Translate

السبت، 19 فبراير 2022

+المجلد الأول/الجزء الأول/فصل: فيه أقسام الإخبار عن الله تعالى +لمجلد الأول/الجزء الأول/الباب الحادي عشر +المجلد الأول/الجزء الأول/فصل هل يوجب خبر الواحد العدل العلم مع العمل أو العمل دون العلم؟ +المجلد الأول/الجزء الأول/صفة من يلزم قبوله نقل الأخبار -



ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/الباب الحادي عشر
في الكلام في الأخبار وهي السنن المنقولة عن رسول اللـه ﷺ
وفي بعض فصول هذا الباب ذكر السبب في الاختلاف الواقع بين الأئمة في صدر هذه الأمة.
قال علي : لما بيّنا أن القرآن هو الأصل المرجوع إليه في الشرائع نظرنا فيه فوجدنا فيه إيجاب طاعة ما أمرنا به رسول اللـه ﷺ ، ووجدناه عز وجل يقول فيه واصفاً لرسولـه ﷺ : {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى }
فصح لنا بذلك أن الوحي ينقسم من اللـه عز وجل إلى رسولـه ﷺ على قسمين :
أحدهما وحي متلو مؤلف تأليفاً معجز النظام وهو القرآن .
والثاني : وحي مروي منقول غير مؤلف ولا معجز النظام ولا متلو لكنه مقروء ، وهو الخبر الوارد عن رسول اللـه ﷺ وهو المبين عن اللـه عز وجل مراده منا .
قال اللـه تعالى : {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } ووجدناه تعالى قد أوجب طاعة هذا الثاني كما أوجب طاعة القسم الأول الذي هو القرآن ولا فرق فقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } .
فكانت الأخبار التي ذكرنا أحد الأصول الثلاثة التي ألزمنا طاعتها في الآية الجامعة لجميع الشرائع أولـها عن أخرها ، وهي قولـه تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } فهذا أصل ، وهو القرآن .
ثم قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }
فهذا ثان وهو الخبر عن رسول اللـه ﷺ ، ثم قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }
فهذا ثالث وهو الإِجماع المنقول إلى رسول اللـه ﷺ حكمه ، وصح لنا بنص القرآن ، أن الأخبار هي أحد الأصلين المرجوع إليهما عند التنازع ، قال تعالى : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } .
قال علي : والبرهان على أن المراد بهذا الرد إنما هو إلى القرآن والخبر عن رسول اللـه ﷺ لأن الأمة مجمعة على أن هذا الخطاب متوجه إلينا وإلى كل من يخلق ويركب روحه في جسده إلى يوم القيامة من الجنة والناس ، كتوجهه إلى من كان على عهد رسول اللـه ﷺ ، وكل من أتى بعده ﷺ وقبلنا ولا فرق ، وقد علمنا علم ضرورة أنه لا سبيل لنا إلى رسول اللـه ﷺ ، وحتى لو شغب مشغب بأن هذا الخطاب إنما هو متوجه إلى من يمكن لقاء رسول اللـه ﷺ لما أمكنه هذا الشغب في اللـه عز وجل ، إذ لا سبيل لأحد إلى مكالمته تعالى ، فبطل هذا الظن ، وصح أن المراد بالرد المذكور في الآية التي نصصنا إنما هو إلى كلام اللـه تعالى ، وهو القرآن وإلى كلام نبيه ﷺ المنقول على مرور الدهر إلينا جيل بعد جيل .
قال علي : وأيضاً فليس في الآية المذكورة ذكر للقاء ولا مشافهة أصلاً ، ولا دليل عليه ، وإنما فيه الأمر بالردِّ فقط ، ومعلوم بالضرورة أن هذا الرد إنما هو تحكيم ، وأوامر اللـه تعالى وأوامر رسولـه موجودة عندنا ، منقول كل ذلك إلينا، فهي التي جاء نص الآية بالرد إليها دون تكلف تأويل ولا مخالفة ظاهر .
قال علي : والقرآن والخبر الصحيح بعضها مضاف إلى بعض . وهما شيء واحد في أنهما من عند اللـه تعالى ، وحكمها حكم واحد في باب وجوب الطاعة لـهما لما قدمناه آنفاً في صدر هذا الباب قال تعالى : {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ }
فبين تعالى بهذه الآية أنه لم يرد منا الإِقرار بالطاعة لرسول اللـه ﷺ ، بلا عمل بأوامره واجتناب نواهيه ، وهذه صفة المقلدين فإنهم يقولون طاعة رسول اللـه ﷺ واجبة ، فإذا أتاهم أمر من أوامره يقروه بصحته ، لم يصعب عليهم التولي عنه وهم يسمعون ، نعوذ باللـه من ذلك .
وقال تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } وقال تعالى {قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بِالْوَحْيِ وَلاَ يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَآءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ } فأخبر تعالى كما قدمنا أن كلام نبيه كلـه وحي، والوحي بلا خوف ذكر، والذكر محفوظ بنص القرآن.
فصح بذلك أن كلامه كلـه محفوظ بحفظ اللـه عز وجل مضمون لنا أنه لا يضيع منه شيء ، إذ ما حفظ اللـه تعالى فهو باليقين لا سبيل إلى أن يضيع منه شيء فهو منقول إلينا كلـه. فللـه الحجة علينا أبداً ، وقال تعالى : {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } فوجدنا اللـه تعالى يردنا إلى كلام نبيه ﷺ على ما قدمنا آنفاً ، فلم يسمع مسلماً يقر بالتوحيد أن يرجع عند التنازع إلى غير القرآن والخبر على رسول اللـه ﷺ ولا أن يأتي عما وجد فيهما فإن فعل ذلك بعد قيام الحجة عليه فهو فاسق ، وأما من فعلـه مستحلاً للخروج عن أمرهما وموجباً لطاعة أحد دونهما ، فهو كافر شك عندنا في ذلك .
وقد ذكرنا محمد بن نصر المروزي أن إسحاق بن راهويه كان يقول: من بلغه عن رسول الله ﷺ خبر يقر بصحته ثم رده بغير تقية فهو كافر، ولم نحتج في هذا بإسحاق ، وإنما أوردناه لئلا يظن جاهل أننا منفردون بهذا القول ، وإنما احتججنا في تكفيرنا من استحل خلاف ما صح عنده عن رسول الله ﷺ بقول الله تعالى مخاطباً لنبيه ﷺ : {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } .
قال علي : هذه كافية لمن عقل وحذر وآمن بالله واليوم الآخر ، وأيقن أن هذا العهد عهد ربه تعالى إليه ، ووصيته عز وجل الواردة عليه ، فليفتش الإِنسان نفسه ، فإن وجد في نفسه مما قضاه رسول الله ﷺ في كل خبر يصححه مما قد بلغه ، أو وجد نفسه غير مسلمة لما جاءه عن رسول الله ﷺ ، ووجد نفسه مائلة إلى قول فلان وفلان ، أو قياسه واستحسانه ، وأوجد نفسه تحكم فيما نازعت فيه أحداً دون رسول الله ﷺ متى صاحت فمن دونه ، فليعلم أن الله تعالى قد أقسم ، وقوله الحق إنه ليس مؤمناً وصدق الله تعالى ، وإذا لم يكن مؤمناً فهو كافر ، ولا سبيل إلى قسم ثالث .
وليعلم أن كل من قلد ، من صاحب أو تابع أو مالكاً أو أبو حنيفة والشافعي وسفيان والأوزاعي وأحمد وداود رضي الله عنهم متبرئون منه في الدنيا والآخرة ، ويوم يقوم الأشهاد ، اللهم إنك تعلم أنا لا نحكم أحداً إلا كلامك وكلام نبيك ﷺ الذي صليت عليه وسلمت في كل شيء مما شجر بيننا ، وفي كل ما تنازعنا فيه ، واختلفنا في حكمه ، وأننا لا نجد في أنفسنا حرجاً مما قضى به نبيك ﷺ ، ولو أسخطنا بذلك جميع من في الأرض وخالفناهم، وصرنا دونهم حزباً وعليهم حرباً، وإننا مسلمون لذلك طيبة أنفسنا عليه، مبادرون نحوه لا نتردد ولا نتلكأ ، عاصون لكل من خالف ذلك ، موقنون أنه على خطأ عندك ؛ وأنا على صواب لديك .
اللهم فثبتنا على ذلك ولا تخالف بنا عنه ؛ وأسألك اللهم بأبنائنا وإخواننا المسلمين هذه الطريقة حتى ننقل جميعاً ونحن مستمسكون بها إلى دار الجزاء ، آمين ... بمنِّك يا أرحم الراحمين .
قال علي : وإذ قد بيَّن الله لنا أن كلام نبيه ﷺ إنما هو كله وحي من عنده ، وأن القرآن وحي من عنده ، وأيضاً فقد قال فيه عز وجل : {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً }
فصح بهذه الآية صحة ضرورية أن القرآن والحديث الصحيح متفقان ، هما شيء واحد لا تعارض بينهما ولا اختلاف ، يوفق الله تعالى لفهم ذلك من شاء من عباده ، ويحرمه من شاء لا إله إلا هو ، كما يؤتي الفهم والذكاء والصبر على الطلب للخير من شاء ويؤتي البُلْدَة وبُعْدَ الفهم والكسل من شاء ، نسأل الله من هبته ما يقرب منه ويزلف لديه آمين .
وصحّ بما ذكرنا بطلان قول من ضرب القرآن بعضه ببعض ، أو ضرب الحديث الصحيح بعضه ببعض ، أو ضرب القرآن بالحديث بعضهما ببعض وإن أمدَّنا الله بانفساخ مدة وأيَّدنا بعون من قبله ، فسنجمع في كل ذلك دواوين نبين فيها أشخاص السؤال والجواب ، والتأليف في كل ما ظنه أهل الجهل من ذلك متعارضاً مختلف الحكم ، ونبين بحول الله وقوته أن كل ذلك شيء واحد لا اختلاف فيه ، وأن يختر منا قبل ذلك ، فحسبنا ما اطلع عليه من نيتنا في ذلك ، لا إِله إِلا هو ، وقال تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ }
وقال تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً } .
قال علي : فليتق الله الذي إليه المعاد امرؤ على نفسه ، ولتوْجَل نفسه عند قراءة هذه الآية ، وليشتد إشفاقه من أن يكون مختاراً للدخول تحت هذه الصفة المذكورة المذمومة الموبقة الموجبة للنار ، فإن من ناظر خصمه في مسألة من مسألة الديانة وأحكامها التي أمرنا بالتفقه فيها ، فدعاه خصمه إلى ما أنزل الله تعالى ، وإلى كلام الرسول ﷺ ، فصده عنهما ودعاه إلى قياس ، أو إلى قول فلان وفلان ، فليعلم أن الله عز وجل قد سماه منافقاً . نعوذ بالله من هذه المنزلة المهلكة .
فالتوبة التوبة عباد الله قبل حلول الأجل وانقطاع المهل ، قال تعالى : {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } ، وقال تعالى : {وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } فصحَّ أن البيان كله موقوف على كلام الله تعالى وكلام نبيه ﷺ ، وقال عز وجل : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً } .
قال علي : هذه الآية كافية من عند رب العالمين في أنه ليس لنا اختيار عند ورود أمر الله تعالى وأمر رسوله ﷺ ، وأنه من خير نفسه في التزام أو ترك ، أو في الرجوع إلى قول قائل دون رسول الله ﷺ فقد عصى الله بنص هذه الآية ، فقد ضلّ ضلالاً مبيناً ، وأن المقيم على أمر سمَّاه الله ضلالاً لمخذول ، وقال تعالى : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ أِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللَّهَ تَوَّاباً رَّحِيماً } وقال تعالى : {مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } وقال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } .
قال علي : ومن جاءه خبر عن رسول الله ﷺ يقر أنه صحيح ، وأن الحجة تقوم بمثله ، أو قد صحح مثل ذلك الخبر في مكان آخر ثم ترك مثله في هذا المكان لقياس ، أو لقول فلان وفلان ، فقد خالف أمر الله وأمر رسوله ﷺ واستحق الفتنة والعذاب الأليم .
قال علي : أما الفتنة فقد عجلت له ولا فتنة أعظم من تماديه على ما هو فيه وارتطامه في هذه العظيمة أعظم فتنة ، ووالله ليصحن القسم الآخر إن لم يتدارك نفسه بالتوبة والإقلاع ، والطاعة لما أتاه من نبيه ﷺ ورفض قبول قول من دونه كائناً من كان ، وبالله تعالى التوفيق .
وقال تعالى : {وَيِقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذلِكَ وَمَآ أُوْلَـئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ * وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُواْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَآئِزُون * وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُل لاَّ تُقْسِمُواْ طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ }
قال علي : هذه الآيات مُحكماتٌ لم تَدَعْ لأحد علَقة يشغب بها ، قد بيّن الله فيها صفة فعل أهل زماننا فإنهم يقولون : نحن المؤمنون باللَّه وبالرسول ﷺ ، ونحن طائعون لهما ، ثم يتولى طائفة منهم بعد هذا الإقرار ، فيخالفون ما وردهم عن الله عز وجل ورسوله ﷺ ، أولئك بنص حكم الله تعالى عليهم ليسوا مؤمنين ، وإذا دعوا إلى آيات من قرآن أو حديث عن الرسول ﷺ يخالف كل ذلك تقليدهم الملعون أعرضوا عن ذلك ، فمن قائل : ليس عليه العمل ، ومن قائل : هذا خصوص ، ومن قائل : هذا متروك ، ومن قائل : أبى هذا فلان ، ومن قائل : القياس غير هذا ، حتى إذا وجدوا في الحديث أو القرآن شيئاً يوافق ما قلدوا فيه طاروا به كل مطار ، وأتوا إليه مذعنين كما وصف الله حرفاً حرفاً ، فيا ويلهم ما بالهم ، أفي قلوبهم مرض وريب ؟ أم يخافون جور الله تعالى وجور رسوله ﷺ ؟ ألا إنهم هم الظالمون كما سمّاهم الله رب العالمين فبعداً للقوم الظالمين .
ثم بيَّن تعالى أن قول المؤمنين إذا دعوا إلى كتاب الله تعالى ، وكلام نبيه ﷺ ، ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا، وهذا جواب أصحاب الحديث الذين شهد لهم الله تعالى وقوله الحق أنهم مؤمنون ، وأنهم مفلحون ، وأنهم هم الفائزون ، اللهم فثبتنا فيهم ، ولا تخالف بنا عنهم، واكتبنا في عدادهم ، واحشرنا في سوادهم ، آمين رب العالمين .
ثم أخبرنا تعالى بما شهدناه من اكثر أهل زماننا ، وبما يميزونه من أنفسهم بظاهر أحوالهم وباطنها ، من أنهم يقولون : نسمع لله ولرسوله ﷺ ويقسمون على ذلك ، فقال لهم تعالى : لا تقسموا ، ولكن أطيعوا ، أن حققوا ما تقولون بإقراركم وفعلكم واتركوا حكم كل حاكم، وقول كل قائل دون قول الله تعالى وقول رسول الله ﷺ .
ثم أخبرنا تعالى أنه ليس على رسول الله ﷺ غير ما حمله ربه وهو التبليغ والتبيين ، وقد فعل ذلك ، وأخبرنا تعالى أن علينا ما حملنا وهو الطاعة والانقياد لما أمر به رسول الله ﷺ والعمل بذلك ، لا لما أمرنا به من دونه ، وباللَّه تعالى التوفيق .
قال علي : لقد كان في آية واحدة مما تلونا كفاية لمن عقل وفهم ، فكيف وقد أبدأ ربنا تعالى في ذلك وأعاد وكرر وأكَّد ، ولم يدع لأحد متعلقاً ، وقد أنذرنا كما أمرنا وألزمنا في القرآن ، وما توفيقنا إلا باللَّه عز وجل ، ولا قوة إلا باللَّه العلي العظيم وحسبنا الله ونعم الوكيل .
==========
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/فصل: فيه أقسام الإخبار عن الله تعالى
فصل فيه أقسام الإخبار عن الله
قال أبو محمد : جاء النص ثم لم يختلف فيه مسلمان في أن ما صح عن رسول الله ﷺ أنه قال ، ففرض اتباعه ، وأنه تفسير لمراد الله تعالى في القرآن ، وبيان لمجمله ، ثم اختلف المسلمون في الطريق المؤدية إلى صحة الخبر عنه ﷺ بعد الإجماع المتيقن المقطوع به على ما ذكرنا ، وعلى الطاعة من كل مسلم لقوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }
فنظرنا في ذلك فوجدنا الأخبار تنقسم قسمين :
خبر تواتر : وهو ما نقلته كافة بعد كافة حتى تبلغ به النبي ﷺ وهذا خبر لم يختلف مسلمان في وجوب الأخذ به ، وفي أنه حق مقطوع على غيبه ، لأن بمثله عرفنا أن القرآن هو الذي أتى به محمد ﷺ وبه علمنا صحة مبعث النبي ﷺ وبه علمنا عدد ركوع كل صلاة وعدد الصلوات ، وأشياء كثيرة من أحكام الزكاة وغير ذلك مما لم يبين في القرآن تفسيره ، وقد تكلمنا في كتاب الفصل على ذلك وبينا أن البرهان قائم على صحته ، وبيّنا كيفيته وأن الضرورة والطبيعة توجبان قبوله ، وأن به عرفنا ما لم نشاهد من البلاد ، ومن كان قبلنا من الأنبياء والعلماء والفلاسفة والملوك والوقائع والتوالف .
ومن أنكر ذلك كان بمنزلة من أنكر ما يدرك بالحواس الأول ولا فرق .
ولزمه أن يصدق بأنه كان قبله زمان ولا أن أباه وأمه كانا قبله ، ولا أنه مولود من امرأة .
قال أبو محمد : وقد اختلف الناس في مقدار عدد النقلة للخبر الذي ذكرنا .
فطائفة قالت : لا يقبل الخبر إلا من جميع أهل المشرق والمغرب .
وقالت طائفة: لايقبل إلا من عدد لا نحصيه نحن .
وقالت طائفة: لا يقبل أقل من ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ، عدد أهل بدر .
وقالت طائفة لا يقبل إلا من سبعين .
وقالت طائفة: لا يقبل إلا من خمسين ، عدد القسامة .
وقالت طائفة لا يقبل إلا من أربعين لأنه العدد الذي لما بلغه المسلمون أظهروا الدين .
وقالت طائفة: لا يقبل إلا من عشرين، وقالت طائفة: لا يقبل إلا من اثني عشر .
وقالت طائفة: لا يقبل إلا من خمسة .
وقالت طائفة : لا يقبل إلا من أربعة .
وقالت طائفة: لا يقبل إلا من ثلاثة ، لقول رسول الله ﷺ حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجى من قومه إنه قد نزل به جائحة .
وقالت طائفة: لا يقبل إلا من اثنين .
قال أبو محمد : وهذه كلها أقوال بلا برهان ، وما كان هكذا فقد سقط .
ويكفي في إبطال ذلك أن ننبه كل من يقول بشيء من هذه الحدود على أن يقيس كل ما يعتقد صحته من أخبار دينه ودنياه ، فإنه لا سبيل له البتة إلى أن يكون شيء منها صح عنده بالعدد الذي شرط كل واحد من ذلك العدد عن مثل ذلك العدد كله .
وهكذا متزايداً حتى يبلغ إلى تحقيق ذلك الخبر من دينه أو دنياه ، فحصل من كل قول منها بطلان كل خبر جملة ، ولا نحاشي شيئاً لأنه وإن سمع هو بعض الأخبار من العدد الذي شرط، فلا بد أن يبطل تلك المرتبة فيما فوق ذلك .
وكل قول أدى إلى الباطل فهو باطل بلا شك ، وباللَّه تعالى التوفيق ، فلم يبق إلا قول من قال بالتواتر ولم يحد عدداً .
قال أبو محمد : ونقول ههنا إن شاء الله تعالى قولاً باختصار :
فنقول وبالله تعالى التوفيق : لكل من حدّ في عدد نقلة خبر التواتر حداً لا يكون أقل منه يوجب تيقن صدقه ضرورة من سبعين أو عشرين ، أو عدد لا نحصيهم ، وإن كان في ذاته محصي ذا عدد محدود ، أو أهل المشرق والمغرب ، ولا سبيل إلى لقائه ولا لقاء أحد لهم كلهم ، ولا بد له من الاقتصار على بعضهم دون بعض بالضرورة ، ولا بد من أن يكون لذلك التواتر الذي يدعونه في ذاته عدد إن نقص منه واحد لم يكن متواتراً ، وإلا فقد ادعوا ما لا يعرف أبداً ولا يعقل .
فإذن لا بد من تحديد عدد ضرورة .
فنقول لهم : ما تقولون إن سقط من هذا الحد الذي حددتم واحد ، أيبطل سقوط ذلك الواحد قبول ذلك الخبر أم لا يبطله ؟
فإن قال : يبطله ، تحكم بلا برهان ، وكل قول بمجرد الدعوى بلا برهان فهو مطروح ساقط ، فإن قال بقبوله أسقطنا له آخر ثم آخر ، حتى يبلغ إلى واحد فقط، وإن حد عدداً سئل عن الدليل على ذلك فلا سبيل له إليه البتة .
وأيضاً فإنه ما في القول فرق بين ما نقله عشرون وبين ما نقله تسعة عشر ، ولا بين ما نقله سبعون ولا ما نقله تسعة وستون ، وليس ذكر هذه الأعداد في القرآن وفي القسامة وفي بعض الأحوال وفي بعض الأخبار بموجب ألا يقبل أقل منها في الأخبار ، وقد ذكر تعالى في القرآن أعداداً غير هذه ، فذكر تعالى الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة والمائة ألف وغير ذلك ، ولا فرق بين ما تعلق بعدد منها وبين ما تعلق بعدد آخر منها ، ولم يأت من هذه الأعداد في القرآن شيء في باب قبول الأخبار ولا في قيام حجة بهم ، فصارف ذكرها إلى ما لم يقصد بها مجرم وقاح محرف للكلم عن مواضعه .
وإن قال: لا يبطل قبول الخبر بسقوط واحد من العدد الذي حدّ كان قد ترك مذهبه الفاسد ، ثم سألناه عن إسقاط آخر أيضاً مما بقي من ذلك العدد ، وهكذا حتى يبعد عما حد بعداً شديداً ، فإن نظروا هذا بما يمكن حدّه من الأشياء كانوا مدعين بلا دليل ، ومشبهين بلا برهان، وحكم كل شيء يجعله المرء ديناً له أن ينظر في حدوده ويطلبها ، إلا ما أصبح إجماع أو نص أو أوجبت طبيعة ترك طلب حده ، وقد قال بعضهم: لا يقبل من الأخبار إلا ما نقلته جماعة لا يحصرها العدد .
قال أبو محمد : وهذا قول من غمره الجهل ، لأنه ليس هذا موجداً في العالم أصلاً ، وكل ما فيه فقد حصره العدد وإن لم نعلمه نحن ، وإحصاؤه ممكن لمن تكلف ذلك ، فعلى هذا القول الفاسد قد سقط قبول جميع الأخبار جملة وسقط كون النبي ﷺ في العالم وهذا كفر .
وأيضاً فيلزم هؤلاء وكل من حد في عدد من لا تصح الأخبار بأقل من نقل ذلك العدد أمر فظيع يدفعه العقل ببديهته ، وهو ألا يصح عندهم كل أمر يشهده أقل من العدد الذي حدوا ، وألا يصح عندهم كل أمر حصره عدد من الناس ، وكل أمر لم يحصره أهل المشرق والمغرب ، فتبطل الأخبار كلها ضرورة على حكم هذه الأقوال الفاسدة ، وهم يعرفون بضرورة حسهم صدق أخبار كثيرة من موت وولادة ونكاح وعزل وولاية واغتفال منزل ، وخروج عدو شر واقع ، وسائر عوارض العالم مما لا يشهده الا النفر اليسير ، ومن خالف هذا فقد كابر عقله ولم يصح عنده شيء مما ذكرنا أبداً ، لا سيما إن كان ساكناً في قرية ليس فيها إلا عدد يسير ، مع أنه لا سبيل له إلى لقاء أهل المشرق والمغرب .
قال أبو محمد : فإن سألنا سائل ، فقال : ما حدّ الخبر الذي يوجب الضرورة ؟
فالجواب وباللَّه تعالى التوفيق أننا نقول : إن الواحد من غير الأنبياء المعصومين بالبراهين عليهم السلام قد يجوز عليه تعمد الكذب ، يعلم ذلك بضرورة الحس ، وقد يجوز على جماعة كثيرة أن يتواطؤوا على كذبة إذا اجتمعوا ورغبوا أو رهبوا .
ولكن ذلك لا يخفى من قبلهم ، بل يعلم اتفاقهم على ذلك الكذب بخبرهم إذا تفرقوا لا بد من ذلك .
ولكنا نقول إذا جاء اثنان فأكثر من ذلك ، وقد تيقنا أنهما لم يلتقيا ، ولا دسسا ، ولا كانت لهما رغبة فيما أخبر به ، ولا رهبة منه ، ولم يعلم أحدهما بالآخر ، فحدث كل واحد منهما مفترقاً عن صاحبه بحديث طويل لا يمكن أن يتفق خاطر اثنين على توليد مثله ، وذكر كل واحد منهما مشاهدة أو لقاء لجماعة شاهدت أو أخبرت عن مثلها بأنها شاهدت ، فهو خبر صدق يضطر بلا شك من سمعه إلى تصديقه ويقطع على غيبه .
وهذا الذي قلنا يعلمه حسّاً من تدبره ورعاه فيما يرده كل يوم من أخبار زمانه من موت أو ولادة أو نكاح أو عزل أو ولاية أو وقعة وغير ذلك ، وإنما خفي ما ذكرنا على من خفي عليه لقلة مراعاته يمر به ، ولو أنك تكلف إنساناً واحداً اختراع حديث طويل كاذب لقدر عليه ، يعلم ذلك بضرورة المشاهدة ، فلو أدخلت اثنين في بيتين لا يلتقيان ، وكلفت كل واحد منهما توليد حديث كاذب لما جاز بوجه من الوجوه أن يتفقا فيه من أوله إلى آخره .
