتى يبلغ ، وإنما خاطب الله بهذا الأمر من بلغه ومن لم يخلق إذا خلق وبلغه ، ولا دليل على سقوط ما قد ثبت عليهم من استقبال بيت المقدس إلا ببلوغ الأمر إليهم بتركه .
قال أبو محمد : ولو كانوا مأمورين باستقبال الكعبة حين نزول الأمر من قبل أن يبلغهم لكان من أقدم منهم فصلى إلى الكعبة عامداً قبل أن يبلغهم الأمر جائز الصلاة ، وهذا باطل ، وأما لو أن إنساناً اليوم خفيت عليه دلائل القبلة ، فاستدل فأداه استدلاله إلى جهة ما ، وقطع بذلك ثم تعمد الصلاة إلى خلاف تلك الجهة ، فلما سلم إذا به الى القبلة فإن صلاته باطلة ، وهو بذلك فاسق ، لأنه تعمد العمل في صلاته بما ليس عالماً أنه أمر به فيها ، فقصد العمل بما يرى أنه ليس من صلاته ، فقد قصد إفساد صلاته فبطلت بذلك .
قال أبو محمد : وأما من كان بعد رسول الله ﷺ فلم يبلغه الناسخ ولا الخالص ، فإنه أيضاً مأمور بما يعتقد من المنسوخ ومن عموم المخصوص ، لأن الله تعالى لم يكلفه قط خلاف ذلك ، بل افترض عليه خلافاً لذلك طاعة أمره تعالى جملة ، والمنسوخ من أمره فلا شك، فهو لازم لكل من بلغه بعموم الأمر المذكور حتى يبلغه نسخه وبالله تعالى التوفيق .
ومن المحال الممتنع أن يكون الله تعالى يورد على عبده أمراً يأمره به ثم ينهاه عنه ولا يعلمه بنهيه عنه ، وهو تعالى قد تكفل لنا بالبيان ، قال عز وجل {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
فلو ورد أمر الله تعالى ثم نهاه عنه ، ولم يبلغه نهيه لكان ذلك إضلالاً والتباساً ، ولكان الرشد غير مبين من الغي وحاشا لله من هنا يقيناً.
وأما من بلغه الناسخ والخاص ، ثم نسيهما أو تأول فيهما بمبلغ طاقته فهو مأمور بما بلغه من ذلك ، لأنه منذ بلغه منهي عما هو عليه ، لأنه قد بلغه النهي إلا أنه معذور مأجور مرة ، مأجور بقصده الخير ، ومعذور بجهله ونسيانه ، فهذا حكم هذا الباب بالبرهان الصحيح، وبالله تعالى التوفيق .
فإن احتج محتج بحديث رسول الله ﷺ إذ فرضت الصلاة ليلة الإِسراء ، وفيه قول موسى عليه السلام : «كَمْ فَرَضَ الله عَلَى أُمَّتِكَ؟ قَالَ خَمْسِينَ صَلاةً أَوْ نَحْوَها» فأخبر النبيان عليهما السلام أن الله تعالى فرض علينا قبل أن يبلغنا خمسين صلاة .
قلنا : إنما معنى هذا أنه متى بلغنا الأمر لزمنا .
وبرهان ذلك : أن ذلك لا يلزم من لم يخلق حتى يخلق ، ولا من لم يبلغ حتى يبلغ ، ولا من لم يأت عليه وقت الصلاة حتى يأتي وقتها . هذا ما لا خلاف فيه . فصح أن الفرض المذكور إنما هو بعد الخلق وبعد البلوغ ، وبعد انتهاء الشرع إليه ، وبعد دخول الوقت : وبهذا تتألف الأخبار كلها ، وبالله تعالى التوفيق .
برهان ذلك : أنه لم يعص قط أحد من المسلمين بتركه الخمسين صلاة ، ولو وجبت وتركها تارك لكان عاصياً لله تعالى ، فصح أنه يلزمنا إلا ما بلغنا من الدين ، وأما من بلغ إليه خبر غير صحيح عن النبي ﷺ وصححه له متأول أو جاهل أو فاسق لم يعلم هو بفسقه ؛ فهذا هو مبلغ ، فهو إن عمل بما بلغه من ذلك الباطل فمعذور بجهله لا إثم عليه ، لأنه لم يتجانف لإِثم ، والأعمال بالنيات ، فهو مجتهد مأجور مرة في قصده بنيته إلى الخير ، وإلى طاعة الله ورسوله ﷺ ، فلو خالف ما بلغه من ذلك فإنما عليه إثم المستسهل ، بخلاف الرسول ، إما بعلمه فقط فهو فاسق ، وإما بنيته فهو كافر، وبالله تعالى التوفيق .
=====
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/الباب السابع
في أصول الأحكام في الديانة وأقسام المعارف وهل على النافي دليل أو لا ؟
قال علي : قد ذكرنا فيما خلا من هذا الكتاب وفي غيره من كتبنا :
أنه لا طريق إلى العلم أصلاً إلاَّ من وجهين :
أحدهما ما أوجبته بديهة العقل ، وأوائل الحس .
والثاني مقدمات راجعة إلى بديهة العقل وأوائل الحس .
وقد بيّنا كل ذلك في غير هذا المكان ، فأغنى عن ترداده ؛ وقد بينا أيضاً أن بالمقدمات الصحاح الضرورية المذكورة علمنا صحة التوحيد ، وصحة نبوة محمد وصدقه في كل ما قال ، وأن القرآن الذي أتى به هو عهد الله تعالى إلينا ، فلما كان فيما ذكر لنا عن ربه تعالى ، وجوب أشياء ألزمناها اجتهاد هذا الإِنسان لم يكلفه الله تعالى أكثر ما في وسعه ؛ والانتهاء عن أشياء منعنا منها ووعد بالنعيم الأبدي من أطاعه ، وبالعذاب الشديد من عصاه ، وتيقَّنا وجوب صدقه في ذلك لزمنا الانقياد لما أمرنا له بالانقياد له ، وتيقنّا صحة كل ما ذكر لنا ضرورة ولا محيد للنفس عنها بما نقلته الكواف مما أظهر من المعجزات التي لا يقدر عليها إلا الخالق الأول تعالى ، والشاهد لنبيه بها على صحة ما أتى به عنه تعالى ، فوجب علينا تفهم القرآن والأخذ بما فيه ، فوجدنا فيه التنبيه على صحة ما كنا متوصلين به إلى معرفة الأشياء على ما هي عليه من مدارك العقل والحواس ، ولسنا نعني بذلك أننا نصحح بالقرآن شيئاً كنا نشك فيه من صحة ما أدركه العقل والحواس ، ولو فعلنا ذلك لكنا مبطلين للحقائق ، ولسلكنا برهان الدور الذي لا يثبت به شيء أصلاً .
وذلك أننا كنا نسأل فيقال لنا : بم عرفتم أن القرآن حق ؟ فلا بد أن نقول بمقدمات صحاح يشهد لها العقل والحس .
ثم يقال لنا : بماذا عرفتم صحة العقل والحس المصححين لتلك المقدمات ؟ فكنا نقول بالقرآن ، فهذا استدلال فاسد مبطل للحقائق .
ولكنا قلنا : إن في القرآن التنبيه لأهل الجهل والغفلة وحسم شغب أهل العناد ، وذلك أن قوماً من أهل ملتنا يبطلون حجج العقول ويصححون حجج القرآن فأريناهم أن في القرآن إبطال قولهم ، وإفساد مذاهبهم ، وأن الله تعالى قد علم أن سيكون في العالم أمثالهم ، فأخبرنا بما يبطل به شغبهم ، ويزيل شكوكهم ، كما قال تعالى : {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ }
فمما أمرنا فيه تعالى باستعمال دلائل العقل والحواس قوله تعالى : {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } وصدق الله تعالى ما شكره من إبطال دلائل سمعه وبصره وعقله .
وقال تعالى : {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ } .
وذمّ تعالى من لم يستعمل دلائلها ، فقال حاكياً عن قوم معذبين ، ولإعراضهم عن الاستدلال المؤدي الى معرفة الحقائق ، قال الله تعالى : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * وَللَّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } إلى قوله : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * وَللَّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } وقال تعالى حاكياً عن مثلهم : {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } فصدقهم الله عز وجل في قولهم ذلك فقال تعالى : {فَاعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ } وقال تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِه مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } فذم تعالى من لم ينتفع بما أعطاه من الحواس والعقل .
قال أبو محمد : أترى هؤلاء المقرين على أنفسهم أنهم كانوا لا يسمعون ولا يعقلون ، ولو سمعوا أو عقلوا ما دخلوا النار، أكانت صمخ آذانهم ذات آفات مانعة من تأدية الأصوات ؟ أو كانوا جاهلين بأمور دنياهم وأحكام حرثهم وغراستهم ؟ والقيام على مواشيهم ونفقات أموالهم وإنمائها ، وبنيان منازلهم وعمارة بساتينهم ، وتدبير متاجرهم وصناعاتهم ، وحفظ أموالهم ، وطلب الجاه والرياسة ؟ كلا والذي عذبهم وأخزاهم وذمهم ؟ بل كانوا أعلم بذلك كله ، وأشد اهتبالاً به ، وأشغل نفوساً فيه ، وأبصر لنموه وتكثيره وحياطته من أهل الفضل ، المقتصرين من ذلك مما يضيع العيال والجسم بتركه أو ما جاءهم من ذلك على ما لا بد منه عفواً ، وكان غير شاغل لهم عما هو آكد عليهم ، المقبلين على طلب معرفة الحقائق ، والوقوف على العلم والعمل ، الموصلين إلى معرفة الآخرة والسعادة في دار البقاء في الجنة التي وعدها الله تعالى أولياءه والمبعدين من الهلاك والقرار في دار العذاب في النار التي وعدها الله عز وجل لأعدائه المشتغلين بذلك عما تهافت عليه أهل الجهل والنقصان .
كما ثنا عبدالله بن يوسف بن نامي ، عن أحمد بن فتح ، عن عبدالوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد ، عن أحمد بن علي ، عن مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد ، وكلاهما عن أسود بن عامر قال : ثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة وثابت البناني : هشام عن أبيه عن عائشة ، وثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ قال : «أَنْتُمْ أَعْلَمْ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ» في حديث قوله ﷺ في تلقيح النخل فتركوه فخرج شيصاً ، ولكن هؤلاء المعذبون أضربوا عن استعمال السمع والبصر ، واللمس والذوق الشم ، والعقل في الاستدلال على الخالق تعالى ، ولم يقرب منه من عقد وقول وعمل وصرفوا كل ذلك في حطام فان ، لا يجدي ولا يغني، بل يثقل ويندم ، وبالله تعالى التوفيق .
قال أبو محمد : ووجدنا في القرآن إلزامنا الطاعة لما أمرنا به ربنا تعالى فيه ، ولما أمرنا نبيه ، مما نقله عنه الثقات ، أو جاء عنه بتواتر أجمع عليه جميع علماء المسلمين على نقله عنه ﷺ ، فوجدناه تعالى قد ساوى بين هذه الجمل الثلاث في وجوب طاعتها علينا ، فنظرنا فيها فوجدنا منها جملاً إذا اجتمعت قام منها حكم منصوص على معناه ، فكان ذلك كأنه وجه رابع ، إلا أنه غير خارج عن الأصول الثلاثة التي ذكرنا وذلك نحو قوله ﷺ : {كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ} فأنتج ذلك كل مسكر حرام فهذا منصوص على معناه نصاً جلياً ضرورياً . لأن المسكر هو الخمر ، والخمر هي المسكر ، والخمر حرام ، فالمسكر الذي هو هي حرام.
ومثل قوله تعالى : {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } .
وقد تيقنا بالفعل الذي به علمنا الأشياء على ما هي عليه أن كل معدود فهو ثلث وثلثان ، فإذا كان للأم الثلث فقط وهي والأب وارثان فقط فالثلثان للأب ، وهذا علم ضروري لا محيد عنه للعقل، ووجدنا ذلك منصوصاً على المعنى وإن لم ينص على اللفظ .
ومثل إجماع المسلمين على أن الله تعالى حكم بأن دم زيد حرام لإسلامه ثم قال قائل : قد حل دمه فقلنا : قد تيقنا بالنص وجوب الطاعة للإجماع ، وقد صح نقل الإجماع على أن دمه حرام ، فلا يجوز لنا خلاف ذلك إلا بنص منقول بالثقات أو بتواتر أو بإجماع ناقل لنا.
فهذا منصوص على معناه.
ومثل أن يدعي زيد على عمرو بمال فنقول : إن الله تعالى نص على إيجاب اليمين على عمرو ، لأن النص قد جاء بإيجاب اليمين على من ادعي عليه ، وعمرو مدعى عليه فقد أوجب النص اليمين على عمرو ، فلا سبيل إلى معرفة شيء من أحكام الديانة أصلاً إلا من أحد هذه الوجوه الأربعة ، وهي كلها راجعة إلى النص، والنص معلوم وجوبه ، ومفهوم معناه بالعقل على التدريج الذي ذكرناه .
وقد ادعى قوم : أن من الشرائع ما لا سبيل في القدرة إلى تغييره ، فأتوا بأمر عظيم ، وأدى قولهم هذا الفاسد إلى أن ربهم تعالى مضطر إلى الأمر بما أمر من ذلك : فمن التزم منهم ما توجبه مقدمته الفاسدة كفر ، ومن جبن عن التزامه تناقض وقضى بفساد معتقده الذي هو ثابت عليه ، إلا أنهم استعظموا أن يطلقوا ما يوجبه مذهبهم فحسنوه بعبارة كنوا بها عنه فقالوا : لا سبيل في العقل إلى تغييره .
قال أبو محمد : والعقل لا يوجب على الباري تعالى حكماً ، بل الباري تعالى خالق العقل بعد أن لم يكن ، ومرتب له وفيه ما قد رتب مما لو شاء أن يخترعه ويرتبه على خلاف ذلك لفعل . وإنما العقل مفهم عن الله تعالى مراده ، ومميز للأشياء التي قد رتبها الباري تعالى على ما هي عليه فقط .
فقال هؤلاء : إن الكفر والظلم لا يتوهم جواز استباحته .
قال أبو محمد : ولا دليل على ما ذكروا، بل قد كان ممكناً أن يأمرنا تعالى بالكفر به وبجحده وبعبادة الأوثان وبالظلم ، ولكنه تعالى قد أخبرنا أنه لا يفعل ذلك فعلمنا أن ذلك لا يكون أبداً ، ليس لأنه ممتنع منه عز وجل لو شاءه ، ولا أنه تعالى عاجز عن ذلك لو أراده ، ولكن لأنه لا يقول إلا الصدق ، وقد أخبرنا أن ذلك لا يكون ، وأنه لا يرضى لنا الكفر ، ولا يأمر أن نتخذ إلهين اثنين ، فلما أخبرنا بذلك منعنا من كونه ، كما منعنا أن يأتي رسول بعد محمد ﷺ وكما منعنا من عمارة مكان قفر قد رأيناه غير معمور إلى وقتنا هذا ، ومن خلاء مدينة قد عهدناها معمورة إلى وقتنا هذا ، وقد كان في الممكن خلاء تلك المدائن ، وعمران هذا القفر : ولكن الله تعالى لم يرد ذلك إلى الآن . فعلى هذا الوجه منعنا أن يأمر بالكفر به لا على أن العقل مانع من جواز ذلك لو شاءه عز وجل .
قال أبو محمد : وبرهان ذلك أننا واجدون بالمشاهدة أكثر أنواع الحيوان لم تتعبد بالإيمان بالله عز وجل ، ولا ركب فيها التمييز الذي لا يعرف الله عز وجل إلا به فلو شاء تعالى أن يجعل الإنسان غير مأمور لفعل .
ولما كان هنالك شيء يمنعه من ذلك تعالى وجهه ، ولا يوجب عليه فعل ما فعل ولا بد ، وهؤلاء الصبيان الذين بلغوا الأربعة عشر عاماً ولم يشعروا ولم يحتلموا بإجماع أكثر الأمة بالإيمان أمر إلزام ، ولا منهيين عن الكفر نهي تحريم ، فإذا احتلموا لزمهم الإيمان فرضاً ، وحرم عليهم الكفر حتماً ، ولم يكن بين تعريهم من الأوامر والنواهي ، وبين حلولها عليهم إلا نومة لعلها أقل من مقدار شَيّ بيضة ، ولم يزد التمييز الذي كان فيهم في تلك النومة شيئاً . بل هو على حسبه الذي كان عليه قبل أن ينامها ، ولا فرق .
هذا شيء يعلم بالحس والمشاهدة ، يعني تساوي التمييز فيهم في ذينك الوقتين . وهذا شيء قد يشهد النص به ولا خلاف فيه بين جمهور أهل الملة التي وضعنا كتابنا هذا في أحكامهم وعبادتهم ، اختلافهم في معنى براءة من لم يشعر ولم يحتلم ، ولا حاض إن كان امرأة ، ولا بلغ خمسة عشر عاماً من جميع الأوامر الواردة من الله تعالى ولزومها لمن احتلم وبلغ خمسة عشر عاماً مع الاحتلام ، أو حاض إن كان امرأة في هذه السن ، ولا فرق في العقل بين جواز عدم الأمر بالإيمان في كلتا الحالتين المذكورتين ، وبين جواز وجود الأمر به في كلتيهما .
فإن شغب مشغب بتعلم الصبيان الصلاة وضربهم عليها؛ وأراد بذلك غرور الضعفاء المقلدين، فليعلم أنه لا خلاف عند الحاضرين من خصومنا في أن ذلك على سبيل التدريب وتعليم الخير، لا على سبيل الإيجاب لذلك عليهم، وكذلك دعاؤنا إياهم إلى الإسلام .
وبرهان ذلك : أننا لا نقتلهم إن ارتدوا حتى يحتلموا، ولا نقتلهم إن قتلوا، ولا نحدهم إن زنوا، ولا يحرم الميراث وإن ارتد قبل بلوغه من موروثه المسلم.
فإن ادعى مدع : أن البهائم متعبدة ، واختار اللحاق بأحمد بن حابط والخروج عن إجماع المسلمين ، فحسبه مفارقة الإسلام واللحاق بالكفر ، وليس هذا مكان محاجة أهل هذا المذهب ، وقد بينا ذلك في كتاب الفصل . وإنما قصدنا في كتابنا هذا بيان جمل الأحكام فقط فمن أراد أن يقف على هدم ما ذكرنا من الشغب فليقرأ كتابنا المرسوم بكتاب الفصل إن شاء الله تعالى .
قال أبو محمد : فإذ قد بينا أقسام المعارف جملة ، ثم بينَّا أقسام الأصول التي لا يعرف شيء من الشرائع إلا منها ، وأنها أربعة وهي : نص القرآن ، ونص كلام رسول الله ﷺ ، الذي إنما هو عن الله تعالى مما صح عنه ﷺ نقل الثقات أو التواتر ، وإجماع جميع علماء الأمة ، أو دليل منها لا يحتمل إلا وجهاً واحداً ، فلنصف بحول الله وقوته كيف يستعمل المناظران أو المتعلم أو العالم السبيل إلى معرفة الحقائق مما ذكره .
فنقول وبالله تعالى التوفيق : أول ذلك سؤال السائل مسؤوله عن مذهبه في مسألة كذا ، إما مستفهماً أو مناظراً ، فإذا أجابه سأله: ما دليلك على كذا ؟ فإذا أجابه فقد وصلا إلى ميدان المعارضة ، فإن لم يكن هنالك إلا أن يصف كل واحد منهما مذهبه ، ولم يزد المسؤول على ذكر مذهبه فقط ، ولم يأت بدليل فقد سقط وبطل واكتفى بذلك عن تكلف إبطاله ، إذ قد بينا فيما تقدم من كتابنا هذا إبطال كل قول لم يقم عليه دليل ، فإن عارض المسؤول السائل بدليل ، مثل أن يستدل أحدهما على صحة مذهبه بآية ، فيحتج عليه الآخر بآية أخرى ، هي في ظاهرها مخالفة الحكم للتي احتج بها خصمه أو بحديث كذلك .
أو احتج أحدهما بحديث فعارضه الآخر بآية هي ظاهرها مخالفة الحكم لذلك الحديث أو بحديث كذلك . فسنفرد لذلك باباً موعباً في كتابنا هذا إن شاء الله عز جل عند كلامنا في الأخبار، وإن أمدنا الله بمده وقوته فسنفرد لكل هذه الوجوه كتباً مفردة في أشخاص الأحاديث والآي التي ظاهرها التعارض ، ونحن نبين بحول الله وقوته نفي الاختلاف عن كل ذلك وبالله تعالى نعتصم ونتأيد .
وقد ذكر مخالفونا تعارض العلل.
قال أبو محمد : وسنبين في آخر كتابنا هذا إن شاء الله تعالى بطلان العلل في الشرائع بالجملة ، وإن أمدنا الله تعالى بمده وعون من قبله عز وجل فسنفرد في المسائل النظرية ، وهي التي دلائلها نتائج مأخوذة من مقدمات نصية أو إجماعية ديواناً موعباً نتقصى فيه إن شاء الله تعالى الأدلة الصحيحة ، وبطلان علل أصحاب القياس ومفاسدها بالجملة ، وبالله تعالى التوفيق .
ثم رأينا كتابنا المعروف بالإيصال جامع لكل ذلك مغن عن إفراد كتب لكل صنف منها.
قال أبو محمد : وكل من قال بقبول خبر الواحد ، ثم صح عنده خبر عن النبي متكامل الشروط التي بوجودها يصح عنده الخبر جملة. فإن تركه لحديث آخر فهو مجتهد ، إما مخطىء ، وإما مصيب ، وكذلك إن تركه لنص قرآن ، وكذلك إن ترك نص قرآن لحديث آخر ، أو نص قرآن ، إلا أنه إن كان قد ترك في مكان آخر مثل تلك الآية التي أخذ بها الآن أو الحديث الذي أخذ به أو أخذ بمثل الحديث أو الآية اللذين ترك ههنا ، وخالف ترتيب أخذه في المسائل ، فإن كان لم يتنبه لذلك فهو غافل معذور بالجهل ، فإن نبه على ذلك فتمادى على خطأه فهو فاسق لإقراره في مكان ما بأن مثل ذلك العمل الذي استعمل ههنا باطل ، فهو مقدم على الأخذ بما يدري أنه باطل .
وذلك مثل من أخذ بقول رسول الله ﷺ : «لا قَطْعَ إلا فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِداً» وترك ظاهر قول الله تعالى : {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } : ثم إنه ترك قول رسول الله ﷺ : «لا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ والرَّضْعَتَانِ»
وأخذ بظاهر قوله عز وجل : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }
فهذا إذا وقف على تناقض فعله وتمادى عليه فهو فاسق . لأنه في أحد الموضعين مقر بأن ترك ظاهر القرآن للحديث خطأ لا يحل ، وفي الموضع الثاني استعمل ما أقر أنه لا يحل ، فهو مقدم على ما لا يجوز له بإقراره ، فإن علل حديث الرضعتين أريناه في حديث السارق مثل تلك العلل بعينها ، فإن تمادى على الأخذ بأحدهما وترك الآخر ، فهو فاسق متلاعب بدينه .
وإن ترك نصًّا لقياس بعد قيام الحجة عليه بإبطال القياس فهو فاسق أيضاً وإن ترك نصًّا لقول صاحب فمن دونه ، فإن كان يعتقد أن عند ذلك الصاحب علماً عن النبي ﷺ وقامت عليه الحجة ببطلان ذلك، فتمادى ولم يتب فهو فاسق ، فإن كان يعتقد أن لأحد بعد موت النبي ﷺ أن يحرم شيئاً كان حلالاً إلى حين موته ﷺ ، أو يحل شيئاً كان حراماً إلى حين موته ﷺ ، أو يوجب حدًّا لم يكن واجباً إلى حين موته ﷺ ، أو يشرع شريعة لم تكن في حياته ﷺ ، فهو كافر مشرك حلال الدم والمال حكمه حكم المرتد ولا فرق .
وقد ظن قوم مثل هذا في المنع من بيع أمهات الأولاد ، وفي حلّ الخمر، وفي إسقاط ست قراءات كانت على عهد النبي ﷺ مباحة ، فمن لم تقم عليه الحجة في بطلان هذا المعتقد فهو معذور بالجهل . وأما من قامت عليه وتمادى على مذهبه في ذلك فهو كافر مشرك مرتد حلال الدم والمال كما ذكرنا . وسنبين بحول الله وقوته وجوه هذه المسائل الثلاث في كلامنا في الإِجمال من كتابنا هذا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال أبو محمد : وكل ما قلنا فيه إنه يفسق فاعله أو يكفر بعد قيام الحجة عليه ، فهو ما لم تقم عليه الحجة معذور مأجور وإن كان مخطئاً ، وصفة قيام الحجة عليه هو أن تبلغه فلا يكون عنده شيء يقاومها ، وبالله تعالى التوفيق .
قال أبو محمد : والوجه الذي ذكرنا آنفاً ، وهو الذي فيه ظاهر تعارض بين آي وآي ، وبين حديث وحديث ، وبين حديث وآي ، فلسنا نقطع فيه على أننا مصيبون للحق ، ولا أننا علمناه يقيناً ، ولا كنا نقول فيه هذا هو الحق عندنا .
ونبين كل مسألة من ذلك في موضعها إن شاء الله تعالى ، وهذه هي المتشابهات التي أخبر بها النبي ﷺ في قوله : «الحَلالُ بَيِّنٌ والحرام بينٌ وَبَيْنَهُما مُتَشَابِهَاتٌ لا يَعْلَمُها كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ» وليس هذا من المتشابه الذي ذكر الله عز وجل في قوله : {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ }
وسنبين ذلك كله في باب مفرد في آخر كتابنا هذا إن شاء الله تعالى عز وجل.
إلا أننا قاطعون باتوّن على أن علم الحقيقة فيما أشكل علينا موجود عند غيرنا ولا بد لقول الله تعالى : {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