هذا ما لا سبيل إليه بوجه من الوجوه أصلاً ، وقد يقع في الندرة التي لم نكد نشاهدها اتفاق الخواطر على الكلمات اليسيرة ، والكلمتين نحو ذلك . والذي شاهدنا اتفاق شاعرين في نصف بيت ، شاهدنا ذلك مرتين من عمرنا فقط.
وأخبرني من لا أثق به : أن خاطره وافق خاطر شاعر آخر في بيت كامل واحد ، ولست أعلم ذلك صحيحاً .
وأما الذي لا أشك فيه وهو ممتنع في العقل ، فاتفاقهما في قصيدة بل في بيتين فصاعداً .
والشعر نوع من أنواع الكلام ، ولكل كلام تأليف ما ، والذي ذكره المتكلمون في الأشعار من الفصل الذي سموه المواردة ، وذكروا أن خواطر شعراء اتفقت في عدة أبيات ، فأحاديث مفتعلة لا تصح أصلاً ولا تتصل .
وما هي إلا سراقات وغارات من بعض الشعراء على بعض .
قال أبو محمد : وقد يضطر خبر الواحد إلى العلم بصحته إلا أن اضطراره ليس بمطرد ، ولا في وقت ولكن على قدر ما يتهيأ . وقد بيّنا ذلك في كتاب الفضل .
قال أبو محمد : فهذا قسم.
قال أبو محمد : القسم الثاني من الأخبار ما نقله الواحد عن الواحد ، فهذا إذا اتصل برواية العدول إلى رسول الله ﷺ وجب العمل به ، ووجب العلم بصحته أيضاً ، وبين هذا وبين شهادة العدول فرق نذكره إن شاء الله تعالى ، وهو قول الحارث بن أسد المحاسبي ، والحسين بن علي الكرابيسي .
وقد قال به أبو سليمان ، وذكره ابن خويز منداد عن مالك بن أنس .
والبرهان على صحة وجوب قبوله قول الله عز وجل : {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } فأوجب الله تعالى على كل فرقة نذارة النافر منها بأمره بالنفقة وبالنذارة ، ومن أمره الله تعالى بالتفقه في الدين وإنذار قومه ، فقد انطوى في هذا الأمر إيجاب قبول نذارته على من أمره بإنذارهم .
والطائفة في لغة العرب التي بها خوطبنا يقع على الواحد فصاعداً ، وطائفة من الشيء بمعنى بعضه هذا ما لا خلاف بين أهل اللغة فيه ، وإنما حدّ من حد في قوله تعالى : {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } 0 1 2 3 4 (النور: 2) .
أنهم أربعة لدليل ادعاه ، وكان بذلك ناقضاً لمعهود اللغة ، ولم يدع قط قائل ذلك القول أن الطائفة في اللغة لا تقع إلا على أربعة.
وأما نحن فاللازم عندنا أن يشهد عذاب الزنى واحد على ما نعرف من معنى الطائفة ، فإن شهد اكثر فذلك مباح والواحد يجزي .
وبرهان آخر ، وهو أن رسول الله ﷺ بعث رسولاً إلى كل ملك من ملوك الأرض المجاورين لبلاد العرب ، وقد اعترض بعض من يخالفنا في ذلك بأن قال : إن الرفاق والتجار ، وردوا بأمر النبي ﷺ فلم يقتصر بذلك على الرسول وحده .
قال أبو محمد : وهذا شغب وتمويه لا يجوز إلا على ضعيف ، ونحن لا نشك أن النبي ﷺ لم يقتصر بالرسل المذكورين على الإخبار بظهوره ومعجزاته المنقولة بخير الرفاق والسفار ، بل أمرهم بتعليم من أسلم شرائع الإسلام ومسائل العبادات والأحكام ، ليس من شيء من ذلك منقولاً على ألسنة الرفاق والسفار ، وبعثه هؤلاء الرسل مشهورة بلا خوف، منقولة نقل الكواف .
فقد ألزم النبي ﷺ كل ملك . ورعيته قبول ما أخبرهم به الرسول الموجه نحوهم من شرائع دينهم.
قال أبو محمد : وكذلك بعث رسول الله ﷺ معاذاً إلى الجَنَد وجهات من اليمن .
وأبا موسى إلى جهة أخرى ، وهي زبيد وغيرها ، وأبا بكر على الموسم مقيماً للناس حجهم ، وأبا عبيدة إلى نجران ، وعليّاً قاضياً إلى اليمن ، وكل من هؤلاء مضى إلى جهة مّا ، معلماً لهم شرائع الإسلام ، وكذلك بعث أميراً إلى كل جهة أسلمت ، بعدت منه أو قربت، كأقصى اليمن والبحرين وسائر الجهات والأحياء والقبائل التي أسلمت ، بعث إلى كل طائفة رجلاً معلماً لهم دينهم ، ومعلماً لهم القرآن ، ومفتياً لهم في أحكام دينهم ، وقاضياً فيما وقع بينهم ، وناقلاً إليهم ما يلزمهم عن الله تعالى ورسوله ﷺ وهم مأمورون بقبول ما يخبرونهم به على نبيهم ﷺ.
وبَعْثه هؤلاء المذكورين مشهورة بنقل التواتر من كافر ومؤمن ، لا يشك فيها أحد من العلماء ولا من المسلمين ، ولا في أن بعثهم إنما كانت لما ذكرنا من المحال الباطل الممتنع أن يبعث إليهم رسول الله ﷺ من لا تقوم عليهم الحجة بتبليغه ، ومن لا يلزمهم قبول ما علموهم من القرآن وأحكام الدين .
وما أفتوهم به في الشريعة ، ومن لا يجب عليهم الانقياد لما أخبروهم به من كل ذلك عن رسول الله ﷺ ، إذ لو كان ذلك لكانت بعثته لهم فضولاً ، ولكان ﷺ قائلاً للمسلمين : بعثت إليكم من لا يجب عليكم أن تقبلوا منه ما بلغكم عني ، ومن حكمكم ألا تلتفتوا إلى ما نقل إليكم عني وألا تسمعوا منه ما أخبركم به عني ، ومن قال بهذا فقد فارق الإِسلام .
وكذلك من نشأ في قرية أو مدينة ليس بها إلا مقرىء واحد ، أو محدث واحد ، أو مفت واحد ، فنقول لمن خالفنا : ماذا تقولون ؟ أيلزمه إذا قرأ القرآن على ذلك المقرىء أن يؤمن بما أقرأه ، وأن يصدق بأنه كلام الله تعالى ، ويثبت على ذلك أم عليه أن يشك ، ولا يصدق بأنه كلام الله عز وجل ؟
فإن قالوا: يلزمه الإِقرار بأنه كلام الله تعالى .
قلنا: صدقتم ، فأي فرق بين نقلهم للقرآن وبين نقلهم لسائر السنن ، وكلاهما من عند الله تعالى ، وكلاهما فرض قبوله ؟
وإن قالوا: عليه أن يشك فيه حتى يلقى الكواف، أتوا بعظيمة في الدين.
ونسألهم حينئذ فيمن لقي من ذلك اثنين أو ثلاثة أو أربعة ، فلا بد لهم من حد يقفون عنده من العدد ، فيكون قولهم سخريًّا وباطلاً ، ودعوى بلا برهان ، أو يحيلوا على معدوم فيما لا يصح على قولهم قبول القرآن والدين إلا به ، وفي هذا إبطال للدين والقرآن جملة ، والمنع من اعتمادهما ، ونعوذ باللَّه من هذا ، وهكذا القول في وجوب طاعة من أخذ عن أولئك الرسل قرآناً أو سنَّة وبلغ ذلك إلى غيره ، ولأنها بلاد واسعة لا سبيل لكل واحد من أولئك الرسل إلى لقاء جميعهم من رجل وامرأة ، لكن يبلغ ويبلغ من بلغه هو وهكذا أبداً لئلا يقول جاهل هذا خصوص لأولئك الرسل .
وقال تعالى : {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } .
قال أبو محمد : لا يخلو النافر للتفقه في الدين من أن يكون عدلاً أو فاسقاً ولا سبيل إلى قسم ثالث، فإن كان فاسقاً فقد أمرنا بالتبين في أمره وخبره من غير جهته فأوجب ذلك سقوط قبوله ، فلم يبق إلا العدل. فكان هو المأمور بقبول نذارته.
قال أبو محمد : وهذا برهان ضروري لا محيد عنه رافع للإِشكال والشك جملة .
وقد بيّنا هذا النوع من البرهان في كتابنا في حدود الكلام المعروف بالتقريب .
قال أبو محمد : وقد توهم من لا يعلم أنا إنما أوجبنا قبول خبر العدل من قوله تعالى : {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } فقط .
قال أبو محمد : وقد أغفل من تأول علينا ذلك ، ولو لم تكن إلا هذه الآية وحدها لما كان فيها ما يدل على قبول خبر العدل ولا على المنع من قبوله ، بل إنما منع فيها من قبول خبر الفاسق فقط وكان يبقى خبر العدل موقوفاً على دليله ، ولكن لما استفاضت هذه الآية التي فيها المنع من قبول خبر الفاسق إلى الآية التي فيها قبول نذارة النافر للتفقه ، صارتا مقدمتين أنتجتا قبول خبر الواحد العدل دون الفاسق بضرورة البرهان وباللَّه تعالى التوفيق .
قال أبو محمد : وقد أوجب الله تعالى على كل طائفة إنذار قومها ، وأوجب على قومها قبول نذارتهم بقوله تعالى : {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ }
فقد حذر تعالى من مخالفة نذارة الطائفة والطائفة في اللغة تقع على بعض الشيء كما قدمنا ولا يختلف اثنان من المسلمين في أن مسلماً ثقة لو دخل أرض الكفر فدعا قوماً إلى الإِسلام وتلا عليهم القرآن وعلمهم الشرائع لكان لازماً لهم قبوله ، ولكانت الحجة عليهم بذلك قائمة .
وكذلك لو بعث الخليفة أو الأمير رسولاً إلى ملك من ملوك الكفر ، أو إلى أمة من أمم الكفر، ويدعوهم إلى الإِسلام ويعلمهم القرآن وشرائع الدين ، ولا فرق .
وما قال قط مسلم إنه كان حكم أهل اليمن أن يقولوا لمعاذ ولمن بعثه عليه السلام إلى كل ناحية معلماً ومفتياً ومقرئاً.
نعم أنت رسول رسول الله ﷺ وعقد الإِيمان حق عندنا .
ولكن ما أفتيتنا به وعلمتنا من أحكام الصلاة ونوازل الزكاة وسائر الديانة عن النبي ﷺ وما أقرأتنا من القرآن عنه ﷺ , فلا نقبله منك ولا نأخذه عنك ، لأن الكذب جائز عليك ، ومتوهم منك ، حتى يأتينا لكل ذلك كواف وتواتر .
بل لو قالوا ذلك لكانوا غير مسلمين .
وكذلك لا يختلف اثنان في أن رسول الله ﷺ إنما بعث من بعث من رسله إلى الآفاق لينقلوا إليهم عنه القرآن ، والسنن وشرائع الدين ؛ وأنه ﷺ لم يبعثهم إليه ليشرعوا لهم ديناً لم يأت هو به عن الله تعالى ، فصح بهذا كله أن كل ما نقله الثقة عن الثقة مبلغاً إلى رسول الله ﷺ من قرآن أو سنّة ففرض قبوله ، والإقرار به والتصديق به، واعتقاده والتدين به، وأن كل ما صح عن صاحب أو تابع أو من دونهم من قراءة لم تستند إلى النبي ﷺ أو من فتيا لم تسند إليه ، فلا يحل قبول شيء من ذلك لأنه لم يوجبه الله تعالى ولا رسوله ﷺ ، وكل ذلك قد صح عن الواحد بعد الواحد من الصحابة والتابعين ، وليس فضلهم بموجب قبول آرائهم ، ولا بمانع أن يهموا فيما قالوه بظنهم ، لكن فضلهم معف على كل خطأ كان منهم ، وراجح به ، وموجب تعظيمهم وحبهم وباللَّه تعالى التوفيق .
وبرهان آخر: وهو أنه قد صح يقيناً وعلم ضرورة أن جميع الصحابة أولهم عن آخرهم قد اتفقوا دون اختلاف من أحد منهم ، ولا من أحد من التابعين الذين كانوا في عصرهم ، على أن كل أحد منهم كان إذا نزلت به النازلة سأل الصاحب عنها وأخذ بقوله فيها ، وإنما كانوا يسألونه عما أوجبه النبي ﷺ عن الله تعالى في الدين في هذه القصة ، ولم يسأل قط أحد منهم إحداث شرع في الدين لم يأذن به الله تعالى ، وهكذا كل من بعدهم جيلاً فجيلاً لا نحاشي أحداً ، ولا خلاف بين مؤمن ولا كافر قطعاً في أن كل صاحب وكل تابع سأله مستفت عن نازلة في الدين ، فإنه لم يقل له قط : لا يجوز لك أن تعمل بما أخبرتك به عن رسول الله ﷺ حتى يخبرك بذلك الكواف كما قالوا لهم فيما أخبروا به : أنه رأى منهم فلم يلزموهم قبوله .
فإن قيل : فاجعل هذه الحجة نفسها حجة في قبول المرسل .
قلنا : ليس كذلك لأنه لم يصح الإِجماع قط، لا قديماً ولا حديثاً على قبول المرسل ، بل في التابعين من لم يقبله كالزهري وغيره ، يسألون من أخبرهم عمن أخبرهم حتى يبلغوه إلى النبي ﷺ ، وإنما سقط ذلك عمن ليس في قوته فهم الإِسناد ومعرفته فقط ، وقد قال الزهري لأهل الشام : ما لي أرى أحاديثكم لا خطم لها ولا أزمَّة ، فصاروا حينئذ إلى قوله ، وغير الزهري أيضاً كثير .
فصح بهذا إجماع الأمة كلها على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي ﷺ ، وأيضاً فإن جميع أهل الإِسلام كانوا على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي ﷺ ؛ يجزي على ذلك كل فرقة في علمها كأهل السنّة والخوارج والشيعة والقدرية حتى حدث متكلمو المعتزلة بعد المائة من التاريخ فخالفوا الإِجماع في ذلك ، ولقد كان عمرو بن عبيد يتدين بما يروي عن الحسن ويفتي به هذا أمر لا يجهله من له أقل علم .
وبرهان آخر : وهو أنه عدد محصور فالتواطؤ جائز عليهم وممكن منهم ؛ ولا خلاف بين كل ذي علم بشيء من أخبار الدنيا ، مؤمنهم وكافرهم ؛ أن النبي ﷺ كان بالمدينة وأصحابه رضي اللـه عنهم مشاغيل في المعاش ، وتعذر القوت عليهم لجهد العيش بالحجاز ، وأنه ﷺ كان يفتي بالفتيا ، ويحكم بحضرة من حضره من أصحابه فقط ، وإن الحجة إنما قامت على سائر من لم يحضره ﷺ بنقل من حضره وهم واحد واثنان ، وفي الجملة عدد لا يمتنع من مثلـهم بالتواطؤ عند خصومنا ، فإذ جميع الشرائع إلا الأقل منها راجعة إلى هذه الصفة من النقل ، وقد صح الإِجماع من الصدر الأول كلـهم ، نعم وممن بعدهم على قبول خبر الواحد ، لأنها كلـها راجعة إليه وإلى ما كان في معناه ، وهذا برهان ضروري، وباللَّه تعالى التوفيق .
وبالضرورة نعلم أن النبي ﷺ لم يكن إذا أفتى بالفتيا أو إذا حكم بالحكم يجمع لذلك جميع من بالمدينة ، هذا ما لا شك فيه ، لكنه ﷺ كان يقتصر على من بحضرته ، ويرى أن الحجة بمن يحضره قائماً على من غاب ، هذا ما لا يقدر على دفعه ذو حس سليم ، وباللَّه تعالى التوفيق .
قال أبو محمد : وأقوى ما شغب به من أنكر قبول خبر الواحد أن نزع بقول اللـه تعالى : {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } .
قال أبو محمد : وهذه الآية حجة لنا عليهم في هذه المسألة ، لأنا لم نقف ما ليس لنا به علم ، بل ما قد صح لنا به العلم ، وقام البرهان على وجوب قبولـه ، وصح العلم بلزوم اتباعه والعمل به ، فسقط اعتراضهم بهذه الآية ، والحمد للـه رب العالمين .
وقال بعضهم : أنتم لا تقبلون الواحد في فلس فكيف تقبلونه في إثبات الشرائع ؟
قال أبو محمد : هذا السؤال لا يلزمنا ، لأننا لا نقيس شريعة على شريعة ، ولا نتعدى ما جاءت به النصوص وثبت في القرآن والسنن ، فصح البرهان كما ذكرنا بقبول خبر الواحد في العبادات والشرائع وقبول القرآن فقلنا به ، وصح الخبر بقبول المرأة الواحدة في أوضاع فقلنا به ، وصح الخبر بقبول الواحد مع اليمين فيما عدا الحدود فقلنا به ، وصح الخبر والنص بقبول الرجلين أو الرجل والمرأتين فيما عدا الزنى فقلنا به ، وصح النص بقبول أربعة في الزنى فقلنا به ، ولم نعارض شريعة بشريعة ولا تعقبنا على ربنا عز وجل ، ونحن وهم نقبل في إباحة الدم الحرام من المسلم الفاضل ، والفرج الحرام من المسلمة الفاضلة ، والبشرة المحرمة في جلد ثمانين في القذف ، وفي قطع اليد والرجل رجلين ، ولا نقبلـهما فيما يوجب إلا خمسين جلدة من زنى الأمَة ، لا على مؤمنة ولا على كافر ، فأين هم عن هذا الاعتراض الفاسد لو عقلوا وهم يقعوا تحت إنكار ربهم تعالى عليهم إذ يقول : {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } .
وقد قال بعض المتحكمين في الدين بقلة الورع ممن يدعي أنه من أهل القول ، بقبول السنن من طرق الآحاد : إن الخبر إذا كان مما يعظم به البلوى لم يقبل فيه خبر الواحد ، ومثل ذلك بعضهم بالآثار المروية في الأذان والإقامة ، وقال : إن الأذان والإقامة كانا بالمدينة بحضرة الأئمة من الصحابة رضي الله عنهم خمس مرات كل يوم ، فهذا مما تعظم به البلوى ، فمحال أن يعرف حكمه الواحد ، ويجهله الجماعة ، ومثل ذلك بعضهم أيضاً بخبر الوضوء من مس الذكر .
قال أبو محمد : وهذا كلام فاسد متناقض ، أول ذلك أن الدين كله تعظم به البلوى ، ويلزم للناس معرفته ، وليس هذا ما وقع في الدهر مرة من أمر الطهارة والحج أوجب في أنه فرض أو حرام مما يقع في كل يوم ، ولا يفرق بين ذلك إلا جاهل أو من لا يبالي بما تكلم، ويقال له في الأذان الذي ذكر : لا فرق بين أذان المؤذن بالمدينة بحضرة عمر وعثمان رضي الله عنهما خمس مرات كل يوم ، وبين أذان المؤذن بالكوفة بحضرة ابن مسعود وعلي خمس مرات كل يوم ، وليست نسبة الرضا بتبديل الأذان إلى علي وابن مسعود بأخف من نسبة ذلك إلى عمر وعثمان فبطل تمويه هذا الجاهل وبان تخليطه .
وكذلك الوضوء من مس الذكر ليست البلوى به بأعظم من البلوى بإيجاب الوضوء من الرعاف والقلس ، وقد أوجبه الحنفيون بخبر ساقط ولم يعرفه المالكيون ولاالشافعيون ، ولا البلوى أيضاً بذلك أعظم من البلوى بإيجاب الوضوء من المسة والقبلة للذة ، ومن إيجاب التدلك في الغسل وقد أوجبها المالكيون ، ولا يعرف ذلك الحنفيون ، ومثل هذا كثير جداً .
فإن قالوا : أوجبنا ذلك بالقرآن .
قيل لهم : قد عرف القرآن غيركم كما عرفتموه ، فما رأوا فيه ما ذكرتم مع عظيم البلوى به ، وقد بيّنا في كتابنا هذا أن مغيب السنة عمّن غاب عنه من صاحب أو غيره ليس حجة على من بلغته وإنما الحجة في السنة .
وقد غاب نسخ التطبق في الركوع عن ابن مسعود وهو مما تعظم به البلوى به ، ويتكرر على المسلم أكثر من بضع عشرة مرة في كل يوم وليلة ، وخفي على عمر رضي الله عنه أمر جزية المجوس ، والأمر في قبض رسول الله ﷺ لها من مجوس هجَر عاماً بعد عام ، وأبي بكر بعده عاماً بعد عام أشهر من الشمس ، ولم تكن فضلة قليلة ، بل قد ثبت أنه لم يقدم على رسول الله ﷺ مال أكثر منه على قلة المال هناك حينئذ، وخفي على عمر وابن عمر أيضاً الوضوء من المذي ، وهو مما تعظم البلوى به ، وهذا كثير جداً ، ويكفي من هذا أن قول هذا القائل دعوى مجردة بلا دليل ، وما كان هكذا فهو باطل مطرح قال عز وجل : {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } ولا يجوز أن يعارض ما قد صح البرهان به من وجوب قبول السنن من طريق الآحاد بدعوى ساقطة فاسدة ، وبالله تعالى التوفيق .
وقال أيضاً بعض الحنفيين : ما كان من الأخبار زائداً على ما في القرآن أو ناسخاً له أو مخالفاً له لم يجز أخذه بخبر الواحد إلا حتى يأتي به التواتر .
قال أبو محمد : وهذا تقسيم باطل ودعوى كاذبة وحكم بلا برهان ، وما كان هكذا فهو ضلال لا يحل القول به .
ونقول لهم : أيجوز الأخذ بشيء من أخبار الآحاد في شيء من الشريعة أم لا ؟
فإن قالوا : لا ، كلمناهم بما قد فرغنا منه آنفاً وكانوا خارجين عن مذهبهم أيضاً .
وإن قالوا : نعم ، وهو قولهم .
قلنا لهم: من أين جوزتم أن يخبر عن النبي ﷺ به ، وأن يشرع به في دين الله عز وجل شريعة تضاف إليه في الصلاة والزكاة والصوم والحج وغير ذلك في الموضع الذي أجزيتموه فيه ، ثم منعتم من قوله حيث هو بزعمك زائد على ما في القرآن أو ناسخ له ، فلا سبيل إلى فرق أصلاً .
وأما قولهم : مخالف الأصول ، فكلام فاسد فارغ من المعنى واقع على ما لا يعقل، لأن خبر الواحد الثقة المسند أصل من أصول الدين ، وليس سائر الأصول أولى بالقبول منه ولا يجوز أن تتنافى أصول الدين ، حاشا لله من هذا .
ثم نقول : اعلموا أن كل خبر روي عن رسول الله ﷺ رواية صحيحة مسندة فإنه ولا بد زائد حكم على ما في القرآن ، أو أتي بما في نص القرآن لا بد من أحد الوجهين فيه . والزائد حكماً على ما في القرآن ينقسم قسمين :
إما جاء بما لم يذكر في القرآن كغسل الرجلين في الوضوء ، وكرجم المحصن ، ونحو ما أخذوا به من إباحة صوم رمضان للمسافر ، ومن إيجاب الوضوء من القهقهة في الصلاة ، ومن الوضوء بالنبيذ ، ومن القلس والقيء والرعاف ، وكتخصيص ظاهر القرآن ، كعدد ما لا يقطع السارق في أقل منه ، وما لا يحرم من الرضاع أقل منه فهذا أيضاً زائد حكم على ما في القرآن ، ومثله ما بين مجمل القرآن كصفة الصلاة وصفة الزكاة وسائر ما جاءت به السنن فهو زائد حكم على ما في القرآن .
فمن أين جوزتم أخذ الزائد على ما في القرآن كما ذكرنا حيث اشتهيتم، ومنعتم منه حيث اشتهيتم ، وهذا ضلال لا خفاء به وكل ما وجب العمل به في الشريعة فهو واجب أبداً في كل حال ، وفي كل موضع إلا أن يأتي نص قرآني أو سنة بالمنع من بعض ذلك فيوقف عنده .
وأما بالآراء المضلة والأهواء السخيفة فلا ، على أنهم آخذ الناس بخلاف القرآن برأي فاسد أو قياس سخيف أو خبر ساقط كالوضوء من القهقهة وسائر تلك الأخبار الفاسدة .
وتأملوا ما نقول لكم : قد أجمعوا معنا على قبول ما جاء به رسول الله ﷺ من نسخ للقرآن أو زيادة عليه ، واتفقوا معنا على أن خبر الواحد الثقة عن مثله مسنداً حجة في الدين ، ثم تناقضوا كما ذكرنا بلا برهان ونعوذ بالله من الخذلان ، وقد ثبت عن أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وداود رضي الله عنهم وجوب القول بخبر الواحد ، وهذا حجة على من قلد أحدهم في وجوب القول بخبر الواحد ، وإن خالف من قلده من بعض من ذكرنا خطأ وتناقضاً لا يعزى منه بشر بعد رسول الله ﷺ وبالله تعالى التوفيق .
ومن البرهان في قبول خبر الواحد : خبر الله تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال له رجل : {وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يمُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ } فصدقه وخرج فاراً وتصديقه المرأة في قولها: {فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَآءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }
فمضى معها وصدقها ، وبالله تعالى التوفيق .
======
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/فصل هل يوجب خبر الواحد العدل العلم مع العمل أو العمل دون العلم؟
فصل هل يوجب خبر الواحد العدل العلم مع العمل أو العمل دون العلم ؟
قال أبو محمد : قال أبو سليمان والحسين ، عن أبي علي الكرابيسي ، والحارث بن أسد المحاسبي وغيرهم ، أن خبر الواحد العدل عن مثله إلى رسول الله ﷺ يوجب العلم والعمل معاً ،
وبهذا نقول : وقد ذكر هذا القول أحمد بن إسحاق المعروف بابن خويز منداد ، عن مالك بن أنس .
وقال الحنفيون والشافعيون وجمهور المالكيين وجميع المعتزلة والخوارج : إن خبر الواحد لا يوجب العلم، ومعنى هذا عند جميعهم أنه قد يمكن أن يكون كذباً أو موهوماً فيه، واتفقوا كلهم في هذا، وسوى بعضهم بين المسند والمرسل.
وقال بعضهم : المرسل لا يوجب علماً ولا عملاً ، وقد يمكن أن يكون حقاً وجعلت المعتزلة والخوارج هذا حجة لهم في ترك العمل به .
قالوا : ما جاز أن يكون كذباً أو خطأ فلا يحل الحكم به في دين الله عز وجل ، ولا أن يضاف إلى الله تعالى ولا إلى رسول الله ﷺ ، ولا يسع أحداً أن يدين به.
وقال سائر من ذكرنا : إنه يوجب العمل ، واحتج كل من ذكرنا بأن هذه صفة كل خبر واحد في جواز الكذب وتعمده وإمكان السهو فيه ، وإن لم يتعمد الكذب .
وقال أبو بكر بن كيسان الأصم البصري : لو أن مائة خبر مجموعة قد ثبت أنها كلها صحاح إلا واحداً منها لا يعرف بعينه أيها هو قال : فإن الواجب التوقف عن جميعها ، فكيف وكل خبر منها لا يقطع على أنه حق متيقن ، ولا يؤمن فيه الكذب والنسخ والغلط .
قال أبو محمد : أما احتجاج من احتج بأن صفة كل خبر واحد هي أنه يجوز عليه الكذب والوهم فهو كما قالوا ، إلا أن يأتي برهان حسي ضروري أو برهان منقول نقلاً يوجب العلم من نص ضروري على أن الله تعالى قد برأ بعض الأخبار من ذلك ، فيخرج بدليله عن أن يجوز فيه الكذب والوهم ، وقد وافقنا المعتزلة وكل من يخالفنا في هذا المكان على أن خبر النبي ﷺ في الشريعة لا يجوز فيه الكذب ولا الوهم لقيام الدليل على ذلك .
وقال أصحاب القياس : إن إجماع الأمة على القياس معصوم من الخطأ بخلاف إجماع سائر الملل لقيام دليل ادعوه في ذلك، وكما أجمعتم معنا على القطع ببراءة عائشة رضي الله عنها ، وخروج ما قذفت به عن الإمكان لقيام البرهان بذلك عند جميعكم وعندنا ، وقد ادعى الروافد منكم هذا في خبر الإمام ، فإن وجدنا نحن برهاناً على أن خبر الواحد المتصل إلى رسول الله ﷺ في أحكام الشريعة لا يجوز عليه الكذب ولا الوهم ، فقد صح قولنا وقولهم في أن خبر النبي ﷺ في الشريعة لا يجوز عليه الكذب والوهم ، وإن لم نجد برهاناً على ذلك فهو قولهم، وقد صح البرهان بذلك ، ولله الحمد على ما نذكره إن شاء الله تعالى .
وأما قول ابن كيسان فباطل لأنه دعوى بلا دليل ، بل الواجب حينئذ البحث عن الخبر الواهي والمنسوخ حتى يعرف فيجتنب ، وإلا فالعمل واجب ، لأن الأصل وجوب العمل بالسنن حتى يصح فيها بطلان أو نسخ ، وإلا فهي على البراءة من النسخ ومن الكذب والوهم حتى يصح في الخبر شيء من ذلك فيترك لقول الله تعالى : { أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ } ولقوله تعالى: {اتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ } ولقوله تعالى: { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } .
وقد علمنا أن في القرآن آيات منسوخة بلا شك لقوله تعالى : {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } وقد اختلف العلماء فيها :
فطائفة قالت في آية إنها منسوخة ، وطائفة قالت ليست منسوخة بل هي محكمة .
فما قال مسلم قط لا ابن كيسان ولا غيره : إن الواجب التوقف عن العمل بشيء من القرآن من أجل ذلك ، وخوفاً أن يعمل بمنسوخ لا يحل العمل به ، بل الواجب العمل بكل آية منه حتى يصح النسخ فيها فيترك العمل بها.
وقول ابن كيسان يوجب ترك الحق يقيناً ، ولا فرق بين ترك الحق يقيناً وبين العمل بالباطل يقيناً ، وكلاهما لا يحل ، فقد تعجل ابن كيسان لنفسه الذي فر عنه وأشد منه ، لأنه ترك الحق يقيناً خوف أن يقع في خطأ لعله لا يقع فيه ، وهذا كما ترى .
قال أبو محمد : وهذا حين نأخذ إن شاء الله تعالى في إيراد البراهين على أن خبر الواحد العدل المتصل إلى رسول الله ﷺ في أحكام الشريعة يوجب العلم ، ولا يجوز فيه البتة الكذب ولا الوهم .
فنقول وبالله تعالى التوفيق : قال الله عز وجل عن نبيه ﷺ : {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } وقال تعالى آمراً لنبيه ﷺ أن يقول : {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } وقال تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } وقال تعالى : {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } .
فصح أن كلام رسول الله ﷺ كله في الدين وحي من عند الله عز وجل، لا شك في ذلك ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة في أن كل وحي نزل من عند الله تعالى فهو ذكر منزل ، فالوحي كله محفوظ بحفظ الله تعالى له بيقين ، وكل ما تكفل الله بحفظه فمضمون ألا يضيع منه وألا يحرف منه شيء أبداً تحريفاً لا يأتي البيان ببطلانه ، إذ لو جاز غير ذلك لكان كلام الله تعالى كذباً وضمانه خائساً ، وهذا لا يخطر ببال ذي مسكة عقل ، فوجب أن الذي أتانا به محمد ﷺ محفوظ بتولي الله تعالى حفظه ، مبلغ كما هو إلى كل ما طلبه مما يأتي أبداً إلى انقضاء الدنيا قال تعالى : {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } .
فإذ ذلك كذلك فبالضروري ندري أنه لا سبيل البتة إلى ضياع شيء قاله رسول الله ﷺ في الدين ، ولا سبيل البتة إلى أن يختلط به باطل موضوع اختلاطاً لا يتميز عن أحد من الناس بيقين ، إذ لو جاز ذلك لكان الذكر غير محفوظ ، ولكان قول الله تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } كذباً ووعداً مخلفاً وهذا لا يقوله مسلم .
فإن قال قائل : إنما عنى تعالى بذلك القرآن وحده ، فهو الذي ضمن تعالى حفظه لسائر الوحي الذي ليس قرآناً.
قلنا له وبالله تعالى التوفيق: هذه دعوى كاذبة مجردة من البرهان، وتخصيص للذكر بلا دليل ، وما كان هكذا فهو باطل لقوله تعالى : {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } .
فصح أن لا برهان له على دعواه ، فليس بصادق فيها ، والذكر اسم واقع على كل ما أنزل الله على نبيه ﷺ من قرآن أو من سنَّة وحي يبين بها القرآن ، وأيضاً فإن الله تعالى يقول : {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } فصح أنه ﷺ مأمور ببيان القرآن للناس .
وفي القرآن مجمل كثير كالصلاة والزكاة والحج وغير ذلك مما لا نعلم ما ألزمنا الله تعالى فيه بلفظه ، لكن بيان رسول الله ﷺ فإذا كان بيانه ﷺ لذلك المجمل غير محفوظ ولا مضمون سلامته مما ليس منه ، فقد بطل الانتفاع بنص القرآن فبطلت أكثر الشرائع المفترضة علينا فيه ، فإذا لم ندر صحيح مراد الله تعالى منها ، فما أخطأ فيه المخطىء أو تعمد فيه الكذب الكاذب ، ومعاذ الله من هذا ، وأيضاً نقول لمن قال : إن خبر الواحد العدل عن مثله مبلغاً إلى النبي ﷺ لا يوجب العلم ، وإنما يجوز فيه الكذب والوهم ، وأنه غير مضمون الحفظ : أخبرونا هل يمكن عندكم أن تكون شريعة فرض أو تحريم أتى بها رسول الله ﷺ ومات وهي باقية لازمة للمسلمين غير منسوخة ، فجهلت حتى لا يعملها علم يقين أحد من أهل الإسلام في العالم أبداً ، وهل يمكن عندكم أن يكون حكم موضوع بالكذب أو بخطأ بالوهم قد جاز ومضى واختلط بأحكام الشريعة اختلاطاً لا يجوز أن يميزه أحد من أهل الإسلام في العالم أبداً ، أم لا يمكن عندكم شيء من هذين الوجهين ؟ .
فإن قالوا : لا يمكنان أبداً ، بل قد أمّنا ذلك ، صاروا إلى قولنا وقطعوا أن كل خبر رواه الثقة عن الثقة مسنداً إلى رسول الله ﷺ في الديانة ، فإنه حق قد قاله ﷺ كما هو، وأنه يوجب العلم ونقطع بصحته ، ولا يجوز أن يختلط به خبر موضوع أو موهوم فيه لم يقله رسول الله ﷺ قط اختلاطاً لا يتميز فيه الباطل من الحق أبداً .
وإن قالوا : بل كل ذلك ممكن كانوا قد حكموا بأن الدين دين الإسلام قد فسد وبطل أكثره ، واختلط ما أمر الله تعالى به مع ما لم يأمر به اختلاطاً لا يميزه أحد أبداً ، وأنهم لا يدرون أبداً ما أمرهم به الله تعالى مما لم يأمرهم به ، ولا ما وضعه الكاذبون والمستخفون مما جاء به رسول الله ﷺ إلا بالظن الذي هو أكذب الحديث ، والذي لا يغني من الحق شيئاً وهذا انسلاخ من الإسلام ، وهدم للدين ، وتشكيك في الشرائع . ثم نقول لهم : أخبرونا إن كان ذلك كله ممكناً عندكم ، فهل أمركم الله تعالى بالعمل بما رواه الثقات مسنداً إلى رسول الله ﷺ أو لم يأمركم بالعمل به ؟ ولا بد من أحدهما .
فإن قالوا : لم يأمرنا الله تعالى بذلك لحقوا بالمعتزلة ، وسيأتي جوابهم على هذا القول إن شاء الله تعالى .
وإن قالوا: بل أمرنا الله تعالى بالعمل بذلك .
قلنا لهم: فقد قلتم إن الله تعالى أمركم بالعمل في دينه بما لم يأمركم به مما وضعه الكذابون ، وأخطأ فيه الواهمون ، وأمركم بأن تنسبوا إليه تعالى وإلى نبيه ﷺ ما لم يأتكم به قط ، وما لم يقله الله تعالى قط ولا رسوله ﷺ .
وهذا قطع بأنه عز وجل أمر بالكذب عليه ، وافترض العمل بالباطل ، وبما ليس من الدين، وبما شرع الكذابون مما لم يأذن به الله تعالى وهذا عظيم جداً لا يستجيز القول به مسلم .
ثم نسألهم عما قالوا : إنه ممكن من سقوط بعض ما قاله رسول الله ﷺ من الحكم في الدين بإيجاب أو تحريم حتى لا يوجد عند أحد ، هل بقي علينا العمل به أم سقط عنا ؟ ولا بد من أحدهما .
فإن قالوا : بل هو باق علينا .
قلنا لهم : كيف يلزمنا العمل بما لا ندري وبما لم يبلغنا ولا يبلغنا أبداً. وهذا هو تحميل الإصر والحرج والعسر الذي قد آمننا الله تعالى منه.
وإن قالوا: بل سقط عنا العمل به .
قلنا لهم: فقد أجزتم نسخ شرائع من شرائع الإسلام مات رسول الله ﷺ وهي محكمة ثابتة لازمة ، فأخبرونا من الذي نسخها وأبطلها ، وقد مات وهي لازمة لنا غير منسوخة ؟ وهذا خلاف الإسلام والخروج منه جملة .
فإن قالوا : لا يجوز أن يسقط حكم شريعة مات رسول الله ﷺ وهو لازم لنا ولم ينسخ .
قلنا لهم : فمن أين أجزتم هذا النوع من الحفظ في الشريعة ؟ ولم تجيزوا تمام الحفظ للشريعة في ألا يختلط بها باطل لم يأمر الله تعالى به قط ، اختلاطاً لا يتميز معه الحق الذي أمر الله تعالى به من الباطل الذي لم يأمر به تعالى قط ؟
وهذا لا مخلص لهم منه ، ولا فرق بين من منع من سقوط شريعة حق وأجاز اختلاطها بالباطل ، وبين من منع من اختلاط الحق في الشريعة بالباطل ، وأجاز سقوط شريعة حق ، وكل هذا باطل لا يجوز البتة وممتنع قد أمنا كونه ولله الحمد ، وإذا صح هذا فقد ثبت يقيناً أن خبر الواحد قد أمنا كونه ولله الحمد وإذا صح هذا فقد ثبت يقيناً أن خبر الواحد العدل عن مثله مبلغاً إلى رسول الله ﷺ حق مقطوع به موجب للعمل والعلم معاً.
وأيضاً قال الله تعالى : {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } وقد قال تعالى : {يَـأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ }
نسألهم هل بيّن رسول الله ﷺ ما أنزل الله إليه أو لم يبين ؟ وهل بلغ ما أنزل الله إليه أو لم يبلغ ؟ ولا بد من أحدهما .
فمن قولهم إنه ﷺ قد بلغ ما أنزل الله إليه وبينه للناس ، وأقام به الحجة على من بلغه ، فنسألهم عن ذلك التبليغ .
وذلك البيان : أهما باقيان عندنا وإلى يوم القيامة ؟ أم هما غير باقيين ؟
فإن قالوا : بل هما باقيان وإلى يوم القيامة رجعوا إلى قولنا ، وأقروا أن الحق من كل ما أنزل الله تعالى في الدين مبين مما لم ينزله ، مبلغ إلينا وإلى يوم القيامة ، وهذا هو نص قولنا في أن خبر الواحد العدل عن مثله مسنداً إلى رسول الله ﷺ حق مقطوع على مبيّنه موجب للعلم والعمل .
وإن قالوا : بل هما غير باقين ، دخلوا في عظيمة وقطعوا بأن كثيراً من الدين قد بطل ، وإن التبليغ قد سقط في كثير من الشرائع ، وأن تبيين رسول الله ﷺ لكثير من الدين قد ذهب ذهاباً لا يوجد معه أبداً ، وهذا هو قول الروافض بل شر منه ، لأن الروافض ادعت أن حقيقة الدين موجودة عند إنسان مضمون كونه في العالم ، وهؤلاء أبطلوه من جميع العالم ، ونعوذ بالله من كلا القولين .
وأيضاً فإن الله تعالى قال : {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } وقال تعالى : {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنَزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى } وقال تعالى : {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً } وقال تعالى ذاماً لقوم قالوا : {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } وقال تعالى : {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ } .
وقد صح أن الله تعالى افترض علينا العمل بخبر الواحد الثقة عن مثله مبلغاً إلى رسول الله ﷺ ، وأن نقول أمر رسول الله ﷺ بكذا، وقال ﷺ كذا ، وفعل ﷺ كذا ، وحرم القول في دينه بالظن ، وحرم تعالى أن نقول عليه ﷺ إلا بعلم . فلو كان الخبر المذكور يجوز فيه الكذب ، أو الوهم لكنا قد أمرنا الله تعالى بأن نقول عليه ما لا نعلم ، ولكان تعالى قد أوجب علينا الحكم في الدين بالظن الذي لا نتيقنه ، والذي هو الباطل الذي لا يغني من الحق شيئاً ، والذي هو غير الهدى الذي جاءنا من عند الله تعالى ، وهذا هو الكذب والإفك والباطل الذي لا يحل القول به ، والذي حرم الله تعالى علينا أن نقول به ، وبالتخرص المحرم فصح يقيناً أن الخبر المذكور حق مقطوع على غيبه ، موجب للعلم والعمل معاً ، وبالله تعالى التوفيق .
وصار كل من يقول بإيجاب العمل بخبر الواحد ، وأنه مع ذلك ظن لا يقطع بصحة غيبه ، ولا يوجب العلم قائلاً بأن الله تعالى تعبدنا أن نقول عليه تعالى ما ليس لنا به علم ، وأن نحكم في ديننا بالظن الذي قد حرم تعالى علينا أن نحكم به في الدين ، وهذا عظيم جداً.
وأيضاً فإن الله تعالى يقول : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
وقال تعالى : {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } وقال تعالى : {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ } وقال تعالى : {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } .
قال أبو محمد : فنقول لمن جوز أن يكون ما أمر الله تعالى به نبيه ﷺ من بيان شريعة الإسلام لنا غير محفوظ ، وإنه يجوز فيه التبديل ، وأن يختلط بالكذب الموضوع اختلاطاً لا يتميز أبداً : أخبرونا عن إكمال الله ديناً ورضاه الإسلام لنا ديناً ، ومنعه تعالى من قبول كل دين حاشا الإسلام ، أكل ذلك باق علينا ولنا إلى يوم القيامة ؟ أم إنما كان ذلك للصحابة رضي الله عنهم فقط ؟ أم لا للصحابة ولا لنا ؟ ولا بد من أحد هذه الوجوه .
فإن قالوا : لا للصحابة ولا لنا ، كان قائل هذا القول كافراً لتكذيبه الله تعالى جهاراً وهذا لا يقوله مسلم .
وأن قالوا: بل كان كل ذلك باق لنا وعلينا إلى يوم القيامة صاروا إلى قولنا ضرورة، وصح أن شرائع الإسلام كلها كاملة، والنعمة بذلك علينا تامة، وأن دين الإسلام الذي ألزمنا الله تعالى اتباعه لأنه هو الدين عنده عز وجل متميز عن غيره الذي لا يقبله الله تعالى من أحد، وأننا ولله الحمد قد هدانا الله تعالى له، وأننا على يقين من أنه الحق وما عداه هو الباطل، وهذا برهان ضروري قاطع على أنه كل ما قاله رسول الله ﷺ في الدين ، وفي بيان ما يلزمنا محفوظ لا يختلط به أبداً ما لم يكن منه.
وإن قالوا: بل كان ذلك للصحابة رضي الله عنهم ، وليس ذلك لنا ولا علينا كانوا قد قالوا الباطل وخصصوا خطاب الله تعالى بدعوى كاذبة ، إذ خطابه تعالى بالآيات التي ذكرنا عموم لكل مسلم في الأبد ، ولزمهم مع هذه العظيمة أن دين الإسلام غير كامل عندنا ، وأنه تعالى رضي لنا منه ما لم ينبته علينا ، وألزمنا ما لا ندري أين نجده ، أو ألزمنا ما لم ينزله ، وافترض علينا اتباع ما كذبه الزنادقة والمستخفون ، ووضعوه على لسان رسوله ﷺ ، أو وهم فيه الواهمون مما لم يقله نبيه وهذا بيقين ليس هو دين الإسلام ، بل هو إبطال الإسلام جهاراً ، ولو كان هذا وقد أمنا ولله الحمد أن يكون لكان ديننا كدين اليهود والنصارى الذي أخبرنا الله تعالى أنهم كتبوا الكتاب وقالوا هو من عند الله .
قال أبو محمد : حاشا لله من هذا ، بل قد وثقنا بأن الله تعالى صدق في قوله : {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }
وأنه تعالى قد هدانا للحق فصح يقيناً أن كل ما قاله ﷺ فقد هدانا الله تعالى له ، وأنه الحق المقطوع عليه ، والعلم المتيقن الذي لا يمكن امتزاجه بالباطل أبداً .
قال أبو محمد : وقال بعضهم إذا انقطعت به الأسباب : خبر الواحد يوجب علماً ظاهراً .
قال أبو محمد : وهذا كلام لا يعقل ، وما علمنا علماً ظاهراً غير باطن ، ولا علماً باطناً ، غير ظاهر ، بل كل علم تيقن فهو ظاهر إلى من علمه وباطن في قلبه معاً . وكل ظن يتيقن فليس علماً أصلاً ، لا ظاهراً ولا باطناً ، بل هو ضلال وشك وظن محرم القول به في دين الله تعالى .
ونقول لهم : إذا جاز عندكم أن يكون كثير من دين الإسلام قد اختلط بالباطل ، فما يؤمنكم إذ ليس محفوظاً من أنه لعل كثيراً من الشرائع قد بطلت ، لأنها لم ينقلها أحد أصلاً ؟ فإن منعوا من ذلك لزمهم المنع من اختلاطها بما ليس منها ، لأن ضمان حفظ الله تعالى يقتضي الأمان من كل ذلك .
وأيضاً فإنه لا يشك أحد من المسلمين قطعاً في أن كل ما علمه رسول الله ﷺ أمته من شرائع الدين واجبها وحرامها ومباحها ، فإنها سنة الله تعالى ، وقد قال عز وجل : {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً } {اسْتِكْبَاراً فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّىءِ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ آلأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً } هذا نص كلامه تعالى .
وقد قال تعالى : {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } فلو جاء أن يكون ما نقله الثقات الذين افترض الله علينا قبول نقلهم والعمل به ، والقبول بأنه سنة الله تعالى وبيان نبيه ﷺ , يمكن في شيء منه التحويل أو التبديل ، لكان إخبار الله تعالى بأنه لا يوجد لهما تبديل ولا تحويل كذباً ، ولكانت كلماته كذباً ، وهذا ما لا يجيزه مسلم أصلاً ، فصح يقيناً لا شك فيه أن كل سُنّة سنّها الله تعالى من الدين لرسوله ﷺ . وسنّها رسوله ﷺ لأمته، فإنها لا يمكن في شيء منها تبديل ولا تحويل أبداً وهذا يوجب أن نقل الثقات في الدين يوجب العلم بأنه حق كما هو عند الله تعالى ، وقولنا ولله الحمد .
وأيضاً : فإنهم مجمعون معنا على أن رسول الله ﷺ معصوم من الله تعالى في البلاغ في الشريعة ، وعلى تكفير من قال ليس معصوماً في تبليغه الشريعة إلينا.
فنقول لهم : اخبرونا عن الفضيلة بالعصمة التي جعلها الله تعالى لرسوله ﷺ في تبليغه الشريعة التي بعث بها ؟ أهي له ﷺ في إخباره الصحابة بذلك فقط ؟ أم هي باقية لما أتى به ﷺ في بلوغه إلينا وإلى يوم القيامة ؟
فإن قالوا : بل هي له ﷺ مع من شاهده خاصة لا في بلوغ الدين إلى من بعدهم .
قلنا لهم : إذا جوزتم بطلان العصمة في تبليغ الدين بعد موته ﷺ ، وجوزتم وجود الداخلة والفساد والبطلان والزيادة والنقصان والتحريف في الدين ، فمن أين وقع لكم الفرق بين ما جوزتم من ذلك بعده ﷺ ؟ وبين ما منعتم من ذلك في حياته منه ﷺ ؟
فإن قالوا : لأنه كان يكون ﷺ غير مبلغ ما أمر به ، ولا معصوم ، والله تعالى يقول : {يَـأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } .
قيل لهم : نعم وهذا التبليغ المعترض عليه والذي هو فيه ﷺ معصوم بإجماعكم معنا من الكذب والوهم هو إلينا كما هو إلى الصحابة رضي الله عنهم ولا فرق ، والدين لازم لنا كما هو لازم لهم سواء بسواء فالعصمة واجبة في التبليغ للديانة باقية مضمونة ولا بد إلى يوم القيامة كما كانت قائمة عن الصحابة رضي الله عنهم سواء بسواء .
ومن أنكر هذا فقد قطع بأن الحجة علينا في الدين غير قائمة والحجة لا تقوم بما لا يدرى أحق هو أم باطل كذب ؟ .
ثم نقول لهم وكذلك قال تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }.
فإن ادعوا إجماعاً قلنا لهم : من الكرامية من يقول إنه عليه السلام غير معصوم في تبليغ الشريعة .
فإن قالوا: ليس هؤلاء ممن يعد في الإجماع .
قلنا: صدقتم ، ولا يعد في الإجماع .
من قال : إن الدين غير محفوظ ، وإن كثيراً من الشرائع التي أنزل الله تعالى قد بطلت واختلطت بالباطل الموضوع والموهوم فيه اختلاطاً لا يتميز معه الرشد من الغي ولا الحق من الباطل ولا دين الله تعالى من دين إبليس أبداً .
فإن قالوا : بل الفضيلة بعصمة ما أتى النبي به من الدين باقية إلى يوم القيامة صاروا إلى الحق الذي هو قولنا ولله تعالى الحمد.
فإن قالوا : فإنه صفة كل مخبر وطبيعته أن خبره يجوز فيه الصدق والكذب والخطأ ، وقولكم بأن خبر الواحد العدل في الشريعة موجب للعلم إحالة لطبيعة الخبر وطبيعة المخبرين ، وخرق لصفات كل ذلك وللعادة فيه .
قلنا لهم : لا ينكر من الله تعالى إحالة ما شاء من الطبائع إذا صح البرهان بأنه فعل الله تعالى ؛ والعجب من إنكاركم هذا مع قولكم به بعينه في إيجابكم عصمة النبي ﷺ من الكذب والوهم في تبليغه الشريعة ، وهذا هو الذي أنكرتم بعينه ، بل لم تقنعوا بالتناقض إذا أصبتم في ذلك وأخطأتم في منعكم من ذلك في خبر الواحد العدل ؛ حتى أتيتم بالباطل المحض إذ جوزتم على جميع الأمم موافقة الخطأ في إجماعها في رأيها ، وذلك طبيعة في الكل وصفة لهم ، ومنعتم من جواز الخطأ والوهم على ما ادعيتموه من إجماع الأمة من المسلمين خاصة في اجتهادها في القياس ، وحاشا لله أن تجمع الأمة على الباطل والقياس عين الباطل فخرقتم بذلك العادة وأحلتم الطبائع بلا برهان لا سيما إن كان المخالف لنا من المرجئة القاطعين بأنه لا يمكن أن يكون يهودي ولا نصراني يعرف بقلبه أن الله تعالى حق . فإن هؤلاء أحالوا الطبائع بلا برهان ومنعوا من إحالتها إذا قام البرهان بإحالتها .
فإن قالوا : فإنه يلزمكم أن تقولوا إن نقلة الأخبار الشرعية التي قالها رسول الله ﷺ معصومون في نقلها ، وإن كل واحد منهم معصوم في نقله من تعمد الكذب ووقوع الوهم منه .