ولقول رسول الله ﷺ: «اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ» . قالوا : اللهم نعم ، قال ﷺ «اللَّهُمَّ اشْهَدْ» .
وأما كل حديث صح عندنا أنه ناسخ ولم يأت له معارض ، وكل آية وردت كذلك لا معارض لها .
أو كل نص من حديث صحيح أو آية عارضهما نص آخر منهما . فإن الزائد في حكمه على الآخر هو الحق المتيقن .
لأنه شرع وارد من عند الله تعالى لا يحل تركه إلا بنص يبين أنه منسوخ أو مخصوص ، فما كان هكذا من النصوص كلها فنحن موقنون بأننا فى اعتقاد موجبها محقون عند الله عز وجل وأن مخالفنا فيها مخطىء عند الله عز وجل . وكل إجماع صح وتيقن على نقله عن النبي ﷺ فنحن قاطعون أيضاً على أننا فيه محقون عند الله عز وجل .
وإن حدث بعد الإجماع اختلاف في فرع من فروع المسألة .
وإن استدلَّ المخالف بحديث مرسل أو نقل ضعيف ، لم نتبعه ولم نقطع على أنه مبطل عند الله عز وجل .
بل نقول : هذا الحق عندنا إلا أن نتيقن أن ذلك الخبر لم يأت قط مسنداً من طريق يصح، فنقطع حينئذ على أنه باطل عند الله تعالى على ما نبين بعد هذا في باب الكلام في الأخبار إن شاء الله تعالى .
فإن لم يحتج في ذلك بشيء من نص ، لكن بتقليد أو قياس ، فنحن قاطعون بأنه مخطىء عند الله تعالى ، وأننا محقون عنده تعالى ، ولكل استدلال ما عدا ما ذكرناه من تقليد صاحب فمن دونه ، أو قياس أو استحسان ، فهو باطل بيقين عند الله عز وجل وبالله تعالى التوفيق .
==============
[أغلق]
* اقرأ * * نزّل * استشهد * شارك في ويكي مصدر *
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/فصل: في هل على النافي دليل أو لا؟
< ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام‏ | المجلد الأول‏ | الجزء الأولاذهب إلى التنقلاذهب إلى البحث
في أصول الأحكام في الديانة وأقسام المعارف وهل على النافي دليل أو لا ؟ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام فصل : في هل على النافي دليل أو لا ؟
المؤلف: ابن حزمفي البيان ومعناه
فصل : في هل على النافي دليل أو لا ؟
قال علي بن أحمد : اختلف الناس في هذا على قسمين :
فطائفة قالت : الدليل على من أوجب شيئاً ، أو ثبت حكماً أو قضية . وليس على النافي دليل .
وقالت طائفة: الدليل يلزم إقامته النافي والموجب معاً.
قال علي: والصحيح من ذلك أنا وجدنا الله تعالى أنكر على من حقق شيئاً بغير علم وأنكر على من كذب بغير علم ، فقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .
فقد حرَّم الله تعالى بنص هذه الآية أن يقول أحد على الله عز وجل شيئاً لا يعلم صحته ، وعلم صحة كل شيء مما دون أوائل العقل وبداءة الحس لا يعلم إلا بدليل. فلزم بهذه الآية من ادعى إثبات شيء أن يأتي عليه بدليل وإلا فقد أتى محرماً عليه .
وقال تعالى : {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ } فأنكر تعالى تكذيب المرء ما لا يعلم أنه كذب، وقال تعالى : {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فأوجب تعالى على كل مدَّع المصدق أن يأتي ببرهان ، وإلا فقوله ساقط، ووجدنا كل ناف مدعياً للصدق في نفيه ما نفى ، ووجدنا كل مثبت مدعياً للصدق في إثباته ما أثبت، فلزم كلتا الطائفتين أن تأتي بالبرهان على دعواها إن كانت صادقة .
قال علي : وأما من احتج من أصحابنا في إسقاط الدليل عن النافي بإيجاب رسول الله ﷺ «البَيِّنةُ عَلَى المُدَّعِي وَاليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» ، فإنما في الأحكام فإنه لا خلاف بين أهل الملة في أنه لا يمين على من أنكر شيئاً في المناظرة في غير الأحكام.
قال علي : فإذا اختلف المختلفان ، فأثبت أحدهما شيئاً ونفاه الآخر ، فعلى كل واحد منهما أن يأتي بالدليل على صحة دعواه كما بيناه آنفاً بحكم كلام الله عز وجل ، فأيهما أقام البرهان صح قوله ، ولا يجوز أن يقيماه معاً لأن الحق لا يكون في ضدين ، ومن الممتنع أن يكون الشيء باطلاً صحيحاً في حال واحدة من وجه واحد ، فإن عجز كلاهما عن إقامة الدليل ، وهذا ممكن ، فحكم ذلك الشيء أن يتوقف فيه فلا يوجب ولا ينفي ، لكن يترك في حد الإِمكان لأنه لو أقام الدليل موجبه ، لكان الشيء موجباً حقاً ، ولو أقام الدليل نافيه لكان الشيء باطلاً منفياً .
فإن لم يقمه واحد منهما قيل في ذلك الشيء هذا ممكن أن يكون حقًّا ، وممكن أن يكون باطلاً إلا أننا لا نقول به ولا نحكم به ولا نقطع على أنه باطل، وهكذا نص قوله تعالى : {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } .
وقد روي عن النبي ﷺ في حديث أهل الكتاب : «لا نُصَدِّقُ وَلا نُكَذِّبُ، وَلَكِنْ نَقُولُ الله أعْلَمُ» .
قال علي : وإنما أوقع أصحابنا في الكلام في هذه المسألة اختلافهم في القياس ، ولا معنى للتطول فيها والشغب ، لأن البراهين على صحة قولنا في إبطال القياس كثيرة جدًّا واضحة ، فلا معنى لمدافعة القائلين به بمثل هذا ، بل نقول لهم علينا البرهان في صحة قولنا بإبطاله ، فإذا أثبتناه سألناكم عن أدلتكم على إثباته ، ولا نقنع بأن نقول إن الشيء أنه باطل فلا معنى لتكلف إقامة الحجة على ضد ما تيقنت صحته ، وإن كان هذا قولا صحيحاً .
ولكنا نقول لهم : هاتوا كل ما تحتجون به في إثباته ، ثم علينا نقضه كله بحول الله تعالى وقوته ، ثقة منا بوضوح الأمر في إبطاله ، وسهولة المأخذ في ذلك ، وأنه ليس من الغامض الخفي لكن من الواضح الجلي ، وقد استوعبنا ذلك ولله الحمد ، في باب الكلام في القياس والعلل من كتابنا هذا ، وفي كتابنا المرسوم بكتاب التقريب أيضاً ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وإحجاجنا لهم بكل ما شغبوا به وزدناهم احتجاجاً بما لم يحتجوا به لأنفسهم ، وبينَّا بطلان كل ما يمكن أن يموه به ذلك مموه ، وبالله تعالى التوفيق .
قال علي : كل أمر ثبت بيقين إما بحس ، وإما ببديهة عقل ، وإما بمقدمات راجعة إليهما مما وجد في نص قرآن أو نص سنة أو إجماع ، ثم ادعى مدع أن ذلك الحكم قد بطل وانتقل ، فعليه الدليل ههنا وليس هذا على الثابت على ما قد صح ، لأن الدليل قد ثبت بصحة قوله ، وما ثبت دليله فالقائل به غير مكلف تحديده في كل وقت ، وهذا شيء يقضي العقل بفساده كمن ادعى أن في الدنيا بلاداً فيها ناس يمشون على أربع لا على رجلين ، ورؤوسهم على أسافلهم . أو ادعى أن في الناس قوماً لهم حاسة سادسة غير حواسنا ، أو ادعى أن فلاناً الذي عهدناه حيًّا مات ، فأراد قسم ميراثه ونكاح نسائه ، أو أن فلاناً طلَّق امرأته التي عهدنا صحة زوجيته معها ، أو أن هذا الرجل الذي عهدنا عدالته قد فسق ، أو أن فلاناً الذي عهدنا فسقه قد تعدل ، أو أن فلاناً الذي عهدناه غير والٍ قد ولي الحكم في بلد كذا ، أو أن فلاناً الذي عهدناه والياً قد عزل ، وأن الله تعالى قد ألزمكم أمر كذا ، أو حرم عليكم أمر كذا ، أو أحل لكم أمراً عهدناه حراماً، أو أسقط عنكم أمراً عهدناه لازماً، فكما ذكرنا من دعوى انتقال حال معلومة فعلى مدعي انتقالها الدليل، ولا تكلف مبطل هذا القول دليلاً على بطلان قول خصمه ، إذا قام الدليل على صحة قوله ، ولا يلزم التكرار للدليل بلا خلاف ما كل ما ذكرنا حاشا مسائل الإِلزام والتحريم والإِحلال والإِسقاط، فخصومنا موافقون لنا على القول بقولنا فيها بلا خلاف، ومستخفون بمن خالفنا .
وأما هذه المسائل الأربعة المذكورة ، فدليلنا على صحة قولنا هو قوله تعالى : {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ } فصح بنص الآية أن ما لم ينزل بنص القرآن وجوبه أو تحريمه فهو ساقط معفو عنه .
وأما بطلان قول من ادَّعى سقوط شيء قد ثبت بنص أو إجماع أو إحلال ما قد حرم بنص أو إجماع ، فقد أبطل ذلك ربنا تعالى بقوله : {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .
وقال تعالى : {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } .
وقال تعالى : {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } .
قال علي : فبيَّن الله تعالى بياناً جليًّا لا إشكال فيه ، أنه لا يحل تحريف كلام الله تعالى ولا تعدي حدوده ، ولا أن نترك ما أوحي إلينا ، وأن من خرج عن شيء من ذلك فهو ظالم مفتر على الله تعالى ، فوجدنا الله عز وجل قد ألزمنا طاعة ما جاء في القرآن وطاعة ما جاء عن نبيه ﷺ ، لأنه إنما ينطق عنه عز وجل ، وطاعة ما أجمع عليه جميع المسلمين عن نبيهم ﷺ ، وأن هذه حدود الله تعالى . فمن أراد إخراجنا عما ثبت بشيء منها ، وأن يعدى بنا عنها فقد حرَّف كلام الله تعالى وظلم ، وأراد الفتنة عن الوحي وتكلف القربة إلا أن يأتي بنص أو إجماع على دعواه؛ وإلا فنحن باقون على تلك الحدود ، غير متعدين لها ولا مفترين غيرها ولا محرفين لما قد ثبت بها ، وبالله تعالى التوفيق.
وأيضاً فإن من طرد هذا الأصل لزمه أن : إن ادَّعى مدَّع على آخر أنه قتل وأنكر ذلك المدعى عليه أن يكلف المدعي عليه الدليل على براءته وإلا قتله، ومن ادعى وجوب صيام مفترض غير رمضان وغير ما جاء في النص من الكفارات والنسك والنذر والقضاء ، أن يكلف المانع من ذلك الدليل، وهذا خروج عن الإِسلام مع ما فيه من مخالفة العقول .
وكذلك القول فيمن قال بصحة الإِلهام قول الرافضة في الإِمام ، ومن ادعى الغول والعنقاء والنسناس وجميع الخرافات ، فإن كل ذلك لا يحل القول بشيء منه ، ولا الإِقرار به ، وهو كله على الدفع والرد والإِبطال بلا دليل يكلفه مبطله ، وإنما البرهان على من حقق شيئاً من ذلك أو أوجبه . وهكذا كل دعوى أراد مدعيها إثبات شيء لم يثبت ، أو إبطال شيء قد ثبت لا تحاشي شيئاً فإنه لا برهان على من امتنع من القول بشيء من ذلك ، لأنه فعل ما يلزمه من ذلك ، وإنما البرهان على من أراد إلزام شيء من ذلك فقط ، فإن أتى به صحت دعواه ، وإلا فواجب تركها وردها ، وإن كانت ممكنة غير ممتنعة ، وفيما ذكرنا من نص كلام الله تعالى كفاية توجب ضرورة العلم بما ذكرنا ، وبالله تعالى التوفيق .
=============
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/الباب الثامن
في البيان ومعناه
قال علي : قد بيّنا في باب تفسير الألفاظ الدائرة بين أهل النظر حد البيان وتفسيره .
ونحن نقول : إن التخصيص أو الاستثناء نوعان من أنواع البيان ، لأن بيان الجملة قد يكون بتفسير كيفياتها وكمياتها دون أو يخرج من لفظها شيء يقتضيه في اللغة ، كقوله تعالى : {وآتوا الزكاة}
فبيَّن رسول الله ﷺ ماهية هذه الزكاة المأمور بإيتائها ، دون أن يخرج من لفظ الزكاة شيئاً ، وكذلك فسر ﷺ من صفات النكاح والحج وغير ذلك ، وقد يكون باستثناء مثل ما روي عن نهيه ﷺ عن بيع الرطب بالتمر ، ثم استثنى العرايا فيما دون خمسة أوسق ، فكان هذا مخرجاً بحكم العرايا من جملة النهي المتقدم ، وقد يكون الاستثناء بألفاظ الاستثناء مثل : إلا وخلا وحاشا وما لم ، وما أشبه ذلك .
وقد يكون حكماً وارداً بلفظ الأمر ، أو بلفظ الخبر ، مستثنى من جملة أخرى ، وهذا يسمى التخصيص، كتحريمه تعالى نكاح المشركات جملة ، ثم جاءت إباحة نكاح نساء أهل الكتاب والزواج، فكان هذا تخصيصاً من الجملة المذكورة .
وأما النسخ ، فهو رفع الحكم أو بعضه جملة ، والفرق بينه وبين الاستثناء والتخصيص أن الجملة الواردة التي جاء التخصيص أو الاستثناء منها لم يرد الله تعالى قط إلزامها لنا على عمومها وقتاً من الدهر ، كالذي ذكرنا من تحريم المشركات ، فإنه لم يرد قط بذلك نكاح نساء الكتابيين بالزواج ، وكذلك القول في العرايا وأما النسخ فإننا مكلفون الجملة الأولى على عمومها مدة ما لم يأت أمر بإبطالها عنا ، أو إبطال بعضها على ما تبين في باب النسخ إذا بلغنا إليه إن شاء الله تعالى .
فإما وجوه البيان التي ذكرنا من التفسير والاستثناء والتخصيص ، فقد يكون بالقرآن للقرآن ، وبالحديث للقرآن ، وبالإِجماع للقرآن ، وقد يكون بالقرآن للحديث ، وبالحديث للحديث ، وبالإِجماع المنقول للحديث .
وقولنا : الحديث ، إنما نعني به الأمر والفعل والإِقرار والإِشارة ، فكل ذلك يكون بياناً للقرآن ، ويكون القرآن بياناً له ، وإنما فرقنا آنفاً بين التخصيص والاستثناء وبين النسخ لأنه قد تيقنَّا وجوب طاعة الله عز وجل ورسوله ﷺ علينا ؛ فحرام علينا الخروج عن طاعتهما في شيء مما أمرا به ، أو أن نقول في شيء مما ألزمنا إنه منسوخ ساقط بعد وجوبه إلا بيان جليّ لا شك فيه ، وإذا وجدنا الحكم سقط بعضه بالاستثناء أو التخصيص فنحن على يقين من أنه لا يلزمنا فلا يحل لأحد أن يقول إنه لزم ثم سقط، فيكون قد قفا ما ليس له به علم ، وقال بشك لا بيقين ، وذلك حرام .
ولا يجوز بأن نقول بأن حكم كذا لزمنا إلا بيقين ، ولا يسقط بعد لزومه إلا بيقين ، فلهذا قلنا بالفرق المذكور بين النسخ وبين الاستثناء والتخصيص ، لأننا إذا قلنا في ذلك إنه نسخ فقد أقررنا أنه لزم ثم سقط، وهذا لا يحل قوله إلا بيقين , وبالله تعالى التوفيق .
ومما خص من القرآن بالقرآن قوله تعالى : {ذلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } فاستثنى تعالى الأزواج وملك اليمين من جملة ما حظر من إطلاق الفروج ، ثم خص تعالى الجمع بين الأختين وبين الأم والابنة ، والربيبة والزانية ، والحريمة بالقرابة ، والشركة بالقرآن ، وخص الحريمة بالرضاع بالسنة ، والذكور والبهائم ، والأَمَة المشركة بالإِجماع المأخوذ من معنى دليل النص الثابت لا يحتمل إلا وجهاً واحداً بالحظر من جملة المباح بملك اليمين .
فإِن قال قائل : لا يجوز أن يبين القرآن إلا بالسنّة ، لأن الله تعالى يقول : {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } .
قيل له : وبالله تعالى التوفيق : ليس في الآية التي ذكرت أنه ﷺ لا يبيِّن إلا بوحي لا يتلى ، بل فيها بيان جليّ ، ونص ظاهر أنه أنزل تعالى عليه الذكر ليبينه للناس، والبيان هو بالكلام ، فإذا تلاه النبي ﷺ فقد بينه ، ثم إن كان مجملاً لا يفهم معناه من لفظه بينه حينئذ بوحي يوحى إليه ، إما متلو أو غير متلو ، كما قال تعالى : {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } فأخبر تعالى أن بيان القرآن عليه عز وجل ، وإذا كان عليه فبيانه من عنده تعالى ، والوحي كله ، متلوه وغير متلوه ، فهو من عند الله عز وجل : {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وقال تعالى مخبراً عن القرآن : {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلآءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } .
فصح بهذه الآية أنه تكون آية متلوه بياناً لأخرى ، ولا معنى لإنكار هذا وقد وجد، فقد ذكر تعالى الطلاق مجملاً ، ثم فسره في سورة الطلاق وبيّنه .
ومما أُجمل في السنة وبينه القرآن ما حدثناه عبدالله بن يوسف عن أحمد بن فتح ، عن عبد الوهاب بن عيسى ، عن أحمد بن محمد ، عن أحمد بن علي عن مسلم ، ثنا زهير بن حرب ، حدثنا إسماعيل بن علية ، ثنا أبو حيان ، ثنا يزيد بن حيان أنه سمع زيد بن أرقم يقول: خطبنا رسول الله ﷺ بماء يدعى خماً بين مكة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال : «أَمَّا بَعْدُ أَلا يَا أَيُّها النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ أَوَّلُهما كِتَابُ الله فِيهِ الهُدَى وَالنُّورُ فَخُذُوا بِكِتَابِ الله عزَّ وَجَلَّ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ...
ثم قال ﷺ : وَأَهلُ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمْ الله في أهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ الله فِي أَهْلِ بَيْتِي» .
قال علي : وفسر زيد بن أرقم أنهم بنو هاشم .
قال علي : والتقليد باطل ، فوجب طلب من هم أهل بيته ﷺ في الكتاب والسنَّة ، فوجدنا الله تعالى قال : {ينِسَآءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَآءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَـاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيــراً * وَاذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَى فِي بُيُوتِكُـنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْــمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } .
قال علي : فرفعت هذه الآية الشك ، وبيَّنت أن أهل بيته ﷺ هن نساؤه فقط ، وأما بنو هاشم فإنهم آل محمد وذوو القربى بنص القرآن والسنة ، فهم في قسمه الخمس ، وتحريم الصدقة .
وقد أجمل ﷺ قوله : «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إِلهَ إِلاَّ الله» ثم فسر الله تعالى ذلك وبينه بقوله في سورة براءة: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
فإن قال قائل : ما بيَّن هذا الحديث إلا حديث ابن عمر وأبي هريرة : «إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ المُشْرِكِينَ حَتَّى يَقُولُوا لا إِلهَ إِلاَّ الله، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَيُؤْمِنُوا بِمَا أُرْسِلْتُ بِهِ» .
قيل له ، وبالله تعالى التوفيق : هذا الخبر الذي ذكرت هو موافق لما في براءة ، فصح أن الله تعالى أنزل ذلك عليه في القرآن ، ثم أخبر به ﷺ أصحابه بلفظ فكان بياناً مردداً تفسيراً مؤكداً ، فخبر أبي هريرة وابن عمر إنما هو حكاية لما في براءة .
يعلم ذلك ببديهة العقل عند قراءة الآية والحديث المذكور .
قال علي : وقد يرد البيان بالإِشارة على ما في حديث كعب بن مالك مع أبي حدرد إذ أشار إليه ﷺ بيده : أن ضع النصف .
==========
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/الباب التاسع
في تأخير البيان
قال علي : واختلفوا في نوع من أنواع البيان :
فقالت طائفة : إنما يرد المجمل ثم يرد المفسر .
وقال آخرون: لا يردان إلا معاً .
وقال آخرون: جائز ورود المجمل قبل المفسر ، والمفسر قبل المجمل ، وورودهما معاً ، كل ذلك جائز .
قال علي : وبهذا نقول : إلا أنه لا يجوز أن يتأخر البيان عن وقت إيجاب العمل البتة ، ولا يجوز أن يؤخره النبي ﷺ بعد وروده عليه طرفة عين ، ولسنا نقول بهذا لأن العقل يمنع ذلك ، لكن لأن النص قد ورد بذلك ، وإنما منعنا من تأخير الله البيان عن وقت وجوب العمل لقول الله تعالى : {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }
وقد علمنا أنه ليس في وسع أحد أن يعمل بما لا يعرف به ، وإنما منعنا من تأخير النبي ﷺ البيان عن ساعة وروده ﷺ لقول الله تعالى : {يَـأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } فلو أخر ﷺ البيان عن ساعة وروده عليه لكان ﷺ في تلك المدة ، وإن قلت مستحقاً لاسم أنه لم يبلغ ، ولو أنه لم يبلغ لكان عاصياً ، ولا ينسب هذا إلى النبي ﷺ إلا جاهل ، ومن تمادى على نسبة المعصية إليه في طي الشريعة وترك تبليغها فهو كافر بإجماع الأمة .
قال علي : وقد نزلت الصلوات الخمس مفسرة بمكة ، ثم جاءت آيات كثيرة مدنيات فيها : أقيموا الصلاة فقط ، فصح بذلك ما ذكرنا من أنه قد ينزل المفسر قبل المجمل ، وأما نزول المجمل قبل المفسر فقد نزل ذلك في الصيام وتحريم حشيش مكة ثم جاء تخصيص الإذخر .
قال علي : وأما قولنا بتأخير الله عز وجل البيان ما لم يأت وقت إيجابه تعالى العمل به ، فهو منصوص في قوله تعالى : {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ }
وقد أنزل الله عز وجل آيات كثيرة فيها : قصة موسى ، وقصة عيسى عليهما السلام ، وقصة عاد وثمود وإبراهيم عليهم السلام ، بعضها قبل بعض ، وبعضها بمكة ، وبعضها بالمدينة ، وبعضها أكمل من بعض ، فهلا اعترض المانعون ربهم تعالى من أن يفعل ما يشاء بغير نص منه تعالى أنه لا يفعله على ربهم فيما ذكرنا فيقولون : هلا نزلت هذه القصص كاملة في مكان واحد ، فتكون أتم للوعظ ، وأشفى للخبر ، ثم يؤكدها كذلك إن شاء .
وليت شعري إذ أقر هؤلاء بأن التأكيد حكمة ، فماذا يقولون في قصص كثيرة ومواعظ لم يذكرها عز وجل في القرآن إلا مرة واحدة ؟ أتراها عريت عن الحكمة إذ لم تكرر ولا وكدت ؟ .
وأيضاً فإن أكد تعالى تكرار مسألة موسى عليه السلام عشرين مرة مثلاً ما الفرق بين عشرين مرة ، وبين إحدى وعشرين مرة أو تسع عشر مرة ؟ فإن ادعى أن هذا العدد أبلغ في الحكمة ادعى القحة وبانت قلة الحياء في وجهه ، وقال ما يعلم أنه بخلاف ما يقول ، وسألناه أيضاً عن قصص أخر كررت أقل من تكرار قصة موسى عليه السلام . فإن قال اكتفى بتكرار قصة موسى .
قيل له : ما الفرق أن يكتفي بتكرار قصة موسى عن تكرار قصة إبراهيم . ولا يكتفي بتكرار قصة إبراهيم عن تكرار قصة موسى ؟ وما الفرق بين ذكره تعالى ما ذكر من قصص الأنبياء عليهم السلام ، وبين ما أمسك عنه تعالى من ذكره لبعضهم ؟ وما الفرق بين ذلك وبين أن لو ذكر من أمسك عنه وأمسك عمن ذكر، وقد ذكر من لا شريعة له غير شريعة من قبله كثيراً ، كإلياس واليسع وذي الكفل ، وغيرهم ، ولعل من أمسك عنه تعالى ولم يذكره من الرسل أعظم آية ، وأبلغ في الوعظ ممن ذكر .
قال علي : وأنا أقطع ولا أمتري أن ملقي هذه النكتة إلى ضعفاء المسلمين مغمور في دينه ، ضعيف في عقله ، كائد للشريعة ، ولا شك في ذلك ، ثم تهافت بالتقليد مع من تهافت ، وبالله تعالى التوفيق .