قلنا لهم : نعم هكذا نقول ، وبهذا نقطع ونبت . وكل عدل روى خبراً عن رسول الله ﷺ في الدين أو فعله ﷺ , فذلك الراوي معصوم من تعمد الكذب مقطوع بذلك عند الله تعالى ومن جواز الوهم فيه عليه إلا ببيان وارد ولا بد من الله تعالى ببيان ما وهم فيه ، كما فعل تعالى بنبيه ﷺ , إذ سلم من ركعتين ومن ثلاث واهماً ، لقيام البراهين التي قدمنا من حفظ جميع الشريعة وبيانها مما ليس منها ، وقد علمنا ضرورة أن كل من صدق في خبر ما فإنه معصوم في ذلك الخبر من الكذب والوهم بلا شك فأي نكرة في هذا ؟ .
فإن قالوا : تعبدنا الله تعالى بحسن الظن به ، وقال رسول الله ﷺ : «إن الله تعالى يقول: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي» .
قلنا : ليس هذا من الحكم في الدين بالظن في شيء بل كله باب واحد لأنه تعالى حرم علينا أن نقول عليه ما لا نعلم ونحن لا نعلم أيغفر لنا أم يعذبنا فوجب علينا الوقوف في ذلك والرجاء والخوف ، وحرم علينا أن نقول عليه في الدين والتحريم والإباحة والإيجاب ما لا نعلم ، وبين لنا كل ما ألزمنا من ذلك فوجب القطع بكل ذلك كما وجب القطع بتخليد الكفار في النار أو تخليد المؤمنين في الجنة ، ولا فرق ولم يجز القول بالظن في شيء من ذلك كله .
فإن قالوا : أنتم تقولون : إن الله تعالى أمرنا بالحكم بما شهد به العدل مع يمين الطالب وبما شهد به العدلان فصاعداً ، وبما حلف عليه المدعى عليه ، إذا لم يقم المدعي بينة في إباحة الدماء المحرمة ، والفروج المحرمة ، والأبشار المحرمة ، والأموال المحرمة ، وكل ذلك بإقراركم ممكن أن يكون في باطن الأمر بخلاف ما شهد به الشاهد ، وما حلف عليه الحالف ، وهذا هو الحكم بالظن الذي أنكرتم علينا في قولنا في خبر الواحد ولا فرق .
قلنا لهم وبالله التوفيق : بين الأمرين فروق واضحة كوضوح الشمس .
أحدهما : أن الله تعالى قد تكفل بحفظ الدين وإكماله، وتبينه من الغي ومما ليس منه. ولم يتكفل تعالى قط بحفظ دمائنا، ولا بحفظ فروجنا ، ولا بحفظ أبشارنا ولا بحفظ أموالنا في الدنيا . بل قدر تعالى بأن كثيراً من كل ذلك يؤخذ بغير حق في الدنيا . وقد نص على ذلك رسول الله ﷺ إذ يقول : «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَلَعَلَّ أَحَدَكُمْ أنْ يَكُونَ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنَ الآخَرِ فَأقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَلا يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ»
وبقوله ﷺ للمتلاعنين : «الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب» أو كما قال ﷺ في كل ذلك .
والفرق الثاني : أن حكمنا بشهادة الشاهد وبيمين الحالف ، ليس حكماً بالظن كما زعموا ، بل نحن نقطع ونبت بأن الله عز وجل افترض علينا الحكم بيمين الطالب مع شهادة العدل ، وبيمين المدعى عليه إذا لم يقم بينة ؛ وبشهادة العدل والعدلين والعدول عندنا ، وإن كانوا في باطن أمرهم كذابين أو واهمين والحكم بكل ذلك حق عند الله تعالى ، وعندنا مقطوع على غيبه .
برهان ذلك : أن حاكماً لو تحاكم إليه اثنان ولا بينة للمدعي ، فلم يحكم للمدعى عليه باليمين ، أو شهد عنده عدلان فلم يحكم بشهادتهما . فإن ذلك الحاكم فاسق عاصٍ لله عز وجل، مجرح الشهادة ظالم ، سواء كان المدعى عليه مبطلاً في إنكاره أو محقاً ، أو كان الشهود كذبة أو واهمين أو صادقين ، إذا لم يعلم باطن أمرهم .
ونحن مأمورون يقيناً بأمر الله عز وجل لنا بأن نقتل هذا البريء المشهود عليه بالباطل ، وأن نبيح هذه البشرة المحرمة ، وهذا المال الحرام المشهود فيه بالباطل ، وحرم على المبطل أن يأخذ شيئاً من ذلك . وقضى ربنا بأننا إن لم نحكم بذلك فإننا في الدين فساق عصاة له تعالى ظلمه متوعدون بالنار على ذلك وما أمرنا تعالى قط بأن نحكم في الدين بخبر وضعه فاسق أو وهم فيه واهم .
وقال تعالى : {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَـكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
فهذا فرق في غاية البيان .
وفرق ثالث ؛ وهو أن نقول : إن الله تعالى افترض علينا أن نقول في جميع الشريعة : قال رسول الله ﷺ .
وأمرنا الله تعالى بكذا، لأنه تعالى يقول : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } ، {مَّآ أَفَآءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ وَمَآ آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }
ففرض علينا أن نقول : نهانا الله تعالى ورسوله ﷺ عن كذا ، وأمرنا بكذا ، ولم يأمرنا تعالى قط أن نقول : شهد هذا بحق ، ولا حلف هذا الجانب على حق ، ولا أن هذا الذي قضينا به لهذا حق له يقيناً ، ولا قال تعالى ما قال هذا الشاهد ، لكن الله تعالى قال لنا : احكموا بشهادة العدول ، وبيمين المدعى عليه إذا لم يقم عليه بينة ، وهذا فرق لا خفاء به فلم نحكم بالظن في شيء من كل ذلك أصلاً ولله الحمد ، بل بعلم قاطع ، ويقين ثابت أن كل ما حكمنا به مما نقله العدل عن العدل إلى رسول الله ﷺ فحق من عند الله تعالى أوحى به ربنا تعالى ، مضاف إلى رسول الله ﷺ محكي عنه أنه قال وكل ما حكمنا فيه بشهادة العدول عندنا فحق مقطوع به من عند الله تعالى لأنه أمرنا بالحكم به ، ولم يأمرنا بأن نقول فيما شهدوا به ، وما حلف به الحالف أنه من عند الله تعالى ، ولا أنه حق مقطوع به .
فإن قالوا : إنما قال تعالى : {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } ولم يقل كل الظن إثم.
قلنا : قد بيّن الله تعالى الإثم من البر وهو أن القول عليه تعالى بما لا نعلم حرام ، فهذا من الظن الذي هو إثم بلا شك .
قال علي : فلجأت المعتزلة إلى الامتناع من الحكم بخبر الواحد ، للدلائل التي ذكرنا ، وظنوا أنهم تخلصوا بذلك ولم يتخلصوا ، بل كل ما لزم غيرهم مما ذكرنا هو ملازم لهم ، وذلك أننا نقول لهم وبالله تعالى التوفيق : أخبرونا عن الأخبار التي رواها الآحاد أهي كلها حق إذا كانت من رواية الثقات خاصة ؟ أم كلها باطل ؟ أم فيها حق وباطل ؟
فإن قالوا : فيها حق وباطل وهو قولهم .
قلنا لهم : هل يجوز أن تبطل شريعة أوحى الله تعالى بها إلى نبيه ﷺ ليبينها لعباده حتى يختلط بكذب وضعه فاسق ونسبه إلى النبي ﷺ ، أو وهم فيها واهم فيختلط الحق المأمور به مع الباطل المختلق اختلاطاً لا يتميز به الحق من الباطل أبداً لأحد من الناس ، وهل الشرائع الإسلامية كلها محفوظة لازمة لنا أو هي غير محفوظة ، ولا كلها لازم لنا، بل قد سقط منها بعد رسول الله ﷺ كثير ، وهل قامت الحجة علينا لله تعالى فيما افترض من الشرائع بأنها بينة لنا متميزة مما لم يأمرنا به ، أو لم تقم لله تعالى علينا حجة في الدين لأن كثيراً منه مختلط بالكذب غير متميز منها أبداً ؟ .
فإن أجازوا اختلاط شرائع الدين التي أوحى الله تعالى إلى نبيه ﷺ بما ليس في الدين .
وقالوا : لم تقم لله تعالى علينا حجة فيما أمرنا به . دخل عليهم في القول بفساد الشريعة ، وذهاب الإسلام ، وبطلان ضمان الله تعالى بحفظ الذكر كالذي دخل على غيرهم حرفاً بحرف ، سواء بسواء ، ولزمهم أنهم تركوا كثيراً من الدين الصحيح كما لزم غيرهم سواء بسواء ، أنهم يعملون بما ليس من الدين ، وأن النبي ﷺ قد بطل بيانه ، وأنه حجة الله تعالى بذلك لم تقم علينا سواء بسواء ، وفي هذا ما فيه . فإن لجأوا إلى الاقتصار على خبر التواتر ، لم ينفكوا بذلك من أن كثيراً من الدين قد بطل لاختلاطه بالكذب الموضوع ، وبالموهوم فيه ، ومن جواز أن يكون كثير من شرائع الإسلام لم ينقل إلينا ، إذ قد بطل ضمان حفظ الله تعالى فيها ، وأيضاً فإنه لا يعجز أحد أن يدعي في أي خبر شاء أنه منقول نقل التواتر ، بل أصحاب الإسناد أصح دعوى في ذلك، لشهادة كثرة الرواة وتغير الأسانيد لهم بصحة قولهم في نقل التواتر وبالله تعالى التوفيق .
فإن لجأ لاجىء إلى أن يقول بأن كل خبر جاء من طريق الآحاد الثقات ، فإنه كذب موضوع ليس منه شيء قاله قط رسول الله ﷺ .
وقلنا وبالله تعالى التوفيق : هذه مجاهرة ظاهرة ، ومدافعة لما نعلم بالضرورة خلافه ، وتكذيب لجميع الصحابة أولهم عن آخرهم ، ولجميع فضلاء التابعين ، ولكل إنسان من العلماء جيلاً بعد جيل ، لأن كل ما ذكرنا رووا الأخبار عن النبي بلا شك من أحد ، واحتج بها بعضهم على بعض ، وعملوا بها ، وأفتوا بها في دين الله تعالى وهذا اطراح للإجماع المتيقن ، وباطل لا تختلف النفوس فيه أصلاً ، لأنا بالضرورة ندري أنه لا يمكن البتة في البنية أن يكون كل من ذكرنا لم يصدق قط في كلمة رواها ، بل كلهم وضعوا كل ما رووا .
وأيضاً ففيه إبطال الشرائع التي لا يشك مسلم ولا غير مسلم في أنها ليست في القرآن مبينة كالصلاة ، والزكاة ، والحج ، وغير ذلك ، وأنه إنما أخذ بيانها من كلام رسول الله ﷺ ، وفي هذا القطع بأن كل صاحب من الصحابة ، روى عن رسول الله ﷺ فإنه هو الواضع ، والمخترع للكذب عن رسول الله ﷺ فيه ، ولا يشك أحد على وجه الأرض في أن كل صاحب من الصحابة قد حدث عن النبي ﷺ أهله وجيرانه ، وفي هذا إثبات وضع الشرائع على جميعهم ، أولهم عن آخرهم ، وما بلغت الروافض والخوارج قط هذا المبلغ ، مع أنها دعوى بلا برهان، وما كان كذلك فهو باطل بيقين، في ثلاثة أقوال كما ترى لا رابع لها :
إما أن يكون كل خبر نقله العدل عن العدل مبلغاً إلى رسول الله ﷺ كذباً كلها أولها عن آخرها موضوعة بأسرها ، وهذا باطل بيقين كما بيّنا ، وإيجاب أن كل صاحب وتابع وعالم لا نحاشي أحداً قد اتفقوا على وضع الشرائع والكذب فيها على رسول الله ﷺ ، وهذا انسلاخ عن الإسلام .
أو يكون فيها حق وفيها باطل إلا أنه لا سبيل إلى تمييز الحق منها من الباطل لأحد أبداً ، وهذا تكذيب لله تعالى في إخباره بحفظ الذكر المنزل ، وبإكماله الدين لنا ، وبأنه لا يقبل منا إلا دين الإسلام لا شيئاً سواه , وفيه أيضاً فساد الدين واختلاطه بما لم يأمر به تعالى قط به .
وأنه لا سبيل لأحد في العالم إلى أن يعرف ما أمره الله تعالى به في دينه مما لم يأمره به أبداً ، وأن حقيقة الإسلام وشرائعه قد بطلت بيقين ، وهذا انسلاخ عن الإسلام .
أو أنها كلها حق مقطوع على غيبها عند الله تعالى ، موجبة كلها للعلم ، لإخبار الله تعالى بأنه حافظ لما أنزل من الذكر ، ولتحريمه تعالى الحكم في الدين بالظن والقول عليه بما لا علم لنا به ، ولإخباره تعالى بأنه قد بيّن الرشد من الغي ، وليس الرشد إلا ما أنزله الله تعالى على لسان نبيه ﷺ ، وفي فعله، وليس الغي إلا ما لم ينزله الله تعالى على لسان نبيه ﷺ ، وهذا قولنا والحمد لله رب العالمين .
قال علي : فإذا قد صح هذا القول بيقين ، وبطل كل ما سواه ، فلنتكلم بعون الله تعالى على تقسيمه
فنقول وبالله تعالى نتأيد : إننا قد أمنَّا ولله الحمد أن تكون شريعة أمر بها رسول الله ﷺ ، أو ندب إليها أو فعلها ﷺ , فتضيع ولم تبلغ إلى أحد من أمته ، إما بتواتر أو بنقل الثقة عن الثقة ، حتى تبلغ إليه ، وأمنَّا أيضاً قطعاً أن يكون الله تعالى يفرد بنقلها من لا تقوم الحجة بنقله من العدول ، وأمنَّا أيضاً قطعاً أن تكون شريعة يخطىء فيها راويها الثقة ، ولا يأتي بيان جليّ واضح بصحة خطئه فيه، وأمنَّا أيضاً قطعاً أو يطلق الله عز وجل من قد وجبت الحجة علينا بنقله على وضع حديث فيه شرع يسنده إلى من تجب الحجة بنقله، حتى يبلغ به إلى رسول الله ﷺ ، وكذلك نقطع ونثبت بأن كل خبر لم يأت قط إلا مرسلاً ، أو لم يروه قط إلا مجهول أو مجرح ثابت الجرحة ، فإنه خبر باطل بلا شك موضوع لم يقله رسول الله ﷺ إذ لو جاز أن يكون حقاً لكان ذلك شرعاً صحيحاً غير لازم لنا، لعدم قيام الحجة علينا فيها .
قال علي : وهذا الحكم الذي قدمنا إنما هو فيما نقله من اتفق على عدالته كالصحابة وثقات التابعين ثم كشعبة وسفيان وسفيان ومالك وغيرهم ، من الأئمة في عصرهم وبعدهم إلينا وإلى يوم القيامة ، وفي كل من ثبتت جرحته كالحسن بن عمارة وجابر الجعفي وسائر المجرحين الثابتة جرحتهم ، وأما من اختلف فيه فعدله قوم وجرحه آخرون ، فإن ثبتت عندنا عدالته قطعنا على صحة خبره ، وإن ثبتت عندنا جرحته قطعنا على بطلان خبره ، وإن لم يثبت عندنا شيء من ذلك وقفنا في ذلك ، وقطعنا ولا بد حتماً على أن غيرنا لا بد أن يثبت عنده أحد الأمرين فيه ، وليس خطؤنا نحن إن أخطأنا ، وجهلنا إن جهلنا ، حجة على وجوب ضياع دين الله تعالى ، بل الحق ثابت معروف عند طائفة وإن جهلته أخرى ، والباطل كذلك أيضاً ، كما يجهل قوم ما نعلمه نحن أيضاً ، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، ولا يصح الخطأ في خبر الثقة إلا بأحد ثلاثة أوجه : إما تثبت الراوي واعترافه بأنه أخطأ فيه ، وإما شهادة عدل على أنه سمع الخبر مع راويه فوهم فيه فلان ، وإما بأن توجب المشاهدة بأنه أخطأ .
قال علي : وكذلك نقطع ونبتّ في كل خبرين صحيحين متعارضين ، وكل آيتين متعارضتين ، وكل آية وخبر صحيح متعارضين ، وكل اثنين متعارضين ، لم يأت نص بيّن بالتناسخ منهما ، فإن الحكم الزائد على الحكم المتقدم من معهود الأصل هو الناسخ ، وأن الموافق لمعهود الأصل المتقدم ، وهو المنسوخ قطعاً يقيناً للبراهين التي قدمنا من أن الدين محفوظ ، فلو جاز أن يخفى فيه ناسخ من منسوخ ، أو أن يوجد عموم لا يأتي نص صحيح بتخصيصه ، ويكون المراد به الخصوص ، لكان الدين غير محفوظ ، ولكانت الحجة غير قائمة على أحد في الشريعة ؛ ولكنا متعبدين بالظن الكاذب المحرم ، بل بالعمل بما لم يأمر الله تعالى قط به ، وهذا باطل مقطوع على بطلانه .
قال علي : فإن وجد لنا يوماً غير هذا فنحن تائبون إلى الله تعالى منه ، وهي وهلة نستغفر الله عز وجل منها ، وإنا لنرجو ألا يوجد لنا ذلك بمنّ الله تعالى ولطفه .
========
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/صفة من يلزم قبوله نقل الأخبار
صفة من يلزم قبوله نقل الأخبار
قال أبو محمد : واستدركنا برهاناً في وجوب قبول الخبر الواحد قاطعاً ، وهو خبر الله تعالى عن موسى عليه السلام إذ جاءه : {وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يمُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ } {فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَآءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } إلى قوله تعالى : {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } إلى آخر القصة ، فصدق موسى عليه السلام قول المنذر له ، وخرج عن وطنه بقوله ، وصوب الله تعالى ذلك من فعله ، وصدق قول المرأة التي أباها يدعوه فمضى معها ، وصدق أباها في قوله إنها ابنته ، واستحل نكاحها وجماعها بقوله وحده ، وصوب الله ذلك كله ، فصح يقيناً ما قلنا بأن خبر الواحد ما يضطر إلى تصديقه يقيناً . والحمد لله رب العالمين .
قال أبو محمد : وقد ذكرنا في الباب الذي قبل هذا وجوب قبول نذارة العدل النافر للتفقه في الدين ، فإذا كان الراوي عدلاً حافظاً لما تفقه فيه ، أو ضابطاً له بكتابه وجب قبول نذارته ، فإن كان كثير الغلط والغفلة غير ضابط بكتابه ، فلم يتفقه فيما نفر للتفقه فيه ، وإذا لم يتفقه فليس ممن أمرنا بقبول نذارته ، ومن جهلنا حاله فلم ندر أفاسق هو أم عدل ، وأغافل هو أم حافظ أو ضابط؟ ففرض علينا التوقف عن قبول خبره حتى يصح عندنا فقهه وعدالته وضبطه أو حفظه فيلزمنا حينئذ قبول نذارته ، أو تثبت عندنا جرحته، أو قلة حفظه وضبطه فيلزمنا اطراح خبره .
حدثنا عبد الله بن يوسف بن نامي ، ثنا أحمد بن فتح ، ثنا عبد الوهاب بن عيسى ، ثنا أحمد بن محمد ، ثنا أحمد بن علي ، ثنا مسلم بن الحجاج، ثنا أبو عامر الأشعري ، ثنا أبو أسامة هو حماد بن أسامة ، عن بريد بن عبد الله ، عن أبي بردة ، عن أبي موسى/ عن النبي ﷺ أنه قال : «إِنَّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِي الله بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضاً فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيِّبَةٌ قَبِلَتِ المَاءَ فَأَنْبَتَت الكَلأَ وَالعُشْبَ الكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْها أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ المَاءَ فَنَفَعَ الله بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا مِنْها وَسَقَوْا وَرَعَوْا، وأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةٌ أُخْرَى إِنَّما هِيَ قِيعَانٌ لا تُمْسِكُ مَاءً ولا تُنْبِتُ كَلأً. (فَذَلكَ مَثَلُ) مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ الله بِمَا بَعَثَنِي الله بِهِ فَعَلِمَ وَعَلِمَ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى الله الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» .
وحدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني ، ثنا إبراهيم بن أحمد البلخي ، ثنا الفربري ، ثنا البخاري ، ثنا محمد بن العلاء ، ثنا حماد بن أسامة عن يزيد/ فذكره بإسناده ولفظه ، إلا أنه قال مكان طيبة : نقية ، ومكان غيث : الغيث الكثير ، ومكان ورعوا : وزرعوا ، ومكان فقه : تفقه ، ومكان قيعان : قيعة ، واتفقا في كل ما عدا ذلك .
قال أبو محمد : وليس اختلاف الروايات عيباً في الحديث إذا كان المعنى واحداً ، لأن النبي ﷺ صح عنه أنه إذا كان يحدث بحديث كرره ثلاث مرات ، فنقل كل إنسان بحسب ما سمع فليس هذا الاختلاف في الروايات مما يوهن الحديث إذا كان المعنى واحداً .
قال أبو محمد : فقد جمع رسول الله ﷺ في هذا الحديث مراتب أهل العلم دون أن يشذ منها شيء ، فالأرض الطيبة النقية هي مثل الفقيه الضابط لما روى ، الفهم للمعاني التي يقتضيها لفظ النص ، المتنبه على رد ما اختلف فيه الناس إلى نص حكم القرآن وسنة رسول الله ﷺ ، وأما الأجادب ، الممسكة للماء التي يستقي منها الناس ، فهي مثل الطائفة التي حفظت ما سمعت أو ضبطته بالكتاب وأمسكته ، حتى أدته إلى غيرها غير مغير ، ولم يكن لها تنبه على معاني ألفاظ ما روت ، ولا معرفة بكيفية رد ما اختلف الناس فيه إلى نص القرآن والسنن التي روت ، لكن نفع الله تعالى بهم في التبليغ فبلغوه إلى من هو أفهم بذلك فقد أنذر رسول الله ﷺ بهذا إذ يقول : «فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ» ، وكما روي عنه ﷺ أنه قال : «فَرُبَّ حَامِلَ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ» .
قال أبو محمد : فمن لم يحفظ ما سمع ولا ضبطه ، فليس مثل الأرض الطيبة ولا مثل الأجادب الممسكة للماء بل هو محروم معذور أو مسخوط بمنزلة القيعان التي لا تنبت الكلأ ولا تمسك الماء وفي هذا كفاية بيان ، وبالله تعالى التوفيق .
قال أبو محمد : فمن استطاع منكم فليكن من أمثال الأرض الطيبة ، فإن حرم ذلك فمن الأجادب وليس بعد ذلك درجة في الفضل والبسوق ، ونعوذ بالله من أن نكون من القيعان ، لكن من استقى من الأجادب ورعى من الطيبة فقد نجا ، وبالله التوفيق .
قال أبو محمد : فإذا روى العدل عن مثله كذلك خبراً حتى يبلغ به النبي ﷺ فقد وجب الأخذ به ، ولزمت طاعته والقطع به ، سواء أرسله غيره أو أوقفه سواه ، أو رواه كذاب من الناس ، وسواء روي من طريق أخرى أو لم يرو إلا من تلك الطريق ، وسواء كان ناقله عبداً أو امرأة أو لم يكن ، وإنما الشرط العدالة والتفقه فقط ، وإن العجب ليكثر من قوم من المدعين أنهم قائلون بخبر الواحد ، ثم يعللون ما خالف مذاهبهم من الأحاديث الصحاح بأن يقولوا : هذا مما لم يروه إلا فلان، ولم يعرف له مخرج من غير هذا الطريق .
قال أبو محمد : وهذا جهل شديد وسقوط مفرط ، لأنهم قد اتفقوا معنا على وجوب قبول خبر الواحد والأخذ به ، ثم هم دأباً يتعللون في ترك السنة بأنه خبر واحد ، والعجب أنهم يأخذون بذلك إذا اشتهوا ، فهذا محمد بن مسلم الزهري له نحو تسعين حديثاً انفرد بها عن النبي ﷺ ، لم يروها أحد من الناس سواه ، ليس أحد من الأئمة إلا وله أخبار انفرد بها ، ما تعلل أحد من هؤلاء المحرمون في رد شيء منها بذلك ، فليت شعري ما الفرق بين من قبلوا خبره ولم يروه أحد معه ، وبين من ردوا خبره لأنه لم يروه أحد معه ، وهل في الاستخفاف بالسنن أكثر من هذا ؟ .
وأيضاً فإن الخبر وإن روي من طرق ثلاثة أو أربعة أو أكثر من ذلك فهو كله خبر واحد، من أثبت شيئاً من ذلك أثبت خبر الواحد ، ومن نفى خبر الواحد نفى كل ذلك ، لأن العلة عندهم في كل ذلك واحدة ، وهي أن كل ما لا يضطر إلى التصديق عندهم ولم يوجب القطع على صحة مغيبة لديهم ، فهو خبر واحد ، وهذه عندهم صفة كل ما لم ينقل بالتواتر ، فقد تركوا مذهبهم وهم لا يشعرون ، أو يشعرون ويتعمدون ، وهذه أسوأ وأقبح ، ونعوذ بالله من الخذلان .
قال أبو محمد : وأما المدلس فينقسم إلى قسمين:
أحدهما: حافظ عدل ربما أرسل حديثه، وربما أسنده، وربما حدث به على سبيل المذاكرة أو الفتيا أو المناظرة، فلم يذكر له سنداً، وربما اقتصر على ذكر بعض رواته دون بعض، فهذا لا يضر ذلك سائر رواياته شيئاً، لأن هذا ليس جرحة ولا غفلة، لكنا نترك من حديثه ما علمنا يقيناً أنه أرسله وما علمنا أنه أسقط بعض من في إسناده، ونأخذ من حديثه ما لم نوقن فيه شيئاً من ذلك. وسواء قال: أخبرنا فلان، أو قال: عن فلان، أو قال: فلان عن فلان كل ذلك واجب قبوله، ما لم يتيقن أنه أورد حديثاً بعينه إيراداً غير مسند، فإن أيقنا ذلك تركنا ذلك الحديث وحده فقط وأخذنا سائر رواياته.