ومما سأل عنه المانعون من تأخير البيان جملة أن قالوا : ما تقولوا فيمن سمع آية قطع السارق ، ولم يسمع الحديث المبين للتوقيت في ذلك ، أيقطع كل سارق لفلس من ذهب ؟ وفيمن سمع آية الزنى ولم يسمع حكم الرجم ، وفيمن سمع آية الرضاع ولم يسمع الحديث في التوقيت في ذلك ، أيجلد المحصن ولا يرجم ؟ ويجلد الأمة مائة ويحرم برضعة واحدة أم كيف يفعل ؟
فإن قلتم : ينفذ ما سمع على جملته ، كنتم قد أمرتموه بالباطل .
وإن قلتم : لا يفعل ، أمرتموه بمعصية ما سمع من القرآن .
فالجواب : أننا لم نجد قط تأخير ورود البيان عن وقت وجوب العمل ، وأما قبل وجوبه فليس يلزمه إلا الإقرار بالجملة ، وأن يقول : سمعت وأطعت ، ولا مزيد إذا لم تكن مبينة مفهومة مثل قوله تعالى : {وَآتُواْ الزَّكَاةَ} فهذا ليس عليه إلا الإقرار بتصديق ذلك كما قلنا فقط .
إذ لم يأته بيان ما كلف من ذلك ، وأما إن كان النص مفهوماً بيناً فعليه العمل به حتى يبلغه نسخه ، أو تخصيصه ولا بد ، إذاً من قال : لا يلزمه العمل بما بلغه من ذلك فقد قال له : لا تطع ربك ، ولا تعمل بما أمرك .
فلعل ههنا نصاً ناسخاً لهذا النص ، أو نصاً مخصصاً له ، وهذا خلاف أمر الله تعالى في القرآن بطاعته .
ومن طرد هذا القول السخيف لزمه ألا يعمل بشيء من القرآن ، ولا السنن أبداً .
حتى يستوعب معرفة جميع أحكام القرآن ، وضبط جميع السنن ، وفي هذا الخروج عن الإسلام وإبطال الشريعة .
قال علي : ونسألهم في ردّ هذا السؤال عليهم فنقول : ما الذي يلزم من سمع أمراً ما ، والرسول ﷺ حي مما جاء النسخ بعد ذلك فيه ، أيعتقد في ذلك الأمر التأييد فيكون معتقداً للباطل .
أو يعتقد فيه السقوط بعد حين فيعتقد المعصية لما سمع ؟ فجوابهم ها هنا جوابنا آنفاً فيما سألونا عنه ، وأنه يلزم من سمع ذلك الإقرار والطاعة والاعتقاد أنه حق لازم ما لم يأت ما ينسخه فهو على التأييد ، وإن جاء ما ينسخه فهو متروك للناسخ .
قال علي : وتأخير الاستثناء والتخصيص عندنا جائز كتأخير البيان جملة ولا فرق ، وهو جائز ما لم يأت وقت إيجاب العمل ، وبالله تعالى التوفيق .
قال علي : ومما يبين صحة قولنا قوله تعالى : {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } وثم توجب مهلة وقوله تعالى في قصة الملائكة القائلين لإبراهيم عليه السلام : {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ * وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ * أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِيءُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىءُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ * وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَآئِهِ أُوْلَـئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ * فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ }
فعموا في أول الأمر وأخروا البيان حتى وقع السؤال عن لوط فأجابوا بأنهم لم يعنوه بالهلاك حاشا امرأته فقط .
وقد اعترض في هذا بعض من منع من تأخير البيان جملة بأن قال : قد كان يجب أن يعلم إبراهيم عليه السلام أن لوطاً خارج عن العذاب لقولهم: {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ } ولوط ليس ظالماً ، قيل لهم ، وبالله تعالى التوفيق .
يمكن أن يحدث من لوط ما يستحق به الظلم ، فأشفق إبراهيم عليه السلام من ذلك فسأل عنه ، وقد أجمل لنوح عليه السلام خلاص أهله ، فظن أن الأهل هم القرابة حتى بيّن له بعد ذلك أن المراد بأهله أهل دينه .
فإن قال قائل : فما المراد من المجمل الوارد قبل ورود بيانه ؟ قيل له وبالله تعالى التوفيق : المراد منا فيه هو المراد منا في المتشابه الذي أمرنا بأن نبحث عنه ، ولا نبتغي تأويله ، وأن يقول كل من عند ربنا ، وأما المراد فيه فالذي يأتي به البيان إذا أتى ويبين قولنا قول الله تعالى : {يبين الله لكم أن تضلوا} فإنما يبين لنا لئلا نضل ولا ضلال في ورود الأمر ما لم يأت وقت وجوب العمل به ، فأما إذا جاء وقت وجوب العمل به فلو تركنا نعمل بغير ما أريد منا لكنا قد ضللنا ، وقد أخبرنا تعالى بأن ذلك لا يكون ، وقوله تعالى صدق وحق بالله تعالى التوفيق .
فعلى هذا الوجه منعنا من تأخير البيان عند وجوب العمل ، وإلا فليس في العقل ما يمنع من ذلك لو شاء تعالى ، ولو فعل الله تعالى ذلك لكان تعنيتاً لنا ، وقد أخبرنا تعالى فقال : {ولو شاء الله لأعنتكم} فأخبر تعالى أنه لو أراد أن يكلفنا العنت فعل ، وهذا نفس قولنا وبالله تعالى التوفيق .
قال علي : يختلف في الوضوح ، فيكون بعضه جلياً ، وبعضه خفياً ، فيختلف الناس في فهمه فيفهمه بعضهم ويتأخر بعضهم عن فهمه ، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : إلا أن يؤتي الله رجلاً فهماً في دينه ، وكما تعذر على عمر رضي الله عنه ، وهو الغاية في العلم بنص النبي على ذلك فيه فَهْم آية الكلالة فمات وهو يقر أنه لم يفهمها وفهمها غيره من الصحابة رضي الله عنهم ، وانتهره ﷺ وأخبره بأنها بينة يكفي من فهمها الآية التي نزلت في الصيف ، وكما عرض لعدي في توهمه أن الخيط الأبيض والأسود من خيوط الناس حتى زاده الله تعالى بياناً في أن ذلك من الفجر ، وقد اكتفى غير عدي بالآية نفسها ، وعلم أن المراد الفجر .
وكما توهم ابن أم مكتوم أنه ملوم في تأخره عن الغزو ، فزاده الله بياناً باستثناء أولي الضرر ، وقد اكتفى غير ابن أم مكتوم بسائر النصوص الواردة في رفع الحرج ، وأن لا حرج على مريض ولا أعمى ، وأن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها .
قال علي : فهذه حقائق الكلام في البيان وتأخيره مجموعة باستيعاب وإيجاز وبالله تعالى التوفيق .
والتأكيد نوع من أنواع البيان ، قال الله عز وجل: { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} وقال تعالى : { فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } بعد أن ذكر تعالى ثلاثين ليلة وعشراً ، فإن قال قائل : إن الله تعالى علمنا الحساب بذلك فقد افترى ، لأننا كنا نعلم الحساب قبل نزول القرآن ، نعني النوع الإنسان جملة ، وبالله تعالى التوفيق .
وقد أتى بعض أهل القياس المتحذلقين المتنطعين في قوله تعالى : {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } بآبدة فقال معنى قوله تعالى : {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } ، دليل على أن الهدي الذي عوض منه الصوم في التمتع لا يكون إلا كاملاً .
قال علي : وأول ما في هذا القول الدعوى بلا دليل ، وهذا حرام لاسيما على الله عز وجل ، وأيضاً فإنه قد جل الله تعالى عن أن يريد أن يكون الهدي كاملاً فيترك أن يصفه بذلك ، ويقتصر على أن يقول : { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } ثم ينبه على كمال الهدي بذكر أن تكون العشرة الأيام في الصوم كاملةٌ ، فبان كذب هذا القائل ، وصح أن قوله تعالى : { عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } كقول رسول الله ﷺ في حديث الزكاة ، «فَابْنُ لَبْونٍ ذَكَرٌ» ، وكقوله ﷺ في حديث الفرائض : «فَما أَبْقَتِ الفَرَائِضُ فَلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» وإنما هذا توكيد وبيان زائد فقط .
قال علي : ومما يبين أن الله تعالى يؤخر البيان قبل أن يريد منا تعالى العمل بالحديث الوارد عن النبي ﷺ بأن الله تعالى يعرض في الخمر ، فمن كان عنده منها شيء فليبعها ، فما أتى الوقت الذي أراد الله تعالى أن يوجب علينا اجتنابها أنزل الآيات في تحريمها، وتلا ذلك رسول الله ﷺ على الناس من وقته وقد يزيد ﷺ بياناً بعد تقدم البيان قبله ، فيكون تأكيداً وإخباراً لمن يبلغه الخبر الأول ، كما نزلت الصلوات الخمس بمكة مبينة بأوقاتها ، ثم سأل السائل بالمدينة عن أوقاتها وأوائلها وأواخرها فأراه ﷺ ذلك بالعمل ، وقد بينها أيضاً بكلامه ﷺ لغير ذلك السائل .
وكما أخر الله تعالى عن النبي ﷺ بيان المناسك قبل أن يأتي وقت وجوب عملها ، فلما أتى وقت وجوبها بينها له ﷺ , فبينها ﷺ بفعله غير مؤخر لها ، ومن ادعى أنه ﷺ كان عنده بيان المناسك وكتمها عن أصحابه ، ومنعهم الأجر بالعلم بها وبالإقرار بجملتها ، فقد افترى وكذب نبيه ﷺ إذ يقول : «إِنَّ حَقّاً عَلَى كُلِّ نَبِيَ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى أَحْسَنِ ما يُعَلِّمُهُ لَهُمْ»
ومن قال بهذا فقد أكذب ربه تعالى إذ يقول عز وجل واصفاً لنبيه ﷺ : {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }
وإذا كتمهم ما يستعجلون الأجر بالإقرار به ويزدادون علماً بفهمه ، فقد خالف الصفة التي ذكرها الله تعالى ، ومن قال ذلك فقد فارق الإسلام .
فإن قال قائل : فأنت تصف الآن محمداً ﷺ بأنه يريد أن يزداد أهل الأرض خيراً ، وهذا خلاف قولك إن الله عز وجل لم يرد هذا بكل الناس، فقد وصفت محمداً ﷺ بأفضل مما وصفت به الله عز وجل ، وبأنه أرأف بنا من الله تعالى .
قال علي : فنقول وباللـه التوفيق : هذه شغبية ضعيفة ، وإنما يماثل بين الشيئين أو يفاضل بينهما ، إذا كانا واقعين تحت نوع واحد ، أو تحت جنس واحد ، وليس صفتنا للـه تعالى من نوع صفتنا للمخلوقين ، ورحمة محمد ﷺ بالناس هي من جنس تراحمنا بعضنا لبعض ، إلا أنها أعلى من كل رحمة لإنسي ، وأكمل وأتم وأدوم ، وليس اللـه تعالى واقعاً معنا تحت نوع البشرية كوقوع محمد ﷺ معنا تحتها ، وإن كان أفضل من كل من دونه ، ولا يثنى على اللـه عز وجل بما يثني به على خلقه ، ألا ترى أننا نصف اللـه عز وجل مثنين عليه بأنه جبار متكبر ؟ وهذا في كل مخلوق دونه تعالى ذم شديد ، واستنقاص عظيم ، ونصفه تعالى بأنه ذو غضب شديد ، أنه يفعل ما يريد ، وأنه ذو مكر لا يؤمن . وكل هذا لو وصفنا به مخلوقاً لكان ذمَّاً ونقصاً . ونمدح المخلوقين بالعقل والكيس ، والنبل والنجدة والعفة وكل هذا لا يجوز أن يوصف به اللـه عز وجل ، فمن أراد أن يقيس رحمة اللـه تعالى لخلقه برحمة نبيه لـهم فقد ألحد في وصفه لربه تعالى ، وقد علمنا يقيناً أن اللـه عز وجل لم يرد قط أن يهدي أبا طالب ولو شاء أن يؤمن لشرح صدره للإسلام ، بل أراد أن يعذبه في نار جهنم أبداً ، وعلمنا يقيناً أن محمداً ﷺ كان من أبعد آمالـه أن يؤمن أبو طالب ، وقد كفانا اللـه تعالى ذلك بقولـه: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } .
فأما من آمن باللـه فاللـه أرأف به من نفسه بنفسه ، ومن محمد ﷺ ومن أبيه وأمه اللذين ولداه . لأنه جازاه على ذلك بما لو ملك الاختيار لم يبلغ مقدار ما أعطاه اللـه تعالى في الجنة ، ولا سمح لـه أبواه بذلك ، ولأنه تعالى غفر لـه ما لو فعلـه عاصياً لأبيه ما غفر لـه ذلك ، فإن الرجل يزني بأمة اللـه تعالى فيغفر لـه بالتوبة ، وبموازنة حسناته لسيئاته ، ولو زنى بأمة أبيه لقطعه .
وأما من لم يؤمن فما أراد اللـه به خيراً قط ، ولو أراد به خيراً لأماته سقطاً ، فمن قال : إن اللـه تعالى لم يقدر على ذلك فقد ألحد ووصف ربه تعالى بغاية النقص ، ومن قال : إن اللـه تعالى أراد الخير بفرعون فنحن نباهلـه .
ونقول : اللـهم لا ترد بنا من الخير ما أردته بفرعون ، فليدع ربه تعالى أن يريد به من الخير ما أراده بفرعون .
فإن شغب مشغب فقال : إنك الآن تصف محمداً ﷺ بأنه أراد غير ما أراد اللـه عز وجل ، وباللـه تعالى التوفيق : وهذه شغبية ضعيفة كالتي قبلـها.
نعم كذلك نقول في هذا المكان مقرين بما قال ربنا عز وجل من أن محمداً ﷺ أحب أن يهتدي قوم لم يحب الله تعالى أن يهديهم ، وليس في اختلاف ما أراد الله تعالى ههنا وما أراد نبيه ﷺ , عيب على نبيه ﷺ لأنه إنما يمدح النبي ﷺ فمن دونه من المخلوقين بالائتمار لربه تعالى فقط ، لا بأن يوافق ربه فيما لم يكلفه ، ألا ترى أننا نمدح أنفسنا بالنكاح والأولاد وهما منفيان عن الله عز وجل لم يردهما لنفسه قط ، ونمدح بالصدقة على المحتاج الذي لم يرد الله أن يغنيه ، ولو أراد أن يغنيه لكان قادراً عز وجل على ذلك فلم نؤمن نحن قط أن تريد ما أراده الله عز وجل في كل وقت ، بل نهينا عن ذلك فقد أراد الله عز وجل قتل من سلط عليه الكفار من المؤمنين ، ولو أردنا نحن ذلك لفسقنا ، وإنما أريد منا الائتمار لما أمرنا به والانتهاء عما نهينا عنه ، وقول خصومنا يؤول إلى قول بعض أهل
الإلحاد : أن الواجب علينا التشبه بالله عز وجل ، وهذا كفر عندنا ، لأن الله تعالى لا يشبهه شيء ، فلا يروم التشبه به إلا كافر ملحد . وهذا بيّن ، وبالله تعالى التوفيق .
ثم نرجع إلى بقية الكلام في تأخير البيان ، فإن احتج بعض من يجيز تأخير البيان عن وقت وجوب الأمر بقصة موسى والخضر عليهما السلام فلا سواء ، فموسى عليه السلام لم يلزمه قط أمر في تلك القصة يلزمه التقصير إن لم يأته ، وإنما سأله ناسياً والنسيان مرفوع ، وكذلك كان سؤال نوح عليه السلام في ابنه ناسياً ، لأن الله تعالى قد كان بيّن له أن يحمل أهله إلا من سبق عليه القول منهم ، فنسي نوح عليه السلام هذا الاستثناء ، وقد كان كافيه لأن ابنه كان كافراً قد سبق عليه القول في جملة من كفر .
واحتجوا أيضاً بأمر بقرة بني إسرائيل ، وأنه تعالى أخر عنهم بيان الصفات التي زادهم بعد ذلك .
قال علي: وهذا لا حجة لهم فيه ، لأن تلك الصفات إنما هي زيادات شرائع لو لم يسألوا عنها لم يزادوهم ؛ ولو ذبحوا في أول ما أمروا بقرة بيضاء أو حمراء أو بلقاء لأجزت عنهم؛ لكنهم لما زادوا سؤالاً زيدوا شرعاً ، ودخلوا بذلك في جملة من ذم الله تعالى على لسان نبيه ﷺ ؛ إذ يقول: «إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ جُرْماً فِي الإِسلامِ مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحَرَّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» . وفي قوله ﷺ : «إِنَّما هَلكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةَ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ» . ويبين صحة قولنا هذا قوله عز وجل : {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ }
فأخبر تعالى بنص ما قلنا وله الحمد ، وبين لنا أن الأشياء معفوة ساقطة عنا قبل أن نسأل عنها ، فإذا سألنا عنها لزمتنا ؛ ولعلنا نعصي حينئذ فنهلك ، وكل ذلك قد سبق في علمه عز وجل .
وأما تأخر نزول : {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } في قصة ابن الزبعرى إذ اعترض على النبي ﷺ في تلاوة : {اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
فقال : نحن نعبد الملائكة والنصارى يعبدون عيسى ، فهم في جهنم معنا ، فإن ابن الزبعرى كان مغفلاً عن تدبر الآية الأولى وقد كان له فيها كفاية له عقل ، ولكن الثانية أتت مؤكدة لها فقط وهي إخباره تعالى عن سؤاله الملائكة فقال تعالى : {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَـؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } فأخبر تعالى عن الملائكة الصادقين المقدسين أنهم قالُوا : {قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْـثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ }
فليس قول القائل : أنا أعبد الملائكة ، ولا قول النصارى : نحن نعبد المسيح موجب لصدقهم ، لأن العبادة إنما هى الاتباع والانقياد مأخوذة من العبودية ، وإنما يعبد المرء من ينقاد له ، ومن يتبع أمره ، وأما من يعصي ويخالف فليس عابداً له وهو كاذب في ادعائه أنه يعبده .
فالقائلون نحن نعبد الملائكة والمسيح كذبة في دعواهم لذلك ما عبدوهم قط ، وإنما عبدوا الشياطين لانقيادهم لأمرهم واتباعهم إغواءهم ، ولو اتبعوا الملائكة والمسيح عليه السلام ما أمروهم إلا بعبادة الله عز وجل ، وبأن يقولوا : إننا لا نعبد شيئاً من دون الله عز وجل، بل كانوا ينهونهم عن الكذب وهذا عين الكذب ، وقد بيّن ﷺ معنى قول ربه تعالى : {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }
فقال قائل : يا رسول الله ما كنا نعبدهم ، فأخبرهم ﷺ أنهم إذا أطاعوهم في تحريم ما حرموا ، وتحليل ما أحلوا ، فقد اتخذوهم أرباباً ، ونحن إنما أطعنا أمر نبينا ﷺ لعلمنا أنه كله من عند الله عز وجل ، وأنه لا يقول من تلقاء نفسه شيئاً . قال الله عز وجل : {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } .
فإن قال قائل : فعلى قولك فمن عصى منا لم يعبد الله عز وجل ؟
قيل له : نعم ، لم يعبد الله تعالى لتلك المعصية ولا فيها، ولكن عبده في سائر طاعته وإقراره بالتوحيد.
فإن قال قائل: فعلى قولك إننا إذا أطعنا الرسول لقد عبدناه .
قيل له وبالله تعالى التوفيق : إن طاعة الرسول توجب ألا يطلق لفظ العبادة ولا معناها إلا لله عز وجل وحده لا شريك له ، وتوجب أن من أطاع الشيطان في الكفر فقد عبده ، وهذه معان شرعية لا يتجاوز فيها ما أتت به الشريعة فقط ، وأما من ادعى بيان كون أن السلب للقاتل نزل بعد آية قسم الغنائم، فدعوى لا يقوم عليها دليل ولا روي ذلك قط من وجه يصح ، وكذلك القول في بيان سهم ذي القربى وأن بيان كون بني هاشم وبني عبد المطلب هم ذو القربى ، دون بني عبد شمس وبني نوفل ، نزل متأخراً عن الآية دعوى لا تصح أصلاً .
فإن قال قائل : فإنّ عثمان رضي الله عنه ، وجبير بن مطعم جهلا هذا .
قيل له : نعم ، وما في هذا علينا من الحجة ، ومتى منعنا أن يخفى على الصاحب والصاحبين والعشرة والأكثر منهم فهم آية أو آيات من القرآن .
وقد كان في قسمة رسول الله ﷺ لبني المطلب دونهما ما يكفي، لأنهما كانا يوقنان بلا شك أن رسول الله ﷺ لا يمنع ذا حق حقه ، ولا يعطي أحداً غير حقه ؛ فكان في هذا كفاية ، لأنه لو كان لبني عبد شمس ، وبني نوفل حق في سهم ذوي القربى ما منعهم إياه رسول الله ﷺ ، ولوكان بنو عبد المطلب خارجين من ذوي القربى ما أعطاهم النبي ﷺ حقًّا ليس لهم ، ولكن عثمان وجبير رضي الله عنهما أرادا علم السبب الذي من أجله استحق بنو المطلب الدخول فيما خرج قومهما منه ، والخصلة التي بان بها بنو عبد المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل ، وقد قال عثمان رضي الله عنه في الجمع بين الأختين بملك اليمين : أحلتهما آية وحرمتهما آية ، فأخبر رضي الله عنه أنه خفيت عليه رتبة هاتين الآيتين ، ولم يدر أيهما يغلب ويستثني من الأخرى ، ولا يجوز عند ذي فهم ولُب أن يعتقد الشيء حراماً حلالاً في وقت واحد ، على شخص واحد، فيكون يحل له أن يفعله ولا يحل له أن يفعله ، فيفعل ولا يفعل ، وهذا محال ظاهر الامتناع ، ومن بلغ ههنا كفانا نفسه ، وأما العرايا فقد جاء الحديث موصولاً في استثنائها من التمر بالرطب ، وبالله تعالى التوفيق .
=======
[أغلق]
* اقرأ * * نزّل * استشهد * شارك في ويكي مصدر *
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/الباب العاشر
< ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام‏ | المجلد الأول‏ | الجزء الأولاذهب إلى التنقلاذهب إلى البحث
في تأخير البيانابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام في الأخذ بموجب القرآن
المؤلف: ابن حزمفي الكلام في الأخبار وهي السنن المنقولة عن رسول اللـه
في الأخذ بموجب القرآن
قال علي : ولما تبين بالبراهين والمعجزات ، أن القرآن هو عهد الله إلينا والذي ألزمنا الإِقرار به ، والعمل بما فيه ، وصح بنقل الكافة الذي لا مجال للشك فيه ، أن هذا القرآن هو المكتوب في المصاحف ، المشهورة في الآفاق كلها ، وجب الانقياد لما فيه فكان هو الأصل المرجوع إليه .
لأننا وجدنا فيه : {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } فما في القرآن من أمر أو نهي فواجب الوقوف عنده ، وسنذكر إن شاء الله تعالى في باب الأخبار التالي لهذا الباب كيف العمل في بناء آي القرآن خاصها مع عامها ، وبناء السنن عليها ، وسنذكر إن شاء الله تعالى في باب الأوامر والنواهي ، كيف العمل في حمل أوامر القرآن ونواهيه على الظاهر ، والوجوب ، والفور ، ونذكر إن شاء تعالى في باب العموم والخصوص ، ما يقتضيه ذلك الباب من أخذ آي القرآن على عمومها ، ونوعب الرد على كل من خالف الحق في ذلك إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق .
قال علي : ولا خلاف بين أحد من الفرق المنتمية إلى المسلمين من أهل السنَّة والمعتزلة والخوارج والمرجئة والزيدية في وجوب الأخذ بما في القرآن ، وأنه هو المتلو عندنا نفسه ، وإنما خالف في ذلك قوم من غلاة الروافض هم كفار بذلك مشركون عند جميع أهل الإِسلام ، وليس كلامنا مع هؤلاء ، وإنما كلامنا في هذا الكتاب مع أهل ملتنا ، إذا قد أحكمنا بطلان سائر الملل في كتاب الفصل وبالله تعالى التوفيق .
ونذكر إن شاء الله تعالى في باب الإِجماع من هذا الكتاب بالبرهان الصحيح أن القراءات السبع التي نزل بها القرآن باقية عندنا كلها ، وبطلان قول من ظن أن عثمان رضي الله عنه جمع الناس على قراءة واحدة منها أو على بعض الأحرف السبعة دون بعض وبالله تعالى التوفيق .
=======

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/الباب الأول والثاني +المجلد الأول/الجزء الأول/الباب الثالث +المجلد الأول/الجزء الأول/الباب الرابع +المجلد الأول/الجزء الأول/الباب الخامس+المجلد الأول/الجزء الأول/الباب الخامس و فصل +المجلد الأول/الجزء الأول/الباب السادس +

ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/الباب الأول والثاني 

 

 

 

مقدمة تشمل الباب الأول والثاني 
 
مقدمة المؤلف 
 
قال الفقيه الإمام أبو محمد ، علي بن أحمد ، رحمة الله عليه ورضوانه :
الحمد لله الذي امتن علينا بنعم عامة وخاصة، فعم النوع الآدمي بأن أرسل إليهم رسلاً مبشرين ومنذرين ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، وخصّ من شاء منهم بأن وفقه للحق وهداه له، ويسره لفهمه، وسدده لاختياره، وسهل عليه سبيله، وخذل منهم من شاء، فطبع على قلبه، ووعر عليه طريق الحق، ووفق قوماً في سبيل ما، ومنعهم التوفيق في سبيل أخرى، كما قال عز وجل : {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } و {وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } دون أن يجبر مريد حق على إرادته، أو يقسر قاصد باطل على قصده، أو يحول بين أحد وبين ما دعاه تعالى إليه، أو ندبه إليه، لكن كما قال عز وجل: {وَآعْلَمُواْ أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَـكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } وكما قال تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } وقال تعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } لله ـ وكما قال النبيان الفاضلان صلى الله عليهما إبراهيم ويوسف إذ يقول إبراهيم {فَلَمَّآ رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ } ويقول يوسف {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ } وصلى الله على محمد عبده ورسوله إلى جميع الجن والإنس بالدين القيم بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
وبعد : فإن الله عز وجل ركب في النفس الإنسانية قوة مختلفة، فمنها عدل يزين لها الإنصاف، ويحبب إليها موافقة الحق. قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَآءِ للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } ومنها غضب وشهوة يزينان لها الجور ويعميانها عن طريق الرشد، قال تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ } وقال تعالى : {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } فالفاضل يسر لمعرفته بمقدار ما منحه الله تعالى، والجاهل يسر لما لا يدري حقيقة وجهه ولما فيه وباله في أخراه وهلاكه في معاده.
ومنها فهم يليح لها الحق من قريب ، وينير لها في ظلمات المشكلات فترى به الصواب ظاهراً جلياً , ومنها جهل يطمس عليها الطرق ، ويساوي عندها بين السبل، فتبقى النفس في حيرة تتردد ، وفي ريب تتلدد ، ويهجم بها على أحد الطرق المجانبة للحق المنكبة عن الصواب تهوراً وإقداماً أو جبناً أو إحجاماً ، أو إلفاً وسوء اختيار ، قال تعالى : { هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } وقال تعالى: {إنّما يخشى الله من عباده العُلماءُ } .
ومنها قوة التمييز التي سماها الأوائل المنطق ، فجعل لها خالقها بهذه القوة سبيلاً إلى فهم خطابه عز وجل ، وإلى معرفة الأشياء ما هي عليه ، وإلى إمكان التفهم الذي به ترتقي درجة الفهم ويتخلص من ظلمة الجهل ، فيها تكون معرفة الحق من الباطل . قال تعالى : {فبَشّر عباد *الّذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه أولئك الذن هداهم الله و أولئك هم أولوا الألباب } . 
 
ومنها قوة العقل التي تعين النفس المميزة على نصر العدل ، وعلى إيثار ما دلت عليه صحة الفهم ، وعلى اعتقاد ذلك علماً ، وعلى إظهار باللسان وحركات الجسم فعلاً، وبهذه القوة التي هي العقل تتأيد النفس الموفقة لطاعته على كراهية الحود عن الحق ، وعلى رفض ما قاد إليه الجهل والشهوة ، والغضب المولد للعصبية، وحمية الجاهلية ، فمن اتبع ما أناره له العقل الصحيح نجا وفاز ، ومن عاج عنه هلك وربما أهلك قال تعالى : {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } . 
 
قال أبو محمد علي: أراد بذلك العقل ، وأما المضغة المسماة قلباً فهي لكل أحد متذكر ، وغير متذكر ، ولكن لما لم ينتفع غير العاقل بقلبه صار كمن لا قلب له ، قال تعالى ، شاهداً لما قلنا : {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَـكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } وقال بعض السلف الصالح : «ترى الرجل لبيباً داهياً فطناً ولا عقل له» فالعاقل من أطاع الله عز وجل .
قال أبو محمد علي: هذه كلمة جامعة كافية ، لأن طاعة الله عز وجل ، هي جماع الفضائل واجتناب الرذائل ، وهي السيرة الفاضلة على الحقيقة التي تخيرها لنا واهب النعم ، لا إله إلا هو ، فلا فضيلة إلا اتباع ما أمر الله عز وجل به ، أو حضّ عليه ، ولا رذيلة إلا ارتكاب ما نهى الله تعالى عنه أو نزّه منه ، وأما الكيس في أمور الدنيا لا يبالي المرء ما وفق في استجلاب حظه فيها ، من علو صوت ، أو عرض جاه ، أو نمو مال ، أو نيل لذة من طاعة أو معصية ، فليس ذلك عقلاً، بل هو سخف وحمق ونقص شديد وسوء اختيار ، وقائد إلى الهلاك في دار الخلود . 
 
وقد شهد ربنا تعالى أن متاع الدنيا غرور ، وقد علمنا أن تارك الحق ومتبع الغرور سخيف الاختيار ، ضعيف العقل ، فاسد التمييز وبرهان ذلك أن كل تمييز في إنسان بان به عن البهائم ، فهو يشهد أن اختيار الشيء القليل في عدده ، الضعيف في منفعته ، المشوب بالآلام والمكاره ، الفاني بسرعة ، على الكثير في عدده العظيم في منفعته ، الخالص من الكدر والمضار ، الخالد أبداً، حمق شديد وعدم للعقل البتة .
 
 
= ولو أن أمرأ خيّر في دنياه بين سكناه مائة عام في قصر أنيق ، واسع ذي بساتين وأنهار ورياض وأشجار ، ونواوير وأزهار ، وخدم وعبيد وأمن فاش وملك ظاهر ، ومال عريض ، إلا أن في طريقه إلى ذلك مشي يوم كامل في طريق فيها بعض الحزونة لا كلها ، وبين أن يمشي ذلك اليوم في طريق فيها مروج حسنة ، وفي خلالها مهالك ومخاوف وظلال طيبة ، وفي أثنائها أهوال ومتالف ، ثم يفضي عند تمام ذلك اليوم إلى دار ضيقة ، ومجلس ضنك ذي نكد وشقاء وخوف وفقر وإقلال ، فيسكنها مائة عام ، فاختار هذه الدار الحرجة لسرور يوم ممزوج بشوائب البلاء ، يلقاه في طريقه نحوها لكان عند كل من سمع خبره ذا آفة شديدة في تمييزه ، وفاسد العقل جدّاً ، ظاهر الحمق رديء الاختيار، مذموماً مدحوراً ملوماً .
وهذه حال من آثر عاجل دنياه على آجل أخراه. فكيف بمن اختار فانياً عن قريب على ما لا يتناهى أبداً . اللهم إلا أن يكون شاكاً في منقلبه ، متحيراً في مصيره ، فتلك أسوأ بل هي التي لا شوى لها ، نعوذ بالله من الخذلان ، ونسأله التوفيق والعصمة بمنه آمين .
وكل ما قلنا فلم نقله جزافاً ، بل لم نقل كلمة في ذلك كله إلا مما قاله الله تعالى شاهداً بصحته ، وميزه العقل ، عالماً بحقيقته ، والحمد لله رب العالمين.
وإن الله عز وجل ابتلى الأمم السالفة بأنبياء ابتعثهم إلى قومهم خاصة ، فمؤمن وكافر ، فريق في الجنة وفريق في السعير .
ثم إنه تعالى بعث نبيه المختار ، وعبده المنتخب من جميع ولد آدم ، محمداً الهاشمي المكي ، إلى جميع خلقه من الجن والإنس ، فنسخ بملته جميع الملل ، وختم به الرسل ، وخصه بهذه الكرامة وسوده على جميع أنبيائه ، واتخذ صفياً ونجياً وخليلاً ورسولاً فلا نبي بعده ، ولا شريعة بعد شريعته إلى انقضاء الدنيا .
وإذ قد تيقنا أن الدنيا ليست دار قرار ، ولكنها دار ابتلاء واختبار ومجاز إلى دار الخلود ، وصح بذلك أنه لا فائدة في الدنيا وفي الكون فيها إلا العلم بما امر به عز وجل وتعليمه أهل الجهل والعمل بموجب ذلك ، وإن ما عدا هذا مما يتنافس فيه الناس من بعد الصوت ، غرور ، وأن كل ما تَشْرهُ إليه النفوس الجاهلة من غرض خسيس ، خطأ ، إلا ما قصد به إظهار العدل وقمع الزور ، والحكم بأمر الله تعالى وبأمر رسوله ، وإحياء سنن الحق، وإماتة طوالع الجور .
وإن ما تميل إليه النفوس الخسيسة من اللذات بمناظر مألوفة متغيرة عما قليل ، وأصوات مستحسنة ، متقضية بهبوب الرياح ، ومشام مستطرفة ، منحلة بعيد ساعات ، ومذاوق مستعذبة، مستحلية في أقرب مدة أقبح استحالة ، وملابس معجبة ، متبدلة في أيسر زمان تبدلاً موحشاً ، باطلاً .
وإن كل ما يشغل به أهل فساد التمييز من كسب المال المنتقل عما قريب فضول ، إلا ما أقام القوت وأمسك الرمق ، وأنفق في وجوه البر الموصلة إلى الفوز في دار البقاء ، كان أفضل ما عاناه المرء العاقل بيان ما يرجو به هدى أهل نوعه ، وإنقاذهم من حيرة الشك وظلمة الباطل ، وإخراجهم إلى بيان الحق ونور اليقين . فقد أخبر رسول الله ﷺأن من هدى الله به رجلاً واحداً فهو خير له من حمر النعم. وأخبر ﷺ أن من سنّ سنة خير في الإسلام ، كان له مثل أجر كل من عمل بها ، لا ينتقص ذلك من أجورهم شيئاً . 
 
وغبط من تعلم الحكمة وعلمها.
فنظرنا بعون الله خالقنا تعالى لنا في هذه الطريق الفاضلة التي هي ثمرة بقائنا في هذه الدنيا فوجدناها على وجوه كثيرة : 
 
فمن أوكدها وأحسنها مغبة ، بيان الدين واعتقاده والعمل به الذي ألزمنا إياه خالقنا عز وجل على لسان رسوله ﷺ ، وشرح الجمل التي تجمع أصناف أحكامه ، والعبارات الواردة فيه ، فإن بمعرفة العقدة من عقد تلك الجمل يلوح الحق في ألوف من المسائل غلط فيها ألوف من الناس . 
 
فإثم من قلدهم إثمين: إثم التقليد ، وإثم الخطأ. ونقصت أجور من اتبعهم مجتهداً من كفلين إلى كفل واحد . 
 
ومن وفقه الله تعالى لبيان ما يتضاعف فيه أجر المعتقد والعامل بما عضده البرهان فقد عرضه لخير كثير ، وامتن عليه بتزايد الأجر، وهو في التراب رميم .
وذلك حظ لا يزهد فيه إلا محروم، فكتبنا كتابنا المرسوم بكتاب التقريب، وتكلمنا فيه على كيفية الاستدلال جملة، وأنواع البرهان الذي به يستبين الحق من الباطل في كل مطلوب ، وخلصناها مما يظن أنه برهان وليس ببرهان ، وبيّنا كل ذلك بياناً سهلاً لا إشكال فيه ، ورجونا بذلك الأجر من الله عز وجل ، فكان ذلك الكتاب أصلاً لمعرفة علامات الحق من الباطل ، وكتبنا أيضاً كتابنا المرسوم بالفصل ، فبينا فيه صواب ما اختلف الناس فيه من الملل والنحل بالبراهين التي أثبتنا جملها في كتاب التقريب . ولم ندع بتوفيق الله عز وجل لنا للشك في شيء من ذلك مساغاً ، والحمد لله كثيراً . 
 
ثم جمعنا كتابنا هذا وقصدنا فيه بيان الجمل في مراد الله عز وجل منا فيما كلفناه من العبادات ، والحكم بين الناس بالبراهين التي أحكمناها في الكتاب المذكور آنفاً .
وجعلنا هذا الكتاب بتأييد خالقنا عز وجل لنا ، موعباً للحكم فيما اختلف فيه الناس من أصول الأحكام في الديانة مستوفى ، مستقصى ، محذوف الفضول ، محكم الفصول ، راجين أن ينفعنا الله عز وجل به يوم فقرنا إلى ما يثقل به ميزاننا من الحسنات ، وأن ينفع به تعالى من يشاء من خلقه ، فيضرب لنا في ذلك بقسط ، ويتفضل علينا منه بحظ ، فهو الذي لا يخيب رجاء من قصده بأمله وهو القادر على كل شيء : لا إله إلا هو .
وهذا حين نبدأ في ذلك بحول الله وقوته فنقول وبالله تعالى التوفيق : إنه لما صح أن العالم مخلوق ، وأن له خالقاً لم يزل عز وجل ، وصح أنه ابتعث رسوله محمداً ﷺ إلى جميع الناس ، ليتخلص من أطاعه من أطباق النيران المحيطة بنا إلى الجنة المعدة لأوليائه عز وجل ، وليكب من عصاه في النار الحامية ، وصح أنه ألزمنا على لسان نبيه شرائع من أوامر ونواه وإباحات باستعمال تلك الشرائع، يوصل إلى الفوز ، وينجي من الهلاك ، وصح أنه أودع تلك الشرائع في الكلام الذي أمره به رسوله الله ﷺ بتبليغه إلينا ، وسماه قرآناً، وفي الكلام الذي أنطق به رسوله وسماه وحياً غير قرآن ، وألزمنا في كل ذلك طاعة نبيه ﷺ , لزمنا تتبع تلك الشرائع في هذين الكلامين لنتخلص بذلك من العذاب، ونحصل على السلامة والحظوة في دار الخلود ، ووجدناه تعالى قد ألزمنا ذلك بقوله في كتابه المنزل : {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } 
 
فوجب علينا أن ننفر لما استنفرنا له خالقنا عز وجل ، فوجدناه قد قال في القرآن الذي قد ثبت أنه من قبله عز وجل، والذي أودعه عهوده إلينا اللازمة لنا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } .
قال أبو محمد: فنظرنا في هذه الآية فوجدناها جامعة لكل ما تكلم الناس فيه أولهم عن آخرهم، مما أجمعوا عليه واختلفوا فيه الأحكام والعبادات التي شرعها الله عز وجل ، لا يشذ عنها شيء من ذلك ، فكان كتابنا هذا كله في بيان العمل بهذه الآية وكيفيته وبيان الطاعتين المأمور بهما لله تعالى ولرسوله ﷺ وطاعة أولي الأمر ، ومن هم أولو الأمر ، وبيان التنازع الواقع منا ، وبيان ما يقع فيه التنازع بيننا ، وبيان رد ما تنوزع فيه إلى الله تعالى ورسوله ﷺ , وهذا هو جماع الديانة كلها.
ووجدناه قد قال تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
فأيقنا أن الدين قد كمل وتناهى، وكل ما كمل فليس لأحد أن يزيد فيه ولا أن ينقص منه ولا أن يبدله . 
 
فصح بهذه الآية يقيناً أن الدين كلـه لا يؤخذ إلا عن اللـه عز وجل، ثم على لسان رسول اللـه ﷺ فهو الذي يبلغ إلينا أمر ربنا عز وجل ونهيه وإباحته ، لا مبلغ إلينا شيئاً عن اللـه تعالى أحد غيره .
وهو ﷺ لا يقول شيئاً من عند نفسه لكن عن ربه تعالى، ثم على ألسنة أولي الأمر منا ، فهم الذين يبلغون إلينا جيلاً بعد جيل ما أتى به رسول اللـه ﷺ عن اللـه تعالى ، وليس لـهم أن يقولوا من عند أنفسهم شيئاً أصلاً ، لكن عن النبي ﷺ , هذه صفة الدين الحق الذي كل ما عداه فباطل ، وليس من الدين ، إذ ما لم يكن من عند اللـه تعالى ، فليس من دين اللـه أصلاً ، وما لم يبينه رسول اللـه ﷺ ، فليس من الدين أصلاً، وما لم يبلغه إلينا أولو الأمر منا عن رسول اللـه ﷺ فليس من الدين أصلاً.
فبينا بحول اللـه تعالى وقوته غلط من غلط في هذا الباب ، بأن ترك ما هو من الدين مخطئاً غير عامد للمعصية ، أو عامداً لـها ، أو أدخل فيه ما ليس منه كذلك ، فلا يخرج البتة الخطأ في أحكام الديانة عن هذين الوجهين : إما ترك ، وإما زيادة ، ولخصنا الحق تلخيصاً لا يشكل على نصح نفسه.
وقصد اللـه عز وجل بنيته وما توفيقنا إلا باللـه عز وجل . 
 
وجعلنا كتابنا هذا أبواباً لنقرب على من أراد النظر فيه، ويسهل عليه البحث عما أراد الوقوف عليه منه، رغبة منا في إيصال العلم إلى من طلبه، ورجاء ثواب اللـه عز وجل في ذلك ، وباللـه تعالى نتأيد.
باب ترتيب الأبواب ، وهو الباب الثاني ــــ إذ الباب الأول في صدر هذا الكتاب ، وذكر الغرض فيه وهو الذي تمّ قبل هذا الابتداء .
الباب الثاني : هذا الذي نحن فيه وهو ترتيب أبواب هذا الكتاب.
الباب الثالث : في إثبات حجج العقل وبيان ما يدركه على الحقيقة، وبيان غلط من ظن في العقل ما ليس فيه.
الباب الرابع : في كيفية ظهور اللغات التي يعبر بها عن جميع الأشياء ويتخاطب بها الناس.
الباب الخامس : في الألفاظ الدائرة بين أهل النظر.
الباب السادس : هل الأشياء في العقل على الحظر أو الإباحة. أو لا على واحد منها لكن على ترقب ما يرد فيها من خالقها عز وجل.
الباب السابع : في أصول أحكام الديانة وأقسام المعارف وهل على النافي دليل أو لا. 
 
الباب الثامن : في معنى البيان.
الباب التاسع : في تأخير البيان.
الباب العاشر : في القول بموجب القرآن.
الباب الحادي عشر : في الأخبار التي هي السنن ــــ وفي بعض فصول هذا الباب ــــ سبب الاختلاف الواقع بين الأئمة.
الباب الثاني عشر : في الأوامر والنواهي الواردة في القرآن والسنة والأخذ بالظاهر منهما وحمل كل ذلك على الوجوب والفور. أو الندب أو التراخي.
الباب الثالث عشر : في حملها على العموم أو الخصوص .
الباب الرابع عشر : في أقل الجمع الوارد فيها .
الباب الخامس عشر : في الاستثناء منها.
الباب السادس عشر : في الكتابة بالضمير .
الباب السابع عشر : في الكتابة بالإشارة .
الباب الثامن عشر : في المجاز والتشبيه .
الباب التاسع عشر : في أفعال رسول الله ﷺ وفي الشيء يراه أو يبلغه فيقره صامتاً عن الأمر به أو النهي عنه. 
 
الباب الموفي عشرين : في النسخ .
الباب الحادي والعشرون : في المتشابه من القرآن والمحكم ، والفرق بينه وبين المتشابه المذكور في الحديث بين الحلال والحرام.
الباب الثاني والعشرون : في الإجماع . 
 
الباب الثالث والعشرون : في استصحاب الحال وبطلان العقود والشروط إلا ما نص عليه منها أو أجمع على صحته، وهو باب من الدليل الإجماعي.
الباب الرابع والعشرون : في أقل ما قيل وهو أيضاً نوع من أنواع الدليل الإجماعي . 
 
الباب الخامس والعشرون : في ذم الاختلاف والنهي عنه.
الباب السادس والعشرون : في أن الحق في واحد وسائر الأقوال كلها خطأ . 
 
الباب السابع والعشرون : في الشذوذ ، ومعنى هذه اللفظة وإبطال التمويه بذكرها.
الباب الثامن والعشرون : في تسمية الفقهاء المعتد بهم في الخلاف بعد الصحابة رضي الله عنهم.
الباب التاسع والعشرون : في الدليل النظري والفرق بينه وبين القياس .
الباب الموفي ثلاثين : في لزوم الشريعة الإسلامية لكل مؤمن وكافر ووقت لزوم الشرائع للإنسان.
الباب الحادي والثلاثون : في صفة طلب الفقه ، وصفة المفتي، وصفة الاجتهاد وما يلزم لكل واحد طلبه من دينه.
الباب الثاني والثلاثون : في وجوب النيات في الأعمال والفرق بين الخطأ المقصود بلا نية الخطأ غير المقصود، والعمد المقصود بالفعل والنية جميعاً وحيث يلحق عمل المرء غيره من إثم وبر وحيث لا يلحق.
الباب الثالث والثلاثون : في شرائع الأنبياء قبل نبينا أتلزمنا أم لا.
الباب الرابع والثلاثون : في الاحتياط وقطع الذرائع 
 
الباب الخامس والثلاثون : في إبطال الاستحسان والاستنباط والرأي .
الباب السادس والثلاثون : في إبطال التقليد .
الباب السابع والثلاثون : في دليل الخطاب .
الباب الثامن والثلاثون : في إبطال القياس .
الباب التاسع والثلاثون : في إبطال العلل التي يدعيها أهل القياس والفرق بينها وبين العلل الطبيعية التي هي العلل على الحقيقة والكلام في الأسباب والأغراض والمعاني والعلامات والأمارات.
الباب الموفي أربعين : في الاجتهاد ما هو وبيانه ومن هو معذور باجتهاده ومن ليس معذوراً به، ومن يقطع عليه أنه أخطأ عند الله عز وجل فيما أداه إليه اجتهاده ومن لا يقطع عليه أنه مخطىء عند الله عز وجل وإن خالفناه.
=========
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/الباب الثالث
في إثبات حجج العقول
قال أبو محمد : قال قوم : لا يعلم شيء إلا بالإلهام ، وقال آخرون : لايعلم شيء إلا بقول الإمام، وهو عندهم رجل بعينه إلا أنه الآن منذ مائة عام وسبعين عاماً معدوم المكان، متلف العين، ضالة من الضوال.
وقال آخرون: لا يعلم شيء إلا بالخبر.
وقال آخرون: لا يعلم شيء إلا بالتقليد، واحتجوا في إبطال حجة العقل بأن قالوا: قد يرى الإنسان يعتقد بشيء ويجادل عنه، ولا يشك في أنه حق.
ثم يلوح له غير ذلك، فلو كانت حجج العقول صادقة لما تغيرت أدلتها.
قال أبو محمد : هذا تمويه فاسد، ولا حجة لهم على مثبتي حجج العقول في رجوع من رجع عن مذهب كان يعتقده، ويناضل عنه، لأننا لم نقل: إن كان معتقد لمذهب ما فهو محق فيه، ولا قلنا: إن كل ما استدل به مستدل ما على مذهبه فهو حق.
ولو قلنا ذلك لفارقنا حكم العقول.
لكن قلنا: إن من الاستدلال ما يؤدي إلى مذهب صحيح إذا كان الاستدلال صحيحاً مرتباً ترتيباً قويماً على ما قد بيّناه وأحكمناه غاية الإحكام في كتاب التقريب.
وقد يوقع الاستدلال إذا كان فاسداً على مذهب فاسد، وذلك إذا خولف به طريق الاستدلال الصحيح، وقد نبهنا على الشِّعاب والعوارض المعترضة في طريق الاستدلال وبيناها وحذرنا منها في الكتاب المذكور، ولم ندع هنالك في تبيين كل ما ذكرناه علقة وأوضحناه غاية الإِيضاح .
فالراجع عن مذهب إلى مذهب لا بد له ضرورة من أن يكون أحد استدلاليه فاسداً، إما الأول، وإما الثاني، وقد يكونان معاً فاسدين، فيتنقل من مذهب فاسد إلى مذهبه فاسد.
أو من مذهب صحيح إلى مذهب فاسد، أو من مذهب فاسد إلى مذهب صحيح .
لا بد من أحد هذه الوجوه، ولا يجوز أن يكونا صحيحين معاً البتة.
لأن الشيء لا يكون حقًّا بإطلاق في وقت واحد من وجه واحد. 
 