وقد روينا عن عبد الرزاق بن همام قال: كان معمر يرسل لنا أحاديث، فلما قدم عليه عبد الله بن المبارك أسندها له وهذا النوع منهم كان جلة أصحاب الحديث وأئمة المسلمين كالحسن البصري، وأبي إسحاق السبيعي، وقتادة بن دعامة، وعمرو بن دينار، وسليمان الأعمش، وأبي الزبير، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، وقد أدخل علي بن عمر الدارقطني فيهم مالك بن أنس، ولم يكن كذلك ولا يوجد له هذا إلا في قليل من حديثه أرسله مرة وأسنده أخرى.
وقسم آخر: قد صح عنهم إسقاط من لا خير فيه من أسانيدهم عمداً، وضم القوي إلى القوي تلبيساً على من يحدث، وغروراً لم يأخذ عنه، ونصراً لما يريد تأييده من الأقوال، مما لو سمى من سكت عن ذكره لكان ذلك علة ومرضاً في الحديث، فهذا رجل مجرح، وهذا فسق ظاهر واجب اطراح جميع حديثه، صح أنه دلس فيه أو لم يصح أنه دلس فيه، وسواء قال سمعت أو أخبرنا أو لم يقل، كل ذلك مردود غير مقبول لأنه ساقط العدالة، غاش لأهل الإسلام باستجازته ما ذكرناه، ومن هذا النوع كان الحسين بن عمارة وشريك بن عبد الله القاضي، وغيرهما.
قال أبو محمد : ومن صح أنه قبل التلقين ولو مرة سقط حديثه كله لأنه لم يتفقه في دين الله عز وجل ، ولا حفظ ما سمع ، وقد قال ﷺ : «نَضَّرَ الله امْرَأً سَمِعَ مِنّا حَدِيثاً حَفِظَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ غَيْرَهُ»
فإنما أمر ﷺ بقبول تبليغ الحافظ ، والتلقين هو أن يقول له القائل : حدثك فلان بكذا ، ويسمي له من شاء من غير أن يسمعه منه ، فيقول نعم ، فهذا لا يخلو من أحد وجهين ولا بد من أحدهما ضرورة :
إما أن يكون فاسقاً يحدث بما لم يسمع .
أو يكون من الغفلة بحيث يكون الذاهل العقل المدخول الذهن ، ومثل هذا لا يلتفت له لأنه ليس من ذوي الألباب ، ومن هذا النوع كان سمّاك بن حرب ، أخبر بأنه شاهد ذلك منه شعبة الإمام الرئيس ابن الحجاج .
قال أبو محمد : ومما غلط فيه بعض أصحاب الحديث أنه قال: فلان يحتمل في الرقائق ولا يحتمل في الأحكام.
قال أبو محمد : وهذا باطل لأنه تقسيم فاسد لا برهان عليه ، بل البرهان يبطله وذلك أنه لا يخلو كل أحد في الأرض من أن يكون فاسقاً أو غير فاسق ، فإن كان غير فاسق كان عدلاً ، ولا سبيل إلى مرتبة ثالثة .
فالعدل ينقسم إلى قسمين : فقيه وغير فقيه .
فالفقيه العدل مقبول في كل شيء .
والفاسق لا يحتمل في شيء .
والعدل غير الحافظ لا تقبل نذارته خاصة في شيء من الأشياء ، لأن شرط القبول الذي نص الله تعالى عليه ليس موجوداً فيه .
ومن كان عدلاً في بعض نقله ، فهو عدل في سائره ، ومن المحال أن يجوز قبول بعض خبره ، ولا يجوز قبول سائره إلا بنص من الله تعالى أو إجماع في التفريق بين ذلك ، وإلا فهو تحكم بلا برهان ، وقول بلا علم ، وذلك لا يحل .
قال أبو محمد : وقد غلط أيضاً قوم آخرون منهم، فقالوا: فلان أعدل من فلان وراموا بذلك ترجيح خبر الأعدل على من هو دونه في العدالة .
قال أبو محمد : وهذا خطأ شديد ، وكان يكفي من الرد عليهم أن نقول لهم : إنهم أبرك الناس لذلك، وفي أكثر أمرهم يأخذون بما روى الأول عدالة ويتركون ما روى الأعدل، ولعلنا سنورد من ذلك طرفاً صالحاً إن شاء الله تعالى ، ولكن لا بد لنا بمشيئة الله تعالى من إبطال هذا القول بالبرهان الظاهر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فأول ذلك : أن الله عز وجل لم يفرق بين خبر عدل، وخبر عدل آخر أعدل من ذلك، ومن حكم في الدين بغير أمر من الله عز وجل، أو من رسوله ﷺ , أو إجماع متيقن مقطوع به منقول عن رسول الله ﷺ فقد قفا ما ليس له به علم ، وفاعل ذلك عاص لله عز وجل ، لأنه قد نهاه تعالى عن ذلك، وإنما أمر تعالى بقبول نذارة النافر الفقيه العدل فقط ، وبقبول شهادة العدول فقط ، فمن زاد حكماً فقد أتى بما لا يجوز له ، وترك ما لم يأمره الله تعالى بتركه ، وغلب ما لم يأمره الله عز وجل بتغليبه .
قال أبو محمد : وأيضاً فقد يعلم الأقل عدالة ما لا يعلمه من هو أتم منه عدالة ، وقد جهل أبو بكر وعمر ميراث الجدة ، وعلمه المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة وبينهما وبين أبي بكر وعمر بون بعيد إلا أنهم كلهم عدول ، وقد رجع أبو بكر إلى خبر المغيرة في ذلك ، ورجع عمر إلى خبر مخبر أخبره عن أملاص المرأة ، ولم يكن ذلك عند عمر ، وذلك المخبر بينه وبين عمر في العدالة درج ، وأيضاً فإن كل ما يتخوف من العدل فإنه متخوف من أعدل من في الأرض بعد رسول الله ﷺ ، وأيضاً فلو شهد أبو بكر وحده ، ما قبل قبولاً لا يوجب الحكم بشهادته، ولو شهد عدلان من عرض الناس قبلاً، فلا معنى للأعدل .
وأيضاً فإن العدالة إنما هي التزام العدل ، والعدل هو القيام بالفرائض واجتناب المحارم والضبط لما روى وأخبر به فقط، ومعنى قولنا فلان أعدل من فلان أي أنه أكثر نوافل في الخبر فقط ، وهذه صفة لا مدخل لها في العدالة ، إذ لو انفردت من صفة العدالة التي ذكرنا لم يكن فضلا ولا خيراً .
فاسم العدالة مستحق دونهما كما هو مستحق معها سواء بسواء ولا فرق ، فصح أنه لا يجوز ترجيح رواية على أخرى ، ولا ترجيح شهادة على أخرى ، بأن أحد الراوين أو أحد الشاهدين أعدل من الآخر ، وهذا الذي تحكموا به إنما هو من باب طيب النفس ، وطيب النفس باطل لا معنى له ، وشهوة لم يأذن بها الله تعالى ولا رسوله ﷺ ، وإنما هو حق فسواء طابت النفس عليه أو كرهته فهو حرام عليها ، وهذا من باب اتباع الهوى ، وقد حرم الله تعالى ذلك ، قال عز وجل : {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى } ، وقال تعالى : {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } .
فمن حكم في دين الله عز وجل بما استحسن وطابت نفسه عليه دون برهان من نص ثابت أو إجماع ، فلا أحد أضل منه ، وبالله تعالى نعوذ من الخذلان ، إلا من جهل ولم تقم عليه حجة ، فالخطأ لا ينكر ، وهو معذور مأجور ، ولكن من بلغه البيان وقامت عليه الحجة فتمادى على هواه فهو فاسق عاص لله عز وجل .
قال أبو محمد : ووجدنا الله تعالى لم يرض في القبول في الشهادة بزنى الأمة إلا أربعة عدول لا أقل ، وإنما في ذلك خمسون جلدة وتغريب نصف عام ، ووجدنا كما قد وافقتمونا على القبول في إباحة دم المسلم ودماء الجماعة باثنين ، وكذلك في القذف والقطع ، فأين طيب النفس ههنا .
فبهذا وغيره يجب قبول ما قام الدليل عليه ، وسواء طابت عليه النفس أو لم تطب .
قال أبو محمد : والمرأة والرجل والعبد في كل ما ذكرنا سواء، ولا فرق ولم يخص تعالى عدلاً من عدل، ولا رجلاً من امرأة ولا حراً من عبد .
قال أبو محمد : وبما ذكرنا ههنا يبطل قول من قال : هذا الحديث لم يرو من غير هذا الوجه ثم قال: إنما طلبنا كثرة الرواة على استطابة النفس، فإن اعترضوا بقول إبراهيم عليه السلام إذ يقول : {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } الآية .
قيل لهم : أفترون يقين الخليل عليه السلام كان مدخولاً قبل أن يرى إحياء الطير فإن قلتم هذا كفرتم ولو لم يره الله تعالى ذلك كما لم ير موسى ما سأل ما تخالج إبراهيم شك في صحة إحياء الله تعالى الموتى ، وكذلك نحن إن وجدنا الحديث مروياً من طرق كان ذلك أبلغ أن الحجة عند المخالف فقط وإن عدمناه فقد لزمنا القبول لنقل الواحد بالحجاج التي قدمنا ، وبيَّنا على أي وجه طلب إبراهيم ما طلب في كتابنا في الملل والنحل .
قال أبو محمد : ومن عدله عدل وجرحه عدل فهو ساقط الخبر ، والتجريح يغلب التعديل ، لأنه علم زائد عند المجرح لم يكن عند المعدل ، وليس هذا تكذيباً للذي عدل بل هو تصديق لهما معاً ، فإن قال قائل: فهلا قلتم بل عند المعدل علم لم يكن عند المجرح ؟
قيل له : كذلك نقول ونصدق كل واحد منهما ، فإذا صح خبرهما معاً عليه فلا خلاف في أن كل من جمع عدالة ومعصية فأطاع في قصة وصلى وصام ، وزكى وفسق في أخرى وزنى أو شرب الخمر أو أتى كبيرة أو جاهر بصغيرة ، فإنه فاسق عند جميع الأمة بلا خلاف، ولا يقع عليه اسم عدل ، ولو لم يفسق إلا من تمحص الشر ولا يعمل شيئاً من الخير لما فسق مسلم أبداً ، لأن توحيده خير وفضل وإحسان وبر ، وفي صحة القول بأن فينا عدولاً وفساقاً بنص القرآن ، ورضاً وغير رضاً ، بيان ما قلنا ، ولو أخذنا بالتعديل وأسقطنا التجريح لكنا قد كذبنا المجرح وذلك غير جائز ، وهكذا القول في الشهادة ولا فرق .
قال أبو محمد : ولا يقبل في التجريح قول أحد إلا حتى يبين وجه تحريمه ، فإن قوماً جرحوا آخرين بشرب الخمر ، وإنما كانوا يشربون النبيذ المختلف فيه بتأويل منهم أخطؤوا فيه ، ولم يعلموه حراماً ولو علموه مكروهاً فضلاً عن حرام ما أقدموا عليه ورعاً وفضلاً ، منهم الأعمش وإبراهيم وغيرهما من الأئمة رضي الله عنهم ، وهذا ليس جرحة لأنهم مجتهدون طلبوا الحق فأخطؤوه .
ولا يكون الجرح في نقلة الأخبار إلا بأحد أربعة أوجه لا خامس لها :
الإقدام على كبيرة قد صح عند المقدم عليها بالنص الثابت أنها كبيرة.
الثاني : الإقدام على ما يعتقد المرء حراماً وإن كان مخطئاً فيه قبل أن تقوم الحجة عليه بأنه مخطىء.
والثالث : المجاهرة بالصغائر التي صح عند المجاهر بها بالنص أنها حرام ، وهذه الأوجه الثلاثة هي جرحه في نقلة الأخبار وفي الشهود ، وفي جميع الشهادات في الأحكام وهذه صفات الفاسق بالنص وبإجماع من المخالفين لنا ، وإنما أسقطنا المستتر بالصغائر للحديث الصحيح في الذي قبّل امرأة فأخبره ﷺ أن صلاته كفَّرت ذلك عنه ولقوله عز وجل : {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } فمن غفر الله له فحرام علينا أن نثبت عليه ما قد غفر الله تعالى له.
وكذلك التائب من الكبائر ومن الكفر أيضاً فهو عدل وليس هذا من باب ثبات الحد عليه في شيء لأن الملامة ساقطة عن التائب ، والحد عنه غير ساقط على حديث ماعز ، فإن النبي ﷺ رجمه بعد توبته وأمر بالاستغفار له ونهى عن سبه .
وإنما قلنا : إن المجاهرة بالصغائر جرحة للإجماع المتيقن على ذلك ، والنص الوارد من الأمر بإنكار المنكر ، والصغائر من المنكر لأن الله تعالى أنكرها وحرمها ونهى عنها ، فمن أعلن بها فهو من أهل المنكر فقد استحق التغيير عليه بقول رسول الله ﷺ : «مَنْ رأى مِنْكُمْ مُنْكَراً فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذلِكَ أَضْعَفُ الإِيمانِ»
ومن كان من أهل المنكر في الدين فهو فاسق لأن المنكر فسق والفاسق لا يقبل خبره.
وصح بما قدمنا أن المستتر بالصغائر ليس صاحبه فاسقاً ولا يجب التغيير عليه ، ولا الإنكار عليه ، لأنه لم ير منه ما يلزمنا فيه تغيير ولا إنكار ولا تعزير ، ولو أن امرأً شهد على آخر بأنه يتستر بالصغائر لكانت شهادة الشاهد عليه بذلك مردودة وكان ملوماً ، ولم يجز أن يقدح ذلك في شهادة المستتر بها لوجهين :
أحدهما أنه لا ينجو أحد من ذنب صغير .
والثاني أنه معفو عنه، ولو شهد على أحد أنه يستتر بكبيرة لقبلت شهادته عليه، ولردت شهادة المستتر بها لأنها ليست مغفورة إلا بالتوبة، أو برجوح الميزان عند الموازنة يوم القيامة.
قال أبو محمد : والوجه الرابع ينفرد به نقلة الأخبار دون الشهود في الأحكام وهو ألا يكون المحدث إلا فقيهاً فيما روى أي حافظاً، لأن النص الوارد في قبول نذارة النافر للتفقه إنما هو بشرط أن يتفقه في العلم ، ومن لم يحفظ ما روى فلم يتفقه ، وإذا لم يتفقه فليس ممن أمرنا بقبول نذارته ، وليس ذلك في الشهادة ، لأن الشرط في الشهادة إنما هي العدالة فقط بنص القرآن ، فلا يضر الشاهد أن يكون معروفاً بالغفلة والغلط ، ولا يسقط ذلك شهادته إلا أن تقوم بينة بأنه غلط في شهادة ما ، فتسقط تلك التي غلط فيها فقط ، ولا يضر ذلك شهادته في غيرها ، لا قبل الشهادة ولا بعدها ، بل هو مقبول أبداً ، ولا يحل لأحد أن يزيد شرطاً لم يأت به الله تعالى ، فقد قال ﷺ : «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ الله فَهُوَ بَاطِلٌ ولو كان مائةَ شَرْطٍ» .
فمن شرط في العدل في الشهادة خاصة أن يكون غير معروف بالغلط، فقد زاد شرطاً ليس في كتاب الله عز وجل ، فهو مبطل فيه والتدليس الذي ذكرنا أنه يسقط العدالة هو إحدى الكبائر ، لقول رسول الله ﷺ : «مَنْ غَشَّنا فَلَيْسَ مِنَّا» ولا غش في الإسلام أكبر من إسقاط الضعفاء من سند حديث ليوقع الناس في العمل به وهو غير صحيح، ولقوله ﷺ : «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»
وواجب ذلك لله تعالى ولرسوله ﷺ ولأئمة المسلمين وعامتهم ، ومن دلَّس التدليس الذي ذممنا، فلم ينصح لله تعالى ولا لرسوله ﷺ في تبليغه عنهما ، ولا نصح للمسلمين في التلبيس عليهم حتى يوقعهم فيما لا يجوز العمل به .
قال أبو محمد : وأما من قدم على ما يعتقده حلالاً مما لم يقم عليه في تحريمه حجة ، فهو معذور مأجور وإن كان مخطئاً ، وأهل الأهواء معتزليهم ومرجئيهم ، وزيدييهم وأباضييهم بهذه الصفة إلا من أخرجه هواه عن الإسلام إلى كفر متفق على أنه كفر ، وقد بيَّنا ذلك في كتاب الفصل ، أو من قامت عليه حجة من نص أو إجماع فتمادى ولم يرجع فهو فاسق .
وكذلك القول فيمن خالف حديث النبي ﷺ لتقليد أو قياس ولا فرق أو من سبَّ أحد الصحابة رضي الله عنهم ، فإن ذلك عصبية والعصبية فسق وصدق أبو يوسف القاضي إذ سئل عن شهادة من يسب السلف الصالح فقال : لو ثبت عندي على رجل أنه يسب جيرانه ما قبلت شهادته ، فكيف من يسب أفاضل الأمة ؟ إلا أن يكون من الجهل بحيث لم تقم عليه حجة النص بفضلهم والنهي عن سبهم فهذا لا يقدح سبهم في دينه أصلاً، ولا ما هو أعظم من سبهم لكن حكمه أن يعلم ويعرف، فإن تمادى فهو فاسق، وإن عاند في ذلك الله تعالى أو رسوله فهو كافر مشرك، ولو أن امرأً بدل القرآن مخطئاً جاهلاً ، أو صلى لغير القبلة كذلك، ما قدح ذلك في دينه عند أحد من أهل الإسلام ، حتى تقوم عليه الحجة بذلك ، فإن تمادى فهو فاسق، وإن عاند الله تعالى ورسوله ﷺ فهو كافر مشرك .
قال أبو محمد : وقد علل قوم أحاديث بأن رواها ناقلها عن رجل مرة، وعن رجل مرة أخرى.
قال أبو محمد : وهذا قوة للحديث وزيادة في دلائل صحته، ودليل على جهل من جرح الحديث بذلك، وذلك نحو أن يروي الأعمش الحديث عن سهل عن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة، ويرويه غير الأعمش عن سهيل عن أبيه عن أبي سعيد.
قال أبو محمد : وهذا لا مدخل للاعتراض به، لأن في الممكن أن يكون أبو صالح سمع الحديث من أبي هريرة ومن أبي سعيد، فيرويه مرة عن هذا ومرة عن هذا.
ومثل هذا لا يتعلل به في الحديث إلا جاهل أو معاند ، ونحن نفعل هذا كثيراً ، لأننا نرى الحديث من طرق شتى ، فنرويه من بعض المواضع من أحد طرقه ، ونرويه مرة أخرى من طريق ثانية ، وهذا قوة للحديث لا ضعف وكل ما تعللوا به من مثل هذا وشبهه فهي دعاوى لا برهان عليها ، وكل دعوى بلا برهان فهي ساقطة ، وكذلك ما رواه العدل عن أحد العدلين شك في أحدهما أيهما حدثه إلا أنه موقن أن أحدهما حدثه بلا شك، فهذا صحيح يجب الأخذ به مثل أن يقول الثقة: حدثنا أبو سلمة أو سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة ، فهذا ليس علة في الحديث البتة ، لأنه أيهما كان فهو عدل رضا معلوم الثقة مشهور العدال .
وأيضاً فإن قالوا : إن الغفلة والخطأ من الاثنين أبعد منه من الواحد .
قيل لهم: وهو من الأربعة أبعد منه من الثلاثة ، فلا يقبلوا إلا ما رواه أربعة وهكذا فيما زاد حتى يلحقوا بالقائلين بالتواتر.
=========

{تابع}ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/فصل/+المجلد الأول/الجزء الأول/الباب السابع +المجلد الأول/الجزء الأول/فصل: في هل على النافي دليل أو لا؟+/المجلد الأول/الجزء الأول/الباب الثامن/+المجلد الأول/الجزء الأول/الباب التاسع +



ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/فصل
فصل فيمن لم يبلغه الأمر من الشريعة
قال علي بن أحمد : اختلف الناس فيمن لم يبلغه الحكم الوارد من الله تعالى في الشريعة في خاص منها أو في جميعها .
فقالت طائفة : كل أحد مأمور منهي ساعة ورود الأمر والنهي ، إلا أنه معفو عنه غير مؤاخذ بما لم يبلغه من الأمر والنهي .
وقالت طائفة : إن الله تعالى لم يأمر قط بشيء من الدين إلا بعد بلوغ الأمر إلى المأمور ، وكذلك النهي ولا فرق ، وأما قبل انتهاء الأمر أو النهي إليه فإنه غير مأمور ولا منهي .
قال علي بن أحمد : وبهذا نقول لقول الله عز وجل : {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَـذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } : {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } .
ولإِخبار رسول الله ﷺ : أنه لا يسمع به يهودي أو نصراني فلم يؤمن به إلا وجبت له النار . حدثنا أحمد بن محمد بن عبدالله الطلمنكي ، ثنا ابن مفرج ، ثنا محمد بن أيوب الرقي ، أنبا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار ، ثنا محمد بن المثنى ، ثنا معاذ بن هشام الدستوائي ، ثنا أبو علي قتادة عن الأسود بن سريع/ عن النبي ﷺ قال : «يُعْرَضُ عَلَى الله تَبَارَكَ وَتَعَالى الأَصَمُّ الَّذِي لا يَسْمَعُ شَيْئاً ، وَالأَحْمَقُ وَالهَرِمُ ، وَرَجُلٌ مَاتَ فِي الفَتْرَةِ ، فَيَقُولُ الأَصَمُّ : رَبّ جَاءَ الإِسلامُ وَمَا أَسْمَعُ شَيْئاً ، وَيَقُولُ الأَحْمَقُ : رَبّ جَاءَ الإِسلامُ وَمَا أَعْقِلُ شَيْئاً ، وَيَقُولُ الَّذِي مَاتَ فِي الفَتْرَةِ : رَبّ مَا أَتَانِي لَكَ مِنْ رَسُولٍ ، فَيَأْخُذُ مَوَاثِيقَهُمْ لَيُطِيعُنّهُ ، فَيُرْسِلُ الله تَعَالى إِلَيْهِمْ : ادْخُلُوا النَّار ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ دَخَلُوها لكَانَتْ عَلَيْهِمْ بَرْداً وَسَلاماً» .
وبه إلى قتادة عن الحسن البصري ، عن أبي رافع عن أبي هريرة بمثله وزاد في آخره: «وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْها دَخَلَ النَّارَ» .
فصح كما أوردنا أنه لا نذارة إلا بعد بلوغ الشريعة إلى المنذر ، وأنه لا يُكلف أحد ما ليس في وسعه، وليس في وسع أحد علم الغيب في أن يعرف شريعة قبل أن تبلغ إليه ، فصح يقيناً أن من لم تبلغه الشريعة لم يكلفها .
واحتجت الطائفة الأخرى بقول رسول الله ﷺ : «إِذَا اجْتهَدَ الحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ» فسماه ﷺ مخطئاً ولا يكون المخطىء إلا من خالف ما أمر به .
قال أبو محمد : وهذا الخبر لا حجة لهم فيه ، بل هو حجة لنا وبه نقول ، لأنه قد يكون مخطئاً من لا يوافق الحق ، وإن لم يكن مأموراً بالعمل به كإنسان سمى آخر بغير اسمه غير عامد ، فهذا مخطىء ولا أمر يلزمه ها هنا ، وكمن أنشد بيت شعر فوهم فيه ، فهو مخطىء بلا شك ، وهذا المجتهد مخطىء بلا شك إذا حكم بخلاف ما ورد به الحكم من عند الله عز وجل ، وأدخل في الدين ما ليس منه ، وإن كان غير مأمور بالحكم بما لم يبلغه فإنه منهي عن الحكم بما ظن أنه حق ، وهو غير حق ، وأما إذا بلغه فإنه مأمور به وإن نسيه لأنه قد بلغه ولزمه .
فإن قال قائل : لو كان ما قلتم لكان الدين لازماً لبعض الناس لا لكلهم .
قلنا وبالله التوفيق : ليس كذلك بل الدين لازم للجن والإِنس إذا بلغهم ، نعم ولكل من لم يخلق بعد إذا خُلق وبلغه وبلغ حد التكليف لا قبل ذلك ، وأنتم لا تخالفوننا في الشريعة أنها لا تلزم من لم يخلق قبل أن يخلق ، ولا من لم يبلغ قبل أن يبلغ .
فإن قالوا : فكيف حال من لم يبلغه الأمر ، أهو مأمور بما هو عليه من خلاف ما أمره الله تعالى به مما لم يبلغه ، ولا سبيل إلى قسم ثالث ؟
فإن قلتم : هو مأمور بما أمره الله تعالى به ، وإن لم يبلغه فهو قولنا ؛ وإن قلتم : هو غير مأمور بما أمره الله تعالى به ، أو أنه مأمور بما هو عليه من خلاف ما أمر الله تعالى به كان ذلك شغباً بشيعاً .
قلنا وبالله التوفيق : لسنا نقول بواحد من هذين الجوابين لكنا نقول : هو غير مأمور في ذلك بشيء أصلاً حتى يبلغه ، وحاله في ذلك كحال من لم يبلغ حد التكليف حتى يبلغ .
فإن قالوا : فكيف حكمه إن خالف ما يرى أنه الحق عامداً فوافق بذلك ما أمر الله تعالى به .
قلنا لهم : هذا السؤال لازم لكم ولنا .
فأما نحن فنقول وبالله التوفيق : إنه ليس في ذلك مطيعاً ولا عاصياً ، لكنه مستسهل لمخافة الحق ، هام بترك الحق ، إلا أنه لم يفعل ذلك بعد . هذه صفته على الحقيقة إلا أنه لم يخالف بفعله ذلك حقًّا ولا واقع باطلاً .
قال أبو محمد : أهل هذه الصفة ينقسمون ثلاثة أقسام :
فقسم شهدوا ورود الأمر من الله تعالى ثم نسخ ولم يشهدوا الناسخ ، وليس أحد من هؤلاء موجوداً بعد موت رسول الله ﷺ ، لأن النسخ بطل بعد موته ﷺ واستقرت الشرائع .
وقسم ثان : علموا المنسوخ ولم يبلغهم الناسخ ، أو بلغهم المجمل ولم يبلغهم المخصص .
وقسم ثالث : بلغهم الناسخ والمنسوخ والمجمل والخاص ثم نسوا الخاص والناسخ ، أو تأولوا فيهما تأويلاً قاصدين إلى الحق .
فإما من كان في عصر رسول الله ﷺ فبلغه المنسوخ ولم يبلغه الناسخ ، فهؤلاء خاصة لا يسقط عنهم الأمر بالمنسوخ حتى يبلغ إليهم الناسخ ، لأنه قد لزمهم الذي بلغهم بيقين لا شك فيه ، ولا يسقط اليقين إلا بيقين .
برهان هذا : أنه قد صح وثبت عند جميع أهل العلم أن المسلمين كانوا بأرض الحبشة ، وبأقصى جزيرة العرب ، فنزل الأمر من الله تعالى على رسوله ﷺ ما لم يكن فيه قبل ذلك أمر كالصوم والزكاة ، وتحريم بعض ما لم يكن حراماً كالحق ، وإمساك المشركات وغير ذلك . فلا شك في أنه لم يأثم أحد منهم بتماديه على ما لم يعلم نزول الحكم فيه .
وكذلك كان ينزل الأمر مما تقدم فيه حكم بخلاف هذا النازل كتحويل القبلة عن بيت المقدس وغير ذلك ، فلا شك أيضاً في أنهم لم يأثموا ببقائهم على العمل بالمنسوخ ، بل كان فرضاً عليهم الصلاة كما أمروا وعرفوا حتى يبلغهم نسخه هذا ما لا يختلف فيه اثنان فصح قولنا ، والحمد لله يقيناً لا مجال للشك فيه .
وهكذا بقي أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أزيد من عشرة أعوام مقرين لليهود والنصارى والمجوس بجزيرة العرب ، إذ لم يبلغهما نهي النبي ﷺ عن إقرارهم فيها ، فلم يختلف أحد في أنهما لم يعصيا بذلك ، بل فعلا ما أمرا به .
ولو قال قائل : إن هذا إجماع صحيح متيقن لما بعد عن الصدق ، لأنه لم ينكر ذلك عليهما أحد من الصحابة ، وليس منهم أحد خفي عليه إقرارهما لهم قبل بلوغ النهي إليهما ، وبالله تعالى التوفيق .
فإن قيل : فهلا قلتم إنه سقط عنهم استقبال بيت المقدس ، ولم يؤمروا باستقبال الكعبة بقول الله تعالى : {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } .
قلنا : لا لما قد ذكرنا من أن الحكم لا يلزم حتى يبلغ ، وإنما خاطب الله بهذا الأمر من بلغه ومن لم يخلق إذا خلق وبلغه ، ولا دليل على سقوط ما قد ثبت عليهم من استقبال بيت المقدس إلا ببلوغ الأمر إليهم بتركه .
قال أبو محمد : ولو كانوا مأمورين باستقبال الكعبة حين نزول الأمر من قبل أن يبلغهم لكان من أقدم منهم فصلى إلى الكعبة عامداً قبل أن يبلغهم الأمر جائز الصلاة ، وهذا باطل ، وأما لو أن إنساناً اليوم خفيت عليه دلائل القبلة ، فاستدل فأداه استدلاله إلى جهة ما ، وقطع بذلك ثم تعمد الصلاة إلى خلاف تلك الجهة ، فلما سلم إذا به الى القبلة فإن صلاته باطلة ، وهو بذلك فاسق ، لأنه تعمد العمل في صلاته بما ليس عالماً أنه أمر به فيها ، فقصد العمل بما يرى أنه ليس من صلاته ، فقد قصد إفساد صلاته فبطلت بذلك .
قال أبو محمد : وأما من كان بعد رسول الله ﷺ فلم يبلغه الناسخ ولا الخالص ، فإنه أيضاً مأمور بما يعتقد من المنسوخ ومن عموم المخصوص ، لأن الله تعالى لم يكلفه قط خلاف ذلك ، بل افترض عليه خلافاً لذلك طاعة أمره تعالى جملة ، والمنسوخ من أمره فلا شك، فهو لازم لكل من بلغه بعموم الأمر المذكور حتى يبلغه نسخه وبالله تعالى التوفيق .
ومن المحال الممتنع أن يكون الله تعالى يورد على عبده أمراً يأمره به ثم ينهاه عنه ولا يعلمه بنهيه عنه ، وهو تعالى قد تكفل لنا بالبيان ، قال عز وجل {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
فلو ورد أمر الله تعالى ثم نهاه عنه ، ولم يبلغه نهيه لكان ذلك إضلالاً والتباساً ، ولكان الرشد غير مبين من الغي وحاشا لله من هنا يقيناً.
وأما من بلغه الناسخ والخاص ، ثم نسيهما أو تأول فيهما بمبلغ طاقته فهو مأمور بما بلغه من ذلك ، لأنه منذ بلغه منهي عما هو عليه ، لأنه قد بلغه النهي إلا أنه معذور مأجور مرة ، مأجور بقصده الخير ، ومعذور بجهله ونسيانه ، فهذا حكم هذا الباب بالبرهان الصحيح، وبالله تعالى التوفيق .
فإن احتج محتج بحديث رسول الله ﷺ إذ فرضت الصلاة ليلة الإِسراء ، وفيه قول موسى عليه السلام : «كَمْ فَرَضَ الله عَلَى أُمَّتِكَ؟ قَالَ خَمْسِينَ صَلاةً أَوْ نَحْوَها» فأخبر النبيان عليهما السلام أن الله تعالى فرض علينا قبل أن يبلغنا خمسين صلاة .
قلنا : إنما معنى هذا أنه متى بلغنا الأمر لزمنا .
وبرهان ذلك : أن ذلك لا يلزم من لم يخلق حتى يخلق ، ولا من لم يبلغ حتى يبلغ ، ولا من لم يأت عليه وقت الصلاة حتى يأتي وقتها . هذا ما لا خلاف فيه . فصح أن الفرض المذكور إنما هو بعد الخلق وبعد البلوغ ، وبعد انتهاء الشرع إليه ، وبعد دخول الوقت : وبهذا تتألف الأخبار كلها ، وبالله تعالى التوفيق .
برهان ذلك : أنه لم يعص قط أحد من المسلمين بتركه الخمسين صلاة ، ولو وجبت وتركها تارك لكان عاصياً لله تعالى ، فصح أنه يلزمنا إلا ما بلغنا من الدين ، وأما من بلغ إليه خبر غير صحيح عن النبي ﷺ وصححه له متأول أو جاهل أو فاسق لم يعلم هو بفسقه ؛ فهذا هو مبلغ ، فهو إن عمل بما بلغه من ذلك الباطل فمعذور بجهله لا إثم عليه ، لأنه لم يتجانف لإِثم ، والأعمال بالنيات ، فهو مجتهد مأجور مرة في قصده بنيته إلى الخير ، وإلى طاعة الله ورسوله ﷺ ، فلو خالف ما بلغه من ذلك فإنما عليه إثم المستسهل ، بخلاف الرسول ، إما بعلمه فقط فهو فاسق ، وإما بنيته فهو كافر، وبالله تعالى التوفيق .
=====
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/الباب السابع
في أصول الأحكام في الديانة وأقسام المعارف وهل على النافي دليل أو لا ؟
قال علي : قد ذكرنا فيما خلا من هذا الكتاب وفي غيره من كتبنا :
أنه لا طريق إلى العلم أصلاً إلاَّ من وجهين :
أحدهما ما أوجبته بديهة العقل ، وأوائل الحس .
والثاني مقدمات راجعة إلى بديهة العقل وأوائل الحس .
وقد بيّنا كل ذلك في غير هذا المكان ، فأغنى عن ترداده ؛ وقد بينا أيضاً أن بالمقدمات الصحاح الضرورية المذكورة علمنا صحة التوحيد ، وصحة نبوة محمد وصدقه في كل ما قال ، وأن القرآن الذي أتى به هو عهد الله تعالى إلينا ، فلما كان فيما ذكر لنا عن ربه تعالى ، وجوب أشياء ألزمناها اجتهاد هذا الإِنسان لم يكلفه الله تعالى أكثر ما في وسعه ؛ والانتهاء عن أشياء منعنا منها ووعد بالنعيم الأبدي من أطاعه ، وبالعذاب الشديد من عصاه ، وتيقَّنا وجوب صدقه في ذلك لزمنا الانقياد لما أمرنا له بالانقياد له ، وتيقنّا صحة كل ما ذكر لنا ضرورة ولا محيد للنفس عنها بما نقلته الكواف مما أظهر من المعجزات التي لا يقدر عليها إلا الخالق الأول تعالى ، والشاهد لنبيه بها على صحة ما أتى به عنه تعالى ، فوجب علينا تفهم القرآن والأخذ بما فيه ، فوجدنا فيه التنبيه على صحة ما كنا متوصلين به إلى معرفة الأشياء على ما هي عليه من مدارك العقل والحواس ، ولسنا نعني بذلك أننا نصحح بالقرآن شيئاً كنا نشك فيه من صحة ما أدركه العقل والحواس ، ولو فعلنا ذلك لكنا مبطلين للحقائق ، ولسلكنا برهان الدور الذي لا يثبت به شيء أصلاً .
وذلك أننا كنا نسأل فيقال لنا : بم عرفتم أن القرآن حق ؟ فلا بد أن نقول بمقدمات صحاح يشهد لها العقل والحس .
ثم يقال لنا : بماذا عرفتم صحة العقل والحس المصححين لتلك المقدمات ؟ فكنا نقول بالقرآن ، فهذا استدلال فاسد مبطل للحقائق .
ولكنا قلنا : إن في القرآن التنبيه لأهل الجهل والغفلة وحسم شغب أهل العناد ، وذلك أن قوماً من أهل ملتنا يبطلون حجج العقول ويصححون حجج القرآن فأريناهم أن في القرآن إبطال قولهم ، وإفساد مذاهبهم ، وأن الله تعالى قد علم أن سيكون في العالم أمثالهم ، فأخبرنا بما يبطل به شغبهم ، ويزيل شكوكهم ، كما قال تعالى : {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ }
فمما أمرنا فيه تعالى باستعمال دلائل العقل والحواس قوله تعالى : {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } وصدق الله تعالى ما شكره من إبطال دلائل سمعه وبصره وعقله .
وقال تعالى : {أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَينِ } .
وذمّ تعالى من لم يستعمل دلائلها ، فقال حاكياً عن قوم معذبين ، ولإعراضهم عن الاستدلال المؤدي الى معرفة الحقائق ، قال الله تعالى : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * وَللَّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } إلى قوله : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ * وَللَّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } وقال تعالى حاكياً عن مثلهم : {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } فصدقهم الله عز وجل في قولهم ذلك فقال تعالى : {فَاعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ } وقال تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِه مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } فذم تعالى من لم ينتفع بما أعطاه من الحواس والعقل .
قال أبو محمد : أترى هؤلاء المقرين على أنفسهم أنهم كانوا لا يسمعون ولا يعقلون ، ولو سمعوا أو عقلوا ما دخلوا النار، أكانت صمخ آذانهم ذات آفات مانعة من تأدية الأصوات ؟ أو كانوا جاهلين بأمور دنياهم وأحكام حرثهم وغراستهم ؟ والقيام على مواشيهم ونفقات أموالهم وإنمائها ، وبنيان منازلهم وعمارة بساتينهم ، وتدبير متاجرهم وصناعاتهم ، وحفظ أموالهم ، وطلب الجاه والرياسة ؟ كلا والذي عذبهم وأخزاهم وذمهم ؟ بل كانوا أعلم بذلك كله ، وأشد اهتبالاً به ، وأشغل نفوساً فيه ، وأبصر لنموه وتكثيره وحياطته من أهل الفضل ، المقتصرين من ذلك مما يضيع العيال والجسم بتركه أو ما جاءهم من ذلك على ما لا بد منه عفواً ، وكان غير شاغل لهم عما هو آكد عليهم ، المقبلين على طلب معرفة الحقائق ، والوقوف على العلم والعمل ، الموصلين إلى معرفة الآخرة والسعادة في دار البقاء في الجنة التي وعدها الله تعالى أولياءه والمبعدين من الهلاك والقرار في دار العذاب في النار التي وعدها الله عز وجل لأعدائه المشتغلين بذلك عما تهافت عليه أهل الجهل والنقصان .
كما ثنا عبدالله بن يوسف بن نامي ، عن أحمد بن فتح ، عن عبدالوهاب بن عيسى عن أحمد بن محمد ، عن أحمد بن علي ، عن مسلم بن الحجاج ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد ، وكلاهما عن أسود بن عامر قال : ثنا حماد بن سلمة عن هشام بن عروة وثابت البناني : هشام عن أبيه عن عائشة ، وثابت عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ قال : «أَنْتُمْ أَعْلَمْ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ» في حديث قوله ﷺ في تلقيح النخل فتركوه فخرج شيصاً ، ولكن هؤلاء المعذبون أضربوا عن استعمال السمع والبصر ، واللمس والذوق الشم ، والعقل في الاستدلال على الخالق تعالى ، ولم يقرب منه من عقد وقول وعمل وصرفوا كل ذلك في حطام فان ، لا يجدي ولا يغني، بل يثقل ويندم ، وبالله تعالى التوفيق .
قال أبو محمد : ووجدنا في القرآن إلزامنا الطاعة لما أمرنا به ربنا تعالى فيه ، ولما أمرنا نبيه ، مما نقله عنه الثقات ، أو جاء عنه بتواتر أجمع عليه جميع علماء المسلمين على نقله عنه ﷺ ، فوجدناه تعالى قد ساوى بين هذه الجمل الثلاث في وجوب طاعتها علينا ، فنظرنا فيها فوجدنا منها جملاً إذا اجتمعت قام منها حكم منصوص على معناه ، فكان ذلك كأنه وجه رابع ، إلا أنه غير خارج عن الأصول الثلاثة التي ذكرنا وذلك نحو قوله ﷺ : {كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ} فأنتج ذلك كل مسكر حرام فهذا منصوص على معناه نصاً جلياً ضرورياً . لأن المسكر هو الخمر ، والخمر هي المسكر ، والخمر حرام ، فالمسكر الذي هو هي حرام.
ومثل قوله تعالى : {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } .
وقد تيقنا بالفعل الذي به علمنا الأشياء على ما هي عليه أن كل معدود فهو ثلث وثلثان ، فإذا كان للأم الثلث فقط وهي والأب وارثان فقط فالثلثان للأب ، وهذا علم ضروري لا محيد عنه للعقل، ووجدنا ذلك منصوصاً على المعنى وإن لم ينص على اللفظ .
ومثل إجماع المسلمين على أن الله تعالى حكم بأن دم زيد حرام لإسلامه ثم قال قائل : قد حل دمه فقلنا : قد تيقنا بالنص وجوب الطاعة للإجماع ، وقد صح نقل الإجماع على أن دمه حرام ، فلا يجوز لنا خلاف ذلك إلا بنص منقول بالثقات أو بتواتر أو بإجماع ناقل لنا.
فهذا منصوص على معناه.
ومثل أن يدعي زيد على عمرو بمال فنقول : إن الله تعالى نص على إيجاب اليمين على عمرو ، لأن النص قد جاء بإيجاب اليمين على من ادعي عليه ، وعمرو مدعى عليه فقد أوجب النص اليمين على عمرو ، فلا سبيل إلى معرفة شيء من أحكام الديانة أصلاً إلا من أحد هذه الوجوه الأربعة ، وهي كلها راجعة إلى النص، والنص معلوم وجوبه ، ومفهوم معناه بالعقل على التدريج الذي ذكرناه .
وقد ادعى قوم : أن من الشرائع ما لا سبيل في القدرة إلى تغييره ، فأتوا بأمر عظيم ، وأدى قولهم هذا الفاسد إلى أن ربهم تعالى مضطر إلى الأمر بما أمر من ذلك : فمن التزم منهم ما توجبه مقدمته الفاسدة كفر ، ومن جبن عن التزامه تناقض وقضى بفساد معتقده الذي هو ثابت عليه ، إلا أنهم استعظموا أن يطلقوا ما يوجبه مذهبهم فحسنوه بعبارة كنوا بها عنه فقالوا : لا سبيل في العقل إلى تغييره .
قال أبو محمد : والعقل لا يوجب على الباري تعالى حكماً ، بل الباري تعالى خالق العقل بعد أن لم يكن ، ومرتب له وفيه ما قد رتب مما لو شاء أن يخترعه ويرتبه على خلاف ذلك لفعل . وإنما العقل مفهم عن الله تعالى مراده ، ومميز للأشياء التي قد رتبها الباري تعالى على ما هي عليه فقط .
فقال هؤلاء : إن الكفر والظلم لا يتوهم جواز استباحته .
قال أبو محمد : ولا دليل على ما ذكروا، بل قد كان ممكناً أن يأمرنا تعالى بالكفر به وبجحده وبعبادة الأوثان وبالظلم ، ولكنه تعالى قد أخبرنا أنه لا يفعل ذلك فعلمنا أن ذلك لا يكون أبداً ، ليس لأنه ممتنع منه عز وجل لو شاءه ، ولا أنه تعالى عاجز عن ذلك لو أراده ، ولكن لأنه لا يقول إلا الصدق ، وقد أخبرنا أن ذلك لا يكون ، وأنه لا يرضى لنا الكفر ، ولا يأمر أن نتخذ إلهين اثنين ، فلما أخبرنا بذلك منعنا من كونه ، كما منعنا أن يأتي رسول بعد محمد ﷺ وكما منعنا من عمارة مكان قفر قد رأيناه غير معمور إلى وقتنا هذا ، ومن خلاء مدينة قد عهدناها معمورة إلى وقتنا هذا ، وقد كان في الممكن خلاء تلك المدائن ، وعمران هذا القفر : ولكن الله تعالى لم يرد ذلك إلى الآن . فعلى هذا الوجه منعنا أن يأمر بالكفر به لا على أن العقل مانع من جواز ذلك لو شاءه عز وجل .
قال أبو محمد : وبرهان ذلك أننا واجدون بالمشاهدة أكثر أنواع الحيوان لم تتعبد بالإيمان بالله عز وجل ، ولا ركب فيها التمييز الذي لا يعرف الله عز وجل إلا به فلو شاء تعالى أن يجعل الإنسان غير مأمور لفعل .
ولما كان هنالك شيء يمنعه من ذلك تعالى وجهه ، ولا يوجب عليه فعل ما فعل ولا بد ، وهؤلاء الصبيان الذين بلغوا الأربعة عشر عاماً ولم يشعروا ولم يحتلموا بإجماع أكثر الأمة بالإيمان أمر إلزام ، ولا منهيين عن الكفر نهي تحريم ، فإذا احتلموا لزمهم الإيمان فرضاً ، وحرم عليهم الكفر حتماً ، ولم يكن بين تعريهم من الأوامر والنواهي ، وبين حلولها عليهم إلا نومة لعلها أقل من مقدار شَيّ بيضة ، ولم يزد التمييز الذي كان فيهم في تلك النومة شيئاً . بل هو على حسبه الذي كان عليه قبل أن ينامها ، ولا فرق .
هذا شيء يعلم بالحس والمشاهدة ، يعني تساوي التمييز فيهم في ذينك الوقتين . وهذا شيء قد يشهد النص به ولا خلاف فيه بين جمهور أهل الملة التي وضعنا كتابنا هذا في أحكامهم وعبادتهم ، اختلافهم في معنى براءة من لم يشعر ولم يحتلم ، ولا حاض إن كان امرأة ، ولا بلغ خمسة عشر عاماً من جميع الأوامر الواردة من الله تعالى ولزومها لمن احتلم وبلغ خمسة عشر عاماً مع الاحتلام ، أو حاض إن كان امرأة في هذه السن ، ولا فرق في العقل بين جواز عدم الأمر بالإيمان في كلتا الحالتين المذكورتين ، وبين جواز وجود الأمر به في كلتيهما .
فإن شغب مشغب بتعلم الصبيان الصلاة وضربهم عليها؛ وأراد بذلك غرور الضعفاء المقلدين، فليعلم أنه لا خلاف عند الحاضرين من خصومنا في أن ذلك على سبيل التدريب وتعليم الخير، لا على سبيل الإيجاب لذلك عليهم، وكذلك دعاؤنا إياهم إلى الإسلام .
وبرهان ذلك : أننا لا نقتلهم إن ارتدوا حتى يحتلموا، ولا نقتلهم إن قتلوا، ولا نحدهم إن زنوا، ولا يحرم الميراث وإن ارتد قبل بلوغه من موروثه المسلم.
فإن ادعى مدع : أن البهائم متعبدة ، واختار اللحاق بأحمد بن حابط والخروج عن إجماع المسلمين ، فحسبه مفارقة الإسلام واللحاق بالكفر ، وليس هذا مكان محاجة أهل هذا المذهب ، وقد بينا ذلك في كتاب الفصل . وإنما قصدنا في كتابنا هذا بيان جمل الأحكام فقط فمن أراد أن يقف على هدم ما ذكرنا من الشغب فليقرأ كتابنا المرسوم بكتاب الفصل إن شاء الله تعالى .
قال أبو محمد : فإذ قد بينا أقسام المعارف جملة ، ثم بينَّا أقسام الأصول التي لا يعرف شيء من الشرائع إلا منها ، وأنها أربعة وهي : نص القرآن ، ونص كلام رسول الله ﷺ ، الذي إنما هو عن الله تعالى مما صح عنه ﷺ نقل الثقات أو التواتر ، وإجماع جميع علماء الأمة ، أو دليل منها لا يحتمل إلا وجهاً واحداً ، فلنصف بحول الله وقوته كيف يستعمل المناظران أو المتعلم أو العالم السبيل إلى معرفة الحقائق مما ذكره .
فنقول وبالله تعالى التوفيق : أول ذلك سؤال السائل مسؤوله عن مذهبه في مسألة كذا ، إما مستفهماً أو مناظراً ، فإذا أجابه سأله: ما دليلك على كذا ؟ فإذا أجابه فقد وصلا إلى ميدان المعارضة ، فإن لم يكن هنالك إلا أن يصف كل واحد منهما مذهبه ، ولم يزد المسؤول على ذكر مذهبه فقط ، ولم يأت بدليل فقد سقط وبطل واكتفى بذلك عن تكلف إبطاله ، إذ قد بينا فيما تقدم من كتابنا هذا إبطال كل قول لم يقم عليه دليل ، فإن عارض المسؤول السائل بدليل ، مثل أن يستدل أحدهما على صحة مذهبه بآية ، فيحتج عليه الآخر بآية أخرى ، هي في ظاهرها مخالفة الحكم للتي احتج بها خصمه أو بحديث كذلك .
أو احتج أحدهما بحديث فعارضه الآخر بآية هي ظاهرها مخالفة الحكم لذلك الحديث أو بحديث كذلك . فسنفرد لذلك باباً موعباً في كتابنا هذا إن شاء الله عز جل عند كلامنا في الأخبار، وإن أمدنا الله بمده وقوته فسنفرد لكل هذه الوجوه كتباً مفردة في أشخاص الأحاديث والآي التي ظاهرها التعارض ، ونحن نبين بحول الله وقوته نفي الاختلاف عن كل ذلك وبالله تعالى نعتصم ونتأيد .
وقد ذكر مخالفونا تعارض العلل.
قال أبو محمد : وسنبين في آخر كتابنا هذا إن شاء الله تعالى بطلان العلل في الشرائع بالجملة ، وإن أمدنا الله تعالى بمده وعون من قبله عز وجل فسنفرد في المسائل النظرية ، وهي التي دلائلها نتائج مأخوذة من مقدمات نصية أو إجماعية ديواناً موعباً نتقصى فيه إن شاء الله تعالى الأدلة الصحيحة ، وبطلان علل أصحاب القياس ومفاسدها بالجملة ، وبالله تعالى التوفيق .
ثم رأينا كتابنا المعروف بالإيصال جامع لكل ذلك مغن عن إفراد كتب لكل صنف منها.
قال أبو محمد : وكل من قال بقبول خبر الواحد ، ثم صح عنده خبر عن النبي متكامل الشروط التي بوجودها يصح عنده الخبر جملة. فإن تركه لحديث آخر فهو مجتهد ، إما مخطىء ، وإما مصيب ، وكذلك إن تركه لنص قرآن ، وكذلك إن ترك نص قرآن لحديث آخر ، أو نص قرآن ، إلا أنه إن كان قد ترك في مكان آخر مثل تلك الآية التي أخذ بها الآن أو الحديث الذي أخذ به أو أخذ بمثل الحديث أو الآية اللذين ترك ههنا ، وخالف ترتيب أخذه في المسائل ، فإن كان لم يتنبه لذلك فهو غافل معذور بالجهل ، فإن نبه على ذلك فتمادى على خطأه فهو فاسق لإقراره في مكان ما بأن مثل ذلك العمل الذي استعمل ههنا باطل ، فهو مقدم على الأخذ بما يدري أنه باطل .
وذلك مثل من أخذ بقول رسول الله ﷺ : «لا قَطْعَ إلا فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِداً» وترك ظاهر قول الله تعالى : {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } : ثم إنه ترك قول رسول الله ﷺ : «لا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ والرَّضْعَتَانِ»
وأخذ بظاهر قوله عز وجل : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }
فهذا إذا وقف على تناقض فعله وتمادى عليه فهو فاسق . لأنه في أحد الموضعين مقر بأن ترك ظاهر القرآن للحديث خطأ لا يحل ، وفي الموضع الثاني استعمل ما أقر أنه لا يحل ، فهو مقدم على ما لا يجوز له بإقراره ، فإن علل حديث الرضعتين أريناه في حديث السارق مثل تلك العلل بعينها ، فإن تمادى على الأخذ بأحدهما وترك الآخر ، فهو فاسق متلاعب بدينه .
وإن ترك نصًّا لقياس بعد قيام الحجة عليه بإبطال القياس فهو فاسق أيضاً وإن ترك نصًّا لقول صاحب فمن دونه ، فإن كان يعتقد أن عند ذلك الصاحب علماً عن النبي ﷺ وقامت عليه الحجة ببطلان ذلك، فتمادى ولم يتب فهو فاسق ، فإن كان يعتقد أن لأحد بعد موت النبي ﷺ أن يحرم شيئاً كان حلالاً إلى حين موته ﷺ ، أو يحل شيئاً كان حراماً إلى حين موته ﷺ ، أو يوجب حدًّا لم يكن واجباً إلى حين موته ﷺ ، أو يشرع شريعة لم تكن في حياته ﷺ ، فهو كافر مشرك حلال الدم والمال حكمه حكم المرتد ولا فرق .