وقد يكون أقساماً كثيرة كلها باطل إلا واحداً فينتقل المرء من قسم فاسد منها إلى آخر فاسد، وهذا إنما يعرض لمن غبن عقله ولم ينعم النظر، فمال بهوى أو تهور بشهوة، أو أحجم لفرط جبنه، أو لمن كان جاهلاً بوجوه طرق الاستدلال الصحيحة لم يطالعها ولا تعلمها.
وأكثر ما يقع ذلك فيما يأخذ من مقدمات بعيدةٍ، فكان الطريق المؤدي من أوائل المعارف إلى صحة المذهب المطلوب طريقاً بعيداً كثير الشُّعب، فيكل فيها الذهن الكليل، ويدخل مع طول الأمر وكثرة العمل ودقته السآمة، فيتولد فيها الشك والخبال والسهو، كما يدخله ذلك على الحاسب في حسابه، على أن الحساب علم ضروري لا يتناقض فيجد أعداداً متفرقة في قرطاس، فإذا أراد الحاسب جمعها فإن كثرت جدًّا فربما غفل وغلط، حتى إذا حقق وتثبت ولم يشغل خاطره بشيء وقف على اليقين بلا شك.
هذا شيء يوجد حسًّا كما ترى، وقد يدخل أيضاً على الحواس، فيرى المرء بعينه شخصاً، فربما ظنه زيداً وكابر عليه، حتى إذا تثبت فيه علم أنه عمرو، وهكذا يعرض في الصوت المسموع وفي المشموم وفي الملموس وفي المذوق، وقد يعرض ذلك الشيء، يطلبه المرء وهو بين يديه في جملة أشياء كثيرة فيطول عناؤه في طلبه ويتعذر عليه وجوده، ثم يجده بعد ذلك، فلا يكون عدم وجوده إياه مبطلاً لكونه بين يديه حقيقة، فكذلك يعرض في الاستدلال، وليس شيء من ذلك بموجب بطلان صحة إدراك الحواس، ولا صحة إدراك العقل الذي به علمت صحة ما أدركته الحواس، ولولاه لم نعلم أصلاً، كما أن حواس المجنون المطبق والمغشي عليه لا يكاد ينتفع بها، وقل ما يعرض هذا في أعداد يسيرة ولا فيما أخذ بمقدمات قريبة من أوائل المعارف، ولا سبيل إلى أن يعرض ذلك فيما أوجبته أوائل المعارف إلا لسوفسطائي رقيع، يعلم يقيناً بقلبه أنه كاذب، وأنه مبطل وقاح، أو لمرور ممسوس ينبغي أن يعالج دماغه، فهذا معذور، وإنما نكلم الأنفس لسنا نقصد بكلامنا الألسنة.
ولا علينا قصر الألسنة بالحجة إلى الإذعان بالحق، وإنما علينا قسر الأنفس إلى تيقن معرفته فقط.
فهذا الذي ظنوه من رجوع من كان على مذهب ما إلى مذهب آخر أن ذلك كله حجج عقل تفاسدت، إنما هو خطأ صريح، فمن هنا دخلت عليهم الشبهة، وإنما بيان ذلك أن ما كان من الدلائل صحيحاً مسبوراً محققاً، فهو حجة العقل، وما كان منها بخلاف ذلك فليست حجة عقل، بل العقل يبطلها، فسقط ما ظنوا والحمد لله رب العالمين.
وقد أحكمنا هذا غاية الإحكام والحمد لله رب العالمين، في باب أفردناه لهذا المعنى في آخر كتابنا الموسوم بالفصل، ترجمته(باب الكلام على من قال بتكافؤ الأدلة).
وقد سألوا أيضاً فقالوا: بأي شيء عرفتم صحة حجة العقل؟ أبحجة عقل أم بغير ذلك؟ فإن قلتم: عرفناها بحجة العقل ففي ذلك نازعناكم، وإن قلتم بغير ذلك فهاتوه.
قال أبو محمد : وهذا سؤال مبطل الحقائق كلها.
والجواب على ذلك وبالله تعالى التوفيق: أن صحة ما أوجبه العقل عرفناه بلا واسطة وبلا زمان، ولم يكن بين أول أوقات فهمنا، وبين معرفتنا بذلك مهلة البتة، ففي أول أوقات فهمنا علمنا أن الكل أكثر من الجزء، وأن كل شخص فهو غير الشخص الآخر، وأن الشيء لا يكون قائماً قاعداً في حال واحدة، وأن الطويل أمد من القصير وبهذه القوة عرفنا صحة ما توجبه الحواس، وكلما لم يكن بين أول أوقات معرفة المرء وبين معرفته به مهلة ولا زمان، فلا وقت للاستدلال فيه، ولا يدري أحد كيف وقع له ذلك، إلا أنه فعل الله عز وجل في النفوس فقط. ثم من هذه المعرفة أنتجنا جميع الدلائل. ثم نقول له إن كنت مسلماً بالقرآن يوجب صحة حجج العقول على ما سنورده في آخر هذا الباب إن شاء الله تعالى، فإن كلامنا في هذا الديوان إنما هو مع أهل ملتنا.
وأما إن كان المكلم به لنا غير مسلم فقد أجبناه عن هذا السؤال في كتابنا الموسوم بالفصل، وكتابنا الموسوم بالتقريب، وتقصينا هذا الشك وبيّنا خطأه بعون الله تعالى، وليس كتابنا هذا مكان الكلام مع هؤلاء.
قال أبو محمد : ويقال لمن قال بإِلهام: ما الفرق بينك وبين من ادعى أنه ألهم بطلان قولك فلا سبيل له إلى الانفصال عنه.
والفرق بين هذه الدعوى ودعوى من ادعى أنه يدرك بعقله خلاف ما يدركه ببديهة العقل، وبين ما لا يدركه بأوائل العقل أن كل من في المشرق والمغرب إذا سئل عما ذكرناه أننا عرفناه بأوائل العقل أخبر بمثل ما نخبر سواء، وأن المدعين للإلهام، ولإدراك ما يدركه غيرهم بأوله عقله، لا يتفق اثنان منهم على ما يدعيه كل واحد منهم، إلهاماً أو إدراكاً، فصح بلا شك أنهم كذبة. وأن الذي بهم وسواس. وأيضاً فإن الإلهام دعوى مجردة من الدليل، ولو أعطي كل امرىء بدعواه المعراة لما ثبت حق، ولا بطل باطلٍ، ولا استقر ملك أحد على مال ولا انتصف من ظالم، ولا صحت ديانة أحد أبداً، لأنه لا يعجز أحد عن أن يقول: ألهمت أن دم فلان حلال، وأن ماله مباح لي أخذه، وأن زوجه مباح لي وطؤها، وهذا لا ينفك منه، وقد يقع في النفس وساوس كثيرة لا يجوز أن تكون حقًّا، وأشياء متضادة يكذب بعضها بعضاً، فلا بدّ من حاكم يميز الحق منها من الباطل، وليس ذلك إلا العقل الذي لا تتعارض دلائله. وقد بيّنا ذلك في كتاب التقريب.
قال أبو محمد : ويقال لمن قال بالإمام: بأي شيء عرفت صحة قول الإمام، أببرهان أم بمعجزة أم بإلهام؟ أم بقوله مجرداً ؟.
فإن قال ببرهان كلف بأن يأتي به، ولا سبيل له إليه، وإن قال بمعجزة ادعى البهتان لاسيما الآن وهم يقرون أنه قد خفي عنهم موضعه منذ مائة وسبعين عاماً، وإن قالوا بالإلهام سئلوا بما ذكرنا في إبطال الإلهام، وإن قالوا بقوله مجرداً سئلوا عن الفرق بين قوله وقول خصومهم في إبطال مذاهبهم دون دليل، ولا سبيل إلى وجه خامس أصلاً.
قال أبو محمد : ويقال لمن قال بالتقليد: ما الفرق بينك وبين من قلد غير الذي قلدت أنت، بل كفّر من قلدته أنت أو جهّله.
فإن أخذ يستدل في فضل من قلده كان قد ترك التقليد، وسلك في طريق الاستدلال من غير التقليد، وقد أفردنا في إبطال التقليد باباً ضخماً قرب آخر كتابنا هذا استوعبنا فيه إبطاله وبالله التوفيق.
قال أبو محمد : ويقال لمن قال لا يدرك شيء إلا من طريق الخبر، أخبرنا الخبر كله حق؟ أم كله باطل؟ أم منه حق وباطل ؟
فإن قال هو باطل كله كان قد أبطل ما ذكر أنه لا يعلم شيء إلا به، وفي هذا إبطال قوله وإبطال جميع العلم، وإن قال حق كله، عورض بأخبار مبطلة لمذهبه، فلزمه ترك مذهبه لذلك أو اعتقاد الشيء وضده في وقت واحد، وذلك ما لا سبيل إليه، وكل مذهب أدى إلى المحال وإلى الباطل فهو باطل ضرورة، فلم يبق إلا أن من الخبر حقًّا وباطلاً، فإذا كان كذلك بطل أن يعلم صحة الخبر بنفسه، إذ لا فرق بين صورة الحق منه وصورة الباطل فلا بد من دليل يفرق بينهما، وليس ذلك إلا لحجة العقل المفرقة بين الحق والباطل.
قال أبو محمد : ثم يقال لجميعهم: بأي شيء عرفتم صحة ما تدعون إليه، وصحة التوحيد والنبوة، ودينك الذي أنت عليه، أبعقل ذلك على صحة كل ذلك أم بغير عقل ؟ وبأي شيء عرفت فضل من قلدت، أو صحة ما ادعيت أنك ألهمته بعد أن لم تكن ملهماً إليه ولا مقلداً له برهة من دهرك ؟ وبأي شيء عرفت صحة ما بلغك من الأخبار بعد أن لم تكن بلغتك؟ وهل لك من عقل أم لا عقل لك ؟
فإن قال: عرفت كل ذلك بلا عقل ولا عقل لي فقد كفينا مؤنته، وبلغنا في نفسه أكثر مما رغبنا منه، فإننا إنما رغبنا منه الاعتراف بالخطأ، فقد زادنا في نفسه منزلة لم نرغبها منه، وسقط الكلام معه ولزمنا السكوت عنه، وإلا كنا في نصاب من يكلم السكارى الطافحين والمجانين المتعرين على الطرق.
فإن قال: لي عقل وبعقلي عرفت ما عرفت فقد أثبت العقل وترك مذهبه الفاسد ضرورة.
قال أبو محمد : واحتجوا في إبطال الجدال والمناظرة بآيات ذكروها وهي قوله تعالى { لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ * وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } .
قال أبو محمد : وهذه الآية مبينة وجه الجدال المذموم، وهو قوله تعالى : فيمن يحاج بعد ظهور الحق، وهذه صفة المعاند للحق، الآبي من قبول الحجة بعد ظهورها، وهذا مذموم عند كل ذي عقل.
ومنها قوله تعالى: {وَقَالُواْ أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } .
قال أبو محمد : وإنما ذمّ تعالى في هذه الآية من خاصم وجادل في الباطل، وعارض الآلهة التي كانوا يعبدون من حجارة لا تعقل بعيسى النبي العبد المؤيد بالمعجزات، من إحياء الموتى وغير ذلك. ومنها قوله تعالى: {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } ، ومنها قوله تعالى: {فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } .
قال أبو محمد : قال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً } فصح بهذه الآية أن كلام الله تعالى لا يتعارض ولا يختلف، فوجدناه تعالى أثنى على الجدال بالحق وأمر به، فعلمنا يقيناً أن الذي أمر به تعالى هو غير الذي نهى عنه بلا شك، فنظرنا في ذلك لنعلم وجه الجدال المنهي عنه المذموم، ووجه الجدال المأمور به المحمود، لأنا قد وجدناه تعالى قد قال: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ }
ووجدناه تعالى قد قال: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } فكان تعالى قد أوجب الجدال في هذه الآية، وعلم فيها تعالى جميع آداب الجدال كلها من الرفق والبيان، والتزام الحق والرجوع إلى ما أوجبته الحجة القاطعة.
وقال تعالى: {قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } .
ولم يأمر الله عز وجل رسوله أن يقول هذا شكًّا في صدق ما يدعو إليه، ولكن قطعاً لحجتهم وحسماً لدعواهم وإلزاماً لهم، مثل ما التزم لهم من رجوعه إلى الأهدى واتباعه الأمر الأصوب، وإعلاماً لنا أن من لم يأت بحجة على قوله يصير بها أهدى من قول خصمه، ويبين أن الذي يأتي به هو من عند الله عز وجل، فليس صادقاً وإنما هو متبع لهواه.
وقال تعالى: {قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بِهَـذَآ أَتقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ } .
قال أبو محمد : ففي هذه الآية بيان أنه لا يقبل قول أحد إلا بحجة، والسلطان ههنا بلا اختلاف من أهل العلم واللغة هو الحجة، وإن من لم يأت على قوله بحجة فهو مبطل بنص حكم الله عز وجل، وأنه مفتر على الله تعالى، وكاذب عليه عز وجل بنص الآية لا تأويل ولا تبديل، وأنه لا يفلح إذا قال قولة لا يقيم على صحتها حجة قاطعة، ووجدناه تعالى قد علمنا في هذه الآيات وجوه الإِنصاف الذي هو غاية العدل في المناظرة، وهو أنه من أتى ببرهان ظاهر وجب الانصراف إلى قوله.
وهكذا نقول نحن اتباعاً لربنا عز وجل بعد صحة مذاهبنا لا شكًّا فيها ولا خوفاً منه أن يأتينا أحد بما يفسدها، ولكن ثقة منا بأنه لا يأتي أحد بما يعارضها به أبداً؛ لأننا ولله الحمد أهل التخليص والبحث، وقطع العمر في طلب تصحيح الحجة واعتقاد الأدلة، قبل اعتقاد مدلولاتها، حتى وفقنا، ولله تعالى الحمد على ما ثلج اليقين، وتركنا أهل الجهل والتقليد في ريبهم يترددون.
وكذلك نقول فيما لم يصح عندنا حتى الآن فنقول مجدين مقرين إن وجدنا ما هو أهدى منه اتبعناه وتركنا ما نحن عليه.
وإنما هذا في مسائل تعارضت فيها الأحاديث والآي في ظاهر اللفظ، ولم يقم لنا بيان الناسخ من المنسوخ فيها فقط أو في مسائل وردت فيها أحاديث لم تثبت عندنا، ولعلها ثابتة في نقلها، فإن بلغنا ثباتها صرنا إلى القول بها، إلا أن هذا في أقوالنا قليل جداً والحمد لله رب العالمين.
وأما سائر مذاهبنا فنحن منها على غاية اليقين وقال تعالى: {وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُواْ آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَـهُنَا وَإِلَـهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } فأمر عز وجل كما ترى بإيجاب المناظرة في رفق، وبالإنصاف في الجدال، وترك التعسف والبذاء والاستطالة إلا على من بدأ بشيء من ذلك، فيعارض حينئذ بما ينبغي.
وقال تعالى: {يمَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } والسلطان الحجة كما ذكرنا وقال تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } .
فذكر عز وجل تقدير إبراهيم عليه السلام قومه على نقله الكواكب والشمس والقمر التي كانوا يعبدون من دون الله، وأن ذلك لدليل على خلقها، وبرهان على حدوثها فقال عز وجل: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } .
وقد أمرنا تعالى في نص القرآن باتباع ملة إبراهيم عليه السلام، وخبرنا تعالى أن من ملة إبراهيم المحاجة والمناظرة، فمرة للملك ومرة لقومه، والاستدلال كما أخبرنا تعالى عنه، ففرض علينا اتباع المناظرة لنصرف أهل الباطل إلى الحق، وأن نطلب الصواب بالاستدلال فيما اختلف فيه المختلفون.
قال الله عز وجل: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَـذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ }
فنحن المتبعون لإبراهيم عليه السلام في المحاجة والمناظرة، فنحن أولى الناس به، وسائر الناس مأمورون بذلك.
قال الله تعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } ومن ملته المناظرة كما ذكرنا، فمن نهى عن المناظرة والحجة فليعلم أنه عاصٍ لله عز وجل ومخالف لملة إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما.
قال الله عز وجل ، وقد أثنى على أصحاب الكهف : { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى* و ربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربّنا ربّ السموات و الأرض لن ندعوا من دونه الهاً لقد قلنا إذاً شططاً* هؤلاء قومنا اتّخذوا من دونه آلهة لولا يأتونَ عليهم بسلطان بيّن، فمن أظلم ممّن افترى على الله كذبا } فأثنى الله عز وجل عليهم في إنكارهم قول قومهم إذ لَم يقم قومهم على قولهم حجة بينة، وصدقهم تعالى في قولهم أن من ادعى قولاً بلا دليل فهو مفتر على الله عز وجل الكذب.
وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ } فلا أظلم ممن قامت عليه الحجة من كتاب الله تعالى، ومن كلام نبيه فأعرض عنه، وهو الحجة القاطعة والبرهان الصادع وقال الله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }
وقال تعالى: {بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَهْوَآءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } فأخبر تعالى كما تسمع أن ما اتبع قولاً وافقه بلا علم بصحته فهو ظالم، وإن من لم يرجع إلى ما يسمع من الحق فهو من أهل النار، وقال تعالى: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } أنكر الله تعالى أن يكذب المرء بما لا يعلم.
فقال تعالى : {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ } فصح بكل ما ذكرنا الوقوف عما لا نعلمُ والرجوع إلى ما أوجبته الحجة بعد قيامها.
وقال تعالى : {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } .
قال أبو محمد : في هذه الآية كفاية في إيجاب ألا يصدق أحد بما لم تقم عليه حجة، وألا يأتي ما قامت عليه الحجة، فمن أظلم ممن عرف ما ذكرنا وأخذ بوسواس يقوم في نفسه، أو بخبر لم يقم على وجوب تصديقه برهان، أو قلد إنساناً مثله لعله عند الله تعالى على خلاف ما يظن، وعلى كل حال فهو معصوم لكن يخطىء ويصيب.
وقال تعالى : {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فأوجب تعالى أن من كان صادقاً في دعواه فعليه أن يأتي بالبرهان وإن لم يأت بالبرهان فهو كاذب مبطل، أو جاهل. وقال تعالى: {هأَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } فلم يوجب تعالى المحاجة إلا بعلم، ومنع منها بغير علم.
وقال تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً } .
قال أبو محمد : فلما وجدنا الله تعالى قد أمر في الآيات التي ذكرنا بالحجاج والمناظرة، ولم يوجب قبول شيء إلا ببرهان، وجب علينا تطلب الحجاج المذموم على ما قدمناه فوجدناه قد قال: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُواْ آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُواً } ، فذمّ تعالى كما ترى الجدال بغير حجة والجدال في الباطل، وأبطل تعالى بذلك قول المجانين كل مفتون ملقن حجة، وبيّن تعالى أن المفتون هو الذي لا يلقن حجة، وأن المحق هو الملقن حجة على الحقيقة وهم أهل الحق.
وقال تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُـلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } .
فقد جمعت هذه الآيات بيان الجدال المذموم، والجدال المحمود الواجب، فالواجب هو الذي يجادل متوليه في إظهار الحق، والمذموم وجهان بنص الآيات التي ذكرنا : أحدهما من جادل بغير علم والثاني من جادل ناصراً للباطل بشغب وتمويه بعد ظهور الحق إليه، وفي هذا بيان أن الحق في واحد، وأنه لا شيء إلا ما قامت عليه حجة العقل، وهؤلاء المذمومون هم الذين قال الله تعالى فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ } وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ } وقوله تعالى: {ومِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ * ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ } وبقوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلاَدِ * كَـذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُـلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } فبيّن تعالى كما ترى أن الجدال المحرم هو الجدال الذي يجادل به لينصر الباطل ويبطل الحق بغير علم.
قال أبو محمد : ويقال لمن أبى عن مطالبته الجدال ومعاناة طلب البرهان أن فرعون قال: {يقَومِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِن جَآءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَى وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ } {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يقَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُـمْ سَبِيـلَ الرَّشَـادِ } ، فبأي شيء يعرف المحق منهما من المبطل: هل يجوز أن يعرف ذلك إلا بدلائل غير كلامها ؟.
فهذا كلام العزيز الجبار الخالق البارىء قد نصصناه في اتباع البرهان، وتكذيب قول من لا حجة في يديه، وهو الذي لا يسع مسلماً خلافه.
لا قول من قال اذهب إلى شاك مثلك فناظره، فيقال له: أترى رسول الله كان شاكاً إذ علمه ربه تعالى مجادلة أهل الكتاب وأهل الكفر، وأمره بطلب البرهان، وإقامة الحجة على كل من خالفه، ولا قول من قال : أو كلما جاء رجل هو أجدل من رجل تركنا ما نحن عليه، أو كلاماً هذا معناه.
قال أبو محمد : وهذا كلام يستوي فيه مع قائله كل ملحد على ظهر الأرض، فلئن وسع هذا القائل ألا يدع ما وجد عليه سلفه بلا حجة لحجة ظاهرة واردة عليه، ليسعن اليهودي والنصراني ألا يدعا ما وجدا عليه سلفهما تقليداً بلا برهان، وألا يقبلا برهان الإسلام الواردة عليهما وحجته القاطعة.
قال الله عز وجل:{قَالُواْ يلُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الْلَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَآ أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ * فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ * وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يقَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ * وَيقَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ * قَالُواْ يشُعَيْبُ أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ * قَالَ يقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ * وَيقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ * وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ * قَالُواْ يشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } .
قال أبو محمد : فإذاً قد حضّ الله تعالى على المجادلة بالحق وأمر بطلب البرهان فقد صح أن طلب الحجة هي سبيل الله عز وجل، بالنص الذي ذكرنا أن من نهى عن ذلك وصد عنه، فهو صاد عن سبيل الله تعالى، ظالم ملعون بلا تأويل إلا على عين النص الوارد من قبل الله تعالى وبالله نعتصم.
وقال تعالى: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } .
ولا غيظ أغيظ على الكفار والمبطلين من هتك أقوالهم بالحجة الصادعة، وقد تهزم العساكر الكبار، والحجة الصحيحة لا تغلب أبداً، فهي أدعى إلى الحق، وأنصر للدين من السلاح الشاكي، والأعداد الجمة، وأفاضل الصحابة الذين لا نظير لهم، إنما أسلموا بقيام البراهين على صحة نبوة محمد عندهم، فكانوا أفضل ممن أسلم بالغلبة بلا خلاف من أحد من المسلمين.
وأول ما أمر الله عزّ وجل نبيه محمداً أن يدعو له الناس بالحجة البالغة بلا قتال، فلما قامت الحجة وعاندوا الحق، أطلق الله تعالى السيف حينئذ وقال تعالى: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } .
وقال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ } .
ولا شك في أن هذا إنما هو بالحجة لأن السيف مرة لنا ومرة علينا، وليس كذلك البرهان، بل هو لنا أبداً، ودامغ لقول مخالفينا، ومزهق له أبداً. ورب قوة باليد قد دمغت بالباطل حقاً كثيراً فأزهقته، منها يوم الحرة ويوم قتل عثمان رضي الله عنه، ويوم قتل الحسين وابن الزبير رضي الله عنهم، ولعن قتلتهم، وقد قتل أنبياء كثير وما غلبت حجتهم قط.
قال أبو محمد : وقد علمنا عز وجل الحجة على الدهرية في قوله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } .
وقوله تعالى: {لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً } وعلمنا الحجة على الثنويةَ بقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } وعلى النصارى وعلى جميع الملل، وقد بينا ذلك في كتابنا المرسوم بكتاب الفصل ورأينا فيه عظيم ما أفادنا الله تعالى في ذلك من الحكمة والعلم بالمحاجة وإظهار البرهان بغاية الإيجاز والاختصار.
وقد أمر الله بالجدال على لسان رسوله ﷺ ، كما اخبرنا عبد الله بن الربيع قال:أنبأنا محمد بن إسحاق بن السليم، حدثنا ابن الأعرابي، أنبأنا أبو داود، حدثنا أبو موسى بن إسماعيل، ثنا حماد هو ابن سلمة عن حميد عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله ﷺ : «جَاهِدُوا المُشْرِكِينَ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَأَلْسِنَتِكُمْ» .
قال أبو محمد : وهذا حديث في غاية الصحة، وفيه الأمر بالمناظرة وإيجابها كإيجاب الجهاد والنفقة في سبيل الله.
قال أبو محمد : وقد علمنا رسول الله وضع السؤال موضعه وكيفية المحاجة في الحديث الذي ذكر محاجة آدم موسى صلى الله عليهما وسلم. حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي، عن أحمد بن فتح، عن عبد الوهاب بن عيسى، عن أحمد بن محمد، عن أحمد بن علي، عن مسلم بن الحجاج، عن ابن أبي عمر المكي ومحمد بن حاتم وغيرهما، واللفظ لابن حاتم كلاهما عن سفيان بن عيينة، عن عمرو، هو ابن دينار، عن طاوس قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله ﷺ : «احَتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى فَقَالَ مُوسَى يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا وأَخْرَجْتَنَا مِنَ الجَنَّةِ، فَقَالَ لَهُ آدَمُ: أَنْتَ مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ الله بِكَلاَمِهِ، وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ، أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ الله عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةٍ. فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى».
قال أبو محمد : فموسى وضع الملامة في غير موضعها، فصار محجوجاً، وذلك لأنه لام آدم على أمر لم يفعله، وهو خروج الناس من الجنة، وإنما هو فعل الله عز وجل، ولو أن موسى لام آدم على خطيئته الموجبة لذلك لكان واضعاً للملامة موضعها، ولكان آدم محجوجاً وليس أحد ملوماً إلا على ما يفعله لا على ما تولد من فعله، ولا مما فعله غيره. والكافر إنما يلام على الفعل، لا على دخول النار، والقاتل إنما يلام على فعله، لا على موت مقتوله ولا على أخذ القصاص منه.
فعلمنا رسول الله ﷺ في هذا الحديث كما ترى كيف نسأل عند المحاجة، وبيّن لنا أن المحاجة جائزة، وأن من أخطأ موضع السؤال كان محجوجاً، وظهر بذلك قول الله عز وجل: {كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } . والذي ذكرنا هو نص الحديث لا ما ظنه من يتعسف الكلام ويحرفه عن مواضعه، ويطلب فيه ما ليس فيه، وليس هذا الحديث من باب إثبات القدر في شيء، وإثبات القدر إنما يصح من أحاديث أخر وآيات أخر.
قال أبو محمد : وقد تحاج المهاجرون والأنصار وسائر الصحابة رضوان الله عليهم، وحاج ابن عباس الخوارج بأمر علي رضى الله عنه، وما أنكر قط أحد من الصحابة الجدال في طلب الحق.
فلا معنى لقول لمن جاء بعدهم.
وبالجملة فلا أضعف ممن يروم إبطال الجدال بالجدال.
ويريد هدم جميع الاحتجاج بالاحتجاج، ويتكلف فساد المناظرة بالمناظرة، لأنه مقر على نفسه أنه يأتي بالباطل، لأن حجته هي بعض الحجج التي يريد إبطال جملتها.
وهذه طريق لا يركبها إلا جاهل ضعيف ، أو معاند سخيف.
والجدال الذي ندعو إليه هو طلب الحق ونصره. وإزهاق الباطل وتبينه. فمن ذم طلب الحق وأنكر هدم الباطل فقد ألحد. وهو من أهل الباطل حقاً.
والخصام بالباطل هو اللدد الذي قال فيه ﷺ : «أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلى الله الأَلَدُّ الخَصِمُ» أو كما قال .
فإذاً قد بطلت كل طريق ادعاها خصومنا في الوصول إلى الحقائق من الإلهام والتقليد، وثبت أن الخبر لا يعلم صحته بنفسه، ولا يتميز حقه من كذبه، وواجبه من غير واجبه، إلا بدليل من غيره، فقد صح أن المرجوع إليه حجج العقول وموجباتها، وصح أن العقل إنما هو مميز بين صفات الأشياء الموجودات، وموقف للمستدل به على حقائق كيفيات الأمور الكائنات، وتمييز المحال منها.
وأما من ادعى أن العقل يحلل أو يحرم، أو أن العقل يوجد عللاً موجبة لكون ما أظهر الله الخالق تعالى في هذا العالم من جميع أفاعيله الموجود فيه من الشرائع وغير الشرائع، فهو بمنزلة من أبطل موجب العقل جملة. وهما طرفان أحدهما أفرط فخرج عن حكم العقل، والثاني قصر فخرج عن حكم العقل، ومن ادعى في العقل ما ليس فيه كمن أخرج منه ما فيه، ولا فرق.
ولا نعلم فرقة أبعد من طريق العقل من هاتين الفرقتين معاً، إحداهما: التي تبطل حجج العقل جملة. والثانية: التي تستدرك بعقولها على خالقها عز وجل أشياء لم يحكم فيها ربهم بزعمهم، فثقفوها هم ورتبوها رتباً أوجبوا أن لا محيد لربهم تعالى عنها، وأنه لا تجري أفعاله عز وجل إلا تحت قوانينها.