وقد ظن قوم مثل هذا في المنع من بيع أمهات الأولاد ، وفي حلّ الخمر، وفي إسقاط ست قراءات كانت على عهد النبي ﷺ مباحة ، فمن لم تقم عليه الحجة في بطلان هذا المعتقد فهو معذور بالجهل . وأما من قامت عليه وتمادى على مذهبه في ذلك فهو كافر مشرك مرتد حلال الدم والمال كما ذكرنا . وسنبين بحول الله وقوته وجوه هذه المسائل الثلاث في كلامنا في الإِجمال من كتابنا هذا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال أبو محمد : وكل ما قلنا فيه إنه يفسق فاعله أو يكفر بعد قيام الحجة عليه ، فهو ما لم تقم عليه الحجة معذور مأجور وإن كان مخطئاً ، وصفة قيام الحجة عليه هو أن تبلغه فلا يكون عنده شيء يقاومها ، وبالله تعالى التوفيق .
قال أبو محمد : والوجه الذي ذكرنا آنفاً ، وهو الذي فيه ظاهر تعارض بين آي وآي ، وبين حديث وحديث ، وبين حديث وآي ، فلسنا نقطع فيه على أننا مصيبون للحق ، ولا أننا علمناه يقيناً ، ولا كنا نقول فيه هذا هو الحق عندنا .
ونبين كل مسألة من ذلك في موضعها إن شاء الله تعالى ، وهذه هي المتشابهات التي أخبر بها النبي ﷺ في قوله : «الحَلالُ بَيِّنٌ والحرام بينٌ وَبَيْنَهُما مُتَشَابِهَاتٌ لا يَعْلَمُها كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ» وليس هذا من المتشابه الذي ذكر الله عز وجل في قوله : {هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ }
وسنبين ذلك كله في باب مفرد في آخر كتابنا هذا إن شاء الله تعالى عز وجل.
إلا أننا قاطعون باتوّن على أن علم الحقيقة فيما أشكل علينا موجود عند غيرنا ولا بد لقول الله تعالى : {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
ولقول رسول الله ﷺ: «اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ» . قالوا : اللهم نعم ، قال ﷺ «اللَّهُمَّ اشْهَدْ» .
وأما كل حديث صح عندنا أنه ناسخ ولم يأت له معارض ، وكل آية وردت كذلك لا معارض لها .
أو كل نص من حديث صحيح أو آية عارضهما نص آخر منهما . فإن الزائد في حكمه على الآخر هو الحق المتيقن .
لأنه شرع وارد من عند الله تعالى لا يحل تركه إلا بنص يبين أنه منسوخ أو مخصوص ، فما كان هكذا من النصوص كلها فنحن موقنون بأننا فى اعتقاد موجبها محقون عند الله عز وجل وأن مخالفنا فيها مخطىء عند الله عز وجل . وكل إجماع صح وتيقن على نقله عن النبي ﷺ فنحن قاطعون أيضاً على أننا فيه محقون عند الله عز وجل .
وإن حدث بعد الإجماع اختلاف في فرع من فروع المسألة .
وإن استدلَّ المخالف بحديث مرسل أو نقل ضعيف ، لم نتبعه ولم نقطع على أنه مبطل عند الله عز وجل .
بل نقول : هذا الحق عندنا إلا أن نتيقن أن ذلك الخبر لم يأت قط مسنداً من طريق يصح، فنقطع حينئذ على أنه باطل عند الله تعالى على ما نبين بعد هذا في باب الكلام في الأخبار إن شاء الله تعالى .
فإن لم يحتج في ذلك بشيء من نص ، لكن بتقليد أو قياس ، فنحن قاطعون بأنه مخطىء عند الله تعالى ، وأننا محقون عنده تعالى ، ولكل استدلال ما عدا ما ذكرناه من تقليد صاحب فمن دونه ، أو قياس أو استحسان ، فهو باطل بيقين عند الله عز وجل وبالله تعالى التوفيق .
==============
[أغلق]
* اقرأ * * نزّل * استشهد * شارك في ويكي مصدر *
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/فصل: في هل على النافي دليل أو لا؟
< ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام‏ | المجلد الأول‏ | الجزء الأولاذهب إلى التنقلاذهب إلى البحث
في أصول الأحكام في الديانة وأقسام المعارف وهل على النافي دليل أو لا ؟ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام فصل : في هل على النافي دليل أو لا ؟
المؤلف: ابن حزمفي البيان ومعناه
فصل : في هل على النافي دليل أو لا ؟
قال علي بن أحمد : اختلف الناس في هذا على قسمين :
فطائفة قالت : الدليل على من أوجب شيئاً ، أو ثبت حكماً أو قضية . وليس على النافي دليل .
وقالت طائفة: الدليل يلزم إقامته النافي والموجب معاً.
قال علي: والصحيح من ذلك أنا وجدنا الله تعالى أنكر على من حقق شيئاً بغير علم وأنكر على من كذب بغير علم ، فقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } .
فقد حرَّم الله تعالى بنص هذه الآية أن يقول أحد على الله عز وجل شيئاً لا يعلم صحته ، وعلم صحة كل شيء مما دون أوائل العقل وبداءة الحس لا يعلم إلا بدليل. فلزم بهذه الآية من ادعى إثبات شيء أن يأتي عليه بدليل وإلا فقد أتى محرماً عليه .
وقال تعالى : {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ } فأنكر تعالى تكذيب المرء ما لا يعلم أنه كذب، وقال تعالى : {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } فأوجب تعالى على كل مدَّع المصدق أن يأتي ببرهان ، وإلا فقوله ساقط، ووجدنا كل ناف مدعياً للصدق في نفيه ما نفى ، ووجدنا كل مثبت مدعياً للصدق في إثباته ما أثبت، فلزم كلتا الطائفتين أن تأتي بالبرهان على دعواها إن كانت صادقة .
قال علي : وأما من احتج من أصحابنا في إسقاط الدليل عن النافي بإيجاب رسول الله ﷺ «البَيِّنةُ عَلَى المُدَّعِي وَاليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» ، فإنما في الأحكام فإنه لا خلاف بين أهل الملة في أنه لا يمين على من أنكر شيئاً في المناظرة في غير الأحكام.
قال علي : فإذا اختلف المختلفان ، فأثبت أحدهما شيئاً ونفاه الآخر ، فعلى كل واحد منهما أن يأتي بالدليل على صحة دعواه كما بيناه آنفاً بحكم كلام الله عز وجل ، فأيهما أقام البرهان صح قوله ، ولا يجوز أن يقيماه معاً لأن الحق لا يكون في ضدين ، ومن الممتنع أن يكون الشيء باطلاً صحيحاً في حال واحدة من وجه واحد ، فإن عجز كلاهما عن إقامة الدليل ، وهذا ممكن ، فحكم ذلك الشيء أن يتوقف فيه فلا يوجب ولا ينفي ، لكن يترك في حد الإِمكان لأنه لو أقام الدليل موجبه ، لكان الشيء موجباً حقاً ، ولو أقام الدليل نافيه لكان الشيء باطلاً منفياً .
فإن لم يقمه واحد منهما قيل في ذلك الشيء هذا ممكن أن يكون حقًّا ، وممكن أن يكون باطلاً إلا أننا لا نقول به ولا نحكم به ولا نقطع على أنه باطل، وهكذا نص قوله تعالى : {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } .
وقد روي عن النبي ﷺ في حديث أهل الكتاب : «لا نُصَدِّقُ وَلا نُكَذِّبُ، وَلَكِنْ نَقُولُ الله أعْلَمُ» .
قال علي : وإنما أوقع أصحابنا في الكلام في هذه المسألة اختلافهم في القياس ، ولا معنى للتطول فيها والشغب ، لأن البراهين على صحة قولنا في إبطال القياس كثيرة جدًّا واضحة ، فلا معنى لمدافعة القائلين به بمثل هذا ، بل نقول لهم علينا البرهان في صحة قولنا بإبطاله ، فإذا أثبتناه سألناكم عن أدلتكم على إثباته ، ولا نقنع بأن نقول إن الشيء أنه باطل فلا معنى لتكلف إقامة الحجة على ضد ما تيقنت صحته ، وإن كان هذا قولا صحيحاً .
ولكنا نقول لهم : هاتوا كل ما تحتجون به في إثباته ، ثم علينا نقضه كله بحول الله تعالى وقوته ، ثقة منا بوضوح الأمر في إبطاله ، وسهولة المأخذ في ذلك ، وأنه ليس من الغامض الخفي لكن من الواضح الجلي ، وقد استوعبنا ذلك ولله الحمد ، في باب الكلام في القياس والعلل من كتابنا هذا ، وفي كتابنا المرسوم بكتاب التقريب أيضاً ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وإحجاجنا لهم بكل ما شغبوا به وزدناهم احتجاجاً بما لم يحتجوا به لأنفسهم ، وبينَّا بطلان كل ما يمكن أن يموه به ذلك مموه ، وبالله تعالى التوفيق .
قال علي : كل أمر ثبت بيقين إما بحس ، وإما ببديهة عقل ، وإما بمقدمات راجعة إليهما مما وجد في نص قرآن أو نص سنة أو إجماع ، ثم ادعى مدع أن ذلك الحكم قد بطل وانتقل ، فعليه الدليل ههنا وليس هذا على الثابت على ما قد صح ، لأن الدليل قد ثبت بصحة قوله ، وما ثبت دليله فالقائل به غير مكلف تحديده في كل وقت ، وهذا شيء يقضي العقل بفساده كمن ادعى أن في الدنيا بلاداً فيها ناس يمشون على أربع لا على رجلين ، ورؤوسهم على أسافلهم . أو ادعى أن في الناس قوماً لهم حاسة سادسة غير حواسنا ، أو ادعى أن فلاناً الذي عهدناه حيًّا مات ، فأراد قسم ميراثه ونكاح نسائه ، أو أن فلاناً طلَّق امرأته التي عهدنا صحة زوجيته معها ، أو أن هذا الرجل الذي عهدنا عدالته قد فسق ، أو أن فلاناً الذي عهدنا فسقه قد تعدل ، أو أن فلاناً الذي عهدناه غير والٍ قد ولي الحكم في بلد كذا ، أو أن فلاناً الذي عهدناه والياً قد عزل ، وأن الله تعالى قد ألزمكم أمر كذا ، أو حرم عليكم أمر كذا ، أو أحل لكم أمراً عهدناه حراماً، أو أسقط عنكم أمراً عهدناه لازماً، فكما ذكرنا من دعوى انتقال حال معلومة فعلى مدعي انتقالها الدليل، ولا تكلف مبطل هذا القول دليلاً على بطلان قول خصمه ، إذا قام الدليل على صحة قوله ، ولا يلزم التكرار للدليل بلا خلاف ما كل ما ذكرنا حاشا مسائل الإِلزام والتحريم والإِحلال والإِسقاط، فخصومنا موافقون لنا على القول بقولنا فيها بلا خلاف، ومستخفون بمن خالفنا .
وأما هذه المسائل الأربعة المذكورة ، فدليلنا على صحة قولنا هو قوله تعالى : {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ } فصح بنص الآية أن ما لم ينزل بنص القرآن وجوبه أو تحريمه فهو ساقط معفو عنه .
وأما بطلان قول من ادَّعى سقوط شيء قد ثبت بنص أو إجماع أو إحلال ما قد حرم بنص أو إجماع ، فقد أبطل ذلك ربنا تعالى بقوله : {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .
وقال تعالى : {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } .
وقال تعالى : {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } .
قال علي : فبيَّن الله تعالى بياناً جليًّا لا إشكال فيه ، أنه لا يحل تحريف كلام الله تعالى ولا تعدي حدوده ، ولا أن نترك ما أوحي إلينا ، وأن من خرج عن شيء من ذلك فهو ظالم مفتر على الله تعالى ، فوجدنا الله عز وجل قد ألزمنا طاعة ما جاء في القرآن وطاعة ما جاء عن نبيه ﷺ ، لأنه إنما ينطق عنه عز وجل ، وطاعة ما أجمع عليه جميع المسلمين عن نبيهم ﷺ ، وأن هذه حدود الله تعالى . فمن أراد إخراجنا عما ثبت بشيء منها ، وأن يعدى بنا عنها فقد حرَّف كلام الله تعالى وظلم ، وأراد الفتنة عن الوحي وتكلف القربة إلا أن يأتي بنص أو إجماع على دعواه؛ وإلا فنحن باقون على تلك الحدود ، غير متعدين لها ولا مفترين غيرها ولا محرفين لما قد ثبت بها ، وبالله تعالى التوفيق.
وأيضاً فإن من طرد هذا الأصل لزمه أن : إن ادَّعى مدَّع على آخر أنه قتل وأنكر ذلك المدعى عليه أن يكلف المدعي عليه الدليل على براءته وإلا قتله، ومن ادعى وجوب صيام مفترض غير رمضان وغير ما جاء في النص من الكفارات والنسك والنذر والقضاء ، أن يكلف المانع من ذلك الدليل، وهذا خروج عن الإِسلام مع ما فيه من مخالفة العقول .
وكذلك القول فيمن قال بصحة الإِلهام قول الرافضة في الإِمام ، ومن ادعى الغول والعنقاء والنسناس وجميع الخرافات ، فإن كل ذلك لا يحل القول بشيء منه ، ولا الإِقرار به ، وهو كله على الدفع والرد والإِبطال بلا دليل يكلفه مبطله ، وإنما البرهان على من حقق شيئاً من ذلك أو أوجبه . وهكذا كل دعوى أراد مدعيها إثبات شيء لم يثبت ، أو إبطال شيء قد ثبت لا تحاشي شيئاً فإنه لا برهان على من امتنع من القول بشيء من ذلك ، لأنه فعل ما يلزمه من ذلك ، وإنما البرهان على من أراد إلزام شيء من ذلك فقط ، فإن أتى به صحت دعواه ، وإلا فواجب تركها وردها ، وإن كانت ممكنة غير ممتنعة ، وفيما ذكرنا من نص كلام الله تعالى كفاية توجب ضرورة العلم بما ذكرنا ، وبالله تعالى التوفيق .
=============
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/الباب الثامن
في البيان ومعناه
قال علي : قد بيّنا في باب تفسير الألفاظ الدائرة بين أهل النظر حد البيان وتفسيره .
ونحن نقول : إن التخصيص أو الاستثناء نوعان من أنواع البيان ، لأن بيان الجملة قد يكون بتفسير كيفياتها وكمياتها دون أو يخرج من لفظها شيء يقتضيه في اللغة ، كقوله تعالى : {وآتوا الزكاة}
فبيَّن رسول الله ﷺ ماهية هذه الزكاة المأمور بإيتائها ، دون أن يخرج من لفظ الزكاة شيئاً ، وكذلك فسر ﷺ من صفات النكاح والحج وغير ذلك ، وقد يكون باستثناء مثل ما روي عن نهيه ﷺ عن بيع الرطب بالتمر ، ثم استثنى العرايا فيما دون خمسة أوسق ، فكان هذا مخرجاً بحكم العرايا من جملة النهي المتقدم ، وقد يكون الاستثناء بألفاظ الاستثناء مثل : إلا وخلا وحاشا وما لم ، وما أشبه ذلك .
وقد يكون حكماً وارداً بلفظ الأمر ، أو بلفظ الخبر ، مستثنى من جملة أخرى ، وهذا يسمى التخصيص، كتحريمه تعالى نكاح المشركات جملة ، ثم جاءت إباحة نكاح نساء أهل الكتاب والزواج، فكان هذا تخصيصاً من الجملة المذكورة .
وأما النسخ ، فهو رفع الحكم أو بعضه جملة ، والفرق بينه وبين الاستثناء والتخصيص أن الجملة الواردة التي جاء التخصيص أو الاستثناء منها لم يرد الله تعالى قط إلزامها لنا على عمومها وقتاً من الدهر ، كالذي ذكرنا من تحريم المشركات ، فإنه لم يرد قط بذلك نكاح نساء الكتابيين بالزواج ، وكذلك القول في العرايا وأما النسخ فإننا مكلفون الجملة الأولى على عمومها مدة ما لم يأت أمر بإبطالها عنا ، أو إبطال بعضها على ما تبين في باب النسخ إذا بلغنا إليه إن شاء الله تعالى .
فإما وجوه البيان التي ذكرنا من التفسير والاستثناء والتخصيص ، فقد يكون بالقرآن للقرآن ، وبالحديث للقرآن ، وبالإِجماع للقرآن ، وقد يكون بالقرآن للحديث ، وبالحديث للحديث ، وبالإِجماع المنقول للحديث .
وقولنا : الحديث ، إنما نعني به الأمر والفعل والإِقرار والإِشارة ، فكل ذلك يكون بياناً للقرآن ، ويكون القرآن بياناً له ، وإنما فرقنا آنفاً بين التخصيص والاستثناء وبين النسخ لأنه قد تيقنَّا وجوب طاعة الله عز وجل ورسوله ﷺ علينا ؛ فحرام علينا الخروج عن طاعتهما في شيء مما أمرا به ، أو أن نقول في شيء مما ألزمنا إنه منسوخ ساقط بعد وجوبه إلا بيان جليّ لا شك فيه ، وإذا وجدنا الحكم سقط بعضه بالاستثناء أو التخصيص فنحن على يقين من أنه لا يلزمنا فلا يحل لأحد أن يقول إنه لزم ثم سقط، فيكون قد قفا ما ليس له به علم ، وقال بشك لا بيقين ، وذلك حرام .
ولا يجوز بأن نقول بأن حكم كذا لزمنا إلا بيقين ، ولا يسقط بعد لزومه إلا بيقين ، فلهذا قلنا بالفرق المذكور بين النسخ وبين الاستثناء والتخصيص ، لأننا إذا قلنا في ذلك إنه نسخ فقد أقررنا أنه لزم ثم سقط، وهذا لا يحل قوله إلا بيقين , وبالله تعالى التوفيق .
ومما خص من القرآن بالقرآن قوله تعالى : {ذلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } فاستثنى تعالى الأزواج وملك اليمين من جملة ما حظر من إطلاق الفروج ، ثم خص تعالى الجمع بين الأختين وبين الأم والابنة ، والربيبة والزانية ، والحريمة بالقرابة ، والشركة بالقرآن ، وخص الحريمة بالرضاع بالسنة ، والذكور والبهائم ، والأَمَة المشركة بالإِجماع المأخوذ من معنى دليل النص الثابت لا يحتمل إلا وجهاً واحداً بالحظر من جملة المباح بملك اليمين .
فإِن قال قائل : لا يجوز أن يبين القرآن إلا بالسنّة ، لأن الله تعالى يقول : {بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } .
قيل له : وبالله تعالى التوفيق : ليس في الآية التي ذكرت أنه ﷺ لا يبيِّن إلا بوحي لا يتلى ، بل فيها بيان جليّ ، ونص ظاهر أنه أنزل تعالى عليه الذكر ليبينه للناس، والبيان هو بالكلام ، فإذا تلاه النبي ﷺ فقد بينه ، ثم إن كان مجملاً لا يفهم معناه من لفظه بينه حينئذ بوحي يوحى إليه ، إما متلو أو غير متلو ، كما قال تعالى : {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } فأخبر تعالى أن بيان القرآن عليه عز وجل ، وإذا كان عليه فبيانه من عنده تعالى ، والوحي كله ، متلوه وغير متلوه ، فهو من عند الله عز وجل : {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِن امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } وقال تعالى مخبراً عن القرآن : {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلآءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } .
فصح بهذه الآية أنه تكون آية متلوه بياناً لأخرى ، ولا معنى لإنكار هذا وقد وجد، فقد ذكر تعالى الطلاق مجملاً ، ثم فسره في سورة الطلاق وبيّنه .
ومما أُجمل في السنة وبينه القرآن ما حدثناه عبدالله بن يوسف عن أحمد بن فتح ، عن عبد الوهاب بن عيسى ، عن أحمد بن محمد ، عن أحمد بن علي عن مسلم ، ثنا زهير بن حرب ، حدثنا إسماعيل بن علية ، ثنا أبو حيان ، ثنا يزيد بن حيان أنه سمع زيد بن أرقم يقول: خطبنا رسول الله ﷺ بماء يدعى خماً بين مكة والمدينة ، فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال : «أَمَّا بَعْدُ أَلا يَا أَيُّها النَّاسُ فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ أَوَّلُهما كِتَابُ الله فِيهِ الهُدَى وَالنُّورُ فَخُذُوا بِكِتَابِ الله عزَّ وَجَلَّ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ...
ثم قال ﷺ : وَأَهلُ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمْ الله في أهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ الله فِي أَهْلِ بَيْتِي» .
قال علي : وفسر زيد بن أرقم أنهم بنو هاشم .
قال علي : والتقليد باطل ، فوجب طلب من هم أهل بيته ﷺ في الكتاب والسنَّة ، فوجدنا الله تعالى قال : {ينِسَآءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَآءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاَةَ وَآتِينَ الزَّكَـاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيــراً * وَاذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَى فِي بُيُوتِكُـنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْــمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } .
قال علي : فرفعت هذه الآية الشك ، وبيَّنت أن أهل بيته ﷺ هن نساؤه فقط ، وأما بنو هاشم فإنهم آل محمد وذوو القربى بنص القرآن والسنة ، فهم في قسمه الخمس ، وتحريم الصدقة .
وقد أجمل ﷺ قوله : «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا إِلهَ إِلاَّ الله» ثم فسر الله تعالى ذلك وبينه بقوله في سورة براءة: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
فإن قال قائل : ما بيَّن هذا الحديث إلا حديث ابن عمر وأبي هريرة : «إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ المُشْرِكِينَ حَتَّى يَقُولُوا لا إِلهَ إِلاَّ الله، وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَيُؤْمِنُوا بِمَا أُرْسِلْتُ بِهِ» .
قيل له ، وبالله تعالى التوفيق : هذا الخبر الذي ذكرت هو موافق لما في براءة ، فصح أن الله تعالى أنزل ذلك عليه في القرآن ، ثم أخبر به ﷺ أصحابه بلفظ فكان بياناً مردداً تفسيراً مؤكداً ، فخبر أبي هريرة وابن عمر إنما هو حكاية لما في براءة .
يعلم ذلك ببديهة العقل عند قراءة الآية والحديث المذكور .
قال علي : وقد يرد البيان بالإِشارة على ما في حديث كعب بن مالك مع أبي حدرد إذ أشار إليه ﷺ بيده : أن ضع النصف .
==========
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/الباب التاسع
في تأخير البيان
قال علي : واختلفوا في نوع من أنواع البيان :
فقالت طائفة : إنما يرد المجمل ثم يرد المفسر .
وقال آخرون: لا يردان إلا معاً .
وقال آخرون: جائز ورود المجمل قبل المفسر ، والمفسر قبل المجمل ، وورودهما معاً ، كل ذلك جائز .
قال علي : وبهذا نقول : إلا أنه لا يجوز أن يتأخر البيان عن وقت إيجاب العمل البتة ، ولا يجوز أن يؤخره النبي ﷺ بعد وروده عليه طرفة عين ، ولسنا نقول بهذا لأن العقل يمنع ذلك ، لكن لأن النص قد ورد بذلك ، وإنما منعنا من تأخير الله البيان عن وقت وجوب العمل لقول الله تعالى : {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }
وقد علمنا أنه ليس في وسع أحد أن يعمل بما لا يعرف به ، وإنما منعنا من تأخير النبي ﷺ البيان عن ساعة وروده ﷺ لقول الله تعالى : {يَـأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } فلو أخر ﷺ البيان عن ساعة وروده عليه لكان ﷺ في تلك المدة ، وإن قلت مستحقاً لاسم أنه لم يبلغ ، ولو أنه لم يبلغ لكان عاصياً ، ولا ينسب هذا إلى النبي ﷺ إلا جاهل ، ومن تمادى على نسبة المعصية إليه في طي الشريعة وترك تبليغها فهو كافر بإجماع الأمة .
قال علي : وقد نزلت الصلوات الخمس مفسرة بمكة ، ثم جاءت آيات كثيرة مدنيات فيها : أقيموا الصلاة فقط ، فصح بذلك ما ذكرنا من أنه قد ينزل المفسر قبل المجمل ، وأما نزول المجمل قبل المفسر فقد نزل ذلك في الصيام وتحريم حشيش مكة ثم جاء تخصيص الإذخر .
قال علي : وأما قولنا بتأخير الله عز وجل البيان ما لم يأت وقت إيجابه تعالى العمل به ، فهو منصوص في قوله تعالى : {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ }
وقد أنزل الله عز وجل آيات كثيرة فيها : قصة موسى ، وقصة عيسى عليهما السلام ، وقصة عاد وثمود وإبراهيم عليهم السلام ، بعضها قبل بعض ، وبعضها بمكة ، وبعضها بالمدينة ، وبعضها أكمل من بعض ، فهلا اعترض المانعون ربهم تعالى من أن يفعل ما يشاء بغير نص منه تعالى أنه لا يفعله على ربهم فيما ذكرنا فيقولون : هلا نزلت هذه القصص كاملة في مكان واحد ، فتكون أتم للوعظ ، وأشفى للخبر ، ثم يؤكدها كذلك إن شاء .
وليت شعري إذ أقر هؤلاء بأن التأكيد حكمة ، فماذا يقولون في قصص كثيرة ومواعظ لم يذكرها عز وجل في القرآن إلا مرة واحدة ؟ أتراها عريت عن الحكمة إذ لم تكرر ولا وكدت ؟ .
وأيضاً فإن أكد تعالى تكرار مسألة موسى عليه السلام عشرين مرة مثلاً ما الفرق بين عشرين مرة ، وبين إحدى وعشرين مرة أو تسع عشر مرة ؟ فإن ادعى أن هذا العدد أبلغ في الحكمة ادعى القحة وبانت قلة الحياء في وجهه ، وقال ما يعلم أنه بخلاف ما يقول ، وسألناه أيضاً عن قصص أخر كررت أقل من تكرار قصة موسى عليه السلام . فإن قال اكتفى بتكرار قصة موسى .