لقد افترى كلا الفريقين على الله عز وجل إفكاً عظيماً، وأتوا بما تقشعر منه جلود أهل العقول.
وقد بيّنا أن حقيقة العقل إنما هي تمييز الأشياء المدركة بالحواس وبالفهم ومعرفة صفاتها التي هي عليها جارية على ما هي عليه فقط من إيجاب حدوث العالم، وأن الخالق واحد لم يزل، وصحة نبوة من قامت الدلائل على نبوته، ووجوب طاعة من توعدنا بالنار على معصيته، والعمل بما صححه العقل من ذلك كله، وسائر ما هو في العالم موجود، مما عدا الشرائع، وأن يوقف على كيفيات كل ذلك فقط.
فأما أن يكون العقل يوجب أن يكون الخنزير حراماً أو حلالاً، أو يكون التيس حراماً أو حلالاً، أو أن تكون صلاة الظهر أربعاً وصلاة المغرب ثلاثاً أو أن يمسح على الرأس في الوضوء دون العنق، أو أن يحدث المرء من أسفله فيغسل أعلاه، أو أن يتزوج أربعاً ولا يتزوج خمساً، أو أن يقتل من زنى وهو محصن وإن عفي عنه زوج المرأة وأبوها ولا يقتل قاتل النفس المحرمة عمداً إذا عفا عنه أولياء المقتول.
أو أن يكون الإنسان ذا عينين دون أن يكون ذا ثلاثة أعين أو أربع، أو أن تخص صورة الإنسان بالتمييز دون صورة الفرس، أو أن تكون الكواكب المتحيرة سبعاً دون أن تكون تسعاً، وكذلك سائر رتب العالم كلها.
فهذا ما لا مجال للعقل فيه لا في إيجابه ولا في المنع منه، وإنما في العقل الفهم عن الله تعالى لأوامره، ووجوب ترك التعدي إلى ما يخاف العذاب على تعديه، والإقرار بأن الله تعالى يفعل ما يشاء ، ولو شاء أن يحرم ما أحل أو يحل ما حرم لكان ذلك له تعالى، ولو فعله لكان فرضاً علينا الانقياد لكل ذلك ولا مزيد.
ومعرفة صفات كل ما أدركنا معرفته مما في العالم وأنه على صفة كذا وهيئة كذا كما أحكمه ربه تعالى ولا زيادة فيه وبالله تعالى التوفيق، وإليه الرغبة في دفع ما لا نطيق.
=========
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/الباب الرابع
في كيفية ظهور اللغات أعن التوقيف ؟ أم عن إصطلاح ؟
قال أبو محمد: أكثر الناس في هذا، والصحيح من ذلك أصل الكلام توقيف من الله عز وجل بحجة سمع وبرهان ضروري. فأما السمع فقول الله عز وجل: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـؤُلاءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .
وأما الضروري بالبرهان : فهو أن الكلام لو كان اصطلاحاً لما جاز أن يصطلح عليه إلا قوم قد كملت أذهانهم ، وتدربت عقولهم ، وتمت علومهم ، ووقفوا على الأشياء كلها الموجودة في العالم وعرفوا حدودها واتفاقها ، واختلافها وطبائعها وبالضرورة نعلم أن بين أول وجود الإنسان وبين بلوغه هذه الصفة سنين كثيرة جداً يقتضي في ذلك تربية وحياطة وكفالة من غيره .
إذ المرء لا يقوم بنفسه إلا بعد سنين من ولادته. ولا سبيل إلى تعايش الوالدين والمتكفلين والحضان إلا بكلام يتفاهمون به مراداتهم فيما لا بد لهم منه، فيما يقوم معايشهم من حرث أو ماشية أو غراس، ومن معاناة ما يطرد به الحر والبرد والسباع ، ويعاني به الأمراض ، ولا بد لكل هذا من أسماء يتعارفون بها ما يعانونه من ذلك.
وكل إنسان فقد كان في حالة الصغر التي ذكرنا من امتناع الفهم والاحتياج إلى كافل، والاصطلاح يقتضي وقتاً لم يكن موجوداً قبله، لأنه عمل المصطلحين، وكل عمل لا بد من أن يكون له أو فكيف كانت حال المصطلحين على وضع اللغة قبل اصطلاحهم عليه، فهذا من الممتنع المحال ضرورة.
قال أبو محمد: وهذا دليل برهاني ضروري من أدلة حدوث النوع الإنساني، ومن أدلة وجود الواحد الخالق الأول تبارك وتعالى، ومن أدلة وجود النبوة والرسالة لأنه لا سبيل إلى بقاء أحد من الناس ووجوده دون كلام ، والكلام حروف مؤلفة، والتأليف فعل فاعل ضرورة لا بد له من ذلك ، وكل فعل فعله فله زمان ابتدىء فيه ، لأن الفعل حركة تعدها المدد ، فصح أن لهذا التأليف أولاً ، والإنسان لا يوجد دونه. وما لم يوجد قبل ما له أول فله أول ضرورة، فصح أن للمحدث محدثاً بخلافة، وصح أن ما علم من ذلك مما هو مبتدأ من عند الخالق تعالى مما ليس في الطبيعة معرفته دون تعليم فلا يمكن البتة معرفته إلا بمعلم علمه الباري إياه.
ثم علم هو أهل نوعه ما علمه ربه تعالى.
قال أبو محمد: وأيضاً فإن الاصطلاح على وضع لغة لا يكون ضرورة إلا بكلام متقدم بين المصطلحين على وضعها.
أو بإشارات قد اتفقوا على فهمها. وذلك الاتفاق على فهم تلك الإشارات لا يكون إلا بكلام ضرورة ومعرفة حدود الأشياء وطبائعها التي عبّر عنها بألفاظ اللغات لا يكون إلا بكلام وتفهيم.
لا بد من ذلك. فقد بطل الاصطلاح على ابتداء الكلام.
ولم يبق إلا أن يقول قائل: إن الكلام فعل الطبيعة.
قال أبو محمد: وهذا يبطل ببرهان ضروري. وهو أن الطبيعة لا تفعل إلا فعلاً واحداً لا أفعالاً مختلفة، وتأليف الكلام فعل اختياري متصرف في وجوه شتى. وقد لجأ بعضهم إلى نوع من الاختلاط، وهو أن قال: إن الأماكن أوجبت بالطبع على ساكنيها النطق بكل لغة نطقوا بها.
قال أبو محمد: وهذا محال ممتنع ، لأنه لو كانت اللغات على ما توجبه طبائع الأمكنة لما أمكن وجود كل مكان إلا بلغته التي يوجبها طبعه. وهذا يرى بالعيان بطلانه لأن كل مكان في الأغلب قد دخلت فيه لغات شتى على قدر تداخل أهل اللغات ومجاورتهم.
فبطل ما قالوا: وأيضاً فليس في طبع المكان أن يوجب تسمية الماء ماء دون أن يسمى باسم آخر مركب من حروف الهجاء.
ومن كابر في هذا، فإما مجاهر بالباطل وإما عديم عقل، لا بد له من أحد هذين الوجهين. فصح أنه توقيف من أمر الله عز وجل وتعليم منه تعالى.
إلا أننا لا ننكر اصطلاح الناس على إحداث لغات شتى بعد أن كانت لغة واحدة وقفوا عليها، بها علموا ماهية الأشياء وكيفياتها وحدودها ، ولا ندري أي لغة هي التي وقف آدم عليه السلام عليها أولاً ، إلا أننا نقطع على أنها أتم اللغات كلها، وأبينها عبارة ، وأقلها إشكالاً، وأشدها اختصاراً وأكثرها وقوع أسماء مختلفة على المسميات كلها المختلفة من كل ما في العالم من جوهر أو عرض لقول الله عز وجل: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـؤُلاءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فهذا التأكيد يرفع الإشكال ويقطع الشغب فيما قلنا.
وقد قال قوم : هي السريانية وقال قوم: هي اليونانية: وقال قوم: هي العبرانية. وقال قوم : هي العربية. والله أعلم .
إلا أن الذي وقفنا عليه وعلمناه يقيناً أن السريانية والعبرانية والعربية هي لغة مضر وربيعة لا لغة حِمْيَر ، لغة واحدة تبدلت بتبدل مساكن أهلها فحدث فيها جرش كالذي يحدث من الأندلسي ، وإذا رام نغمة أهل القيروان ، ومن القيرواني إذا رام نغمة الأندلسي، ومن الخراساني إذا رام نغمتها. ونحن نجد من سمع لغة أهل فحص البلوط وهي على ليلة واحدة من قرطبة كاد أن يقول إنها لغة أخرى غير لغة أهل قرطبة.
وهكذا في كثير من البلاد فإنه بمجاورة أهل البلدة بأمة أخرى تتبدل لغتها تبديلاً لا يخفى على من تأمله.
ونحن نجد العامة قد بدلت الألفاظ في اللغة العربية تبديلاً وهو في البعد عن أصل تلك الكلمة كلغة أخرى ولا فرق.
فنجدهم يقولون في العنب : العينب وفي السوط أسطوط . وفي ثلاثة دنانير ثلثدا .
وإذا تعرب البربري فأراد أن يقول الشجرة قال السجرة .
وإذا تعرب الجليقي أبدل من العين والحاء هاء فيقول مهمداً إذا أراد أن يقول محمداً .
ومثل هذا كثير .
فممن تدبر العربية والعبرانية السريانية أيقن أن اختلافهما إنما هو من نحو ما ذكرنا من تبديل ألفاظ الناس على طول الأزمان واختلاف البلدان ومجاورة الأمم .
وأنها لغة واحدة في الأصل . وإذ تيقنا ذلك فالسريانية أصل للعربية وللعبرانية معاً ، والمستفيض أن أول من تكلم بهذه العربية إسماعيل عليه السلام فهي لغة ولده ، والعبرانية لغة إسحاق ولغة ولده .
والسريانية بلا شك هي لغة إبراهيم صلى الله عليه وعلى نبينا ﷺ بنقل الاستفاضة الموجبة لصحة العلم.
فالسريانية أصل لهما وقد قال قوم : إن اليونانية أبسط اللغات .
ولعل هذا إنما هو الآن فإن اللغة يسقط أكثرها. ويبطل بسقوط دولة أهلها ودخول غيرهم عليهم في مساكنهم أو بنقلهم عن ديارهم واختلاطهم بغيرهم ، فإنما يقيد لغة الأمة وعلومها وأخبارها قوة دولتها، ونشاط أهلها وفراغهم .
وأما من تلفت دولتهم ، وغلب عليهم عدوهم ، واشتغلوا بالخوف والحاجة والذل وخدمة أعدائهم، فمضمون منهم موت الخواطر ، وربما كان ذلك سبباً لذهاب لغتهم ، ونسيان أنسابهم وأخبارهم وبيود علومهم ، هذا موجود بالمشاهدة، ومعلوم بالعقل ضرورة .
ولدولة السريانيين مذ ذهبت وبادت آلاف من الأعوام في أقل منها ينسى جميع اللغة .
فكيف تفلت أكثرها ، والله تعالى اعلم .
ولسنا نقطع على أنها اللغة التي وقف الله تعالى عليها أولاً ، ولا ندري لعل قائلاً يقول : لعل تلك اللغة قد درست البتة وذهبت بالجملة أو لعلها إحدى اللغات الباقية لا نعلمها بعينها ، وهذا هو الذي توجبه الضرورة ولا بد مما لا يمكن سواه أصلاً ، وقد يمكن أن يكون الله تعالى وقف آدم عليه السلام على جميع اللغات التي ينطق بها الناس كلهم الآن .
ولعلها كانت حينئذ لغة واحدة مترادفة الأسماء على المسميات ثم صارت لغات كثيرة ، إذ توزعها بنوه بعد ذلك ، وهذا هو الأظهر عندنا والأقرب ، إلا أننا لا نقطع على هذا كما نقطع على أنه لا بد من لغة واحدة وقف الله تعالى عليها ، ولكن هذا هو الأغلب عندنا ، نعني أن الله تعالى وقف على جميع هذه اللغات المنطوق بها ، وإنما ظننا هذا لأننا لا ندري أي سبب دعا الناس ولهم لغة يتكلمون بها ويتفاهمون بها إلى إحداث لغة أخرى ، وعظيم التعب في ذلك لغير معنى ، ومثل هذا من الفضول لا يتفرع له عاقل بوجه من الوجوه ، فإن وجد ذلك فمن فارع فضولي سيىء الاختيار، مشتغل بما لا فائدة فيه عما يعينه ، وعما هو آكد عليه من أمور معاده ، ومصالح دنياه ولذاته وسائر العلوم النافعة .
ثم من له بطاعة أهل بلده له في ترك لغتهم والكلام باللغة التي عمل لهم ، ولكنا لسنا نجعل ذلك محالا ممتنعاً بل نقول : إنه ممكن بعيد جدًّا ، فإن قالوا : لعل ملكاً كانت في مملكته لغات شتى فجمع لهم لغة يتفاهمون بها كلهم ، قلنا لهم : هذا ضد وضع اللغات الكثيرة ، بل هو جمع اللغات على لغة واحدة ، ثم نقول : وما الذي كان يدعو هذا الملك إلى هذه الكلفة الباردة الصعبة الثقيلة التي لا تفيد شيئاً ؟ وكان أسهل له أن يجمعهم على لغة ما من تلك اللغات التي كانوا يتكلمون بها أو على لغته نفسه فكان أخفّ وأمكن من إحداث لغة مستأنفة، وعلم ذلك عند الله عز وجل. وقد توهم قوم في لغتهم أنها أفضل اللغات.
وهذا لا معنى له لأن وجوه الفضل معروفة ، وإنما هي بعمل أو اختصاص ولا عمل للغة؛ ولا جاء نص في تفضيل لغة على لغة ، وقد قال تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } وقال تعالى : {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } .
فأخبر تعالى أنه لم ينزل القرآن بلغة العرب إلا ليفهم ذلك قومه ﷺ لا لغير ذلك ، وقد غلط في ذلك جالينوس فقال : إن لغة اليونانيين أفضل اللغات لأن سائر اللغات إنما هي تشبه إما نباح الكلاب أو نقيق الضفادع .
قال أبو محمد: وهذا جهل شديد لأن كل سامع لغة ليست لغته ولا يفهمها، فهي عنده في النصاب الذي ذكره جالينوس ولا فرق.
وقد قال قوم: العربية أفضل اللغات لأنه بها كلام الله تعالى.
قال أبو محمد: وهذا لا معنى له ، لأن الله عز وجل قد أخبرنا أنه لم يرسل رسولاً إلا بلسان قومه.
وقال تعالى : {إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } وقال تعالى : {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ } فبكل لغة قد نزل كلام الله تعالى ووحيه .
وقد أنزل التوراة والإنجيل والزبور، وكلم موسى عليه السلام بالعبرانية ، وأنزل الصحف على إبراهيم عليه السلام بالسريانية ، فتساوت اللغات في هذا تساوياً واحداً .
وأما لغة أهل الجنة وأهل النار فلا علم عندنا إلا ما جاء في النص والاجماع ، ولا نص ولا إجماع في ذلك ، إلا أنه لا بد لهم من لغة يتكلمون بها ولا يخلو ذلك من أحد ثلاثة أوجه ولا رابع لها : إما أن تكون لهم لغة واحدة من اللغات ، القائمة بيننا الآن ، وإما أن تكون لهم لغة غير جميع هذا اللغات ، وإما أن تكون لهم لغات شتى : لكن هذه المحاورة التي وصفها الله تعالى توجب القطع بأنهم يتفاهمون بلغة إما بالعربية المختلفة في القرآن عنهم، أو بغيرها مما الله تعالى أعلم به.
وقد ادعى بعضهم أن اللغة العربية هي لغتهم ، واحتج بقول الله عز وجل: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }
فقلت له: فقل إنها لغة أهل النار لقوله تعالى عنهم أنهم قالوا: {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ } ولأنهم قالوا: {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَآءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُواْ إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ } ولأنهم قالوا : {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } فقال لي: نعم ، فقلت له : فاقض أن موسى وجميع الأنبياء عليهم السلام كانت لغتهم العربية ، لأن كلامهم محكي في القرآن عنهم بالعربية ، فإن قلت هذا كذبت ربك ، وكذبك ربك في قوله : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } .
فصح أن الله تعالى إنما يحكي لنا معاني كلام كل قائل في لغته باللغة التي بها نتفاهم ، ليبين لنا عز وجل فقط ، وحروف الهجاء واحدة لا تفاضل بينها ولا قبح ، ولا حسن في بعضها دون بعض ، وهي تلك بأعيانها في كل لغة ، فبطلت هذه الدعاوى الزائغة الهجينة ، وبالله تعالى التوفيق .
وقد أدى هذا الوسواس العامي ، اليهود إلى أن استجازوا الكذب والحلف على الباطل بغير العبرانية ، وادعوا أن الملائكة الذين يرفعون الأعمال لا يفهمون إلا العبرانية فلا يكتبون عليهم غيرها ، وفي هذا من السخف ما ترى وعالم الخفيات وما في الضمائر عالم بكل لسان ومعانيه عز وجل لا إله إلا هو وهو حسبنا ونعم الوكيل .
======
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/الباب الخامس
الباب الخامس في الألفاظ الدائرة بين أهل النظر
قال أبو محمد : هذا باب خلط فيه كثير ممن تكلم في معانيه ، وشبك بين المعاني وأوقع الأسماء على غير مسمياتها ، ومزج بين الحق والباطل ، فكثر لذلك الشغب والالتباس ، وعظمت المضرة وخفيت الحقائق ، ونحن إن شاء الله تعالى بحوله وقوته مميزون معنى كل لفظة على حقيقتها ، فنقول وبالله تعالى نتأيد :
الحد : هو لفظ وجيز يدل على طبيعة الشيء المخبر عنه كقولك : الجسم هو كل طويل عريض عميق ، فإن الطول والعرض والعمق هي طبائع الجسم لو ارتفعت عنه ارتفعت عن الجسمية ضرورة ولم يكن جسماً ، فكانت هذه العبارة مخبرة عن طبيعة الجسم ومميزة له مما ليس بجسم .
والرسم : هو لفظ وجيز يميز المخبر عنه مما سواه فقط دون أن ينبىء عن طبيعته كقولك : الإنسان هو الضحاك ، فإنك ميزت الإنسان بهذا اللفظ تمييزاً صحيحاً مما سواه ، إلا أنك لم تخبر بطبيعته لأنك لو توهمت الضحك مرتفعاً عن الإنسان لم تبطل بذلك عنه الإِنسانية ولامتنع بذلك من الكلام في المعلوم والتصرف في الصناعات ولبقيت سائر طبائعه بحسبها .
قال أبو محمد : ولما كان هذان المعنيان متغايرين ، كل واحد منهما غير صاحبه ، وجب ضرورة أن يعبر عن كل واحد منهما بعبارة غير عبارتنا عن الآخر ، ولو عبرنا عنهما عبارة واحدة لكنا قد أوقعنا من يقبل منا في الإِشكال ولكنا ظالمين لهم جدًّا وغير ناصحين لهم ، وهذا خلاف ما أخذه الله تعالى على العلماء ، إذ يقول الله تعالى على لسان نبيهﷺ : «ليبيِّنهُ للنَّاس ولا يَكتمُونه، ومن لبس الحقائق فقد كتمها» .
والعلم : هو تيقن الشيء على ما هو عليه ، إما عن برهان ضروري موصل إلى تيقنه كذلك ، وإما أول بالحس أو ببديهة العقل ، وإما حادث عن أول على ما بيّنا في كتاب التقريب من أخذ المقدمات الراجعة إلى أول العمل أو الحس ، إما من قرب وإما من بعد ، وإما عن اتباع لمن أمر الله تعالى باتباعه ، فوافق فيه الحق ، وإن لم يكن عن ضرورة ولا عن استدلال ، برهان ذلك أن جميع الناس مأمورون بقول الحق واعتقاده ، وأن رسول الله ﷺ دعا الناس كلهم إلى الإِيمان بالله تعالى ، وبما جاء به والنطق بذلك ، ولم يشترط ﷺ عليهم ألا يكون ذلك منهم إلا عن استدلال ، بل قنع بهذا من العالم والجاهل ، والحر والعبد ، والمسبي والمستعرب ، واجتمعت الأمة على ذلك بعده عليه إلى اليوم .
وقنعوا بذلك ممن أجابهم إليه ، ولم يشترط عليهم استدلالاً في ذلك ؛ فإذا ذاك كذلك فقد صح أن من اعتقد ما ذكرنا وقال به فهو عالم بذلك بيقين عارف به ، إذ لو كان غير عالم بذلك لحرم القول عليه بذلك ، ولحرم عليه اعتقاده لأن الله تعالى يقول : {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }
وقال تعالى : {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } فصح إذ هو مأمور باعتقاده الحق والقول به ، ومنهي عن القول بما لا يعلم ، وعن أن يقفوا ما لا يعلم أن عقده في الحق وقوله به علم صحيح ومعرفة حقيقية وإن لم يكن ذلك عن استدلال، ومن ادعى تخصيص نهي الله تعالى عن القول بما لا علم لنا به ، وعن قفوِّ ما لا نعلم ، كان مدعياً بلا دليل ، ومبطلاً في قوله لأنه يقول : {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } إلا في الإيمان ، فاقف فيه ما لا علم لك به ، وهذا كذب على الله تعالى مجرد .
فإن قال قائل : فإن الله يقول : {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .
قلنا : نعم إنما خاطب الله بهذا من قال بالباطل ، ولا برهان لصاحب الباطل ، وأما المعتقد للحق فبرهان الحق قائم ، سواء علمه المعتقد له أو جهله ، وإنما يكف البرهان أهل الباطل لإدحاض باطلهم ؛ ولا يجوز أن يكلف المحق برهاناً ، لأنه لا يخلو مكلفه البرهان من أن يكون محقًّا مثله أو مبطلاً ، فإن كان محقًّا مثله فهو معنت له ، والتعنيت لا يجوز وإن كان مبطلاً فحرام عليه الجدال في الحق ، قال تعالى : {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ } وقال تعالى : {كَـذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُـلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } فلا يجوز تكليف المحق برهاناً إلا على أن يعلمه فقط لا على سبيل معارضة ، لأن من فعل ذلك يكون معارضاً للحق ، ومعارضته الحق بالباطل لا تجوز ، قال تعالى ذاماً لقوم : {كَـذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُـلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } .
وقد تحذلق قوم فأداهم ذلك إلى الهلكة ، فقالوا : الحدود لا تختلف في قديم ولا محدث ، وهذا كلام موجب الكفر ، لأنهم يوقعون بذلك الباري تعالى تحت الحدوث، لأن كل محدود متناهٍ ومركب ، وكل مركب فمخلوق، لأنه مركب من جنسه وفصله المميز له مما جامعه تحت جنسه ، فقد جعلوا ربهم محدثاً تعالى الله عن ذلك .
وقالوا : حد العلم أنه صفة لا يتعذر بوجودها على الحي القادر إحكام الفعل .
قال أبو محمد : وهذا حد فاسد لأن النحل لا يتعذر عليها أحكام بناء الشمع ووضع العسل ، ولا تسمى عالمة ، وقد يعرض للعالم الناقد خدر يبطل يديه ورجليه فيعتذر عليه كل فعل حكمة أو غير حكمة وعلمه وعقله باقيان .
وقالت طائفة منهم : حد العلم منا ومن الله تعالى أنه صفة يتبين بها المعلوم على ما هو عليه من أحواله .
قال أبو محمد : وكلا الحدين فاسد ، ونحن نسألهم : أهذه الصفة التي ذكرتم ؟ أهي والموصوف بها شيء واحد ؟ أم هي والموصوف بها شيئان متغايران ؟
فإن قالوا شيء واحد أبطلوا قولهم في الباري تعالى ، ووافقوا خصومهم إلا في العبارة فقط ، وأيضاً فإن كون الصفة والموصوف شيئاً واحداً غير موجود في العالم لأن الصفات تتعاقب على الموصوفات فتفتى ، والموصوف باق بحسبه ، ولا شك في أن الفاني غير الباقي ، والصفة عرض ونحن لم نقر بعلم الباري تعالى على معنى أنه صفة كصفاتنا ، ولكن اتباعاً منا للنص الوارد في أن له علماً فقط ، إلا أننا نقطع على أنه ليس غيره تعالى وأنه ليس عرضاً ، ونحن لم نسم الباري تعالى عالماً ، وإنما قلنا : إنه عليم كما قال تعالى .
فإن قالوا: فأي فرق بين عالم وعليم . قيل لهم : وأي فرق بين الجبار والمتجبر، فسموا ربكم متجبراً، وأي فرق بين أن نسميه تعالى خير الماكرين ، وأن له مكراً ، ولا نسميه ماكراً ، وكذلك نسميه حكيماً ولا نسميه عاقلاً ونسميه الواحد ولا نسميه الفرد ولا الفذ .
وقد بينا في كتاب الفصل أن أسماءه تعالى أعلام وليست مشتقة أصلاً وبالله التوفيق .
فإن قالوا : إن الصفة والموصوف شيئان متغايران صدقوا وأخرجوا بذلك صفات الباري تعالى عن هذا الحكم .
والاعتقاد : هو استقرار حكم بشيء ما في النفس . إما عن برهان ، أو اتباع من صح برهان قوله فيكون علماً يقيناً ولا بد، وإما عن إقناع فلا يكن علماً متيقناً ويكون إما حقًّا أو باطلاً، وإما لا عن إقناع لا عن برهان فيكون إما حقًّا بالبخت وإما باطلاً بسوء الجد.
والبرهان : كل قضية أو قضايا دلت على حقيقة حكم الشيء .
والدليل : قد يكون برهاناً وقد يكون اسماً يعرف به المسمى، وعبارة يتبين بها المراد كرجل ذلك على طريق تريد قصده ، فذلك اللفظ الذي خاطبك به هو دليل على ما طلبت، وقد يسمى المرء الدال دليلاً أيضاً .
والحجة : هي الدليل نفسه إذا كان برهاناً أو إقناعاً أو شغباً .
والدال : هو المعرف بحقيقة الشيء وقد يكون إنساناً معلماً، وقد يعبر به عن الباري تعالى الذي علمنا كل ما نعلم، وقد يسمى الدليل دالاً على المجاز، ويسمى الدال دليلاً أيضاً كذلك في اللغة العربية .
والاستدلال : طلب الدليل من قبل معارف العقل ونتائجه أو من قبل إنسان يعلم .
والدلالة : فعل الدال، وقد تضاف إلى الدليل على المجاز .
والإِقناع : قضية أو قضايا أنست النفس بحكم شيء ما دون أن توقفها على تحقيق حجة ولم يقم عندها برهان بإبطاله .
والشغب : تمويه بحجة باطلة بقضية أو قضايا فاسدة تقود إلى الباطل وهي السفسطة .
والتقليد : هو اعتقاد الشيء لأن فلاناً قاله ممن لم يقم على صحة قوله برهان، وأما اتباع من أمر الله باتباعه فليس تقليداً، بل هو طاعة حق لله تعالى.
والإِلهام : علم يقع في النفوس بلا دليل ولا استدلال ولا إقناع ولا تقليد، وهو لا يكون إلا: إما فعل الطبيعة من الحي غير الناطق ومن بعض الناطقين أيضاً كنسج العنكبوت وبناء النحل وما أشبه ذلك، وأخذ الصبي الثدي وما أشبه ذلك : أو أول معرفة النفس قبل أوان استدلالها لنا كعلمنا أن الكل أكثر من الجزء، وهو فيما عدا هذين الوجهين باطل.
والنبوة : اختصاص الله عز وجل رجلاً أو امرأة من الناس بإعلامه بأشياء لم يتعلمها؛ إما بواسطة ملك؛ أو بقوة يضعها في نفسه خارجة عن قوى المخلوقين تعضدها خرق العادات وهو المعجزات، وقد انقطعت بعد محمد ﷺ .
والرسالة : أن يأمر الله تعالى نبيًّا بإنذار قوم وقبول عهده، وكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً.
والبيان : كون الشيء في ذاته ممكناً أن تعرف حقيقته لمن أراد علمه.
والإِبانة والتبيين : فعل المبين وهو إخراجه للمعنى من الإشكال إلى إمكان الفهم له بحقيقة، وقد يسمى أيضاً على المجاز ما فهم منه الحق وإن لم يكن للمفهوم منه فعل ولا قصد إلى الأفهام مبيناً كما تقول بيّن لي الموت أن الناس لا يخلدون، والتبيين فعل نفس المبين للشيء في فهمه إياه وهو الاستبانة أيضاً والمبين هو الدال نفسه.
والصدق : هو الإخبار عن الشيء بما هو عليه .
والحق : هو كون الشيء صحيح الوجود ، ولا يغلط من لا سعة لفهمه فيظن أن هذا الحد فاسد بأن يقول الكفر والجور صحيح وجودهما فينبغي أن يكون حقًّا . فليعلم أن هذا شغب فاسد ، لأن وجود الكفر والجور صحيحين في رضاء الله تعالى ليس هو صحيحاً ، بل هو معدوم ، فرضا الله تعالى بهما باطل ، وأما كونهما موجودين من الكافر والجائز فحق صحيح ثابت لا شك فيه، فمثل هذا من الفروق ينبغي مراعاته وتحقيق الكلام فيه ، وإلا وقع الإِشكال وتحير الناظر .
وقد رأينا من يفرق بين الحق والحقيقة وهذا خطأ لا يخفى على ذي فهم ينصف نفسه ، لأن الفرق بين هاتين اللفظتين لم تأت به لغة ولا أوجبته شريعة أصلاً إلا في تسمية الباري تعالى التي لا تؤخذ إلا بالنص، ولا يحل فيها التصريف ، فظهر فساد هذا الفرق بيقين ، وبالله تعالى التوفيق .
وأيضاً فإن الله تعالى قال: {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ } ولا فرق عند أحد بين قول القائل حقيق على كذا وبين قوله حق على كذا. فظهر فساد هذا الفرق .
والباطل : ما ليس حقًّا.
والكذب : هو الإِخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه.
والأصل : هو ما أدرك بأول العقل وبالحس وقد ذكرناه قبل.
والفرع : كل ما عرف بمقدمة راجعة إلى ما ذكرنا من قرب أو من بعد وقد يكون ذلك الفرع أصلاً لما أنتج منه أيضاً.
والمعلوم : قسمان : معلوم بالأصل المذكور ، ومعلوم بالمقدمات الراجعة إلى الأصل كما بيّنا .
وكل ما نقل بتواتر على النبي ﷺ أو أجمع عليه نقل جميع علماء الأمة عنه ﷺ أو نقله الثقة عن الثقة حتى يبلغ إليه ﷺ ، فداخل في باب ما تيقن ضرورة بالمقدمات المذكورة.والنص : هو اللفظ الوارد في القرآن أو السنَّة المستدل به على حكم الأشياء وهو الظاهر نفسه .
وقد يسمى كل كلام يورد كما قاله المتكلم به نصًّا .
والتأويل : نقل اللفظ عما اقتضاه ظاهره وعما وضع له في اللغة إلى معنى آخر، فإن كان نقله قد صح ببرهان وكان ناقله واجب الطاعة فهو حق، وإن كان نقله بخلاف ذلك اطرح ولم يلتفت إليه وحكم لذلك النقل بأنه باطل.
والعموم : حمل اللفظ على كل ما اقتضاه في اللغة، وكل عموم ظاهر، وليس كل ظاهر عموماً، إذ قد يكون الظاهر خبراً عن شخص واحد ولا يكون العموم إلا على أكثر من واحد.
والخصوص : محل اللفظ على بعض ما يقتضيه في اللغة دون بعض والقول فيه كما قلنا في التأويل آنفاً ولا فرق.
والألفاظ إما دالة على واحد، وإما على أكثر من واحد، فإن كانت ناقصة غير دالة كانت هدراً.
والمجمل : لفظ يقتضي تفسيراً فيؤخذ من لفظ آخر.
والمفسر : لفظ يُفهم منه معنى المجمل المذكور.
والأمر : إلزام الآمر المأمور عملاً ما، فإن كان الخالق تعالى أو رسوله فالطاعة لهما فرض، وإن كان ممن دونهما فلا طاعة له.
والنهي : إلزام الناهي المنهي ترك عمل مَّا، والقول فيه كالقول في الأمر فلا فرق وطاعة الأئمة فيما ليس معصية طاعة لله تعالى لتقدم أمر الله عز وجل بذلك.
والفرض : ما استحق تاركه اللوم واسم المعصية لله تعالى وهو: الواحب، واللازم، والحتم.
والحرام : وهو ما استحق فاعله اللوم واسم المعصية لله تعالى إلا أن يسقط ذلك عنه من الله تعالى عفو أو توبة وهو المحظور، والذي لا يجوز، والممنوع.
والطاعة : تنفيذ الأمر من المأمور فيما أمر به والتوقف عن إتيان المنهي عنه، وقد يسمى كل بر طاعة.
والمعصية : ضد ذلك.
والندب : أمر بتخيير في الترك إلا أن فاعله مأجور، وتاركه لا آثم ولا مأجور وهو: الائتساء، والمستحسن، والمستحب، وهو الاختيار وهو كل تطوع ونافلة كالركوع غير الفرض والصدقة كذلك والصوم كذلك وسائر أعمال البر.
والكراهة : نهي بتخيير في الفعل إلا أن على تركه ثواباً وليس في فعله أجر ولا إثم، وذلك نحو ترك كل تطوع، ونحو اتخاذ المحاريب في المساجد، والتنشف بعد الغسل من الجنابة بثوب معد لذلك غير الذي يلبسه المرء، وبيع السلاح ممن لا يؤمن منه أن يستعمله فيما لا يحل، وابتياع الخصيان إذا أدى ذلك إلى خصائهم بطلب الغلاء في أثمانهم، والحلق في غير علة أو حج أو عمرة، والأكل متكئاً.
والإِباحة : تسوية بين الفعل والترك لا ثواب على شيء منهما ولا عقاب، كمن جلس متربعاً أو رافعاً إحدى ركبتيه، أو كمن صبغ ثوبه أخضر، أو لازوديًّا، وسائر الأمور كذلك وهو الحلال.
والقياس : عند القائلين به والمبطلين له أن يحكم بشيء ما بحكم لم يأت به نص لشبهه شيء آخر ورد فيه ذلك الحكم، وهو باطل كله.
والعلة : طبيعة في الشيء يقتضي صفة تصحيحها، ولا توجد الصفة دونها ككون النار علة للإِحراق والإحراق هو معلولها، والعلة أيضاً المرض ولا علة في شيء من الدين أصلاً، والقول بها في الدين بدعة وباطل.
والسبب : أمر وقع فاختار الفاعل أن يوقع فعلاً آخر من أجله، ولو شاء ألا يوقعه لم يوقعه ككون الذنب سبباً لعقوبة المذنب.
والغرض : نتيجة يقصدها الفاعل بفعله، كالشبع الذي هو غرض الآكل في أكله. وقد يكون الغرض اختياراً، كمراد الله تعالى بشرع الشرائع تعذيب من عصاه وتنعيم من أطاعه.
والأمارة : علامة بين المصطلحين على شيء ما إذا وجدت علم الواجد لها ما وافقه عليه الآخر، وقد يجعلها المرء لنفسه ليستذكر بها ما يخاف نسيانه.
والنية : قصد العمل بإرادة النفس له دون غيره واعتقاد النفس ما استقر فيها.
والشرط : تعليق حكم ما بوجوب آخر، ورفعه برفعه وهو باطل ما لم يأت به نص؛ وذلك نحو قول القائل: إن خدمتني شهراً أعطيتك درهماً . والتفسير والشرح : هما التبيين .
والنسخ : ورود أمر بخلاف أمر كان قبله ينقض به أمر الأول .
والاستثناء : ورود لفظ أو بيان بفعل بإخراج بعض ما اقتضاه لفظ آخر وكان المراد في اللفظ الأول ما بقي بعد المستثنى منه، وهذا هو الفرق بين النسخ والاستثناء، لأن النسخ كان فيه اللفظ الأول مراداً كله طول مدته، وأما المستثنى منه فلم يكن اللفظ الأول مراداً كله قط .
والجدل والجدال : إخبار كل واحد من المختلفين بحجته ، أو بما يقدر أنه حجته وقد يكون كلاهما مبطلاً ، وقد يكون أحدهما محقًّا والآخر مبطلاً ، إما في لفظه وإما في مراده أو في كليهما ، ولا سبيل أن يكونا معاً محقين في ألفاظهما ومعانيهما .
والاجتهاد : بلوغ الغاية واستنفاذ الجهد في المواضع التي يرجى وجوده فيها في طلب الحق، فمصيب موقف أو محروم .
والرأي : ما تخيلته النفس صواباً دون برهان، ولا يجوز الحكم به أصلاً .
والاستحسان : هو ما اشتهته النفس ووافقها كان خطأً أو صواباً .
والصواب : إصابة الحق .
والخطأ : العدول عنه بغير قصد إلى ذلك .
والعناد : العدول عنه بالقصد إلى ذلك .
والاحتياط : طلب السلامة .
والورع : تجنب ما لا يظهر فيه ما يوجب اجتنابه خوفاً أن يكون ذلك فيه .
والجهل : مغيب حقيقة العلم عن النفس .
والطبيعة : صفات موجودة في الشيء يوجد بها على ما هو عليه، ولا يعدم منه إلا بفساده وسقوط ذلك الاسم عنه .
ودليل الخطاب : هو ضد القياس، وهو أن يحكم للمسكوت عنه بخلاف حكم المنصوص عليه .
============
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/الباب الخامس و فصل
والشريعة : هي ما شرعه اللـه تعالى على لسان نبيه في الديانة وعلى ألسنة الأنبياء عليهم السلام قبلـه ، والحكم منها للناسخ ، وأصلـها في اللغة الموضع الذي يتمكن فيه ورود الماء للرَّاكب والشارب من النهر ، قال تعالى : {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } .
وقال امرؤ القيس :
ولما رأت أن الشريعة همها
وأن البياض من فرائصها دامي
تيممت العين التي عند ضارج
يفيء عليها الظل عرمضها طامي
واللغة : ألفاظ يعبر بها عن المسميات وعن المعاني المراد إفهامها ، ولكل أمة لغتهم. قال اللـه عز وجل : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }
ولا خلاف في أنه تعالى أراد اللغات .
واللفظ : هو كل ما حرك به اللسان .
قال تعالى : {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ } وحدّه على الحقيقة أنه هواء مندفع من الشفتين والأضراس والحنك والحلق والرئة على تأليف محدود ، وهذا أيضاً هو الكلام نفسه .
والخلاف : هو التنازع في أي شيء كان ، وهو أن يأخذ الإِنسان في مسالك من القول أو العقل ، ويأخذ غيره في مسلك آخر وهو حرام في الديانة ، إذ لا يحل خلاف ما أثبته اللـه تعالى فيها ، وقال تعالى : { وَلاَ تَنَازَعُواْ } وقال تعالى: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً } وهو التفريق أيضاً، قال تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ } .
والإِجماع : هو في اللغة ما اتفق عليه اثنان فصاعداً وهو الاتفاق ، وهو حينئذ مضاف إلى ما أجمع عليه ، وأما الإِجماع الذي تقوم به الحجة في الشريعة فهو ما اتفق أن جميع الصحابة رضي الله عنهم قالوه ودانوا به عن نبيهم ، وليس الاجماع في الدين شيئاً غير هذا ، وأما ما لم يكن إجماعاً في الشريعة فهو ما اختلفوا فيه باجتهادهم أو سكت بعضهم ، ولو واحد منهم في الكلام فيه .
والسنَّة : هي الشريعة نفسها، وهي في أصل اللغة وجه الشيء وظاهره.
قال الشاعر:
تريك سنَّة وجه غير مقرفة
ما ساء ليس بها خال ولا ندب
وأقسام السنة في الشريعة : فرض ، أو ندب ، أو إباحة ، أو كراهة ، أو تحريم كل ذلك قد سنّه رسول الله ﷺ عن الله عز وجل .
والبدعة : كل ما قيل أو فعل مما ليس له أصل فيما نسب إليه ، وهو في الدين كل ما لم يأت في القرآن ، ولا عن رسول الله ﷺ إلا أن منها ما يؤجر عليه صاحبه ، ويغدر بما قصد إليه من الخير ، ومنها ما يؤجر عليه صاحبه ويكون حسناً ، وهو ما كان أصله الإِباحة كما روي عن عمر رضي الله عنه ، نعمت البدعة هذه وهو ما كان فعل خير جاء النص بعموم استحبابه وإن لم يقرر عمله في النص .
ومنها ما يكون مذموماً ولا يعذر صاحبه وهو ما قامت به الحجة على فساده فتمادى عليه القائل به .
والكتابة : لفظ يقام مقام الاسم كالضمائر المعهودة في اللغات، وكالتعريض بما يفهم منه المراد وإن لم يصرح بالاسم ومنه قيل للكنية كنية .
والإِشارة : تكون باللفظ وتكون ببعض الجوارح وهي تنبيه المشار إليه أو تنبيه عليه .
والمجاز : هو في اللغة ما سلك عليه من مكان إلى مكان وهو الطريق الموصل بين الأماكن، ثم استعمل فيما نقل عن موضعه في اللغة إلى معنى آخر ، ولا يعلم ذلك إلا من دليل من اتفاق أو مشاهدة .
وهو في الدين كل ما نقله الله تعالى أو رسوله ﷺ عن موضعه في اللغة إلى مسمى آخر ومعنى ثان ، ولا يقبل من أحد في شيء من النصوص أنه مجاز إلا ببرهان يأتي به من نص آخر ، أو جماع متيقن ، أو ضرورة حس وهو حينئذ حقيقياً ، لأن التسمية لله عز وجل فإذا سمَّى تعالى شيئاٌ ما باسم ما فهو اسم ذلك الشيء على الحقيقة في ذلك المكان ، وليس ذلك في الدين لغير الله تعالى ، قال عز وجل : {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنَزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى } .
والتشبيه : هو أن يشبه شيء بشيء في بعض صفاته ، وهذا لا يوجب في الدين حكماً أصلاً وهو أصل القياس ، وهو باطل لأن كل ما في العالم فمشبه بعضه لبعض ولا بد من وجه أو من وجوه ، ومخالف أيضاً بعضه لبعض ولا بد من وجه أو من وجوه ، وهو أيضاً التمثيل .
والمتشابه : لا يوجد في شيء من الشرائع إلا بالإِضافة إلى من جهل دون من علم ، وهو في القرآن ، وهو الذي نهينا عن اتباع تأويله وعن طلبه ، وأمرنا بالإِيمان به جملة ، وليس هو في القرآن إلا للأقسام التي في السورة كقوله تعالى : {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى }
والحروف المقطعة التي في أوائل السور وكل ما عدا هذا من القرآن فهو محكم .
والمفصل : هو ما بينت أقسامه وهو في أصل اللغة ما فرق بعضه عن بعض، تقول فصلت الثوب واللحم وغير ذلك .
والاستنباط : إخراج الشيء المعيب من شيء آخر كان فيه ، وهو في الدين إن كان منصوصاً على جملة معناه فهو حق ، وإن كان غير منصوص على جملة معناه فهو باطل لا يحل القول به .
والحكم: هو إمضاء قضية في شيء ما، وهو في الدين تحريم أو إيجاب أو إباحة مطلقة ، أو بكراهة ، أو باختيار .
والإيمان : أصله في اللغة التصديق باللسان والقلب معاً ، لا بأحدهما دون الثاني، وهو في الدين التصديق بالقلب بكل ما أمر الله تعالى به على لسان رسوله ﷺ والنطق بذلك باللسان ، ولا بد من استعمال الجوارح في جميع الطاعات : واجبها ، وندبها ، واجتناب محرمها ومكروهها ، برهان ذلك أن جميع أهل الإيمان مكذوب بأشياء منها أن يكون لله تعالى ولد ، وأن يكون مسيلمة نبيّاً ، وغير ذلك كثير ومصدقون بأشياء كثيرة ، وقد أطلق الله تعالى وأطلق جميعهم بعضهم على بعض اسم الإيمان مطلقاً دون إضافة ، ولا خلاف بين أحد من الأمة في أنه لا يجوز أن يطلق اسم التكذيب عليهم إلا بإضافة ، والكفار مؤمنون بأشياء كثيرة ، ولا خلاف بين أحد من الأمة في أنه لا يجوز أن يطلق عليهم اسم الإيمان مطلقاً إلا بالإضافة ، فصح أن اسم الإيمان منقول عن موضوعه في اللغة إلى ما ذكرناه .
والكفر : أصله في اللغة التغطية ، قال عز وجل : {اعْلَمُواْ أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَآ إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ }
قال لبيد بن أبي ربيعة : ألقت ذكاء يمينها في كافر يريد الليل لأنه يغطي على كل شيء .
وهو في الدين : صفة من جحد شيئاً مما افترض الله تعالى الإيمان به بعد قيام الحجة عليه ببلوغ الحق إليه بقلبه دون لسانه أو بلسانه دون قلبه ، أو بهما معاً ، أو عمل جاء النص بأنه مخرج له بذلك عن اسم الإيمان على ما بيّنا في غير هذا الكتاب برهان ذلك، أن جميع من يطلق عليه اسم الكفر فإنه مصدق بأشياء ، مكذب بأشياء ولا خلاف في أنه لا يجوز أن يطلق عليهم اسم الإيمان بلا إضافة وأهل الإيمان كفار بأشياء كثيرة منها التثليث وغير ذلك ولا خلاف في أنه لا يجوز أن يطلق عليهم اسم الكفر بلا إضافة .
والشرك : هو في اللغة أن يجمع شيئاً إلى شيء فيشرك بينهما فيما جمعا فيه وهو في الدين معنى الكفر سواء لما قد بيناه في غير هذا المكان والتسمية لله تعالى لا لغيره .
والإلزام : هو أن نحكم على الإنسان بحكم ما فإما واجب أو غير واجب .
والعقل : هو استعمال الطاعات والفضائل ، وهو غير التمييز لأنه استعمال ما ميز الإنسان فضله ، فكل عاقل مميز وليس كل مميز عاقلاً ، وهو في اللغة : المنع ؛ تقول : عقلت البعير أعقله عقلاً . وأهل الزمان يستعملونه فيما وافق أهواءهم في سيرهم وزيهم ، والحق هو في قول الله تعالى : {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } يريد الذين يعصونه، وأما فقد التمييز فهو الجهل أو الجنون على حسب ما قابل اللفظ من ذلك .
والفور : هو استعمال الشيء بلا مهلة ولكن على أثر ورود الأمر به .
والتراخي : تأخير إنفاذ الواجب، وحكم أوامر الله عز وجل ورسوله ﷺ كلها على الفور إلا أن يأتي نص بإباحة التراخي في شيء ما فيوقف عنده .
والاحتياط : هو التورع نفسه وهو اجتناب ما يتقي المرء أن يكون غير جائز، وإن لم يصح تحريمه عنده ، أو اتقاء ما غيره خسر منه عند ذلك المحتاط ، وليس الاحتياط واجباً في الدين ولكنه حسن ، ولا يحل أن يقضى به على أحد ولا أن يلزم أحداً لكن يندب إليه لأن الله تعالى لم يوجب الحكم به .
والورع : هو الاحتياط نفسه .
فصـــل فــي معانــي حــروف تتكــرر فــي النصــوص
واو العطف : لاشتراك الثاني مع الأول : إما في حكمه ، وإما في الخبر عنه على حسب رتبة الكلام ، فإن كان الثاني جملة فهو اشتراك في الخبر فقط ، وإن كان اسماً مفرداً فهو مشترك في حكم الأول ، وهي لا تعطي رتبة أي أنها لا توجب أن الأول قبل الثاني ، ولا أنه بعده بل ممكن فيهما أن يكونا معاً ، أو أن يكون أحدهما قبل الآخر بمهلة بلا مهلة كقولك : جاءني زيد وعمرو ، فجائز أن يأتيا معاً ، وجائز أن يأتي زيد قبل عمرو، وعمرو قبل زيد بساعة وبعام وبأقل وبأكثر .
والفاء : تعطي رتبة الثاني بعد الأول بلا مهلة كقولك : جاءني زيد فعمرو ، فزيد جاء قبل عمرو ولا بد ، وأتى عمرو أثره بلا مهلة .
وثم : توجب أن الثاني بعد الأول بمهلة .
وواو القسم : ليست واو عطف لأنها قد يبدأ بها أول الكلام ولا يبتدأ بواو العطف .
وأو للشك وللتخيير : مثل قولك خذ هذا أو هذا ، فإنما ملكت أخذ أحدهما ، وفي الشك قولك : جاءني زيد أو عمرو فلم تقطع بمجيء أحدهما بعينه لكن حققت أن أحدهما أتاك ولم تعينه .
ومعنى الباء : الاتصال مثل قولك : مررت بزيد ، تريد اتصال مرورك به ولا توجب تبعيضاً ولا استيفاء .
ومن : معناها ابتداء أو تبعيض .
وإلى : معناها الانتهاء أو مع ، وهذا يكثر جداً ولهذا قلنا : إنه لا بد للفقيه أن يكون نحوياً لغويَّاً وإلا فهو ناقص ، ولا يحل له أن يفتي لجهله بمعاني الأسماء وبعده عن فهم الأخبار .
=====
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/الباب السادس
هل الأشياء في العقل قبل ورود الشرع على الحظر أو على الإباحة
قال أبو محمد : قال قوم : الأشياء كلها في العقل قبل ورود الشرع على الحظر .
وقال آخرون : بل هي على الإباحة ، وقال آخرون : بل هي على الحظر حاشا الحركة النقلية من مكان إلى مكان وشكر المنعم فقط .
وقال آخرون : بل هي على الإباحة حاشا الكفر والظلم وجحد المنعم ، وقال آخرون وهم جميع أهل الظاهر وطوائف من أهل أصحاب القياس : ليس لها حكم في العقل أصلاً لا بحظر ولا بإباحة ، وإن كل ذلك موقوف على ما ترد به الشريعة .
قال أبو محمد : وهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره واحتج من قال بحظرها بأن قال : الأشياء كلها ملك لله عز وجل ، ولا يجوز أن يقدم على ملك مالك إلا بإذنه .
قال أبو محمد : وهذا تمويه ساقط ، لأنه لم يحرم الإقدام على مالك غيرنا بنفس العقل ، وإنما حرم ما حرم من ذلك ورود الشرع بتحريمه ، ولو كان تحريم الإقدام على ملك المالك مركباً في ضرورة العقل ، لما جاز أن يأتي شرع بخلافه كما لا يجوز أن يأتي بشرع، فإن الكل أقل من الجزء ، وأن القصير أطول مما هو أطول منه ، لأن كل شيء رتب الله تعالى في العقل إدراكه على صفة ما بخلاف ما قد رتبه تعالى ممتنعاً ومحالاً ، ورتب الاخبار به كذباً وإفكاً ، وأخبرنا تعالى أن قوله الحق ، ولا سبيل أن يرد الشرع بمحال ولا بكذب. ومن أجاز ذلك خرج عن الإسلام .
وقد وجدنا المالك فيما بيننا لملكه قد أمرنا تعالى بأخذه منه كرهاً فيما لزمه من نفقة زوجه التي هي لعلها أغنى منه وأقدر على المال ، وفي أشياء كثيرة من أروش ما أتلف بخطأ أو بغير قصد وبقصد .
ووجدناه تعالى قد أجاز ما أنفذه أهل دار الحرب في أموالهم وملكهم إياها بقوله تعالى : {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً} وأجاز كل ما أنفذوه فيها من هبة وبيع، ثم أطلقنا على أخذها منهم اختلاساً وغلبة وعلى كل وجه.
فإن قالوا : كفرهم أباح أموالهم ، قيل لهم : نحن نوجدكم الذمي كافراً لا يحل أخذ شيء من ماله حاشا الجزية التي لا تكاد تتجزأ من ماله ، وكلاهما كفره واحد ، فأين ما ادعته هذه الطائفة المغفلة من أن الإقدام على ملك مالك بغير إذنه حرام محرم في العقل .
فإن قال قائل منهم : تلك الأموال هي ملك الله عز وجل ، قيل له : إنما حرمت أنت ملك الله تعالى قياساً على الشاهد بيننا من قبح التعدي على ملك مالك بزعمك فلا تعد إلى ما جعلته أصلاً فتبطله .
ويقال لـه أيضاً : وأنفسنا ملك للـه عز وجل، وفي منعها الأقوات والتناسل إبطال للنوع الإنساني ، وفي ذلك إبطال ملك للـه عز وجل كثير، وإتلاف مملوكات لـه كثيرة ، وهذا فسخ لأصلك ، فيكون الإتلاف على قولك حاظراً مبيحاً في حالة واحدة ، وهذا لا يعقل .
ويقال لمن قال بإباحتها واحتج بأن في مدخل الطعام ومخرجه عبرة ودليلاً على قدرة اللـه عز وجل ، اطرد علتك وقل : وفي فسقك بالذكور وبالنساء عبرة ودليل على قدرة اللـه عز وجل في مداخلة الأعضاء بعضها في بعض، وفي تخلق الولد وولادته أعظم عبرة ، وأدل دليلاً على قدرة اللـه عز وجل ، وكذلك في قتل النفس وسيلان الدم بعد منع الجلد لـه من السيلان ، وفي خروج النفس وانقطاع الحركة والحس أعظم عبرة وأدل دليلاً على القدرة ، فأبح قتل النفس على هذا وقل: إنه حسن في العقول بل واجب ، ومن قرأ كتب التشريح للأطباء علم أن في ذلك أعظم عبرة ، فليقل إن قتل الأنفس مباح في العقل .
واحتج المبيحون أيضاً بأن قالوا : لا بد من فعل ، أو ترك ، أو حركة أو سكون فإن منعتموه الكل أوجبتم المحال والممتنع .
قال أبو محمد : وهذا إنما يخاطب به من قال بالحظر ، وأما نحن فلسنا نقول : إن في العقل إباحة شيء ولا حظره ، وإنما فيه تمييز الموجودات على ما هي عليه وفهم الخطاب فقط .
وبالجملة فكل شيء يعارض به القائلون بالإباحة أو الحظر فهي دعاوى مجردة ، واحتج بعض القائلين بالإباحة بقولـه تعالى : {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } .
قال أبو محمد : ولا حجة لـهم في هذا ، لأننا لم نقل إنه تعالى يعذب من لم يبعث إليه رسولاً فيعارضون بهذا ، وليست هذه الآية من مسألتنا في الإباحة والحظر في ورد ولا صدر ، لأن الأشياء لو ورد الحظر فيها بنص جلي إلا أنه لم يأت وعيد على مرتكبها لم يجز لأحد أن يقول : إن اللـه تعالى يعذب من خالف أمره ، وليس في كون المرء عاصياً أو كافراً ما يوجب أنه يعذب ولا بد ، وإنما علمنا وجوب العذاب من طريق القرآن والخبر عن النبي فقط ، ولولا ذلك ما علمناه .
برهان ذلك ؛ أن الكفار الطغاة قد وجدناهم في هذا العالم يعمرون مدة أعمارهم غير معذبين ، لا بل في نعمة وملك وغلبة وكرامة ، ولا فرق بين جواز ذلك خمسين عاماً وستين وسبعين وثمانين ، وبين تماديه هكذا أبداً وقتاً بعد وقت ، ولا فرق بين جواز ذلك في الوقت الأول ، وبين جوازه في الوقت الثاني ، وليست هنا حال حدثت لـهم ، إلا أن اللـه تعالى أراد أن يعذبهم في الآخرة ، ولو شاء أن يستمر نعيمهم لفعل ، ولكن ورد النص بالتعذيب قلنا به ، وقال بعض القائلين بالإباحة : محال أن يخلق اللـه تعالى فينا الشهوات المقتضية لما تقتضيه ثم يحظر علينا ما خلق لنا.
قال أبو محمد : هذه مكابرة العيان ، وليست هذه هي حجة مسلم ، لأن الله عز وجل وقد فعل ما أنكروا ، وخلق فينا شهوات تقتضي إتيان الفواحش في كل امرأة جميلة نراها أو في حسان الغلمان ، وشرب الخمور في البساتين ، وأخذ كل شيء استحسنته النفوس والراحة ، وترك التعرض لسيوف أهل الشرك ، والنوم عن الصلوات في الهواجر الحارة والغدوات القارة ، ثم حرم علينا ذلك كله .
فإن قال قائل : فإن الله تعالى قد عوض من ذلك أشياء أباحها ، وعوض على ترك ما حرم ما هو خير وهو الجنة .
قلنا له وبالله تعالى التوفيق : لقد كان تعالى قادراً أن يجمع الأمرين لنا معاً ، ولقد كان يكون ذلك أقل لتعبنا وألذ لنفوسنا وأروح لأجسامنا وأتم لسرورنا ، ولكنه تعالى لم يرد إلا ما ترى لا معقب لحكمه .
وبيان ذلك : أنه قد نعَّم قوماً في الدنيا والآخرة، كداود وسليمان عليهما السلام وأعطاهما اللذات العظيمة والملك السنيع والنبوة مع ذلك .
وسلط على أيوب وهو نبي مثلهما من البلايا ما لا قبل لأحد به دون ذنب سلف منه ، ولا إحسان سلف من سليمان وداود على جميعهم الصلاة والسلام ، وسلط محمداً ﷺ على جميع أعدائه ، وعصمه منهم ، ومنحه النصر عليهم ، وسلط على أنبياء أخر أعداءهم فقتلوهم بأنواع المثل ، وكلهم مع ذلك من مسعود مسلط على عدوه في الدنيا ومحروم مسلط عليه عدوه فيها ، وكلهم مجتمعون في الجنة متنعمون فيها وفعل بنا ذلك أيضاً ، فمن محسن منعم ، ومن محسن مشقي ، وقد نعم أيضاً عز وجل ملوكاً من الكفار في الدنيا ، وأصحبهم النصر والتأييد إلى أن قبض أرواحهم إلى النار ، وهم أطغى خلق الله وأكفره ، وأشد تسلطاً على الفواحش .
وحرم آخرين من الكفار ، فقتلهم بالفاقة والجوع والعري والقمل والمساءلة من باب إلى باب مع العاهات العظيمة والبلايا الشنيعة والأمراض المؤلمة ، ثم جعل مجتمعهم في جهنم مع منعهم في الدنيا ، ومنحوس فيها ، فأي عقل ترتبت فيه هذه الرتبة أو المنع منها ما يحس شيئاً من ذلك في عقله إلاَّ ناقص العقل، ينبغي له أن يتهم حسه في ذلك .
ونسأل من جعل العقل مرتباً في حظر أو إباحة قبل ورود الشرع فنقول له: ما تقول في راهب في صومعة ، مريد لله عز وجل بقلبه كله ، موحد لله تعالى لا يدع خيراً إلا فعله ولا شرًّا إلا اجتنبه ، إلا أنه كان في جزائر الشاشيين في أقصى الدنيا يسمع قط ذكر محمد من جميع أهل ناحيته إلا متبعاً بالكذب وبأقبح الصفات ، ومات على ذلك وهو شاك في نبوته أو مكذب لها ، أليس مصيره إلى النار خالداً ، مخلداً أبداً بلا نهاية ؟ فإن شك أحد في ذلك فهو كافر بإجماع الأمة .
ثم نقول : ما تقول في يهودي أو نصراني لم يدع قتل مسلم قدر عليه إلا قتله أو أنفذه ولم يبق شيئاً من الفواحش إلا ارتكبه ، من الزنى وفعل قوم لوط عليه السلام ، وفعل كل بلية ، ثم إنه أيقن بنبوة محمد ﷺ ، وآمن وبرىء من كل دين إلا دين الإسلام ، وأقر بذلك بلسانه ومات أثر ذلك ، أليس من أهل الجنة ؟ بلا خلاف من أحد من الأمة ، فإن شك في ذلك فقد كفر .
ففي أي موجب للعقل وجد إثبات هذا أو وجد إبطاله ، وما الذي أوجب في العقل أن يخص محمداً ﷺ وسائر الأنبياء بهذه الفضائل ، وقد كان ﷺ بين أظهر الناس أربعين سنة لم يَحْبُه تعالى بهذه الفضيلة ، فأي عقل أوجب منعه من ذلك قبل أن يؤتاها أو أوجب أن يُحْبَى بها إذ حبي بها ، هل هي إلا أفعال الله تعالى واختياره ، وكل هذا يبطل أن يكون للعقل محال في حظر أو إباحة ، أو تحسين أو تقبيح ، وأن كل ذلك منتظر فيه ما ورد من الله تعالى في وحيه فقط ، نسأل الله الهدى والعافية في الدنيا والآخرة بمنِّه آمين .
وقال بعض المتكلفين من القائلين بالإباحة : كل من اضطره الله إلى شيء فقد أباحه له .
قال أبو محمد : وهذا قول امرىء لم يتدرب في العلم ، وقد أخطأ في هذه القضية لأن الضرورة فعل الله تعالى ، والجائع مضطر إلى الجوع ، والمريض مضطر إلى المرض ، وقد قال تعالى في أهل النار : {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
أفيسوغ لذي عقل أن يقول : إن الله تعالى أباح للجائع الجوع ، وللمريض المرض ، ولأهل جهنم الكون في جهنم ، وإنما يقول هذا من لا يعرف الأسماء ولا المسميات ولا حقيقة عبارة الألفاظ عن المعاني .
فإن قال قائل : فإن الشريعة تبطل حكم ما في العقول ، واحتج بأنه قد حسن في العقول الانقياد للأمر المنسوخ قبل أن ينسخ ، ثم أتى النسخ فقبح في العقل ما كان فيه حسناً .
قيل له: هذا شغب فاسد ، ولم نكرر أن الشريعة لا تحسن إلا ما حسنت العقول ولا تقبح ما قبحت ، بل هو قولنا نفسه ، وإنما أنكرنا أن يكون العقل رتبة في تحريم شيء أو تحليله أو تحسينه أو تقبيحه ، وأما إذا وردت الشريعة بالنهي عن شيء أو إباحته ، فواجب في العقول الانقياد لذلك ، والانقياد لمنع ما أبيح ، أو إباحة ما منع إن جاء أمر بخلاف الأمر المتقدم ، فلم يحدث في العقول شيء لم يكن ولا غير النسخ شيئاً مما كان فيها من وجوب الانقياد لما وردت به الشريعة .
وقد قال بعض القائلين بالحظر : إن معنى قوله عز وجل: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } إنما معنى هذا ليعتبر به.
قال أبو محمد : وهذا تحكم لا يشبه إلا تحكم الصبيان . ومن استجاز مثل هذا من نقل الألفاظ عن مراتبها في اللغة .
فلا ينكر على غلاة الروافض قولهم : إن معنى الصلاة الدعاء لا الركوع والسجود ، معنى الزكاة طهارة الأنفس ، ومعنى الحج القصد إلى الإمام ، ومن سلك هذه الطريقة أبطل الديانة ، وأدى إلى إبطال جميع التفاهم ، ولم يكن في الدنيا كلام إلا واحتمل أن يقول فيه قائل إنه مقصود به غير ما يقتضيه لفظه ، وهذا هو إبطال الحقائق .
وساغ للعيسوية من اليهود أن يقولوا : إن معنى قول رسول الله ﷺ : «لا نَبِيَّ بَعْدِي» ، أي من العرب فقط .
وساغ للمعتزلة أن تقول : وخلق كل شيء ، أي الأجسام وأعراضها حاشا الحركات .
وساغ للحشوية أي تقول : بل خلق كل شيء حاشا الروح والإيمان والكلام المسموع من القراء .
وساغ للمنانية أن يقولوا خلق كل شيء من الخير فقط ، وهذا كلام ومذهب يفسد الدين ، ويبطل حقيقة العقل .
وقد علمنا ضرورة أن الألفاظ إنما وضعت ليعبر بها عما تقتضيه في اللغة ، وليعبر بكل لفظة عن المعنى الذي علقت عليه ، فمن أحالها فقد قصد إبطال الحقائق جملة، وهذا غاية الإفساد وبالله تعالى التوفيق .
قال أبو محمد : ثم نبطل كلا المذهبين معاً بحول الله وقوته. قال الله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ }
وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ } .
قال أبو محمد : ففي هاتين الآيتين نص واضح على تحريم القول في شيء من كل ما في العالم أنه حرام أو أنه حلال .
فبطل بذلك قول من قال : إن الأشياء قبل ورود الشرع على الحظر أو على الإِباحة .
وصح أن من قال شيئاً من من ذلك بغير إذن من الله تعالى فهو مفتر على الله عز وجل ، وأما إذا ورد الشرع بأي شيء ورد من إباحة الكل ، أو حظر الكل ، أو حظر البعض ، أو إباحة البعض فواجب القوم بكل ما ورد من ذلك ، وقال تعالى : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }
والسدي المهمل الذي لا يؤمر ولا ينهى فصح بهذه الآية أن الناس لم يبقوا قط هملاً دون ورود شرع ، فبطل قول من قال : إن العقول تعرف وقتاً من الدهر من شرع ، وإذ قد بطل هذا القول ، فقد بطل أن يكون الشيء في العقل قبل وورد الشرع له حكم في العقل بحظر أو إباحة، فصار قولهم محالاً ممتنعاً ، مع كونه حراماً أيضاً لو كان ممكناً .
وقال تعالى : {إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } فبطل هذا أن تكون أمة وقتاً من الدهر لم يتقدم فيهم نذير، وقد كان آدم عليه السلام رسولاً في الأرض وقال تعالى له، إذ أنزله إلى الأرض:
 