قيل له : ما الفرق أن يكتفي بتكرار قصة موسى عن تكرار قصة إبراهيم . ولا يكتفي بتكرار قصة إبراهيم عن تكرار قصة موسى ؟ وما الفرق بين ذكره تعالى ما ذكر من قصص الأنبياء عليهم السلام ، وبين ما أمسك عنه تعالى من ذكره لبعضهم ؟ وما الفرق بين ذلك وبين أن لو ذكر من أمسك عنه وأمسك عمن ذكر، وقد ذكر من لا شريعة له غير شريعة من قبله كثيراً ، كإلياس واليسع وذي الكفل ، وغيرهم ، ولعل من أمسك عنه تعالى ولم يذكره من الرسل أعظم آية ، وأبلغ في الوعظ ممن ذكر .
قال علي : وأنا أقطع ولا أمتري أن ملقي هذه النكتة إلى ضعفاء المسلمين مغمور في دينه ، ضعيف في عقله ، كائد للشريعة ، ولا شك في ذلك ، ثم تهافت بالتقليد مع من تهافت ، وبالله تعالى التوفيق .
ومما سأل عنه المانعون من تأخير البيان جملة أن قالوا : ما تقولوا فيمن سمع آية قطع السارق ، ولم يسمع الحديث المبين للتوقيت في ذلك ، أيقطع كل سارق لفلس من ذهب ؟ وفيمن سمع آية الزنى ولم يسمع حكم الرجم ، وفيمن سمع آية الرضاع ولم يسمع الحديث في التوقيت في ذلك ، أيجلد المحصن ولا يرجم ؟ ويجلد الأمة مائة ويحرم برضعة واحدة أم كيف يفعل ؟
فإن قلتم : ينفذ ما سمع على جملته ، كنتم قد أمرتموه بالباطل .
وإن قلتم : لا يفعل ، أمرتموه بمعصية ما سمع من القرآن .
فالجواب : أننا لم نجد قط تأخير ورود البيان عن وقت وجوب العمل ، وأما قبل وجوبه فليس يلزمه إلا الإقرار بالجملة ، وأن يقول : سمعت وأطعت ، ولا مزيد إذا لم تكن مبينة مفهومة مثل قوله تعالى : {وَآتُواْ الزَّكَاةَ} فهذا ليس عليه إلا الإقرار بتصديق ذلك كما قلنا فقط .
إذ لم يأته بيان ما كلف من ذلك ، وأما إن كان النص مفهوماً بيناً فعليه العمل به حتى يبلغه نسخه ، أو تخصيصه ولا بد ، إذاً من قال : لا يلزمه العمل بما بلغه من ذلك فقد قال له : لا تطع ربك ، ولا تعمل بما أمرك .
فلعل ههنا نصاً ناسخاً لهذا النص ، أو نصاً مخصصاً له ، وهذا خلاف أمر الله تعالى في القرآن بطاعته .
ومن طرد هذا القول السخيف لزمه ألا يعمل بشيء من القرآن ، ولا السنن أبداً .
حتى يستوعب معرفة جميع أحكام القرآن ، وضبط جميع السنن ، وفي هذا الخروج عن الإسلام وإبطال الشريعة .
قال علي : ونسألهم في ردّ هذا السؤال عليهم فنقول : ما الذي يلزم من سمع أمراً ما ، والرسول ﷺ حي مما جاء النسخ بعد ذلك فيه ، أيعتقد في ذلك الأمر التأييد فيكون معتقداً للباطل .
أو يعتقد فيه السقوط بعد حين فيعتقد المعصية لما سمع ؟ فجوابهم ها هنا جوابنا آنفاً فيما سألونا عنه ، وأنه يلزم من سمع ذلك الإقرار والطاعة والاعتقاد أنه حق لازم ما لم يأت ما ينسخه فهو على التأييد ، وإن جاء ما ينسخه فهو متروك للناسخ .
قال علي : وتأخير الاستثناء والتخصيص عندنا جائز كتأخير البيان جملة ولا فرق ، وهو جائز ما لم يأت وقت إيجاب العمل ، وبالله تعالى التوفيق .
قال علي : ومما يبين صحة قولنا قوله تعالى : {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } وثم توجب مهلة وقوله تعالى في قصة الملائكة القائلين لإبراهيم عليه السلام : {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ * وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُواْ عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ * أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِيءُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِىءُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ * وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَآءِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * وَالَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَآئِهِ أُوْلَـئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ * فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ رَبِّ انصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ * قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ }
فعموا في أول الأمر وأخروا البيان حتى وقع السؤال عن لوط فأجابوا بأنهم لم يعنوه بالهلاك حاشا امرأته فقط .
وقد اعترض في هذا بعض من منع من تأخير البيان جملة بأن قال : قد كان يجب أن يعلم إبراهيم عليه السلام أن لوطاً خارج عن العذاب لقولهم: {إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ } ولوط ليس ظالماً ، قيل لهم ، وبالله تعالى التوفيق .
يمكن أن يحدث من لوط ما يستحق به الظلم ، فأشفق إبراهيم عليه السلام من ذلك فسأل عنه ، وقد أجمل لنوح عليه السلام خلاص أهله ، فظن أن الأهل هم القرابة حتى بيّن له بعد ذلك أن المراد بأهله أهل دينه .
فإن قال قائل : فما المراد من المجمل الوارد قبل ورود بيانه ؟ قيل له وبالله تعالى التوفيق : المراد منا فيه هو المراد منا في المتشابه الذي أمرنا بأن نبحث عنه ، ولا نبتغي تأويله ، وأن يقول كل من عند ربنا ، وأما المراد فيه فالذي يأتي به البيان إذا أتى ويبين قولنا قول الله تعالى : {يبين الله لكم أن تضلوا} فإنما يبين لنا لئلا نضل ولا ضلال في ورود الأمر ما لم يأت وقت وجوب العمل به ، فأما إذا جاء وقت وجوب العمل به فلو تركنا نعمل بغير ما أريد منا لكنا قد ضللنا ، وقد أخبرنا تعالى بأن ذلك لا يكون ، وقوله تعالى صدق وحق بالله تعالى التوفيق .
فعلى هذا الوجه منعنا من تأخير البيان عند وجوب العمل ، وإلا فليس في العقل ما يمنع من ذلك لو شاء تعالى ، ولو فعل الله تعالى ذلك لكان تعنيتاً لنا ، وقد أخبرنا تعالى فقال : {ولو شاء الله لأعنتكم} فأخبر تعالى أنه لو أراد أن يكلفنا العنت فعل ، وهذا نفس قولنا وبالله تعالى التوفيق .
قال علي : يختلف في الوضوح ، فيكون بعضه جلياً ، وبعضه خفياً ، فيختلف الناس في فهمه فيفهمه بعضهم ويتأخر بعضهم عن فهمه ، كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : إلا أن يؤتي الله رجلاً فهماً في دينه ، وكما تعذر على عمر رضي الله عنه ، وهو الغاية في العلم بنص النبي على ذلك فيه فَهْم آية الكلالة فمات وهو يقر أنه لم يفهمها وفهمها غيره من الصحابة رضي الله عنهم ، وانتهره ﷺ وأخبره بأنها بينة يكفي من فهمها الآية التي نزلت في الصيف ، وكما عرض لعدي في توهمه أن الخيط الأبيض والأسود من خيوط الناس حتى زاده الله تعالى بياناً في أن ذلك من الفجر ، وقد اكتفى غير عدي بالآية نفسها ، وعلم أن المراد الفجر .
وكما توهم ابن أم مكتوم أنه ملوم في تأخره عن الغزو ، فزاده الله بياناً باستثناء أولي الضرر ، وقد اكتفى غير ابن أم مكتوم بسائر النصوص الواردة في رفع الحرج ، وأن لا حرج على مريض ولا أعمى ، وأن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها .
قال علي : فهذه حقائق الكلام في البيان وتأخيره مجموعة باستيعاب وإيجاز وبالله تعالى التوفيق .
والتأكيد نوع من أنواع البيان ، قال الله عز وجل: { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} وقال تعالى : { فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } بعد أن ذكر تعالى ثلاثين ليلة وعشراً ، فإن قال قائل : إن الله تعالى علمنا الحساب بذلك فقد افترى ، لأننا كنا نعلم الحساب قبل نزول القرآن ، نعني النوع الإنسان جملة ، وبالله تعالى التوفيق .
وقد أتى بعض أهل القياس المتحذلقين المتنطعين في قوله تعالى : {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } بآبدة فقال معنى قوله تعالى : {وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } ، دليل على أن الهدي الذي عوض منه الصوم في التمتع لا يكون إلا كاملاً .
قال علي : وأول ما في هذا القول الدعوى بلا دليل ، وهذا حرام لاسيما على الله عز وجل ، وأيضاً فإنه قد جل الله تعالى عن أن يريد أن يكون الهدي كاملاً فيترك أن يصفه بذلك ، ويقتصر على أن يقول : { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ } ثم ينبه على كمال الهدي بذكر أن تكون العشرة الأيام في الصوم كاملةٌ ، فبان كذب هذا القائل ، وصح أن قوله تعالى : { عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } كقول رسول الله ﷺ في حديث الزكاة ، «فَابْنُ لَبْونٍ ذَكَرٌ» ، وكقوله ﷺ في حديث الفرائض : «فَما أَبْقَتِ الفَرَائِضُ فَلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ» وإنما هذا توكيد وبيان زائد فقط .
قال علي : ومما يبين أن الله تعالى يؤخر البيان قبل أن يريد منا تعالى العمل بالحديث الوارد عن النبي ﷺ بأن الله تعالى يعرض في الخمر ، فمن كان عنده منها شيء فليبعها ، فما أتى الوقت الذي أراد الله تعالى أن يوجب علينا اجتنابها أنزل الآيات في تحريمها، وتلا ذلك رسول الله ﷺ على الناس من وقته وقد يزيد ﷺ بياناً بعد تقدم البيان قبله ، فيكون تأكيداً وإخباراً لمن يبلغه الخبر الأول ، كما نزلت الصلوات الخمس بمكة مبينة بأوقاتها ، ثم سأل السائل بالمدينة عن أوقاتها وأوائلها وأواخرها فأراه ﷺ ذلك بالعمل ، وقد بينها أيضاً بكلامه ﷺ لغير ذلك السائل .
وكما أخر الله تعالى عن النبي ﷺ بيان المناسك قبل أن يأتي وقت وجوب عملها ، فلما أتى وقت وجوبها بينها له ﷺ , فبينها ﷺ بفعله غير مؤخر لها ، ومن ادعى أنه ﷺ كان عنده بيان المناسك وكتمها عن أصحابه ، ومنعهم الأجر بالعلم بها وبالإقرار بجملتها ، فقد افترى وكذب نبيه ﷺ إذ يقول : «إِنَّ حَقّاً عَلَى كُلِّ نَبِيَ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى أَحْسَنِ ما يُعَلِّمُهُ لَهُمْ»
ومن قال بهذا فقد أكذب ربه تعالى إذ يقول عز وجل واصفاً لنبيه ﷺ : {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }
وإذا كتمهم ما يستعجلون الأجر بالإقرار به ويزدادون علماً بفهمه ، فقد خالف الصفة التي ذكرها الله تعالى ، ومن قال ذلك فقد فارق الإسلام .
فإن قال قائل : فأنت تصف الآن محمداً ﷺ بأنه يريد أن يزداد أهل الأرض خيراً ، وهذا خلاف قولك إن الله عز وجل لم يرد هذا بكل الناس، فقد وصفت محمداً ﷺ بأفضل مما وصفت به الله عز وجل ، وبأنه أرأف بنا من الله تعالى .
قال علي : فنقول وباللـه التوفيق : هذه شغبية ضعيفة ، وإنما يماثل بين الشيئين أو يفاضل بينهما ، إذا كانا واقعين تحت نوع واحد ، أو تحت جنس واحد ، وليس صفتنا للـه تعالى من نوع صفتنا للمخلوقين ، ورحمة محمد ﷺ بالناس هي من جنس تراحمنا بعضنا لبعض ، إلا أنها أعلى من كل رحمة لإنسي ، وأكمل وأتم وأدوم ، وليس اللـه تعالى واقعاً معنا تحت نوع البشرية كوقوع محمد ﷺ معنا تحتها ، وإن كان أفضل من كل من دونه ، ولا يثنى على اللـه عز وجل بما يثني به على خلقه ، ألا ترى أننا نصف اللـه عز وجل مثنين عليه بأنه جبار متكبر ؟ وهذا في كل مخلوق دونه تعالى ذم شديد ، واستنقاص عظيم ، ونصفه تعالى بأنه ذو غضب شديد ، أنه يفعل ما يريد ، وأنه ذو مكر لا يؤمن . وكل هذا لو وصفنا به مخلوقاً لكان ذمَّاً ونقصاً . ونمدح المخلوقين بالعقل والكيس ، والنبل والنجدة والعفة وكل هذا لا يجوز أن يوصف به اللـه عز وجل ، فمن أراد أن يقيس رحمة اللـه تعالى لخلقه برحمة نبيه لـهم فقد ألحد في وصفه لربه تعالى ، وقد علمنا يقيناً أن اللـه عز وجل لم يرد قط أن يهدي أبا طالب ولو شاء أن يؤمن لشرح صدره للإسلام ، بل أراد أن يعذبه في نار جهنم أبداً ، وعلمنا يقيناً أن محمداً ﷺ كان من أبعد آمالـه أن يؤمن أبو طالب ، وقد كفانا اللـه تعالى ذلك بقولـه: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } .
فأما من آمن باللـه فاللـه أرأف به من نفسه بنفسه ، ومن محمد ﷺ ومن أبيه وأمه اللذين ولداه . لأنه جازاه على ذلك بما لو ملك الاختيار لم يبلغ مقدار ما أعطاه اللـه تعالى في الجنة ، ولا سمح لـه أبواه بذلك ، ولأنه تعالى غفر لـه ما لو فعلـه عاصياً لأبيه ما غفر لـه ذلك ، فإن الرجل يزني بأمة اللـه تعالى فيغفر لـه بالتوبة ، وبموازنة حسناته لسيئاته ، ولو زنى بأمة أبيه لقطعه .
وأما من لم يؤمن فما أراد اللـه به خيراً قط ، ولو أراد به خيراً لأماته سقطاً ، فمن قال : إن اللـه تعالى لم يقدر على ذلك فقد ألحد ووصف ربه تعالى بغاية النقص ، ومن قال : إن اللـه تعالى أراد الخير بفرعون فنحن نباهلـه .
ونقول : اللـهم لا ترد بنا من الخير ما أردته بفرعون ، فليدع ربه تعالى أن يريد به من الخير ما أراده بفرعون .
فإن شغب مشغب فقال : إنك الآن تصف محمداً ﷺ بأنه أراد غير ما أراد اللـه عز وجل ، وباللـه تعالى التوفيق : وهذه شغبية ضعيفة كالتي قبلـها.
نعم كذلك نقول في هذا المكان مقرين بما قال ربنا عز وجل من أن محمداً ﷺ أحب أن يهتدي قوم لم يحب الله تعالى أن يهديهم ، وليس في اختلاف ما أراد الله تعالى ههنا وما أراد نبيه ﷺ , عيب على نبيه ﷺ لأنه إنما يمدح النبي ﷺ فمن دونه من المخلوقين بالائتمار لربه تعالى فقط ، لا بأن يوافق ربه فيما لم يكلفه ، ألا ترى أننا نمدح أنفسنا بالنكاح والأولاد وهما منفيان عن الله عز وجل لم يردهما لنفسه قط ، ونمدح بالصدقة على المحتاج الذي لم يرد الله أن يغنيه ، ولو أراد أن يغنيه لكان قادراً عز وجل على ذلك فلم نؤمن نحن قط أن تريد ما أراده الله عز وجل في كل وقت ، بل نهينا عن ذلك فقد أراد الله عز وجل قتل من سلط عليه الكفار من المؤمنين ، ولو أردنا نحن ذلك لفسقنا ، وإنما أريد منا الائتمار لما أمرنا به والانتهاء عما نهينا عنه ، وقول خصومنا يؤول إلى قول بعض أهل
الإلحاد : أن الواجب علينا التشبه بالله عز وجل ، وهذا كفر عندنا ، لأن الله تعالى لا يشبهه شيء ، فلا يروم التشبه به إلا كافر ملحد . وهذا بيّن ، وبالله تعالى التوفيق .
ثم نرجع إلى بقية الكلام في تأخير البيان ، فإن احتج بعض من يجيز تأخير البيان عن وقت وجوب الأمر بقصة موسى والخضر عليهما السلام فلا سواء ، فموسى عليه السلام لم يلزمه قط أمر في تلك القصة يلزمه التقصير إن لم يأته ، وإنما سأله ناسياً والنسيان مرفوع ، وكذلك كان سؤال نوح عليه السلام في ابنه ناسياً ، لأن الله تعالى قد كان بيّن له أن يحمل أهله إلا من سبق عليه القول منهم ، فنسي نوح عليه السلام هذا الاستثناء ، وقد كان كافيه لأن ابنه كان كافراً قد سبق عليه القول في جملة من كفر .
واحتجوا أيضاً بأمر بقرة بني إسرائيل ، وأنه تعالى أخر عنهم بيان الصفات التي زادهم بعد ذلك .
قال علي: وهذا لا حجة لهم فيه ، لأن تلك الصفات إنما هي زيادات شرائع لو لم يسألوا عنها لم يزادوهم ؛ ولو ذبحوا في أول ما أمروا بقرة بيضاء أو حمراء أو بلقاء لأجزت عنهم؛ لكنهم لما زادوا سؤالاً زيدوا شرعاً ، ودخلوا بذلك في جملة من ذم الله تعالى على لسان نبيه ﷺ ؛ إذ يقول: «إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ جُرْماً فِي الإِسلامِ مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحَرَّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ» . وفي قوله ﷺ : «إِنَّما هَلكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةَ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلاَفِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ» . ويبين صحة قولنا هذا قوله عز وجل : {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ }
فأخبر تعالى بنص ما قلنا وله الحمد ، وبين لنا أن الأشياء معفوة ساقطة عنا قبل أن نسأل عنها ، فإذا سألنا عنها لزمتنا ؛ ولعلنا نعصي حينئذ فنهلك ، وكل ذلك قد سبق في علمه عز وجل .
وأما تأخر نزول : {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ } في قصة ابن الزبعرى إذ اعترض على النبي ﷺ في تلاوة : {اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
فقال : نحن نعبد الملائكة والنصارى يعبدون عيسى ، فهم في جهنم معنا ، فإن ابن الزبعرى كان مغفلاً عن تدبر الآية الأولى وقد كان له فيها كفاية له عقل ، ولكن الثانية أتت مؤكدة لها فقط وهي إخباره تعالى عن سؤاله الملائكة فقال تعالى : {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَـؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } فأخبر تعالى عن الملائكة الصادقين المقدسين أنهم قالُوا : {قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْـثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ }
فليس قول القائل : أنا أعبد الملائكة ، ولا قول النصارى : نحن نعبد المسيح موجب لصدقهم ، لأن العبادة إنما هى الاتباع والانقياد مأخوذة من العبودية ، وإنما يعبد المرء من ينقاد له ، ومن يتبع أمره ، وأما من يعصي ويخالف فليس عابداً له وهو كاذب في ادعائه أنه يعبده .
فالقائلون نحن نعبد الملائكة والمسيح كذبة في دعواهم لذلك ما عبدوهم قط ، وإنما عبدوا الشياطين لانقيادهم لأمرهم واتباعهم إغواءهم ، ولو اتبعوا الملائكة والمسيح عليه السلام ما أمروهم إلا بعبادة الله عز وجل ، وبأن يقولوا : إننا لا نعبد شيئاً من دون الله عز وجل، بل كانوا ينهونهم عن الكذب وهذا عين الكذب ، وقد بيّن ﷺ معنى قول ربه تعالى : {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ }
فقال قائل : يا رسول الله ما كنا نعبدهم ، فأخبرهم ﷺ أنهم إذا أطاعوهم في تحريم ما حرموا ، وتحليل ما أحلوا ، فقد اتخذوهم أرباباً ، ونحن إنما أطعنا أمر نبينا ﷺ لعلمنا أنه كله من عند الله عز وجل ، وأنه لا يقول من تلقاء نفسه شيئاً . قال الله عز وجل : {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } .
فإن قال قائل : فعلى قولك فمن عصى منا لم يعبد الله عز وجل ؟
قيل له : نعم ، لم يعبد الله تعالى لتلك المعصية ولا فيها، ولكن عبده في سائر طاعته وإقراره بالتوحيد.
فإن قال قائل: فعلى قولك إننا إذا أطعنا الرسول لقد عبدناه .
قيل له وبالله تعالى التوفيق : إن طاعة الرسول توجب ألا يطلق لفظ العبادة ولا معناها إلا لله عز وجل وحده لا شريك له ، وتوجب أن من أطاع الشيطان في الكفر فقد عبده ، وهذه معان شرعية لا يتجاوز فيها ما أتت به الشريعة فقط ، وأما من ادعى بيان كون أن السلب للقاتل نزل بعد آية قسم الغنائم، فدعوى لا يقوم عليها دليل ولا روي ذلك قط من وجه يصح ، وكذلك القول في بيان سهم ذي القربى وأن بيان كون بني هاشم وبني عبد المطلب هم ذو القربى ، دون بني عبد شمس وبني نوفل ، نزل متأخراً عن الآية دعوى لا تصح أصلاً .
فإن قال قائل : فإنّ عثمان رضي الله عنه ، وجبير بن مطعم جهلا هذا .
قيل له : نعم ، وما في هذا علينا من الحجة ، ومتى منعنا أن يخفى على الصاحب والصاحبين والعشرة والأكثر منهم فهم آية أو آيات من القرآن .
وقد كان في قسمة رسول الله ﷺ لبني المطلب دونهما ما يكفي، لأنهما كانا يوقنان بلا شك أن رسول الله ﷺ لا يمنع ذا حق حقه ، ولا يعطي أحداً غير حقه ؛ فكان في هذا كفاية ، لأنه لو كان لبني عبد شمس ، وبني نوفل حق في سهم ذوي القربى ما منعهم إياه رسول الله ﷺ ، ولوكان بنو عبد المطلب خارجين من ذوي القربى ما أعطاهم النبي ﷺ حقًّا ليس لهم ، ولكن عثمان وجبير رضي الله عنهما أرادا علم السبب الذي من أجله استحق بنو المطلب الدخول فيما خرج قومهما منه ، والخصلة التي بان بها بنو عبد المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل ، وقد قال عثمان رضي الله عنه في الجمع بين الأختين بملك اليمين : أحلتهما آية وحرمتهما آية ، فأخبر رضي الله عنه أنه خفيت عليه رتبة هاتين الآيتين ، ولم يدر أيهما يغلب ويستثني من الأخرى ، ولا يجوز عند ذي فهم ولُب أن يعتقد الشيء حراماً حلالاً في وقت واحد ، على شخص واحد، فيكون يحل له أن يفعله ولا يحل له أن يفعله ، فيفعل ولا يفعل ، وهذا محال ظاهر الامتناع ، ومن بلغ ههنا كفانا نفسه ، وأما العرايا فقد جاء الحديث موصولاً في استثنائها من التمر بالرطب ، وبالله تعالى التوفيق .
=======
[أغلق]
* اقرأ * * نزّل * استشهد * شارك في ويكي مصدر *
ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام/المجلد الأول/الجزء الأول/الباب العاشر
< ابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام‏ | المجلد الأول‏ | الجزء الأولاذهب إلى التنقلاذهب إلى البحث
في تأخير البيانابن حزم - الإحكام في أصول الأحكام في الأخذ بموجب القرآن
المؤلف: ابن حزمفي الكلام في الأخبار وهي السنن المنقولة عن رسول اللـه
في الأخذ بموجب القرآن
قال علي : ولما تبين بالبراهين والمعجزات ، أن القرآن هو عهد الله إلينا والذي ألزمنا الإِقرار به ، والعمل بما فيه ، وصح بنقل الكافة الذي لا مجال للشك فيه ، أن هذا القرآن هو المكتوب في المصاحف ، المشهورة في الآفاق كلها ، وجب الانقياد لما فيه فكان هو الأصل المرجوع إليه .
لأننا وجدنا فيه : {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } فما في القرآن من أمر أو نهي فواجب الوقوف عنده ، وسنذكر إن شاء الله تعالى في باب الأخبار التالي لهذا الباب كيف العمل في بناء آي القرآن خاصها مع عامها ، وبناء السنن عليها ، وسنذكر إن شاء الله تعالى في باب الأوامر والنواهي ، كيف العمل في حمل أوامر القرآن ونواهيه على الظاهر ، والوجوب ، والفور ، ونذكر إن شاء تعالى في باب العموم والخصوص ، ما يقتضيه ذلك الباب من أخذ آي القرآن على عمومها ، ونوعب الرد على كل من خالف الحق في ذلك إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق .
قال علي : ولا خلاف بين أحد من الفرق المنتمية إلى المسلمين من أهل السنَّة والمعتزلة والخوارج والمرجئة والزيدية في وجوب الأخذ بما في القرآن ، وأنه هو المتلو عندنا نفسه ، وإنما خالف في ذلك قوم من غلاة الروافض هم كفار بذلك مشركون عند جميع أهل الإِسلام ، وليس كلامنا مع هؤلاء ، وإنما كلامنا في هذا الكتاب مع أهل ملتنا ، إذا قد أحكمنا بطلان سائر الملل في كتاب الفصل وبالله تعالى التوفيق .
ونذكر إن شاء الله تعالى في باب الإِجماع من هذا الكتاب بالبرهان الصحيح أن القراءات السبع التي نزل بها القرآن باقية عندنا كلها ، وبطلان قول من ظن أن عثمان رضي الله عنه جمع الناس على قراءة واحدة منها أو على بعض الأحرف السبعة دون بعض وبالله تعالى التوفيق .
=======

البرص و العميان-أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ

البرص و العميان-أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ  المقدمة بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله عليه محمد وسلم وهب الله لك حسن الاستماع وأشعر ...