= {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } فأباح تعالى الأشياء بقوله إنها متاع لنا، ثم حظر ما شاء ، وكل ذلك بشرع ، وكذلك إذ خلقه في الجنة لم يتركه وقتاً من الدهر دون شرع ، بل قد قال تعالى: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ } فلم يخل قط وقت من الزمان عن أمر أو نهي .
قال أبو محمد : ويقال لهم أيضاً : لو جاز أن نبقى دون شرع لكان حكمنا كحكمنا قبل أن نحتلم، فإن الأمور حينئذ لا حكم لها علينا لا بحظر ولا إباحة، ولا فرق بين كونهما كذلك قبل البلوغ بنصف ساعة وبين كونهما كذلك بعد البلوغ وكلا الأمرين في العقول سواء. 
 
وما في العقل إيجاب الشرع على من احتلم وسقوطه عمن لم يحتلم . وليس بين الأمرين إلا نومة لطيفة ، فبطل بهذا ما ادعوه من أن العقول فيها حظر شيء أو إباحته قبل ورود الشرع وموافاة الخطاب من الله عز وجل ، ولو كان كذلك للزم غير المحتلم كلزومه المحتلم إذ موجب العقل لا يختلف . 
 
قال أبو محمد : ويقال لمن قال : لكل شيء مباح في العقل ، إلا الفكر ، أليس إقرار المرء بلسانه بالتثليث غير متبع له إنكاراً . كفراً من قائله ؛ فإن قال : لا ؛ كفر ، وإن قال : نعم ؛ قيل له صدقت ، وقد أباح الله تعالى الإعلان به دون اتباع أفكار لمن اضطر وخاف الأذى .
وقد أباح الله تعالى عند خوف القتل الكفر الصحيح الذي هو كفر في غير تلك الحال ، ولسنا نسألهم عن الكفر الذي هو العقد ، إنما نسألهم عن الكفر الذي هو النطق به فقط ؛ لأن بعضهم قال : لم يبح الله تعالى قط الكفر ، لأن الكفر الذي هو العقد ، ولا خلاف بين من يعتد به في النطق بالكفر دون اتباع بإنكار ولا حكاية ، كفر صحيح ، فعن هذا الكفر سألناهم وهم يقرون بأن امرأ لو قال بلسانه : أنا كافر بالإِسلام ، مقر بالتثليث ، إن هذا كفر ، وإنه مرتد ، وهذا بعينه الذي أبيح عند الإِكراه ، فقد جاءت إباحة الكفر نصًّا ، وحسن ذلك في عقولهم ، وبطل قولهم ، والذي نقول به إن الله تعالى لو أباح الكفر الذي هو العقد لكان حسناً مباحاً ، وأنه إنما حظر بالشرع فقط وبالله تعالى التوفيق .
ويقال لمن قال : إن كفر المنعم محظور بالعقل . ما تقول في كافر ربى إنساناً وأحسن إليه ، ثم لقيه في حرب أيقتله أم لا ؟
فإن قالوا : لا . خالفوا الإِجماع ، وإن قالوا : نعم . نقضوا قولهم في أن كفر المنعم محظور بالعقل ، فإن قالوا : إن قتله شكر له ، كابر ، وإن أقروا بأن قتله الذي هو سبب مصيره إلى الخلود في النار شكر له وإحسان إليه ، وهذا ضد ما ميّزه العقل ، وبالله تعالى التوفيق .
=====
 

البرص و العميان-أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ

البرص و العميان-أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ  المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله عليه محمد وسلم وهب الله لك حسن الاستماع وأشعر ...